#1
|
||||
|
||||
شرح أخلاق حملة القرآن
فضل القرآن (1) آل عمران: 7.أنه ذكر فضل القرآن الذي أنزله الله -تعالى- على نبيه محمد -صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا القرآن العظيم قد بَيَّن الله -جل وعلا- فضله وقدره ومكانته، قَبْل أن ينزله، وقد ذكر ربنا -جل وعلا- هذا الفضل والقدر في القرآن الكريم، قبل أن ينزله على العباد، وهذا من فضل القرآن وتعظيمه عند الله -جل وعلا، فقد عظمه الله -تعالى- وأثنى عليه، وبَيَّن قدره ومكانته في الملأ الأعلى، كما قال -سبحانه: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(2). فهذا ثناء من الله على كتابه، وقال -تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ﴾(3). وقال -تعالى- في أول سورة عبس: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ﴾(4)، فبَيَّن مكانة هذا القرآن قبل أن ينزله على عباده، وذكَّرَهم بما كان عليه هذا القرآن في الملأ الأعلى، من التعظيم والثناء على هذا القرآن الكريم، وبعد ذلك -وهذا داخل في بيان فضل القرآن وتعظيمه- أن الله -تعالى- أنزله في أفضل الشهور وأعظمها، وهو شهر مبارك كما أن القرآن مبارك، فإن هذا القرآن نزل في شهر مبارك، قال الله -تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾(5)، ونزل هذا القرآن في أفضل ليلة وهي ليلة القدر، أفضل الليالي في شهر رمضان، وفي غير شهر رمضان، قال -تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾(6). وقال -سبحانه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾(7). فسماها مباركة؛ لأن الشهر مبارك، والليلة مباركة، والقرآن مبارك. ثم بعد ذلك أنزله الله -تعالى- على نبي مبارك، على خاتم النبيين وإمام المرسلين النبي المصطفى المجتبى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾(8). ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾(9). فهذه جوانب تبين لك فضل هذا القرآن، وتعظيمه عند الله -جل وعلا. ومن الوجوه في فضل هذا القرآن وبيان مكانته عند الله: أن الله -تعالى- كلَّف بإنزاله أفضل الملائكة وأشرفهم، وهو جبريل -عليه السلام: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾(10). إلى أن قال الله: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي< الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾(11). ثم جعل الله -وهذا من الوجوه في التعظيم- هذا القرآن الكريم خاتم الكتب المنزلة؛ حيث جعله وضَمَّنه أفضل مما كانت عليه تلك الكتب من البركة والخير، وفاقها أكثر من ذلك، قال الله -تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾(12). أي: مهيمنًا على ما تقدم من الكتب، والله -تعالى- قد قال قبل هذه الآية: ﴿وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾(13). وقال بعدها: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ﴾(14). أي: مما تقدم من الكتب الأخرى ثم فاقها؛ لأنه مهيمن عليها، أي: حافظ ورقيب وفائق على ما جاءت به تلك الكتب من أوامر الله -تعالى- وشرائعه، فاجتمعت في هذا القرآن العظيم. فهذه الوجوه تبين لنا فضل القرآن الكريم ومكانته عند الله -تعالى، وأنه الكتاب الخاتم الذي لا كتاب بعده، وأن فيه ما يحتاجه الناس في كل شؤونهم في حياتهم الدنيا وفي سعادتهم في الآخرة، كما قال الله -تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾(15) . وسرد المؤلف آيات تدل على ذلك، وذكر أوصافًا تُبَيِّن فضل هذا القرآن الكريم، وأن من أوصافه أنه كتاب رحمة، وكتاب هدى، وكتاب نورن وكتاب شفاء، وكتاب موعظة؛ كمَا جاء في المسألة الثانية. (2) الزخرف: 3 - 4. (3) الواقعة: 75- 78. (4) عبس: 13. (5) البقرة: 185. (6) القدر: 1. (7) الدخان: 3. (8) ص: 29. (9) الشعراء: 193- 195. (10) الحاقة: 40. (11) التكوير: 20- 21. (12) المائدة: 48. (13) الحديد: 27. (14) المائدة: 48. (15) الأنعام: 38 |
#2
|
||||
|
||||
ثواب القرآن
قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾(1). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾(2). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَننَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ولاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا﴾(3). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ﴾(4). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾(5). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾(6). وَحَبْلُ اللهِ هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾(7). وَقَالَ -تَعَالَى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(8). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾(9). ثُمَّ إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَعَدَ مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى كَلاَمِهِ، فَأَحْسَنَ الأَدَبَ عِنْدَ اسْتِمَاعِهِ، بِالاعْتِبَارِ الْجَمِيلِ، وَلُزُومِ الْوَاجِبِ لاتِّبَاعِهِ، وَالْعَمِلِ بِهِ - أَنْ بَشَّرَهُ اللهُ مِنْهُ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَوَعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلَ الثَّوَابِ؛ فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(10). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾(11)). قال محمد بن الحسين: (فَكُلُّ كَلاَمِ رَبِّنَا حَسَنٌ لِمَنْ تَلاَهُ، وَلِمَنِ اسْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هَذَا -وَاللهُ أَعْلَمُ- صِفَةُ قَوْمٍ إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَتَبَّعُوا مِنَ الْقُرْآنِ أَحْسَنَ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- مِمَّا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ مَوْلاَهُمْ الْكَرِيمُ، يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ رِضَاهُ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ، سَمِعُوا اللهَ قَالَ: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(12). فَكَانَ حُسْنُ اسْتِمَاعِهِمْ يَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّذَكُّرِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَسَمِعُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾(13). وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ عَنِ الْجِنِّ فِي حُسْنِ اسْتِمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَاسْتِجَابَتِهِمْ لِمَا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَوَعَظُوهُمْ بِمَا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ بِأَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾(14). وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ﴾(15)). قال محمد بن الحسين: (وَقَدْ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي سُورَةِ ق: ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾(16). مَا دَلَّنَا عَلَى عَظِيمِ مَا خَلَقَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ عَجَائِبِ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَوْتَ وَعَظِيمَ شَأْنِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ وَعَظِيمَ شَأْنِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَنَّةَ وَمَا أَعَدَّ فِيهَا لأَوْلِيَائِهِ، فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾(17)... إِلَى آخِرِ الآيَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾(18). فَأَخْبَرَ -جَلَّ ذِكْرُهُ- أَنَّ الْمُسْتَمِعَ بِأُذُنَيْهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مُشَاهِدًا بِقَلْبِهِ مَا يَتْلُو وَمَا يَسْتَمِعُ؛ لِيَنْتَفعَ بِتِلاَوَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وَبِالاسْتِمَاعِ مِمَّنْ يَتْلُوهُ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حَثَّ خَلْقَهُ عَلَى أَنْ يَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(19). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(20)). قال محمد بن الحسين: (هَلْ تَرَوْنَ -رَحِمَكُمُ اللهُ- إِلَى مَوْلاَكُمُ الْكَرِيمِ، كَيْفَ يَحُثُّ خَلْقَهُ عَلَى أَنْ يَتَدَبَّرُوا كَلاَمَهُ؟! وَمَنْ تَدَبَّرَ كَلاَمَهُ عَرِفَ الرَّبَّ -عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرِفَ عَظِيمَ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعَرِفَ عَظِيمَ تَفَضُّلُهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَعِرَفَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ فَرْضِ عِبَادَتِهِ، فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَاجِبَ، فَحَذِرَ مِمَّا حَذَّرَ مَوْلاَهُ الْكَرِيمُ، وَرَغِبَ فِيمَا رَغَّبَ فِيهِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ عِنْدَ تِلاَوَتِهِ لِلْقُرَآنِ، وَعِنْدَ اسْتِمَاعِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ الْقُرْآنُ لَهُ شِفَاءً، فَاسْتَغْنَى بِلاَ مَالٍ، وَعَزَّ بِلاَ عَشِيرَةٍ، وَأَنِسَ بِمَا يَسْتَوْحِشُ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَكَانَ هَمُّهُ عِنْدَ تِلاَوَةِ السُّورَةِ إِذَا افْتَتَحَهَا: مَتَى اتَّعِظُ بِمَا أَتْلُو؟ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ: مَتَى أَخْتِمُ السُّورَةَ؟! وَإِنَّمَا مُرَادُهُ: مِتَى أَعْقِلُ عَنِ اللهِ الْخِطَابَ؟ مَتَى أَضَّجِرُ؟ مَتَى أَعْتَبِرُ؟ لأَنَّ تِلاَوَتَهُ لِلْقُرْآنِ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ لاَ تَكُونُ بِغَفْلَةِ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ). وفي المسألة الثالثة: بدأ يذكر المؤلف ثواب تلاوة القرآن، واستشهد بآية سورة فاطر: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾(21). وهذه الآية سماها أهل العلم: آية القُرَّاء؛ حيث بَيَّن الله -تعالى- فيها الثواب العظيم المترتب للذين يقرؤون القرآن الكريم، ويداومون على تلاوته، ويحافظون على أوامره، ويطبقونها في حياتهم؛ ولهذا ذكر الله -تعالى- الركن الثاني من أركان الإسلام في الأجر والثواب لأهل القرآن، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ﴾. وهذا يدل على أن الذي يقرأ القرآن ويتلوه، عليه أن يعمل به، فمَن تلاه حقَّ تلاوته، دَلَّه إلى العمل، وإلى كل خير من الأعمال الصالحة، ومن أعظمها وأجلِّها الصلاة. وأجور أهل القرآن عظيمة وكثيرة ومتعددة، أجملها الله -تعالى- في هذه الآية التي هي آية القراء، وسَمَّى قراءةَ القرآن والمداومةَ عليها التجارةَ النافعةَ، وهي التجارة الرابحة، التي لا يتطرق إليها بوار ولا كساد ولا فساد، فالأجر متحقق، والثواب متحقق من الله -جل وعلا، ووعده حق، وكلامه صدق: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(22). وبيَّن النبي -عليه والصلاة السلام- تفصيلاً الأجر المترتب على التلاوة بيانًا دقيقًا واضحًا في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عند الترمذي، قال -عليه الصلاة والسلام: « مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ فِيهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بَعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ: آلم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ»(23). فإذا كان قارئ القرآن يأجر على تلاوته بالحرف الواحد، وأنه إذا قرأ هذا القرآن حصل على أجور متعددة ومضاعفة من الله -جل وعلا، وإذا كان العلماء قد عَدُّوا آيات القرآن الكريم، وأنها تربو على ستة آلاف، فكيف بالحروف؟! |
#3
|
||||
|
||||
ومن ثواب هذا القرآن الكريم -أيضًا- أنه يهدي قُرَّاءَه إلى الحق: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾(24). والمسلم يدعو ربه وجوبًا سبعة عشر مرة في كل يوم أن يجعله من أهل الهداية، في قوله -تعالى- في سورة الفاتحة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(25). فضلاً عما يقوله في صلوات النوافل وغيرها، فهو يطلب من ربه أن يثبته على طريق المستقيمين الذين أنعم الله -تعالى- عليهم، فهو كتاب هداية.
