اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا

محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا سيرة سيد البشر بكل لغات العالم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #61  
قديم 21-09-2014, 10:21 AM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي


2- بلال رضي الله عنه:
تضاعف أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه, حتى وصل إلى ذروة ال***, وخاصة في معاملة المستضعفين من المسلمين، فنكلت بهم لتفتنهم عن عقيدتهم وإسلامهم، ولتجعلهم عبرة لغيرهم، ولتنفس عن حقدها, وغضبها, بما تصبه عليهم من العذاب.
قال عبد الله بن مسعود t: «أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه، فأعطوه الولدان, وأخذوا يطوفون به شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد» ([82]).
لم يكن لبلال t ظهر يسنده، ولا عشيرة تحميه، ولا سيوف تذود عنه، ومثل هذا الإنسان في المجتمع الجاهلي المكي, يعادل رقمًا من الأرقام، فليس له دور في الحياة إلا أن يخدم ويطيع، ويباع ويشترى كالسائمة، أما أن يكون له رأي, أو يكون صاحب فكر، أو صاحب دعوة, أو صاحب قضية، فهذه جريمة شنعاء في المجتمع الجاهلي المكي تهز أركانه وتزلزل أقدامه، ولكن الدعوة الجديدة التي سارع لها الفتيان, وهم يتحدون تقاليد وأعراف آبائهم الكبار لامست قلب هذا العبد المرمي المنسي، فأخرجته إنسانًا جديدًا على الوجود([83]), فقد تفجرت معاني الإيمان في أعماقه بعد أن آمن بهذا الدين، وانضم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه في موكب الإيمان العظيم, وها هو الآن يتعرض لل***** من أجل عقيدته ودينه, فقصد وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديق, موقع ال***** وفاوض أمية بن خلف وقال له: «ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى! قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى، فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به، قال: قد قبلت، فقال: هو لك فأعطاه أبو بكر الصديق t غلامه ذلك وأخذه فاعتقه»([84])، وفي رواية: اشتراه بسبع أواق, أو بأربعين أوقية ذهبًا([85])، ما أصبر بلالاً وما أصلبه t, فقد كان صادق الإسلام، طاهر القلب، ولذلك صَلُبَ, ولم تلن قناته أمام التحديات وأمام صنوف العذاب، وكان صبره وثباته مما يغيظهم ويزيد حنقهم, خاصة أنه كان الرجل الوحيد من ضعفاء المسلمين الذي ثبت على الإسلام فلم يوات الكفار فيما يريدون, مرددًا كلمة التوحيد بتحدٍّ صارخ، وهانت عليه نفسه في الله وهان على قومه([86]).
وبعد كل محنة منحة فقد تخلص بلال من العذاب والنكال، وتخلص من أسر العبودية، وعاش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية حياته ملازمًا له، ومات راضيًا عنه مبشرًا إياه بالجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم لبلال: «... فإني سمعت خشف نعليك بين يدي في الجنة»([87]).
وأما مقامه عند الصحابة فقد كان عمر t يقول: «أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا» يعني بلالاً([88]).
وأصبح منهج الصديق في فك رقاب المستضعفين, ضمن الخطة التي تبنتها القيادة الإسلامية لمقاومة ال***** الذي نزل بالمستضعفين، فمضى يضع ماله في تحرير رقاب المؤمنين المنضمين إلى هذا الدين الجديد من الرق: (.. ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب, بلال سابعهم:
عامر بن فهيرة شهد بدرًا وأحدًا، و*** يوم بئر معونة شهيدًا، وأم عُبيس، وزنِّيرة وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: «كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان، فرد الله بصرها»([89]) وأعتق النهدية وبنتها وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمرَّ بهما، وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدًا: فقال أبو بكر t: حِل([90]) يا أم فلان، فقالت: حل أنت، أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها، قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما»([91]).
وهنا وقفة تأمل ترينا كيف سوَّى الإسلام بين الصديق والجاريتين حتى خاطبتاه، خطاب الند للند، لا خطاب المسود للسيد، وتقبل الصديق على شرفه وجلالته في الجاهلية والإسلام منهما ذلك، مع أنه له يدًا عليهما بالعتق، وكيف صقل الإسلام الجاريتين حتى تخلقتا بهذا الخلق الكريم، وكان يمكنهما وقد أعتقتا وتحررتا من الظلم, أن تدعا لها طحينها يذهب أدراج الرياح، أو يأكله الحيوان والطير، ولكنهما أبتا، تفضلاً, إلا أن تفرغا منه وترداه إليها([92]).
ومر الصديق بجارية بني مؤمل, حي من بني عدي بن كعب, وكانت مسلمة, وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك وهو يضربها، حتى إذا ملَّ قال: إني أعتذر إليك, إني لم أتركك إلا عن ملالة فتقول: كذلك فعل الله بك, فابتاعها أبو بكر فأعتقها([93]).
هكذا كان واهب الحريات، ومحرر العبيد، شيخ الإسلام الوقور، الذي عرف بين قومه بأنه يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، لم ينغمس في إثم في جاهليته، أليف مألوف, يسيل قلبه رقة ورحمة على الضعفاء، والأرقاء، أنفق جزءًا كبيرًا من ماله في شراء العبيد وأعتقهم لله، وفي الله، قبل أن تنزل التشريعات الإسلامية المحببة في العتق، والواعدة عليه أجزل الثواب([94]).
كان المجتمع المكي يتندر بأبي بكر t الذي يبذل هذا المال كله لهؤلاء المستضعفين, أما في نظر الصديق، فهؤلاء إخوانه في الدين الجديد، فكل واحد من هؤلاء لا يساوي عنده مشركي الأرض وطغاتها، وبهذه العناصر وغيرها تبنى دولة التوحيد، وتصنع حضارة الإسلام الرائدة والرائعة([95]), ولم يكن الصديق يقصد بعمله هذا محمدة، ولا جاهًا، ولا دنيا، وإنما كان يريد وجه الله ذا الجلال والإكرام، لقد قال له أبوه ذات يوم: «يا بني إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك، ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر t: يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل فلا عجب إذا كان الله سبحانه أنزل في شأن الصديق قرآنًا يتلى إلى يوم الدين، قال تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى`وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى`فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى`وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى`وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى`فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى`وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى`إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى`وَإِنَّ لَنَا لَلآَخِرَةَ وَالأُولَى`فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى`لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشْقَى`الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى`وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى`الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى`وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى`إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى`وَلَسَوْفَ يَرْضَى )([96])[الليل: 5-21].
كان هذا التكافل بين أفراد الجماعة الإسلامية الأولى, قمة من قمم الخير والعطاء، وأصبح هؤلاء العبيد بالإسلام أصحاب عقيدة وفكرة, يناقشون بها وينافحون عنها، ويجاهدون في سبيلها، وكان إقدام أبي بكر t على شرائهم ثم إعتاقهم دليلاً على عظمة هذا الدين, ومدى تغلغله في نفسية الصديق t، وما أحوج المسلمين اليوم أن يحيوا هذا المثل الرفيع، والمشاعر السامية ليتم التلاحم والتعايش, والتعاضد بين أبناء الأمة التي يتعرض أبناؤها للإبادة الشاملة من قبل أعداء العقيدة والدين.
3- عمار بن ياسر وأبوه وأمه رضي الله عنهم:
كان والد عمار بن ياسر من بني عنس من قبائل اليمن، قدم مكة وأخواه الحارث ومالك يطلبون أخًا لهم، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، وحالف أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي,([97]) فزوجه أبو حذيفة أَمّة له يقال لها: سُمية بنت خياط، فولدت له عمارًا، فأعتقه أبو حذيفة الذي لم يلبث أن مات، وجاء الإسلام فأسلم ياسر وسمية وعمار, وأخوه عبد الله بن ياسر، فغضب عليهم مواليهم بنو مخزوم غضبًا شديدًا صبوا عليهم العذاب صبًّا، كانوا يخرجونهم إذا حميت الظهيرة فيعذبونهم برمضاء مكة([98]) ويقلبونهم ظهرًا لبطن,([99]) فيمر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فيقول: «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» ([100]) وجاء أبو جهل إلى سمية فقال لها: ما آمنت بمحمد إلا لأنك عشقته لجماله، فأغلظت له القول, فطعنها بالحربة في ملمس العفة ف***ها، فهي أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها,([101]) وبذلك سطرت بهذا الموقف الشجاع أعلى وأغلى ما تقدمه امرأة في سبيل الله، لتبقى كل امرأة مسلمة, حتى يرث الله الأرض ومن عليها ترنو إليها ويهفو قلبها في الاقتداء بها، فلا تبخل بشيء في سبيل الله، بعد أن جادت سمية بنت خياط بدمها في سبيل الله([102]).
وقد جاء في حديث عثمان t قال: «أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذًا بيدي نتمشى بالبطحاء، حتى أتى على آل عمار بن ياسر، فقال أبو عمار: يا رسول الله الدهر هكذا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اصبر»، ثم قال: «اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت»([103]) ثم لم يلبث ياسر أن مات تحت العذاب.
لم يكن في وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدم شيئًا لآل ياسر, رموز الفداء والتضحية, فليسوا بأرقاء حتى يشتريهم ويعتقهم، وليست لديه القوة ليستخلصهم من الأذى والعذاب، فكل ما يستطيعه صلى الله عليه وسلم أن يزف لهم البشرى بالمغفرة والجنة, ويحثهم على الصبر, لتصبح هذه الأسرة المباركة قدوة للأجيال المتلاحقة، ويشهد الموكب المستمر على مدار التاريخ هذه الظاهرة «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»([104]).
أما عمار t فقد عاش بعد أهله زمنًا يكابد من صنوف العذاب ألوانًا، فهو يصنف في طائفة المستضعفين الذين لا عشائر لهم بمكة تحميهم، وليست لهم منعة ولا قوة، فكانت قريش تعذبهم في الرمضاء بمكة أنصاف النهار, ليرجعوا عن دينهم، وكان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول([105])، ولما أخذه المشركون ليعذبوه لم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما وراءك؟» قال: شر، والله ما تركني المشركون حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئنًا بالإيمان، قال: «فإن عادوا فعد»([106])، ونزل الوحي بشهادة الله تعالى على صدق إيمان عمار، قال تعالى: ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )[النحل:106] وقد حضر المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم([107]).
وفي حادثتي بلال وعمار فقه عظيم يتراوح بين العزيمة والرخصة, يحتاج من الدعاة أن يستوعبوه, ويضعوه في إطاره الصحيح, وفي معاييره الدقيقة دون إفراط أوتفريط.
4- سعد بن أبي وقاص t:
تعرض للفتنة من قبل والدته الكافرة، فامتنعت عن الطعام والشراب, حتى يعود إلى دينها. قال ابن كثير: «قال الطبراني في كتاب العشرة إن سعدًا قال: أنزلت فيّ هذه الآية: ( وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا )[العنكبوت:8].
قال: كنت رجلاً برًا بأمي فلما أسلمتُ قالت: يا سعد: ما هذا الدين الذين أراك قد أحدثت، لتدعنَّ دينك هذا, أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي, فيقال: يا قاتل أمه، فقلت: لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع ديني لشيء, فَمَكَثت يومًا وليلة لم تأكل, فأصبحت قد جهدت، فمكثت يومًأ آخر وليلة أخرى لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يومًا وليلة أخرى لا تأكل, فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت يا أُمَّه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي, فأكلت([108]).
وروى مسلم: أن أم سعد حلفت ألا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمتَ أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك وأنا آمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثًا حتى غَشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له: عُمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن الكريم هذه الآية: ( وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي... ) وفيها ( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ).
قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ثم أوجروها([109]), فمحنة سعد محنة عظيمة، وموقفه موقف فذ يدل على مدى تغلغل الإيمان في قلبه، وأنه لا يقبل فيه مساومة مهما كانت النتيجة([110]).
ومن خلال تتبع القرآن المكي نجد أنه رغم قطع الولاء سواء في الحب أو النصرة بين المسلم وأقاربه الكفار، فإن القرآن أمر بعدم قطع صلتهم وبرهم والإحسان إليهم ومع ذلك فلا ولاء بينهم؛ لأن الولاء لله ورسوله ودينه والمؤمنين([111]).
5- مصعب بن عمير t
كان مصعب بن عمير t أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه مليئة كثيرة المال تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقه، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال([112]), وبلغ من شدة كلف أمه به أنه يبيت وقعب الحيس([113]) عند رأسه فإذا استيقظ من نومه أكل([114]), ولما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم دخل عليه فأسلم وصدق به، وخرج فكتم إسلامه خوفًا من أمه وقومه، فكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًّا، فبصر به عثمان بن طلحة([115]) يصلي, فأخبر أمه وقومه، فأخذوه وحبسوه، فلم يزل محبوسًا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى([116]).
قال سعد بن أبي وقاص t: لقد رأيته جهد في الإسلام جهدًا شديدًا حتى لقد رأيت جلده يتحشّف، أي يتطاير، تحشف جلد الحية عنها، حتى إن كنا لنعرضه على قتبنا فنحمله مما به من الجهد([117]). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما ذكره قال: «ما رأيت بمكة أحدًا أحسن لمة ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير»([118])، ومع كل ما أصابه t من بلاء ومحنة ووهن في الجسم والقوة، وجفاء من أقرب الناس إليه, لم يقصر عن شيء مما بلغه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير, والفضل، والجهاد في سبيل الله تعالى, حتى أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد([119]).
يعتبر مصعب t نموذجًا من تربية الإسلام للمترفين الشباب، للمنعمين من أبناء الطبقات الغنية المرفهة، لأبناء القصور والمال والجاه، للمعجبين بأشخاصهم، المبالغين في تأنقهم، الساعين وراء مظاهر الحياة كيف تغيرت؟ ووقف بعد إسلامه قويًّا لا يضعف ولا يتكاسل ولا يتخاذل، ولا تقهره نفسه وشهواته فيسقط في جحيم النعيم الخادع([120]).
لقد ودع ماضيه بكل ما فيه من راحة ولذة وهناءة، يوم دخل هذا الدين وبايع تلك البيعة، وكان لا بد له من المرور في درب المحنة لكي يصقل إيمانه ويتعمق يقينه، وكان مصعب مطمئنا راضيا رغم ما حوله من جبروت ومخاوف، ورغم ما نزل به من البؤس والفقر والعذاب، ورغم ما فقده من مظاهر النعم والراحة([121]), فقد تعرض لمحنة الفقر، ومحنة فقد الوجاهة والمكانة عند أهله، ومحنة الأهل والأقارب والعشيرة، ومحنة الجوع وال*****، ومحنة الغربة والابتعاد عن الوطن، فخرج من كل تلك المحن منتصرا بدينه وإيمانه، مطمئنا أعمق الاطمئنان، ثابتًا أقوى الثبات([122]) ولنا معه وقفات في المدينة بإذن الله تعالى.
6- خباب بن الأرت t:
كان خباب t قينا([123]), وأراد الله له الهداية مبكرًا، فدخل في الإسلام قبل دخول دار الأرقم بن أبي الأرقم([124]), فكان من المستضعفين الذين عذبوا بمكة لكي يرتد عن دينه، وصل به العذاب بأن ألصق المشركون ظهره بالأرض على الحجارة المحماة حتى ذهب ماء مَتْنه([125]).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يألف خبابًا ويتردد عليه بعد أن أسلم، فلما علمت مولاته بذلك، وهي أم أنمار الخزاعية، أخذت حديدة قد أحمتها، فوضعتها على رأسه، فشكا خبابًا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «اللهم انصر خبابًا»، فاشتكت مولاته رأسها، فكانت تعوي مع الكلاب، فقيل لها: اكتوي، فجاءت إلى خباب ليكويها، فكان يأخذ الحديدة قد أحماها فيكوي بها رأسها، وإن في ذلك لعبرة لمن أراد أن يعتبر, ما أقرب فرج الله ونصره من عباده المؤمنين الصابرين، فانظر كيف جاءت إليه بنفسها تطلب منه أن يكويها على رأسها([126])، ولما زاد ضغط المشركين على ضعفاء المسلمين ولقوا منهم شدة، جاء خباب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقال له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا، فقعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو محمر وجهه، قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»([127]).
وللشيخ سلمان العودة حفظه الله تعليق لطيف على هذا الحديث: يا سبحان الله ماذا جرى حتى احمرَّ وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقعد من ضجعته؟ وخاطب أصحابه بهذا الأسلوب القوي المؤثر، ثم عاتبهم على الاستعجال؟
لأنهم طلبوا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم؟
كلا: حاشاه من ذلك، وهو الرءوف الرحيم بأمته.
إن أسلوب الطلب: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ يوحي بما وراءه وأنه صادر من قلوب أمضَّها العذاب، وأنهكها الجهد، وهدتها البلوى فهي تلتمس الفرج العاجل، وتستبطئ النصر, فتستدعيه.
وهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن الأمور مرهونة بأوقاتها، وأسبابها، وأن قبل النصر البلاء، فالرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ )[يوسف:110].
ويلمس عليه السلام من واقع أصحابه وملابسات أحوالهم، برمهم بالعذاب الذي يلاقون، حتى يفتنوا عن دينهم، ويستعلي عليهم الكفرة، ويموت منهم من يموت تحت ال*****.
وقد لا يكون من الميسور أن يدرك المرء, بمجرد قراءة النص، حقيقة الحال التي كانوا عليها حين طلبوا منه عليه الصلاة والسلام الدعاء والاستنصار، ولا أن يعرف المشاعر والإحساسات التي كانت تثور في نفوسهم إلا أن يعيش حالاً قريبًا من حالهم ويعاني في سبيل الله بعض ما عانوا.
__________________
رد مع اقتباس
  #62  
قديم 21-09-2014, 10:28 AM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

لقد كان صلى الله عليه وسلم يربيهم على:
أ- التأسي بالسابقين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم, في تحمل الأذى في سبيل الله ويضرب لهم الأمثلة في ذلك.
ب- التعلق بما أعده الله في الجنة للمؤمنين الصابرين من النعيم، وعدم الاغترار بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة الدنيا.
ج- التطلع للمستقبل الذي ينصر الله فيه الإسلام في هذه الحياة الدنيا، ويذل فيه أهل الذل والعصيان.
وثمة أمر آخر كبير ألا وهو: أنه صلى الله عليه وسلم مع هذه الأشياء كلها كان يخطط ويستفيد من الأسباب المادية المتعددة لرفع الأذى والظلم عن أتباعه، وكف المشركين عن فتنتهم، وإقامة الدولة التي تجاهد في سبيل الدين، وتتيح الفرصة لكل مسلم أن يعبد ربه حيث شاء، وتزيل الحواجز والعقبات التي تعترض طريق الدعوة إلى الله([128]).
وقد تحدث خباب t عن بعض ما كان يلقون من المشركين من عنت, وسوء معاملة ومساومة على الحقوق, حتى يعودوا إلى الكفر, قال: كنت قينًا وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لن أكفر حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إن مت ثم بعثت جئتني, ولي ثَمَّ مالٌ وولد فأعطيتك, فأنزل الله: ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا ) إلى قوله ( فَرْدًا )([129]).
وذكر أن عمر بن الخطاب t في خلافته سأل خبابًا عما لقي في ذات الله تعالى، فكشف خباب عن ظهره، فإذا هو قد برص، فقال عمر: ما رأيت كاليوم، فقال خباب: يا أمير المؤمنين لقد أوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رَجُل رجله على صدري فما اتقيت الأرض أو قال: برد الأرض- إلا بظهري، وما أطفأ تلك النار إلا شحمي([130]).
7- عبد الله بن مسعود t:
كان منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملته للناس حكيمًا، وكان يعامل الأكابر وزعماء القبائل بلطف وترفق, وكذلك الصبيان الصغار, فهذا ابن مسعود t يحدثنا عن لقائه اللطيف برسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلامًا يافعًا أرعى غنما لعقبة بن أبي مُعَيط فمر بي
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقال: «يا غلام هل من لبن؟» قلت: نعم ولكني مؤتمن، قال: «فهل من شاة لم ينز عليها فحل؟» فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: «اقلص»، فقلص قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول، قال: فمسح رأسي وقال: «يرحمك الله فإنك غليم معلم» ([131]).
وهكذا كان مفتاح إسلامه كلمتين عظيمتين: الأولى قالها عن نفسه، «إني مؤتمن»، والثانية كانت من الصادق المصدوق حيث قال له: «إنك غليم معلم» ولقد كان لهاتين الكلمتين دور عظيم في حياته، وأصبح فيما بعد من أعيان علماء الصحابة -رضوان الله عليهم- ودخل عبدالله في ركب الإيمان، وهو يمخر بحار الشرك في قلعة الأصنام، فكان واحدًا من أولئك السابقين الذين مدحهم الله في قرآنه العظيم([132]). قال عنه ابن حجر: «أحد السابقين الأولين، أسلم قديمًا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد بعدها، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم وكان صاحب نعليه» ([133]).
أول من جهر بالقرآن الكريم:
بالرغم من أن ابن مسعود كان حليفًا وليس له عشيرة تحميه، ومع أنه كان ضئيل الجسم, دقيق الساقين، فإن ذلك لم يحل دون ظهور شجاعته وقوة نفسه t, وله مواقف رائعة في ذلك, منها ذلك المشهد المثير في مكة، وإبان الدعوة وشدة وطأة قريش عليها، فلقد وقف على ملئهم وجهر بالقرآن، فقرع به أسماعهم المقفلة وقلوبهم المغلَّفة([134]) فكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة: اجتمع يومًا أصحاب رسول الله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإن الله سيمنعني. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ: ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) رافعا بها صوته ( الرَّحْمَنُ` عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) قال: ثم استقبلها يقرؤها، قال: فتأملوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون([135]).
وبهذا كان عبد الله بن مسعود أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا غرو أن هذا العمل الذي قام به عبد الله يعتبر تحديًّا عمليًّا لقريش, التي ما كانت لتتحمل مثل هذا الموقف، ويلاحظ جرأة عبد الله عليهم بعد هذه التجربة على الرغم مما أصابه من أذى([136]).
8- خالد بن سعيد بن العاص t:
كان إسلام خالد قديمًا، لرؤيا رآها عند أول ظهور النبي صلى الله عليه وسلم, إذ رأى كأنه وقف على شفير النار، وهناك من يدفعه فيها, والرسول يلتزمه لئلا يقع، ففزع من نومه، معتقدًا أن هذه الرؤيا حق، فقصها على أبي بكر الصديق، فقال له: أُريد بك خيرًا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فذهب إليه فأسلم، وأخفى إسلامه خوفًا من أبيه، لكن أباه علم لما رأى كثرة تغيبه عنه، فبعث إخوته الذين لم يكونوا قد أسلموا بعد في طلبه، فجيء به، فأنبه وضربه بمقرعة أو عصا كانت في يده حتى كسرها على رأسه، ثم حبسه بمكة, ومنع إخوته من الكلام معه، وحذرهم من عمله، ثم ضيق عليه الخناق فأجاعه, وقطع عنه الماء ثلاثة أيام، وهو صابر محتسب، ثم قال له أبوه: والله لأمنعنك القوت، فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكرمه، ويكون معه، ثم رأى أن يهاجر إلى الحبشة مع من هاجر إليها من المسلمين في المرة الثانية([137]).
9- عثمان بن مظعون t:
لما أسلم عدا عليه قومه بنو جمح فآذوه، وكان أشدهم عليه وأكثرهم إيذاء له أمية بن خلف؛ ولذلك قال بعد أن خرج إلى الحبشة يعاتبه([138]):
أأخرجتني من بطن مكة آمنًا --- وأسكنتني في صرح بيضاء تقذع



تريش نبالاً لا يواتيك ريشها --- وتبري نبالاً ريشها لك أجمع



وحاربت أقواما كرامًا أعزة --- وأهلكت أقوامًا بهم كنت تفزع



ستعلم إن نابتك يومًا ملمة --- وأسلمك الأوباش ما كانت تصنع




وبقي عثمان بن مظعون فترة في الحبشة، لكنه لم يلبث أن عاد منها ضمن من عاد من المسلمين في المرة الأولى، ولم يستطع أن يدخل مكة إلا بجوار من الوليد بن المغيرة، حيث ظل يغدو في جواره آمنًا مطمئنًا، فلما رأى ما يصيب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من البلاء, وما هو فيه من العافية أنكر ذلك على نفسه، وقال: والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي,([139]) فذهب إلى الوليد بن المغيرة وقال له: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك، فقال: لم يا ابن أخي؟ فلعلك أوذيت، أو انتهكت، قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله تعالى ولا أريد أن أستجير بغيره، قال: فانطلق إلى المسجد فاردد علي جواري علانية، كما أجرتك علانية، فانطلقا إلى المسجد فرد عليه جواره أمام الناس, ثم انصرف عثمان إلى مجلس من مجالس قريش فجلس معهم، وفيهم لبيد بن ربيعة([140]) الشاعر ينشدهم فقال لبيد: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) فقال عثمان: صدقت, واستمر لبيد في إنشاده فقال: (وكل نعيم لا محالة زائل) فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، قال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فاخضرت، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا ابن أخي إن عينك لغنية عما أصابها، ولقد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله،
وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس، ثم عرض عليه الوليد الجوار مرة أخرى فرفض([141]).

