اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > قصر الثقافة > الأدب العربي

الأدب العربي قسم يختص بنشر ما يكتبه كبار الشعراء والأدباء قديمًا وحديثًا

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #61  
قديم 19-02-2014, 12:25 PM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
افتراضي


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة اية عبد اللطيف مشاهدة المشاركة
رووووووووعة
شكرا علي مروركم الكريم
__________________
Im faded
رد مع اقتباس
  #62  
قديم 19-02-2014, 12:26 PM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
افتراضي

طرائف من فكاهات الشعراء في آداب الغرب للكاتب ممدوح السكاف
هذه شذراتٌ ضاحكة ومواقف محرجة ومفارقات ساخرة، ابتسمت وأنا أقرؤها مُنجَّمةً هنا وهناك في كتب أو مجلات لأنها تدلُّ على ذكاء لمَّاح وسُرعة بديهة وجواب مفحم وإصابة للهدف فدوَّنتُها على وريقات مبعثرة مع مرور الزمن، وهي عبارة عن طرائف من السيرة الذاتية لشعراء الغرب المعروفين أو المشاهير، ثم جمعتُها في هذه الأعمدة لأقدمها إلى القارئ، لعلّه -بمطالعتها- يخفف عن نفسه همَّاً نزل به وما أكثر هموم الناس، أو ضيقاً أحسَّ به وما أمرَّ ما يُقاسيه الإنسان من الضيق، ومن جانب آخر، وفي الوقت ذاته، يطّلع على الروح المرحة الفكاهية في الآداب الأوروبية وطريقة تفكيرها وتعبيرها وتأملها وفلسفتها في فن الحياة، أو فن الضحك من الحياة وعليها ومعها.‏
***‏
-1-‏
في تشرين الأول من عام 1940 بلغ النشاط الجوي لسلاح الطيران الألماني في أقصى مداه فوق الجزر البريطانية، وحدث أن كانت سيدة عجوز تتسلّى بشغل الإبرة في حدائق (نيوبليس) بمدينة (ستراتفورد) المدفون فيها جثمان الشاعر والمسرحي الكبير (شكسبير) في أثناء مرور أسراب الطائرات الألمانية المغيرة فوقها، فقالت لها فتاة كانت تمرُّ بالقرب منها:‏
-ألا تخشين يا سيدتي من إلقاء القنابل على (ستراتفورد).. هلمّي إلى الملجأ.‏
فأجابت العجوز بمنتهى الهدوء والرصانة واليقين:‏
-كلا.. لأن هتلر لن يقدم على ضرب هذه البلدة بالقنابل فهو شديد التطيُّر ويخاف أن تحل عليه اللعنة.‏
فسألتها الفتاة مستغربة: -أية لعنة تقصدينها..؟!‏
فأجابت العجوز: -ألا تذكرين بيت الشعر المحفور على قبر شكسبير: "لتحلَّ البركة على من لايمسّ هذه الأحجار بسوء، ولتقع اللعنة على من يحرّك عظامي" فلو ألقيت قنابل على (ستراتفورد) فربما تحرّكت عظام الشاعر في قبرها ووقعت اللعنة على هتلر.‏
ويبدو أن هتلر كان على بينة من معنى الشعر المحفور على قبر شكسبير فكانت (ستراتفورد) من المدن القلائل التي نجت من غارات سلاحه الجوي.‏
-2-‏
ومادمنا في صدد شكسبير فلنتابع الحديث إذن عنه، فقد كتب (جورج مور) الروائي الانكليزي الذائع الصيت والمعروف بتعليقاته الأدبية موضوعاً طريفاً لايخلو من الدهشة والإثارة تحدث فيها عن شهرة شكسبير التي طبقت الآفاق وجعلت منه شبه أسطورة عالمية في الذيوع والانتشار، فقاله فيه: -"في الحق أقول لكم، لقد سئم الناس وملُّوا من تكرار اسم هذا الشاعر على مسامعهم صباح مساء وبمناسبة ودون مناسبة فكم من دراسات ومقالات وتعليقات وتحقيقات وأخبار وأسرار تظهر عنه في الصحف والمجلات ولابد أن يظهر كذلك بين وقت وآخر رجلٌ من الشُّراح يزعم أنه اكتشف جديداً في شكسبير، فقد بلغ ماكتب عن أنواع القبعات وأشكالها وألوانها في مسرحيات شكسبير (45) مجلداً وعن نعال أبطاله (20) كتاباً وعن الأزهار التي ذكرها في مسرحياته (15) كتاباً، إن شكسبير نفسه لو بُعث من قبره ورأى بعينيه ما سُطّر عنه من الهراء لمات عشرين ألف ميتة كيلا يراه أو يتحدث عنه إنسان.‏
-3-‏
ولابدّ لنا قبل أن نغادر الشاعر العبقري شكسبير إلى غيره من ذكر هذه الطرفة عنه، إذ كثيراً مايتورط الأدباء الكبار في هفوات فنية وتاريخية عجيبة، ومن أشهر مثل هذه الهفوات التي وقع فيها شكسبير في مسرحيته (الملك جون) حين وصف قصف المدافع، بينما المدفع لم يخترع إلا بعد مائة وخمسين عاماً من وفاة هذا الملك.‏
وطرفة أخرى تدور حول شكسبير ولا علاقة له هو بها، فقد دعا أحد الانكليز صديقه الأمريكي لمشاهدة مسرحية (هاملت) على أحد مسارح لندن وبعد انتهاء الحفلة سأل الانكليزي صديقه:‏
-هل أعجبتك (هاملت)؟‏
فأجابه الأمريكي من غير مبالاة:‏
-لا بأس بها، ولكن يظهر أن مسرحكم الانكليزي متأخر جداً، فلقد شاهدتُ هذه المسرحية في نيويورك منذ عشر سنوات.‏
-4-‏
أما الشاعر الانكليزي الأعمى (ملتون) صاحب ملحمة (الفردوس المفقود) فقد كان مقترناً شريرة سليطة اللسان، وقد ورد ذكرها في حديث بين الشاعر و (دوق بكنغهام) وكان الدوق من الكياسة بحيث شبهها بالوردة فقال الشاعر:‏
-إنني لا أرى وجهاً للشبه من حيث اللون فأنا ضرير، أما من حيث الشوك فأعترف أن التشبيه صحيح لا مبالغة فيه.‏
ولقد سُئل الشاعر (ملتون) مرة: -لماذا يسمحون لولي العهد بأن يتولى الملك في الرابعة عشرة من عمره ولايسمحون له بالزواج قبل بلوغه الثامنة عشرة.‏
فأجاب ملتون على الفور: -لأن سياسة الدولة أسلس قياداً من سياسة الزوجة.‏
-5-‏
ومن (شكسبير) و (ملتون) إلى (برناردشو) أحد فلاسفة هذا العصر أو القرن العشرين وأدبائه الكبار، فمما يُروى عنه قوله إن البشر حين يحبون يسلكون سلوك الحمير.. ومرة قالت له الراقصة (ابزادورا دولكال) إنها أجمل النساء وهو أذكى الرجال وأنها لو أنجبت منه طفلاً لجمع بين جمالها وذكائه، فرفض برناردشو العرض وقال إنه يخشى أن يخرج الولد وقد جمع عقلها هي إلى جسمه هو، ومعروف أنه كان مديد القامة نحيلاً أشهب، أشهل، ذا لحية صهباء، وكان برناردشو يقول: يتحتم علينا أحياناً أن نتحدث إلى المرأة حسب درجة أنوثتها، تماماً كما ينبغي أن نتحدث إلى المجنون حسب درجة جنونه، وكان يردّد: إن الحب الأمثل هو الذي يجري عن طريق البريد، وكثيراً ماكان يقول: لايستطيع الأديب أن يخدم سيدين معاً: الفن والزوجة.. ولكنه عندما بلغ الأربعين تزوّج من فتاة ثرية هي (شارلوت بيه تونسهد) وقد كانت في منتهى الجمال وقد حضر معه إلى الكنيسة لإتمام مراسم الزواج صديقه (غراهام وولاس) المفكر المشهور وكان يمتاز بقوام وصحة وإشراق ويتزين بوردة على صدره فلما رآه القس، حسبه العريس، ونحّى برناردشو عن كرسي الزفاف، مستهيناً به لهزاله وضعفه، ثم اعتذر له عندما عرف الحقيقة وأتمَّ عقد القران.‏
وكان برناردشو يقول: أفضل بهجة أعرفها عندما أرى أحد الناس يقرأ أو يحمل كتاباً من مؤلفاتي.‏
__________________
Im faded
رد مع اقتباس
  #63  
قديم 19-02-2014, 12:27 PM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
افتراضي

-6-‏
بعد هذه الجولة الخاطفة مع طرائف الشعراء الانكليز، ننتقل في سياحة شعرية مع الشعراء الفرنسيين الانتقاديين المرحين مرحاً أسود، إذ يُقال إن الشاعر (شارل بودلير) وصف مرة الحياة مع المرض فهتف: الحياة مستشفى.. كل مريض فيها يبحث عن سرير جديد في غرفة أخرى، لأنه يعتقد بأنه إذا انتقل إلى فراش غير الفراش الذي ينام عليه فسوف تفارقه علّته، حتى إذا أحسَّ بأن موعد تركه المستشفى قد اقترب تمنّى لو أنه بقي فيها.‏
وكانت معشوقته الخلاسية_(جان دوفال) مُرَائية، كاذبة، فاسقة، مبذّرة، سِكّيرة، ناهيك عن جهلها وحمقها وقد كان هو معجباً بغبائها، لذلك تراه يوحي الأدباء الشباب بحب النساء الغبيات كما محبوبته فيكتب: "من الناس مَنْ يحمّر خجلاً من حبه امرأة يوم يدرك أنها حمقاء.. إن هؤلاء لحمير أغرار خُلقوا ليرعوا أقذر أشواك الخليقة، فالغباوة هي غالباً زينة الجمال وهي التي تُضفي على العيون ذلك الصفاء الكئيب البادي في المستنقعات السوداء، وذلك الهدوء الزَّيتيّ في البحار الاستوائية.. إن الغباوة تصون الجمال.. دوماً.. وتُبعد عنه الغضون... إنها دهن إلهيّ يقي معبوداتنا من النَّهش الذي يلحقه التفكير بنا نحن العلماء والمساكين" وكان يقول: "حبّ النساء الذكيّات هو متعة اللّواطي".‏
-7-‏
أما (أبولينير) الفرنسي أيضاً والرمزي كبودلير فله رأي فَكِهٌ في الحياة ومُتفائل إذ يقول في قصيدة له ماترجمته "أتمنى في البيت امرأة بكامل عقلها وقطة تمرّ بين الكتب وأصدقاء في كل فصل، بدونهم جميعاً لا أستطيع الحياة" وسُئِلت -على سيرة العقل- (مدام دوستال) الشاعرة والكاتبة الفرنسية ذات يوم: "ما السبب في أن الجميلات بين النساء أكثر حظوة لدى الرجال من ذوات العقول الرَّاجحة؟.." فأجابت:‏
-السبب بسيط وهو أن القليلين هم العميان ولكنّ الأغبياء كثيرون لا يُحصر عددهم، وقد قارنت في إحدى فكاهاتها بين الفرنسي والألماني فقالت: "إنّ الفرنسي يعرف كيف يتكّلم ولو لم تكن لديه أدنى فكرة من الأفكار، بينما الألماني، على العكس من ذلك: في ذهنه شيء أكثر مما لايستطيع التعبير عنه".‏
ومن أشهر أقوالها: "إن صوت الضمير من الرقة وسرعة العطب بحيث يسهل خنقه ولكنه من الصفاء بحيث يستحيل إنكاره".‏
أما مُواطن بودلير وأبولينير ومدام دوستال الشاعر والكاتب (مارسيل إيميه) فكان يقول: "أنا أفضّل موسيقا تشايكوفسكي على كل ماعداها: فهي صاخبة بحيث أن المرء يمكنه أن يثرثر طوال الوقت دون أن يُزعج جيرانه".‏
ويُقال إن بعضهم أورد ملاحظة أمام (إيميه) حول مستشفيات الأمراض العقلية وأنها تضمّ من الرجال أكثر مما تضمّ من النساء بنسبة 35%، فردّ معلقاً:‏
-طبعاً.. ولكنْ مَنْ أوصل الرجال إلى تلك الأماكن..؟!‏
ويُقال إنه حين بلغ الشاعر (رامبو) سيّد الرمزيين في العالم وأميرهم عامه الرابع، روى بريشون عنه نادرة طفولية، إذ بعد ولادة أخته "فيتالي" أخذه صاحبُ مكتبة، جارٌ لأسرته، ليريه بعض صور المجلات ثم سأله: - ما الذي أعجبك أكثر من غيره..؟!‏
وحين بيّن له رامبو ما الذي راق له منها سأله مُدَاعباً:‏
-هل تودّ شراء بعض هذه الصور.‏
-لا نقود لديّ.‏
-آه... لاتملك أية نقود..!!‏
-لا.. ولكن أستطيع الدفع بإعطاء أُختي الصغيرة...‏
-8-‏
ونظلُّ في فرنسة مع الشاعر (بييرموتان) الذي كتب هذه الأبيات: "من الآن فصاعداً لن يكون للعاقلة ولا للحمقاء أي نصيب في قلبي فالأولى منهما لاترفع ثوبها إلا بعد فوات الأوان والثانية ترفعه باكراً جداً".‏
ولقد جرى الحوار التالي بين الشاعر الفرنسي (دوفرفيل) وبين صديق له، قال الصديق: -في الحبّ.. مَنْ يحصل على لذة وخير أكثر.. الرجل أم المرأة..؟!‏
فأجاب الشاعر: -لو أنّ أُذنك سبّبت لك الحكّ وحككتَها بخنصرك، فمن منهما يحصل على لذة وخير أكثر... أليست هي الأُذن؟!‏
ويُقال إن المركيزة (ماري فرنسوا كاترين 1711-1787) الملقبة بسيّدة الشهوة قد نظمت الأبيات التالية لتنقش على ضريحها: "هنا ترقد بسلام آمن تلك المرأة الملقبة ب "سيدة الشهوة" التي أوجدتْ فردوس لذائذها في هذا العالم على سبيل الاحتياط".‏
-9-‏
ومن الشعر الفرنسي نعرّج في طريقنا على الشعر الألماني وشعرائه، فلقد كان الفيلسوف والشاعر شيلر يرمز في قصائده فكتب مرّة يقول: "الكلب المدلّل مهما أنَامَتْه صاحبته في حضنها الوثير الدافئ ومهما أطعمته المآكل الفاخرة، ومهما عطّرته بالند والمسك، فإنه عندما يرى باب الدار مفتوحاً أمامه يجري سريعاً إلى تنكة الزبالة يفتش فيها عن نفاياتها، يأكلها أيضاً بنهم.. فالكلب كلب... ولو طوّقته بالذهب".‏
-10-‏
ونُنهي هذه الجولة مع طرافة أو طرفة حصلت للشاعرة السوفييتية (آنا أخماتوفا) التي تعرّضت في حياتها إلى ألوان من الشقاء لا يُوازيه إلا المجد الذي نالته، فعندما كانت في الخامسة والثلاثين من عمرها، وفي قاع العوز والحصار مَرَّتْ بجانبها في الشارع امرأة عجوز فحسبتها من رثاثة ثيابها وبؤس منظرها أنها متسولة فقدّمت لها صدقةً، قطعة نقدية ظلّت هذه الشاعرة تحتفظ بها للذكرى ويُقال أيضاً أن (ديوستوفسكي) كان يحتفظ بقطعة كوبيك تحسَّنت عليه بها امرأة في الطريق بعد أن قالت لها ابنتُها قدِّمي كوبيك لهذا التّعس، أما الشاعر التشيلي بابلونيرودا فيروي هذه الطرفة عن صديق له شاعر اسمه (ميغيل ايرنانديث) من أبدع شعراء إسبانيا وكان فقيراً معدماً بسيطاً، حتى أنه كان ينتعل نعلاً مصنوعاً من خيوط القنّب، وقد توسّط له بابلو أن يُعيّن في منصب بوزارة الخارجية في بلده واستُشير في نوعية الوظيفة الرفيعة التي يود أن يتقلّدها، ولما سُئِل عنها مرَّت الساعات ولم يجب، وبعدئذ قال لبابلو وعيناه تومضان كمن وجد حلاً لمشاكل حياته:‏
-ألا يستطيع صديقك الذي سيُعيّنني في وزارة الخارجية أن يجد لي قطيعاً من الغنم أرعاه هنا قرب مدريد؟!‏
__________________
Im faded
رد مع اقتباس
  #64  
قديم 22-02-2014, 09:09 AM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
افتراضي

البارودى
له امتداد في ذاكرة المجتمع والبلد امتداداً قلّ نظيره، فحنت الدنيا عليه تبادله الحب بالحب والوفاء بالوفاء مرددة في كل حين أشعاره على شجن النواعير ونسيمات العاصي. لنتعرف أكثر على عوالم حياة الدكتور "وجيه" التقى موقع ايسيريا الستا المحامي معتز البرازي الذي حدّثنا من خلال أبحاثه قائلاً:

«إن عالم الطبيب المرحوم "وجيه البارودي" عالم رحب وواسع وشامل وهو الحكيم الإنسان، والشاعر الفنان والناقد الواعي والجريء المقدام والعاشق العُمري وشاهد القرن العشرين من عقده الأول إلى عقده الأخير».

وعن نشأة الدكتور "وجيه" وبداياته في مدينته "حماة" قال: «ولد "البارودي" في "حماة" أوائل آذار عام 1906، وأمضى دراسته الأولى في الكتاتيب ومدرسة "ترقّي الوطن" في "حماة" ثم كانت الحرب العالمية الأولى التي أوقفت كل شيء، ومع نهايتها تمّ إرساله إلى "لبنان" ليتابع دراسته في "الكلية السورية الإنجيلية" في بيروت (الجامعة الأميركية اليوم) عام 1918. وأمضى الطالب "وجيه" هناك أربعة عشر عاماً شملت الدراسة الابتدائية والثانوية والجامعية وتخرّج طبيباً عام 1932».