من الثواب المترتب عليه أنه يهدي صاحبه إلى طريق الحق، ويعصمه من الفتن، ومن الابتلاءات، ومن الزيغ، ومن الضلال، ومن الفساد، ومن الشهوات، ومن الشبهات. فإذا تلا هذا القرآن حصل له هذا الخير العظيم والثواب الجزيل، وحصل له -أيضًا- الشفاء الحسي والمعنوي الذي يطلبه في حياته، سواء ما يتعلق بالأمراض الروحية أو الأمراض البدنية، فإنه في هذا القرآن الكريم؛ كما قال -سبحانه وتعالى- في الآية التي ذكرها المؤلف: ﴿وَننَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ﴾(26). وشفاء هنا نكرة؛ فتَعُمّ كل شفاء، وليست معرفة، وهذا من الثواب لقارئ القرآن الكريم. فإذا تلا المسلم القرآن بنية خالصة لله، وابتغاء الأجر والثواب من الله -تعالى؛ فسوف تشمله إن -شاء الله تعالى- هذه الأجور العظيمة، التي جاءت في هذه الآيات، ومنها: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ﴾(27). اعتصموا بكتاب ربهم الذي جاءهم من عند الله -تعالى، كما قال -سبحانه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾(28). ولهذا نعلم أن القرآنَ الكريم والاعتصامَ به طريقُ الاجتماع والائتلاف، وطريق النصرة والتمكين في هذه الدنيا، وقد فَسَّر العلماء قول الله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾. أن المراد بحبل الله: القرآن، وقيل: الإسلام، وقيل: الجماعة، وهذه الأمور كائنة بأهل القرآن؛ الذين تلووا القرآن حق تلاوته، وإذا أقبلوا عليه، وعملوا بما فيه تحصل لهم هذه الأجور العظيمة، والحفظ الكبير من الفتن التي يقع فيها كثير من الناس المعرضين عن هدي القرآن الكريم؛ ولهذا بَيَّن الله -تعالى- في الآية التي ذكرها المؤلف في سورة الزمر أن أهل الإيمان الذين تعلقت قلوبهم بربهم -جل وعلا- هم الذين يتأثرون بهذا القرآن الكريم، وتقشعر جلودهم وأبدانهم، قال الله -تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾(29). أي: إلى هذا القرآن العظيم. ثم جاءت المسألة التي بعدها، وهي مسألة الاستماع للقرآن الكريم، التي ذكر فيها المؤلف أن الله -تعالى- رَغَّب عباده في الاستماع إلى هذا القرآن الكريم، والاستماع إلى القرآن الكريم هو عمل بما أمر الله -تعالى- به، فضلاً عن تلاوته، فالذي يستمع إلى القرآن الكريم يحصل له الأجر، بخلاف الأجر الذي يقرأ فيه القرآن الكريم، وبهذا يمكن أن نجمل أن الاستماع إلى القرآن الكريم فيه بشارتان: البشارة الأولى: وتكون في الدنيا، وهي حصول الرحمة لسامع القرآن؛ قال الله -تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(30). فهذه بشارة من الله -تعالى، وهذه الرحمة إذا حصلت لقارئ القرآن بهذا المسلم فقد حصل له كل خير؛ ولهذا قال -تعالى- في آية أخرى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾(31). فإذا رحم الله -تعالى- عبدَه فقد قربه منه؛ لأن الرحمة تدعو إلى فعل الخير، وأن يرحم الإنسان نفسه أولاً، ويبعدها عن المعاصي والذنوب والسيئات، ويقربها إلى الطاعات والحسنات، ولا يسمح لها أن تقع فيما يخالف أمر الله، ويرحم نفسه بأن تكون وَقَّافَة عند حدود الله، ثم يرحم غيره من عباد الله، وينشر هذه الرحمة التي حصلت له من الله -تعالى- إلى الناس بالتواصل، وفعل الخير، وصلة الأرحام، وحسن الكلام، والتسبيح والتهليل، والرحمة بالفقراء والمساكين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذه الرحمة تجمع الإحسان، فإذا أحسن الإنسان دلَّ على ذلك على الرحمة، فقد قال الله -تعالى- في سورة الأعراف: ﴿ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(32). فالذي يفعل الإحسان قريب من الله -تعالى، ﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. فيرحم نفسه ويرحم غيره، ويحسن في عمله، ويحسن في تعامله، فيكون بذلك قريب من الله -تعالى، فإذا حقق الإحسان الذي هو أعلى مراتب الدين، وإذا حافظ على الصلاة وشعائر الدين، دلَّ على ذلك على الرحمة في قلبه، وأنه قريب من الله -تعالى، وبهذا يدلك على القرب من الله هذه الصلاة الذي يحافظ عليها، فإنه قريب من الله، قال الله -تعالى- لنبيه -عليه الصلاة والسلام: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾(33). فإذا أكثرت السجود اقتربت من الله -تعالى، وهذا هو ثمرة الرحمة التي بشر الله -تعالى- بها عباده المؤمنين. ومن البشارة في الدنيا: حصول الهداية؛ ولهذا بيَّن الله -تعالى- في سورة الزمر -كما ذكر المؤلف- قال: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾، فثمرة ذلك: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(34)، وتفسير المصنف تفسير لطيف حينما فسر قوله -تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾. أي: يتبعون أحسن ما يقربهم إلى الله -تعالى؛ لأن القرآن كله كلام الله -تعالى، وهو حسن، كما قال -سبحانه: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾(35). فالقرآن كله حسن، فتفسير المؤلف بديع ولطيف، حينما قال: يتبعون أحسن ما يقربهم إلى الله -تعالى- من الأعمال الصالحة، فهذه بشارة وهي الهداية. ولنعلم أن الذي ينال هذه البشارة في حياته لا يتوقف عليها، بل يطلب المزيد والزيادة في هذه الهداية، فإذا حافظ على هذه الهداية في الصلاة والصيام والزكاة والحج وتلاوة القرآن والذكر، وكل عمل خير، رغبت نفسه في الزيادة، ولم يقف عند هذا الحد، وهذا تجده ظاهرًا عند عباد الله الصالحين، الذين يتسابقون في فعل الخيرات، ولا يقفون عند حد، وبهذا إذا حصلت لك الهداية فسوف تدفعك إلى الزيادة، كما قال الله -تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾(36). وقال -تعالى: ﴿وَيزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾(37). يعني: أنهم يزدادون هداية على هداية، فإذا قرأ في الأسبوع -مثلاً- ثلاثة أجزاء، طلب الزيادة بأنه سيقرأ سبعة أو ثمانية أجزاء، إلى أن يختم القرآن في سبعة أيام، أو في ثلاثة أيام، وإذا أقبل على حفظ القرآن، ورغبت نفسه واستنار قلبه بهذا القرآن حفظ جزءًا، ثم تشتاق نفسه إلى حفظ أكثر، وهكذا إلى أن يُتِمَّ القرآن الكريم. فالعبادة تدعو صاحبها إلى الزيادة، فالحسنة تنادي الحسنة كما أن السيئة -والعياذ بالله- تنادي السيئة، فالسيئة الخبيثة تجر صاحبها إلى سيئة أرفع، ثم إلى سيئة أعلى، ثم إلى سيئة أعظم، إلى أن يألف هذه السيئة، والحسنات كذلك. فالإنسان يتبع الحسنة الحسنة دائمًا؛ لأن الإنسان لا يخلو من سيئات في حياته، لكن إذا كانت حسناته كثيرة غلبت على السيئات، كما قال الله -تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾(38). فاستماع القرآن الكريم يزيد في الهداية بوعد الله -جل وعلا، أيضًا قراءة القرآن الكريم يحصل بها اطمئنان القلب، وهذا من البُشْرى، قال الله -تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(39). فإذا اطمئن قلبك اطمأننت في هذه الدنيا، ولو كنت فقيرًا أو مريضًا أو مبتلًى، فاطمئنان القلب سعادة عظيمة للإنسان، فإذا كان فقيرًا لا يدخل إليه قلق ولا اضطراب ولا خوف، وإذا كان مريضًا يكثر من تحميد الله -تعالى- وشكره على هذه النعمة، وعلى هذا الابتلاء، فلا يخاف ولا يقلق من الموت، بل اطمئن قلبه، فصارت لديه سعادة وهدوء بال، لا يشعر بها إلا مَن عايشها في حياته، ومن تأمل القرآن الكريم، وَجَد وجوهًا كثيرة لهذه البشرى في هذه الحياة الدنيا لمن يستمع القرآن الكريم. ولا أدَلَّ على ذلك مما ذكره الله -تعالى، وساقه المؤلف من الجن المكلفين بعبادة ربهم، أولئك النفر الذين جاؤوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يقرأ، واستمعوا إلى تلاوته، وأثر فيهم ذلك القرآن الكريم، فانطلقوا إلى قومهم يبلغون هذا القرآن الكريم، وشهدوا بأنه مصدق لما بين يديه. |
#4
|
||||
|
||||
إذن حينما سمعوا القرآن ازدادوا، ولم يكتفوا بالسماع فحسب، بل ضموا إلى ذلك أن بَلَّغوا قومهم، ﴿وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾(40)، فرجعوا إلى قومهم وبلغوهم ما سمعوه، وهذه هداية، وهي أن الله -تعالى- يوفق العبد ويهديه إلى أن يبلغ ما تحمله من علم وأمانة، ولا يكتفي به لنفسه، وهذا من حب الخير وفعله بإخوانك المسلمين.
البشارة الثانية: وتكون في الآخرة، وتقدمت البشارة الأولى وهي في الدنيا، ولها وجوه متعددة ذكرتُ بعضها، وفي الآخرة أيضًا لها وجوه متعددة منها: أن صاحب القرآن الذي قرأ القرآن واستمع إليه، يخاطب يوم القيامة، ويقال له: اقرأ وارقِ ورَتِّل كما كنت ترتل في الدني(41)، وأنه يوم القيامة في ذلك اليوم العظيم، تأتيه سورة البقرة وسورة آل عمران -وهما الزهراوان- كما أخبر بذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- تأتيان في ذلك اليوم العظيم كالغمامتين أو كالغيايتين تُحَاجَّان عن صاحبهم(42)، وقد جاء في بعض الأحاديث أن القرآن يأتي يوم القيامة بلسان وعينين يحاجُّ عن صاحبه، وهذا من البشارة له في الآخرة. ومن البشارة أيضًا: أنه -أي القرآن- يكون شفيعًا له يوم القيامة، كما جاء في الحديث: «الْقُرْآنُ وَالصِّيَامُ يَشْفَعَانِ لِصَاحِبِهِمَا، فَالْقُرْآنُ يَقُولُ: حَرَمْتُهُ النَّوْمَ فِي اللَّيْلِ. وَالصِّيَامُ يَقُولُ: أَظْمَأْتُهُ فِي النَّهَارِ وَجَوَّعْتُهُ فِيهِ، فَيَشْفَعَانِ لِصَاحِبِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(43). وهذه من البشارة العظيمة لأهل القرآن: التالين له، والمستمعين. ثم تأتي المسألة الأخرى، وهي: التمثيل الذي ذكره المؤلف، وقد اكتفى بتمثيل سورة واحدة من سور القرآن الكريم، وهي سورة ق؛ وبَيَّن المؤلف بعضًا من مقاصدها وموضوعاتها التي جاءت فيها، والوجوه -والله أعلم- أن هذه السورة سورة عظيمة، كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحافظ عليها ويقرأها، فقد قرأها في صلاة الجمعة، وقرأها في العيدين، وقرأها في صلاة الفجر؛ لما فيها من المواعظ والعبر والقصص، وفيها: إشادة بالقرآن الكريم وبيان فضله، وفيها: ذكر البعث والنشور، وإقامة الحجة على المشركين الذين أنكروه، وفيها: ذكر لبعض الأمم وقصصهم، وفيها: مِنَن من الله -تعالى- على عباده، مثل: هذه الأرض وهذه السماء، فالسماء تمطر، والأرض تنبت، وفيها: تذكير بالخلق الأول، ونهاية الناس في هذه الحياة الدنيا وهو الموت، وذكر الله -تعالى- فيها المحاضرة بين القرينين، وذكر الله -تعالى- فيها أيضًا: الجنة والنار، وما أعده الله -تعالى- لأهل الجنة، وما أعده الله لأهل النار، وخلق السماوات والأرض، ثم ختمها بما بدأها أيضًا، قال: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾(44). وقال في آخرها: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾(45). فبدأها بالقرآن، وختمها بالقرآن الكريم، فتأمل في مثل هذه السورة، وما فيها من المواعظ، وما فيها من العبر، وما فيها من المناسبات والدلالات العظيمة، فعلى الإنسان أن يقرأها، ويقرأ ما جاء فيها من التفسير؛ حتى يقف على المعاني، ويتدبر ذلك. من المسائل أيضًا: الحث على تدبر هذا القرآن العظيم الذي أنزله الله، وبَيَّن فضله وشرفه، وبَيَّن مكانته وقدره، وأمرنا بأن نتدبره، والتدبر هو التفكر والتأمل والتذكر لما في هذا القرآن من العبر والمواعظ والأوامر والنواهي والقصص، وما جرى للأقوام السابقة، وما أعده الله لأهل الإيمان، وما توعد به أهل الكفر. فالذي يقرأ القرآن عليه أن يقرن ذلك بالتدبر كما قال الله -تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(46)، وقال -تعالى- منكرًا على أولئك القوم على المنافقين الذين أعرضوا عن القرآن: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾(47)، وكذلك أنكر عليهم استفهام