وهذا يدل على مدى قوة إيمانه t، ورغبته في الأجر، والمثوبة عند الله, ولذلك
لما مات, رأت امرأة في المنام أن له عينًا تجري, فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال:«ذلك عمله»([142]).

وغير ذلك من الصحابة الكرام تعرض لل*****، وهكذا نرى أولئك الرهط من الشباب القرشي, قد أقبلوا على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم واستجابوا لها والتفوا حول صاحبها، على الرغم من مواقف آبائهم وذويهم وأقربائهم المتشددة تجاههم، فضحوا بكل ما كانوا يتمتعون به من امتيازات قبل دخولهم في الإسلام، وتعرضوا للفتنة رغبة فيما عند الله تعالى من الأجر والثواب، وتحملوا أذى كثيرًا، وهذا فعل الإيمان في النفوس، عندما يخالطها فتستهين بكل ما يصيبها من عنت وحرمان, إذا كان ذلك يؤدي إلى الفوز برضا الله تعالى وجنته.
هذا, ولم يكن ال***** والأذى مقصورًا على رجال المسلمين دون نسائهم، وإنما طال النساء أيضا قسط كبير من الأذى والعنت بسبب إسلامهن كسمية بنت خياط وفاطمة بنت الخطاب ولبيبة جارية بني المؤمل، وزنيرة الرومية، والنهدية وابنتها، وأم عبيس، وحمامة أم بلال وغيرهن([143]).
خامسًا: حكمة الكفّ عن القتال في مكة واهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالبناء الداخلي:
كان المسلمون يرغبون في الدفاع عن أنفسهم, ويبدو أن الموقف السلمي أغاظ بعضهم وخاصة الشباب منهم، وقد أتى عبد الرحمن بن عوف وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة قال: «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم»([144]) وتعرض بعض الباحثين للحكمة الربانية في عدم فرضية القتال في مكة ومن هؤلاء الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- فقد قال: لا نجزم بما نتوصل إليه لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة، ونفرض أسبابًا وعللاً قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية، أو وقد تكون.
ذلك أن شأن المؤمن أمام أي تكليف, أو أي حكم من أحكام الشريعة, هو التسليم المطلق؛ لأن الله سبحانه هو العليم الخبير، وإنما نقول هذه الحكمة والأسباب من باب الاجتهاد, وعلى أنه مجرد احتمال؛ لأنه لا يعلم الحقيقة إلا الله، ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح([145]). ومن هذه الأسباب والحكم والعلل بإيجاز:
1- أن الكف عن القتال في مكة, ربما لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة، ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئة: تربية الفرد العربي على الصبر, على ما لا يصبر عليه عادة, من الضيم حين يقع عليه أو على من يلوذون به, ليخلص من شخصه ويتجرد من ذاته، فلا يندفع لأول مؤثر، ولا يهتاج لأول مهيج, ومن ثم يتم الاعتدال في طبيعته وحركته، ثم تربيته على أن يتبع نظام المجتمع الجديد بأوامر القيادة الجديدة، حيث لا يتصرف إلا وفق ما تأمره -مهما يكن مخالفًا لمألوفه وعادته- وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي المسلم لإنشاء (المجتمع المسلم).
2- وربما كان ذلك أيضا؛ لأن الدعوة السلمية, أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال معها -في مثل هذه الفترة- إلى زيادة العناد, ونشأة ثارات دموية جديدة, كثارات العرب المعروفة أمثال داحس والغبراء وحرب البسوس، وحينئذ يتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات, تنسى معها فكرته الأساسية.
3- وربما كان ذلك أيضًا اجتنابًا لإنشاء معركة وم***ة داخل كل بيت، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين، وإنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد, ومعنى الإذن بالقتال، في مثل هذه البيئة، أن تقع معركة وم***ة في كل بيت ثم يقال: هذا هو الإسلام، ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال، فقد كانت دعاية قريش في المواسم، إن محمدًا يفرق بين الوالد وولده، فوق تفريقه لقومه وعشيرته, فكيف لو كان كذلك يأمر الولد ب*** الوالد، والمولى ب*** الولي؟
4- وربما كان ذلك أيضًا, لما يعلمه الله, من أن كثيرًا من المعاندين الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويعذبونهم, هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته، ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟
5- وربما كان ذلك أيضًا؛ لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع, وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم، وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة، فابن الدُّغُنَّة([146]) لم يرض أن يترك أبا بكر وهو رجل كريم يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عارًا على العرب، وعرض عليه جواره وحمايته، وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب.
6- وربما كان ذلك أيضًا لقلة عدد المسلمين حينئذ, وانحصارهم في مكة، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة أو بلغت ولكن بصورة متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش، وبعض أبنائها، لترى ماذا يكون مصير الموقف, ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى *** المجموعة المسلمة القليلة، حتى ولو ***وا هم أضعاف من سي*** منهم، ويبقى الشرك ولا يقوم للإسلام في الأرض نظام، ولا يوجد له كيان واقعي، وهو دين جاء ليكون منهج حياة ونظام دنيا وآخرة.
7- إنه لم تكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال، ودفع الأذى؛ لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة, كان قائمًا ومحققًا وهو (وجود الدعوة), ووجودها في شخص الداعية محمد صلى الله عليه وسلم، وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع، ولذلك لا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغ الدعوة وإعلانها في ندوات قريش حول الكعبة، ومن فوق جبل الصفا، وفي الاجتماعات العامة، ولا يجرؤ أحد على سجنه أو ***ه، أو أن يفرض عليه كلامًا بعينه يقوله.
إن هذه الاعتبارات كلها -فيما نحسب- كانت بعض ما اقتضت حكمة الله – معه- أن يأمر المسلمين بكف أيديهم, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة، لتتم تربيتهم وإعدادهم، وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب، وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ، لتكن خالصة وفي سبيل الله([147]).
وقد تعلم الصحابة من القرآن الكريم فقه المصالح والمفاسد، وكيفية التعامل مع


هذا الفقه من خلال الواقع, قال تعالى: (
وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا
اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ) [الأنعام:108].

وهكذا تعلم الصحابة رضي الله عنهم, أن المصلحة إن أدت إلى مفسدة أعظم تترك,([148]) وفي هذا تهذيب أخلاقي، وسمو إيماني، وترفع عن مجاراة السفهاء الذين يجهلون الحقائق، وتخلو أفئدتهم من معرفة الله وتقديسه، وقد ذكر العلماء بأن الحكم باقٍ في الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة, وغير خاضع لسلطان الإسلام والمسلمين، وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم, ولا دينهم, ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه فعل بمنزلة التحريض على المعصية، وهذا نوع من الموادعة, ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع([149]).
والناظر في الفترة المكية, والتي كانت ثلاثة عشر عامًا, كلها في تربية وإعداد وغرس لمفاهيم لا إله إلا الله, يدرك ما لأهمية هذه العقيدة من شأن في عدم الاستعجال, واستباق الزمن، فالعقيدة بحاجة إلى غرس يتعهد بالرعاية والعناية والمداومة, بحيث لا يكون للعجلة والفوضى فيها نصيب، وما أجدر الدعاة إلى الله أن يقفوا أمام تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأصحابه على هذه العقيدة وقفة طويلة، فيأخذوا منها العبرة والأسوة؛ لأنه لا يقف في وجه الجاهلية أيًّا كانت قديمة أو حديثة أم مستقبلة, إلا رجال اختلطت قلوبهم ببشاشة العقيدة الربانية، وتعمقت جذور شجرة التوحيد في نفوسهم([150]).
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بضبط النفس والتحلي بالصبر، وكان يربي أصحابه على عينه, ويوجههم نحو توثيق الصلة بالله، والتقرب إليه بالعبادة، وقد نزلت الآيات في المرحلة المكية: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ` قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً` نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً` أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً )[المزمل:1-4]. فقد أرشدت سورة المزمل الصحابة إلى حاجة الدعاة إلى قيام الليل، والدوام على الذكر، والتوكل على الله في جميع الأمور، وضرورة الصبر, ومع الصبر الهجر الجميل، والاستغفار بعد الأعمال الصالحة.
كانت الآيات الأولى من سورة المزمل تأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصص شطرًا من الليل للصلاة، وقد خيره الله تعالى أن يقوم للصلاة نصف الليل, أو يزيد عليه, أو ينقص منه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه معه قريبًا من عام, حتى ورمت أقدامهم, فنزل التخفيف عنهم, بعد أن علم الله منهم اجتهادهم في طلب رضاه، وتشميرهم لتنفيذ أمره ومبتغاه، فرحمهم ربهم فخفف عنهم, فقال: ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )[المزمل:20].
كان امتحانهم في الفرش, ومقاومة النوم, ومألوفات النفس, لتربيتهم على المجاهدة، وتحريرهم من الخضوع لأهواء النفس، تمهيدًا لحمل زمام القيادة والتوجيه في عالمهم، إذ لابد من إعداد روحي عالٍ لهم، وقد اختارهم الله لحمل رسالته، وائتمنهم على دعوته، واتخذ منهم شهداء على الناس، فالعشرات من المؤمنين في هذه المرحلة التاريخية كانت أمامهم المهمات العظيمة في دعوة الناس إلى التوحيد، وتخليصهم من الشرك، وهي مهمة عظيمة يقدر على تنفيذها أولئك الذين: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ). وقد وصف الله قيام الليل والصلاة فيه وقراءة القرآن ترتيلاً -أي مع البيان والتؤدة- بقوله: ( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً ) فهو أثبت أثرًا في النفس مع سكون الليل وهدأة الخلق، حيث تخلو من شواغلها وتفرغ للذكر، والمناجاة بعيدًا عن علائق الدنيا وشواغل النهار, وبذلك يتحقق الاستعداد اللازم لتلقي الوحي الإلهي ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً ), والقول الثقيل هو القرآن الكريم، وقد ظهر أثر هذا الإعداد الدقيق للمسلمين الأوائل في قدرتهم على تحمل أعباء الجهاد وإنشاء الدولة بالمدينة, وفي إخلاصهم العميق للإسلام وتضحيتهم من أجل إقامته في دنيا الناس ونشره بين العالمين([151]).
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مهتمًا بجبهته الداخلية, وحريصًا على تعبئة أصحابه بالعقيدة القوية التي لا تتزعزع ولا تلين، وكان هذا مبعثا لروح معنوية مرتفعة وقوية للدفاع وتحمل العذاب والأذى في سبيل الدعوة، وأصبحت الجماعة الأولى وحدة متماسكة لا تؤثر فيها حملات العدو النفسية، ولا تجد لها مكانا في هذه الجماعة عن طريق المؤاخاة بين المسلمين, فقد أصبحت رابطة الأخوة في الله تزيد على رابطة الدم والنسب, وتفضلها في الدين الإسلامي، وتعايش الرعيل الأول بمعاني الأخوة الرفيعة القائمة على الحب والمودة والإيثار، وكانت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تفعل فعلها في نفوس الصحابة, فكان صلى الله عليه وسلم يحث المسلمين على الأخوة والترابط والتعاون وتفريج الكرب لا لشيء إلا لرضى الله سبحانه, لا نظير خدمة مقابلة أو نحو ذلك، وإنما يفعل المسلم ذلك ابتغاء وجه الله وحده، وهذه المبادئ هي سر استمرار الأخوة الإسلامية, وتماسك المجتمع الإسلامي([152]), وبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه سبحانه وتعالى: «المتحابون في جلالي، لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء»([153]).
وهكذا أصبحت الأخوة الصادقة من مقاييس الأعمال، وأصبحت المحبة في الله من أفضل الأعمال، ولها أفضل الدرجات عند الله, وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين من أن تهون عليهم هذه الرابطة، ووضع لهم أساس الحفاظ عليها, فقال لهم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا»([154]).
واستعان النبي صلى الله عليه وسلم في ربط المجتمع الداخلي, وتوحيد جبهته لتكون قوية في مواجهة الحرب النفسية الموجهة ضدها، بالمساواة بين أفراد هذه الجبهة وإعطائهم الحرية, فهم لا يدخلون إلى هذا المجتمع إلا بالحرية، ثم كانت لهم في داخله حرية الرأي, وحرية التعبير والمشورة، أتى محمد صلى الله عليه وسلم بمبدأ المساواة بين جميع الناس، الحاكم والمحكوم, والغني والفقير، وبين جميع الطبقات، وقد كان لهذا المبدأ العظيم أكبر الأثر في نفوس أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلهم يتحابون ويتماسكون ويفتدون بأرواحهم ويدافعون عنه بكل ما أوتوا من قوة وعزيمة, فهو صلى الله عليه وسلم لم يقر تفاوتًا بين البشر, بسبب مولد أو أصل, أو حسب أو نسب أو وراثة، أو لون. والاختلاف في الأنساب والأجناس والألوان، لا يؤدي إلى اختلاف في الحقوق والواجبات أو العبادات، فالكل أمام الله سواسية، وعندما طلب أشراف مكة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم مجلسًا غير مجلس العبيد والضعفاء, حتى لا يضمهم وإياهم مجلس واحد, بَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن جميع الناس متساوون في تلقي الوحي والهداية، ورفض كفار مكة وسادتها في ذلك الوقت أن يجلسوا مع العبيد, ومن يعتبرونهم ضعفاء أذلاء من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم, فنزل القرآن الكريم بقوله تعالى: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا` وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا )[الكهف:28، 29] بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعرض عن ابن أم مكتوم الأعمى، منشغلاً بمحاورة بعض الأشراف، عاتبه الله أشد العتاب.
وكان من أكبر أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في ربطه المجتمع الإسلامي وتوحيده، وتقويته للجبهة الداخلية, وجعلها قوية البنيان متماسكة، ما دعا إليه صلى الله عليه وسلم من التكافل المادي, والمعنوي بين المسلمين، ليعين منهم القوي الضعيف، وليعطف الغني على الفقير، ولم يترك صلى الله عليه وسلم ثغرة واحدة تنفذ منها الحرب النفسية إلى هذا الصف الإسلامي الأول, وأصبحت الجماعة الأولى صخرة عظيمة, تحطمت عليها كل الجهود والخطط التي بذلها زعماء مكة للقضاء على الدعوة([155]).
سادسًا: أثر القرآن الكريم في رفع معنويات الصحابة:
كان للقرآن الكريم أثر عظيم في شد أزر المؤمنين من جانب, وتوعده الكفار بالعذاب من جانب آخر، مما كان له وقع القنابل على نفوسهم، وقد كان دفاع القرآن الكريم عن الصحابة يتمثل في نقطتين:
الأولى: حث الرسول صلى الله عليه وسلم على رعايتهم وحسن مجالستهم واستقبالهم, ومعاتبته على بعض المواقف التي ترك فيها بعض الصحابة لانشغاله بأمر الدعوة أيضا.
الثانية: التخفيف عن الصحابة بضرب الأمثلة والقصص لهم, من الأمم السابقة، وأنبيائها، وكيف لاقوا من قومهم الأذى، والعذاب, ليصبروا ويستخفوا بما يلاقون، وأيضًا بمدح بعض تصرفاتهم، ثم بوعدهم بالثواب والنعيم المقيم في الجنة، وكذلك بالتنديد بأعدائهم الذين كانوا يذيقونهم الألم والأذى([156]).
أما النقطة الأولى: حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في المسجد مع المستضعفين من أصحابه: خباب وعمار، وابن فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية, وصهيب وأشباههم، فكانت قريش تهزأ بهم، وقال الكفار بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، ثم يقولون أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق، لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا([157]).
ورد الله سبحانه وتعالى على استهزاء هؤلاء الكفار مبينًا لهم أن رضا الله لبعض عباده، لا يتوقف على منزلته ولا مكانته بين الناس في الدنيا، كما يؤكد لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم، حتى لا يتأثر بما يقوله الكفار، من محاولات الانتقاص من شأن هؤلاء الصحابة، ومبينًا له أيضًا مكانتهم فيقول الله تبارك وتعالى: ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ` وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ` وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )[الأنعام:52-54].
وهكذا بين الله لرسوله شأن هؤلاء الصحابة وقيمتهم ومنزلتهم التي يجهلها أو يتجاهلها الكفار، ويحاولون أن ينالوا منها، بل ويزيد الله على ذلك أن ينهى الرسول عن طردهم، كما يأمر بحسن تحيتهم، ويأمره أيضا أن يبشرهم بأن الله سبحانه، قد وعد بمغفرة ذنوبهم بعد توبتهم.
كيف تكون الروح المعنوية لهؤلاء، كيف يجدون الأذى من الكفار بعد ذلك, إنهم يفرحون بهذا الأذى الذي وصلوا بسببه إلى هذه المنازل العظيمة([158]).
ثم نرى عتاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وكان هذا العتاب في شأن رجل فقير أعمى من الصحابة, أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، ولم يجبه على سؤاله لانشغاله بدعوة بعض أشراف مكة([159]).
فنزل قول الله تعالى: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى` أَن جَاءَهُ الأعْمَى` وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى` أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى` أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى` فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى` وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى` وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى` وَهُوَ يَخْشَى` فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى )[عبس:1-10].
إنه لا مجال للامتيازات في دعوة الحق بسبب الحسب والنسب, أو المال والجاه، فهي إنما جاءت لتأصيل النظرة إلى الإنسان وبيان وحدة الأصل، وما تقتضيه من المساواة والتكافؤ، من هنا يمكن تعليل شدة أسلوب العتاب الذي وجهه الله تعالى لرسوله للاهتمام الكبير الذي أظهره لأبي بن خلف, على حساب استقباله لابن أم مكتوم الضعيف t, فابن أم مكتوم يرجح في ميزان الحق على البلايين من أمثال أبي بن خلف([160]) لعنه الله.
وكانت لهذه القصة دروس وعبر, استفاد منها الرعيل الأول، ومن جاء بعدهم من المسلمين ومن أهم هذه الدروس، الإقبال على المؤمنين, على الدعاة البلاغ, وليس عليهم الهداية، في قصة الأعمى دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلو لم يكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله لكتم هذه الحادثة، ولم يخبر الناس بها لما فيها من عتاب له صلى الله عليه وسلم ولو كان كاتمًا شيئًا من
الوحي لكتم هذه الآيات وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش([161]), فعلى الدعاة تقديم أهل الخير والإيمان([162]).