وعن تعامل الدكتور "وجيه" بعد عودته من لبنان مع مجتمعه أجاب: «عاد مباشرة إلى "حماة" وفتح عيادته الطبيّة في نفس العام وبقي يعمل ليلاً نهاراً. في البداية اقتنى درّاجة عاديّة وتعاقد مع بعض الأسر في "حماة" لمعالجتهم دون في النظر إلى عدد أفرادها لقاء أجر سنوي يتقاضاه في آخر العام، مثله مثل الحلاقين الذين كانوا يتبعون نفس الأسلوب في تعاملهم مع الناس. فقد كان يتم استدعاؤه للكشف على المرضى ووصف الدواء وزرق الإبر وتوليد النساء وإجراء الإسعافات الأولية. تطورت الأمور معه فاقتنى دراجة نارية وبقيت لديه حتى أواخر الأربعينيات من القرن المنصرم حيث استطاع اقتناء سيارة خاصة به. وأول إشكال حدث بينه وبين مجتمعه عندما رفع الطربوش الذي كان وضعه على الرأس عرفاً إلزامياً في المجتمع الحموي، حيث خرج الدكتور "وجيه" عن هذا العرف وخلع الطربوش ووضع بدلاً عنه "البرنيطة" ليُجابه بنقد جارح من قبل المجتمع الذي لم يعرف حتى الآن إنساناً تعامل مع مجتمعه في شتى المناسبات والأحوال مثل الدكتور "وجيه البارودي" فمن قمة المديح إلى ذروة الهجاء فقد أراد أن يجرب حظه في السياسة بناءً على اعتماده أن شعب "حماة" الذي مدّ له يد المساعدة طبيّاً وأدبياً ومعنوياً ومادياً سيقف معه في ترشيحه للمجلس النيابي عام 1949 فلم ينجح، فقال:

«يعزُّ عليّ هجوك يا حماة/ ولكن الصفات هي الصفات

سلي ينبئك هذا الليل عني/ وساعات النهار المحرقات

وأطفال بعثت بها حياة/ سيلحقها الجميل الأمهات

وكان بين "وجيه" و"حماة" مساجلات ومناقرات ومهاترات لكنه في الوقت ذاته لم يبخل في مديحها، وعلى الرغم مما لاقاه منها ومن شعبها تبقى بلده ومسقط رأسه ويبقى العاشق لها ومرتع طفولته، فقال في ذلك:

وفي حماة مقيم لا أغادرها/ شاطئ البحر عندي ضفة النهر

فيها النواعير والعاصي و/ شاعرها ثلاثة ميّزتنا حكمة القدر

والمعروف عن الدكتور "وجيه" جمال طرائفه فذكر لنا الأستاذ "معتز" بعضها قائلاً: «قال الدكتور "وجيه" واصفاً نفسه (أنا أقدم طبيب في "حماة"، وأقدم سائق في حماة، وأقدم شاعر، وأتعس عاشق). كذلك كان له طرفة حين أتى إليه ابن عمه يطلب منه بعض أبيات الشعر في رثاء عمه المتوفى فطلب الدكتور "وجيه" مهلة ليكتب له الرثاء، ولكنه لم ينفذ ذلك لا في اليوم الأول ولا الثاني وفي اليوم الثالث ونتيجة إلحاح ابن عمه كتب له هذه الأبيات قائلاً:

تُكلفني حزناً ونفسي طروبة/ وروحي تأباه وأنت تريد

وهل يألف الأحزان من كان/ عاشقاً تجود له أحبابه ويجود

فلا ترجو مني وصف حزن ٍ لأنني/ طروب والعهد بالبكاء بعيد





ومن طرائفه أيضاً التي تأخذ طابع الحكمة الطبية قوله (من يأكل تازا ما بيتأذا). (نظّم الواصل، وفرّغ الحواصل، تبرى المفاصل). وطرفة أخرى تدلل على مدى استخدامه للعلاج النفسي في مداواة مرضاه (حيث طُلب إلى منزل امرأة على وشك الولادة ولكنها متعثرة، شاهدها الدكتور "وجيه" فطلب مباشرة من الأهل طبلة (دربكة) وبدأ بالنقر عليها والرقص مع الصبايا مما أدى إلى غرق المرأة الولادة بالضحك وأنجبت مع صديقه الباحث وليد قنباز مولودها دون أن تشعر بذلك، ولدى سؤال الدكتور "وجيه" عن سبب فعلته هذه أجاب: إن المرأة خائفة ومتشنجة وهذه الحالة لا يفكها إلا الضحك أو الفزع، لم أستطع على الثانية فقمت بالأولى). كانت طرائفه كثيرة ككثرة الناس التي عالجها وتعامل معها».

وعن شعر الغزل الذي طغى في أشعار الدكتور "وجيه" حدثنا الأستاذ قائلاً: «يتميز شعر "وجيه" أغلبه بالغزل، فقد كان شاعراً هاوٍ لا محترف، لديه أربعة دواوين تحتوي الكثير من قصائد الغزل وله قصيدة مشهورة بعنوان "الصب الزائر" يقول فيها:

أرى قدميّ نحوك تحملاني/ بروحي لا بعقلي تمشيان

ولو أني ملكت زمام نفسي/ أهبت فلم أبرح مكاني

فقد كان معجباً بالمطربة "ميادة الحناوي" ويحمل صورتها معه يريها لزواره ومرضاه معبراً عن حبه لها، وكان يرفض معاينة كل من يقول له (أنا لا أحبها) فكتب قائلاً:

ميادة للقلب ينفذ صوتها/ فالسامعون متيمون سكارى

ميادة أعجوبة الدنيا سأفتنها/ وأرسم مجدها أشعارا

وكان معجباً أيضاً بغزل الشاعر "نزار قباني" ولكن كان له مأخذ عليه بأنه شاعر الحب فقط، أما الدكتور "وجيه" فهو شاعر العشق وفي ذلك كتب يقول:

ونزار يهوى لا حدود لحبه/ ملك له كل الملاح جواري

لا يعرف العشق الذي أنا غارق/ في بحره فنجا من الأخطارِ

العشق غير الحب موهبة لها/ رهبانها والحب للأغرارِ

وبعيداً عن الغزل كان الدكتور "وجيه" يحلو له سماع قصائد بعض الشعراء منهم الشاعر "المتنبي" وكذلك الشاعر "عمر أبو ريشة"

وعن المراحل الأخيرة التي عاشها الدكتور "وجيه" قبل وفاته حدثنا يقول: «في مراحله الأخيرة حيث اقترب من التسعين فترهّل الجسد وأزفت النهاية، وبعد أن تهتكت شبكية عينيه وازداد ضعف سمعه وأضحى عزمه ضعيفاً أنشد يقول:

أمشي إلى غايتي في منتهى التعب/ كأن ساقيّ قضباناً من الحطب

فإن أكلت فأكلي جدُّ مختصر / من الخضار وحبات من العنب

وقد فارق الشاعر "وجيه البارودي" الحياة في الساعة الثانية من صباح يوم الأحد 1131996 ولسان حاله يردد:

أصلي لا أمل وفي صلاتي/ دعاءٌ يمحق الذنب الرديّا

ولا موت أخاف لأن ربي/ سيلقاني بجنّته حفيّا

وهكذا مضى سيد العشاق وسيد الأطباء وسيد المصلحين الدكتور "وجيه البارودي" بعد أن ملأ دنيانا بالرحيق والعبق الذكي.

سيبقى صوته الرنان يدوي في كل مكان وزمان معلناً خلوده الأبدي السرمدي من خلال منجزات نضاله الاجتماعي وشعره العذب الندي الذي ما ذكرت هو نقطة من بحره، إضافة إلى طبّه المتفوق السامي وخبرته العميقة الطويلة وحبه العجيب النادر مرددين في نهاية المطاف ما قاله في هذين البيتين:

أنا حيٌّ بمنجزات نضالي/ وبشعري الذي يظل طريّا

وبطبي وخبرتي وحبي/ سوف أبقى مخلّداً أبديّا».

-----------------------------------------
__________________
Im faded
رد مع اقتباس
  #65  
قديم 27-02-2014, 07:25 PM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
افتراضي

طبعا عارفين طه حسين

عمد الادب العربي

طبعا اللي مالف قصة الايام




الآن أمام بعض الطرائف والغرائب الأدبية التي لم أتوقف أمامها في قراءتي القديمة لهذا الكتاب قبل 48 عاما.
هل يصدق أحد أن طه حسين رسب في أحد الامتحانات؟ هذا ما يعترف به طه حسين لفؤاد دوارة بسهولة ويسر. قال له:
- وأظنك تعلم أني حاولت آخر الأمر أن أتقدم لامتحان العالمية في الأزهر، فلم أنجح، ويشهد الله أن لجنة الامتحان حالت بيني وبين النجاح ظلما، لأن شيخ الأزهر اذ ذاك - الشيخ سليم البشري - طلب الى اللجنة أن تسقطني في الامتحان كما كان يقال. ومصدر ذلك أن هجوته بشعر نشر في بعض الصحف. ولم أحزن على هذا الرسوب، بل أكاد أقول اني فرحت به لأنني اتجهت بعده الى الدراسة الجامعية، وكانت في ذلك الوقت قد نظمت وأنشئت فيها شهادة الدكتوراه، فحرصت على أن أكون أول دكتور يخرج منها، وأتاح الله لي ذلك، وكان نجاحي في الجامعة سببا لسفري الى أوروبا.
ما قاله طه حسين يؤكد أن النفوس هي النفوس في كل زمان ومكان. يعترف أنه هجا الشيخ البشري. فطلب أن يسقط في الامتحان. ومادام هذا الكلام قد نشر منذ سنوات بعيدة ولم يتعرض للنفي أو الايضاح أو الشرح. فمعنى هذا أنه صحيح.
أما عن سبب اطلاق لقب عميد الأدب عليه والمناسبة. قال عنها طه حسين:
- أطلق عليَّ هذا اللقب شعبيا عندما أبعدني صدقي باشا عن الجامعة سنة 1932، وكنت عميدا لكلية الآداب، فلقبتني صحف المعارضة بعميد الأدب العربي وليس عميد كلية الآداب وحدها.
نصل لحواره مع توفيق الحكيم. يقول فؤاد دوارة في مدخله:
- منذ زمن بعيد وهو يستأثر بأكبر قدر من اهتمام الكتاب والقراء على السواء، فأحاطت به هالات من الاثارة والغموض لا ندري مدى نصيبه في صنعها. فهو مرة عدو المرأة، ومرة حبيس «البرج العاجي»، وثالثة «راهب الفكر»، ورابعة «صديق العصا والحمارة»... يتهمونه حينا بالبخل والشح، ويروون عنه نوادر تفوق حكايات «أشعب»، ويصورونه حينا آخر سارحا شاردا لا يكاد يعي شيئا مما يدور حوله.
على أن ذلك كله اذا كان موضع جدل وخلاف... فالاتفاق منعقد حول دوره الخطير في أدبنا، والميادين العديدة التي ارتادت في مجالات المسرحية والقصة والمقال. تشهد كلها بمدى أصالته وبفضله العميم على من جاء بعده من الأدباء.
ويبدو وهذا كلامي أنا وليس كلام فؤاد دوارة أن الحكيم لعب دورا في اطلاق هذه الصفات عليه. لأنه كان يحب أن يشغل الدنيا والناس. سواء بكتاباته أو نوادره. وكان يقوم بذلك بقدر كبير من الدهاء. قل أن نجد مثيلا له الآن.
لكن أخطر ما في هذا الكتاب. الفقرة التالية التي كتبها فؤاد دوارة وهو في الطريق الى توفيق الحكيم ليجري معه حوارا: - وما من مرة جلست اليه - وقد جلست اليه كثيرا خلال العامين الماضيين - وسمعت أحاديثه العميقة المتحمسة في كل مجالات الفن والفكر، الا وتذكرت شكوى الأديب الروسي «تشيخوف» من أنه ليس هناك كاتب اختزال متفرغ يقيم بصفة دائمة بجوار «تولستوي» ليسجل كل ما يتفوه به الحكيم الشيخ من أفكار رائعة على غير انتظار. وقد حاول «تشيخوف» أن يقنع الأديب الشاب «سولرز - هيتسكي» بالقيام بهذه المهمة لأن «تولستوي» كان مغرما به وكثيرا ما حدثه بأحاديث مهمة.
ولكم تمنيت لو وجد الأديب الذي يستطيع أن يقوم بهذه المهمة مع توفيق الحكيم، ليخرج علينا بعد ذلك بصورة رائعة صادقة لأحاديثه الحارة المتدفقة... تكمل الصورة التي صنعها لنفسه بكتاباته العديدة، وتصحيح الصورة الأخرى المهزوزة التي رسمتها الصحافة له. وان كنت أدرك مع ذلك أن تحقيق هذه المهمة ليس بالأمر اليسير، فتوفيق الحكيم لا يألف الناس بسهولة، ولا يثق بهم الا بعد اختبارات دقيقة شاقة تستغرق زمنا طويلا... وهو لا يمكن أن ينطلق في التعبير عن أفكاره على سجيته الا اذا ألف من يتحدث اليه ووثق به، وحتى بعد ذلك لابد أن يطمئن الى أن ما يقوله لن يسجل ولن ينقل عنه.
__________________
Im faded
رد مع اقتباس
  #66  
قديم 27-02-2014, 07:26 PM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
افتراضي

حكاية من حياته

- طه حسين مؤلف أغاني عاطفية!

- صوت زوجته أوقعه في غرامها ولم يرض عنها بديلاً

- هاجم المنفلوطي لرغبته في الشهرة!

يحكي كتاب “مشاهير وظرفاء القرن العشرين: حكايات نوادر وطرائف” لمؤلفه هاني الخير عن طرائف في حياة طه حسين، ويقول الكتاب يلاحظ في شخصية الدكتور طه حسين إنها شخصية صدامية من الطراز الأول وهي تثير الجدل فقد اصطدم في بداية حياته العلمية ومنذ فجر شبابه بشيوخ وأستذة الأزهر وانتهى به الأمر إلى أن يخرج من الأزهر مطروداً ولعنات أساتذته تسبقه.



ثم اصطدم مع مجلس النواب المصري وذلك بعد صدور كتابه الشهير “الشعر الجاهلي” ثم اصطدم مع الرأي العام العربي والمصري، واندلعت المظاهرات ضده في عديد من العواصم العربية. وبعد ذلك اصطدم مع الملك فاروق ورئيس الوزراء إسماعيل صدقي، لأنه رفض أن يمنح أحد “الباشوات” شهادة الدكتوراة الفخرية، وذلك لأن طه حسين اكتشف أن الباشا يتصف بالغباء والجهل وضيق الأفق، ولم يقدم للحياة الإنسانية ما يستحق الذكر سوى رشوة الملك فاروق.



والكتاب يقدم حكايات ولقطات طريفة مستمدة من صميم حياة الدكتور طه، وربما تكون مجهولة لدى كثير من القراء.



مؤلف أغان



من المفارقات الغريبة أن يكتشف الموسيقيون أن الشيخ طه حسين قد ألف عدة أغان، وأن غوصه في بحار الفقه والتفسير والحديث والنحو والصرف في الأزهر الشريف لم يمنعه أن يمد عالم الطرب والأغاني كما مد عالم الأدب بالشعر.



فبينما كانت لجنة الموسيقى في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية تبحث في موضوع إحياء ذكرى “كامل الخلعي” و”سيد درويش” و”داود حسني” ونشر تراثهم، إذ بالأستاذ أحمد بسيوني زوج كريمة كامل الخلعي يقدم مجموعة الأغاني التي يحتفظ بها عمه وهي عبارة عن 40 رواية بين أوبرا وأوبريت قدمتها فرقة منيرة المهدية وزكي عكاشة، و500 قطعة غنائية ونشيد لحنها الفقيد، وكانت مفاجأة مذهلة أن رأوا وهم يفحصون الأغاني اسم طه حسين على إحدى الأغنيات المكتوبة بخط الموسيقار الخلعي، وقد كتب عليها من تأليف الشيخ طه حسين وهذه هي:



أنا لولاك كنت ملاك غير مسموح أهوى سواك/ سامحني في العشاق انا مشتاق/ ابكي وأنوح بالأشواق”.



وقد أجمع أعضاء اللجنة وبينهم مأمون الشناوي مؤلف الأغاني المعروف وكلهم من كبار الموسيقيين على أنها من أرق الأغاني التي ظهرت في الخمسين سنة الأخيرة وقد سجلتها شركة “الفونوغراف” بعد أن لحنها كامل الخلعي.



نقده للمنفلوطي



تصدى طه حسين وكان ما يزال طالبا في الأزهر للأديب الشهير مصطفى المنفلوطي صاحب كتاب “النظرات” تصدى له ينقده نقداً جارحاً فكتب في جريدة “العلم” عدة مقالات كان لها صداها العميق في المجتمعات الأدبية ويخاطب طه حسين المنفلوطي قائلاً: “أيها الكاتب المجيد..أسعد الله صباحك وأحسن مفادك ومراحك..وقوم المزور من شأنك والمعوج من لسانك وألهمك الصواب في الإعراب والإحسان في البيان، فما أعلمك في كل ذلك إلا دعيّا بحثت عن معناك فلم أجد إلا غثاً، وعن لفظك فلم أجده إلا رثاً، وعن أسلوبك فلم ألفه إلا مبتذلاً، وعن مقرظيك فإذا هم بين ظالم ومظوم، ولائم وملوم فسألت الله أن يثأر منك العرب”.



وقد سأله صحفي بعد أربعين سنة من تلك الحملة، عن سر الحملة على المنفلوطي فأجابه وهو يبتسم: كنت شاباً يريد الشهرة على حساب كاتب كبير معروف، قال له الصحفي لقد أفرطت وتطرفت في النقد، فقال له مقاطعاً: تعني طول اللسان إن سببه في رأيي هو *** مزاجي ولعل هذا السبب ولا سبب غيره!.



أعجبني صوتها فطلبت منها الزواج



يقول الدكتور محمد الدسوقي السكرتير الشخصي لعميد الأدب العربي:



“...ونحن نقرأ الصحف ورد خبر عن الزواج ومشكلاته في بعض دول العالم، فقال العميد بعد قراءته: كان مذهبي هو مذهب المعري في العزوف عن الزواج ، لأني أحببته وكتبت عنه رسالتي للدكتوراة، قلتُ: يبدو أن زوجتكم كانت السبب في تخليكم عن مذهب أبي العلاء، قال إن زوجتي كانت تقرأ لي في الجامعة بأجر، فأعجبني صوتها وطريقة حديثها، فأحببتها وغلب حبها على مذهب المعري، فطلبت منها الزواج فاستشارت بعض أهلها، فأشاروا عليها بعدم الزواج مني، لأني أجنبي وكفيف ولكنها لم تأخذ بمشورتهم. فقلت: لو كان قدر لكم الزواج من امرأة أخرى، فهل كان سيؤثر ذلك عليكم؟ قال: بالطبع لقد قرأت لي زوجتي سوزان الأدب الكلاسيكي الفرنسي وعاونتني في دراسة اللغة اللاتينية، وفتحت أمامي آفاقاً فكرية أثرت في ثقافتي وأدبي تأثيراً واضحاً.



شاهد العالم ببصيرته المعجزة



تقول السيدة أمينة كريمة طه حسين:

“..كان يتمتع بقدرات خارقة لا يصل إليها إنسان. أذكر في يوم من الأيام أن كنا نجلس حول راديو وكنا نستمع إلى صوت مطرب شرقي كان يغني بصوت ردئ فما كان من طه إلا أن قال “والله العظيم المغني ده أقرع” وفوجئنا حين سافرنا إلى عاصمة ذلك البلد والتقينا بالطرب أنه فعلاً كان قد فقد شعره..كما تصور طه حسين. ويمكنك قراءة صفحات وصف الأشخاص في كتابه شجرة البؤس، وفي جنة الشوك، وفي الأيام. لقد شاهد هو العالم والطبيعة والبشر ببصيرته المعجزة.



أهلا وسهلاً بطه حسين



كان بعض رجال الفكر في مصر قد تنادوا إلى إقامة حفلة تكريم لشاعر القطرين خليل مطران، وجاء من يريد الاستئناس بموافقة الملك فاروق الذي قال عندما قرأ اسم الدكتور طه حسين بين أعضاء لجنة التكريم: “إيه الأعمى ده”. وعلم طه حسين بكلام فاروق فقال: “لم أكن أظن في حياتي أن تنالني مثل هذه الإهانة وفي بلدي وفي مثل هذه المناسبة” واكتفى بالانسحاب من لجنة التكريم.



قدم عميد الأدب العربي إلى لبنان يوماً، فأكرمه شعراء وأدباء ذلك الزمان بما يناسب مكانته في دنيا الفكر ويتناسب مع تقدير اللبنانيين للعلماء والأدباء والمفكرين.



وبلغه أن شعراء الزجل يرتجلون الشعر الشعبي ويغنونه، فطلب أن يختبر الأمر بنفسه، وجئ به إلى حيث كانت فرقة “شحرور الوادي” تقيم إحدى حفلاتها. وما أن أطل بطربوشه الطويل ونظارتيه السوداوين حتى انتبه أحد الحاضرين، وهتف أهلاً وسهلاً بطه حسين فأخذ المبادرة شحرور الوادي وقال:



أهلاً وسهلاً بطه حسين/ ربي أعطاني عينين/ العين الواحدة بتكفيني/ خد لك عين وخلي عين وضجت القاعة بالتصفيق وراح الجميع يرددون: “خد لك عين وخلي عين”.



فقال شاعر آخر: لا تقبل يا طه حسين/ من كل واحد تاخذ عين/ بقدِّ ملك جوز عيوني/ هدية لا قرضة ولا دين.