إنكار فقال في سورة محمد: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(48)، وهاتان الآيتان جاءتا في سياق ذكر أحوال المنافقين الذين يستمعون ولا ينتفعون، فكانوا يجلسون مجلس النبي -عليه الصلاة والسلام- ويستمعون القرآن والمواعظ، لكنهم معرضون بقلوبهم، فإذا خرجوا كما أخبر الله: ﴿حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾(49)، ماذا قال حين في كلامه؟! ألم تعلموا ما تكلم به وهو كلام عربي تعرفونه فكيف لا تفهمونه؟! إذن هم أعرضوا عن القرآن وأعرضوا عن أمر الله -تعالى-؛ ولهذا فإن التدبر الوارد في قوله -تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾(50)، يحتمل أمرين: الأمر الأول: أن القارئ عليه أن يتدبر المعاني والدلالات والمقاصد التي أرشد الله -تعالى- عباده إليها، وهي كثيرة، فكل هذا الدين قائم عليها؛ كالصلاة والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة التوحيد ونبذ الشرك ونبذ الفسق والنفاق، هذه أوامر فلا يليق بقارئ القرآن أن يخالفها، فهو يقرأ قوله -تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾(51)، ثم هو يكذب في حديثه، فهذا لم يتدبر القرآن، فمهما كانت الأحوال فإنه لا يكذب في الحديث بل عليه أن يصدق؛ لأن الصدق صفة أهل الإيمان؛ ولهذا ذكر الله -تعالى- في هذه الآية الإيمان وصفة أهل التقوى، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. فالصادق في قوله اتصف بصفة التقوى والإيمان، والأمثلة على هذا كثيرة في القرآن الكريم، لكن هذا نوع من أنواع تدبر المعاني والدلالات والمقاصد لكل ما يقرأه الإنسان، لا أن يقرأ حروفًا وكلمات فحسب، وإنما يقرأ كلام الرب -جل وعلا- ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾(52). الأمر الثاني: وهو أن يتأمل القارئ دلالة بلاغة القرآن الكريم في اللفظ، وأنه من عند الله، وأن الذي جاء به صادق فيما قال، إذن نتأمل بلاغة هذا القرآن الكريم، وأنه جاء على أفصح اللغات، فلا يدانيه كلام ولا تدانيه بلاغة ولا فصاحة ولا بيان؛ ولهذا فالله -جل وعلا- تحدى العرب وهم اللد البلغاء والألسن الفصحاء أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقال -تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾(53)، أي: معينًا في البيان والبلاغة وتنميق العبارات، وهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله. ولهذا إذا وقفت على آيات جامعة مانعة لها دلالة عظيمة كقوله -تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة﴾(54)، إذا وقفت على هذه الآية تجدها قد جمعت معاني عظيمة ودلالات كبيرة، والعرب كانوا يقولون: ال*** أنفى لل***، والآية جاءت بشيء أوسع وأعم وأشمل من هذا، حياة للناس جميعًا، حياة لهم في أنفسهم وفي دينهم وفي أموالهم وفي اجتماعهم وفي سياستهم وفي أمنهم وفي أوطانهم، في كل شأن من شؤون الحياة؛ ولهذا فالله -سبحانه وتعالى- ذكر الحياة فقال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، وأيضًا الحياة نكرة وليست معرفة، لو كانت معرفة لكانت محصورة على جزء من الحياة، لكن اللفظ جاء نكرة فتذهب فيه النفس كل مذهب من أنواع الحياة التي تخطر ببال الإنسان، فألفاظه قليلة وعباراته معانيها عظيمة. |
#6
|
||||
|
||||
الآثار المروية في أخلاق حملة القرآن عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وهذا الأثر أصله في صحيح البخاري ومسلم بألفاظ مختلفة، أما هذا الأثر فقد أخرجه أبو داود وأحمد، وذكر عبد الله بن مسعود هنا طريقة من طرق قراءة القرآن الكريم، لكنه حذر منها ونهى عنها؛ وهي طريقة الهذ أو الهذرمة في القرآن الكريم، والهذ هو قراءة القرآن الكريم على وجه السرعة بلا تأمل ولا تدبر، وقد يكون في هذه القراءة إخلال بالآيات أو إسقاط لبعض الحروف بسبب العجلة في القراءة؛ ولهذا نهى عبد الله بن مسعود أن يهذ كهذ الشعر؛ لأن الشعر يلقى بعجلة وسرعة بلا تأمل ولا تدبر، وإنما هم الشاعر أن يلقي هذه الكلمات المنمقة بصوته ليظهر الفصاحة والبيان والمعاني فيما يقوله دون أن يتأمل أو يتدبر، قال: (لاَ تنثرُوهُ نثرَ الدقلِ)، أي: لا تنثروا القرآن، والضمير عائد إلى قراءة القرآن الكريم، والدقل هو رديء التمر أو هو اليابس منه؛ لأن التمر اليابس إذا نثر خرجت له أصوات وتتابع بعضه مع بعض بسرعة كما يكون في الشعر، فنهى القارئ أن يهذه هذ الشعر أو ينثره نثر الدقل، بل أمر -رضي الله عنه- القارئ أن يقف عند هذه الكلمات القرآنية ويتأملها ويعلم ما فيها من العجائب والدلالات والمعاني والهدايات، وأن يتحرك قلبه كما يتحرك لسانه بهذه التلاوة، فإذا قرأ القرآن الكريم فعليه أن يستشعر هذا القرآن فيتأثر به قلبه وبدنه، قال -تعالى: ﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾(2). ولا يحرص الإنسان على أن ينهي السورة أو الجزء أو الحزب في وقت سريع دون تأمل ولا تدبر، فهذا ورد النهي عنه؛ لأن الله -تعالى- قال: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾(3)، أي: يعملون به حق العمل، (2) الزمر: 23. (3) البقرة: 121. |
#7
|
||||
|
||||
مراتب تلاوة القرآن
ومن خلال هذا الأثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- يجرنا إلى ذكر مراتب التلاوة، فإذا كان عبد الله بن مسعود نهى عن هذه الطريقة في التلاوة؛ وهي الهذ أو الهذرمة أو النثر، إذن فما الطريقة الصحيحة في تلاوة القرآن الكريم؟ ومن خلال هذا الأثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- يجرنا إلى ذكر مراتب التلاوة، فإذا كانعبد الله بن مسعود نهى عن هذه الطريقة في التلاوة؛ وهي الهذ أو الهذرمة أو النثر، إذن فما الطريقة الصحيحة في تلاوة القرآن الكريم؟ ذكر العلماء أربع مراتب لتلاوة القرآن، هي: الترتيل، ثم التحقيق، ثم الحدر، ثم التدوير. المرتبة الأولى: الترتيل، هي المرتبة التي جاء بها القرآن الكريم، والترتيل يعني الترسل في التلاوة والتأني والتمهل، والتبيين بألفاظ القرآن الكريم كما قال الله -تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾(2)، أي: بينه تبيينًا، وقال -سبحانه: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾(3)، وقال -جل ذكره: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾، أي: على تمهل، ﴿ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾(4)؛ ولهذا لما نزل القرآن الكريم على النبي -عليه الصلاة والسلام- بادر بالعجلة في التلقي محبة في هذا القرآن وخوفًا ألا يضيع منه شيء، قال الله -تعالى: ﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾(5). فالله يأمر نبيه أن يقرأ كما يقرأ جبريل -عليه السلام، فجبريل يقرأ ثم هو يتلقى، كما قال الله -تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾(6)، فالترتيل هو التأني والتمهل والترسل في التلاوة، وقال -تعالى: ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾(7)، أي: لا تعجل في قراءته، ولا تعجل في تلقيه، فأمره ربه -جل وعلا- أن يطمئن في الأخذ وفي التلاوة؛ لأن ترتيل القرآن الكريم بهذه الصورة التي فيها التأني والتمهل والترسل ثمرتها أن يتدبر القارئ ما يقرأ، وأن يفهم ويتأمل ثم بعد ذلك يعمل بما قرأ، فترتيل القرآن الكريم هو الذي جاء في القرآن، وهو الذي فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- وحث أصحابه عليه لما فيه من الحكم والفوائد. المرتبة الثانية: التحقيق، والتحقيق مرتبة قريبة من الترتيل، لكن التحقيق يستعمل في رياضة اللسان، وفي مقام التعليم وفي بيان مخارج الحروف وصفاتها، وفي زيادة ضبط وتعليم، فهو يقوم في مقام التعليم، فيعلم القارئ من يقرأ عليه كيف ينطق الحرف، ويعلمه كيف يخرج هذا الحرف، ومن أي مخرج هو؟ مثل أن يقول: إذا أردت أن تعرف مخرج الحرف فسكِّنه، وأدخل عليه همزة القطع، فستعرف مخرج هذا الحرف، مثلاً: القاف، أدخل عليها همزة قطع وسكنها فتقول: (أَقْ)، فهي من أقصى الحلق، وفي الباء: (أَبْ)، فهي من طرف اللسان، حينئذ يبدأ في القراءة، فإذا قرأ مثلاً: بسم الله الرحمن الرحيم، فهو يقول لهم: بِسم الله، (يوضح الكسرة)، ولا يقول، بَسم الله (الكسرة غير واضحة)، فهو يبين كسرة الحرف وفتحته وضمته، وكان المتقدمون في السابق يكتبون قواعد تسمى بالقاعدة البغدادية ويكتبون كل حرف ثلاثة مرات: الكتابة الأولى فتحة، والثانية ضمة، والثالثة كسرة؛ وبذلك أتقنوا الحروف وأتقنوا ضبطها ومخارجها ومعرفة مخرج كل حرف، فهذا يدخل في التحقيق، والعلماء قد تكلموا عن مخارج الحروف وصفاتها، وبينوا عدد مخارج الحروف، وبينوا عدد صفاتها، فهذا من الأهمية بمكان لقارئ القرآن أن يعرف هذه المخارج في مقام الإقراء وفي مرتبة التحقيق، فضبط القراءة وإتقانها وتجويدها لا يكون إلا في مرتبة التحقيق؛ ولهذا فالتحقيق داخل في الترتيل، فالذي ضبط التحقيق يستطيع أن يقرأ قراءة مرتلة ولا يخل بشيء من الأحرف ولا الكلمات. ومن مقامات التحقيق أنه يتعرض للوقف والابتداء، فيعرف متى يقف، ومتى يبتدئ، ومتى يصل... إلى غير ذلك من الأمور متعلقة بالتحقيق، وبعض أهل العلم لم يفرق بين الترتيل والتحقيق، وجعلهما مرتبة واحدة، وسأذكر كلام أهل العلم وأيهما أفضل، بعد سياق هذا العرض. المرتبة الثالثة: الحدر، وهو السرعة في القراءة مع المحافظة على أحكام التلاوة، وفيه تكثير للحسنات؛ لأن الإنسان يقرأ كثيرًا إذا حدر، فإذا قرأ كثيرًا أخذ أجرًا كثيرًا، كما تقدم في الحديث أن قارئ القرآن يؤجر على كل حرف من أحرف القرآن الكريم. والمرتبة الرابعة: التدوير، وهو حالة متوسطة بين مرتبة الترتيل ومرتبة الحدر، ويكون مع المحافظة على أحكام الحروف والوقف والابتداء والمخارج والصفات، وأكثر أهل الأداء أخذوا بهذا النوع من أنواع مراتب القراءة وهو التدوير، ونقل ذلك ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتاب زاد المعاد، وبنى على ذلك مسائل. إذن علمنا أن مراتب القراءة هي: الترتيل والتحقيق والحدر والتدوير، فالترتيل فيه تأنٍ في التلاوة، والحدر: فيه سرعة مع ضبط، والسؤال الآن: أيهما أفضل؛ الترتيل أم الحدر؟ ذكرنا في أول الكلام أن الترتيل يصحبه التدبر والتأمل والتفكر، وهذا هو المقصود من التلاوة، أما الحدر فإن فيه كثرة ثواب لكثرة القراءة، إذن يوجد مذهبان لأهل العلم في هذه المسألة: ما الأفضل الترتيل أم الحدر؟ ذهب عبد الله بن مسعود -كما سبق في الأثر- وابن عباس -رضي الله عنهما- وغيرهما من الصحابة والتابعين إلى أن الترتيل مع قلة القراءة أفضل من الحدر الذي فيه سرعة للقراءة، واحتجوا بحجج منها: أن المقصود من القراءة هو: الفهم والتدبر والفقه والعمل بما يقرأ، وليس الكثرة، وتلاوته بتأنٍ وتدبر وسيلة إلى فهم معانيه، وهذا يكون في التأني، والقرآن الكريم كما هو معلوم نزل ليعمل به لا أن يكون يقرأ فقط. |
#8
|
||||
|
||||
وقال بعض السلف: نزل ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً، فأهل القرآن المتدبرون لآياته ومعانيه هم العالمون بآياته العاملون بما فيه وإن لم يحفظوه كله عن ظهر قلب، وهذا كان حال الصحابة، فالصحابة لم يحفظوا القرآن كلهم، وإنما حفظه بعضهم، لكن الذي يحفظ القرآن ويكثر من تلاوته وهو لا يفهمه ولا يعمل به فليس من أهل القرآن الذين ورد فيهم الفضل، وترتب على قراءتهم الأجر؛ ولهذا تعلمون أن فرقة الخوارج كانوا أهل قرآن، وكانوا يقرؤون القرآن ويكثرون من تلاوته، ولكنه لا يجاوز حناجرهم ولا تراقيهم، ولكنهم يكثرون من التلاوة ولا يعلمون بما فيه؛ ولهذا وقعوا فيما وقعوا فيه من المخالفات؛ لأنهم لم يعملوا به، فهذا وجه من وجوه الترجيح أو في بيان فضل الترتيل على الحدر.