أما النقطة الثانية: في دفاع القرآن الكريم عن الصحابة، فقد كانت بالتخفيف عنهم، وكانت أهم وسائل التخفيف بإظهار أن هذا الأذى الذي يلقونه لم يكن فريدًا من نوعه، وإنما حدث قبل ذلك مثله وأشد منه كانت القصص التي تتحدث عن حياة الرسل في القرآن الكريم من لدن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى -عليهم السلام- تثبيتًا للمسلمين ولروح التضحية والصبر فيهم من أجل الدين وبينت لهم القدوة الحسنة التي كانت في العصور القديمة من أنجح الوسائل في ميادين الإعلام والتربية والتعليم, والعلاقات العامة، فالقصص القرآني يحوي الكثير من العبر والحكم والأمثال.
كان أيضًا من أساليب القرآن في تخفيفه عن الصحابة والدفاع عنهم أسلوبه في مدحهم ومدح أعمالهم في القرآن الكريم, يقرؤها الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما حدث مع الصديق لما أعتق سبع رقاب من الصحابة لينقذهم من الأذى وال*****، في نفس الوقت الذي يندد فيه بأمية بن خلف الذي كان يعذب بلال بن رباح، فالقرآن بدستوره الأخلاقي قد قدم قواعد الثواب والعقاب وشجع المؤمنين وحذر المخالفين، وحمل هذا التنديد مغزى عميقًا، فقد أنار الطريق للصحابة، وكان غمة وكربًا على نفوس الكفار المترددين، إذ جاء قول الله تعالى: ( فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى`لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشْقَى`الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى`وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى`الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى`وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى`إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى`وَلَسَوْفَ يَرْضَى )[الليل:14-21].
وكذلك خلَّد القرآن ثبات وفد نصارى نجران على الإسلام, رغم استهزاء الكفار ومحاولاتهم لصدهم عن الإسلام، لذا نزلت فيهم بعض الآيات كما يذكر بعض المؤرخين([163]) قال تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ` وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ` أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )[القصص:52-54].
وكانت الآيات بعد ذلك تبشر الصحابة بالثواب العظيم وبالنعيم المقيم في الجنة، جزاء بما صبروا وما تحملوا من الأذى، وتشجيعًا لهم على الاستمرار في طريق الدعوة غير مبالين بما يسمعونه وما يلاقونه، فالنصر والغلبة لهم في النهاية كما بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، وكما بين لهم القرآن، كما بين القرآن الكريم في نفس الوقت مصير أعدائهم, كفار مكة قال: ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ` يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ )[غافر:51،52].
وبين فضل تمسكهم بالقرآن وإيمانهم به, قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ` لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:29،30].
وبين سبحانه فضل التمسك بعبادته رغم الأذى وال*****، وبين جزاء الصبر على ذلك قال تعالى: ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ` قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )[الزمر: 9،10].
وهكذا كان القرآن الكريم يخفف عن الصحابة ويدافع عنهم، ويحصنهم ضد الحرب النفسية، وبذلك لم تؤثر تلك الحملات ووسائل ال***** على قلوب الصحابة؛ بفضل المنهج القرآني، والأساليب النبوية الحكيمة، لقد تحطمت كل أساليب المشركين في محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمام العقيدة الصحيحة, والمنهج السليم الذي تشرَّبه الرعيل الأول.
__________________
رد مع اقتباس
  #63  
قديم 21-09-2014, 10:35 AM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

سابعًا: أسلوب المفاوضات:
اجتمع المشركون يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر، والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ماذا يردُّ عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم،قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم: أن في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى.
أيها الرجل: إن كان إنما بك الحاجة, جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك - الباه - فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم«فرغت؟» قال: نعم، فقال رسول الله: ( حم` تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ` كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) إلى أن بلغ ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: «لا» فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم ([164]). وفي رواية ابن إسحاق: فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوا، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم([165]).
دروس وعبر وفوائد:
أ- لم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة جانبية حول أفضليته على أبيه وجده أو أفضليتهما عليه، ولو فعل ذلك لقضي الأمر دون أن يسمع عتبة شيئًا.
ب- لم يخض صلى الله عليه وسلم معركة جانبية حول العروض المغرية، وغضبه الشخصي لهذا الاتهام، إنما ترك ذلك كله لهدف أبعد، وترك عقبة يعرض كل ما عنده، وبلغ من أدبه صلى الله عليه وسلم أن قال: «أفرغت يا أبا الوليد؟» فقال: نعم([166]).
ج- كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاسمًا، إن اختياره لهذه الآيات لدليل على حكمته، وقد تناولت الآيات الكريمة قضايا رئيسية منها: إن هذا القرآن تنزيل من الله، بيان موقف الكافرين وإعراضهم، بيان مهمة الرسول, وأنه بشر، بيان أن الخالق واحد هو الله, وأنه خالق السماوات والأرض، بيان تكذيب الأمم السابقة وما أصابها، وإنذار قريش صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود([167]).
د- خطورة المال، والجاه، والنساء على الدعاة، فكم سقط من الدعاة على الطريق تحت بريق المال، وكم عرضت الآلاف من الأموال على الدعاة ليكفوا عن دعوتهم، والذين ثبتوا أمام إغراء المال هم المقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخطورة الجاه واضحة؛ لأن الشيطان في هذا المجال يزين ويغوي بطرق أكبر وأمكر وأفجر. والداعية الرباني هو الذي يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في حركته وأقواله وأفعاله, ولا ينسى الهدف الذي عاش له ويموت من أجله: ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ` لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )[الأنعام:162،163]، وأما النساء فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت فتنة على أمتي أضر على الرجال من النساء»([168]) سواء كانت زوجة تثبط الهمة عن الدعوة والجهاد، أو تسليط بعض الفاجرات عليه ليسقطنه في شباكهن، أو في تهيئة أجواء البغي والإثم والمجون ليرتادها خطوة بعد خطوة، أيًّا كانت, فإنها فتنة عظيمة في الدين, فها هي قريش تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءها، يختار عشرًا منهن، أجملهن وأحسنهن يكن زوجات له, إن كان عاجزًا عن الزواج من أكثر من واحدة، إن خطر المرأة حين لا تستقيم على منهج الله, أشد من خطر السيف المصلت على الرقاب([169]), فعلى الدعاة أن يقتدوا بسيد الخلق, ويتذكروا دائما قول يوسف عليه السلام: ( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ` فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [يوسف:33-34].
هـ- تأثر عتبة من موقف النبي صلى الله عليه وسلم: وكان هذا التأثير واضحًا لدرجة أن أصحابه أقسموا على ذلك التأثير قبل أن يخبرهم، فبعد أن كان العدو ينوي القضاء على الدعوة، إذا به يدعو لعكس ذلك, فيطلب من قريش أن تخلي بين محمد صلى الله عليه وسلم وما يريد([170]).
و- استمع الصحابة لما حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عتبة، وكيف رفض حبيبهم صلى الله عليه وسلم كل عروضه المغرية، فكان ذلك درسًا تربويًّا خالط أحشاءهم، تعلموا منه الثبات على المبدأ، والتمسك بالعقيدة، ووضع المغريات تحت أقدام الدعاة.
ز- تعلم الصحابة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الحلم ورحابة الصدر, فقد استمع صلى الله عليه وسلم إلى ترهات عتبة بن ربيعة ونيله منه وقوله عنه: (إن في قريش ساحرًًا)، و(إن في قريش كاهنًا)، (ما رأينا سخلة أشأم على قومك منك)، و(إن كان بك رَئِيٌّ من الجن) فقد أعرض عنه صلى الله عليه وسلم وأغض عن هذا السباب بحيث لا يصرفه ذلك دعوته وتبليغه إياها لسيد بني عبد شمس, فقد كانت كل كلمة تصدر من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم مبدأ يحتذى، وكل تصرف دينًا يتبع، وكل إغضاء خلقًا يتأسى به([171]).
وذكرت بعض كتب السيرة بأن قيادات مكة دخلوا في مفاوضات بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضوا عليه إغراءات تلين أمامها القلوب البشرية ممن أراد الدنيا, وطمع في مغانمها إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ موقفا حاسمًا في وجه الباطل دون مراوغة أو مداهنة, أو دخول في دهاء سياسي, أو محاولة وجود رابطة استعطاف أو استلطاف مع زعماء قريش([172])؛ لأن قضية العقيدة تقوم على الوضوح والصراحة والبيان بعيدة عن المداهنة والتنازل؛ ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي ما تقولون, ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» ([173]).
بهذا الموقف الإيماني الثابت رجع كيدهم في نحورهم، وثبتت قضية من أخطر قضايا العقيدة الإسلامية وهي خلوص العقيدة من أي شائبة غريبة عنها سواء في جوهرها أو في الوسيلة الموصلة إليها([174]).
لكم دينكم ولي دين
ولما رأى المشركون صلابة المسلمين واستعلاءهم بدينهم, ورفعة نفوسهم فوق كل باطل، ولما بدأت خطوط اليأس في نفوسهم من أن المسلمين يستحيل رجوعهم عن دينهم سلكوا مهزلة أخرى من مهازلهم الدالة على طيش أحلامهم, ورعونتهم الحمقاء، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الأسود بن عبد المطلب, والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد, وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه» ([175]). فأنزل الله فيهم: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ`لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ `وَلاَ


أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ`وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ`وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ`
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ
دِينِ )[الكافرون].

ومثل هذه السورة آيات أخرى تشابهها في إعلان البراء من الكفر وأهله, مثل
قوله تعالى: ( وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ )[يونس:41].

وقوله تعالى ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ` قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ )[الأنعام:56،57].
ولقد بينت سورة الكافرون بأن طريق الحق واحد لا عوج فيه، ولا فجاج له، إنه العبادة الخالصة لله وحده رب العالمين، فنزلت هذه السورة على الرسول صلى الله عليه وسلم للمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة، ومنهج ومنهج، وتصور وتصور، وطريق وطريق، نعم نزلت نفيًا بعد نفي, وجزمًا بعد جزم، وتوكيدًا بعد توكيد، بأنه لا لقاء بين الحق والباطل، ولا اجتماع بين النور والظلام، فالاختلاف جوهري كامل يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق، والأمر لا يحتاج إلى مداهنة أو مراوغة، نعم فالأمر هنا ليس مصلحة ذاتية، ولا رغبة عابرة، ولا سمًّا في عسل، وليس الدين لله والوطن للجميع كما تزعم الجاهلية المعاصرة، ويدعي المنافقون والمستغربون الذين يتبعون الضالين والمغضوب عليهم، ولا كما يعتقد الملحدون أعداء الله سبحانه في كل مكان، كان الرد حاسمًا على زعماء قريش المشركين، ولا مساومة، ولا مشابهة، ولا حلول وسط، ولا ترضيات شخصية، فإن الجاهلية جاهلية والإسلام إسلام، في كل زمان ومكان، والفارق بينهم بعيد كالفرق بين التبر والتراب، والسبيل الوحيد هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته عبادة وحكما، وإلا فهي البراءة التامة والمفاصلة الكاملة والحسم الصريح بين الحق والباطل في كل زمان ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )([176]).
وجاء وفد آخر بعد فشل الوفد السابق، يتكون من عبد الله بن أبي أمية، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس، والعاص بن عامر([177]) جاء ليقدم عرضًا آخر للتنازل عن بعض ما في القرآن، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزع من القرآن ما يغيظهم من ذم آلهتهم، فأنزل الله لهم جوابًا حاسمًا، قال تعالى: ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )[يونس:15].
وهذه الوفود والمفاوضات تبين مدى الفشل الذي أصاب زعماء قريش في عدم حصولها على التنازل الكلي عن الإسلام، الأمر الذي جعلها تلجأ إلى طلب الحصول على شيء من التنازل، ويلاحظ أن التنازل الذي طلبوه في المرة الأولى، أكبر مما طلبوه في المرة الثانية، وهذا يدل على تدرجهم في التنازل من الأكبر إلى الأصغر، علهم يجدون آذانًا صاغية لدى قائد الدعوة، كما أنهم كانوا يغيرون الأشخاص المتفاوضين، فالذين تفاوضوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى غير الذين تفاوضوا معه في المرة الثانية، ما خلا الوليد بن المغيرة وذلك حتى لا تتكرر الوجوه، وفي ذات الوقت تنويع الكفاءات, والعقول المفاوضة، فربما أثر ذلك في نظرهم بعض الشيء، وفي هذا درس للدعاة إلى يوم القيامة؛ بأن لا تنازل عن الإسلام ولو كان هذا التنازل شيئًا يسيرًا، فالإسلام دعوة ربانية ولا مجال فيها للمساومة إطلاقًا، مهما كانت الأسباب والدوافع، والمبررات (وعلى الدعاة اليوم الحذر من مثل هذه العروض، والإغراءات المادية، التي قد لا تعرض بطريق مباشر، فقد تأخذ شكلاً غير مباشر، في شكل وظائف عليا، أو عقود عمل مجزية، أو صفقات تجارية مربحة، وهذا ما تخطط له المؤسسات العالمية المشبوهة لصرف الدعاة عن دعوتهم وبخاصة القيادين منهم، وهناك تعاون تام في تبادل المعلومات بين هذه المؤسسات التي تعمل من مواقع متعددة لتدمير العالم الإسلامي) ([178]) ولقد جاء في التقرير الذي قدمه (ريتشارد ب. ميشيل) أحد كبار العاملين في مجال الشرق الأوسط، لرصد الصحوة الإسلامية، وتقديم النصح بكيفية ضربها, جاء في هذا التقرير: وضع تصور لخطة جديدة يمكن من خلالها تصفية الحركات الإسلامية، فكان من بين فقرات هذا التقرير فقرة خاصة بإغراء قيادات الدعوة، فاقترح لتحقيق ذلك الإغراء ما يلي:
أ- تعيين من يمكن إغراؤهم بالوظائف العليا، حيث يتم شغلهم بالمشروعات الإسلامية فارغة المضمون، وغيرها من الأعمال التي تستنفد جهدهم، وذلك مع الإغداق عليهم أدبيًّا وماديًا، وتقديم تسهيلات كبيرة لذويهم، وبذلك يتم استهلاكهم محليًّا، وفصلهم عن قواعدهم الجماهيرية.
ب- العمل على جذب ذوي الميول التجارية والاقتصادية, إلى المساهمة في المشروعات ذات الأهداف المشبوهة، التي تقام في المنطقة العربية لمصالح أعدائها.
ج- العمل على إيجاد فرص عمل, وعقود مجزية في البلاد العربية الغنية، الأمر الذي يؤدي إلى بُعدهم عن النشاط الإسلامي([179]).
فالمتدبر في النقاط الثلاث السابقة، يلاحظ أنها إغراءات مادية غير مباشرة، وبنظرة فاحصة للعالم الإسلامي اليوم، نلاحظ أن هذه النقاط تنفذ بكل هدوء, فقد أشغلت المناصب العليا بعض الدعاة، واستهلكت بعض الدول العربية الغنية جمًا غفيرًا من الدعاة، وألهت التجارة بعضهم([180]).
ثامنًا: أسلوب المجادلة ومحاولة التعجيز:
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقام الحجج والبراهين والأدلة على صحة دعوته, وكان صلى الله عليه وسلم يتقن اختيار الأوقات، وانتهاز الفرص والمناسبات، ويقوى على الرد على الشبهات مهما كان نوعها، وقد استخدم في مجادلته مع الكفار أساليب كثيرة, استنبطها من كتاب الله تعالى في إقامة الحجة العقلية, واستخدام الأقيسة المنطقية, واستحضار التفكير والتأمل، ومن الأساليب التي استخدمها صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة:
1- أسلوب المقارنة:
وذلك بعرض أمرين: أحدهما هو الخير المطلوب الترغيب فيه، والآخر هو الشر المطلوب الترهيب منه، وذلك باستثارة العقل, للتفكر في كلا الأمرين, وعاقبتهما الوصول -بعد المقارنة- إلى تفضيل الخير واتِّباعه:
قال تعالى: ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:122].
قال ابن كثير في تفسيره: «هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتًا أي: في الضلالة هالكًا حائرًا، فأحياه الله, أي: أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفقه لاتباع رسله»([181]).
2- أسلوب التقرير:
وهو أسلوب يؤول بالمرء بعد المحاكمة العقلية, إلى الإقرار بالمطلوب, الذي هو مضمون الدعوة، قال تعالى: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ` أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ` أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ` أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ` أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ` أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ` أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ` أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ` أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ` وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ` فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ )[الطور:35-45].
قال ابن كثير في تفسيره: «هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) أي أُوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي لا هذا ولا هذا, بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورا» ([182]).
وهذه الآية في غاية القوة من حيث الحجة العقلية؛ لأن «وجودهم هكذا من غير شيء أمر ينكره منطق الفطرة ابتداء, ولا يحتاج إلى جدال كثير أو قليل، أما أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم فأمر لم يدَّعوه، ولا يدَّعيه مخلوق، وإذا كان هذان الفرضان لا يقومان بحكم منطق الفطرة, فإنه لا يبقى سوى الحقيقة التي يقولها القرآن. وهي أنهم من خلق الله جميعا من خلق الله الواحد الذي لا يشاركه أحد»([183]) والتعبير بالفطرة مضمون الأمر المقرر بداهة في العقل.
3- أسلوب الإمرار والإبطال:
وهو أسلوب قوي في إفحام المعاندين أصحاب الغرور والصلف, بإمرار أقوالهم, وعدم الاعتراض على بعض حججهم الباطلة, منعًا للجدل والنزاع خلوصًا إلى الحجة القاطعة تدمغهم وتبطل بها حجتهم تلك, فتبطل الأولى بالتبع، وفي قصة موسى عليه السلام مع فرعون، نموذج مطول لهذا الأسلوب, حيث أعرض موسى عن كل اعتراض وشبهة أوردها فرعون، ومضى إلى إبطال دعوى الألوهية لفرعون من خلال إقامة الحجة العقلية الظاهرة على ربوبية الله وألوهية الله([184]), وذلك في الآيات من سورة الشعراء قال تعالى: ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ` قَالَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُم مُّوقِنِينَ` قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ` قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ` قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ` قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ` قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ )[الشعراء:23-29].
وهكذا كانت الأساليب القرآنية الكريمة, هي الركيزة في مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين، ولما احتار المشركون في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم, ولم يكونوا على استعداد في تصديقه أنه رسول من عند الله, ليس لأنهم يكذبونه, وإنما عنادًا وكفرًا، كما قال تعالى: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ )[الأنعام:33].
لذلك هداهم تفكيرهم المعوج أن يطلبوا من الرسول عليه السلام مطالب, ليس الغرض منها التأكد من صدق النبي صلى الله عليه وسلم, ولكن غرضهم منها التعنت والتعجيز, وهذا ما طلبوه من الرسول عليه الصلاة والسلام:
أ- أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا: أي يجري لهم الماء عيونًا جارية.
ب- أو تكون له جنة من نخيل وأعناب يفجر الأنهار خلالها تفجيرًا، أي تكون له حديقة فيها النخل والعنب, والأنهار تتفجر بداخلها.
ج- أو يسقط السماء كسفًا: أي يسقط السماء قطعًا كما سيكون يوم القيامة.
د- أو يأتي بالله والملائكة قبيلاً.
هـ- أو يكون له بيت من زخرف: أي ذهب.
و- أو يرقى في السماء: أي يتخذ سلمًا يرتقي عليه ويصعد إلى السماء.
ز- إنزال كتاب من السماء يقرؤونه، يقول مجاهد: أي مكتوب فيه إلى كل واحد صحيفة,هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان تصبح موضوعة عند رأسه([185]).
ح- لبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم فيسير لهم الجبال، ويقطع الأرض، ويبعث من مضى من آبائهم من الموتى([186]).
إن عملية طلب الخوارق والمعجزات هي خطة متبعة على مدى تاريخ البشرية الطويل، ورغم حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان قومه، وتفانيه في ذلك، لكن التربية الربانية التي تلقاها من ربه، والأدب النبوي الذي تأدب عليه، جعله يرفض طلب المعجزة([187]) وإنما كانت إجابته صلى الله عليه وسلم:
«ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي، أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم»[188]).
وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينًا أسفًا لما فاته مما طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه,([189]) وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه التعنتات والرد عليها في قوله سبحانه ( وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا` أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا` أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً` أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرُؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً` وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً` قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً` قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا )[الإسراء:90-96].
ونزل قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للهِ الأمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ )([190])

[الرعد:31].