ورد الشاعر الرابع في الفرقة أن الله اختص طه حسين بعين العقل لذلك فهو في غير حاجة إلى عين او اثنين
__________________
Im faded
رد مع اقتباس
  #67  
قديم 27-02-2014, 07:27 PM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
افتراضي

طه حسين و الزجل

في كتابه «طرائف الشعراء في مجالس الأدباء» ذكر نجيب البعيني ما يفيد أن طه حسين، وزير التعليم في مصر، قد سمع وأعجب بفطرة شعراء العامية في بلاد الشام حيث يطلقون أزجالهم ومساجلاتهم الشعرية دون تحضير ودون معرفة سابقة بموضوع المطارحات. فرغب في حضور بعضها والاستماع لشيء منها. وأثناء إحدى زياراته إلى لبنان كانت الفرصة ملائمة لحضور إحدى حفلات فرقة «شحرور الوادي» التي كانت تعقد في بيروت واعتاد أهل بيروت على حضورها والاستمتاع بها.وعندما دخل عميد الأدب العربي القاعة التي لا يراها إلا ببصيرته وتصوره لأنه كفيف، كان مظهره بطربوشه الأحمر الطويل ونظارته السميكة السوداء التي أصبحت العلامة الفارقة للأديب المكفوف أو قل الأديب البصير، موضوعا شيقا للزجالين، لكنهم بفطرتهم وحذقهم وكياستهم اختاروا الموضوع الأكثر قبولا وإثارة للزائر والجمهور. وانتبه أحد الحاضرين إلى دخول الوزير مع مرافقيه وجلوسه في زاوية من القاعة، فنادى مرحبا به قائلا:ـ «أهلا وسهلا بطه حسين»:
سمع ذلك شحرور الوادي فأمسك بالمبادرة الزجلية فأنشد قائلا:

أهلا وسهلا بطه حسين
ربي أعطاني عينين
العين الواحدة بتكفيني
خد لك عين وخلي عين


ضجت القاعة بالاستحسان والتصفيق وانطلق الجمع من الحاضرين يرددون في نغمة واحدة: «خد لك عين وخلي عين». لم يتوقع طه حسين ذلك وتأثر بالحفاوة كثيرا. وفي تلك الأثناء تنحنح الشاعر الثاني في الفرقة، علي الحاج، ليفسحوا له مجال القول، فانطلق منشداً:


أهلا وسهلا بطه حسين
بيلزم لك عينين اتنين
تكرم شحرور الوادي
منه عين ومني عين

ثم جاء دور شاعر الفرقة الثالث، أنيس روحانا، فأطلق عقيرته منشداً:

لا تقبل يا طه حسين
من كل واحد تأخذ عين
بقدم لك جوز عيوني
هدية، لا قرضة ولا دين

فقال الشاعر الرابع في الفرقة، طانيوس عبده، مستدركا ومصححا زملاءه وناصحا إياهم:

ما بيلزملو طه حسين
عين، ولا أكثر من عين
الله اختصه بعين العقل
بيقشع فيها ع الميلين
__________________
Im faded
رد مع اقتباس
  #68  
قديم 27-02-2014, 07:29 PM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
افتراضي

طريفة

هذه ذكريات عن شيخنا الراحل الأستاذ عبد الله الطيب غفر الله له وأحسن مثواه، أضيفها إلى ذكريات غيري من طلابه الكثر المحبين المعجبين؛ عسى أن تكون كلها مادة يرجع إليها من يكتب سيرته وينشر بين الناس فضله، وهي ذكريات في أمور شتى لا تخلو من طرافة أرسلها بغير تكلف كأنها (ونسة) في أحد مجالسه العامرة، وغني عن القول بأنني إذا ما رويت عنه كلاما فلا أذكره بألفاظه نفسها كلها (أنَّى لي ذلك وقد طال العهد؟) وإنما أذكر فحواه وبعض ألفاظه.
أول ما يخطر بالبال تعليق الدكتور طه حسين على ديوانه أصداء النيل، ذلك الثناء العاطر من عميد الأدب العربي على ديوان شاب سوداني غير مشهور ثناء قرأه مئات الأدباء في العالم العربي وعجبوا له، أثنى الدكتور طه على الديوان لكنه أخذ على صاحبه استعماله لبعض الكلمات الغريبة بل الوحشية، لكن السودانيين ضحكوا كثيرا عندما رأوا قائمتها كانت كلمات معروفة في العامية السودانية أذكر منها الآن كلمة "الطخا" بمعنى السحاب التي ينطقها أهلنا: "التخا" على عادتهم في استثقال الطاء في بعض الكلمات وتحويلها إلى تاء كقولهم: "بتيخ" بدلا عن بطيخ. كما قال ود الماحي في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (ضلتو يعني أظلته التخايي).
لست أدري لماذا شاعت في عاميتنا أمثال هذه الكلمات التي كانت تعد فعلا من الألفاظ الوحشية حتى قال الشاعر:
إنما الحيزبون والدردبيس *** والطخا والنقاخ والعلطبيسُ
لغة تنفر المسامع منها *** حين تروى وتشمئز النفوسُ
لكن لعل الذي أغرى شيخنا باستعمال هذه الألفاظ أنه كان له اهتمام عجيب بالعامية السودانية ومعرفة مفرداتها وتراكيبها، وكان يرى أن لغة القرى أثرى وأفصح من اللغة التي اعتادها أهل المدن، وكان يضرب لذلك مثلا بقول الناس في القرى: "سمح وزين" وقولهم في المدن: "كويس" لا يزيدون عليها.
وقد ظهر إتقانه للعامية السودانية في تفسيره المشهور للقرآن الكريم الذي كان المواطنون في شتى أنحاء القطر يلتفون حول المذياع للاستمتاع بالسماع إليه.
أما العربية الفصيحة فقد كان ابن بجدتها ومالك ناصيتها، لا تكاد تخفى عن علمه مفردة من مفرداتها، ولا عن حفظه قصيدة ولا نظم من نظمها، ولا عن اطلاعه أو دراسته كتاب مهم من كتبها.
حدثني الصديق الدكتور مالك بدري أن شيخنا ألقى محاضرة في بيروت فاستشهد فيها بالعشرات من أبيات الشعر من ذاكرته حتى إن أحد أساتذة اللغة بالجامعة الأمريكية -أظنه قال: إنه الدكتور إحسان عباس- قال مازحا: ما ذا نقول لطلابنا غدا؟ هل نقول لهم إننا مثله أساتذة لغة عربية؟
تحولت العربية الفصيحة عنده إلى ما يشبه السليقة فكان إذا حاضر بها في القاعة يتكلمها كلاما لا تكلف فيه، حتى إنك لتظن أنه إنما كان يتكلم بالعامية إلى أن ترجع إلى ما كتبته عنه لتجده عربيا فصيحا. وكان إذا ألقى القصيدة من الشعر العربي -حتى الجاهلي منه العصي الفهم- ألقاها بطريقة يطرب لها المستمعون، وكان طلاب الجامعة كثيرا ما يعبرون عن إعجابهم بالتصفيق الشديد حين يستمعون إليه ينشد بعضها في المناسبات العامة.
درسنا عليه في السنة الثانية من كلية الآداب عدة قصائد من كتاب المفضليات، ولا زلت أذكر شرحه الممتع لإحدى القصائد الصعبة التي أشار إليها الصديق الدكتور الحبر نور الدايم في مقاله الماتع عن شيخه الذي كانت صلته الأدبية به أوثق من صلتنا؛ لما يجمعه وإياه من حب العربية وإتقانها وبراعته في شعرها. تلك هي قصيدة المرار بن منقذ في وصف فرسه. التي من أبياتها:
ببعيد قدره ذي عذر *** صلتانٍ من بنات المنكدر
سائل شمراخه ذي جبب *** سلط السنبك في رسغ عجر
قارح قد فر عنه جانب *** ورباع جانب لم يتغر
فهو ورد اللون في ازبئراره *** وكميت اللون ما لم يزبئر
شندف أشدف ما ورعته *** فإذا طؤطئ طيار طمر
استعنت على تذكر مفرداتها -من باب الطرفة- برسمة أسميتها حصان المرار، تشير الأسهم فيها إلى أوصاف الحصان بتلك الكلمات الواردة في القصيدة، فكانت كأنها درس في علم الأحياء، وكان بعض الأصدقاء يستعيرها للمذاكرة، والغريب أن أستاذنا العلامة لم يكن يعرف معاني هذه الكلمات النادرة بالعربية فحسب، بل كان يعرف ترجماتها الانجليزية، تلك اللغة التي كان متقنا لها مطلعا على آدابها، والتي كانت له فيها نظرات ومقارنات بينها وبين العربية.
منها ملاحظته لكثرة ما في قصائد شكسبير من تشبيهات وتعبيرات يقول: إنها شديدة الشبه بما في الأدب العربي، وأنه لا مثيل لها أصلا في الأدب الانجليزي. لم يكن شيخنا بالطبع من مؤيدي نظرية شيخ الزبير التي تقول إنه الاسم الحقيقي لشكسبير.
كان شيخنا علامة النحو العربي الذي لا يشق له غبار، كان مفتونا بالكتاب لسيبويه يقرؤه كالورد اليومي كلما ختمه بدأه، حتى رأيته يحمله معه ويقرؤه في المسجد الحرام؛ تبركا به! أذكر أنه كان يقرأ في طبعة قديمة، فقلت له: هنالك طبعة جديدة بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون -كنت قد اطلعت عليها لأمر يتعلق بالفلسفة-، لكنه أعرض عن كلامي، وقال: إنه يفضل الطبعات القديمة ويراها مباركة، وكان هذا ديدنه فعلا مع كل الكتب العربية، فكان لا يقرأ من تفسير الإمام الطبري مثلا إلا طبعة بولاق، ويراها مباركة.
شهد لبراعة شيخنا في فهم الكتاب لسيبويه علماء كثر من خارج السودان، حدثني صديق سعودي هو الدكتور تركي العتيبي أستاذ علم النحو بجامعة الإمام، فقال: إن شيخنا جاءهم أستاذاً زائراً، وقال: كنت أعمل في رسالتي الماجستير عن أحد نحويي الكوفة المتقدمين، ومن خلال الدراسة اعترضتني نصوص مشكلة في الكتاب لسيبويه راجعتها في الشروح فلم أظفر بطائل... فلما جاء د. عبد الله الطيب - رحمه الله تعالى -... عرضت عليه هذه النصوص فأفادني في بعضها إفادات رائعة دونتها في نسختي، وعرضت قوله على شيخي عظيمة فاستحسنه وسر به. وكان د. الطيب أقرأ المعاصرين لكتاب سيبويه.
وكما كان شيخنا محبا للعربية وعلومها كان أيضا محبا لأهلها من الأحياء والأموات. من ذلك أنه كان شديد الإعجاب بتلميذه صديقنا الدكتور جعفر ميرغني.. جاء ذكر جعفر في أحد اجتماعات مجلس الكلية -لست أذكر الآن مناسبته-، فقال عنه شيخه: إنه لولا التقيد باللوائح لعينته الآن محاضراً -وهو الذي يسمى في اصطلاح الجامعات العربية أستاذًا مساعداً- ثم قال عنه كلمة أحرجت بعض أساتذة اللغة العربية، قال: إنه الآن -وكان قد تخرج لتوه- أعلم من بعض الأساتذة!.
وكان الأستاذ يضيق فعلا بشكليات اللوائح، كان هنالك عالم قراءات مصري نال إعجابه، فعينه أستاذاً مساعداً بالجامعة رغم أنه لم تكن له شهادة دكتوراة.
قال لي: إن كل كتاب من كتب هذا الرجل يساوي دكتوراة، وتعيين الدكتور عبد الله للرجل حلَّ له مشكلة كبيرة، فقد بدأت الجامعات الأخرى -حتى المصرية منها- تقبله أستاذاً بناءً على أنه كان كذلك بجامعة الخرطوم حسب ما يقتضي الاتفاق بين الجامعات العربية، وحدثني ذات مرة أنه ذهب إلى مصر فوجد العلماء الحقيقيين هم الذين لا يحملون هذه الألقاب العلمية من دكتور وأستاذ وغيرها! وقد وجدت مثل هذا الموقف من الألقاب عند غير شيخنا من كثير من العلماء الراسخين في علومهم على اختلافها. فما الدكتوراة عندهم إلا شهادة كالشهادات الابتدائية أو الثانوية أو الجامعية ينالها المرء ثم يتخطاها فلا يفخر بها ولا على التسمي بها. إنما يفعل ذلك بعض الضعفاء الذين يحاولون التزيي بها حتى لو لم يكونوا قد نالوها حقيقة باعتبارها حلية اجتماعية، وما مثلهم في ذلك إلا كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)) (رواه البخاري).
قرأت -وأنا بالقاهرة سنة أربع وخمسين ميلادية- مقالا للأستاذ العقاد، يرد فيه على نقدٍ انتقده إياه شيخنا، وكان رداً فيه بعض الحدة، لكنني سررت عندما لمست من أستاذنا بعد سنين عدة أن ذلك لم يفسد العلاقة بينهما، بل عبر لي عن إعجابه الشديد بثقافة العقاد الموسوعية، قال إنهم استمعوا في مجمع اللغة إلى محاضرة لأحد المختصين بعلم الجيولوجيا ذكر فيها عن بعض الصخور أنها تكون كذا وكذا من الألوان، فسأله العقاد (وحكى دكتور عبد الله صوته في إعجاب) ألا تكون كذا أيضا (وذكر لونا نسيته الآن). فأجابه المختص بأنها لا تكون كذلك، لكن العقاد جاء إلى جلسة المساء وهو يتأبط مرجعه الذي يثبت صحة ما قال!
ولم تكن العربية عند علَّامتها الطيب مجرد فن يتذوقه، أو لسان يعبر به، بل كانت كالمرجع الذي يهتدي به في كثير من شؤون حياته، لعلَّ صديقنا الدكتور إبراهيم الحادرلو يذكر كيف أنه أمتعنا في يوم قضيناه معه في تجوال في مدينة برايتون الانجليزية، كيف أنه كان كلما ذكر زعيما سودانيا أو أمرا سياسيا قال فيه رأيا، ثم أتبعه مستشهدا بما يعرف من شعر العرب ونثرها وأخبارها، وكانت استشهادات في غاية الطرافة لولا الحياء لذكرت بعضها.
وكم كان يحزنه زهد الناس في العناية بالعربية، وكان كثيرا ما يقول آسفا إن بعض المثقفين عندنا يودون أن لو كان لسانهم انجليزيا لا عربيا، وإنني لأذكر هذا التعليق كلما زرت الخرطوم فوجدت ازديادا حتى في الأحياء الشعبية - في نسبة اللافتات المكتوبة بالانجليزية أو المكتوبة كلماتها الأجنبية بحروف عربية لا يفهم المواطنون منها شيئا.
كان شيخنا معنيا في دراسته بالجودة لا الكثرة، كان ينتقي من كل علم في غير اختصاصه كتابا يقرؤه عدة مرات ويجيد فهمه، من ذلك أنه كان يكرر قراءة كتاب برتراند رسل في تاريخ الفلسفة الغربية، وكتاب توينبي المسمى دراسة للتاريخ، وهكذا. وكان كثير القراءة لتفسير الجلالين حتى إنه ليكاد يحفظه.. وقد وجدت هذا أيضا منهج شيخنا الشيخ عبد العزير بن باز علامة عصرنا في علوم الشرع.
قال لي تلاميذه إنه قرأ صحيح مسلم بشرح النووي ستين مرة! وإنه قرأ البداية والنهاية ست مرات، وهكذا. وحسبك بمرة من مرات ابن باز؛ إنها تساوي مرارا من مرات غيره.
كان يعرف عن نفسه أن العربية طبعه حتى قال لي ذات يوم -ونحن نتكلم عن الفلسفة- إنه درس بعض مقرراتها أثناء عهد الطلب ببريطانيا، وإنه جودها لدرجة أن الأستاذ اقترح عليه أن يختص بها. قال لكنني قلت لنفسي: الطبع ولا التطبع.
وعلى ذكر الفلسفة، دخل عليَّ الأستاذ ذات يوم في مكتبي -وهو عميد لكلية الآداب-؛ ليسألني: أليس لك الآن محاضرة في القاعة الفلانية؟ استنكرت أن يأتي عميد الكلية ليحاسبني في مكتبي على عدم الذهاب لمحاضرة، فما هكذا يعامل الأساتذة بجامعة الخرطوم، قلت -ولا بد أنه رأى آثار الإنكار على وجهي-: "بلى ولكنني نسيت بسبب انشغالي بهذا البحث"، فابتسم وقال: "الآن صرت أستاذا"، فانطلقت أسارير وجهي وابتسمت، وقلت: "لماذا؟" قال: "لأن الأستاذ الحق هو الذي تشغله بحوثه عن أموره الأخرى"، ثم شرح لي أنه إنما جاء ليستشيرني في مسألة فلسفية أشكلت عليه هو طلابه، كان هذا من تواضعه الجمِّ الذي لم يكن يتكلفه أبدا. وكان من تواضعه وكرمه أنه كثيرا ما يدعو طلابه إلى منزله ثم يطلب من الشعراء منهم أن يباروه قي تأليف قصيدة في موضوع يختاره، أذكر أن هذا حدث مع الصديقين عمر عباس عجبنا زعيم الطلاب وخطيبهم المفوه أكرم الله نزله، والدكتور ناصر السيد شاعرهم المطبوع أطال الله عمره في طاعته.
وإذا كان مثل غفلتي تلك عن المحاضرة من السمات اللازمة للأستاذية، فقد كان هو صاحبها الذي لا يبارى. كان يقطع التذكرة من تذاكر قطار لندن التحت الأرض ليذهب إلى إحدى المحطات فيغفل عن النزول بها ويتجاوزها بمحاط كثيرة لانشغاله بشيء يقرؤه أو يفكر فيه.
دخلت عليه في مكتبه ذات يوم وكان قد فرغ لتوه من اجتماع مع رؤساء الأقسام فيما أظن، فوجدتهم جيمعا يضحكون، فلما سألت أخبرني أحدهم بأنه حدث بين العميد وأحد الأعضاء خلاف وأن العميد غضب وانتهر العضو قائلا: "ياجرزلدا..." فانفجر الناس ضاحكين وضحك هو وانتهت المشكلة بفضل ذكر اسم الزوجة الحبيبة!.
زلت منه مرة كلمة عن محمود محمد طه حاسبه عليها بعض إخواننا حسابا عسيرا، لكنني أشهد أن الرجل لم يكن محبا لمحمود، ولم يكن من أنصاره، لكنه قال ما قال بسبب السياسة التي لم يكن ذا باع فيها، قال لي ذات مرة إنه لا يحب محموداً؛ لأنه لا يحب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وكان يقول لنا تشجيعا على نقدنا لمحمود أنتم وحدكم الذين تستطيعون نقده، ويعني ب"أنتم" نحن أصحاب التوجه السني. قلت: لماذا؟ قال: لأن هؤلاء الشيوخ الذين يهاجمهم ينسبون إلى بعض شيوخ الصوفية ما يدعي محمود لنفسه، فهم لا ينكرون أن يصل الإنسان مثلا وصولا يرفع عنه أحكام العبادات والحلال والحرام، لكنهم ينكرون أن يكون محمود قد وصل إلى هذه الدرجة. وعلى ذكر محمود، دخلت عليه ذات يوم في مكتبه فحكى لي قصة طريفة، قال: إنه كان معه قبل قليل أحد القساوسة -ذكر لي بلده الأوربي لكنني نسيته- وأنه أخبره أنه جاء ليتشرف بزيارته ويتحدث إليه. قال الدكتور عبد الله فقلت له: لست أنا الذي تريد. إنك تريد رجلا آخر اسمه محمود محمد طه وعرفته من هو. قال فاعترف بأن محمودا كان طلبته، لا عبد الله الطيب، قلت لشيخنا: لكن كيف عرفت أنه إنما يريد محموداً، ولا يريدك أنت؟ قال: ما ذا يبتغي قس أوربي عند رجل همه اللغة العربية وهم لا يحبونها ولا أهلها، إنه يريد هذا الذي يقول ما يرضيهم!.
وتصديقا لكلام شيخنا التقيت أنا في الرياض بقس كبير من علمائهم كنت قد قرأت بعض أجزاء من كتاب له عن وجود الخالق مترجما إلى الانجليزية، سُرَّ لما أخبرته بذلك، فلما عرف أنني سوداني كان أول ما سألني عن محمود محمد طه، فأجبته بكلمة صعق لها. قلت: هذا ليس مسلما!
كان مما أعجب له في شيخنا أنه مع معرفته الواسعة بالعربية وعلومها والتفسير والتاريخ إلا أنه كان في باب الفقه مالكيا مقلدا تقليد العوام، بل كانت حججه لتسويغ هذا التقليد هي حجج العوام، لكنني عرفت السر في ذلك بكلام قاله لي هو عن نفسه في إحدى زياراته للرياض. كان يقرأ في كتاب المسند للإمام أحمد فاعترف بأنه كان مقصرا في اهتمامه بعلم الحديث، وأنه بدأ الآن يتدارك ذلك، فسررت لذلك أيما سرور.
لقد كان شيخنا فخر السودانيين يعتز به شبابهم ويحتفلون به ويكرمونه حيثما حل في بلد يسكنونه. رأيناهم يكرمونه في المدن البريطانية، والأمريكية، والبلاد العربية وسمعنا عن تكريمهم له في غيرها.
هذا بعض ما جادت به عن شيخه ذاكرة طالب تجاوز السبعين، أرجو ممن يطلع عليها ممن يعرف ما لا أعرف عن بعض ما ذكرت أن لا يتردد في تصويبها. فمعاذ الله أن نظن بأنفسنا عدم الخطأ أو أن نستنكف عن التصويب. تلك جوانب من حسنات الفقيد غفر الله لنا وله ذنوبنا وتقصيرنا وإساءتنا، ورحمنا وإياه رحمة واسعة، وجزاه الله خيرا كثيرا على اهتمامه بلغة الكتاب العزيز والرسول الكريم وعمله على نشرها والانتصار لها.
__________________
Im faded
رد مع اقتباس
  #69  
قديم 13-03-2014, 05:20 PM
اختلاف اختلاف غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Mar 2014
المشاركات: 10
معدل تقييم المستوى: 0
اختلاف is on a distinguished road
افتراضي

ألف ألف شكر
رد مع اقتباس
  #70  
قديم 17-03-2014, 09:41 AM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة اختلاف مشاهدة المشاركة
ألف ألف شكر
كل الشكر والتقدير علي مرورك الكريم
__________________
Im faded
رد مع اقتباس
  #71  
قديم 05-04-2014, 08:32 PM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
Mnn

ومازلنا معهم

نضحك ونستمتع بنكاتهم

1- رأى سقراط فى الزواج:

سأل أحد التلاميذ سقراط عن رأيه فى الزواج فقال: "تزوج لأنك لو رزقت بامرأة طيبة أصبحت سعيدا، و لو رزقت بامرأة شقية ستصبح فيلسوفا"، فلو كانت زوجتى طيبة ما أصبحت فيلسوفا.