وقالوا أيضًا: إن القرآن جاء بهذا قال -تعالى: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾(8) وقال: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾(9)، فهنا جاء بالفعل ثم أكده بعد ذلك بالمصدر، فقال -تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾ وهذا التأكيد للثبات على هذا النوع من أنواع القراءة، وأن يداوم الإنسان عليه؛ لأنه وسيلة إلى التدبر والفهم، وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يقرأ كذلك، كما نقل عنه -عليه الصلاة والسلام- في أحاديث كثيرة تقول حفصة -رضي الله عنها- كما في صحيح مسلم: "كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها"(10)، ولما سئل أنس(11) -رضي الله عنه- عن قراءة النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "كانت قراءته مدا"(12)، فيمد الرحيم، وهذا مد عارض للسكون، وفيه ثلاثة أوجه: القصر والتوسط والمد، ونقل كثير من الصحابة -رضوان الله عليهم- صفة قراءة النبي -عليه الصلاة والسلام- كما نقلت ذلك أيضًا أم سلمة(13). والقول الثاني: ذهب إليه بعض أهل الأداء وبعض أصحاب الشافعي ورجحوا أن الحدر أفضل، قالوا: لأن فيه كثرة للقراءة وكثرة القراءة أفضل حينئذ، واحتجوا على ذلك بما ورد في الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود وصححه الترمذي أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: « مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ: آلم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ»(14)، وقالوا: لأن بعض السلف كان يكثر من القرآن، بل بلغ الأمر ببعضهم إلى أن يختم في الليلة، بل زاد على ذلك أن يختم في ركعة، كما ورد ذلك عن عثمان -رضي الله عنه- فقد ورد أنه أحيا القرآن كله في ركعة(15)، وورد عن تميم الداري(16) أنه قرأ القرآن في ليلة(17)، وورد عن سعيد بن جبير(18) أنه أيضًا قرأ القرآن في ركعة(19)، وورد أيضًا عن علقمة بن قيس(20) من أكابر تلامذة عبد الله بن مسعود أنه ختم القرآن في ليلة(21)، قالوا: لأن هذا كان من عادة السلف أنهم يقرؤون القرآن كثيرًا، وهذه الروايات عن هؤلاء الصحابة والتابعين أخرجها أبو عبيد في فضائل القرآن، وأخرجها أيضًا البيهقي، وأخرجها ابن ماجه، وقد صحح أسانيدها ابن كثير في فضائل القرآن في مقدمة التفسير، وقال الذهبي معلقًا على ذلك: هذا خلاف السنة. إذن هؤلاء الصحابة أو التابعون اجتهدوا في طلب الخير، وفي التزود من قراءة القرآن الكريم، لكن السنة جاءت بخلاف ذلك، وهذا يظهر لك جليًّا وواضحًا في وصية النبي -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عمرو بن العاص حينما جاءه قال له -عليه الصلاة والسلام: « كَمْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟». قال: أقرأه في ليلة، قال: « اقْرَأْهُ فِي شَهْرٍ». قال: إني أطيق أكثر من ذلك، حتى أوصله -عليه الصلاة والسلام- إلى سبع ليال(22). قال العلماء: هذه مدة كافية لمن أراد أن يختم القرآن الكريم وهو يتأمل ويتدبر ما فيه من المعاني، فالأخذ بوصية النبي -عليه الصلاة والسلام- أولى حينئذ، وإن كان بعض الصحابة والتابعين اجتهدوا وقرؤوا القرآن في ليلة كاملة، ولكن فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- وتوجيهه لعبد الله بن عمرو بن العاص هو الأولى في الأخذ، وورد في بعض الروايات أنه يختمه في ثلاث ليال كما سيأتي. إذن القول المختار والصواب أن ثواب قراءة الترتيل والتدبر الترتيل المقرونة بالتدبر والتفهم والفقه أعلى وأجل أرفع قدرًا من القراءة بالحدر، ولكن في كلٍّ خير، قالوا: إن قراءة الحدر أكثر عددًا وقراءة الترتيل أكثر ثوابًا، ومثلوا لذلك بمثال وهو: أن يكون لدى الإنسان جوهرة فيبيعها بألف، هذا هو الترتيل، وإنسان عنده أربع جواهر وباعها بألف أيضًا، لكن هذه عددها خمس وهذه واحدة، أو كأن يكون إنسان عنده عبد نفيس يبيعه بألف وآخر عنده خمسة من العبيد فيبعهم بألف أيضًا؛ لأن ذاك أنفس منهم وأعلى عنده. فلا يقال إن الحدر مردود ولا يقرأ به إنسان،بل أخذ به أكثر أهل الأدب، فقد أخذ به ابن كثير(23) والكسائي(24) وأبو عمرو البصري(25) في بعض الروايات عنه، فلهذا فضله ولهذا فضله، لكن أيهما أولى؟ الأولى الترتيل؛ لأن الترتيل هو فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي نزل به القرآن الكريم، وفي الترتيل معرفة المواقف على الآيات، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يقف على رؤوس الآيات حتى ولو اختلف المعنى، ولكن كيف يختلف المعنى؟ تأتي آية مرتبطة في المعنى بالتي بعدها في مثل قوله -تعالى: ﴿ فَوَيلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾(26)، فهذا وعيد للمصلين، لكن هل هو لكل المصلين؟ هذا لبعض المصلين المخالفين وهم الساهون في صلاتهم؛ ولهذا قال -تعالى: ﴿ فَوَيلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾(27). وحينئذ على القارئ أن يقرآ: ﴿فَوَيلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾، ويقف، ثم يقول: ﴿فَوَيلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾ فيجمع بين الأمرين؛ بين السنية في الوقف على رؤوس الآيات، وبين ارتباط معنى الآية، ومثل قوله -تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾(28)، إذا قال ذلك وسكت لم يتم المعنى، وهو قد وقف على رأس الآية، ولا يتم المعنى إلا بقوله -تعالى: ﴿وَيبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ﴾(29)، فيقول القارئ: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾، ويقف، ثم يرجع ويقول: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ﴾، فجمع بين الأمرين، بين الوقف على رؤوس الآيات وبين اتصال المعنى. |
#9
|
||||
|
||||
ولهذا أكثر السلف من الصحابة التابعين رأوا قراءة الترتيل، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه جاءه أبو جمرة واسمه نصر بن عمران البصري(30) وقال: إني رجل سريع القراءة وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: "لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي -وفي رواية أحب إلي- من أن أفعل ذلك الذي تفعله، فإن كنت فاعلاً ولا بد فاقرأ قراءة تسمع أذنيك ويعيها قلبيك(31)". وهذا عندابن أبي شيبة.
وقال إبراهيم(32): قرأ علقمة على ابن مسعود -وكان حسن الصوت- فقال: "رتل فداك أبي وأمي فإنه زَيْنُ القرآن"(33)، واستدلوا أيضًا بحديث عبد الله بن مسعود بقوله هذا المتقدم، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى(34): دَخَلَتْ عليَّ امرأة وأنا أقرأ سورة هود، فقالت: يا أبا عبد الرحمن هكذا تقرأ سورة هود! والله إني فيها منذ ستة أشهر وما فرغت من قراءته(35)!فهذه الآثار تدلك على أن قراءة الترتيل هي الأولى حينئذ، وأن ما ذهب إليه ابن مسعود وعبد الله بن عباس وآخرون من السلف في الأخذ بالترتيل هو الأولى؛ لأنه يكون مصحوبًا بالتدبر والفهم والفقه ومعرفة المعنى لهذه الآيات، هذا ما يتعلق بمراتب التلاوة فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قد أوصى عبد الله بن عمرو بن العاص بأن يختم القرآن في سبع ليال، والصحابة كانوا يهتمون بالعمل، فكانوا يتعلمون الخمس آيات والعشر الآيات في مجلس واحد فلا يتجاوزون هذه الآيات إلا وقد حفظوها وفهموا معناها وما فيها من الأحكام. وقد روي عن عبد الله بن عمر أنه مكث في سورة البقرة ست أو سبع أو ثمان سنين يتعلم هذه السورة(36)، لم يعجزه حفظها وإنما كان يتعلمها ويتعلم ما فيها من المعاني والدلالات والأحكام؛ لأن هذه السورة مليئة بالأحكام الفقهية والقصص والعبر والمواعظ والناسخ والمنسوخ، فكانت همهم الصحابة -رضوان الله عليهم- العمل والحرص على تطبيق هذا القرآن، ونحن الآن في هذا الزمن لا نشكو من قلة الحفظة، فالحفاظ كثيرون ويحفظون القرآن، لكن أين العمل؟ ولهذا كانت الوصية التي أوصى بها عبد الله بن مسعود أن تتحرك به القلوب، وأن تقف عند عجائبه(37)، ولا يكون هم الواحد هو نهاية هذه السورة فيحرص الإنسان في تلاوته على التدبر والعمل؛ لأن هذا أمر الله، وقراءة القرآن عبادة، والعبادة لا بد أن تكون بفهم وعلم، وإلا كيف يؤديها الإنسان لا يسوغ لإنسان أن يصلي وهو لا يعلم أحكام الصلاة، ولا يعرف ماذا يقول في ركوعه وسجوده وقيامه وقعوده! فلا بد أن يتعلم هذه الأحكام، فكذلك يتعلم الإنسان هذه المعاني ويقف عندها ويأتمر بأوامرها وينتهي عند نواهيها، ويقف عند حدود الله، ولو أن أهل القرآن قاموا بهذه الصفة كما كان عليها الصحابة -رضوان الله عليهم- لتحقق لهم الخير في حياتهم، ولحفظهم الله -تعالى- من هذه الفتن والمصائب، والصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يتسابقون إلى حفظ القرآن، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحث أصحابه ويرغبهم في حفظ القرآن وقراءته والعمل به. وكان -عليه الصلاة والسلام- يشجعهم ويحفزهم ويذكر محاسنهم في التلاوة؛ كما حصل ذلك مع أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس، إذ كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يمر في بعض طرق المدينة فسمع قراءة أبي موسى الأشعري، فوقف واستمع إليها وأعجبته هذه التلاوة فأخبره من الغد قال: « إِنِّي الْبَارِحَةَ اسْتَمَعْتُ إِلَى تَلاَوَتِكَ»، ففرح عبد الله بن قيس بهذا الخبر فهو شهادة عظيمة من النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال: «لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاودَ»(38)، فقال عبد الله: لو أني علمت بذلك لحبرتها لك تحبيرً(39)، أي: أضفت عليها أشياء كثيرة من التحسين الصوت وتزيينه، فكان -عليه الصلاة والسلام- يشجعهم. ويستفيد من هذا أيضًا أن قارئ القرآن إذا كان تاليًا محسنًا للتلاوة حسن الصوت لا يمنع الإنسان أن يذكر له هذا الشيء ويقول: جزاك الله خيرًا على هذا الصوت الجميل الحسن المتقن الجيد، وليس هذا من الإطراء، وإنما هو من التشجيع كما كان يفعل -عليه الصلاة والسلام، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام- أيضًا لأبيٍّ(40): «أَقْرَأُكُمْ أُبَيٌّ(41)»، وقال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ القُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا فَلْيَأْخُذْهُ عَنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ»(42)، وهو عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- لذلك كان للصحابة نشاط دائم وكانوا إذا جلسوا في بيوتهم أو في المسجد كأنما تسمع دويًّا كدوي النحل، كما وصفه بعض أهل العلم منهم عبد الرحمن بن أبي ليلى في صفة الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- في الإقبال على القرآن الكريم، ولم يحرصوا على أن يستكملوا، وإنما على أن يعوه وأن يفهموه، وأن يتقنوا هذا القرآن العظيم. إذن هناك زيادة على القدر المحدد؛ كأن يختم الإنسان في أقل من ثلاث ليال أو سبع، كما حصل لعثمان وغيره، والتلاوة في أقل من سبعة أو ثلاث ليال ليست محرمة، وإنما يقال: هذا خلاف الأولى، فهذا يختلف باختلاف أحوال الناس، كما ذكر ذلك النووي -رحمه الله تعالى- ونقله عنه ابن حجر(43) قال النووي(44): "والاختيار في ذلك -يعني في قراءة القرآن- أن ذلك يختلف بالأشخاص؛ فمن كان من أهل الفهم وتدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبر واستخراج المعاني، وكذلك مَن كان له شغل بالعلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة يستحب له أن يقتصر منه على القدر الذي لا يخل بما هو فيه، ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل ولا يقرأه هذرمة؛ فالحكم حينئذ يدور مع النفع". |
#10
|
||||
|
||||
فربما تجد إنسانًا لا يختم في شهر أو شهرين؛ لأنه مرتبط بمصالح متعدية النفع للمسلمين، فالناس ليسوا على درجة سواء، فمن كان مرتبطًا بأعمال متعدية النفع لإخوانه المسلمين فهذا يقرأ على قدر استطاعته، ولا يكلف نفسه أكثر من ذلك؛ لأنه لو جلس يقرأ هذه المدة لتعطلت تلك المنافع؛ كالعطف على الفقراء والمساكين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمرابطة والحراسة، فليس هذا حكمًا عامًّا على كل الناس، فهذا الحكم يدور مع النفع المتعدي، فمن كان نفعه متعديًا إلى الآخرين أكثر من نفع القراءة فيبقى على ذلك النفع ولا يترك القراءة، وإذا كان نفعه في القراءة أكثر فيبقى على القراءة حينئذ؛ كأن يكون هذا الإنسان متبحر في القراءة، ويعرف الصفات والمخارج، فإذا قرأ وسجلت هذه القراءة واستمع إليها أناس آخرون استفادوا منها، فهذا يبقى على حاله ويفرغ وقته لهذا الشيء حتى ينفع الله -تعالى- بهذه القراءة التي يتلوها، وكذلك مَن كان في المسجد أيضًا يدرس في الحلقات هذا في حقه أنه يبقى ليفيد الآخرين، فهو متوقف على النفع. ولهذا رأى الإمام أحمد -رضي الله عنه- أنه لا يزيد على ثلاثة أيام إن كان جادًّا مجتهدًا، فلا يختم في ليلة ولا في ليلتين، بل يختم في ثلاث ليال، وقال بعض الظاهرية: يحرم أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاثة؛ ووقفوا على ظاهر النص، لكن اختيار الإمام أحمد ومَن معه من أهل العلم أنه يقرأ ليالي الصيف أقصر من ليالي الشتاء، وساعاتها طويلة، ويستطيع أن يختم ويقرأ، ولكن أقل الأحوال أن يحرص الإنسان على أن يختم في شهر رمضان، فشهر رمضان هو شهر القرآن، فيحرص على ذلك غاية الحرص؛ لأن السلف -رضوان الله عليهم- كانوا يتركون الدروس والعلوم الأخرى، وينصرفون إلى القرآن الكريم، هذا ما يتعلق بهذا الأثر عن ابن مسعود، وهو مخرج في الصحيحين(45)، وقد رواه أبو داود وأحمد(46). (1) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (8733).