إن الحكمة في أنهم لم يجابوا لما طالبوا، لأنهم لم يسألوا مسترشدين وجادين، وإنما سألوا متعنتين ومستهزئين، وقد علم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما طلبوا لما آمنوا، وللجُّوا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يترددون، قال سبحانه: ( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ` وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ` وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ )[الأنعام:109-111].
ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الربانية ألا يجابوا على ما سألوا؛ لأن سنته سبحانه أنه إذا طلب قوم آيات فأجيبوا، ثم لم يؤمنوا, عذَّبهم عذاب الاستئصال كما فعل بعاد وثمود وقوم فرعون.
وليس أدل على أن القوم كانوا متعنتين وساخرين، ومعوقين لا جادين, من أن عندهم القرآن وهو آية من الآيات، وبينة البينات، ولذلك لما سألوا ما اقترحوا من هذه الآيات وغيرهم رد عليهم سبحانه([191]) بقوله: ( وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ` أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ` قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )[العنكبوت:50-52].
وقد ذكر عبد الله بن عباس t رواية مفادها: أن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ادعُ لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك, قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم، قال فدعاه: فأتاه جبريل فقال: إن ربك –عز وجل– يقرأ عليك السلام، ويقول إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة، والرحمة، فقال: بل باب التوبة والرحمة، فأنزل الله تعالى: ( وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآَيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا )[الإسراء:59]([192]).
لقد كان هدف زعماء قريش من تلك المطالب, هو شن حرب إعلامية ضد الدعوة والداعية, والتآمر على الحق, كي تبتعد القبائل العربية عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يطالبون بأمور يدركون أنها ليست طبيعة هذه الدعوة؛ ولهذا أصروا عليها، بل لقد صرحوا بأن لو تحقق شيء من ذلك فلن يؤمنوا أيضا بهذه الدعوة، وهذا كله محاولة منهم لإظهار عجز الرسول صلى الله عليه وسلم واتخاذ ذلك ذريعة لمنع الناس عن اتباعه([193]).
__________________
رد مع اقتباس
  #64  
قديم 21-09-2014, 10:40 AM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

تاسعًا: دور اليهود في العهد المكي واستعانة مشركي مكة بهم:
تحدث القرآن الكريم عن بني إسرائيل طويلاً في سور كثيرة, بلغت خمسين سورة في المرحلة المكية، وفي المرحلة المدنية, كان دور اليهود كبيرًا في محاولة إطفاء نور الله, والقضاء على دعوة الإسلام, وعلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تحظ ملة من الملل؛ ولا قوم من الأقوام بالحديث عنهم بمثل هذا الشمول, وهذه التفصيلات ما حظي به اليهود، وحديث القرآن عنهم يتسم بمنهج دقيق يتناسب مع المراحل الدعوية التي مرت بها دعوة الإسلام، فقد جاءت الآيات الكريمة تشير إلى أن غفلة المشركين عن الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم اكتراثهم به وبدعوته, له نماذج بشرية تقدمتهم، مثل عاد وثمود وفرعون وبني إسرائيل وقوم تبع، وأصحاب الرس([194])
عندما وجدت قريش نفسها عاجزة أمام دعوة الحق، وكان المعبر عن هذا العجز, النضر بن الحارث الذي صرح قائلا: «يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد.. فانظروا في شأنكم, فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم» فقرروا بعد ذلك إرسال النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط, إلى أحبار اليهود بالمدينة, لمعرفة حقيقة هذه الدعوة, لا لكي يتبعوها، ولكن لإدراكهم أن اليهود قد يمدونهم بأشياء تظهر عجز الرسول صلى الله عليه وسلم لمعرفة زعماء مكة بحقد اليهود المنصب على الأنبياء جميعًا وأصحاب الحق أينما كانوا، كانت بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم صدمة قوية لليهود؛ وذلك لأنهم عاشوا في جزيرة العرب على حلم توارثوه طوال السنين الماضية, وهو أنه سيُبعث نبي مخلص في ذلك الزمان والمكان، فرجوا أن يكون منهم، آملين أن يخلصهم من الفرقة والشتات الذي كانوا فيه([195]).
كان التقارب بين معسكر الكفر والشرك مع اليهود, ينسجم مع أهدافهم المشتركة للقضاء على دعوة الإسلام، ولذلك زودوا الوفد المكي ببعض الأسئلة محاولة لتعجيز النبي صلى الله عليه وسلم.
عن ابن عباس t قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد, وصفوا لهم صفته, وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدنية، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وبعض قوله, وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح, ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فإنه نبي فاتبعوه، وإن هو لم يخبركم فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم غدًا بما سألتم عنه، ولم يستثن([196]) فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمدًا غدًا واليوم خمس عشرة، قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ).
كانت سورة الكهف قد احتوت على الإجابة لأسئلتهم, وإشارة إلى أن كهفًا من عناية الله سوف يأوي هؤلاء المستضعفين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, كما آوى الكهف الجبلي الفتية المؤمنين الفارين بدينهم من الفتنة.
وأن نفوسًا ستبش في وجوه هذه العصبة, من أنصار دين الله في يثرب, بالقرب من الذين عاضدوا قريشًا في شكهم، وحاولوا معهم طمس نور الحق بتلقينهم المنهج التعجيزي في التثبت في أمر النبوة, وهو منهج غير سليم، فمتى كانت الأسئلة التعجيزية وسيلة التحقق من صدق الرسالة وصاحبها، فهذا نبي الله موسى عليه السلام وهو من أعظم أنبياء بني إسرائيل لم يعلم تأويل الأحداث الثلاثة التي جرت أمامه، وأنكر على الخضر تصرفاته, على الرغم من تعهده أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرًا، على الرغم من كل ذلك لم تؤثر الأحداث وما دار حولها في نبوة موسى عليه السلام شيئا، ولم يشكك بنو إسرائيل في نبوته, فلم يجعلوا مثل هذه الأسئلة أسلوبًا للتحقق من صدق الرسالة([197]).
جعل الله هذه المناسبة وسيلة للإشارة إلى قرب الفرج للعصبة المؤمنة ليجدوا مأوى كما وجد الفتية المأوى، وليبش في وجوههم أهل المدينة كما بش أهل المدينة في وجه هؤلاء الفتية, ثم ذهبوا إليهم ليكرموهم وليخلدوا ذكراهم([198]).
عاشرًا: الحصار الاقتصادي والاجتماعي في آخر العام السابع من البعثة:
ازداد إيذاء المشركين من قريش, أمام صبر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين على الأذى وإصرارهم على الدعوة إلى الله، وإزاء فشو الإسلام في القبائل، وبلوغ الأذى قمته في الحصار المادي والمعنوي, الذي ضربته قريش ظلمًا وعدوانًا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ومن عطف عليهم من قرابتهم([199]).
قال الزهري: «ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا, حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها, أن ي***وا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب, وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم, ويمنعوه ممن أراد ***ه، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانًا ويقينًا، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لل***، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودًا ومواثيق، لا يتقبلوا من بني هاشم أبدًا صلحًا، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه لل***([200]).
وفي رواية: ... على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سببًا من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحًا، ولا تأخذهم بهم رأفة، ولا يخالطوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله لل***، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم([201]).
فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاما يقدم من مكة ولا بيعًا إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم([202]).
وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى فراشه, حتى يراه من أراد به مكرًا أو غائلة، فإذا نام الناس أخذ أحد بنيه أو إخواته أو بني عمه, فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأمر رسول الله أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها([203]).
واشتد الحصار على الصحابة, وبني هاشم, وبني المطلب, حتى اضطروا إلى أكل ورق الشجر، وحتى أصيبوا بظلف العيش وشدته، إلى حد أن أحدهم يخرج ليبول فيسمع بقعقعة شيء تحته، فإذا هي قطعة من جلد بعير فيأخذها فيغسلها، ثم يحرقها ثم يسحقها، ثم يستفها، ويشرب عليها الماء فيتقوى بها ثلاثة أيام([204])، وحتى لتسمع قريش صوت الصبية يتضاغون من وراء الشِّعب من الجوع([205]).
فلما كان رأس ثلاث سنين، قيض الله سبحانه وتعالى لنقض الصحيفة أناسًا من أشراف قريش، وكان الذي تولى الانقلاب الداخلي لنقض الصحيفة هشام بن عمرو الهاشمي، فقصد زهير بن أبي أمية المخزومي، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب, فقال له: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟ لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم, ما أجابك إليه أبدًا, قال: ويحك يا هشام فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقال له: قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال له زهير: أبغنا ثالثا.
فذهب إلى المطعم بن عدي، فقال له: أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيهم؟ أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعًا قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد قال: قد وجدت لك ثانيًا: قال من؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثًا: قال: قد فعلت، قال: من؟ قال زهير بن أبي أمية، فقال أبغنا رابعًا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحو ما قال للمطعم بن عدي، فقال له: ويحك وهل نجد أحد يعين على ذلك؟ قال: نعم، زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا، فقال: أبغنا خامسًا، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابته وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال نعم، ثم سمى له القوم، فاتَّعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة، فاجتمعوا هناك، وأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فقال أبو جهل، وكان في ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق، فقال زمعة ابن الأسود: أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كُتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كُتبت فيها، ولا نقر به، فقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ من الله منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك؟ فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تُشووِر فيه في غير هذا المكان، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد لا يتكلم.
وقام المعطم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا (باسمك اللهم) ([206])، وروى ابن إسحاق أن الله عز وجل أرسل على الصحيفة الأرضة فلم تدع فيها اسمًا لله عز وجل إلا أكلته، وبقي فيها الظلم والقطعية والبهتان وأخبر رسول
الله
صلى الله عليه وسلم بذلك عمه فذهب أبو طالب إلى قومه وأخبرهم بذلك، وقال لهم: فإن كان كاذبًا فلكم علي أن أدفعه إليكم ت***ونه، وإن كان صادقًا فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟ فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه، فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المطعم بن عدي وهشام بن عمرو: نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة، ولن نمالئ أحدًا في فساد أنفسنا وأشرافنا، وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش فخرجوا من الشِّعب([207]).

دروس وعبر وفوائد:
1- إن مشركي بني هاشم وبني المطلب تضامنوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحموه كأثر من أعراف الجاهلية، ومن هنا ومن غيره نأخذ أنه يسع المسلم أن يستفيد من قوانين الكفر فيما يخدم الدعوة, على أن يكون ذلك مبنيًّا على فتوى صحيحة من أهلها([208]).
2- إن حقوق الإنسان في عصرنا ضمان للمسلم، والحرية الدينية في كثير من البلدان يستفاد منها، وقوانين كثيرة من أقطار العالم تعطي للمسلمين فرصًا وعلى المسلمين أن يستفيدوا من ذلك وغيره من خلال موزانات دقيقة([209]).
3- من المهم أن تعلم بأن حماية أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، لم تكن حماية للرسالة التي بعث بها، وإنما كانت لشخصه من الغريب، وإذا أمكن أن تستغل هذه الحماية من قبل المسلمين كوسيلة من وسائل الجهاد والتغلب على الكافرين والرد لمكائدهم وعدوانهم فأنعم بذلك من جهد مشكور وسبيل ينتبهون إليها([210]).
4- انتصر أبو طالب في غزو المجتمع القرشي بقصائده الضخمة, التي هزت كيانه هزًّا وتحرك لنقض الصحيفة من ذكرنا من قبل، أولئك الخمسة الذين يمتون بصلة قرابة أو رحم لبني هاشم, وبني المطلب واستطاعوا أن يرفعوا هذا الظلامة, وهذا الحيف عن المسلمين وأنصارهم وحلفائهم وخططوا له ونجحوا فيه وفي هذا الموقف إشارة إلى أن كثيرًا من النفوس, والتي تبدو في ظاهر الأمر من أعمدة الحكم الجاهلي، قد تملك في أعماقها رفضًا لهذا الظلم والبغي، وتستغل الفرصة المناسبة لإزاحته، وعلى أبناء المسلمين أن يهتموا بهذه الشرائح، وينفذوا إلى أعماقها، وتوضح لهم حقيقة القرآن الكريم, والسنة النبوية الشريفة، وتبين لها طبيعة العداء بين الإسلام واليهود والصليبيين والعلمانية، فقد يستفاد منهم في خدمة الإسلام([211]).
5- وظاهرة أبي لهب تستحق الدراسة والعناية؛ لأنها تتكرر في التاريخ الإسلامي، فقد يجد الدعاة من أقرب حلفائهم من يقلب لهم ظهر المجن، ويبالغ في إيذاء الدعاة، وحربهم أكثر بكثير يلقونه من خصومهم الألداء الأشداء([212]).
6- كانت تعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم لأفراد المسلمين ألاَّ يواجهوا العدو، وأن يضبطوا أعصابهم، فلا يشعلوا فتيل المعركة, أو يكونوا وقودها، وإن أعظم تربية في هذه المرحلة هي صبر أبطال الأرض على هذا الأذى, دون مقاومة. حمزة وعمر، وأبو بكر وعثمان، وغيرهم رضي الله عنهم، سمعوا وأطاعوا، فلقوا كل هذا الأذى وهذا الحقد، وهذا الظلم، فكفوا أيديهم، وصبروا ليس على حادثة واحدة فقط، أو يومًا واحدًا فقط بل ثلاث سنين عجاف, تحترق أعصابهم ولا يسمح لهم برمية سهم أو شجة رأس([213]).
7- أثبتت الأحداث عظمة الصف المؤمن, في التزامه بأوامر قائده، وبعده عن التصرفات الطائشة، فلم يكن شيء أسهل من اغتيال أبي جهل، وإشعال معركة غير مدروسة لا يعلم إلا الله مداها، وغير متكافئة.
8- كانت الدعوة الإسلامية تحقق انتصارات رائعة في الحبشة، وفي نجران، وفي أزد شنوءة، وفي دَوْس، وفي غفار، وكانت تتم في خط واضح, سيكون سندًا للإسلام والمسلمين ومراكز قوى يمكن أن تتحرك في اللحظة الحاسمة، وامتدادات للدعوة، تتجاوز حدود مكة الصلدة المستعصية.
9- كانت هذه السنوات الثلاثة للجيل الرائد, زادًا عظيمًا في البناء والتربية, حيث ساهم بعضه في تحمل آلام الجوع والخوف، والصبر على الابتلاء، وضبط الأعصاب، والضغط على النفوس والقلوب، ولجم العواطف عن الانفجار.
10- كانت بعض الشخصيات في الصف المشرك, تبني في داخلها بالتربية النبوية، وتتأثر بعظمة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وتتفاعل في أعماقها مع المبادئ التي يقدمها الدين الجديد، لكن سيطرة الملأ وسطوة الكبراء, كانت تحول دون إبراز هذا التفاعل وهذا الحب وهذه التربية، وختام قصة الصحيفة تقدم لنا أجلى بيان عن ذلك([214]).
11- قيام الحجج الدامغة والبراهين الساطعة, والمعجزات الخارقة لا يؤثر في أصحاب الهوى وعبدة المصالح والمنافع؛ لأنهم يلغون عقولهم عن التدبر، ويصمون آذانهم عن سماع الحق، ويغمضون أعينهم عن النظر والتأمل والاهتداء إلى الحق بعد قيام الأدلة عليه، فلقد أخبرهم أبو طالب بما اخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم بما حدث للصحيفة من أكل الأرضة لها وبقاء اسم الله فقط (باسمك اللهم) ورأوا ذلك بأم أعينهم فما آمن منهم أحد، إنه الهوى الذي يُغشي عن الحق، ويصم الآذان عن سماعه([215]).
12- كانت حادثة المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية سببًا في خدمة الدعوة والدعاية لها بين قبائل العرب، فقد ذاع الخبر في كل القبائل العربية من خلال موسم الحج, ولفت أنظار جميع الجزيرة العربية إلى هذه الدعوة التي يتحمل صاحبها وأصحابه الجوع والعطش والعزلة لكل هذا الوقت، أثار ذلك في نفوسهم أن هذه الدعوة حق، ولولا ذلك لما تحمل صاحب الرسالة وأصحابه كل هذا الأذى والعذاب.
13- أثار هذا الحصار سخط العرب على كفار مكة لقسوتهم على بني هاشم وبني المطلب، كما أثار عطفهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما أن انفك الحصار حتى أقبل الناس على الإسلام، وحتى ذاع أمر هذه الدعوة وتردد صداها في كل بلاد العرب، وهكذا ارتد سلاح الحصار الاقتصادي على أصحابه، وكان عاملاً قويًّا من عوامل انتشار الدعوة الإسلامية عكس ما أراد زعماء الشرك تمامًا([216]).
14- كان لوقوف بني هاشم وبني المطلب مع رسول الله وتحملهم معه الحصار الاقتصادي والاجتماعي أثر في الفقه الإسلامي، حيث إن سهم ذوي القربى من الخمس يعطى لبني هاشم وبني المطلب, ويوضح ابن كثير هذا الحكم لدى تفسيره قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[الأنفال:41].
فيقول: «وأما سهم ذوي القربى, فإنه يصرف إلى بني هاشم, وبني المطلب؛ لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية, وفي أول الإسلام، ودخلوا معهم في الشعب غضبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية لهم، مسلمهم طاعة لله ورسوله وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب، وأما بنو عبد شمس, وبنو نوفل, وإن كانوا بني عمهم, فلم يوافقوهم على ذلك, بل حاربوهم ونابذوهم ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان ذم أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم لشدة قربهم.. وفي بعض الروايات هذا الحديث: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام» وهذا قول جمهور العلماء إنهم بنو هاشم وبنو المطلب»([217]).
15- لما أذن الله بنصر دينه، وإعزاز رسوله، وفتح مكة، ثم حجة الوداع، كان
النبي
صلى الله عليه وسلم يؤثر أن ينزل في خَيْف بني كنانة ليتذكر ما كانوا فيه من الضيق والاضطهاد، فيشكر الله على ما أنعم عليه من الفتح العظيم، ودخولهم مكة، التي أخرجوا منها، وليؤكد قضية انتصار الحق واستعلائه، وتمكين الله لأهله الصابرين,([218]) فعن أسامة بن زيد
t قال: قلت يا رسول الله أين تنزل غدًا؟ في حجته، قال: «وهل ترك لنا عقيل منزلا؟» ثم قال: «نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة، المحصب، حيث قاسمت قريش على الكفر» وذلك أن بني كنانة حالفت قريشًا على بني هاشم, أن لا يبايعوهم, ولا يؤوهم، قال الزهري: والخيف الوادي([219]).

16- على كل شعب في أي وقت، يسعى لتطبيق شرع الله عليه، أن يضع في حسبانه احتمالات الحصار والمقاطعة من أهل الباطل، فالكفر ملة واحدة. فعلى قادة الأمة الإسلامية تهيئة أنفسهم وأتباعهم لمثل هذه الظروف، وعليهم وضع الحلول المناسبة لها إذا حصلت، وأن تفكر بمقاومة الحصار بالبدائل المناسبة, كي تتمكن الأمة من الصمود في وجه أي نوع من أنواع الحصار([220]).
* * *


([1]) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي، ص78. (2) فلك عقله: أي ديته إذا ***.
(3) البداية والنهاية (3/48).


([4]) انظر: فقه السيرة النبوية، ص184.
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/269) (2) سمراء: كناية عن الرمح.

(3) أبيض عضب: كناية عن السيف.


([8]) السيرة النبوية لابن هشام (1/273)
([9]) ونسلمه حتى نصرع حوله: أي كذبتم أن نسلمه قبل أن نصرع حوله.
([10]) الحلائل: الزوجات. (4) الروايا: الإبل التي تحمل الماء للساقية.

([12]) الدغاول: الدواهي. (6) قيل: الرئيس الكبير في اليمن.


([14]) انظر: فقه السيرة النبوية ص212. (8) بوائل: ناج.


([16]) انظر: فقه السيرة النبوية، ص212.
([17]) الزمزمة: كلام خفي لا يسمع.(2) العذق: النخلة.

([19]) الجناة: ما يجني من الثمر.
([20]) السير والمغازي لابن إسحاق، ص150، 151، تهذيب السيرة (1/64، 65).
([21]) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، د. عبد الوهاب كحيل، ص103.
([22]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي، (1/123).
([23]) انظر التاريخ الإسلامي للحميدي, (1/127: 137).
([24]) قاموس البحر: معناه وسطه، أو لجته أو قعره الأقصى.
([25]) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة رقم 868.
([26]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (1/132، 133) وانظر: الوحي وتبليغ الرسالة، د.يحيى اليحيى. ص111: 113
([27]) انظر: صحيح مسلم،كتاب صلاة المسافرين. رقم 832.
([28]) انظر: التاريخ الإسلامي، (1/109) للحميدي. (2) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، ص106: 109.


([30]) انظر: الأساس في السنة (1/126) سعيد حوى.
([31]) صحيح مسلم (1/109). (3) صحيح البخاري فتح البخاري (6/107).

([33]) السيرة النبوية، ابن كثير (2/76) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للدكتور العمري (1/146).
([34]) حصينة: يعني عاقلاً متحصنًا بدين آبائه وأجداده، ومعتقداتهم، انظر: النهاية لابن الأثير (1/234).
([35]) الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (1/337) وعنه نقل الشيخ محمد يوسف في: حياة الصحابة(1/75، 76).
([36]) انظر: فقه الدعوة الفردية، د. السيد محمد نوح ص104.
([37]) صحيح البخاري (فتح الباري) (7/173).
([38]) ما شفيتني مما أردت: ما بلغتني غرضي وأزلت عني همي.
([39]) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي, ص83.
([40]) صحيح مسلم (4/1923) وشنفوا له: أي أبغضوه، وانظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/145).
([41]) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، د. يحيى اليحيى ص91: 93.
([42]) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، د. إبراهيم علي, ص58،59.
([43]) انظر: دروس في الكتمان، محمود خطاب، ص9. (3) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة ص95.

([45]) انظر: فتح الباري (7/134). (5) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، ص94، 95.

([47]) مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة (3/1457) رقم 1825.
([48]) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، ص100.
([49]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/45).
([50]) التاريخ الإسلامي للحميدي (1/144).
([51]) يعفر وجهه: أي يسجد ويلصق وجهه بالعفر وهو التراب.
([52]) فجئهم: بغتهم. (3) عقبيه: رجع يمشي إلى الوراء.


([54]) مسلم، كتاب صفات المنافقين، باب قوله ( إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى ) رقم 2797.
([55]) زبره: نهره. (6) الترمذي رقم 3349، حسن صحيح غريب.

([57]) القليب: البئر المفتوحة.
([58]) البخاري (فتح الباري 1/594) مسلم (3/1418-1420).
([59]) صحيح مسلم (3/1420).
([60]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/149).
([61]) انظر: صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي من طرق أخرى، ص96.
([62]) صحيح البخاري (فتح الباري 6/554، 555).
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/293).

([64]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/153).
([65]) سنن الترمذي (4/645) صححه الألباني صحيح الجامع (5001).
([66]) والد الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة. (5) الروض الأنف (2/33) وما بعدها.


([68]) المصدر السابق نفسه (2/48) (7) زاد اليقين لأبي شنب ص137.


([70]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية ص243.
([71]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، د. سليمان السويكت، ص197.
([72]) ابن ماجة باب الصبر على البلاء رقم الحديث 4023.
([73]) التمكين للأمة الإسلامية، ص243.
([74]) السيرة النبوية لابن كثير (1/439: 441) البداية والنهاية (3/30).
([75]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص79.
([76]،2) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية،ص50.

([78]) المصدر السابق، ص51.
([79]) نفس المصدر، ص50: 52، وقد استفدت من هذا الكتاب في هذه الدروس الأمنية.
([80]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي،ص79. (3) نفس المصدر، ص75.


([82]) مسند أحمد (1/404) بإسناد حسن.
(1) انظر: التربية القيادية (1/136).
([84]) السيرة النبوية لابن هشام (1/394).(3) انظر: التربية القيادية (1/140).

([86]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ص92.
(5) صحيح مسلم (2/1910) رقم الحديث 2458.
(6) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/232) ورجاله ثقات. (7) السيرة النبوية لابن هشام (1/393).

(1) حل: تحللي من يمينك. (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/393).