ومن نوادره مع زوجته أنها أخذت تصرخ يوما وعندما لم يعرها انتباهه قذفته بالماء فقال لها ببرود: "ما زلت ترعدين وتبرقين حتى أمطرتِ".



2- إسحاق نيوتن وجاذبية النساء:

جلس نيوتن يوما بجوار إحدى السيدات فى مأدبة عشاء أقيمت تكريما له وفجأة سألته السيدة: "قل لى يا مستر نيوتن, كيف استطعت أن تصل إلى اكتشافك هذا؟ قال العالم الكبير فى هدوء: "المسألة فى غاية البساطة، لقد كنت أقضى جانبا من وقتى كل يوم أفكر فى هذه الظاهرة الغريبة التى تدفع الأشياء إلى السقوط على الأرض ، فالتفكير هو السبب".

وقالت السيدة: "ولكننى أقضى ساعات طويلة من يومى أفكر وأفكر وبالرغم من ذلك لم أستطع أن أكتشف شيئا".

فسألها نيوتن: وفيم كنت تفكرين؟

قالت: فى زوجى الذى هجرنى, وانفصل عنى بالطلاق!

فقال لها نيوتن: وهل كنت تفكرين فى زوجك بعد الطلاق أم قبله؟

قالت: بعد طلاقنا.

وهنا نظر إليها العالم الكبير وقال: "لو أن تفكيرك فى زوجك يا سيدتى كان قبل الطلاق, لاستطعت أن تكتشفين أنت قانونا للجاذبية من نوع آخر".



3- ذكاء (برنارد شو):

طلب كاتب مبتدئ من برنارد شو أن ينصحه بكتابة شىء لم يكتبه أحد من قبل
فأجابه برناردشو: "الأمر فى غاية البساطة اكتب رثاءك".

وفى موقف آخر ذهب أحد الأصدقاء لزيارة "برناردشو" وعندما دخل عليه حجرته وجده يتحدث مع نفسه وعندئذ قاطعه الضيف قائلا: "أتتكلم مع نفسك؟"، فرد عليه برناردشو: "نعم إنها عادة، فقد اعتدت منذ الصغر أن أتحدث كل يوم مع شخص ذكى"


4 - الفيلسوف ديوجينيس يتخلص من إحراج السؤال:

سأل أحد الكتاب الفيلسوف ديوجينيس: "هل تعرف ما الحكمة فى إحسان الناس وتصدقهم على أصحاب العاهات من العمى والعرج وعدم إحسانهم وتصدقهم عليكم أنتم معشر الفلاسفة؟"، فقال الفيلسوف: "إن الحكمة فى ذلك واضحة لأن الناس مؤهلون ومستعدون للعمى والعرج وليس كل واحد أهلا للفلسفة" .



5 - غضب السياسى (تشرشل) من امرأة:

كان السياسى البريطانى "ونستون تشرشل" يخطب فى البرلمان عن حرية المرأة والقوانين الخاصة بالنساء فحمل على المرأة كثيرا، فصاحت إحدى الحاضرات: "لو كنت زوجى لوضعت لك السم فى القهوة فأجاب فورا: "ولو كنت زوجك لشربته فورا" .



6- إخلاص فولتير لصديقه فى غيابه:

أثناء حديث "فولتير" مع صديق عن أحد معارفه قال له الصديق: "غريب أمرك، إنك دائما تذكره بالخير وتثنى عليه وهو لم يذكرك أبدا إلا ويذمك" فرد عليه فولتير: "من المحتمل أن يكون كل منا مخطئا".



7 - أينشتاين "أمى"!!

كان أينشتاين لا يستغنى أبدا عن نظارته .. وذهب ذات مرة إلى أحد المطاعم، واكتشف هناك أن نظارته ليست معه، فلما أتاه الجرسون بقائمة الطعام ليقرأها ويختار منها ما يريد، طلب منه أينشتاين أن يقرأها له فاعتذر الجرسون قائلا: "إننى آسف يا سيدى، فأنا أمى جاهل مثلك".



8 - سرقوا فراش بيكاسو فغضب لترك لوحاته:

فى ذات ليلة عاد الرسام العالمى المشهور بيكاسو إلى بيته ومعه أحد الأصدقاء فوجد الأثاث مبعثرا فاكتشف السرقة وغضب كثيرا، فسأله صديقه: "هل كانت المسروقات شيئا مهما؟"، فقال بيكاسوا: "سبب غضبى أن الأغبياء سرقوا الفراش ولم يسرقوا شيئا من لوحاتى" .


9 - الروائى الشهير اسكندر ديماس والحمار:

ذهب كاتب شاب إلى الروائى الفرنسى المشهور "إسكندر ديماس" مؤلف رواية "الفرسان الثلاثة" وعرض عليه أن يتعاونا معا فى كتابة إحدى القصص التاريخية، فأجابه "ديماس" فى سخرية وكبرياء :"كيف يمكن أن يتعاون حصان وحمار فى جر عربة واحدة؟".

وعلى الفور رد عليه الشاب: "هذه إهانة يا سيدى كيف تسمح لنفسك أن تصفنى بأننى حصان؟".

__________________
Im faded
رد مع اقتباس
  #72  
قديم 13-04-2014, 08:07 AM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
افتراضي

مجمل شعر الفرزدق أنه يحكى عن مغامرة قام بها للوصول إلى محبوبته, فتسلق جدارا طوله 80 قامة, ونزل منه كما ينقض الباز على فريسته, فلما نزل إلى الأرض قالتا له أنت حى أم قتيل, فأخبرهما أنه حي, ثم انطلق هاربا بعد أن قضى وطره ) والله لا دخل علي أبداً، فمن بالباب غيره ممن ذكرت ؟ قال / الأخطل التغلبي : قال : أليس هو القائل ؟

ولست بصائم رمضان عمري
= ولست بآكل لحم الأضاحي

ولست بزاجر عيساً بكوراً
= إلى أطلال مكة بالنجاح

ولست بقائم كالعبد يدعو
= قبيل الصبح حي على الفلاح

ولكني سأشربها شمولاً
= وأسجد عند منبلج الصباح

( يخبر الأخطل أنه لن يصوم, ولن يأكل لحم الأضاحى كالمسلمين, ولن يسوق إبله ليذهب إلى مكة للحج, ولن يقوم ليؤذن ويصلى الفجر, ولكنه سيشرب خمرا شمولا, ويسجد للشمس عند شروقها, وكان الأخطل شاعرا نصرانيا ) أبعده الله عني، فو الله لا دخل علي أبداً، ولا وطىء لي بساطاً، وهو كافر، فمن بالباب غيره من الشعراء ممن ذكرت ؟ قال / جرير . قال : أليس هو القائل ؟

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
= وقت الزيارة فارجعي بسلام

فإن كان ولا بد، فهذا، فأذن له . قال / عدي بن أرطأة : فخرجت فقلت : ادخل يا جرير، فدخل وهو يقول :-

إن الذي بعث النبي محمداً
= جعل الخلافة في الإمام العادل

وسع الخلائق عدله ووقاره
= حتى ارعووا وأقام ميل المائل

إني لأرجو منه خيراً عاجلاً
= والنفس مولعة بحب العاجل

والله أنزل في الكتاب فريضة
= لابن السبيل وللفقير العائل

فلما مثل بين يديه قال / يا جرير ؟ اتق الله ولا تقل إلا حقاً، فأنشأ يقول :-

كم باليمامة من شعثاء أرملة
= ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر

ممن بعدلك يكفي فقد والده
= كالفرخ في العش لم يدرج ولم يطر

أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت
= أم قد كفاني ما بلغت من خبري

إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا
= من الخليفة ما نرجو من المطر

إن الخلافة جاءته على قدر
= كما أتى ربه موسى على قدر

هذي الأرامل قد قضيت حاجتها
= فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر

الخير ما دلت حيا لا يفارقنا
= بوركت يا عمر الخيرات من عمر

فقال : والله يا جرير لقد وافيت الأمر، ولا أملك إلا ثلاثين ديناراً فعشرة أخذها عبدالله ابني، وعشرة أخذتها أم عبدالله، ثم قال لخادمه : ادفع إليه العشرة الثالثة . فقال : والله يا أمير المؤمنين إنها لأحب مال اكتسبته، ثم خرج فقال له الشعراء : ما وراءك يا جرير ؟ فقال : ورائي ما يسوءكم خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإنني عنه لراض، ثم أنشأ يقول :-

رأيت رقى الشيطان لا تستفزه
= وقد كان شيطاني من الجن راقيا
__________________
Im faded
رد مع اقتباس
  #73  
قديم 13-04-2014, 08:15 AM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
افتراضي

كان / عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتفقد أحوال الرعية كعادته كل ليلة عندما سمع امرأة تقول لابنتها : قومي إلي اللبن فاخلطيه بالماء . أبت الفتاة أن تفعل قائلة : يا أماه إن أمير المؤمنين / عمر بن الخطاب قد نهى عن غش اللبن بالماء . ردت الأم : وهل يرانا عمر الآن إذا فعلنا ؟ قالت الفتاة الصالحة : يا أماه إذا كان عمر لا يرانا فإن ربه يرانا . مضي الأمير حامدا ربه أن جعل في أمته مثل هذه الزهور الواعدة ، وأسرّ رضي الله عنه في نفسه أمرا . في الصباح استدعي المرأة وابنتها ، وسألهما عما حدث بينهما البارحة ، فقصتا عليه ما حدث بكل الصدق والأمانة . تذكر الفاروق أن ابنه عاصما قد بلغ مبلغ الرجال ولم يتزوج بعد . وهل يجد عاصم زوجة صالحة موفورة العقل والذكاء مثل هذة الفتاة الأمينة ؟

دعا الفاروق ابنه وأشار عليه بخطبة الفتاة ووافق الابن الصالح من فوره . وكأن الأمير الملهم كان يستشف ما وراء حجب الغيب ، ولا عجب فهو الفاروق الذي كان ينطق بالكلمة فينزل القراّن الكريم بها من فوق سبع سماوات !!

فقد ولدت هذه الزوجة التقية لابنه عاصما بنتا سمّاها ليلى كان لها فيما بعد شأن عظيم . وما كان غريبا أن تشب ليلي عن الطوق في بيت الخلافة الراشدة فترضع التقي والعدل والعز ومكارم الأخلاق ، وتتفتح أكمامها يوما بعد يوم ، مبشّرة بفجر جديد يخلق في رحمها ليعيد إلي الأرض ما فقدته حينا من الدهر ، بعد أن ودّعت أربعة من خلفاء رسول الله صلي الله عليه وسلم في أمته ، وتحولت الخلافة الراشدة إلي ملك كريه مغتصب يتوارثه بنو أميّة بغير رضا أو شوري من المسلمين . وقد كان من كرامات الفاروق عمر رضي الله عنه أنّه يلهم بالأمر فيحدث كما توقعه بلا زيادة أو نقصان . وهناك قصته المشهورة عندما صعد إلي المنبر ليخطب الجمعة وفجأة صاح : يا سارية الجبل الجبل ومن استرعي الذئب الغنم فقد ظلم . ويومها عجب الناس وظنّوا بعقل أميرهم الظنون ، ولكن شاء الله أن يأتي البشير بعد ذلك بانتصار جيش سارية على الفرس في نهاوند ، وأخبرهم بأنهم سمعوا في تلك الجمعة التي وقع فيها القتال صوتا يقول يا سارية الجبل الجبل فاحتموا بالجبل وكان هذا سببا لتحقيق النصر بإذن الله .

ومنها أيضا أنه كان يردد كثيرا وكأنه يناجي نفسه بما أطلعه الله عليه سبحانه وألهمه إياه : " ليت شعري من هذا الذي بوجهه شجّة - أثر جرح - من آل عمر يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ؟! وكان / عبدالله بن عمر رضي الله عنه لا يكفّ عن التبشير بخلافة عمرية أخري قبل قيام الساعة . وكان يقول : يا عجبا ، يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر الخلافة يعمل بمثل عمل عمر . وكانوا يظنون أنه سيكون بلال بن عبدالله بن عمر ، لأن في رأسه علامة تشبه تلك التي جاءت بها الآثار . لكن القدر كان يحتفظ بها لحفيد فتاة أمينة اتقت ربها ، وأبت ذات ليلة أن تبيع دينها بقليل من الماء تزيد به وزن اللبن .

تزوجت / ليلي بنت عاصم بن عمر بالشاب الصالح / عبدالعزيز بن مروان الذي خرج مع أبيه مروان بن الحكم إلي الشام . وقدّر الله للأب أن يلي الخلافة ، فجعل الأمر من بعده لابنه عبدالملك ثم لأخيه عبد العزيز . وفي سنة 65 بعد الهجرة النبوية الشريفة تولى / عبدالعزيز بن مروان حكم مصر . وفي حلوان ولدت ليلى ابنها / عمر بن عبدالعزيز . كانت الغنائم وأموال الخراج تتدفق على بيت المال من كل حدب وصوب ، ولم يكن أمير مصر يأل جهدا في التوسعة علي الرعية من مال الله . وكان يحرص علي تكريم العلماء والصالحين ومنهم / عبدالله بن عمر الذي كان يتلقى الدنانير من / عبدالعزيز بن مروان فيوزعها كلها علي الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وغيرهم من المستحقين . وكان / عبدالعزيز يقول لجلسائه : عجبا لمؤمن يوقن أن الله يرزقه ويخلف عليه فيحبس مالا عن عظيم أجر وحسن ثناء ؟!

أحضروا إليه ذات مرة أمواله ليحصيها فإذا هي أكثر من ثلاثمائة مد من الذهب ، وهو قدر يعادل ملاين الدنانير ، لكن الرجل الصالح لم يغتر بكثرة المال ولم يفخر علي جلسائه بنعمة الله الوافرة ، بل انهمرت الدموع علي خديه وهو يقول : والله لوددت أنه بعر ( أي مخلفات الإبل ) ولوددت أني لم أكن شيئا مذكورا ، وددت أن أكون هذا الماء الجاري أو نباتة بأرض الحجاز . كان / عبدالعزيز بن مروان يشعر بثقل التبعة الملقاة علي كاهله ، ويعلم أنه سيحاسب على ما أعطاه الله من السلطة والمال حسابا عسيرا يوشك أن يلقي به في أعماق الجحيم ما لم تدركه رحمة الله ومغفرته . ولهذا كان حريصا علي الإنفاق من ماله ما استطاع إلي ذلك سبيلا ، وكان يتقي الله في أهل مصر ، ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يشب أولاده على شاكلته .

من بين أولاد / عبدالعزيز بن مروان كانت للصغير عمر مكانة خاصة في قلب أبويه . كانا يعلمان أن له شأنا أخبر عنه جده الفاروق / عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعم والدته / عبدالله بن عمر وعدد كبير من الصحابة والتابعين الذين أجمعوا علي أن أعدل حكام بني أمية قاطبة سيكون فتي برأسه شجة ( إصابة )، وينتهي نسبه إلي أمير المؤمنين / عمر رضي الله عنه . ولم يكن هذا الأشج سوى الصغير / عمر بن عبدالعزيز الذي تحققت الآية فيه مبكرا .

دخل مرة إلى إصطبل خيول أبيه ليلهو ويلعب فركله جواد في رأسه . ذاب قلب / عبدالعزيز وهو يمسح الدماء الغزيرة من رأس طفله ، وفزعت أمه / ليلي بنت عاصم ، لكنهما أيقنا منذ تلك اللحظة أن الخلافة الراشدة الموعودة توشك أن تصادف موضعا من حفيد ابن الخطاب . راح / عبدالعزيز يخفف ألام الطفل ويهوّن علي زوجته قائلا : " إن كنت يا ولدي أشج بني مروان إنك إذا لسعيد ". وما له ألا يكون هو وقد كانت أمه تدخل عليه في طفولته المبكرة ، فإذا هو يبكي لذكر الموت والحساب . كان الصغير قد أتم حفظ القران الكريم في فترة قصيرة ، وأراد أبوه أن يجعله معه في مصر حيث ولايته ، لكن الفتي الذي لم يكن قد بلغ الرشد بعد قال له : يا أبتي إني أرغب في أمر لعله يكون أنفع لي ولك ؟ سأله أبوه : وما هو ؟ أجاب عمر : ترسلني إلي المدينة فأجلس إلى فقهائها لأتعلم منهم وأتأدب بآدابهم . كان رأى الصغير العبقري صائبا ، فأرسله أبوه إلى / صالح بن كيسان رضي الله عنه - وكان من كبار فقهاء المدينة - ليعلمه . وفي مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم بدأت مرحلة جديدة من حياة الفتي الذي تصنعه الأقدار لأمر عظيم . وكان من حفظ الله له أنه خطا إلى المراهقة والفحولة في المدينة بعيدا عما انغمس فيه أقرانه وبنو عمومته من ملذات ونعيم زائل بأرض الشام التي تحولت في عهد الأمويين إلى بلاد للفتنة والتكالب على حطام الدنيا تشبها بأباطرة الرومان وأكاسرة الفرس . وشتان ما بين فتى يستهل صباه بحفظ القراّن الكريم وما استطاع من الفقه وحديث الرسول صلي الله عليه وسلم والصبر على ملازمة كبار الفقهاء من الصحابة والتابعين ليل نهار ، وآخر يشب بين أحضان الجواري ونعيم القصور الذي ينسي أهلها أمر الآخرة والحساب ، في*** فيه الرجولة ويعكر صفاء الذهن ويترك الشاب مسخا مشوها لا يكاد يصلح لشيء .