(2) المزمل: 4. (3) الفرقان: 32. (4) الإسراء: 106. (5) القيامة: 16-18. (6) النمل: 6. (7) طه: 114. (8) الفرقان: 32. (9) المزمل: 4. (10) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز النافلة قائما وقاعدا وفعل بعض الركعة قائما (733). (11) أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. الإمام، المفتي، المقرئ، المحدث، راوية الإسلام،أبو حمزة الانصاري الخزرجي النجاري المدني، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقرابته من النساء، وتلميذه، وتبعه، وآخر أصحابه موتا، وروى عنه علما جما، وغزا معه غير مرة، وبايع تحت الشجرة. دعا له النبي بالبركة، فرأى من ولَده وولَدِ ولَدِه نحوا من مئة نفْس. مات سنة إحدى وتسعين. انظر: الاستيعاب (ص: 53 ترجمة 43)، والإصابة (1/ 126 ترجمة 277). (12) أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب مد القراءة (5045، 5046). (13) صحيح: أخرجه أحمد في المسند (26583)، وأبو داود، كتاب الحروف والقراءات باب استحباب الترتيل في القراءة (1466)، والترمذي: كتاب القراءات عن رسول الله، باب في فاتحة الكتاب (2927)، قال الترمذي: حسن صحيح، والنسائي كتاب الافتتاح، باب تزيين القرآن بالصوت (1022، 1629)، قال الألباني في صحيح الترمذي: صحيح. (14) صحيح: أخرجه الترمذي كتاب فضائل القرآن عن رسول الله، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر (2910) وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال الألباني في صحيح أبو داوود: صحيح. (15) أخرجه القاسم بن سلام في "فضائل القرآن" (236)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (3710، 3720، 8680). (16) تميم بن أوس بن خارجة بن سود بن جذيمة، أبو رقية الداري، اللخمي، الفلسطيني. صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. والدار بطن من لخم، ولخم: فخذ من يعرب بن قحطان. كان نصرانيا، ووفدتميم الداري سنة تسع، فأسلم، فحدث عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر بقصة الجساسة في أمر الدجال. كان عابدا تلاَّءً لكتاب الله. يقال: وُجد على بلاطة قبر تميم الداري: مات سنة أربعين. انظر: الاستيعاب (ص: 97 ترجمة 238)، وأسد الغابة (1/ 428 ترجمة 515). (17) أخرجه القاسم بن سلام في "فضائل القرآن" (238)، ابن أبي شيبة في المصنف (3711). (18) سعيد بن جبير بن هشام، الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله الأسدي الوالبي، مولاهم الكوفي، أحد الأعلام. روى عن ابن عباس فأكثر وجود. وكان من كبار العلماء. قرأ القرآن علىابن عباس. قرأ عليه أبو عمرو بن العلاء وطائفة. قالابن حجر في التقريب: ثقة ثبت فقيه. مات سنة خمس وتسعين. انظر: تهذيب الكمال (10/ 358 ترجمة 2245)، وسير أعلام النبلاء (4/ 321 ترجمة 116). (19) أخرجه القاسم بن سلام في "فضائل القرآن" (239)، ابن أبي شيبة في المصنف (8679). (20) علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان، أبو شبل النخعي الكوفي. فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها، لازم ابن مسعود حتى ترأس في العلم والعمل. مات بعد سنة ستين. قال ابن حجر في التقريب: ثقة ثبت فقيه عابد. انظر: تهذيب الكمال (20/300 ترجمة 4017)، والسير (4/53 ترجمة 14). (21) أخرجه القاسم بن سلام في "فضائل القرآن" (240)، ابن أبي شيبة في المصنف (8681، 8682). (22) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب في كم يقرأ القرآن باب في كم يقرأ القرآن وقول الله -تعالى: ﴿ فاقرءوا ما تيسر منه﴾(5052، 5054). مسلم: كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به (1159). (23) الإمام العلم مقرئ مكة، وأحد القراء السبعة. عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله بن زاذان بن فيروزان بن هرمز، أبو معبد الكناني، وقيل: أبو عباد، وقيل: أبو بكر الداري المكي الفارسي الأصل. قال ابن حجر في التقريب: صدوق. مات سنة عشرين ومئة، انظر: تهذيب الكمال (15/468 ترجمة 3499)، وسير أعلام النبلاء (5 / 318 ترجمة 155). (24) الإمام، شيخ القراءة والعربية،أبو الحسن علي بن حمزة، بن عبد الله، بن بهمن، بن فيروز الأسدي، مولاهم الكوفي، الملقب بالكسائي لكساء أحرم فيه. واختار قراءة اشتهرت، وصارت إحدى السبع وجالس في النحو الخليل، وسافر في بادية الحجاز مدة للعربية. قال الشافعي: من أراد أن يتبحر في النحو، فهو عيال على الكسائي. قالابن الانباري: اجتمع فيه أنه كان أعلم الناس بالنحو، وواحدهم في الغريب، وأوحد في علم القرآن. كان ذا منزلة رفيعة عند الرشيد، وأدب ولده الأمين. مات بالري بقرية أرنبوية سنة تسع وثمانين ومئة عن سبعين سنة. انظر: سير أعلام النبلاء (9/ 131 ترجمة 44)، ومعرفة القراء الكبار (1/ 120 ترجمة 45). (25) أبو عمرو ابن العلاء بن عمار، بن العريان التميمي، ثم المازني البصري شيخ القراء، والعربية. وأمه من بني حنيفة. اختلف في اسمه على أقوال؛ أشهرها: زبان، وقيل: العريان. مولده في نحو سنة سبعين. قرأ القرآن علىسعيد بن جبير. ومجاهد، ويحيى بن يعمر، وعكرمة، وابن كثير، وطائفة. واشتهر بالفصاحة والصدق وسعة العلم. وكان أعلم الناس بالقراءات والعربية، والشعر، وأيام العرب. قال ابن حجر في التقريب: ثقة من علماء العربية. توفي سنة أربع وخمسين ومئة. انظر: تهذيب الكمال (34/ 120 ترجمة 7533)، وسير أعلام النبلاء (6/ 407 ترجمة 167). (26) الماعون: 4. (27) الماعون: 4-5. (28) الرحمن: 26. (29) الرحمن: 27. (30) أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي البصري، أحد الأئمة الثقات. حدث عن: ابن عباس،وابن عمر، وزهدم الجرمي، وعائذ بن عمرو المزني، وطائفة. حدث عنه أيوب السختياني، ومعمر، وشعبة، والحمادان، وإبراهيم بن طهمان، وعباد بن عباد المهلبي، وآخرون. استصحبه معه الأمير يزيد بن المهلب إلى خراسان، فأقام بها مدة، ثم رجع إلى البصرة. مات سنة ثمان وعشرين ومئة. قال ابن حجر في التقريب: ثقة ثبت. انظر: تهذيب الكمال (29/ 362 ترجمة 6408)، وسير أعلام النبلاء (5/243 ترجمة 105). (31) لم أقف عليه عند ابن أبي شيبة، والأثر أخرجه القاسم بن سلام في "فضائل القرآن" (180). (32)إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو بن ربيعة بن ذهل بن سعد بن مالك بن النخع، أبو عمران النخعي. الإمام، الحافظ، فقيه العراق. وهو ابن مليكة أختالأسود بن يزيد. وقد دخل على أم المؤمنين عائشة وهو صبي. قال ابن حجر في التقريب: ثقة إلا أنه يرسل كثيرا. مات سنة ست وتسعين ومئة، وله سبع وخمسون سنة. انظر: تهذيب الكمال (2/ 233 ترجمة 265)، وسير أعلام النبلاء (4/ 520 ترجمة 213). (33) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8816، 30778)، والبخاري في "خلق أفعال العباد" (259). (34) عبد الرحمن بن أبي ليلى، أبو عيسى الأنصاري، الكوفي، الإمام، العلامة، الفقيه. ويقال: أبو محمد، من أبناء الأنصار. ولد في: خلافة الصديق، أو قبل ذلك. وقيل: بل ولد في وسط خلافة عمر، ورآه يتوضأ، ويمسح على الخفين. وقيل: إنه قرأ القرآن على علي. قال ابن حجر في التقريب: ثقة، اختلف في سماعه من عمر. قُتل بوقعة الجماجم سنة اثنتين وثمانين. انظر: تهذيب الكمال (17/ 372 ترجمة 3943)، وسير أعلام النبلاء (4/ 262 ترجمة 96). (35) أخرجه البيهقي في "الشعب" (1887). (36) أخرجه مالك في "الموطأ" (479). (37) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8825)، والبيهقي في الشعب (1883). (38) متفق عليه: أخرجه البخاري، كتاب في فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة بالقرآن (5048). مسلم في كتاب صلاة المسافربن وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن (793) واللفظ له. (39) صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه (7197)، الحاكم في المستدرك (3/529)، من حديثأبي موسى، انظر السلسلة الصحيحة (3532). (40) أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار. سيد القراء، أبو منذر الأنصاري النجاري المدني المقرئ البدري، ويكنى أيضا أبا الطفيل. شهد العقبة، وبدرا، وجمع القرآن في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعرض على النبي -عليه السلام-، وحفظ عنه علما مباركا، وكان رأسا في العلم والعمل -رضي الله عنه. قال له النبي -صلى الله عليه وسلم: « ليهنك العلم أبا المنذر». مات سنة اثنتين وثلاثين. انظر: الاستيعاب (ص: 42 ترجمة 2)، وأسد الغابة (1/ 168 ترجمة 34). (41) الحديث أخرجه البخاري كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي (5005) بمعناه عنعمر بن الخطاب. (42) صحيح: أخرجه أحمد في المسند (35، 4255، 4340)، ابن ماجه الكتاب المقدمة، باب فضل عبد الله بن مسعود (138)، قال الألباني في صحيح ابن ماجه: صحيح، من حديث ابن مسعود، وفي الباب عنعمر بن الخطاب، عمرو بن الحارث وغيرهما. (43) أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر، شهاب الدين أبو الفضل الكناني العسقلاني الشافعي. قاضي القضاة، حافظ زمانه. نشأ يتيما، وأكمل حفظ القرآن في التاسعة من عمر، وصلى التراويح بالناس في الحرم المكي وله اثنا عشر عاما. رحل حبا في العلم وتطلبا للشيوخ. من أبرز شيوخه: ابن الملقن، والسراج البلقيني، وأبو الحسن الهيثمي. من أبرز تلاميذه: السخاوي، ابن قاضي شهبة، ابن تغري بردي. له مؤلفات حسان؛ أهمها: "فتح الباري"، و"لسان الميزان"، و"الدرر الكامنة". ولد سنة ثلاث وسبعين وسبع مئة، وتوفي سنة ثنتين وخمسين وثمان مئة. انظر: الضوء اللامع (2/ 36 ترجمة 104)، وحسن المحاضرة (1/ 363 ترجمة 102)، وله ترجمة موعبة في الجواهر والدرر لتلميذه السخاوي. (44) يحيى بن شرف بن مُرِّي بن حسن ين حسين، أبو زكريا الحزامي النووي الشافعي الدمشقي، الحافظ الزاهد، أحد أعلام الشافعية. ولد في المحرم سنة إحدى وثلاثين وست مئة. صرف أوقاته في العلم والعمل به، وتبحر في الحديث والفقه واللغة. كان في لحيته شعرات بيض، وكان عليه سكينة ووقار في البحث مع الفقهاء. له مؤلفات جياد أثنى عليها الموافق والمخالف؛ منها: "المجموع"، و"روضة الطالبين". توفي ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وست مئة. انظر: "تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيي الدين" لابن العطار. (45) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن (4996، 5043)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ترتيل القراءة واجتناب الهذ وهو الإفراط في السرعة وإباحة ... (822). (46) صحيح: أخرجه أحمد في المسند (3958، 3968، 4062)، أبو داود: كتاب الصلاة، تحزيب القرآن (1396)، قال الألباني في صحيح أبي داود: صحيح دون سرد السور. آخر تعديل بواسطة محمد رافع 52 ، 07-10-2013 الساعة 08:01 PM |
#11
|
||||
|
||||
تابع الآثار المروية في أخلاق حملة القرآن
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ النَّاجِيِّ(1) أَنَّهُ سَمِعَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ(2) يَقُولُ: (الْزَمُوا كِتَابَ اللهِ وَتَتَبَّعُوا مَا فِيهِ مِنَ الأَمْثَالِ، وَكُونُوا فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصَرِ، ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللهُ عَبْدًا عَرَضَ نَفْسَهُ وَعَمَلَهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فِإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللهِ حَمِدَ اللهَ وَسَأَلَهُ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ خَالَفَ كِتَابَ اللهَ أَعْتَبَ نَفْسَهُ فَيَرْجِعُ مِنْ قَرِيبٍ)، وَعَنْ أَبِي كِنَانَةَ(3) أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ(4) قَالَ: (الَّذِينَ قَرَؤُوا الْقُرْآنَ وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ ثَلاَثِمِئَةٍ، فَعَظَّمَ الْقُرْآنَ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كَائِنٌ لَكُمْ زُخْرًا وَكَائِنٌ عَلَيْكُمْ وِزْرًا فَاتَّبِعُوا الْقُرْآنَ وَلاَ يَتَّبِعْكُمْ؛ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ هَبَطَ بِهِ عَلَى رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمَنِ اتَّبَعَهُ الْقُرْآنَ زَجَّ فِي قَفَاهُ فَقُذِفَ فِي النَّارِ)(5). وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ مَا هُوَ فَلْيَعْرِضْ نَفْسَهُ عَلَى الْقُرْآنِ)(6)، وَعَنْ عَطَاءٍ(7) وَقَيسِ بْنِ سَعْدٍ(8) (عَنْ مُجَاهِدٍ(9) فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾(10)، قَالَ: يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ)(11)، وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: (إِنَّمَا الْقُرْآنُ عِبَرٌ، إِنَّمَا الْقُرْآنُ عِبَرٌ) (12). قال محمد بن الحسين(13): وَقَبْلَ أَنْ أَذْكُرَ أَخْلاَقَ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَأَدَّبُوا بِهِ أَذْكُرُ فَضْلَ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ؛ لِيَرْغَبُوا فِي تِلاَوَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالتَّوَاضُعِ لِمَنْ تَعَلَّمُوا مِنْهُ أَوْ عَلَّمُوهُ). وبعده وصية الحسن البصري(14)، فقد أوصى الحسن البصري قُرَّاء القرآن بأن يلزموا كتاب الله، وأن يداوموا عليه، وأن يتبعوا ما فيه من الأمثال(15). والقرآن قد ضرب الله فيه الأمثال، قال الله -تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾(16). وقال: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ﴾(17). فالقرآن مليء بالعبر والأمثال لما جرى للأمم السابقة جماعات وأفراد، فالأفراد مثل قوله -تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾(18). وعن الأقوام قال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾(19). والأمثال لا يعقلها إلا مَن تدبر وتفكر، كما قال -تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ﴾(20). وقال -تعالى: ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(21). فضرب الأمثال ليس للتسلية، ولا للقصص التاريخية، وإنما هو للاعتبار، وأخذ العبرة والاتعاظ، يعني: كل ما في هذا القرآن عبر، قال -تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى﴾(22). وهذه وصية جليلة، فالذي يعرض حاله ونفسه على القرآن الكريم، يستطيع أن يعرف ما لها وما عليها في الطاعة وفي المعصية، فاعرض نفسك على القرآن دائمًا، وأيّ عمل تُقْدِم عليه اعرضه على القرآن، فإن كان موافقًا لما في القرآن فأقدم عليه، وإن كان مخالفًا فأعرض عنه؛ ولهذا فإن الذي يُعْرِض عن القرآن في أقواله وأفعاله قد ارتكب الهوى، قال –تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾(23). وقال -تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(24). فأمر الله -تعالى- نبيه، وأمر أمته بأن يسيروا على هذه الشريعة، وهذه الشريعة في القرآن وفي السنة. فهذا وصايا الثلاث -رحمهم الله، فيقول: إن وافق كتاب الله، حمد الله، وسأله الزيادة، وإن خالف ذلك أعتب نفسه، أي: عاتبها على هذا الفعل، ولو أن الناس فعلوا ذلك لما رأيت هذا التعدي على حدود الله، وهذا الفساد، وهذا الظلم، وغيره من المحرمات التي يقعون فيها. وفي الأثر عن أبي موسى الأشعري(25) أنه جمع قُرَّاء القرآن، وهذا الجمع قريب من الثلاثمئة، ويحتمل أن يكونوا من التابعين ومن الصحابة، جمعهم أبو موسى -رضي الله عنه- فوعظهم، وعظم القرآن في قلوبهم، وبيَّن لهم أن الله -تعالى- أنزل هذا القرآن؛ ليكون لكم نورًا وهداية، فعظموه في قلوبكم، فمَن عظَّم القرآن فقد عظم الذي أنزل القرآن، وهو الله -جل وعلا، وعظَّم مَن أُنْزِل عليه القرآن، وهو النبي -عليه الصلاة والسلام(26). والذي يتبع القرآن ويعمل به، فإن القرآن وفِيٌّ لأهله في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة، لأن القرآن يتبعه إلى يوم القيامة إلى أن يدخل الجنة، كما تقدم في سورتي: البقرة وآل عمران، وهما الزهراوان، وأنهما تأتيان يوم القيامة كالغيايتين أو كالغمامتين تحاجان عن صاحبهما حتى يدخل الجنة(27). |
#12
|
||||
|
||||
فالقرآن يتبعه، وينير له الطريق في الدنيا وفي الآخرة، حتى يدخل مآله وهو الجنة، كذلك الذي لا يتبع القرآن، فالقرآن يتبعه بالعذاب، ويدفعه دفعًا إلى النار -والعياذ بالله؛ ولهذا قال -تعالى: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فلاَ يَضِلُّ ولاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾(28). هذه وصايا الصحابة ووصايا السلف -رضوان الله عليهم، ثم بعد ذلك جاء ما أوصى به الحسن، وهو تابع لما قبله، ثم تفسير مجاهد(29) لقوله -تعالى: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾(30). قال: يعملون به حق عمله(31). فالمقصود العمل بالقرآن، وليس كثرة التلاوة، وإن كانت الكثرة فيها الأجر والثواب، لكن المقصود الأعظم هو العمل بالقرآن الكريم، وإنما القرآن عبر، أي: يعتبر به مَن قَرَأَه، ويَعرِف حال الأمم وحال العصاة من الكافرين مع أنبياء الله -تعالى- ورسله. ولما ذكر الله -تعالى- قصة يوسف العجيبة مع إخوته وما جرى، ختمها الله -تعالى- كما بدأها، فقال في أولها: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾(32). وفي آخرها قال: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾(33). فبدأها بذكر القصص وختمها بالقصص، وهذا من المناسبات اللطيفة في مناسبات أوائل السور وأواخرها، فسَمَّى الله -تعالى- هذه القصص عبرة لمن يعتبر بها، وقال -تعالى- في آية أخرى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ﴾(34). أي: لما تقدم من سياق في هذه الآيات، لأولي الأبصار: هم أهل النظر الصحيح، وهم الذين يتأملون هذا القرآن، ويتأثرون به، ويعرفون ما جرى للأقوام السابقة، وما أعده الله -تعالى- لأوليائه من نعيم مقيم، وما أعده للمخالفين والعصاة من العذاب والجحيم.. س: يقول البعض -حفظك الباري: أيهما أولى بالإمامة: رجل يحسن القراءة من ناحية الأحكام وغيرها، أم مَن هو أحفظ، وإن كان لا يجيد القراءة بالأحكام، وجزاكم الله خيرًا؟ ج: الإمام إذا كان إمامًا ثابتًا في المسجد فهو أولى، وإن كان أقل في الحفظ، فإذا كان ثابتًا وإمامًا رسميًّا في المسجد فهو أولى بالإمامة من غيره، وإن كان خلفه مَن هو أقرأ منه، لكن إذا كان في غير المسجد، فكما قال -عليه الصلاة والسلام: « يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِِكِتَابِ اللهِ»(35). فإذا كانوا في غير المسجد، يؤمهم الضابط المتقن لقراءة القرآن الكريم، وإن لم يكن حافظًا. (1) بكر بن الأسود، ويقال: ابن أبي الأسود، أبو عبيدة الناجي، ضعفه ابن معين، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم. انظر: الجرح والتعديل (2/382 ترجمة 1489)، لسان الميزان (2/47 ترجمة 174). (2) الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد البصري، مولى زيد بن ثابت الأنصاري، ويقال: مولى أبي اليسر كعب بن عمرو السلمي. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر. كانت أمه مولاة لأم سلمة أم المؤمنين المخزومية، وكانت تبعث أم الحسن في الحاجة فيبكي وهو صبي فتسكته بثديها. ويقال: كان مولى جميل بن قطبة. قال ابن حجر في التقريب: ثقة فقيه فاضل مشهور وكان يرسل كثيرا ويدلس. مات سنة عشر ومئة، وهو ابن نحو من ثمان وثمانين سنة. انظر: تهذيب الكمال (6/ 95 ترجمة 1216)، وسير أعلام النبلاء (4/ 563 ترجمة 223). (3) أبو كنانة القرشي. قال ابن حجر في التقريب: مجهول. انظر: تهذيب الكمال (34/227 ترجمة 7589)، الجرح والتعديل (9/430/2135). (4) الصحابي الجليل عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن غنم بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر أبو موسى الأشعري. مشهور باسمه وكنيته معا وأمه ظبية بنت وهب بن عك أسلمت وماتت بالمدينة وكان هو سكن الرملة وحالف سعيد بن العاص ثم أسلم وهاجر إلى الحبشة. كان حسن الصوت بالقرآن. شهد فتوح الشام ووفاة أبي عبيدة واستعمله عمر على إمرة البصرة بعد أن عزل المغيرة وهو الذي افتتح الأهواز. مات سنة خمسين. انظر: الاستيعاب (ص: 851 ترجمة 3137)، والإصابة (4/ 211 ترجمة 4901). (5) أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في "الحلية" (1/257) عن أبي كنانة به. (6) أخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد" (37) . (7) عطاء بن أبي رباح، واسمه أسلم، الإمام شيخ الإسلام، مفتي الحرم، أبو محمد القرشي مولاهم المكي. يقال: ولاؤه لبني جمح. ثقة كثير الإرسال. نشأ بمكة، وولد في أثناء خلافة عثمان. قال ابن حجر في التقريب: ثقة فقيه فاضل لكنه كثير الإرسال. توفي سنة أربع عشرة ومئة. انظر: تهذيب الكمال (20/ 69 ترجمة 3933)، وسير أعلام النبلاء (5/ 78 ترجمة 29). (8) قيس بن سعد، أبو عبد الملك، ويقال: أبو عبد الله المكي الحبشي، مولى نافع بن علقمة، ويقال: مولى أم علقمة، مات سنة تسع عشرة ومئة، وكان قد خلف عطاء في مجلسه، وكان يفتي بقول عطاء. قال ابن حجر في التقريب: ثقة. انظر: تهذيب الكمال (24/47 ترجمة 4907)، وميزان الاعتدال (3/ 397 ترجمة 6915). (9) مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي،الأسود، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، الإمام، شيخ القراء والمفسرين. روى عن: ابن عباس فأكثر وأطاب، وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه. كان يقول: يقول: "عرضت القرآن ثلاث عرضات على ابن عباس، أقفه عند كل آية، أسأله: فيم نزلت؟ وكيف كانت؟". وكان من أعلم التابعين بالتفسير. قال ابن حجر في التقريب: ثقة إمام في التفسير. توفي سنة ثلاث ومئة وقد نيف على الثمانين. انظر: تهذيب الكمال (27/ 228 ترجمة 5783)، وسير أعلام النبلاء (4/ 449 ترجمة 175). (10) البقرة: 121. (11) أخرجه الطبري في تفسيره (1/566)، من طريق عطاءوقيس بن سعد عن مجاهد به. (12) أخرجه سعيد بن منصور – كما في روح المعاني (23/209)- قال الألوسي: صحيح. (13)محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر البغدادي الآجري. الإمام المحدث القدوة، شيخ الحرم الشريف، صاحب التصانيف الحسان؛ منها: "الشريعة"، و"الأربعين". توفي سنة ستين وثلاث مئة. انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 133 ترجمة 92)، والوافي بالوفيات (2/ 267 ترجمة 847). (14) الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد البصري، مولى زيد بن ثابت الأنصاري، ويقال: مولى أبي اليسر كعب بن عمرو السلمي. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر. كانت أمه مولاة لأم سلمة أم المؤمنين المخزومية، وكانت تبعث أم الحسن في الحاجة فيبكي وهو صبي فتسكته بثديها. ويقال: كان مولى جميل بن قطبة. قال ابن حجر في التقريب: ثقة فقيه فاضل مشهور وكان يرسل كثيرا ويدلس. مات سنة عشر ومئة، وهو ابن نحو من ثمان وثمانين سنة. انظر: تهذيب الكمال (6/ 95 ترجمة 1216)، والسير (4/ 563 ترجمة 223). (15) ذكره ابن الجوزي في التذكرة في الوعظ (ص80) (16) الزمر: 27 - 28. (17) الروم: 58. (18) الأعراف: 175. (19) الجمعة: 5. (20) العنكبوت: 43. (21) الحشر: 21. (22) يوسف: 111. (23) القصص: 50. (24) الجاثية: 18. (25) عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن غنم بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر أبو موسى الأشعري. مشهور باسمه وكنيته معا وأمه ظبية بنت وهب بن عك أسلمت وماتت بالمدينة وكان هو سكن الرملة وحالف سعيد بن العاص ثم أسلم وهاجر إلى الحبشة. كان حسن الصوت بالقرآن. شهد فتوح الشام، ووفاة أبي عبيدة، واستعمله عمر على إمرة البصرة بعد أن عزل المغيرة، وهو الذي افتتح الأهواز. مات سنة خمسين. انظر: الاستيعاب (ص: 851 ترجمة 3137)، والإصابة (4/ 211 ترجمة 4901). (26) أخرجهالفريابي في فضائل القرآن (19)، أبو نعيم في حلية الأولياء (1/257) بلفظه . وفي المصادر الأخرى بدون ذكر الجمع للقراء . (27) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (804) من حديث أبي أمامة الباهلي. (28) طه: 123 - 124. (29) مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي، الأسود، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، الإمام، شيخ القراء والمفسرين. روى عن: ابن عباس فأكثر وأطاب، وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه. كان يقول: يقول: "عرضت القرآن ثلاث عرضات علىابن عباس، أقفه عند كل آية، أسأله: فيم نزلت؟ وكيف كانت؟". وكان من أعلم التابعين بالتفسير. قال ابن حجر في التقريب: ثقة إمام في التفسير. توفي سنة ثلاث ومئة وقد نيف على الثمانين. انظر: تهذيب الكمال (27/ 228 ترجمة 5783)، وسير أعلام النبلاء (4/ 449 ترجمة 175). (30) البقرة: 121. (31) أخرجه مجاهد في تفسيره (1/87)، سعيد بن منصور في سننه (209). (32) يوسف: 3. (33) يوسف: 111. (34) النور: 44. (35) أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة (673) من حديث أبي مسعود. |
#13
|
||||
|
||||