(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/346). (4) السيرة النبوية لابن هشام (1/393).
(5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/345). (6) انظر: التربية القيادية (1/342).




([96]) سيرة ابن هشام (1/319)، تفسير الآلوسي (30/152).
([97]) انظر: أنساب الأشراف للبلاذري (1/100، 157).(3) السيرة النبوية لابن هشام (2/68).

([99]) بهجة المحافل للعامري (1/92). (5) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي، ص97، 98.

([101]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص99. (7) التربية القيادية (1/217).


([103]) صحيح السيرة النبوية ص 98. (2) التربية القيادية (1/217، 218).


([105]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص100.
([106]) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص103. (5) المصدر السابق، ص103.

([108]) تفسير ابن كثير (3/446). (2) صحيح مسلم (2/1877، 1878).

([110]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص106.
([111]) انظر: الولاء والبراء، محمد القحطاني، ص174، 175.
([112]) الطبقات الكبرى (3/116).
([113]) القعب: القدح الغليظ، والحيس: تمر وأقط وسمن تخلط وتعجن.
([114]) الروض الأنف (2/195).(8) سير أعلام النبلاء للذهبي (3/10-12).

([116]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ص107. (2) السير والمغازي لابن إسحاق ص193.

([118]) الطبقات الكبرى (3/116).(4) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ص108.

([120]) انظر: مصعب بن عمير الداعية المجاهد، محمد بريغش ص105.
([121]) المصدر السابق نفسه، ص105: 107. (7) انظر: مصعب بن عمير الداعية المجاهد، ص126.

([123]) قينًا: حدادًا. (9) سير أعلام النبلاء (2/479).

([125]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص95.
(1) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص96.
([127]) البخاري، مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي وأصحابه (4/238).
([128]) انظر: الغرباء الأولون، ص145، 146. (2) مسند أحمد (5/111).

([130]) الروض الأنف (2/98).
([131]) البداية والنهاية (3/32)، سير أعلام النبلاء (1/465).
([132]) انظر: عبد الله بن مسعود، عبد الستار الشيخ، ص43.
([133]) الإصابة، (6/214). (4) انظر: عبد الله بن مسعود، ص45.

([135]) انظر: ابن هشام (1/314، 315) أسد الغابة (3/385، 386).
([136]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص88. (3) انظر: سير أعلام النبلاء (1/260).

(4) السيرة النبوية للذهبي، ص112.
([139]) السيرة النبوية لابن هشام (2/120). (2) انظر: طبقات الشعراء لابن سلام، ص48، 49.


([141]) السير والمغازي لابن إسحاق، ص178: 180. (4) صحيح البخاري (4/265).


([143]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ص116، 117.
([144]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة، (1/158). (3) الظلال: (2/714).


([146]) ابن الدغنة: رجل جاهلي أجار أبي بكر عندما أخرجه قومه وأراد الهجرة إلى الحبشة، انظر: الإصابة (2/344).
([147]) الولاء والبراء, محمد القحطاني، لخص نقاطًا من الظلال ص169: 171، وفي ظلال القرآن (2/714، 715) وفي معالم في الطريق (ص69: 71).
([148]) انظر: التفسير المنير للزحيلي (7/325). (3) المصدر السابق نفسه، (7/326).

([150]) انظر: الولاء والبراء، ص171.
([151]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/160).
([152]) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، د. عبد الوهاب كحيل، ص128.
([153]) أخرجه الترمذي وصححه، كتاب الزهد (4/515) رقم 2390.
([154]) البخاري، كتاب الأدب، رقم 6076، (7/119).
([155]) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، ص125: 140.
([156]) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، ص269. (3) نفس المصدر، ص270، 271.


([158]) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، ص270، 271. (2) نفس المصدر، ص271.
؛
([160]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/167) مع تصرف في العدد بدل مائة بلايين.
([161]) تفسير ابن عطية (15/316)، القاسمي (17/54).
([162]) انظر: المستفاد من قصص القرآن، عبد الكريم زيدان (2/89).
([163]) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/4).
([164]) البداية والنهاية لابن كثير (3/68، 69). (2) السيرة النبوية لابن هشام (1/294).

([166]) انظر: التحالف السياسي في الإسلام، منير الغضبان ص33.
([167]) انظر: معين السيرة للشامي، ص75. (5) صحيح الجامع الصغير (5/138).

(1) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص169. (2) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر، ص87.

([171]) انظر: التربية القيادية (1/304). (4) انظر: الوفود في العهد المكي، لعلي الأسطل، ص37.

([173]) السيرة النبوية لابن هشام (1/296,295) التربية القيادية (1/305).
([174]) تاريخ صدر الإسلام، عبد الرحمن الشجاع، ص39.
([175]) ابن هشام (1/362).
([176]) انظر: في ظلال القرآن (6/3991).
([177]) أسباب النزول للواحدي، ص200، ونور اليقين للخضري، ص61.
([178]) في السيرة النبوية، قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص89.
([179]) مجلة المجتمع الكويتية، عدد رقم 428، 17 صفر 1399هـ، نقلا عن السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية.
([180]) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص91.
([181]) تفسير ابن كثير (2/172).
(1) تفسير ابن كثير (4/244).
([183]) في ظلال القرآن (6/3399)
([184]) انظر:مقومات الداعية الناجح، د. علي بادحدح، ص59: 68، الأساليب السابقة من هذا الكتاب.
([185]) انظر: المعوقون للدعوة الإسلامية، د. سميرة محمد، ص171، 172.
([186]) انظر: التربية القيادية (1/311). (3) نفس المصدر (1/311).


([188]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/459).(5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/317).


([190]) يعني لو أن هناك قرآنا بهذه المثابة لكان هذا القرآن الكريم، فهو ليس له مثيل لا من قبل ولا من بعد، جواب (لو) محذوف دل عليه المقام.
([191]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/320، 321).
([192]) صحيح السيرة النبوية، ص90.
([193]) انظر: الوفود في العهد المكي، ص40: 51.
([194]) معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، ص30، 31، مصطفى مسلم.
([195]) انظر: اليهود في السنة المطهرة، د. عبد الله الشقاري (1/188).
([196]) أي: لم يقل: (إن شاء الله).
([197]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم، ص189.
([198]) انظر: تأملات في سورة الكهف للشيخ أبي الحسن الندوي، ص46، وانظر: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، ص61.
([199]) انظر: ظاهرة الإرجاء، د. سفر الحوالي (1/50).
([200]) تفاصيل قصة الشعب وما تخللها من أحداث، دلائل النبوة للبيهقي (2/80: 85) السيرة النبوية لابن كثير (2/43: 71) الروض الأنف (2/101: 129).
([201]) السيرة النبوية لابن هشام (1/350)، زاد المعاد (2/46), الكامل في التاريخ (2/87).
([202]) انظر: ظاهرة الإرجاء (1/51).
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص180.

([204]) انظر: الغرباء الأولون ص 148، نقلا عن حلية الأولياء ترجمة رقم 7.
([205]) المصدر السابق نفسه، ص148.
([206]) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/43: 50، 67: 69)
([207]) السير والمغازي لابن إسحاق ص156: 162.
([208]) انظر: الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية، سعيد حوى، (1/264).
([209]) المصدر السابق نفسه، ص264.
(1) انظر: فقه السيرة النبوية، للبوطي، ص88.
([211]) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص185. (3) المرجع السابق، ص186.

([213]) انظر: التربية القيادية (1/371).
(1) التربية القيادية (1/384، 385). (2) السيرة النبوية لأبي فارس، ص167.


([216]) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، د. عبد الوهاب كحيل، ص101.
([217]) تفسير ابن كثير، (2/312).
([218]) انظر: الغرباء الأولون، ص149.
([219]) البخاري، كتاب الجهاد 180، باب إذا أسلم قوم في دار الحرب (4/33).
([220]) انظر: في السيرة النبوية قراءة في جوانب الحذر والحماية، ص98.
__________________
رد مع اقتباس
  #65  
قديم 23-09-2014, 09:37 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

الفصل الرابع


هجرة الحبشة ومحنة الطائف ومنحة الإسراء


المبحث الأول


تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع سنة الأخذ بالأسباب

من السنن الربانية التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم سنة الأخذ بالأسباب، والأسباب جمع سبب، وهو كل شيء توصل به إلى غيره، وسنة الأخذ بالأسباب مقررة في كون الله تعالى، بصورة واضحة، فلقد خلق الله هذا الكون بقدرته، وأودعه من القوانين والسنن, ما يضمن استقراره واستمراره، وجعل المسببات مرتبطة بالأسباب بعد إرادته تعالى، فأرسى الأرض بالجبال، وأنبت الزرع بالماء... وغير ذلك.
ولو شاء الله رب العالمين, لجعل كل هذه الأشياء وغيرها -بقدرته المطلقة- غير محتاجة إلى سبب، ولكن هكذا اقتضت مشيئة الله تعالى وحكمته، الذي يريد أن يوجه خلقه إلى ضرورة مراعاة هذه السنة ليستقيم سير الحياة على النحو الذي يريده سبحانه، وإذا كانت سنة الأخذ بالأسباب مبرزة في كون الله تعالى بصورة واضحة، فإنها كذلك مقررة في كتاب الله تعالى، ولقد وجه الله عباده المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شؤونهم الدنيوية, والأخروية سواء، قال تعالى ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )[التوبة:105].
وقال تعالى: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ )[الملك:15].
ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى طلب من السيدة مريم أن تباشر الأسباب وهي في أشد حالات ضعفها قال تعالى: ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا )[مريم:25].
وهكذا يؤكد الله تعالى على ضرورة مباشرة الأسباب في كل الأمور والأحوال.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوعى الناس بهذه السنة الربانية، فكان -وهو يؤسس لبناء الدولة الإسلامية- يأخذ بكل ما في وسعه من أسباب، ولا يترك شيئًا يسيرًا جزافًا وقد لمسنا ذلك فيما مضى وسنلمس ذلك فيما بقي بإذن الله تعالى.
وكان عليه الصلاة والسلام يوجه أصحابه دائمًا إلى مراعاة هذه السنة الربانية في أمورهم الدنيوية والأخروية على السواء([1]).
التوكل على الله والأخذ بالأسباب:
التوكل على الله تعالى لا يمنع من الأخذ بالأسباب، فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتوكل عليها.
إن الذي ينشئ النتائج كما ينشئ الأسباب هو قدر الله, ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن، اتخاذ السبب عبادة بالطاعة، وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله؛ وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها، وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته, لينال ثواب طاعة الله في استيفائها([2]).
ولقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ضرورة الأخذ بالأسباب, مع التوكل على الله تعالى، كما نبه عليه السلام على عدم تعارضهما.
يروي أنس بن مالك t أن رجلا وقف بناقته على باب المسجد وهم بالدخول، فقال يا رسول الله، أرسل راحلتي وأتوكل؟- وكأنه كان يفهم أن الأخذ بالأسباب ينافي التوكل على الله تعالى، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مباشرة الأسباب أمر مطلوب ولا ينافي بحال من الأحوال التوكل على الله تعالى ما صدقت النية في الأخذ بالأسباب- فقال له صلى الله عليه وسلم: «بل قيدها وتوكل»([3]).
وهذا الحديث من الأحاديث التي تبين أنه لا تعارض بين التوكل والأخذ بالأسباب، بشرط عدم الاعتقاد في الأسباب, والاعتماد عليها ونسيان التوكل على الله، وروى عمر ابن الخطاب t عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» ([4]).
وفي هذا الحديث الشريف حث على التوكل مع الإشارة إلى أهمية الأخذ بالأسباب, حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان الله تعالى الرزق لها.
ولا بد للأمة الإسلامية أن تدرك أن الأخذ بالأسباب للوصول إلى التمكين أمر لا محيص عنه، وذلك بتقرير الله تعالى حسب سنته التي لا تتخلف, ومن رحمة الله تعالى أنه لم يطلب من المسلمين فوق ما يستطيعونه من الأسباب، ولم يطلب منهم أن يعدوا العدة التي تكافئ تجهيز الخصم ولكنه سبحانه قال: ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ )[الأنفال:60].
فكأنه تعالى يقول لهم: افعلوا أقصى ما تستطيعون, احشدوا أقصى إمكاناتكم, ولو كانت دون إمكانات الخصوم، فالاستطاعة هي الحد الأقصى المطلوب، وما يزيد على ذلك يتكفل الله تعالى به, بإمكاناته التي لا حدود لها؛ وذلك لأن فعل أقصى المستطاع هو برهان الإخلاص، وهو الشرط المطلوب لينزل عون الله ونصره([5]).
إن النداء اليوم موجه لجماهير الأمة الإسلامية بأن يتجاوزوا مرحلة الوهن والغثاء, إلى مرحلة القوة والبناء, وأن يودّعوا الأحلام والأمنيات وينهضوا للأخذ بكل الأسباب, التي تعينهم على إقامة دولة الإسلام، وصناعة حضارة الإنسان الموصول برب العالمين.

* * *
__________________
رد مع اقتباس
  #66  
قديم 23-09-2014, 09:43 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

المبحث الثاني


الهجرة إلى الحبشة

أولاً: الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة:
1- أسباب الهجرة إلى الحبشة:
اشتد البلاء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الكفار يحبسونهم ويعذبونهم, بالضرب والجوع والعطش, ورمضاء مكة والنار؛ ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من تصلب في دينه وعصمه الله منهم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية لمكانه من الله، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجا مما أنتم فيه»، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام.([6])
وقد ذكر الباحثون أسبابا عديدة في سبب هجرة المسلمين إلى الحبشة منها ما
ذكرت، ومنها:

*ظهور الإيمان:
حيث كثر الداخلون في الإسلام، وظهر الإيمان, وتحدث الناس به، قال الزهري في حديثه عن عروة في هجرة الحبشة: فلما كثر المسلمون، وظهر الإيمان فُتحدث به, ثار المشركون من كفار قريش بمن آمن من قبائلهم يعذبونهم ويسجنونهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للذين آمنوا به: «تفرقوا في الأرض» قالوا: فأين نذهب يا رسول الله، قال: «هاهنا» وأشار إلى أرض الحبشة([7]).
*ومنها الفرار بالدين:
كان الفرار بالدين خشية الافتتان فيه سببًا مهمًّا من أسباب هجرتهم للحبشة قال ابن إسحاق: «فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم» ([8]).
*ومنها: نشر الدعوة خارج مكة:
قال الأستاذ سيد قطب: «ومن ثم كان يبحث الرسول صلى الله عليه وسلم عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية، ويتاح فيها أن تتخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة، وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة، ولقد سبق الاتجاه إلى الحبشة، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل، القول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية، فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس وجاهة وقوة ومنعة من المسلمين، غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد وال***** والفتنة لم يهاجروا، إنما هاجر رجال ذوو عصبيات، لهم من عصبيتهم في بيئة قبلية ما يعصمهم من الأذى, ويحميهم من الفتنة، وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين...»([9]).
ووافق الأستاذ الغضبان الأستاذ سيد في ما ذهب إليه: «وهذه اللفتة العظيمة من (سيد) رحمه الله لها في السيرة ما يعضدها ويساندها، وأهم ما يؤكدها في رأيي هو الوضع العام الذي انتهى إليه أمر مهاجرة الحبشة، فلم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث في طلب مهاجرة الحبشة حتى مضت هجرة يثرب, وبدر وأحد والخندق والحديبية، لقد بقيت يثرب معرضة لاجتياح كاسح من قريش خمس سنوات، وكان آخرها هذا الهجوم والاجتياح في الخندق، وحين اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن المدينة قد أصبحت قاعدة أمينة للمسلمين, وانتهى خطر اجتياحها من المشركين, عندئذ بعث في طلب المهاجرين من الحبشة، ولم يعد ثمة ضرورة لهذه القاعدة الاحتياطية, التي كان من الممكن أن يلجأ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لو سقطت يثرب في يد العدو([10]).
ويميل الأستاذ دروزة إلى أن فتح مجال للدعوة في الحبشة كان سببًا من أسباب هجرة الحبشة حيث يقول: «بل إنه ليخطر بالبال أن يكون من أسباب اختيار الحبشة النصرانية أمل وجود مجال للدعوة فيها، وأن يكون هدف انتداب جعفر متصلاً بهذا الأمل»([11]) وذهب إلى هذا القول الدكتور سليمان بن حمد العودة: ومما يدعم الرأي القائل بكون الدعوة للدين الجديد في أرض الحبشة سببًا وهدفًا من أسباب الهجرة, إسلام النجاشي، وإسلامُ آخرين من أهل الحبشة، وأمر آخر، فإذا كان ذهاب المهاجرين للحبشة بمشورة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه فبقاؤهم في الحبشة إلى فتح خيبر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه، وفي صحيح البخاري: فقال جعفر: للأشعريين – حين وافقوه بالحبشة: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هنا، وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا»([12]).
وهذا يعني أنهم ذهبوا لمهمة معينة -ولا أشرف من مهمة الدعوة لدين الله- وأن هذه المهمة قد انتهت حين طلب المهاجرون([13]).
* ومنها البحث عن مكان آمن للمسلمين:
كانت الخطة الأمنية للرسول صلى الله عليه وسلم تستهدف الحفاظ على الصفوة المؤمنة؛ ولذلك رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحبشة تعتبر مكانًا آمنًا للمسلمين ريثما يشتد عود الإسلام وتهدأ العاصفة، وقد وجد المهاجرون في أرض الحبشة ما أمنهم وطمأنهم، وفي ذلك تقول أم سلمة رضي الله عنها: (لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أَمِنَّا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى...)([14]).
2- لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلمالحبشة؟
هناك عدة أسباب تساعد الباحث للإجابة عن لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة؟ منها:
أ- النجاشي العادل:
أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدل النجاشي بقوله لأصحابه: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد»([15]).
ب- النجاشي الصالح:
فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ثناؤه على ملك الحبشة بقوله: «وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحد بأرضه»، وكان يُنْثَي (يشاع) عليه مع ذلك صلاحه([16]) ويظهر هذا الصلاح في حمايته للمسلمين، وتأثره بالقرآن الكريم عندما سمعه من جعفر t، وكان معتقده في عيسى عليه السلام صحيحًا.
ج- الحبشة متجر قريش:
إن التجارة كانت عماد الاقتصاد القرشي، والحبشة تعتبر من مراكز التجارة في
الجزيرة، فربما عرفها بعض المسلمين عندما ذهبوا إليها في التجارة، أو ذكرها لهم من
ذهب إليهم قبلهم, وقد ذكر الطبري في معرض ذكره لأسباب الهجرة للحبشة: «وكانت
أرض الحبشة متجرًا لقريش، يتجرون فيها، يجدون فيها رفاها من الرزق وأمنًا،
ومتجرًا حسنًا»([17]).