ربما لم يعرف تاريخ ولاة بني أمية أشر ولا أخبث من / الحجاج بن يوسف الثقفي طاغية العراق الذي باع دينه بدنيا بني مروان بن الحكم ، وسفك دماء مئات الألوف من المسلمين ، وضرب وجوههم ، وشرّد أطفالهم ونساءهم ، واعتقل أشرافهم ، وأذل سادتهم في سبيل تثبيت دعائم الملك الأموي . أجل إنه الحجاج دعوة / عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما على أهل العراق الذين فسقوا ونافقوا ولم يسلم أمير من أذاهم وشقاقهم وخيانتهم . فقد جاءت الرسل إلى / عمر رضي الله عنه يوما ليخبروه بأن العراقيين قذفوا الوالي على منبره بالحصى . غضب عمر حتى سها لأول مرة في صلاته ، وعندما فرغ دعا على أهل العراق قائلا :" اللهم عجل عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجبابرة لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم ".

وكان / علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يدعو على أهل العراق بعد أن خذلوه قائلا : اللهم كما ائتمنتهم فخانوني ونصحت لهم فغشوني ، فسلط عليهم فتي ثقيف الذيّال الميّال يأكل خضرتها ويلبس فروتها ويحكم فيها بحكم الجاهلية . وهو الطاغية المبير ( المهلك ) الذي قال عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم " يخرج من ثقيف رجلان كذّاب ومبير ".كما أخبرت السيدة / أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضي الله عنهما .

لم يكتف الحجاج بسفك الدماء الزكية أنهارا بلا ذنب أو دليل ، وإنما أضاف إلى ذلك كبائر من الذنوب لا تحصي ولا توصف . كان يتطاول على كبار الصحابة بما لا يجرؤ على النطق به مسلم ، رغم الإجماع المعروف على كفر من يسب صحابة الرسول صلي الله عليه وسلم . وكان لا يتورع عن فعل أي شيئ ينافق به حكام بني مروان ويرضيهم عنه ولو بسخط الله عز وجل وقهر الأبرياء العزل بلا جريرة . ومن ذلك أنه بعث إلى / عبدالملك بن مروان يحرضه على خلع أخيه / عبدالعزيز من ولاية العهد وتولية ابنه / الوليد بن عبدالملك بدلا منه . وكان حكام بني أمية منذ عهد / معاوية بن أبي سفيان قد دأبوا على توارث السلطة بلا رضا من المسلمين أو إعمال للشورى التي أمر بها القران الكريم . فكان الحاكم الأموي يبعث في الأمصار بالبيعة لمن يشاء من أولاده ، فمن أبى البيعة من الرعية فإن مصيره الموت على الفور بسيوف الولاة الطواغيت . كذلك أخذ / مروان بن الحكم البيعة لولدية / عبدالملك ثم / عبدالعزيز رغبا ورهبا ، لكن / عبدالملك بن مروان بتحريض من الحجاج الثقفي طمع في تولية ابنه الوليد بدلا من أخيه ، فكتب إلى الأخر - وكان / عبدالعزيز واليا على مصر في ذلك الوقت - يطلب منه التنازل عن ولاية العهد للوليد بن عبد الملك .

رفض / عبدالعزيز مطلب أخيه الطامع ، ورد عليه مرشحا لابنه / أبي بكر بن عبدالعزيز بدلا من الوليد . وساءت علاقات الأخوين لذلك السبب ، فأرسل عبدالملك إلى عبدالعزيز يأمره بإرسال خراج مصر إليه خلافا لما تعارفا عليه من قبل . فقد كان والي مصر لا يرسل شيئا من الخراج إلي الخليفة الأموي بدمشق ، وينفقه كله في مصالح المصريين . ولجأ عبدالعزيز إلى ملاطفة أخيه حتى لا يرهق أهل مصر بدفع الخراج ، فكتب إليه يقول : إني وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا عمرا لا يبلغه أحد من أهل بيتنا إلا كان بقاؤه بالدنيا قليلا ، وإني لا أدري ولا تدري أنت أيضا أينا يأتيه الموت أولا ، فإن رأيت ألا تعتب علي بقية عمري فافعل . تأثر عبدالملك بالرسالة فكف عن محاولات إرغام أخيه على التنازل عن ولاية العهد وترك الأمر لله .

لم يجد حاسدو الفتي الأموي الناضر له عيبا سوي المبالغة في ارتداء أفخر الثياب وأجودها وأغلاها ثمنا . كانت له أموال تدر ريعا سنويا يزيد علي أربعين ألف دينار ، لكنه لم ينس الفقراء والمساكين وأبناء السبيل ، فقد ورث الكرم والمروءة ومحبة المساكين ، وهو وإن كان مترفا ناعما فإنه أيضا شب بين فقهاء مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم ومن بقي على قيد الحياة من أصحابه الأبرار وأتباعهم الصالحين . ولهذا كان يفئ إلى الحق عندما يذكره أحد به ، ويقضي الأيام والأسابيع يحاسب نفسه على أدني هفوة خشية أن يميل بها ميزانه يوما تشخص فيه القلوب والأبصار . تأخر الصبي ذات يوم عن صلاة الجماعة فسأله معلمه / صالح بن كيسان : ما شغلك عن صلاة الجماعة ؟ أجاب عمر : كانت مربيتي تسوّي شعري ! قال له المعلم : قدّمت هذا على الصلاة ؟!! وأرسل إلى والده بمصر يخبره بما حدث . غضب / عبدالعزيز بن مروان بشدة على ولده ، وأرسل إليه من مصر رجلا وأمره ألا يكلم ابنه حتى يحلق شعره كله تأديبا له على تأخير الصلاة في تلك المرة اليتيمة . هكذا كانوا يربون الأطفال ويصنعون منهم بإذن الله رهبانا بالليل فرسانا بالنهار . وهكذا نشأ / عمر بن عبدالعزيز ، حتى قال : عنه معلمه وهو لم يزل صبيا غضا : ما علمت أحدا الله أعظم في صدره من هذا الغلام .

كان عمر يغشي مجالس العلم والفقه والذكر في المسجد النبوي الشريف فيسمع من / أنس بن مالك و / سعيد بن جبير و / سعيد بن المسيب و / عبيدالله بن عبدالله بن عتبة و / سالم بن عبدالله و / عروة بن الزبير وغيرهم من كبار الفقهاء والصالحين في عهده . وربما شدد عليه بعضهم وأغلظ له القول وهو يعظه ، فلا يغضب الفتي الأموي ، وهو ابن حاكم مصر وابن شقيق الخليفة الأموي الذي ترتعد أوصال أكثر الرعية فرقا من سيفه ، وتطمح أبصار الكثيرين إلي ذهبه البراق وعطاياه المسرفة للأنصار والحواشي .

كان عمر يتواضع لهؤلاء الأعلام الفحول ، وكانوا هم لا يعبأون بجاه الحكام وسلطانهم وما في أيديهم من أموال ، لأنهم كانوا يزنون الدنيا بالميزان الصحيح ، فلا يجدونها تساوي جناح بعوضة أو ما دونه ، ولا يعنيهم منها إلا أن يعبروها بسلام إلى آخرة خير وأبقي . علم / عبيدالله بن عبدالله بن عتبة رضي عنه إن تلميذه / عمر بن عبدالعزيز تحدث مرّة بلهجة غير مقبولة عن / علي بن أبي طالب كرم الله وجهه . كان الصبي يردد ما اعتاد عليه الأمويون منذ وقع الخلاف على الحكم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما .

فأعرض / عبيدالله عن تلميذه طويلا ثم نهره قائلا : متى علمت أن الله سخط على أهل بدر - ومنهم علي - بعد أن رضي عنهم ؟! فهم عمر ما يقصده شيخه فهتف : معذرة إلى الله ثم إليك ، والله لا أعود إلى مثلها أبدا ، فلم يسمعه أحد بعد ذلك يذكر عليا إلا بكل خير .

مات / عبدالعزيز بن مروان في السنة الخامسة والثمانين بعد الهجرة النبوية الشريفة . ورغم تأثر / عبدالملك بن مروان بوفاة أخيه ونائبه على مصر ، إلا أنه لم يستطع أن يكتم فرحته بالفرصة التي واتت ابنه الوليد ليكون وليا للعهد بعد وفاة عمه . إنه الحرص على الملك والتشبه المرذول بالفرس والرومان ، وليست الخلافة التي كانت في عهود أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضوان الله عليهم . وسرعان ما انتهز / عبدالملك الفرصة فأرسل إلي نوابه في البلاد قبل أن تجف الدماء في عروق أخيه المسجى يأمرهم بأخذ البيعة لابنه ، فبايعت الرعية خشية سيوف الجبابرة في دمشق وسائر بلاد المسلمين حتى مكة والمدينة ، لكن رجلا واحدا في مدينة الرسول العظيم أبي البيعة الجائرة بحد السيف . إنه عالم المدينة التابعي الجليل / سعيد بن المسيب رضي الله عنه . أنكر الرجل الصالح ما يفعله عبيد السلطة والجاه الذين اّثروا أنفسهم وأهليهم بالأموال والخراج والغنائم ، ولم يجعلوا حدا فاصلا بين أموالهم الخاصة وأموال المسلمين ، وجاهر بنقد سلوكيات الأسرة الأموية الحاكمة ، ودعا الناس إلي رفض البيعة التي لا تقوم على أساس من الإختيار الحر الهادف إلى تحقيق مصلحة الإسلام والمسلمين . وهنا أسفرت السلطة الغاشمة عن وجهها القبيح ، فأرسل / عبدالملك بن مروان إلى نائبه على المدينة / هشام بن إسماعيل يأمره بالقبض على العالم الجليل والتنكيل به على مرأى ومسمع من أهل مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم ليكون عبرة للناس فيبادروا بالإمتثال والطاعة للسادة الحكام .

ورأي الفتي اليافع / عمر بن عبدالعزيز مشهدا أسخطه وملأ نفسه الزكية كربا وأسى . اقتاد جنود الوالي الغشوم / هشام بن اسما عيل العالم الجليل ذات صباح إلى وسط المدينة مكبّلا بالأغلال ، وراحت سياطهم الفاجرة الآثمة تلهب ظهره الطاهر في جنون وحشي ، والناس يرتعدون هلعا ، وكلهم يأسي لما أصاب الشيخ المبارك ، لكن أحدا لا يجرؤ على التصدي للطغاة الذين سفكوا الدماء وأذلوا الرقاب في سبيل تنفيذ رغبات ملوك بني أمية .

لم يكتفوا بجلد ولي الله أمام أهله وتلاميذه ، بل ألبسوه ثيابا من الشعر ووضعوه على ظهر جمل أجرد وطافوا به مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم حتى قالت له امرأة في حسرة : ما هذا الخزي يا سعيد ؟! تقصد أن تلومه على ما صنعه بنفسه ، فرد عليها في يقين موضحا لها أن الخزي ليس في تعرضه للعذاب والبطش ، ولكن الخزي والذل في طاعة الحكام الظالمين وتلبية أوامرهم ورغباتهم . وقد أودع الفقيه العظيم سجن المدينة مرة أخري ، لكنه أصر على موقفه المناهض للظلم والباطل والطغيان . ولعل هذا كان أعظم درس تلقاه / عمر بن عبدالعزيز من أستاذه ومعلمه / سعيد بن المسيب رضي الله عنه طول فترة مكثه بالمدينة .

إن العالم أو الداعية لا ينبغي له أن يشتري بآيات الله وأحكامه ثمنا قليلا تافها من دنيا الناس الفانية ، وإنما عليه أن يقف - ولو وحيدا - ليصدع بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر مهما ناله من بطش وأذى ، وهذا أفضل الجهاد عند الله عز وجل .

استدعي / عبدالملك بن مروان ابن شقيقه / عمر بن عبدالعزيز إلى دمشق بعد وفاة أبيه . كان عمر قد بلغ مبلغ الرجال وتجمعت فيه كل الصفات التي ترجى في الشباب وهى التقوى والعلم والفتوة والجمال وغني النفس والمال . وماذا يبغي / عبدالملك بن مروان بعد ذلك من شروط فيمن يتزوج ابنته الحسناء فاطمة ؟ إن عبدالملك بما لديه من فطنة وفراسة كان يرى في عمر دون باقي أبناء إخوته وأقاربه من الأمويين نموذجا نادرا ، ولهذا كان طبيعيا أن تقع عينه الخبيرة الفاحصة عليه هو بالذات ليرشحه زوجا لأكرم الناس عليه وأحبهن إليه وأحظاهن لديه وهي ابنته الوحيدة فاطمة . وكان عبدالملك يقرب عمر إليه ويدنيه من مجلسه ولا يخفي إعجابه بعلمه وتقواه . ولم ينس قبل وفاته أن يوصي ابنه الوليد بأخته فاطمة وزوجها / عمر بن عبدالعزيز . كما أثرها بأغلى الحلي والجواهر التي كانت تحمل إليه من غنائم الفتح في بلاد فارس والروم وأفريقية وغيرها .

على أن هذا لم يؤثر على مشاعر عمر رضي الله عنه الذي كان ينقم على عمه إسرافه مثل غيره من حكام بني أمية في قهر الرعية وكثرة المظالم التي ارتكبها في سبيل المحافظة على عرشه والقضاء على شتئ الحركات المناوئة لحكمه . كما لم ينس / عمر بن عبدالعزيز أن عمه جاء بالطاغية الثقفي / الحجاج بن يوسف ، وأطلق يده في البطش بكل من يخالف النظام الأموي . وحتى أم القرى البلد الحرام لم يتورع جنود الحجاج عن انتهاك حرمتها ، وضربوا الكعبة المشرفة بالمنجنيق ، وأحرقوا أستارها ، وأفسدوا موسم الحج ، و***وا / عبدالله بن الزبير رضي الله عنه لمجرد أنه رفض مبايعة أحد بعد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه .

كذلك بطش الحجاج - برضاء من عبدالملك - بأهل العراق والمدينة وبلاد الفتح في فارس وما وراءها ، كما لم يسلم / هشام بن إسماعيل نائب عبدالملك على المدينة وغيره من الولاة من ارتكاب العديد من الجرائم المنكرة والمظالم الفاجرة نزولا على أوامر بني مروان . وقد فزع / عمر بن عبدالعزيز عندما بلغته مقولة عمه عبدالملك : قد أصبحت لا أفرح بالحسنة إذا فعلتها ، ولا أحزن للسيئة إذا ارتكبتها ، فقد أدرك أنها دليل كما قال / سعيد بن المسيب رضي الله عنه على موت قلبه وأنه صار من الغافلين .

كذلك كظم عمر غيظه وهو يسمع عمه قبيل موته يوصي ولي عهده الوليد بتكريم / الحجاج بن يوسف طاغية العراق بحجة أنه هو الذي : " مهد لبني مروان البلاد وقهر الأعداء وخلصّ لعبدالملك وبنية الحكم وشتت الخصوم " !! ثم وهو يوصيه أيضا قائلا له : إذا أنا مت فادع الناس إلى بيعتك . فمن أبي فاضرب عنقه بالسيف !!

يا إلهي . حتى وهو على فراش الموت لا يتورع عن إسداء النصائح الآثمة والأوامر الفاجرة إلى ولي عهده بأن يواصل السير على درب القهر والظلم والطغيان ، فيكرم السفاح الدموي الثقفي ، ويطيح برقاب المسلمين إذا رفضوا توارث الحكم والاستئثار بالسلطة !! لهذا لم يكن عجيبا أن تسودّ وجوه هؤلاء بعد موتهم وأن يندم أحدهم ويلطم وجهه بيديه - وهو عبدالملك نفسه - ويلوم نفسه لأنه قبل الحكم وفرّط في طاعة الله عز وجل .

استهل / الوليد بن عبدالملك عهده بالبدء في بناء المسجد الأموي الكبير في دمشق عاصمة الخلافة في ذلك الوقت . وقد استمر تشيد هذا الصرح الحضاري الهائل طوال فترة خلافة الوليد وهي تسع سنوات ونصف السنة . ويروي أنه لم ينفق على بناء المسجد درهما واحدا من أموال المسلمين وإنما أنفق عليه 11 مليون دينارا من ماله الخاص . وأبى بشدّة أن يتحمل بيت المال شيئا من تكاليف بناء المسجد . ورغم اجتهاده في استمرار الفتوحات الإسلامية وإرسال الجيوش بصفة دائمة إلى بلاد الروم وأفريقيا وغيرها ، إلا أنه كان لا يتورع عن قمع المعارضين بقسوة وشراسة تماما كما أوصاه أبوه وهو على فراش الموت . وشاء قدر الله أن تمر بالناس نفحات من رحمته ، فقرر الوليد عزل / هشام بن إسماعيل عن إمارة مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم في سنة 87 بعد الهجرة ، وعيّن بدلا منه ابن عمه وزوج أخته / عمر بن عبدالعزيز . كان عمر قد بلغ خمسا وعشرين سنة عندما ركب بعيره في شهر ربيع الأول من هذا العام إلى يثرب ليباشر أعباء الولاية . نزل الوالي الشاب دار جده / مروان بن الحكم . وجاء الناس أفواجا يصافحون الأمير الجديد بسعادة بالغة ، وألسنتهم تلهج بحمد الله تبارك وتعالى أن جعل لهم بعد العسر يسرا ، ورفع عنهم ظلم الطاغية / هشام بن إسماعيل ، واستبدله بالفتي التقي الذي تربي بين ظهرانيهم وتشرّب العلم والورع من كبار علمائهم وفقهائهم . وكان أول ما فعله عمر رضي الله عنه بعد صلاة الظهر بالمسجد النبوي الشريف هو دعوة عشرة من كبار فقهاء المدينة هم / عروة بن الزبير ، و / عبيدالله بن عبدالله بن عتبة ، و / أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام و / أبو بكر بن سليمان بن خليفة و / سليمان بن يسار و / القاسم بن محمد و / سالم بن عبدالله بن عمر وأخوه / عبدالله بن عبدالله بن عمر و / عبدالله بن عامر بن ربيعة و / خارجة بن زيد بن ثابت .

دخل العشرة الكبار إلى مجلس الأمير الشاب ليعرفوا لماذا دعاهم وليسمعوا كيف يحكم هذا الفتى المدينة ، وهو الذي توسموا فيه الخير والصلاح منذ جاء إلى مجالسهم طفلا غضا يطلب العلم . حمد عمر ربه وأثنى عليه بما هو أهل له ثم قال موجها حديثه لأستاذته العشرة : " إني لا أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم . فإن رأيتم أحدا يتعدّى أو بلغتكم عن عامل لي مظلمة - ظلما للرعية - فاستحلف من بلغه ذلك أن يطلعني عليه ". بهذه العبارات المشرقة بدأ الأمير الشاب ولايته على مدينة رسول الله . لقد اختار مجلسا للشورى يضم كبار الفقهاء ووجهاء المسلمين من ذوي العلم والكفاية والعدالة والمكانة ليشاركوا في تحمل المسئولية ويشيروا عليه بالرأي الصواب ، لأن يد الله مع الجماعة ، ومن استبد برأيه فقد هلك . وهو أيضا يشدّد التنبيه على هؤلاء الصالحين الصادقين ألّا يتركوا واقعة تبلغ مسامعهم عن أي عامل من عماله يظلم فيها أحدا من الناس إلا أبلغوها له شخصيا ، حتى يتخذ فيها إجراء رادعا يعيد الحق إلى أهله ، ويعاقب العامل الظالم بشدّة كي لا يعيد الكرّة . خرج العلماء العشرة من مجلس / عمر بن عبدالعزيز وهم يدعون له بالتوفيق والعون والرشد . وكانت الخطوة التالية التي أقدم عليها عمر هي تمكين أهل المدينة من نيل حقهم المشروع في القصاص من الحاكم الظالم / هشام بن إسماعيل الذي أذاقهم ألوان العذاب والتنكيل طيلة 4 سنوات . ومن آيات أولياء الله الصادقين أنهم يعفون عند المقدرة ولا يجزون بالسيئة السيئة ، بل يحسنون إلى من اّذاهم وبطش بهم ، وهذا ما فعله العالم الجليل / سعيد بن المسيب و / علي بن الحسين رضي الله عنهما بهشام بن إسماعيل .