فضل حملة القرآن عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ(1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « للهِ فِي النَّاسِ أَهْلُونَ». قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: « أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ»(2). وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ للهِ أَهْلِينَ». قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: « أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ». وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: « يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اقْرَأْ وَارْقَ فِي الدَّرَجَاتِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ كُنْتَ تَقْرَأُهَا»(3). وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: « يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُهَا»). قال محمد بن الحسين: (وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ(4) أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَمَّنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِمَّنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ: مَا فَضْلُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَقْرَأْهُ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ عَدَدَ دَرَجِ الْجَنَّةِ بِعَدَدِ آيِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِمَّنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ(5). وَعَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « تَعَلَّمُوا هَذَا الْقُرْآنَ وَاتْلُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ تُؤْجَرُونَ عَلَى تِلاَوَتِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لاَ أَقُولُ: "الم" حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَةِ اللهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللهِ، هُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَنَجَاةُ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَعِصْمَةُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، لاَ يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلاَ يَخْلَقُ مِنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ»(6). عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَاتْلُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ تُؤْجَرُونَ بِهِ؛ إِنَّ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْهُ عَشْرًا، أَمَا إِنِّي لاَ أَقُولُ: بِـ (آلم) عَشْرٌ، وَلَكِنْ بِأَلِفٍ عَشْرٌ، وَبِاللاَّمِ عَشْرٌ، وَبِالْمِيمِ عَشْرٌ(7). وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فَقَدْ حَمَلَ أَمْرًا عَظِيمًا، لَقَدْ أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُوحَى إِلَيْهِ، فَلاَ يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَجِدَّ مَعَ مَنْ يَجِدُّ، وَلاَ يَجْهَلَ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ؛ لأَنَّ الْقُرْآنَ فِي جَوْفِهِ(8). وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ(9) يَرْفَعُهُ، قَالَ: « مَنْ قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ فَقَدْ أُوتِيَ رُبُعَ النُّبُوَّةِ، وَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَدْ أُوتِيَ ثُلُثَ النُّبُوَّةِ، وَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَيِ الْقُرْآنِ فَقَدْ أُوتِيَ ثُلُثَيِ النُّبُوَّةِ، وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدَ أُوتِي النُّبُوَّةَ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُوحَى إِلَيْهِ»(10)). بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي تتابعت علينا نعمه، وترادفت لدينا مننه، بواضح البيان، وبَيِّنِ البرهان، مَنَّ فأكرم، وأعطى فأجزل، وأنعم فتكرم، لا معقب لحكمه، ولا مبدل لكلماته، وهو سريع الحساب. والصلاة والسلام على مَن أرسله الله رحمة للعالمين، ومنة للمؤمنين، ومحجة للسالكين، وحجة على المعاندين؛ ﴿ لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾(11)، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القبر، وفتنة العمل. هذا هو الباب الأول في هذا الكتاب، في فضل حملة القرآن، ذكر المؤلف عددًا من الأحاديث المخرجة في كتب السنن، في فضل حملة القرآن الكريم، ومنها حديث أنس(12)، وهو مخرج في مسند الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه، وفي هذا الحديث بيان فضل أهل القرآن الكريم، حينما قال -عليه الصلاة والسلام: « للهِ مِنَ النَّاسِ أَهْلُونَ». قيل: مَن هم يا رسول الله؟ قال: « أَهْلُ الْقُرْآنِ، هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ»(13). فالأهل هنا بمعنى الأولياء، أي: أولياء الله -تعالى، الذين اصطفاهم مِن خلقه وعباده، هم أهل القرآن، كما قال -تعالى: ﴿ أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(14). وقال -تعالى: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾(15). فالذين آمنوا وعملوا الصالحات هم أولياء الله، وأهلون هنا بمعنى: الأولياء، وعبر بالأهل هنا؛ لأنهم قريبون من الله -تعالى، فأهل الرجل هم أقرب الناس إليه، وأقرب الناس إلى الله -تعالى- هم أهل الطاعة والاستجابة لأمره -تعالى، وأعظم أمرٍ يقرب إلى الله -جل وعلا- هو قراءة القرآن الكريم، والمداومة على قراءته، آناء الليل وأطراف النهار، فالذي يقرأ القرآن، ويداوم عليه قريب من الله، وقريب من رحمته، وقريب من إحسانه، وقريب من ثوابه -جل وعلا- وقد قال الله -تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾(16). وكل عمل صالح فإنه يقرب إلى الله -تعالى، فالإحسان يقرب إلى الله: ﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(17). والصلاة تقرب إلى الله: ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾(18). فكل عمل صالح جاءت به الشريعة في القرآن أو السنة، فإنه العمل الذي يقرب إلى الله -تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾(19). وأنبياء الله -جل وعلا- هم أقرب الناس إلى ربهم، كما أخبر الله -تعالى- عن أنبيائه، وقال -تعالى- عن عيسى -عليه السلام: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾(20). ففي هذه الآية قال الله -تعالى- عنه: وجيهًا في الدنيا، ووجيهًا في الآخرة، وأيضًا من المقربين، فالوجاهة عند الله -تعالى- بالعمل الصالح، وهي في الحياة الطيبة، كما أخبر الله -تعالى- في سورة النحل: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾(21). |
#14
|
||||
|
||||
فالحياة الطيبة في هذه الدنيا في السعادة، وفي طمأنينة النفس، وفي القناعة، وفي الزهد، وفي الآخرة بدخول الجنة، ورؤية الرب -جل وعلا، فهذا النبي عيسى -عليه السلام- وصفه الله -تعالى- بأنه وجيه في الدنيا، ووجيه في الآخرة، وأنه من المقربين، وهكذا أنبياء الله –تعالى؛ لأنهم المصطفون من عباده، فنَفْهَم من قوله -عليه الصلاة والسلام: « للهِ أَهْلُونَ». أو في الرواية الأخرى: « إِنَّ للهِ أَهْلِينَ». لما سُئِل -عليه الصلاة والسلام: مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: « أَهْلُ الْقُرْآنِ، هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ». وأكد ذلك بالخصوصية أيضًا بأنهم يظهرون كلام الله -جل وعلا- ويقرؤونه وينشرونه؛ إما بتلاوته، أو بالدعوة إليه، أو بالعمل بأحكامه، أو بالسير على منهاجه، فكل هذا العمل داخل في هذه القربة إلى الله -تعالى.
إذن نفهم من قوله: « إِنَّ للهِ مِنَ النَّاسِ أَهْلِينَ». أن أهل القرآن هم أولياء الله -تعالى، وهم أقرب الناس إلى ربهم وخاصته، اختصهم الله -تعالى- من بين سائر الناس؛ لأن الناس في هذه الحياة الدنيا يلهون ويسرحون ويمرحون وينخدعون بزخارفها ومتاعها وشهواتها، فمنهم العاصي من المؤمنين، ومنهم الكافر الذي كفر بربه، فهؤلاء بعيدون عن القرآن؛ فأهل الكفر بعيدون كلَّ البعد، وأهل المعاصي يتركون القرآن تارة ويبتعدون عنه تارة. ولكن أهل الطاعة هم أهل الإيمان، وهم أهل القرآن، وهم أهل الخاصة، وهم خاصة الناس المقربون إلى الله -جل وعلا- في كل شؤونهم وأحوالهم، فلا تنفك حياتهم ولا أعمالهم عن القرآن، فكما يأكلون ويشربون وينامون ولا يتخلون عن هذه الأمور، فإنهم لا يتخلون عن القرآن؛ لأن مَن دَاوم على القرآن الكريم حصلت له طمأنينة النفس وسعادتها وفلاحها ونجاحها في هذه الدنيا، وحصل له الخير العظيم في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنه يعمل بهذا القرآن ويتلوه. والمؤمن عليه أن يخصص لنفسه دائمًا وقتًا يقرأ فيه القرآن؛ حتى ينال هذا الوصف العظيم الذي جاء من النبي -عليه الصلاة والسلام- أن أهل القرآن هم أهل القرب من الله -جل وعلا، وهذه الصفة لا تكون إلا للعاملين بالقرآن، كما تقدم في الآيات: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾(22)، أي: يعملون به حق العمل، فالعاملون بالقرآن المتبعون له المتدبرون لآياته المستجيبون لأوامره، هؤلاء هم أهل القرآن، وهؤلاء هم أولياء الله، وهؤلاء هم المقربون من الله -جل وعلا، قد عصمهم الله من الموبقات، ومن وساوس الشيطان. فالْمُقْدِم على الله -تعالى- بالطاعة والعبادة -ومن أعظمها تلاوة القرآن- لا يستطيع الشيطان أن يأتيه، أو يوسوس له، أو يضله، أو يغويه: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾(23). وقال: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً﴾(24). أي: عبادي الْخُلَّص من هؤلاء المؤمنون حق الإيمان، التالين لكتاب الله -تعالى. وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص جاء أيضًا في بيان ثواب قارئ القرآن في الآخرة، كما أنه نال الثواب في الدنيا، وصبر واحتسب، وانقطع عن زخارف الدنيا، ومتاعها وشهواتها، وأقبل على القرآن يتلوه ويتعلمه، ويتدبر ما فيه؛ لذلك ستكون النتيجة يوم القيامة، وستكون الثمرة العظمى؛ لأنه صبَر واحتسب، وسهر الليل، وداوم على القراءة آناء الليل وآناء النهار، فسوف يجد هذا العمل -إذا اقترن بالإخلاص لله -تعالى- في يوم القيامة، في ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، لأهل القرآن فيه خصوصية على غيرهم، ومن هذه الخصوصية: أنه يُنَادَى حينما يدخل الجنة، ويقال له: اقرأ القرآن، وارقَ هذه الدرجات التي أعدها الله -تعالى- لأهل القرآن العاملين به: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾(25). فمَن حفظ القرآن -كله أو بعضه- وعمل بما فيه، وتأدب بآدابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وتخلق بأخلاق القرآن الكريم، واتصف به - هو الذي ينطبق عليه حينئذ الوصف العظيم؛ ولهذا كان من صفات النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يتخلق بأخلاق القرآن الكريم، فما من خلق جاء في القرآن الكريم إلا وقد فعله النبي -عليه الصلاة والسلام. وفي صحيح مسلم: جاء رجل إلى عائشة -رضي الله عنها- يسألها عن الأخلاق، التي كان يتصف بها -عليه الصلاة والسلام- حتى يتعلمها؛ فأوجزت له العبارة، وقالت: أولست تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت: كان خلقه القرآن(26). أي: كان يتأدب بآدابه، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويأتمر بأمره، فالقرآن كله أوامر ونواهٍ وأخبار عن الله -تعالى، فمن كان كذلك في حياته فقد تخلق بأخلاق القرآن، وسوف يجد هذه الثمرة غدًا يوم القيامة، ﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾(27). في يوم يكون الإنسان مرتهن بعمله، فلا ينفعه فيه أحد من الناس، لا من البعيد ولا من القريب، إلا ما قدم من العمل: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾(28). أي: بعملها، فلا تظن أنك حينما تقبل على هذا القرآن أنك تفرط في الوقت، وتضيع عليك أمور، بل إنك تجمع خيرات وحسنات عظيمة، إذا كانت مقرونة بالإخلاص لله -جل وعلا. وهكذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يرغب أمته، ويرغب أصحابه، فيرغب أمته بالإقبال على القرآن الكريم بهذه الأجور العظيمة المترتبة على تلاوة القرآن، كما ورد: « يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ، كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا». فحينما يقول -عليه الصلاة والسلام- هذا الكلام العظيم لأصحابه، فإن نفوسهم تنطلق إلى القرآن الكريم، ويقبلون عليه، ويحفظونه، ويتدارسونه فيما بينهم؛ لأنهم سمعوا هذا الأجر والثواب من الصادق، الذي وعده لا يُخْلف؛ وهو ربنا -جل وعلا- على لسان نبينا -عليه الصلاة والسلام. وفي هذا أيضًا بيان لأن الإنسان سوف يرى أثر عمله في الآخرة، وسوف يرى أثر هذا العمل، وقراءة القرآن عمل، فإذا قرأ الإنسان القرآن الكريم، ودوام على ذلك، وكانت أغلب حياته وأغلب أوقاته مشغولة بالقرآن الكريم، فسوف ينال هذا الثواب العظيم الذي جاء في هذا الحديث، حتى إنه يقال له: « كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ». فليس هناك فرق بين ما كنت تقرأ في الدنيا، وما ستقرأ في الآخرة، فاقرأ كقراءتك في الدنيا. وهذا يعطينا أيضًا فائدة، وهي أن الترتيل أفضل من غيره من أنواع القراءة، أو مراتب القراءة -كما تقدم في الأربع- وأن الترتيل هو أفضلها، فالذي يرتل في الدنيا سوف يرتل في الآخرة، فهذه الصفة -صفة التلاوة- بهذا النوع ستكون معه أيضًا في الآخرة، فكانت -من هذا الوجه- له أفضلية هذا الكلام، فيقال لقارئ القرآن: اقرأ. حينما يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ويتوجه العاملون إلى مراتبهم في الجنة، لكن صاحب القرآن من بين هؤلاء العاملين خُصَّ بخاصية عظيمة، وهي أنه في هذه الدرجات لا يتوقف إلا عندما تنتهي قراءته، فالذي يحفظ القرآن الكريم كاملاً يقف عند آخر آية، والذي يحفظ النصف كذلك، أو