د- الحبشة البلد الآمن:
فلم يكن في حينها في خارج الجزيرة بلد أكثر أمنًا من بلاد الحبشة، ومن المعلوم بُعد الحبشة عن سطوة قريش من جانب وهي لا تدين لقريش بالاتباع كغيرها من القبائل([18])، وفي حديث ابن إسحاق عن أسباب اتخاذ الحبشة مكانًا للهجرة أنها: أرض صدق، وأن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد([19]) فهي أرض صدق، وملكها عادل، وتلك من أهم سمات البلد الآمن([20]).
هـ- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم للحبشة ومعرفته بها:
ففي حديث الزهري أن الحبشة كانت أحب الأرض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إليها([21]) ولعل تلك المحبة لها أسباب منها:
* حكم النجاشي العاجل.
* التزام الأحباش بالنصرانية، وهي أقرب إلى الإسلام من الوثنية.
* معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بأخبار الحبشة من خلال حاضنته أم أيمن رضي الله عنها، وأم أيمن هذه ثبت في صحيح مسلم وغيره أنها كانت حبشية([22])، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خبيرًا بطبائع وأحوال الدول التي في زمانه.
3- وقت خروج المهاجرين، وسرية الخروج والوصول إلى الحبشة:
غادر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في رجب من السنة الخامسة للبعثة، وكانوا عشرة رجال، وأربع نسوة، وقيل: خمس نسوة، وحاولت قريش أن تدركهم لتردهم إلى مكة, وخرجوا في أثرهم حتى وصلوا البحر، ولكن المسلمين كانوا قد أبحروا متوجهين إلى الحبشة([23]).
وعند التأمل في فقه المرويات يتبين لنا سرية المهاجرين, ففي رواية الواقدي: «فخرجوا متسللين سرًا» ([24]) وعنه الطبري([25]) وممن ذكر السرية في الهجرة، ابن سيد الناس([26])، وابن القيم([27]) والزرقاني([28])، ولما وصل المسلمون إلى أرض الحبشة أكرم النجاشي مثواهم، وأحسن لقاءهم ووجدوا عنده من الطمأنينة بالأمن ما لم يجدوه في وطنهم وأهليهم.
إن المتأمل في أسماء الصحابة الذين هاجروا ([29])لا يجد فيهم أحدًا من الموالي الذين نالهم من أذى قريش و*****ها أشد من غيرهم، كبلال، وخباب، وعمار رضي الله عنهم، بل نجد غالبيتهم من ذوي النسب والمكانة في قريش، ويمثلون عددًا من القبائل، صحيح أن الأذى شمل ذوي النسب والمكانة كما طال غيرهم، ولكنه كان على الموالي أشد في بيئة تقيم وزنًا للقبيلة وترعى النسب، وبالتالي فلو كان الفرار من الأذى وحده, هو السبب في الهجرة، لكان هؤلاء الموالي المعذبون أحق بالهجرة من غيرهم، ويؤيد هذا أن ابن إسحاق وغيره ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ولم يذكر هجرتهم للحبشة([30]).
ويصل الباحث إلى حقيقة مهمة ألا وهي أن ثمة أسبابًا أخرى, تدفع للهجرة غير الأذى اختار لها النبي صلى الله عليه وسلم نوعية من أصحابه، تمثل عددًا من القبائل، وقد يكون لذلك أثر في حمايتهم, لو وصلت قريش إلى إقناع أهل الحبشة بإرجاعهم من جانب، وتهز هجرتهم قبائل قريش كلها أو معظمهم من جانب آخر، فمكة ضاقت بأبنائها، ولم يجدوا بدًّا من الخروج عنها بحثًا عن الأمن في بلد آخر، ومن جانب ثالث, يرحل هؤلاء المهاجرون بدين الله لينشروه إلى الآفاق، وقد تكون محلاً أصوب وأبرك للدعوة إلى الله فتتفتح عقول وقلوب حين يستغلق سواها([31]).
عاش المسلمون ثلاثة أشهر من بدء الهجرة، وحدث تغير كبير على حياة المسلمين في مكة، وهناك ظروف نشأت لم تكن موجودة من قبل، بعثت في المسلمين الأمل في إمكان نشر الدعوة في مكة، حيث أسلم في تلك الفترة حمزة بن عبد المطلب, عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عصبية لابن أخيه, ثم شرح الله صدره للإسلام، فثبت عليه, وكان حمزة أعز فتيان قريش وأشدهم شكيمة، فلما دخل في الإسلام عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع وأن عمه سيمنعه ويحميه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه([32]).
وبعد إسلام حمزة t أسلم عمر بن الخطاب t، وكان عمر ذا شكيمة لا يرام، فلما أسلم امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عازَّوا قريشًا([33]).
كان إسلام الرجلين العظيمين بعد خروج المسلمين إلى الحبشة، فكان إسلامُهما عزةً للمسلمين وقهرًا للمشركين وتشجيعًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المجاهرة بعقيدتهم.
قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه([34]).
وعن ابن عمر قال: «لما أسلم عمر قال: أيُّ قريش أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجُمحي، قال: فغدا عليه، قال عبد الله: وغدوت معه أتبع أثره, وأنظر ماذا يفعل حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه وتبعه عمر، واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة – ألا إن ابن الخطاب قد صبأ([35]) قال: يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني أسلمت, وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم وَطَلِح فقعد, وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها أو تركتموها لنا([36]) «لقد أصبح المسلمون إذًا في وضع غير الذي كانوا فيه قبل الهجرة إلى الحبشة، فقد امتنعوا بحمزة وعمر رضي الله عنهما، واستطاعوا أن يصلوا عند الكعبة بعد أن كانوا لا يقدرون على ذلك، وخرجوا من بيت الأرقم بن أبي الأرقم مجاهرين حتى دخلوا المسجد، وكفت قريش عن إيذائهم بالصورة الوحشية التي كانت تعذبهم بها قبل ذلك، فالوضع قد تغير بالنسبة للمسلمين، والظروف التي كانوا يعيشون فيها قبل الهجرة قد تحولت إلى أحسن، فهل ترى هذا يخفى على أحد؟ وهل تظن أن هذه التغييرات التي جرت على حياة المسلمين في مكة لم تصل إلى أرض الحبشة، ولو عن طريق البحارة الذين كانوا يمرون بجدة؟
لا بد أن كل ذلك قد وصلهم، ولا شك أن هؤلاء الغرباء قد فرحوا بذلك كثيرًا، ولا يستغرب أحد بعد ذلك أن يكون الحنين إلى الوطن، وهو فطرة فطر الله عليها جميع المخلوقات، قد عاودهم ورغبت نفوسهم في العودة إلى حيث الوطن العزيز مكة أم القرى، وإلى حيث يوجد الأهل والعشيرة فعادوا إلى مكة في ظل الظروف الجديدة والمشجعة، وتحت إلحاح النفس وحنينها إلى حرم الله وبيته العتيق»([37]).
لقد رجع المهاجرون إلى مكة بسبب ما علموا من إسلام حمزة وعمر, واعتقادهم أن إسلام هذين الصحابيين الجليلين سيعتز به المسلمون وتقوى شوكتهم.
ولكن قريشًا واجهت إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما بتدبيرات جديدة يتجلى فيها المكر والدهاء من ناحية، والقسوة وال*** من ناحية أخرى، فزادت في أسلحة الإرهاب التي تستعملها ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم سلاحًا قاطعًا وهو سلاح المقاطعة الاقتصادية، وقد تحدثت عنه, وكان من جراء ذلك الموقف العنيف أن رجع المسلمون إلى الحبشة مرة ثانية، وانضم إليهم عدد كبير ممن لم يهاجروا قبل ذلك([38]).
__________________
رد مع اقتباس
  #67  
قديم 23-09-2014, 09:48 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

ثانيًا: هجرة المسلمين الثانية إلى الحبشة:
قال ابن سعد: قالوا: لما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مكة من الهجرة الأولى, اشتد عليهم قومهم، وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدًا، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الثانية أعظمها مشقة، ولقوا من قريش تعنيفًا شديدًا ونالوهم بالأذى، واشتد عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة ولست معنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم مهاجرون إلى الله تعالى وإليَّ، لكم هاتان الهجرتان جميعًا» قال عثمان: فحسبنا يا رسول الله([39]).
وهاجر معهم كثيرون غيرهم أكثر منهم وعدتهم -كما قال ابن إسحاق وغيره ثلاثة وثمانون رجلاً إن كان عمار بن ياسر فيهم واثنان وثمانون رجلاً إن لم يكن فيهم، قال السهيلي وهو الأصح عند أهل السير كالواقدي، وابن عقبة وغيرهما([40]) وثماني عشرة امرأة: إحدى عشرة قرشيات، وسبع غير قرشيات، وذلك عدا أبنائهم الذين خرجوا معهم صغارًا، ثم الذين ولدوا لهم فيها([41]).
1- سعي قريش لدى النجاشي في رد المهاجرين:
فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا، واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارًا واستقرارًا، وحسن جوار من النجاشي، وعبدوا الله لا يؤذيهم أحد، ائتمروا فيما بينهم أن يبعثوا وفدا للنجاشي لإحضار من عنده من المسلمين إلى مكة بعد أن يوقعوا بينهم وبين ملك الحبشة, إلا أن هذا الوفد خدم الإسلام والمسلمين من حيث لا يدري، فقد أسفرت مكيدته عند النجاشي عن حوار هادف دار بين أحد المهاجرين وهو جعفر بن أبي طالب، وبين ملك الحبشة, أسفر هذا الحوار عن إسلام النجاشي، وتأمين المهاجرين المسلمين عنده([42]).
فعن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خيرَ جار (النجاشي) أمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى, لا نؤذى, ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين([43]) وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم([44]) فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته([45]) بطريقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يُسلِمَهم إليكم قبل أن يكلمهم قالت: فخرجا فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار وخير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشرف قومهم، لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى([46]) بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم ثم إنهما قرَّبا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا: أيها الملك، إنه صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم, ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت, وقد بَعَثَنَا إليك فيهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم, لتردهم إليهم, فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت: ولم يكن شيء أبغضَ إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك قومَهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.
قالت: فغضب النجاشي ثم قال: لا هَيْمُ([47]) الله إذن لا أسلمهم إليهما ولا أُكادُ([48]) قومًا جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم؟ فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما, ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم، ما جاوروني([49]).
2- حوار بين جعفر والنجاشي:
ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبيّنا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما جاءه وقد دعا النجاشي أساقفته([50]) فنشروا مصاحفهم([51]) حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟
قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب t فقال له: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده, لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قالت: فعدد عليه أمور الإسلام.. فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به. فعبدنا الله وحده, فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقَّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا, خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك([52]).
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي، فاقرأه عليَّ؟
فقرأ عليه صدرًا من ( كهيعص ) قالت: فبكى والله النجاشي، حتى أخضل([53]) لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم.
ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أُسلِمُهم إليكم أبدًا ولا أكاد([54]).
3- محاولة أخرى للدس بين المهاجرين والنجاشي:
قالت أم سلمة: فلما خرجا (عمرو بن العاص, وعبد الله بن أبي ربيعة) من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنه غدًا عيبهم عنده، ثم أستأصل به خضراءهم([55]) قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا، لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا.
قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيمًا فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه، ما قال الله، وما جاء به نبينا كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟
فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه, وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء، البتول([56]).
قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودًا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود فتناخرت([57]) بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي (والسيوم الآمنون) من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دَبرًا ذهبًا، وإني آذيت رجلا منكم، والدبر بلسان الحبشة الجبل، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناسَ في فأطيعهم فيه، قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما، ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار([58]).
4- إسلام النجاشي:
وقد أسلم النجاشي وصدق بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد أخفى إيمانه عن قومه، لما علمه فيهم من الثبات على الباطل, وحرصهم على الضلال، وجمودهم على العقائد المنحرفة وإن صادمت العقل والنقل([59])، فعن أبي هريرة t: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم, وكبر عليه أربع تكبيرات» ([60]) وعن جابر t قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي: «مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة» ([61]).
رضي الله عنه وأرضاه، وكانت وفاته رحمه الله, سنة تسع عند الأكثر وقبل سنة ثمان قبل فتح مكة([62]).
__________________
رد مع اقتباس
  #68  
قديم 23-09-2014, 09:51 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

دروس وعبر وفوائد:
1- إن ثبات المؤمنين على عقيدتهم, بعد أن يُنْزِل بهم الأشرار والضالون أنواع العذاب والاضطهاد، دليل على صدق إيمانهم, وإخلاصهم في معتقداتهم، وسمو نفوسهم وأرواحهم، بحيث يرون ما هم عليه من راحة الضمير, واطمئنان النفس والعقل، وما يأملونه من رضا الله جل شأنه, أعظم بكثير مما ينال أجسادهم من ***** وحرمان واضطهاد؛ لأن السيطرة في المؤمنين الصادقين والدعاة المخلصين، تكون دائمًا وأبدًا لأرواحهم لا لأجسادهم، وهم يسرعون إلى تلبية مطالب أرواحهم من حيث لا يبالون بما تتطلبه أجسامهم من راحة وشبع ولذة؛ وبهذا تنتصر الدعوات وبهذا تتحرر الجماهير من الظلمات والجهالات([63]).
2- مما يتبادر إلى الذهن من هذه الهجرة العظيمة, هو شفقة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على أصحابه ورحمته بهم، وحرصه الشديد للبحث عما فيه أمنهم وراحتهم، ولذلك أشار عليهم بالذهاب إلى الملك العادل الذي لا يُظلم أحد عنده، فكان الأمر كما قال صلوات الله وسلامه عليه، فأمنوا في دينهم ونزلوا عنده في خير منزل([64]) فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وجَّه الأنظار إلى الحبشة وهو الذي اختار المكان الآمن لجماعته ودعوته، كي يحميها من الإبادة، وهذه تربية نبوية لقيادات المسلمين في كل عصر, أن تخطط بحكمة وبعد نظر لحماية الدعوة والدعاة، وتبحث عن الأرض الآمنة التي تكون عاصمة احتياطية للدعوة، ومركزًا من مراكز انطلاقها فيما لو تعرض المركز الرئيسي للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه فجنود الدعوة
هم الثروة الحقيقية، وهم الذين تنصب الجهود كلها لحفظهم وحمايتهم، دون أن يتم
أي تفريط بأرواحهم وأمنهم، ومسلم واحد يعادل ما على الأرض من بشر خارجين عن دين الله وتوحيده([65]).

3- كانت الأهداف من هجرة الحبشة متعددة، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار نوعيات معينة لتحقيق هذه الأهداف، كشرح قضية الإسلام وموقف قريش منه، وإقناع الرأي العام بعدالة قضية المسلمين، على نحو ما تفعله الدول الحديثة من تحرك سياسي يشرح قضاياها وكسب الرأي العام إلى جوارها([66]) وفتح أرض جديدة للدعوة، فلذلك هاجر سادات الصحابة في بداية الأمر ثم لحق بهم أكثر الصحب وأوكل الأمر إلى جعفر t([67]).
4- إن وجود ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر، وصهره عثمان، وابنته رقية رضي الله عنهم جميعًا, في مقدمة المهاجرين له دلالة عميقة تشير إلى أن الأخطار لا بد أن يتجشمها المقربون إلى القائد, وأهله ورحمه، أما أن يكون خواص القائد في منأى عن الخطر، ويدفع إليه الأبعدون غير ذوي المكانة فهو منهج بعيد عن نهج النبي صلى الله عليه وسلم([68]).
5- مشروعية الخروج عن الوطن -وإن كان الوطن مكة على فضلها- إذا كان الخروج فرارًا بالدين وإن لم يكن إلى إسلام، فإن أهل الحبشة كانوا نصارى يعبدون المسيح ولا يقولون: هو عبد الله، وقد تبين ذلك في هذا الحديث -يعني حديث أم سلمة- المتقدم، وسموا بهذه مهاجرين، وهم أصحاب الهجرتين الذين أثنى عليهم بالسبق فقال: ( وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ ) وجاء في التفسير: إنهم هم الذين شهدوا بيعة الرضوان([69]) فانظر كيف أثنى الله عليهم بهذه الهجرة، وهم قد خرجوا من بيت الله الحرام إلى دار الكفر، لما كان فعلهم ذلك احتياطًا على دينهم, ورجاء أن يُخلى بينهم وبين عبادة ربهم, يذكرونه آمنين مطمئنين، وهذا حكم مستمر متى غلب المنكر في بلد, وأوذي على الحق مؤمن ورأى الباطل قاهرًا للحق ورجا أن يكون في بلد آخر، أي بلد كان، خلى بينه وبين دينه ويظهر فيه عبادة ربه فإن الخروج على هذا الوجه حق على المؤمن، هذه الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة ( وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )[البقر:115] ([70]).
6- يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواء كان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي، إذ كان نصرانيًّا عندئذ، ولكنه أسلم بعد ذلك، أو كان مشركًا كأولئك الذين عاد المسلمون إلى مكة في حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة، وكأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمطعم بن عدي الذي دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة في حمايته عندما رجع من الطائف([71]).
وهذا مشروط -بحكم البداهة- بألا تستلزم مثل هذه الحماية إضرارًا بالدعوة الإسلامية، أو تغييرًا لبعض أحكام الدين، أو سكوتًا على اقتراف بعض المحرمات، وإلا لم يجز على المسلم الدخول فيها، ودليل ذلك ما كان من فقهه صلى الله عليه وسلم حينما طلب منه أبو طالب أن يبقي على نفسه ولا يحمله ما لا يطيق فلا يتحدث عن آلهة المشركين بسوء، فقد وطن نفسه إذ ذاك على الخروج من حماية عمه وأَبَى أن يسكت عن شيء مما يجب عليه بيانه وإيضاحه([72]).
7- إن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الحبشة يشير إلى نقطة إستراتيجية هامة، تمثلت في معرفة الرسول بما حوله من الدول والممالك، فكان يعلم طيبها من خبيثها، وعادلها من ظالمها، الأمر الذي ساعد على اختيار دار آمنة لهجرة أصحابه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال قائد الدعوة الذي لا بد أن يكون ملمًّا بما يجري حوله، مطلعًا على أحوال وأوضاع الأمم والحكومات([73]).
8- يظهر الحس الأمني عند الرعيل الأول, في هجرتهم الأولى, وكيفية الخروج, فيتمثل في كونه تم تسللاً وخفية حتى لا تفطن له قريش فتحبطه كما أنه تم على نطاق ضيق لم يزد على ستة عشر فردًا، فهذا العدد لا يلفت النظر في حالة تسللهم فردًا أو فردين، وفي ذات الوقت يساعد على السير بسرعة، وهذا ما يتطلبه الموقف فالركب يتوقع المطاردة والملاحقة في أي لحظة، ولعل السرية المضروبة على هذه الهجرة، فوتت على قريش العلم بها في حينها، فلم تعلم بها إلا مؤخرًا، فقامت في إثرهم لتلحق بهم، لكنها أخفقت في ذلك، فعندما وصلت البحر لم تجد أحدًا، وهذا مما يؤكد على أن الحذر هو مما يجب أن يلتزمه المؤمن في تحركاته الدعوية، فلا تكون التحركات كلها مكشوفة ومعلومة للعدو بحيث يترتب عليها الإضرار به وبالدعوة([74]).
9- لم ترض قريش بخروج المسلمين إلى الحبشة وشعرت بالخطر الذي يهدد مصالحها في المستقبل، فربما تكبر الجالية هناك وتصبح قوة خطرة، ولذلك جد المشركون وشرعوا في الأخذ بالأسباب لإعادة المهاجرين، وبدأت قريش تلاحق المهاجرين؛ لكي تنزع هذا الموقع الجديد منهم في تخطيط محكم ذكي، فالهدايا إلى النجاشي والهدايا إلى بطارقته ووضعت الخطة داخل مكة، وكيف توزع الهدايا، وما نوعية الكلام الذي يرافق الهدايا، وصفات السفراء، فعمرو من أصدقاء النجاشي ومعروف بالدهاء! وما أحوجنا إلى ألا نستصغر عدونا، وألا ننام عن مخططاته، وأن نعطيه حجمه الحقيقي، وندرس تحركاته، لنستعد لمواجهة
مخططاته الماكرة([75]).