وربما كان من خصائص حكام بني مروان أنهم خلطوا أعمالا صالحة بأخرى سيئة ولم يخل أحدهم من مناقب حسنة وإن أساء وتعدي وظلم . وهم في جميع الأحوال بشر ابتلاهم الله بالرعية وابتلى الرعية بهم وابتلى الطائفتين بالدنيا . وليس مستحيلا أن تكون للجواد الأصيل كبوة وربما كبوات ، وأمر الجميع إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر . لقد اتسعت الفتوحات الإسلامية في عهد الأمويين بصفة عامة ، وكان الجهاد في سبيل الله فريضة ألزم بها الخلفاء أنفسهم وجيوشهم ، وأوصوا بها أولادهم ومن يأتي بعدهم ، واجتهدوا جميعا في العبادة والعلم ومحاربة الفتن والخرافات والأباطيل ونشر دعوة الإسلام وتعظيم شعائر الله. وعلي سبيل المثال فقد كان / عبدالملك بن مروان فقيها من المعدودين بالمدينة قبل توليه الخلافة ، وكان ابن عمر رضي الله عنه يرشحه للإفتاء وتدريس العلم . وقال أبو الزناد : فقهاء المدينة أربعة / سعيد بن المسيب و / عروة بن الزبير و / قبيصة بن ذؤيب و / عبد الملك بن مروان . وفي عهد عبدالملك اتسعت رقعة الدولة الإسلامية بضم بلاد ومناطق من المغرب وأرمينية وبلاد الفرس والروم . وكان ابنه الوليد حريصا على استمرار الجهاد في عهده ، وفتحت علي يديه الهند والأندلس وأفغانستان وأذربيجان وغيرها . وكان من أكثر الخلفاء اهتماما بالتشييد والعمران وخاصة بناء المساجد ومنها المسجد الأموي العريق بدمشق ، والمسجد النبوي الذي أصدر أمره إلى واليه على المدينة – عمر بن عبدالعزيز - بإعادة بنائه وتوسعته بإضافة حجرات أزواج الرسول صلي الله عليه وسلم وشراء ما حوله من الأراضي والبيوت بثمن عادل أو نزعها من أصحابها - بثمن أيضا إن رفضوا البيع - في سبيل توسيع مساحة مسجد النبي صلي الله عليه وسلم .

وكعادته جمع / عمر بن عبدالعزيز من بقي حيا من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وفقهاء المدينة العشرة وكبار الصالحين وذوي المكانة في يثرب ، وقرأ عليهم كتاب الوليد . كان هدم المسجد النبوي أمرا شاقا على النفوس ، وقال الفقهاء والصالحون إن حجرات زوجات الرسول صلي الله علية وسلم المتواضعة يجب أن تبقي على حالها ليعتبر بها الحجّاج والزوار القادمون من شتى بلاد المسلمين ويقتدون بما تمثله من الزهد والبساطة والقناعة من الدنيا باليسير ، فقد كانت حيطانها من الطوب اللبن المصنوع من الطين الذي لم يدخل النار ، وكانت سقوفها من جريد النخل ، وعلى أبوابها المسوح - أثواب مصنوعة من الشعر - فأراد الفقهاء أن تبقى على حالها ليري الناس بيوت نبيهم البسيطة فيزهدوا في الدنيا ولا يعمّرون فيها إلا بقدر الحاجة ، وهو ما يستر ويكن . وقال العلماء في ردهم على أمر الوليد : " إن البنيان العالي هو من أفعال الفراعنة والأكاسرة وكل طويل الأمل في الدنيا راغب في الخلود بها . وإزاء هذا الرأي توقف عمر رضي الله عنه وبعث إلى الوليد بما أجمع عليه العلماء وأهل الرأي والشورى . لكن الوليد رفض الانصياع لرأي الفقهاء ونفّذ رغبته هو في هدم المسجد وإعادة بنائه على أحدث طراز في ذلك الوقت مع توسيعه بمقدار مائتي ذراع طولا وعرضا . وللإنصاف نقرر أن الوليد كان أبعد نظرا وأصوب رأيا ، فقد كثر الناس واحتاج الحرم إلى عدة توسعات فيما بعد كما رأينا في عصرنا هذا . وما كانت تلك التوسعات ممكنة إلا بهدم الحجرات وإضافة مساحتها إلى المسجد . كما أنه لا حرمة لمبنى أو مكان في الإسلام إلا الكعبة المشرفة والمسجد النبوي والقبر الشريف وليس لحجرات زوجات النبي في ذاتها . وقد تولي / عمر بن عبدالعزيز إمرة الحج خلال العامين الأولين من خلافة الوليد وصلى بالناس صلاة الاستسقاء فأمطرت مكة وما حولها وأخصبت أرضيها بصورة غير معهودة ، ولعلها بركات الوالي العادل أشج بني مروان .

سار / عمر بن عبدالعزيز في أهل المدينة سيرة جده العظيم / عمر بن الخطاب . وسعد به الصحابة والتابعون لما وجدوا فيه من القدوة الصالحة لغيره من الحكام ، وعوضا للمسلمين عما يفعله / الحجاج بن يوسف وغيره من عمال / الوليد بن عبدالملك . قال عنه الصحابي الجليل / أنس بن مالك رضي الله عنه : " ما صليت وراء إمام - بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم - أشبه صلاة بالرسول صلي الله عليه وسلم من هذا الفتي " . يقصد / عمر بن عبدالعزيز أمير المدينة . وقال / زيد بن أسلم رضي الله عنه : كان عمر يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود . وجاء إليه رجل صالح ذات يوم فأخبره بأنه رأى النبي صلي الله عليه وسلم في المنام ، وكان / أبو بكر رضي الله عنه يجلس على يمينه ، و / عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلس على يساره وأمامهم رجلان يختصمان وبين يدي الرسول صلي الله عليه وسلم كان / عمر بن عبدالعزيز جالسا . وقال النبي صلي الله عليه وسلم لابن عبدالعزيز : " يا عمر إذا عملت فاعمل بعمل هذين – أبو بكر وعمر بن الخطاب ". ولم يطمئن عمر بن عبدالعزيز حتى أقسم له الرجل أنه رأى هذا في منامه وتحقق من كل كلمة أمره بها الرسول صلي الله عليه وسلم . حينئذ لم يتمالك / عمر بن عبدالعزيز وجعل يبكي مشفقا على نفسه من ثقل التبعة ، ووعورة الطريق ، وقلة الزاد ، وبعد السفر . ورغم كثرة الصحابة والتابعين الأجلّاء في مكة والمدينة كان / عمر بن عبد العزيز - رغم حداثة سنه - يؤم الناس في الحج طيلة سنوات ولايته على مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم ، اللهم إلا سنة واحدة حج فيها بالناس / الوليد بن عبدالملك ، وصحبه عمر خلالها أيضا . وقد استطاع عمر رضي الله عنه أن يلطّف من حدّة / الوليد بن عبد الملك ، وأن يقنعه بالتخلي عن إيذاء كبار الفقهاء والصالحين الذين رفضوا بيعته ، على خلاف ما كان الحجاج الخبيث يفعل زلفى ونفاقا للوليد .

خرج أشراف المدينة لاستقبال / الوليد بن عبدالملك أثناء مروره بها في طريقه إلى الحج ، ولم يخرج معهم فقيه المدينة / سعيد بن المسيب رضي الله عنه الذي تعرض للضرب والسجن والتشهير لرفضه مبايعة الوليد . وأراد الوليد أن يصلي بالمسجد النبوي الشريف فأخلاه حراسه من الناس ، لكن أحدا لم يجرؤ على إخراج عالم المدينة / سعيد بن المسيب من المسجد . حدث هذا رغم أن العالم الجليل كان يرتدي في تلك اللحظات ثوبا رخيصا ثمنه خمسة دراهم !! ولكن متى كان للثياب دور في تقييم الرجال ، أو احتساب مكانة العلماء وأقدار أهل الطاعة والتقوى ؟ تجاسر أحد الحراس فقال لسعيد : تنح عن المسجد أيها الشيخ فإن أمير المؤمنين قادم . غضب ولي الله من جرأة زبانية الحاكم ، وسوء أدبهم في مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم .

إذ لم يفعلها أحد من الخلفاء الراشدين ، فلم تكن الشرطة تطرد العامة من المسجد النبوي ليصلي فيه أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي بن أبي طالب . ومن هو الحاكم ؟ إنه داخل المسجد أو خارجه ليس إلا واحدا من المسلمين ، لا فضل له على الآخرين ، ولا يجوز له أن يتميّز على أفقرهم بشيء سوى التقوى والعلم وحسن الأدب مع الله . وهكذا أصرّ سعيد على عدم طاعة الأوامر ، ورفض أن يغادر المسجد مهما حدث . استولى الرعب على الحراس فقد كان الوليد جبارا رهيبا إذا غضب ، وخشي الجميع أن ينقم الوليد على العالم الجليل عزّة نفسه ، وقلة اكتراثه بالحاكم ، وبصفة خاصة لأنه رفض أن يبايعه من قبل . ولم يكن ابن المسيب يحب عبدالملك ، وأعلن رفضه القاطع لانتقال السلطة بالميراث البغيض الذي لا شوري فيه ولا رأي للمسلمين . وكان قد رفض أيضا تزويج ابنته الحسناء للوليد بن عبد الملك وأنكحها تلميذا فقيرا من تلاميذه هو / كثير بن وداعة وكان مهرها درهمان فقط !!. مما تسبب في ازدياد سخط / عبدالملك وولده على سعيد .

دخل الوليد إلى المسجد النبوي ومعه / عمر بن عبدالعزيز . صلى الرجلان في مختلف أرجاء المسجد ، وجعل الوليد يتنقل هنا وهناك ليدعو ويستغفر ربه ، وعمر يحاول أن يبعده عن الموضع الذي كان / سعيد بن المسيب جالسا فيه وحده . تلفت الوليد أثناء تفقده للمسجد فرأي الشيخ الجليل . سأل رفيقه : من هذا ؟ أهو / سعيد بن المسيب ؟ أجاب / عمر بن عبدالعزيز : نعم يا أمير المؤمنين ، ولو علم أنك قادم لقام إليك وسلم عليك – قال عمر ذلك كي لا يغضب الأمير على الشيخ – لم يصدّق الوليد وقال لعمر : قد علمت بغضه لنا . فسارع عمر رضي الله عنه بالنفي ، وأثني على العالم الجليل ، وأفاض في سرد مناقبه وسجاياه حتى أقر الوليد بفضله ومكانته . وقال : عمر مدافعا عن الفقيه المسنّ : يا أمير المؤمنين إنه ضعيف البصر – يعني أن ضعف بصره جعله لا يرى الخليفة وهو يدخل المسجد فلم يقم له – فرد الوليد : نحن أحق بالسعي إليه .

ورأي الناس يومئذ عجبا / الوليد بن عبدالملك أقوي حكام الأرض في تلك الفترة ، الذي فتحت جيوشه معظم قارتي أسيا وأفريقيا وأجزاء كبيرة من شرق أوروبا ، يقف بكل قوته وسلطانه وأمواله خاشعا مترفقا أمام كهل أعزل عليه ثوب بخمسة دراهم !! ويلقي الوليد عليه السلام ، فيرد الشيخ الجليل السلام وهو جالس في موضعه لم تهتز في جسده شعرة !! ولم الدهشة ؟ أليس هو نفسه العالم والفقيه الذي رفض من قبل أن يزوّج ابنته للوليد بن عبدالملك بن مروان وجلب على نفسه الأذى في ذلك الحين بسبب رفضه لهذه المصاهرة المشرّفة بمقاييس أهل الدنيا !!؟

سأله الوليد : كيف حال الشيخ ؟ رد سعيد بن المسيب : بخير والحمد لله وحده . كيف حال أمير المؤمنين ؟ رد الوليد : بخير والحمد لله . بهذه العبارات القصيرة انتهت المقابلة ، ومضي الوليد من المكان وهو يردد مشيرا إلى / سعيد بن المسيب : هذا فقيه الناس !! إنه الإسلام العظيم الذي يربّي في النفوس العزة والكرامة والشجاعة ، فلا ترهب إلا الله ولا تخضع لسواه .

ويبدو أن / الحجاج بن يوسف الثقفي عزّ عليه أن يسمع ثناء الناس ودعواتهم لعمر بن عبد العزيز ، بينما كانوا يصبّون عليه لعناتهم ليل نهار لما يسفك من الدماء ويستحل من المحرمات وإن كان مجتهدا متعبّدا فيما دون ذلك . اشتعل حقد الطاغية الثقفي أكثر وكاد صدره ينشق غيظا عندما سمع برأي عمر فيه ، وعلم أنه أرسل إلي الوليد يطالبه بإبعاد الحجاج لكف الظلم عن الرعية . وجاء بالرسالة على لسان عمر : " إن أهل العراق في ضيم وضيق مع الحجاج لظلمه وغشمه ، ولو جاءت كل أمة بخطاياها ، وجاء بنو مروان بالحجاج وحده لكفاهم ". وطالب الحواري الصالح ابن عمه – الخليفة – بعزل الحجاج والقصاص منه ورد حقوق المسلمين المغتصبة إليهم . وكعادة كل الظالمين المستبدين ، تشبث الحجاج بكل قواه بموقعه وكرسيه ، ولجأ إلى الدس والوقيعة بين الوليد و / عمر بن عبدالعزيز ليبقى في منصبه . كتب الطاغية إلى / الوليد بن عبدالملك يحذره من خطورة استمرار / عمر بن عبدالعزيز في ولايته على المدينة ومكة ، زاعما أن سياسة عمر من شأنها أن تفسد الرعية على الخليفة ، ولا تستقيم معها أحوال الدولة ! وقال طاغية العراق للوليد : " إن عمر ضعيف عن إمرة الحرمين ، وهذا ضعف في الحكم ، فاجعل على الحرمين - مكة والمدينة – من يضبط أمرهما " !!. واّثر الوليد الدنيا والهوى فأبقى على السفاح الثقفي ، وعزل والي المدينة العادل !! كذلك أغري / الحجاج بن يوسف أميره / الوليد بن عبدالملك بخلع أخيه / سليمان من ولاية العهد ليعهد بدلا منه إلى ابنه / عبدالعزيز بن الوليد . إنها ذات اللعبة الخبيثة التي فشل في إتمامها مع / عبدالملك بن مروان وأخيه عبدالعزيز !! وقد فشل هذه المرة أيضا بسبب رفض / عمر بن عبدالعزيز . وانتهز الحجاج الفرصة السانحة فألهب صدر الوليد وحرّضه على ابن عمه ، وما زال به حتى أمر بحبسه في مكان سدت جميع منافذه ليموت جوعا وعطشا !! وتسامع الناس بما فعل الوليد بزوج أخته وابن عمه حاكم المدينة السابق الذي تحدثت بورعه وعلمه وتقواه الركبان في البوادي ، والمنتديات في الحضر .

وبدأت بوادر ثورة شعبية هائلة تلوح في الأفق ، ونقل جواسيس الوليد إليه ما يتحدث به الناس في سخط متزايد عن اعتقال / عمر بن عبدالعزيز لوقوفه ضد الظلم والطغيان . ورأى الوليد أجواء البلاد مليئة بسحب قاتمة من غضب يوشك أن يمسي جحيما لا يبقي ولا يذر ، فاضطر إلى إخلاء سبيل ابن عمه - بعد ثلاثة أيام فقط - قبل اندلاع الثورة فى دمشق ومكة والمدينة وغيرها من بلاد المسلمين .

وشاء القدر أن تعم الفرحة بعد ذلك بقليل بهلاك / الحجاج الثقفي – في سنة 95هـ - وبموته انهار ركن كبير من أركان دولة بني مروان واستراح أهل العراق أخيرا من إجرامه وطغيانه . كما لم يلبث / الوليد بن عبدالملك أن مرض وتوفي في يوم السبت منتصف شهر جمادى الآخر عام 96 هـ. وحمل جثمان الوليد إلى قبره . وخطب / عمر بن عبدالعزيز الذي صلى عليه وتولى دفنه في الناس ووعظهم قائلا : " هذا / الوليد بن عبدالملك يلقى ربه . فاليوم ننزله غير موسد ولا ممهد ، قد خلف الأسلاب ، وفارق الأحباب ، وسكن التراب ، وواجه الحساب ، فقيرا إلى ما قدم ، غنيا عما أخر ".

تولي الخلافة بعد الوليد أخوه / سليمان بن عبدالملك واستهل عهده بتعيين ابن عمه / عمر بن عبدالعزيز مستشارا ونائبا له . وقد كان سليمان عاقلا عادلا شديد التواضع يريد الإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ولم يكن يلهث وراء مجد شخصي زائل ، ولهذا لم يجد عيبا في أن يصارح ابن عمه وزوج أخته / عمر بن عبدالعزيز قائلا : " إنّا قد ولينا ما ترى ، وليس لنا علم بتدبيره ، فما رأيت من مصلحة الناس فمر - أصدر أمرا به – فليكتب ". وقد أعطى بذلك لمستشاره / عمر بن عبدالعزيز - تفويضا صريحا بلا حدود لاتخاذ ما يراه صالحا من قرارات وتنفيذه على الفور . وكان عمر رضي الله عنه وزير صدق عند حسن الظن به ، فبدأ رضي الله عنه بنواب الحجاج على البلاد فعزلهم وأراح الناس من ظلمهم ، وأمر بإطلاق جميع السجناء والأسري الذين اعتقلهم الحجاج الثقفي بلا ذنب .

وكان عددهم يزيد على 81 ألف سجين منهم 30 ألف امرأة !! وقرر عمر تخصيص جزء كبير من موارد الدولة للإنفاق على الفقراء والمساكين وغيرهم من المستحقين ، وخاصة في العراق التي حرم الحجاج معظم أهلها من أنصبتهم المستحقة في بيت المال . وأمر برد الصلاة إلى ميقاتها . وكان الحكام من بني مروان يؤخرون الصلوات عن أوقاتها إتباعا للهوى بلا نص شرعي أو سنّة ثابتة . وكان من أوامره إرسال جيش كبير لغزو القسطنطينية وجهاد أهلها الذين بغوا على جيرانهم من المسلمين . واستمر هذا حال الخليفة ونائبه طوال فترة حكم سليمان - سنتان وثمانية أشهر – وقد شهد الكثيرون لسليمان بن عبد الملك بالتقوى والصلاح ، وذكروا أنه كان شديد الورع يحافظ على الصلوات ، وينهى عن الغناء لأنه رسول الشيطان ، ويبكي من خشية الله .

وقد حج رضي الله عنه بالناس سنة 97 هـ ، فعجب لكثرة الحجيج ، وقال لعمر بن عبد العزيز : ألا ترى هؤلاء الحجّاج الذين لا يحصي عددهم إلا الله ولا يسع رزقهم غيره ؟! فقال له عمر : يا أمير المؤمنين هؤلاء رعاياك اليوم ، وهم خصماؤك غدا أمام الله تعالي . فبكي سليمان بحرارة وقال : بالله استعين .

ثم خرج / سليمان بن عبدالملك إلى مرج دابق بعد خروج جيش أخيه / مسلمة بن عبدالملك لفتح القسطنطينية وتأديب الرومان الذين غدروا بجانب من جيش المسلمين ، وأوهموهم بالمصالحة والأمان ، ثم ***وا عددا منهم وأسروا الباقين . وأقسم سليمان ألا يرجع إلى دمشق حتى يفتح الجيش مدينة القسطنطينية أو يقبضه الله إليه قبل ذلك . وشاء القدر أن تتحقق الثانية ، إذ أصيب سليمان بالحمى وأحس أسفا باقتراب أجله قبل أن يأتي خبر النصر .