الربع، أو الثلث، أو أقل من ذلك، فهذا الفضل متفاوت حينئذ. فمَن كان حافظًا للقرآن كله، عاملاً به، مقتديًا به، متأدبًا بآدابه، فهو أفضل ممن حفظ النصف، أو حفظ الربع، أو حفظ أقل من ذلك، فسَجِّل بنفسك هذه الحسنات، وادخر لنفسك هذا الثواب العظيم بقراءة القرآن الكريم، ومعنى قوله: « ارْقَ». أي: اصعد درجات هذه الجنة التي أعدها الله -تعالى- لأوليائه، على قدر ما تحفظه من هذه الآيات المصحوبة بالعمل، فإن كان حافظًا للقرآن كله كان في أعلى الدرجات، وإن كان أقل من ذلك كان أقل درجة أيضًا. وأما حديث عبد الله بن عمرو أيضًا، وهو ملحق بالحديث السابق، وقد أخرجه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود(29)، وهذا من الثواب العظيم الذي يُضَمُّ إلى الآية السابقة التي وردت في أول الكتاب، وذكرها المؤلف، وهي آية عظيمة في سورة فاطر: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾(30). فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾. أكدها بحرف (إن) المؤكدة، ثم أيضًا باسم الموصول (الذين)، ثم بصفة التلاوة: (يتلون) القرآن الكريم، ثم بوصف القرآن بـ (كتاب الله)، ثم بالإضافة (يتلون كتاب الله)، أي: يتلون هذا القرآن تلاوة -كما تقدم- مصحوبة بالعمل والتدبر والاتباع. أما القراءة المجردة عن هذه الأمور، فإنها لا تدخل في هذه الآية، وربما تكون وبالاً على صاحبها؛ كما جاء في الحديث الآخر عند مسلم: « وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»(31). يكون حجة لك إذا تلوته، وعملت بما فيه، وطبقت أحكامه، ووقفت عند حدوده، وما أحوج الإنسان لهذه الحجة يوم القيامة التي تدافع عنه، وهناك حجج مقبولة وقوية، ويظهرها الله -تعالى- يوم القيامة، وهناك حجج واهية وباطلة لا تنفع أصحابها يوم القيامة، كما قال -تعالى- عن الكفار: ﴿ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾(32). أما أصحاب الحق والإيمان، والعمل الصالح، وأهل القرآن فحجتهم ظاهرة وقوية ونافعة في الدنيا وفي الآخرة، فإن الذين يتلون كتاب الله مع العمل بما فيه، فإن ذلك يثمر المحافظة على الصلاة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ﴾(33). وأثمر الإنفاق في سبيل الله، والإنفاق على القربى، وعلى المساكين، وعلى الفقراء، وعلى المحتاجين من هذا الرزق الذي رزقه الله -تعالى- لهم، فأنفقوا منه ولو كان قليلاً، فلا يعنى أن الإنسان إذا كان تاجرًا ثريًّا أنفق، ولو كان فقيرًا لا ينفق. إذن، انظر إلى القرآن الكريم الذي هو أساس عقيدة المسلمين، ماذا أثمر؟! أثمر العبادة الصالحة، والعبادة ماذا أثمرت؟ أثمرت الأخلاق، وما هي الأخلاق؟ الأخلاق: التعاون والإنفاق والرحمة والإحسان... فالعقيدة الصحيحة المأخوذة من القرآن والسنة تثمر العبادة، وهذه العبادة هي: الصلاة والزكاة والصيام والحج... وهذه عبادات مفروضة، والعبادات المفروضة ماذا تثمر؟ تثمر الأخلاق وحسن التعامل، وانظر مثلاً إلى الصلاة في قول الله -تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾(34). فإذا كانت تنهى عن الفحشاء، فمعنى ذلك أنها تأمر بالخير، وهذا الأمر من الأخلاق. كذلك الزكاة: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بهَا﴾(35). فهذه هي الثمرة، والحج ماذا يثمر؟ ﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾(36). والصيام ماذا يثمر؟ يثمر التقوى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(37). وآخر آية ذكرت التقوى، فكأن الصيام محافظ لسياج التقوى في أول آية وآخر آية، قال -تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾(38). وفي الآية الأولى قال: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. فالصوم يثمر التقوى، والتقوى لها منافع متعددة على حياة العبد، قال -تعالى: ﴿ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً﴾(39). أي: في الخفاء وفي العلن، ومع ذلك يكرمهم الله -تعالى، ويزيدهم أجورًا على أجور، قال -تعالى: ﴿ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ﴾(40). أي: يزيدهم على ذلك، ويزيدهم من فضله، والذي يقول هذا الكلام هو الذي وعده حق وصدق: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾(41). ﴿ وَيزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾(42). غفور لسيئاتهم وذنوبهم، يشكر الله أعمالهم هذه، فهذه أعظم آية جاءت في ثواب أهل القرآن الكريم؛ ولهذا سماها بعض السلف: آية القُرَّاء. فهذه من الآيات الملَقَّبَات، كما جاء في آية الكرسي، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- سماها آية الكرسي، وسميت آية الدين آخر سورة البقرة وسميت آخر آية في سورة الإسراء: آية العز: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾(43). فسماها النبي -عليه الصلاة والسلام- كما عند ابن كثير(44) آية العز. ثم جاء الحديث الذي بعده، وهو رواية عن أم الدرداء، وأم الدرداء زوجة أبي الدرداء، وأبو الدرداء له زوجتان: صغرى وكبرى، الصغرى هي التي تذكر لنا هذا الأثر، قيل: إن اسمها هجيمة أو جهيمة. وكانت أم الدرداء من فضليات النساء وعقلائهن، وكانت ذات رأي وعبادة ونسك، تُوفِّيت في خلافة عثمان -رضي الله عنه، ولما تُوفِّي زوجها خطبها معاوية(45) -رضي الله عنه- فأبت وامتنعت، واحتجت عليه بحديث رواه الطبراني(46) بسند صحيح، وقالت له: المرأة بآخر زوجها لا أتزوجك. فاحتجت بهذا، وكانت فقيهة وعالمة، وقالت: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: « الْمَرْأَةُ لآخِرِ أَزْوَاجِهَا»(47). وقد أحببتُ أبا الدرداء؛ ولا أتزوج بعده. |
#15
|
||||
|
||||
وبعض النساء الآن إذا كانت محبة لزوجها فإنها لا تتزوج بعده، ولو مكثت سنين طويلة، هذا يكون من الوفاء، لكن ليس من السنة، فأم الدرداء هذه كانت عالمة وفاضلة، وذات عبادة ونسك وطاعة، وقد وثقها أهل العلم، وهي ثقة كما ذكر ذلك ابن حجر.
أما الكبرى فاسمها خِيرة أو خَيِّرة، لكن المقصودة في هذا الأثر هي أم الدرداء الصغرى، وقد سألت عائشة -رضي الله عنها- عمن دخل الجنة ممن قرأ القرآن، ما فضله ممن لم يقرأ؟ فقالت عائشة -رضي الله عنها: إن عدد درج الجنة بعدد آي القرآن، فمن دخل الجنة ممن قرأ فليس فوقه أحد. وعدد آيات القرآن ستة آلاف ومئة وستة عشر آية، كما يذكر العادون، لكن تتفاوت بين علماء العدد، والعلماء مختلفون في العدّ؛ فبعضهم يقول أقل، وبعضهم يقول أكثر، وهناك العد المكي، والعد المدني، والعد البصري، والعد الكوفي، كما هو مقرر في علم القراءات، فعلماء العدد يختلفون في عدد الآيات، لكن عائشة تقول: إن عدد درج الجنة بعدد آي القرآن. وفي حديث صحيح ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في الصحيحين، من حديث أبي سعيد الخدري(48) أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: « إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ؛ أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، مَا بَيْنَ كُلَِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»(49). وعائشة تقول هنا: بعدد آي القرآن الكريم، وليس في هذا تعارض، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح ذكر الدرجات العامة في الجنة، وما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، فالأمر واسع، فما بين الدرجتين رتب ومراتب يتفاوت الناس فيها، مثل أن يكون الإنسان عنده عمارة عشرة أدوار، وفي كل دور أجنحة وغرف، وأماكن متفاوتة، كما يحصل الآن في الفنادق، ففي الدور الواحد غرف متباينة، فهذه الغرفة أرقى من تلك، وهذا الجناح أرقى من ذلك الجناح... وهكذا، حتى السعر يتفاوت في التأجير في هذه الغرف، بحسب ما فيها من تسهيلات وراحة. فدرجات الجنة عظيمة، وعلمها عند الله؛ لأن هذه من غيب الآخرة، ومن أصول أهل السنة والجماعة الإيمان بهذه الأخبار التي ترد في أوصاف الجنة ونعيمها ودرجاتها، وهذه الدرجات قد ذكر الله -تعالى- أنه أعد فيها درجة عالية للمجاهدين في سبيله، كما قال -تعالى- في سورة النساء: ﴿ لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾(50). وقال -تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا﴾(51). فالدرجة معناها: المنزلة الرفيعة العالية؛ ولهذا جاء في الفرق ما بين الرجال والنساء، قال -تعالى: ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾(52). فالدرجة هذه التي تكون للرجال دون النساء، وذلك بما آتى الله -تعالى- الرجالَ من القوة والعقل والسياسة، ومعرفة تدبير الأحوال، وهي جزء من القوامة التي قال الله -تعالى- فيها: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ﴾(53). فهذه القوامة هي التي تفرق بين الرجل وبين المرأة. وقد فسر ابن عباس الدرجة هنا بتفسير لطيف، فقال: الدرجة: العفو، كيف تكون بمعنى العفو؟ قال: إن المرأة كثيرة الغلط والخطأ، والإنسان لا يؤاخذها دائمًا في كل ما تقول(54)، قال -تعالى: ﴿ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾(55). وقال: ﴿ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾(56). وقد أخذها ابن عباس من الآية بالدلالة التي فيها، فقال: الدرجة بمعنى العفو؛ لأن الرجل لا يؤاخذ المرأة، ولا يجعل عقله كعقلها في كل شيء، قد يوافقها في بعض الأمور، لكنه ليس في كل شيء، وهذه الدرجة هي العفو. فقد تخطئ المرأة في حق زوجها، وقد ترفع صوتها، أو قد يحصل منها كلمات نابية، أو سب.. أو غير ذلك، كما هو الواقع في بعض البيوت الآن، فالرجل لا يؤاخذها، والبعض -نسأل الله السلامة والعافية- يبادر بالطلاق فورًا، بعدما يسمع منها هذا الكلام، ويقول: أنا رجل وترفع عليَّ الصوت؟! فهذا نوع من التأمل في آيات القرآن، فتأخذ تفسير الآية من الآية، وكلمات قريبة تدل على المعنى فخذها منها، وهذا ما يسهل أصحاب الاستنباط وأصحاب التأمل في القرآن الكريم، كما كان ابن عباس، وابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، إذا فسر فتفسيره معول عليه، يقول مجاهد: وإذا جاءك التفسير عن ابن عباس فحسبك به(57). هذا إذا صح الأثر عن ابن عباس، وصحت الرواية عنه، فإذا صحت الرواية فحسبك بها، فإنها جاءت من حبر وعالم، ومفسر ضليع في التفسير، وهذا الأثر الذي جاء عن أم الدرداء رواه ابن مردويه(58) والبيهقي(59) والحاكم(60). إذن تبين لنا الفرق ما بين الدرجة التي ذكرتها عائشة، والتي جاءت في الحديث، فالدرجة ما بين الدرجتين في الجنة، وقد يكون هناك تفاوت في المراتب أيضًا في البقاء في هذه الدرجة في الجنة -نسأل الله أن نكون منهم، فكل درجة تأخذ مساحة كبيرة كما نشاهد، وما بين السماء والأرض -كما جاء في الحديث الآخر: مسيرة خمسمئة عام، وهذا فضل من الله يعطيه من يشاء من عباده، كما قال –تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾(61). أما الحديث الأخير، فرواه الدرامي(62) والحاكم وهو حديث عبد الله بن مسعود(63)، وهو أيضًا يحث على تعلم القرآن وتلاوته، والله -تعالى- قال لنبيه -عليه الصلاة والسلام: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾(64). وقال: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ﴾(65). وقال: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ﴾(66). وفي قوله -تعالى: ﴿ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾(67). فتلاوة القرآن هي تعلمه وقراءته، وتعلم القرآن لا تكون إلا من شيخ قارئ حاذق، حتى يقيم الحروف ويبينها ويوضحها، وتكون قراءة صحيحة سليمة لها معانٍٍ عظيمة؛ لأن القراءة المصحوبة بالتأمل والتدبر والضبط والإتقان لها أثر حقيقة على النفس، وعلى السامع، وعلى القارئ. وفي صحيح البخاري أن رجلاً قال لابن مسعود -رضي الله عنه: يا أبا عبد الرحمن، إني قرأت المفصل البارحة في ركعة. فأنكر عليه عبد الله ابن مسعود، وقال: أهَزٌّ كهز الشعر؟!(68) فكأنه أنكر عليه هذا، وكما تقدم: لا تهزوه هز الشعر. فالقراءة المتأنية المضبوطة في ألفاظها وحروفها تأثر حقيقة؛ ولهذا فالنبي -عليه الصلاة والسلام- هو أقرأ هذه الأمة، فكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يتأثرون بتلاوته، كان -عليه الصلاة والسلام- يصلي المغرب بسورة الطور، وقرأ: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾(69). فسمعها الجبير -كما في الصحيح- فأسلم(70)، من حسن الأداء التي كان يقرأ بها النبي -عليه الصلاة والسلام، فالأداء تام، والضبط متقن، فأثرت في نفس السامع، كما أثرت في القارئ، ونقلت هذا السامع من الكفر إلى الإسلام، كما في بعض الروايات أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما سمع أول سورة طه(71). والفضيل بن عياض(72) -كما يذكر ابن قدامة(73) في كتاب: (التوابين)(74)- كانت توبته عندما سمع آية فكان من قطاع الطريق، فتسلق ذات مرة جدار، وسمع قارئًا يقرأ: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾(75). فتاب من هذا العمل، وصار من أعلام الأمة، وأعلام الإسلام؛ لأن ذلك القارئ قرأها بنية خالصة، فأثرت في نفسه، وأثرت في غيره. |
العلامات المرجعية |
|
|