10- نفذت خطة قريش بحذافيرها كاملة، ولكنها فشلت؛ لأن شخصية النجاشي, التي تم جوارها, رفضت أن تسلم المسلمين قبل السماع منهم، وبذلك أتاحت الفرصة للمسلمين إلى أن يعرضوا قضيتهم العادلة ودينهم القويم.
11- اجتمع الصحابة حين جاءهم رسول النجاشي وطلب منهم الحضور، وتدارسوا الموقف، وهكذا كان أمر المسلمين شورى بينهم، وكل أمر يتم عن طريق الشورى هو أدعى إلى نجاحه؛ لأنه يضم خلاصة عقول كثيرة، وتبدو مظاهر السمو التربوي في كون الصحابة لم يختلفوا بل أجمعوا على رأي واحد، ألا وهو أن يعرض الإسلام كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، وعزموا على عرض الإسلام بعزة، وإن كان في ذلك هلاكهم([76]).
12- كان وعي القيادة النبوية على مستوى الأحداث؛ ولذلك وضع جعفر بن أبي طالب على إمارة المسلمين في الهجرة، وتم اختياره من قبل المسلمين المهاجرين ليتحدث باسمهم بين يدي الملك، وليتمكن من مواجهة داهية العرب عمرو بن العاص، وقد امتازت شخصية جعفر بعدة أمور جعلتها تتقدم لسد هذه الثغرة العظيمة منها:
* جعفر بن أبي طالب من ألصق الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عاش معه في بيت واحد، فهو أخبر الناس بقائد الدعوة, وسيد الأمة من بين كل المهاجرين إلى الحبشة.
* وهذا الموقف بين يدي النجاشي يحتاج إلى بلاغة وفصاحة، وبنو هاشم قمة قريش نسبًا وفضلاً، وجعفر في الذؤابة من بني هاشم، والله تعالى قد اختار هاشمًا من كنانة، واختار نبيه من بني هاشم، فهم أفصح الناس لسانًا وأوسطهم نسبًا.
* وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يجعل النجاشي أكثر اطمئنانًا وثقة بما يعرض عن ابن عمه([77]).
* خلق جعفر المقتبس من مشكاة النبوة، وجمال خلقه المنحدر من أصلاب بني هاشم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر: «أشبهت خَلْقي وخُلُقي» ([78]) فالسفير بين يدي النجاشي كان قدوة لسفراء المسلمين على مر الزمان, وكر العصور، فقد اتصف بسمات السفراء المسلمين، كالإسلام والانتماء إليه، والفصاحة، العلم، حسن الخلق، الصبر، الشجاعة، الحكمة، سعة الحيلة، المظهر الجذاب([79]).
13- كان عمرو بن العاص t وهو يمثل في تلك المرحلة عداوة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على مستوى كبير من الذكاء والدهاء والمكر، وكان قبل دخول جعفر وحديثه قد شحن كل ما لديه من حجة، وألقى بها بين يدي النجاشي من خلال النقاط الآتية:
* تحدث عن بلبلة جو مكة وفساد ذات بينها من خلال دعوة محمد صلى الله عليه وسلم, وهو سفير مكة وممثلها بين يدي النجاشي، فكلامه مصدق لا يعتريه الشك، وهو عند النجاشي موضع ثقة.
* تحدث عن خطورة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وربما سيزلزلون الأرض تحت قدمي النجاشي، كما أفسدوا جوّ مكة، ولولا حب قريش للنجاشي وصداقتها معه, ما تعنوا هذا العناء لنصحه «وأنت لنا عيبة صدق، تأتي إلى عشيرتنا بالمعروف، ويأمن تاجرنا عندك» فلا أقل من رد المعروف بمثله، ولا أقل من وفاء حسن الجوار والعلاقة بين مكة والحبشة من تحذيره من هذه الفتنة المخيفة.
* وأخطر ما في أمرهم, هو خروجهم على عقيدة النجاشي وكفرهم بها «فهم لا يشهدون أن عيسى ابن مريم إله، فليسوا على دين قومهم وليسوا على دينك» فهم مبتدعة دعاة فتنة.
* ودليل استصغارهم لشأن الملك، واستخفافهم به أن كل الناس يسجدون للملك لكنهم لا يفعلون ذلك، فكيف يتم إيواؤهم عندك وهو عودة إلى إثارة الرعب في نفسه, من عدم احترام الدعاة له حين يستخفون بملكه، ولا يسجدون له، فكان على جعفر أن يفند كل الاتهامات الباطلة التي ألصقها سفير قريش بالمهاجرين([80]).
14- كان رد جعفر على أسئلة النجاشي في غاية الذكاء, وقمة المهارة السياسية، والإعلامية والدعوية، والعقدية، فقام بالتالي:
* عدَّد عيوب الجاهلية، وعرضها بصورة تنفر السامع، وقصَدَ بذلك تشويه صورة قريش في عين الملك، وركز على الصفات الذميمة التي لا تنتزع إلا بنبوة.
* عرض شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المجتمع الآسن المليء بالرذائل، وكيف كان بعيدًا عن النقائص كلها، ومعروفًا بنسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فهو المؤهل للرسالة.
* أبرز جعفر محاسن الإسلام وأخلاقه التي تتفق مع أخلاقيات دعوات الأنبياء، كنبذ عبادة الأوثان، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة، وكون النجاشي وبطارقته موغلين في النصرانية فهم يدركون أن هذه رسالات الأنبياء, التي بعثوا بها من لدن موسى, وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
* فضح ما فعلته قريش بهم؛ لأنهم رفضوا عبادة الأوثان، وآمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وتخلقوا بخلقه.
* أحسن الثناء على النجاشي بما هو أهله، بأنه لا يُظلم عنده أحد، وأنه يقيم العدل في قومه.
* وأوضح أنهم اختاروه كهفًا من دون الناس، فرارًا من ظلم هؤلاء الذين يريدون *****هم؛ وبهذه الخطوات البينة الواضحة دحر بها بلاغة عمرو وفصاحته، واستأثر بلب النجاشي وعقله، وكذلك استأثر بلب وعقل البطارقة, والقسيسين الحاضرين.
* وعندما طلب الملك النجاشي شيئًا مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم جاء صدر سورة مريم في غاية الإحكام والروعة والتأثير، حتى بكى النجاشي، وأساقفته، وبللوا لحاهم ومصاحفهم من الدموع، واختيار جعفر لسورة مريم، يظهر بوضوح حكمة وذكاء مندوب المهاجرين، فسورة مريم تتحدث عن مريم وعيسى عليهما السلام([81]).
* إن عبقرية جعفر t في حسن اختيار الموضوع، والزمن المناسب، والقلب المتفتح، والشحنة العاطفية، أدت إلى أن يربح الملك إلى جانبه([82]).
* كان رده في قضية عيسى عليه السلام دليلاً على الحكمة والذكاء النادر، فرد بأنهم لا يألهون عيسى ابن مريم، ولكنهم كذلك لا يخوضون في عرض مريم عليها السلام، كما يخوض الكاذبون, بل عيسى ابن مريم كلمته وروحه ألقاها إلى مريم البتول العذراء الطاهرة، وليس عند النجاشي زيادة عما قال جعفر، ولا مقدار هذا العود([83]).
* هم لا يسجدون للنجاشي، فهم معاذ الله أن يعدلوه بالله، ولا ينبغي السجود إلا لله، لكنهم لا يستخفون بالملك، بل يوقرونه ويسلمون عليه كما يسلمون على نبيهم، ويحيونه بما يحيي أهل الجنة أنفسهم به في الجنة([84]).
* انتهى الأمر بأن أعلن النجاشي صدق القوم، وأيقن بأن هؤلاء صديقون, وعزم على أن يكون في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الناموس كناموس موسى، وأن يتقرب إلى الله بحماية أصحابه، وأكد لعمرو أنه لا يضيره تجارة قريش، ولا مال قريش، ولا جاهها، ولو قطعت علاقتها معه([85]).
15- وبذلك انهزمت قريش في هذه الجبهة سياسيًّا ومعنويًّا، وإعلاميًّا أمام مقاومة المسلمين الموفقة وخطواتهم، وأساليبهم الرصينة.
16- كان موقف جعفر وإخوانه مثالاً تطبيقيًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من التمس رضا الله بسخط الناس, كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» ([86]) فهؤلاء الصحابة -رضي الله عنهم- قد التمسوا رضا الله عز وجل، مع أن الظاهر في الأمر أنه يترتب عليه في هذه القضية سخط أولئك النصارى وهم الذين لهم الهيمنة عليهم، فكانت النتيجة أن الله عز وجل سخر لهم ملك الحبشة حتى نطق بالحق الموافق لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم, مع مخالفته الصريحة لمعتقدهم المنحرف, الذي قام عليه ملكهم وما يغلب على الظن من ثورة النصارى المتعصبين عليه([87]).
17- كان عند بعض النصارى إيمان صحيح بدينهم، ولكنهم يكتمون ذلك, لكون الغلبة والسيادة في الأرض لأصحاب الدين المحرف، ومن الذين كانوا على الاعتقاد الصحيح ملك الحبشة، وكان يخفي إيمانه هذا مداراة لقومه إبقاء على نفسه وملكه، فلما وقع في هذا الابتلاء أظهر إيمانه، إرضاءً لربه وإراحة لضميره وانتصارًا لحزب الله المؤمنين مهما ترتب على ذلك من نتائج, فكان بهذا الموقف من عظماء التاريخ([88]).
18- ومن دروس هجرة الحبشة أن الجهل ببعض أحكام الإسلام لمصلحة راجحة لا يضر، قال ابن تيمية -رحمه الله- وهو يقرر العذر بالجهل: «ولما زيد في صلاة الحضر حين هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان مَنْ بعيدًا عنه مثل من كان بمكة، وبأرض الحبشة يصلون ركعتين، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة»([89]).
وقال الذهبي: «فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة، وقد كان سادة الصحابة بالحبشة ينزل الواجب والتحريم على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يبلغهم إلا بعد أشهر فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص...»([90]).
19- ومن دروس هجرة الحبشة، تفاضل الجهاد حسب الحاجة، فإذا كانت الهجرة للمدينة جهادًا ميز الله أصحابها وخصهم بالذكر والفضيلة، فقد نال هذا الفضل أصحاب هجرة الحبشة وإن تأخر لحوقهم بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى فتح خيبر، وذلك للحاجة لبقائهم في الحبشة، وهذا ما أكده النبي لأصحاب السفينتين([91]) عن أبي موسى الأشعري t قال: ودخلت أسماء بنت عميس, وهي ممن قدم معنا, على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر, فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت، وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم, ويعظ جاهلكم, وكنا في دار -أو في أرض- البُعداء البُغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيم الله لا أطعم طعامًأ ولا أشرب شرابًا, حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نُؤذى ونُخاف وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا، قال: «فما قلتِ له؟» قالت: قلت له كذا وكذا، قال: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتون أرسالا يسألوني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرحُ ولا أعظمُ في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم([92]).
20- كانت بداية إسلام عمرو بن العاص t بأرض الحبشة، وهذا بلا شك أثر من آثار الهجرة للحبشة، وبرهان على ما حققه المهاجرون من مكاسب للدعوة من خلال مكوثهم بأرض الحبشة، وإن كانت كثير من المرويات تتجه إلى أن بداية إسلام عمرو بن العاص كانت على يد النجاشي وهو المشهور كما يقول ابن حجر([93]) وهي لطيفة لا مثل لها, إذ أسلم صحابي على يد تابعي، كما يقول الزرقاني([94]) وهناك ما يفيد إسلام عمرو على يد جعفر رضي الله عنهم.
21- يرتبط زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بهجرة الحبشة ارتباطًا وثيقًا، ويحمل هذا الزواج منه صلى الله عليه وسلم, لأحد المهاجرات الثابتات, معنى كبيرًا، وكان عقد الزواج على أم حبيبة -رضي الله عنها- وهي في أرض الحبشة، وجاء تأكيده في كتب السنة، فقد روى أبو داود في سننه بسند صحيح عن أم حبيبة -رضي الله عنها- أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوجها النجاشيُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة([95]).
ويستنتج الباحث من دلالات هذا الحديث المهم متابعةَ الرسول صلى الله عليه وسلم لأحوال المهاجرين، ومشاركتهم في مصابهم، وتطييب أنفس الصابرين، وتقديرَ ثبات الثابتين وبالتتبع لأحوال المهاجرات لا نجد (أم حبيبة) رضي الله عنها هي الوحيدة التي يعني الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأمرها، ويواسيها في مصابها، بل سبق ذلك صنيعه مع (سودة) رضي الله عنها([96]) فلما رجعت مع زوجها إلى مكة من الحبشة توفي زوجها السكران بن عمرو، فلما حلت أرسل إليها صلى الله عليه وسلم وخطبها، فقالت: أمري إليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مري رجلاً من قومك يزوجك» فأمرت حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود فزوجها، فكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة([97]).
وهذان الحدثان مؤشران, من مؤشرات حكمة تعدده صلى الله عليه وسلم في الزواج بشكل عام ولهما دلالتهما وحكمتهما بالاهتمام بالنساء المجاهدات بشكل خاص, هذا فضلاً عن ما يمكن أن يقال, إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهدف أيضا من وراء الزواج بأم حبيبة تخفيف عداوة (بني أمية) بشكل عام، وتخفيف عداوة زعيمهم أبي سفيان (والدها) بشكل أخص للإسلام ونبيه والمسلمين([98]).
فالتأليف للإسلام وارد في السيرة والرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على قومه بكل وسيلة لا تتنافى مع قيم الإسلام([99]).
22- يرى بعض الباحثين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحب أن يهاجر إلى الحبشة لأسباب كثيرة:
* منها أنه ثبت -كما سيجيء- رؤية النبي صلى الله عليه وسلم دار الهجرة أرضًا ذات نخل بين حرتين، وأنه ظنها هجر([100]).
* ومنها طبيعة الوضع الجغرافي للحبشة الذي يعوق انتشار الدعوة وبسط سلطانها على العالم.
* ومنها أن اختيار الجزيرة العربية، ومكة بالذات ثم المدينة لنزول الوحي وانطلاق الدين لم يكن اتفاقيًّا بل كان لمميزات كثيرة([101]).
* ومنها أن هذه البيئة الحبشية لم تكن لتسمح لهذا الدين اللاجئ أن ينمو إلى جوار المسيحية، ولم تكن الرومان -وهي المهيمنة على المسيحية في العالم- لتسمح للحبشة بذلك([102]).
23- كان للهجرة إلى الحبشة أثر في الحط من مكانة القرشيين عند سائر العرب، وإدانة موقفهم من الدعوة وحملتها، إذ كانت البيئة العربية تفتخر بإيواء الغريب وإكرام الجار وتتنافس في ذلك، وتحاذر السبة والعار في خلافه، فهاهم الأحباش يسبقون قريشًا ويؤوون مَنْ طردتهم وأساءت إليهم من أشراف الناس، ومن ضعفائهم، ومن غربائهم([103])

* * *






([1]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص248، 249.
([2]) في ظلال القرآن (3/1476).
([3]) رواه الترمذي (4/576) كتاب صفة القيامة باب ما جاء في التوكل.
([4]) رواه أحمد في مسنده (1/52) ورقمه (370)، وقال الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح.
([5]) انظر: الإسلام في خندق، مصطفى محمود، ص64.
([6]) الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون، ص290.
([7]) المغازي النبوية، للزهري، تحقيق: سهيل زكار، ص96.
([8]) السيرة النبوية لابن هشام، (1/398).
([9]) في ظلال القرآن (1/29). (2) المنهاج الحركي للسيرة (1/67، 68).


([11]) سيرة الرسول (1/265) عن الشامي، ص111.
([12]) الصحيح مع الفتح (6/237).
([13]) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، د. سليمان العودة، ص34.
([14]) السيرة النبوية لابن هشام تحقيق همام أبو صعيليك (1/413).
([15]) نفس المصدر (1/397). (5) انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري (2/328).


([17]) مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لعروة بن الزبير، ص104.
([18]) انظر: هجرة الرسول وأصحابه في القرآن والسنة، أحمد الجمل، ص97.
([19]) السيرة النبوية لابن هشام، (1/397).
([20]) الهجرة الأولى في الإسلام، ص46.
([21]) مغازي الزهري، ص96.
([22]) صحيح مسلم (3/1392)، تهذيب الأسماء واللغات للنووي (3/357).
([23]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون، ص290، 291.
([24]) الطبقات (1/204). (2) تاريخ الطبري (2/329).


([26]) عيون الأثر(1/116). (4) زاد المعاد (3/23).

([28]) شرح المواهب (1/271)
([29]) ارجع إليهم في: البداية والنهاية (3/96، 97)، سيرة ابن هشام، (1/344: 352).
([30]) الأنساب, البلاذري (1/156: 198) ابن هشام (1/392: 396).
([31]) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص37.
([32]) مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الوهاب، ص90.
([33]) السيرة النبوية (1/294)، وعازوا قريشا: أي غلبوهم.
([34]) السيرة النبوية لابن هشام (1/365)
([35]) صبأ: خرج من دين إلى دين آخر: القاموس المحيط، باب الهمزة (1/20).
([36]) سبل الهدى والرشاد للصالحي (2/498، 499).
([37]) تأملات في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، لمحمد سيد الوكيل، ص59، الهجرة في القرآن الكريم، ص302.
([38]) انظر: القول المبين في سيرة سيد المرسلين، د. محمد النجار، ص111، الهجرة في القرآن الكريم، ص302.
([39]) طبقات ابن سعد (1/207) (ط. بيروت) الهجرة في القرآن الكريم، ص303.
([40]) انظر: الروض الأنف للسهيلي (3/228).(5) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص303.


([42]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص304. (2) الجلد، القوة، الشدة.

([44]) الأدم: جمع أديم وهو الجلد المدبوغ. (4) جمع بطريق: وهو الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم.

([46]) أعلى بهم عينا: قال السهيلي: أي أبصر بهم، أي عينهم وأبصارهم فوق عين غيرهم في أمرهم، الروض الأنف (1/92).
([47]) والمعنى: لا والله.
([48]) لا أكاد: قال في اللسان: يقولون إذا حمل أحدهم ما يكره، لا والله ولا كيد.
([49]) أخرجه أحمد (5/290) إسناده صحيح.
([50]) أساقفته: جمع الأسقف، وهو العالم والرئيس من علماء النصارى.
([51]) أي أناجيلهم وكانوا يسمونها مصاحف.
(6) مسند الإمام أحمد (1/202، 203).
([53]) ابتلت بالدموع: يقال خضل وأخضل إذا ندي، النهاية (3/43).
([54]) مسند الإمام أحمد (1/202، 203).
([55]) استأصل به خضراءهم: أي أقضي به على دهمائهم وسوادهم، الهجرة في القرآن الكريم، ص307.
([56]) العذراء: الجارية التي لم يمسها رجل وهي البكر. يقال امرأة بتول: منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم.
([57]) فتناخرت: أي تكلمت وكأنه كلام مع غضب ونفور.
([58]) مسند الإمام أحمد (1/203) ورجاله رجال الصحيح.
([59]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص309.
([60]) البخاري، كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة (5/64) رقم 1333.
([61]) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب موت النجاشي، حديث رقم 3877.
([62]) أسد الغابة (1/99) الإصابة (1/109).
([63]) السيرة النبوية للدكتور مصطفى السباعي، ص57.
([64]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص312.
([65]) انظر: التربية القيادية للغضبان (1/333). (3) أضواء على الهجرة، توفيق محمد سبع، ص427.

([67]) انظر: التربية القيادية، (1/333).(5) نفس المصدر (1/333).

([69]) تفسير الطبري (11/6) تفسير ابن كثير (2/331).
([70]) الروض الأنف للسهيلي (2/92) الهجرة في القرآن الكريم، ص312.
([71]) الهجرة في القرآن الكريم، ص316.
([72]) فقه السيرة للبوطي ص 126، الهجرة في القرآن الكريم، ص317.
([73]) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص101.
([74]) نفس المصدر، ص101.
([75]) انظر: التربية القيادية (1/317).
([76]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (2/92).
([77]) انظر: التربية القيادية، (1/335). (2) نفس المصدر (1/336).


([79]) انظر: سفراء النبي صلى الله عليه وسلم, لمحمود شيت خطاب (2/252: 317).
([80]) انظر: التربية القيادية (1/319، 340).
([81]) انظر: السيرة النبوية قراءةلجوانب الحذر والحماية، ص106.
([82]) انظر: التربية القيادية، (1/337).
([83]) نفس المصدر (1/342).
(3) المصدر السابق، (1/342).(4) المصدر السابق (1/342).

([86]) سنن الترمذي، كتاب الزهد تحفة الأحوذي (7/97) صحيح الجامع الصغير، رقم 5973.
([87]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (2/105).
([88]) التاريخ الإسلامي للحميدي (2/106). (2) الفتاوى (22/43).


([90]) الكبائر، ص12. (4) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص205.

([92]) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، (5/8).
([93]) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص167.
(2) انظر: شرح المواهب (1/271).

([95]) صحيح سنن أبي داود للألباني (2/396)
(4) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص188.
([97]) الطبقات (8/3).
([98]) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله، ص706، 707.
([99]) انظر: الهجرة الأولى، ص188.
([100]) هجر: هي الاحساء.
([101]) انظر: الغرباء الأولون، ص169، 170.
([102]) انظر: أضواء على الهجرة ص 156: 161، الهجرة في القرآن الكريم، ص320.
([103]) انظر: الغرباء الأولون، ص170، 171.
__________________
رد مع اقتباس
  #69  
قديم 24-09-2014, 11:47 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