وجاء إليه الوزير الصدوق / رجاء بن حيوة فسأله سليمان : لمن يعهد بأمر المسلمين ؟ أجاب رجاء : إن مما يحفظ الخليفة في قبره أن يولّي على المسلمين رجلا صالحا . قال سليمان : ما تقول في ابني داود ؟ أجاب رجاء : إنه غائب عنك – كان في جيش مسلمة الذي توجه لفتح القسطنطينية – ولا ندرى هل حي أو ميت . عاد سليمان يرشح ابنا له صغيرا لم يبلغ الحلم فعارضه / رجاء بن حيوة حتى صرفه عن ذلك . سأله سليمان : ما تري في / عمر بن عبدالعزيز ؟

استبشر رجاء خيرا وقال : أعلمه والله خيّرا فاضلا مسلما يحب الخير وأهله . صاح سليمان : هو والله على ذلك – يقصد أنه سينفذ ترشيحه لعمر بن عبدالعزيز وإن رفض إخوته أبناء عبدالملك – وهنا فكر الوزير الذكي لبعض الوقت ، ثم قال لسليمان : أرى أن تجعل ولاية العهد بعد / عمر بن عبدالعزيز ليزيد بن عبدالملك ليرضى بذلك بنو مروان . ووافق سليمان وكتب عهده لعمر واستدعى / كعب بن حامد العبسي صاحب الشرطة فقال له : اجمع أهل بيتي ومرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب – مغلقا – فمن أبى منهم فاضرب عنقه . وجاء إخوة سليمان والأمراء والوجهاء وأبناؤهم وأبناء عمومته ليزوروه وفوجئوا به يأمرهم بالبيعة لمن عهد إليه في الكتاب المختوم قبل أن يموت .
__________________
Im faded
رد مع اقتباس
  #74  
قديم 13-04-2014, 08:28 AM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
افتراضي

أما / عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه فقد أدرك بفراسته أنه هو المرشح ولا أحد سواه ، إذ لا مبرر لإخفاء اسم خليفة سليمان متى كان أحد أخوته أبناء عبدالملك ، فهم لن يتصارعوا طالما بقيت لأحدهم . وكان سبب تخوف عمر رضي الله عنه من المسئولية الثقيلة رؤيا زار فيها النبي صلي الله عليه وسلم في روضة خضراء ، وأخبره بأنه سيلي أمر الأمة ، وحذّره من الوقوع فيما وقع فيه من سبقوه ، وخاصة إراقة دماء المسلمين . وفي رؤيا أخري قال له الرسول صلي الله عليه وسلم : ادن – اقترب يا عمر ، فأطاع عمر واقترب منه حتى خشي أن يصطدم به ، فقال له صلي الله عليه وسلم : " إذا وليت فاعمل نحوا من عمل هذين " وأشار الى كهلين بجواره ، فسأله عمر : ومن هذان ؟ فأجاب صلي الله عليه وسلم : " هذا أبو بكر وهذا عمر بن الخطاب ".

حينئذ أحس / عمر بن عبدالعزيز أنه هو الذي استقر رأي سليمان على ترشيحه للخلافة ، فذهب إلى / رجاء بن حيوة وقال له : أنشدك الله وحرمتي ومودتي أن تعلمني إن كان كتب لي ذلك – الخلافة – حتى أستعفيه منها قبل أن يأتي حال لا أقدر فيه على ما أقدر عليه الآن . لكن رجاء رفض بإصرار أن يطلع عمر على شيء مما كتبه سليمان في عهده المختوم . ثم جاء / هشام بن الملك إلى رجاء فقال له : يا رجاء إن لي بك حرمة ومودة قديمة ، فأخبرني عن هذا الأمر – الخلافة – إن كانت إليّ علمت وإن كان لغيري نظرت ما يمكنني عمله ، فما مثلي يفوته هذا . ورفض الوزير الأمين أن يطلع شقيق الخليفة أيضا على شيء . وعندما صعدت روح / سليمان بن عبدالملك إلي الملأ الأعلى ، جاء / كعب بن حامد صاحب الشرطة و / رجاء بن حيوة فجمعا الناس في المسجد الكبير بدابق وأخذا البيعة مرة ثانية لمن في الكتاب . تغيرت وجوه بني مروان عندما قرأ عليهم / رجاء بن حيوة عهد / سليمان بن عبدالملك إلى / عمر بن عبدالعزيز . وغضب / هشام بن عبدالملك وكان أكثر إخوته طمعا في الخلافة ، وأعلن رفضه مبايعة / عمر بن عبدالعزيز .

نهره / رجاء بن حيوة رضي الله عنه ، وقال له بحزم : " أضرب عنقك والله . قم فبايع ". وهدأ الباقون عندما سمعوا أن ولاية العهد ليزيد بن عبدالملك ، فقاموا جميعا ليبايعوا / عمر بن عبدالعزيز . كان عمر رضي الله عنه جالسا في مؤخرة المسجد مشفقا يرتجف مما يسمع . عندما تأكد أنه ابتلي بالخلافة ، راح يردد : " إنا لله وإنا إليه راجعون " !! إنها قولة المؤمن إذا أصابته مصيبة ، فهل المنصب الذي تطمح إليه أبصار وأفئدة الكثيرين ، ويتصارعون عليه ، ويتفانون من أجله ، يمثل عند هذا الشاب التقي مصيبة يسترجع ويئن لوقعها عليه ؟! أجل . إنها لكبرى المصائب والتبعات ، أن تلقي أحمال مئات الملايين من المسلمين وأهل الذمة وهمومهم وآلامهم وأمالهم على كتفي رجل واحد كائنا من كان . وقد كان عمر رضي الله عنه يعلم أنها أمانة عسيرة الحساب ، شديدة العناء ، لا قبل لبشر بها إلا من أعان الله وقليل ماهم .

حاول أن يقوم من مكانه فأبت قدماه أن تحملانه . مكث برهة يغالب نفسه المأخوذة من رهبة المسئولية . أدرك / رجاء بن حيوة بفطنته ما حدث للأمير ، فأمر الحراس بحمله حتى وضعوه على المنبر ، وأمر الناس فأقبلوا متهللين يبايعون الخليفة الجديد ، ونهض عمر بعد فترة ليخطب في الناس . إنه ما زال يحاول تخليص عنقه من أغلال الحكم وأهوال السلطة ، ومن حسراتها وأحزانها يوم القيامة إلا من رحم الله . وقد كان يأخذ على من قبله أنهم يتداولون الحكم فيما بينهم بغير شورى أو اختيار حر من المسلمين ، فكيف يقبل اليوم لنفسه ما أنكره على غيره بالأمس ؟

وتكلم أخيرا فكان أول ما قاله : " أيها الناس إني لست بمبتدع ، ولكني متبع ، وإن من حولكم من الأمصار – الأقاليم – والمدن إن أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم ، وإن هم رفضوا فلست لكم بوال . ويروى أيضا أنه أعفى من بايعوه وطالبهم باختيار وال آخر بدلا منه !! إنه الورع والتعفف وعمق الفقه والبصيرة . فإذا كان الإسلام ينهى الفرد عن إمامة المصلين – في الصلاة – بغير رضا منهم ، فكيف يتولى الخلافة عليهم بدون إذنهم ورضاهم ؟ ألمجرد أن الخليفة السابق اختاره لهذا المنصب ؟! لقد اّن الأوان ليعود الحق إلى نصابه ، ويترك اختيار الحاكم للرعية ، كما فعل الرسول صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده . ارتج المسجد بصيحات مدوية تجدد البيعة للأمير الراشد ، وتلح عليه في التراجع عن موقفه ، فما يصلح لها غيره ، وما يرتضون به بديلا ، وقد علموا أنهم إذا تركوه يعودون إلى سابق العهد المرير من الملك العضوض والاستبداد البغيض الذي نغّص على الأتقياء دينهم وعيشهم . وعندما أيقن عمر أنه لا مفر أمامه من قبول المسئولية خطب في الحاضرين مرة أخرى قائلا " أيها الناس . من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فليفارقنا . يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفع حاجته ، ويعيننا على الخير بجهده ، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه ، ولا يغتابن عندنا أحدا ، ولا يعرضن فيما لا يعنيه ".

بهذه الكلمات البليغة الموجزة وضع عمر دستور التعامل بينه وبين رعيته وعماله وحاشيته . وعندما سمع الناس ما قال : الخليفة الجديد أيقن العلماء والصالحون والزهاد أنهم وجدوا أخيرا بقية من رشد الخلافة الأولى وتقواها ، ويئس الظالمون والمنافقون وبطانة السوء ، وقام كل مظلوم ومقهور ومجني عليه يبغي القصاص ورد المظالم على يدي راشد بنى مروان .

بعد دفن / سليمان بن عبدالملك جاء الحراس بمراكب الخليفة ، وهي جياد ثمينة عليها فرش وزينة فاخرة . تطلع عمر إلى الخيول وهو يتمتم : " ما شاء الله لا قوة إلا بالله ". كل هذه الخيول وزينتها باهظة الثمن من أجل رجل واحد !! حتى لو كان هو حاكم المسلمين ، فماذا عليه لو قنع بدابة واحدة ، وتخلص من هذا الموكب المهيب الذي هو إلى الرياء والمفاخرة أقرب من أي شيء آخر ؟ ثم كيف يرضى الحاكم بأن يخصص له مثل هذا الموكب بالغ الإسراف ؟! وكان القرار الأول الذي أصدره الخليفة الجديد هو بيع خيول موكب الخلافة وزينتها ولوازمها ، وإيداع ثمنها بيت مال المسلمين . ومضى رضي الله عنه إلي بيته مهموما ، فسأله أحد مرافقيه : مالك مهموما هكذا وليس هذا وقت الهم والغم ؟ قال له عمر :

" ويحك . ومالي لا أغتم ، وليس أحد من أهل المشارق والمغارب من هذه الأمة إلا وهو يطالبني أن أؤدي حقه إليه ، كتب في ذلك إليّ أو لم يكتب ، طلبه مني أو لم يطلب ". هكذا كان يفكر العبد الصالح الذي يقدر المسئولية ، ويدرك التبعة . وعندما جاء صاحب الشرطة ليسير بين يديه حاملا الحربة – على عادته في مواكب من سبقه من الخلفاء – نهره عمر وأمره بأن يتنحى عن موضعه ، فما الخليفة إلا رجل من المسلمين . وعندما وصل عمر إلى دمشق توجه إلى المسجد فصعد المنبر أيضا وقال للناس : إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي مني فيه ولا طلب له ، ولا مشورة من المسلمين ، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي ، فاختاروا لأنفسكم ولأمركم من تريدون . تصايح الحاضرون بصوت واحد : قد اخترناك لأنفسنا ورضينا بك كلنا : لا مفر إذن يا عمر فهذا قدرك المحترم . قالها لنفسه يائسا من تراجعهم عن بيعته . بعد برهة حمد الله وأثني عليه وقال : أوصيكم بتقوى الله ، فإن تقوى الله خلف من كل شيء ، وأكثروا من ذكر الموت فإنه هادم الملذات ، وأحسنوا الاستعداد له قبل نزوله ، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها ولا في نبيها ولا في كتابها ، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم ، وإني والله لا أعطي أحدا باطلا ، ولا أمنع أحدا حقا . أيها الناس . من أطاع الله وجبت طاعته ، ومن عصى الله فلا طاعة له ، أطيعوني ما أطعت الله ، فإن عصيت ربي فلا طاعة لي عليكم ".

وفور نزوله من المنبر أمر بالستائر والثياب التي كانت توضع للخلفاء فعرضت للبيع ، ووضع ثمنها في بيت المال . وأبى رضي الله عنه أن ينزل بدار الخلافة حتى تفرغ بعد حين من آل / سليمان بن عبدالملك . ولم يكد عمر يضع رأسه على وسادة في بيته ليستريح – وقت الظهيرة – حتى طرق عليه ابنه عبدالملك الباب . قال لأبيه : أتقيل – تستريح وقت القيلولة – يا أمير المؤمنين ، ولا ترد المظالم إلى أهلها ؟ قال عمر : إني قد سهرت البارحة في أمر سليمان – دفنه – فإذا صليت الظهر رددت المظالم . قال له ابنه : ومن يضمن لك أن تعيش إلى الظهر ؟ إنها ذرية بعضها من بعض حقا . قبّل عمر ولده سعيدا بتقواه ونصحه له بالخير ، وقام من فوره إلى المسجد حيث نادي مناديه أصحاب الحقوق والمظالم ليعرضوها على الخليفة . كانت المظلمة الأولى هي شكوى أحد الذميين – أهل الكتاب – من أن / العباس بن الوليد بن عبدالملك اغتصب أرضه بحمص . كان العباس موجودا فسأله عمر : ما تقول يا عباس ؟ أجاب العباس : نعم . أعطاني أبي هذه الأرض – وقت خلافته – وكتب لي بها سجلّا – عقدا – قال عمر : ما تقول يا ذمي ؟ أجاب الرجل : يا أمير المؤمنين كتاب الله تعالي . قال عمر : نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد . يا عباس قم فرد إلى هذا الرجل أرضه ، وأطاع العباس بلا تردد .

جاء عمر إلى بيته . أسرعت إليه زوجته الحسناء / فاطمة بنت عبدالملك لتهنئه بالخلافة . ذهلت عندما رأت ما يكسو وجهه من شحوب وهم . تركته داخل المسجد الصغير الذي أقامه في ركن من بيته حيث جلس واضعا يده على خده وتساقطت الدموع من عينيه . روعت فاطمة . أقبلت عليه تسأله في فزع : مالك ؟ أجاب عمر " يا فاطمة . إني قد وليت من أمر هذه الأمة ما تعلمين ، ففكرت في الفقير الجائع ، والمريض الضائع ، والعاري المجهود ، واليتيم المكسور ، والأرملة الوحيدة ، والمظلوم المقهور ، والغريب والأسير ، والشيخ الكبير ، وذي العيال الكثير والمال القليل ، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد ، فعلمت إن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة ، وأن خصمي دونهم محمد – صلي الله عليه وسلم – فخشيت أن لا تثبت لي حجة عند مخاصمته ، فرحمت نفسي فبكيت . راحت فاطمة تواسيه ، وتهون عليه . تطلع إليها . إنها شريكة عمره ، وأم ولده ، وابنة عمه ، لكن عمر رضي الله عنه كان يفكر في أمر ، طالما نغص عليه صفاء روحه ، وظلل حبه لزوجته فاطمة بسحابة من الاستياء والضيق . لقد آثرها أبوها / عبدالملك بن مروان بجواهر جاءت إليه من غنائم الفتوحات الكثيرة في عهده . وقد كان عمر يكره أن يراها على جسد زوجته وهو يعلم جيدا أن مكانها هناك في بيت مال المسلمين . وقد بدأ خلافته برد الحقوق إلى أهلها حتى خاتم صغير أعطاه له الوليد يوما قام برده إلى بيت المال ، وعليه الآن أن يمضي حتى نهاية الشوط ، ولا ينسي أهله والمقربين إليه . قال لفاطمة : أي زوجتي الحبيبة . عليك الآن أن تختاري . إما أن تردّي هذه الحلي إلي بيت المال ، أو أن تأذني لي في فراقك ، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهذه الحلي في بيت واحد . دمعت عينا فاطمة . لقد أحبت عمر منذ باكورة الصبا لتقواه ومكارم أخلاقه وعلمه ، ولم يدر في خلدها يوما أن تفكر في المفاضلة بين الحياة معه وبين كل أموال الدنيا ونعيمها الفاني ، وإنها لتعلم علم اليقين أنه صادق في رد أموال المسلمين إليهم ، وأن زوجها رجل لا يخشى في الله لومة لائم ، ولا يبيع دينه لإرضاء صاحبة أو ولد . هتفت على الفور : بل أختارك عليه وعلى أضعافه . قامت إلى حجرتها فجمعت حليها ، وخلعت ما كانت ترتدي ، وجاءت بكل ثمين وغال من متاعها ووضعته كله في صندوق بين يدي زوجها ، فأمر بحمله إلي بيت المال . سألته فاطمة : هل استرحت الآن يا أمير المؤمنين ؟ رد عليها قائلا أن هناك أمرا ثانيا يريد إطلاعها عليه . تطلعت إليه في لهفة . نادى رضي الله عنه كل جواريه . أقبلن بسرعة ليسمعن ما يقول . راح يتفرس فيهن ، وينقل بصره بينهن . لطالما استمتع بهن أيام الفراغ والشباب والنعيم ، أما الآن فقد نزلت به أمور جسام ربما منعته من أداء حقوق نسائه عليه ، وحاشا لله أن يترك مشاكل المسلمين ومصائرهم لينعم بالتعطر والتنقل بين مخادع نسائه ، وإن كان ذلك كله حلالا طيبا يؤجر عليه . قال لهن : قد نزل بي أمر شغلني عنكن : فمن أحبت أن أمسكها أمسكتها وإن لم يكن مني إليها حاجة - يقصد أنه لن يكون متفرغا لهن – فبكت الجواري وعلت صرخاتهن حزنا على حرمانهن من سيدهن الذي يحبه الجميع ، واّثرن البقاء معه على الحرية . وكذلك بكت فاطمة رضي الله عنها عندما خيّرها عمر بين البقاء معه بلا فراغ منه لها ، وبين الطلاق ، ورضيت بالبقاء إلى جانبه لتعينه على أمر الخلافة مهما كلفها ذلك من تضحيات . وكذلك أعتق عمر أحب جواريه إلى قلبه وكانت من بلاد المغرب بغير أن يقربها ، عندما علم أنها وقعت في الأسر بطريق الخطأ ، وأن واليه هناك اتخذها جارية لمعاقبة والدها على جناية ارتكبها ، فأمر الخليفة بردها إلى أهلها حرّة كريمة لم يمسسها أحد بسوء .

أنجز عمر رضي الله عنه خلال فترة خلافته القصيرة - عامان ونصف فقط - من الأعمال الخالدة ، ما لا يستطيع غيره إنجازه في عشرات السنين وما يستعصى على الحصر . فقد بسط العدل في كل أنحاء البلاد الإسلامية من أفغانستان والهند شرقا إلى أقصى بلاد المغرب العربي غربا . وعم الرخاء الجميع على نحو لم يسبق له مثيل . ثم هناك أيضا بسط الأمن بلا بطش أو سفك للدماء كما وقع في عهود من سبقوه من حكام بنى أمية . وتحرر في عهده المبارك مئات الألوف من العبيد والجواري . فقد فاضت أموال الزكاة والخراج والصدقات في خلافته ، ولم يجد ولاته على الأقاليم فقراء يعطونها لهم ، فاشتروا بها مئات الألوف من العبيد وأعتقوهم . ومن أعمال عمر رضي الله عنه أيضا المذكورة إنقاذ جيش / مسلمة بن عبدالملك ، من مكيدة خبيثة نصبها له الرومان قرب القسطنطينية .

والقائد العبقري الشجاع ليس هو ذلك الذي يهاجم بجرأة وبسالة فقط ، إنما هو الذي يتقدم وينقض حين تكون الظروف مواتية لذلك ، وينسحب بانتظام عندما يكون الاستمرار في القتال ضربا من الجنون والانتحار . وقد كان عمر رضي الله عنه من الأتقياء الذين يضنون بالدماء الطاهرة الذكية ، أن تراق عبثا في معركة خاسرة . ولهذا أرسل إمدادات عاجلة من الطعام والمؤن ، إلى جيش مسلمة ، وأمره بالعودة إلى الشام بعد أن انقضت على الجنود فترة طويلة قاسوا خلالها من ندرة الطعام والماء وسوء الأحوال الجوية وغدر الأعداء .

وطوال عهد عمر قل نشاط الخوارج المناهض للدولة ، فقد أحجم الكثيرون منهم عن مناصبة الخليفة العادل العداء ، وأيقنوا أنهم لن يجدوا عليه من المآخذ والعيوب ما كانوا يجدونه فيمن سبقوه من حكام بني أمية . أما القلة القليلة التي أصرّت على الباطل ، فقد وكّل بها عمر جيشا شتت جماعتها وكسر شوكتها ، بعد أن عجز الحوار والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة عن كبح جماحها . كان رضي الله عنه ينهى جنوده عن *** من لا يحاربهم من الخوارج ، ويأمر الولاة بأن يحبسوا من يؤذي الناس منهم ، بعض الوقت حتى يهتدي إلى الحق أو يجعل الله له سبيلا . كذلك أبطل عمر ما كان بعض الأمويين قد ابتدعوه من الشر والبهتان وقطيعة الأرحام . فقد كان بعض من سبقوه يأمرون خطباء المساجد بسب الإمام / علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على المنابر ، فلما ولى عمر الخلافة نهى عن ذلك ، وكتب إلى نوابه في البلاد يأمرهم باستبدال السباب والفسوق والعصيان بآية من كتاب الرحمن تقول : " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون ". ولا تزال هذه الآية الكريمة تتلى على المنابر إلى يومنا هذا . وكان يثني على الإمام علي . ويقرب إليه بناته وأحفاده ، ومن يأتيه من بني هاشم لقرابتهم من الرسول صلى الله عليه وسلم . وقال لأحدهم ذات مرة : إني أستحي من الله أن تقف ببابي ولا يؤذن لك .

وقال لآخر : إني أرغب بك عن دنس الدنيا – يقصد أنه لا يوليه منصبا في خلافته – لما أكرمكم الله به . ويصف ما كان بين بني هاشم وبني عمهم من الأمويين من تنافس قائلا : كنا وبنو عمنا أل هاشم نتسابق ، مرة لنا – نسبقهم في الفضل – ومرة لهم ، نلجأ إليهم ويلجأون إلينا حتى طلعت شمس الرسالة فأكسدت كل نافق – هالك – وأخرست كل منافق ، وأسكتت كل ناطق . ولهذه الخصال النبيلة والسجايا الكريمة أحبته الرعية وأحبه آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى كانت فاطمة بنت علي كرم الله وجهه تثني عليه بعد موته ، وتقول : جزاه الله خيرا لو كان بقى لنا ما احتجنا بعده إلى أحد ". ولا عجب فإنه أحد الذين جعل لهم الله محبة في القلوب بغير سعي منهم للظفر بها ، وذلك جزاء المتقين .

لم يكن عجيبا أن يؤيد الله / عمر بن عبدالعزيز بالكرامات المادية والمعنوية ، لأن من أطاع الله أطاعه كل شيء ، ومن خاف الله هابه كل شيء ، والله سبحانه أكرم من أن يترك وليّا له بغير عون على ما يريد من الإصلاح وتقوى الله في كل أمر . كانت الذئاب تعيش مع الأغنام في مكان واحد فلا تفترسها !! وكان الناس يذهلون لهذا المشهد الذي لم يروا له مثيلا من قبل ولا من بعد . يقول حسن القصّاب رضي الله عنه : رأيت الذئاب ترعى مع الأغنام في البادية أثناء خلافة / عمر بن عبدالعزيز ، فقلت : سبحان الله ... ذئب في غنم لا يضرها ! فأجابني الراعي : إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس ... وقال التابعي الجليل / مالك بن دينار رضي الله عنه : لما ولي / عمر بن عبدالعزيز تساءل الرعاة في أقاصي البادية : من هذا الرجل الصالح الذي قام خليفة على الناس ، فإن عدله كفّ الذئاب عن أغنامنا ؟!

وقال / موسى بن أعين : كنا نرعى الأغنام في " كرمان " في خلافة / عمر بن عبد العزيز ، فكانت الشاة ترعى مع الذئب بسلام ، وذات يوم هجم الذئب على الشاة ليفترسها ، فقلت : " إنا لله وإنا إليه راجعون " ما أرى الرجل الصالح إلا قد مات . وحسبنا تلك الليلة فوجدناه قد مات فيها بالفعل . ورأى أحد أبناء خراسان في منامه هاتفا يقول له : إذا حكم أشج بني مروان فاذهب إليه ، وبايعه فإنه إمام عادل ... وظل الرجل يتساءل كلما ولى خليفة عن طباعه حتى جاء / عمر بن عبدالعزيز ، فرأى هذا الرجل في منامه نفس الهاتف الذي جاءه من قبل ثلاث مرات أخرى ، فارتحل إلى الشام وبايع عمر رضي الله عنه . وكان الله تبارك وتعالى يبشّر عبده الصالح بالخير ، ويعينه على فساد الزمان وقلة الأعوان كيلا يحزن أو يضعف عن أمر المسلمين ... رأى عمر نفسه ليلة محمولا إلى أرض خضراء واسعة فيها قصر أبيض بلون الفضة ... وخرج مناد من القصر فهتف : أين / محمد بن عبدالله رسول الله ؟ فأقبل الرسول صلى الله عليه وسلم حتى دخل القصر . ثم نادى / أبا بكر بن قحافة فدخل ، ثم / عمر بن الخطاب ثم / عثمان بن عفان ثم / علي بن أبي طالب ثم / عمر بن عبدالعزيز فدخلوا جميعا رضي الله عنهم ورضوا عنه ... وجد / عمر بن عبدالعزيز نفسه جالسا في القصر إلى جوار جده الفاروق / عمر بن الخطاب فامتلأت نفسه حبورا ورهبة .. أحس أنه الآن بالأفق الأعلى حيث القرب من الحضرة الإلهية المقدسة ... كان النور الساطع يملأ عيني / عمر بن عبدالعزيز وقلبه ... إنه النعيم المقيم حيث لا مزيد ولا قبل ولا بعد . حيث ما لا عين رأت وما لا أذن سمعت وما لا يخطر على قلب بشر . إنه الآن أمام النور الأزلي الخالد ، وإلى جواره يجلس النبي والصديقون والشهداء والصالحون وأكرم بهم من رفاق يشرف بهم الجن والإنس والملائكة أجمعون .

حاول ابن عبدالعزيز أن يرى شيئا فلم يقدر ... بعد لحظات سمع مناديا من قبل الحضرة الإلهية المقدسة ولم يره ... هتف به الصوت الخالد : " يا عمر بن عبدالعزيز تمسّك بما أنت عليه واثبت على ما أنت عليه " .. أجل ، كان لا بد أن يجد عمر رضي الله عنه هذا التثبيت من رب السماوات السبع ورب الأراضين ورب العرش العظيم . فهو العوض عن كل ذي عوض ، وهو السلوى عن كل مصيبة ، وهو سبحانه نعم المولى جلت قدرته . ثم تلقى عمر بن عبدالعزيز إذنا بالانصراف في رؤياه . واستيقظ باكيا سائلا ربه العون والتثبيت في اليقظة كما رأى في المنام .

عمت بركات الحاكم الصالح أمته في المشرق والمغرب . يقول / عمر بن أسيد رضي الله عنه : والله ما مات عمر حتى كان الرجل من رعيته يأتينا بالمال الوفير – الزائد عن حاجته – فيقول : اجعلوا هذا المال حيث ترون – من أوجه الإنفاق في الخير – فما يبرح إلا ومعه ماله كما جاء به ، لقد أغنى عمر الناس ! وكتب إليه واليه على العراق / عبدالحميد بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب يخبره بأن أموال بيت مال العراق قد زادت عما كانت عليه في عهد / الحجاج بن يوسف الثقفي – الطاغية الشهير - أضعافا كثيرة ، وأنه لم يجد مصرفا لهذه الأموال الطائلة بعد أن شبع الفقراء ، واغتنى المساكين ، وأمن أبناء السبيل على طعامهم وشرابهم ، في كل مكان ينزلون به . حمد عمر ربه على نعمته ، وخطب في الناس ليعظهم بذلك ، فإن ظلم الحجاج وبطشه نزع البركة من الأرزاق والأقوات ، وجاء عدل من بعده من الولاة على العراق بالخير والبركات .

وأمر عمر ولاته على العراق وغيره من البلدان بأن ينفقوا فائض الخراج والزكاة على الشباب الراغب في الزواج ليغض بصره ويحصن فرجه ، ويكثر نسل الموحدين بالله المسلمين له . فإن فرغوا منهم فليعطوا المدينين والغارمين ، وأبناء السبيل وغيرهم من أصحاب الحقوق . ولم ينس عمر رضي الله عنه طلبة العلم ، فأوصى بأن يفرض الولاة نصيبا وافرا من المال لكل من ينقطع متفرغا للدراسة والتحصيل ، في مختلف العلوم الدينية والدنيوية النافعة ، لأن هؤلاء هم أمل الأمة وشعلة حضارتها الموعودة ، وبغيرهم يسود الظلم والظلام والجهل في ديار المسلمين . وكان عمر رضي الله عنه يرسل كل يوم من ينادي : أين اليتامى ؟ أين أبناء السبيل ؟ أين طلبة العلم ؟ أين ... أين ؟ فيعطي كلا منهم حاجته من المال ليجنبه مذلة الفقر وليتعفف عن سؤال الناس . لكنه مع كل هذا السخاء لأصحاب الحق في بيت مال المسلمين ، كان شديد الصرامة مع غيرهم من الحاشية والأقارب والمنافقين والمدّاحين . كان للخليفة ستمائة شرطي وحارس خاص له ، فقال لهم عمر : إن لي عنكم بالقدر حاجزا والأجل حارسا ، فمن شاء منكم فليلحق بأهله ، ومن بقي فليس له سوى عشرة دنانير . وكتب إليه أحد عماله يخبره أن المدينة التي يحكمها قد خربت ويطلب منه دعما ماليا ليعيد بناء ما تهدم ، ويرمم منها ما تصدع . فرد عليه عمر : حصّن مدينتك بالعدل ، وطهّر طرقاتها من الظلم فإن هذا وحده هو ترميمها . وكتب إليه وال آخر يشكو من كثرة من يعتنقون الإسلام لأن هذا يعنى توقفهم عن دفع الجزية ، فرد عليه الخليفة العظيم : إن الله تعالى بعث النبي محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا . وجاء إليه الشعراء عندما تولي الخلافة ، فمكثوا أياما واقفين علي بابه لا يؤذن لهم ، حتى جاء عدى بن أرطأة فناشده " جرير " الشاعر المشهور أن يستأذن لهم الخليفة ، فقال عدى لعمر رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين ، الشعراء ببابك ، سهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة ، يقصد أن يلفت انتباهه إلي ضرورة كسب ود الشعراء بالعطايا والهبات ، كما كان غيره يفعل فقال له عمر : ويحك يا عدى مالي والشعراء ؟

قال عدى : إن الرسول صلي الله عليه وسلم كان يسمع الشعر ويجزى به . فراح عمر يستجوبه حتى اطمأن إلي أن نبي الهدي كان يسمع الشعر النبيل الهادف ، فأذن لجرير وحده بالدخول لأنه كان الشاعر الأقل فحشا وانحرافا بين الموجودين . قال له عمر : ويحك يا جرير اتق الله فيما تقول ، فأنشده جرير قصيدة طويلة يمدح فيها الرسول صلي الله عليه وسلم وعمر بن عبدالعزيز . وأبى عمر أن يعطيه من بيت المال ما ليس له بحق ، وأعطاه مائة درهم فقط من ماله الخاص كانت قد بقيت معه . وخرج جرير إلى زملائه الشعراء فقال لهم : جئتكم بما يفجعكم ، أمير المؤمنين يعطي الفقراء ويمنع الشعراء ، وأنا عنه راض .

كانت خلافة / عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه سنتين وبضعة أشهر كما أسلفنا .. و رغم قصر المدة استطاع الفتي الأموي أن يجدد شباب الإسلام وأن يعيد إلي الأذهان كل خصائص العهد الأول الذي طبّق فيه منهج الله كاملا غير منقوص .. ولم يتحقق له ذلك بسهولة ويسر ، إنما كان الثمن باهظا ، وكانت التضحيات بلا حدود .

كان يعيش وأهله في أدنى درجات الكفاف ، وأبى أن تدخل جوفه لقمة من بيت مال المسلمين ، رغم أنه أحدهم ، ويحق له أن يحصل مثلهم على نصيب منه .. اشترى له غلامه قطعة من اللحم وشواها له في المطبخ العام الذي يعد فيه طعام الفقراء والمساكين ، فلما علم عمر بذلك أبى أن يأكلها ووهبها لغلامه لمجرد أنها طبخت بوقود من بيت المال !! وسخّن له الغلام بعض الماء في المطبخ العام ، فأمر بشراء حطب بدرهم من ماله الخاص ليوضع في بيت المال عوضا عن تسخين الماء له في المطبخ !! وكان لا يكتب ليلا على ضوء مصباح بيت المال إلا لمصالح المسلمين ، أما حاجاته الخاصة فكان يقضيها على ضوء مصباح أخر يملكه .. وكان شديد التواضع يخدم نفسه بنفسه ، ولا يرهق الخدم أو الرعية بما لا يطيقون .

ولم يضرب / عمر بن عبدالعزيز أحدا من الرعية سوطا قط طيلة خلافته ، بينما كان من قبله من حكام بني مروان يسفكون الدماء ويستحلون المحرمات لأتفه الأسباب .. كان يعلم أن الله تعالى يغضب أشد الغضب على الحاكم الخائن لأمته ، كما كان يعلم سوء مصير أى طاغية يستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا .. ولعل آخر خطبة ألقاها تكشف جوهر هذا الحاكم الراشد ، والكثير من المبادئ الإسلامية العظيمة التي أفنى شبابه وماله وعمره كله من أجل تطبيقها ونشرها بين الناس .. صعد رضي الله عنه إلي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا ، ولم تتركوا سدى ، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم والفصل بينكم ، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله تعالى ، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض ، ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر اليوم الآخر وخافه ، وباع فانيا بباق ، ونافدا بما لا نفاد له ، وقليلا بكثير ، وخوفا بأمان .

ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين ، وسيكون ما بعدكم للآخرين ، حتى تردون إلى خير الوارثين ، فاتقوا الله قبل القضاء ، وراقبوه قبل نزول الموت بكم ... أما إني أقول هذا ، ولا أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي وأستغفر الله "... ثم بكى رضي الله عنه حتى ابتلت لحيته وبكى الناس معه ... إنه عمر ذلك الخليفة الذي لم يجامع قط ولم يحتلم وهو خليفة رغم أنه كان في ***وان الشباب ، وكانت له زوجة من أجمل نساء عصرها ، وجوار فاتنات ناعمات من كل *** ولون . وعندما أصابه مرض الموت جاءوا إليه ببنيه وكانوا بضعة عشر ذكرا وقالوا له : أما تركت لهم شيئا من المال ؟ رد رضي الله عنه بيقين الأولياء : " والله لا أعطيهم حق أحد ، وهم بين رجلين ، إما صالح فالله يتولى الصالحين ، وإما غير ذلك فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله ".... ودعا لهم قائلا : انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم ... ويروى أن الله تعالى أغناهم من فضله بصلاح أبيهم ، حتى كان أحدهم بعد موت أبيه بسنوات يتبرع بجهاز ألف فارس في الجيش لوجه الله .

ودخل عليه / مسلمة بن عبدالملك فرأى قميصه متسخا فقال لأخته فاطمة : ألا تغسلون قميص أمير المؤمنين ؟ فردت عليه : والله ما له قميص غيره ... ثم بكت وبكى أخوها ومن حولهم رحمة بالرجل الصالح ... وبينما كانت فاطمة وشقيقها مسلمة يجلسان على باب الحجرة التي يحتضر فيها خير من حكم المسلمين من بني أمية كان / عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه يحلق بروحه الطاهرة متأهبا للصعود إلى الفردوس الأعلى . كان يشخص ببصره بشدة إلى أعلى فسأله من حوله : إنك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين . رد ولي الله بحبور : إني أرى حضورا كراما لا ترونهم . اخرجوا عني . وعندما تركوه سمعته فاطمة وشقيقها مسلمة يقول بصوت مطمئن مستبشر : مرحبا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان . وكانت روائح ذكية لم يشم مثلها بشر تنبعث من الغرفة ، وصوت ملائكي لا يرون صاحبه يرتل في خشوع : " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين "... صدق الله العظيم .

أهم المراجع :

1- سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي .
2- البداية والنهاية للإمام ابن كثير .
3- حلية الأولياء لأبى نعيم الأصفهانى .
4-تاريخ الأمم والممالك لابن جرير الطبري .
5-تاريخ دمشق لابن عساكر .
6-مناقب عمر بن عبدالعزيز لابن الجوزى .
7- عمر بن عبدالعزيز لخالد محمد خالد.
__________________
Im faded
رد مع اقتباس
  #75  
قديم 23-04-2014, 08:34 AM
Only Forward Only Forward غير متواجد حالياً
Student
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 3,286
معدل تقييم المستوى: 15
Only Forward is a jewel in the rough
افتراضي العلماء

نظارة انشتاين

كان أينشتين لا يستغني أبدا عن نظارته .. وذهب ذات مرة إلى أحد المطاعم ، واكتشف هناك أن نظارته ليست معه ،

فلما أتاه ((الجرسون )) بقائمة الطعام ليقرأها ويختار منها ما يريد ، طلب منه أينشتين أن يقرأها له فاعتذر الجرسون قائلا : إنني آسف يا سيدي ، فأنا أمي جاهل مثلك !



كبرياء فنان

ذات ليلة عاد الرسام العالمي المشهور (( بيكاسو )) إلى بيته ومعه أحد الأصدقاء فوجد الأثاث مبعثرا والأدراج محطمة ، وجميع الدلائل تشير إلى أن اللصوص اقتحموا البيت في غياب صاحبه وسرقوه .

وعندما عرف (( بيكاسو )) ماهي المسروقات ، ظهر عليه الضيق والغضب الشديد ..

سأله صديقه : (( هل سرقوا شيئا مهما )) ..

أجاب الفنان : كلا .. لم يسرقوا غير أغطية الفراش ..

وعاد الصديق يسأل في دهشة : (( إذن لماذا أنت غاضب ؟! )) ..

أجاب (( بيكاسو )) وهو يحس بكبريائه قد جرحت : يغضبني أن هؤلاء الأغبياء لم يسرقوا شيئا من لوحاتي..




الرد خالص!

ذهب كاتب شاب إلى الروائي الفرنسي المشهور (( إسكندر ديماس )) مؤلف روايته ((الفرسان الثلاثة )) وغيرها وعرض عليه أن يتعاونا معا في كتابة إحدى القصص التاريخية..

وفي الحال أجابه (( ديماس )) في سخرية وكبرياء :

كيف يمكن أن يتعاون حصان وحمار في جر عربة واحدة ؟!

على الفور رد عليه الشاب : هذه إهانة يا سيدي كيف تسمح لنفسك أن تصفني بأنني حصان ؟!




لماذا تزوجته ؟

عندما سئلت الكاتبة الإنجليزية (( أغاثا كريستي )) . لماذا تزوجت واحد من رجال الآثار ؟

قالت : لأني كلما كبرت ازددت قيمة عنده!





فراش للضيف !

كان الكاتب الأمريكي (( مارك توين )) مغرما بالراحة حتى أنه كان يمارس الكتابة والقراءة وهو نائم في سريره ، وقلما كان يخرج من غرفة نومه !

وذات يوم جاء أحد الصحفيين لمقابلته ، وعندما أخبرته زوجته بذلك قال لها : (( دعيه يدخل )) ..... غير أن الزوجة اعترضت قائلة : هذا لا يليق ..... هل ستدعه يقف بينما أنت نائم في الفراش ؟!

فأجابها (( مارك توين )) : عندك حق ، هذا لا يليق اطلبي من الخادمة أن تعد له فراشا آخر!




أبو علقمه وابن أخيه

قدم على أبي علقمه النحوي ابن أخ له ، فقال له : ما فعل أبوك؟

قال : مات

قال : وما علته ؟

قال : ورمت قدميه

قال : قل : قدماه..

قال : فارتفع الورم إلى ركبتاه ..

قال: قل : ركبتيه ..

فقال : دعني يا عم ، فما موت أبي بأشد علي من نحوك هذا ..!




من بالباب

وقف على باب نحوي أحد الفقراء فقرعه فقال النحوي : من بالباب ؟ ... فقال : سائل ..

فقال النحوي : لينصرف .... فقال الفقير مستدركا : اسمي أحمد ( وهو اسم لاينصرف في النحو ) ..

فقال النحوي لغلامه : أعط سيبويه كسرة
__________________
Im faded
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 07:34 AM.