المبحث الثالث


عام الحزن ومحنة الطائف

أولاً: عام الحزن:
1- وفاة أبي طالب:
كانت وفاة أبي طالب بعد مغادرة بني هاشم شعبه، وذلك في آخر السنة العاشرة من المبعث([1]) وقد كان أبو طالب (يحوط النبي ويغضب له) ([2]) و(ينصره) ([3])، وكانت قريش تحترمه، وعندما حضرته الوفاة جاء زعماء الشرك وحرضوه على الاستمساك بدينه وعدم الدخول في الإسلام قائلين: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام قائلاً: «قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» فقال أبو طالب: لولا تعيرني بها قريش, يقولون: إنما حمله عليها الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله: ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )[القصص:56] كانت أفكار الجاهلية راسخة في عقل أبي طالب، ولم يتمكن من تغييرها، فهو شيخ كبير يصعب عليه تغيير فكره وما ألفه عن آبائه، وكان أقرانه حاضرين وقت احتضاره, فأثروا عليه خوفًا من شيوع خبر إسلامه وتأثير ذلك على قومه([4]).
2- وفاة خديجة رضي الله عنها:
أما السيدة خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فقد توفيت قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين([5]) في نفس عام وفاة أبي طالب([6]).
وبموت أبي طالب الذي أعقبه موت خديجة رضي الله عنها، تضاعف الأسى والحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بفقد هذين الحبيبين, اللذين كانا دعامتين من دعائم سير الدعوة في أزماتها، كان أبو طالب السند الخارجي الذي يدفع عنه القوم، وكانت خديجة السند الداخلي الذي يخفف عنه الأزمات والمحن، فتجرأ كفار قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونالوا منه ما لم يكونوا يطمعون به في حياة أبي طالب([7]) وابتدأت مرحلة عصيبة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم واجه فيها كثيرًا من المشكلات والمصاعب, والمحن والفتن, حينما أصبح في الساحة وحيدًا لا ناصر له إلا الله سبحانه وتعالى، ومع هذا, فقد مضى في تبليغ رسالة ربه إلى الناس كافة على ما يلقى من الخلاف والأذى الشديد, الذي أفاضت كتب الحديث وكتب السير بأسانيدها الصحيحة الثابتة في الحديث عنه، وتحمل صلى الله عليه وسلم من ذلك ما تنوء الجبال بحمله، ولما تكالبت الفتن والمحن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلده الذي نبت فيه وبين قومه الذين يعرفون عنه كل صغيرة وكبيرة, عزم صلى الله عليه وسلم على أن ينتقل إلى بلد غير بلده, وقوم غير قومه, يعرض عليهم دعوته، ويلتمس منهم نصرتهم, رجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إلى الطائف، وهي من أقرب البلاد إلى مكة([8]).
ثانيًا: رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتدي بالأنبياء والمرسلين الذين سبقوه في الدعوة إلى الله، فهذا نوح لبث في قومه داعيًا: ( أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا )[العنكبوت:14] فكانت هذه الأعوام الطويلة عملاً دائبًا، وتنويعًا متكررًا ( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ` قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ` أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ` يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ` قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا` فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا` وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا` ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا` ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا )[نوح:1-9]
ومع امتداد الزمن الطويل، ما توقف عن الدعوة, ولا ضعُفت همته في تبليغها، ولا ضعُفت بصيرته وحيلته في تنويع أوقاتها وأساليبها، قال الآلوسي في تفسيره ( رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي ) أي إلى الإيمان والطاعة ( لَيْلاً وَنَهَارًا ) أي دائمًا من غير فتور ولا توانٍ، ثم وصف إعراضهم الشديد، وإصرارهم العنيد، ثم علق على قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) فقال: أي دعوتهم مرة بعد مرة، وكرة غِبَّ كرة، على وجوه مختلفة وأساليب متفاوتة، وهو تعميم لوجوه الدعوة, بعد تعميم الأوقات، وقوله ( ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ) يشعر بمسبوقية الجهر بالسر، وهو الأليق بمن همه الإجابة؛ لأنه أقرب إليها لما فيه من اللطف بالمدعو([9]).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينوع ويبتكر في أساليب الدعوة, ودعا سرًا وجهرًا، وسلمًا وحربًا، وجمعًا، وفردًا، وسفرًا وحضرًا، كما أنه عليه الصلاة والسلام قص القصص، وضرب الأمثال، واستخدم وسائل الإيضاح بالخط على الأرض وغيره, كما رغب وبشر، ورهب وأنذر، ودعا في كل آنٍ، وعلى كل حال وبكل أسلوب مؤثر فعَّال([10]) فها هو عليه الصلاة والسلام ينتقل إلى الطائف، ثم يتردد على القبائل، ثم يهاجر ويستمر في دعوة الخلق إلى الله تعالى.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى لإيجاد مركز جديد للدعوة، وطلب النصرة من ثقيف لكنها لم تستجب له، وأغرت به صبيانها فرشقوه بالحجارة، وفي طريق عودته من الطائف التقى بعدَّاس الذي كان نصرانيًّا فأسلم، وأرخ الواقدي الرحلة في شوال سنة عشر من المبعث بعد موت أبي طالب وخديجة، وذكر أن مدة إقامته بالطائف كانت عشرة أيام([11]).
1- لماذا اختار الرسول صلى الله عليه وسلمالطائف؟
كانت الطائف تمثل العمق الإستراتيجي لملأ قريش، بل كانت لقريش أطماع في الطائف، ولقد حاولت في الماضي أن تضم الطائف إليها، ووثبت على وادي وج وذلك لما فيه من الشجر والزرع، حتى خافتهم ثقيف وحالفتهم, وأدخلت معهم بني دوس([12])، وقد كان كثير من أغنياء مكة يملكون الأملاك في الطائف, ويقضون فيها فصل الصيف، وكانت قبيلة بني هاشم وعبد شمس على اتصال مستمر مع الطائف، كما كانت تربط مخزوم مصالح مالية مشتركة بثقيف([13]) فإذا اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فذلك توجه مدروس، وإذا استطاع أن يجد له فيها موضع قدم, وعصبة تناصره، فإن ذلك سيفزع قريشًا، ويهدد أمنها ومصالحها الاقتصادية تهديدًا مباشرًا، بل قد يؤدي لتطويقها وعزلها عن الخارج، وهذا التحرك الدعوي السياسي الاستراتيجي, الذي يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على حرصه في الأخذ بالأسباب لإيجاد دولة مسلمة أو قوة جديدة, تطرح نفسها داخل حلبة الصراع؛ لأن الدولة أو إيجاد القوة التي لها وجودها, من الوسائل المهمة في تبليغ دعوة الله إلى الناس.
عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف اتجه مباشرة إلى مركز السلطة وموضع القرار السياسي في الطائف([14]).
2- أين كان موضع السلطة في الطائف؟
كان بنو مالك والأحلاف -بحكم أسبقيتهم الزمنية للاستيطان- هما المسيطرين عليها وتنتهي إليهما قيادتها, فكانت لهما الرئاسة الدينية المتمثلة في رعاية المسجد, بالإضافة إلى الزعامة السياسية العامة والعلاقة الخارجية, والنفوذ الاقتصادي، إلا أنهما مع ذلك لم يكونا في وضع يمكنهما من الدفاع عن منطقة الطائف، التي كانت من أخصب بلاد العرب وأكثرها جذبًا للأنظار والأطماع، فكانا يخافان قبيلة هوازن، ويخافان قريش ويخافان بني عامر، وكلها قبائل قوية وقادرة على الانقضاض والاستلاب؛ ولذلك فقد اعتمد زعماء الطائف على سياسة المهادنة وحفظ الاستقرار السياسي عن طريق المعاهدات والموازنات وهي عين الطريق التي كانت تسير عليها قريش، فصار بنو مالك يوثقون علاقاتهم مع هوازن ليأمنوا شرها، وصار الأحلاف يرتبطون بقريش لتأمين جانبها([15]).
هذا ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم غافلاً عن هذه الشبكة من العلاقات والمعاهدات, وهو يتجه إلى الطائف، بل كان يعرف أن الطائف لم تكن توجد بها سلطة مركزية واحدة، وإنما يقتسم السلطة فيها بطنان من بطون العرب بموجب اتفاقية داخلية، وأن أيا منهما كان يدور في فلك قبيلة خارجية أقوى، فإذا استطاع أن يستميل إليه أيا منهما, فسوف يكون لذلك أثر كبير في ميزان القوى السياسية، هذا على وجه العموم، أما إذا استطاع على وجه الخصوص أن يستميل إليه الأحلاف، وهو المعسكر المتحالف مع قريش، فإن خطته تكون قد بلغت تمامها وهو أمر غير مستحيل، فهو يعلم أن موادة هذا المعسكر لقريش لا تقوم على القناعة المذهبية أو الولاء الديني بقدر ما تقوم على أساس التخوف من قريش، وعلى هذا التقدير للوضع السياسي اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة حينما دخل الطائف، إلى بني عمرو بن عمير الذين يترأسون الأحلاف، ويرتبطون بقريش، ولم يذهب إلى بني مالك الذين يتحالفون مع هوازن([16]) قال ابن هشام في السيرة: «لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة عبد ياليل بن عمرو، ومسعود بن عمرو، وحبيب بن عمرو وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جُمح([17]) غير أن بني عمرو كانوا شديدي الحذر وكثيري التخوف، فلم يستجيبوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بل بالغوا في السفه وسوء الأدب معه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم, وقد يئس من خير ثقيف وقال لهم: «إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني» ([18]) وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيؤزرهم ذلك عليه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يود أن تتم اتصالاته تلك في جو من السرية، وألا تنكشف تحركاته لقريش([19]) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم كثيرا بجوانب الحيطة والحذر فقد:
أ- كان خروجه من مكة على الأقدام, حتى لا تظن قريش أنه ينوي الخروج من مكة؛ لأنه لو خرج راكبًا فذلك مما يثير الشبهة والشكوك، وأنه ينوي الخروج والسفر إلى جهة ما، مما قد يعرضه للمنع من الخروج من مكة دون اعتراض من أحد.
ب- واختيار الرسول صلى الله عليه وسلم زيدًا كي يرافقه في رحلته فيه جوانب أمنية، فزيد هو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبني، فإذا رآه معه أحد، لا يثير ذلك أي نوع من الشك لقوة الصلة بينهما، كما أنه صلى الله عليه وسلم عرف زيدًا عن قرب, فعلم فيه الإخلاص والأمانة والصدق, فهو إذن مأمون الجانب فلا يفشي سرَّا، ويعتمد عليه في الصحبة، وهذا ما ظهر عندما كان يقي النبي صلى الله عليه وسلم الحجارة بنفسه، حتى أصيب بشجاج في رأسه.
ج- وعندما كان رد زعماء الطائف ردًا قبيحًا مشوبًا بالاستهزاء والسخرية، تحمله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يغضب أو يثُُر، بل طلب منهم أن يكتموا عنه، فهذا تصرف غاية في الحيطة، فإذا علمت قريش بهذا الاتصال فإنها لا تسخر منه فحسب، بل ربما شددت عليه في العذاب والاضطهاد، وحاولت رصد تحركاته داخل وخارج مكة([20]).
3- تضرع و دعاء:
كان بنو عمرو لئامًا فلم يكتموا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويرمون عراقيبه بالحجارة، حتى دمت عقباه وتلطخت نعلاه، وسال دمه الزكي على أرض الطائف، وما زالوا به وبزيد بن حارثة حتى ألجأوهما إلى حائط- بستان- لعتبة وشيبة ابني ربيعة, وهما فيه، فكره مكانهما لعداوتهما لله ورسوله، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل شجرة من عنب، فجلس فيه هو وصاحبه زيد، ريثما يستريحا من عنائهما، وما أصابهما، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، ولم يحركا ساكنًا، وفي هذه الغمرة من الأسى والحزن, والآلام النفسية والجسمانية توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه بهذا الدعاء الذي يفيض إيمانًا ويقينًا، ورضى بما ناله في الله، واسترضاء لله: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرفت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة, من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك لك العتبى([21]) حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله»([22]).
4- الرحمة والشفقة النبوية:
كانت رحمته وشفقته العظيمة هي التي تغلب في المواقف العصيبة التي تبلغ فيها المعاناة أشد مراحلها، وتضغط ب*** على النفس لتشتد وتقسو، وعلى الصدر ليضيق ويتبرم، ومع ذلك تبقى نفسه الكبيرة ورحمته العظيمة هي الغالبة([23]).
فعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي, فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ([24]) فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال: ذلك فيما شئت, إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين».
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشركُ به شيئًا» ([25]).
كانت إصابته صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبلغ من الناحية الجسمية، أما من الناحية النفسية, فإن إصابته يوم الطائف أبلغ وأشد؛ لأن فيها إرهاقًا كبيرًا لنفسه ومعاناة فكرية شديدة جعلته يستغرق في التفكير من الطائف إلى قرن الثعالب([26]).
وإنا لنلمح في هذا الدعاء عمق توحيد النبي صلى الله عليه وسلم ومبلغ تجرده لله جل وعلا، فرضوان الله تعالى إذن هو الهدف الأعلى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المطلب الأعظم الذي تسخر له كل المطالب، وإذا كان البلاء من الله تعالى, من أجل أن يحل رضاه وينجلي سخطه فحيهلا بالبلاء، وهو ساعتئذ نعمة ورخاء.
ثم يختم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءه بالكلمة العظيمة التي يقولها, وعلم أصحابه أن يقولوها عند حلول المكاره «ولا حول ولا قوة إلا بك» فلا تحول للمؤمن من حال الشدة إلى حال الرخاء، ولا من الخوف إلى الأمن إلا بالله تعالى، ولا قوة على مواجهة الشدائد وتحمل المكاره إلا بالله جل وعلا([27]).
إن الدعاء من أعظم العبادات، وهو سلاح فعال في مجال الحماية للإنسان, وتحقيق أمنه، فمهما بلغ العقل البشري من الذكاء والدهاء, فهو عرضة للزلل والإخفاق، وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها عن التفكير والتدبير تمامًا، فليس له مخرج منها سوى أن يجأر إلى الله بالدعاء، ليجد فرجا ومخرجًا، فعندما لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف الأذى والطرد والسخرية والاستهزاء وأصبح هائما على وجهه، لجأ إلى الله بالدعاء فما أن انتهى من الدعاء حتى جاءت الإجابة من رب العالمين مع جبريل وملك الجبال([28]).
5- من مناهج التغيير:
كان مقترح ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين, وهو يدخل تحت أسلوب الاستئصال، وقد نفذ في قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط قال تعالى: ( فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )[العنكبوت:40].
وكان هناك اقتراح آخر وهو أن يستمر في هجرته, والابتعاد عن مكة والطائف الكافرتين، فالأولى أخرجته والثانية خذلته, وعرض ذلك الأمر زيد بن حارثة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن القيم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن لم يجد ناصرًا في الطائف، انصرف إلى مكة ومعه مولاه زيد بن حارثة محزونًا، وهو يدعو بدعاء الطائف المشهور، فأرسل ربه تبارك وتعالى ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة، وهما جبلاها اللذان كانت بينهما، فقال: «لا، بل أستأني بهم, لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئا».. وأقام بنخلة أيامًا، فقال له زيد بن حارثة: (كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك، يعني قريشًا، وخرجت تستنصر فلم تنصر، يعني الطائف) فقال: «يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه» ([29]).
إن النبي صلى الله عليه وسلم رفض منهج الاستئصال، وامتنع عن فكرة الاعتزال, أو الهجرة المستمرة، ونظر إلى المستقبل بنور الإيمان، وقرر الدخول إلى مكة الكافرة ليواصل جهاده الميمون، ويستثمر كل ما يستطيعه من أجل دعوة التوحيد, لم يَحْتَرْ النبي صلى الله عليه وسلم بين المنهجين السابقين, بل تقدم نحو المنهج البديل, الذي عزم عليه وهو منهج يقوم على فكرة دخول مكة الكافرة وليس الانسحاب منها، ويقوم على ضرورة الوجود على ذات الأرض التي يقف عليها الكافرون، واعتصار مؤسساتها واستثمار علاقاتها، وتحوير غاياتها ليتغذى بكل ذلك مجتمع المؤمنين الذي سيولد من أحشائها، أي أنه كان صلى الله عليه وسلم يريد أن يتخذ من أصلاب الكافرين مصانع بشرية تخرج أجيالاً من المسلمين المقاتلين في سبيل الله، فالنظر النبوي هنا مصوب نحو المستقبل بصورة جلية، ولم يكن ذلك يعني الانسحاب من الحاضر([30]) كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على دخول مكة مرة ثانية، غير أن ظاهر الأحوال تدل على أن دخول مكة لم يكن أمرًا هينًا ولا آمنًا، وهنالك احتمال كبير للغدر به ولاغتياله من قبل قريش، التي لا يمكن أن تصبر أكثر, وهو قد أعلن الخروج عليها وذهب يستنصر بالقبائل الأخرى, ويوقع بينها وبين حلفائها، ثم إنه حتى لو لم تكن هناك خطورة على شخصه، فإن دخوله إلى مكة بصورة (عادية) وقد طردته الطائف، سيجعل أهل مكة يصورون الأمر كهزيمة كبيرة أصابت المسلمين ويجترئون عليهم ويزدادون سفهًا، ولذلك فقد اتجه نظر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرة إلى تفجير مكة من الداخل بدلاً من تطويقها من الخارج، أي أراد أن يتغلغل في داخل بطون قريش ذاتها، ويُوجِد له حلفاء من بينهم وَيُكَوِّن له وجودًا في قلبها([31]).
وذكر ابن هشام في السيرة في معرض الحديث عن إجارة المطعم بن عدي: إنه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه, من تصديقه ونصرته، صار إلى حِراء ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره فقال: أنا حليف والحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال له: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي -سيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف- بعث إليه رجلاً من خزاعة، «أدخل في جوارك؟» فقال: نعم: ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدًا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته, فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم, فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته, والمطعم بن عدي وولده محدقون بالسلاح حتى دخل بيته([32]).
لقد تغير الوضع كثيرًا بسبب منهجية الرسول صلى الله عليه وسلم الجديدة، فبدلاً من أن يدخل مكة منهزمًا مختفيًا دخلها ويحرسه بالسلاح سيد من سادات قريش, على مسمع منهم ومرأى، هذا ونلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اختار رجلاً من خزاعة فبعثه رسولاً، وفي هذين الاختيارين حنكة سياسية مدهشة، ووعي تاريخي ودبلوماسي عميق، لأن نوفلاً، وهو الأب الأكبر لقبيلة نوفل التي يتزعمها المطعم بن عدي آنئذ، كان خصيمًا لعبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فقد وثب على أفنية وساحات كانت لعبد المطلب، واغتصبها، فاضطرب عبد المطلب لذلك واستنهض قومه فلم ينهض كبير أحد منهم، فكتب إلى أخواله من بني النجار من الخزرج قصيدة يستنصرهم، قالوا: فقدم عليه منهم جمع كثيف فأناخوا بفناء الكعبة وتنكبوا القسي وعلقوا التراس، فلما رآهم نوفل، قال: لشرٍّ ما قدم هؤلاء؟ فكلموه فخافهم ورد أركاح عبد المطلب إليه، فلما نصر بنو الخزرج عبد المطلب قالت خزاعة, وهم قد قووا وعزوا: والله ما رأينا بهذا الوادي أحدًا أحسن وجهًا ولا أتم خلقًا ولا أعظم حلمًا من هذا الإنسان، يعنون عبد المطلب، وقد نصره أخواله من الخزرج، ولقد ولدناه كما ولدوه, وإن جده عبد مناف لابن حبي بنت حليل بن حبشية سيد خزاعة، ولو بذلنا له نصرنا وحالفنا، انتفعنا به وبقومه وانتفع بنا، فأتاه وجوههم، فقالوا: يا أبا الحارث إنا قد ولدناك كما ولدك قوم من بني النجار، ونحن بعد متجاورون في الدار، وقد أماتت الأيام ما يكون في قلوب بعضنا على قريش من الأحقاد، فهلم فنحالفك فأعجب ذلك عبد المطلب وقبله وسارع إليه، ولم يحضر أحد من بني نوفل ولا عبد شمس([33]).
هذا النص يشير إلى جذور الصراع التاريخي القديم بين خزاعة وقريش، حينما جمع قصي بن كلاب قريشًا من متفرقات المواقع، وقاتل بهم خزاعة التي كانت لديها رئاسة البيت وسيادة العرب، فأخرج خزاعة من البيت, وقسم مكة أرباعًا على قريش، فما زالت خزاعة مبغضة لقريش كارهين لها، ولما اضطرب الأمر بين قريش وعبد المطلب, تحالفت خزاعة مع عبد المطلب, نكاية بقريش, وإضعافًا لها، وليس صحيحًا أن الأيام قد أماتت ما كان في قلوب بعضهم على قريش من الأحقاد, كما ذكر وفدهم, بل الصحيح أن الأحقاد لم تزل حية والصراع لم يزل مستمرًا، ومما يدل على ذلك أن بني نوفل وبني عبد شمس لم يدخلا ولم يحضرا هذا الحلف، إذ أنه حلف مضاد لهما.
فإذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً من خزاعة إلى سيد قبيلة بني نوفل فإن هذا الفعل إشارة ظاهرة إلى تلك الوقائع التاريخية, التي ذكرناها, كما فيها تذكير بالحلف القديم بين عبد المطلب وخزاعة، ضد بني نوفل وعبد شمس ليفهم من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقف معزولاً في مكة، وأنه قد يفعل ما فعله جده عبد المطلب، فيتحالف مع خزاعة، أو يستنصر بالخزرج؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن في الواقع (يستعطف) المطعم بن عدي سيد بني نوفل ليدخل في جواره، بقدر ما كان يهدده ويثير مخاوفه، وحماية المطعم بن عدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن مجرد (أريحية) ونبل بقدر ما كانت رعاية لمصلحته وحماية لوضعه، وصمت قريش وهي ترى محمدًا صلى الله عليه وسلم يدخل في جوار بني نوفل ويحرسونه بالسلاح, لم يكن خوفًا من سلاح نوفل، وإنما خوفا من سلاح خزاعة وقسي الخزرج([34]).
كما لا ننسى أن المطعم ممن قام بنقض الصحيفة الظالمة, مع من ذكرنا فيما مضى.
وقد حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيع مطعم بن عدي، وعرف مدى الخطورة التي عرض نفسه وولده وقومه لها من أجله، فقال عن أسارى بدر السبعين يوم أسرهم: «لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له»([35]).
فمع العداء العقدي فرسول الله صلى الله عليه وسلم يفرق بين من يعادي هذه العقيدة ويحاربها، ومن يناصرها ويسالمها، إنهم وإن كانوا كفارًا فليس من سمة النبوة أن تتنكر للجميل([36]).
وهكذا صلى الله عليه وسلم, كان يوظف الأعراف والتقاليد التي في مجتمعه لمصلحة الإسلام، فكان ينظر للبناء الاجتماعي القائم، باعتباره حقيقة موضوعية، تاريخية، وينظر للإنسان الكافر ليس باعتباره رقمًا حسابيًا فرديًا منقطعًا، وإنما ينظر إليه كفرد في شبكة اجتماعية متداخلة العلاقات ومتنوعة الدوافع، وإن الإنسان يملك الفرصة والإمكان لأن يتحول هو نفسه وطوع إرادته إلى قوة اجتماعية مؤثرة، وله وزن في اتخاذ القرار ونقضه، وفقًا للقيم التي يختارها، والمطعم بن عدي لم يكن فردًا وإنما كان مؤسسة، وهي مؤسسة لم تولد بميلاده، وإنما يرجع وجودها إلى تاريخ قديم، تصارعت فيها قيم التوحيد والإشراك، فإن صارت مؤسسة خالصة للكافرين الآن، فلا يعني ذلك استحالة الانتفاع بها وتسخيرها للعودة للإيمان والتوحيد([37]).
6- قصة عداس النصراني, وإسلام الجن:
لقد حققت رحلة النبي صلى الله عليه وسلم انتصارات دعوية رفيعة المستوى، فقد تأثر بالدعوة الغلام النصراني عداس، الذي أسلم([38]) كما وصلت الدعوة إلى الجن السبعة, الذين أسلموا ثم انطلقوا إلى قومهم منذرين.
أ- قصة عداس:
لما تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم للأذى من أهل الطائف، وخرج من عندهم, وألجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، فلما رآه عتبة وشيبة رقَّا له، ودعوا غلامًا لهما نصرانيًّا يقال له: عدَّاس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب, فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عدَّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: كل.
فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده, قال: «باسم الله» ثم أكل، فنظر عدَّاس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام, ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟» قال: نصراني وأنا رجل من أهل نينوى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى» فقال له عدَّاس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي»، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه، قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه، أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عدَّاس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه([39]).
* إن تسمية النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأكل تطبيق لسنة من سنة الإسلام الظاهرة، وقد كان من بركة ذلك انجذاب الرجل النصراني إلى الإسلام، فما أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الله تعالى قبل الأكل حتى اهتز كيان ذلك المولى النصراني، وجاشت مشاعره فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعجبه من ذلك حيث لا يعرف أهل تلك البلاد ذكر اسم الله تعالى.
* إن التسمية قبل الأكل كسائر السنن الظاهرة من أسباب تميز المسلمين على من حولهم من الوثنين، وهذا التميز يلفت أنظار الكفار ويدفعهم إلى السؤال عن سبب ذلك, ثم يقودهم ذلك إلى فهم الدين الإسلامي والانجذاب إليه([40]).
* كان يقين عداس بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قويًّا، يدل على ذلك موقفه من سيديه عتبة وشيبة ابني ربيعة لما أرادا الخروج إلى بدر, وأمراه بالخروج معهما, حيث قال لهما: قتال ذلك الرجل الذي رأيت في حائطكما تريدان؟ فوالله لا تقوم له الجبال، فقال ويحك يا عداس قد سحرك بلسانه([41]).
* في قول عداس والله ما على الأرض خير من هذا, مواساة عظيمة، فلئن آذاه قومه، فهذا وافد من العراق, من نينوى, يكبُّ على يديه ورجليه ويقبلهما، ويشهد له بالرسالة، وإن هذا لقدر رباني, يسوق من نينوى من يؤمن بالله ورسوله، حيث كان الصد من أقرب الناس إليه([42]).
__________________
رد مع اقتباس
  #70  
قديم 24-09-2014, 11:50 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

ب- إسلام الجن:
لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خبر ثقيف، حتى إذا كان بنخلة, قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تعالى، وكانوا سبعة نفر من جن أهل نصيبين، فاستمعوا لتلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من صلاته، ولَّوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا, فقص الله تعالى خبرهم على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ` قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ )[الأحقاف:29-30].
هبط هؤلاء الجن على النبي صلى الله عليه وسلم, وهو يقرأ ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: ( أَنْصِتُوا ). هذه الدعوة التي رفضها المشركون بالطائف, تنتقل إلى عالم آخر هو عالم الجن، فتلقوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم, ومضوا بها إلى قومهم، كما مضى بها أبو ذر الغفاري إلى قومه، والطفيل بن عمرو إلى قومه، وضماد الأزدي إلى قومه، فأصبح في عالم الجن دعاة يبلغون دعوة الله تعالى: ( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )[الأحقاف:31].
وأصبح اسم محمد صلى الله عليه وسلم تهفو إليه قلوب الجن، وليس قلوب المؤمنين من الإنس فقط، وأصبح من الجن حواريون, حملوا راية التوحيد, ووطنوا أنفسهم دعاة إلى الله. ونزل في حقهم قرآن يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, قال تعالى: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا` يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا` وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا` وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطًا` وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِبًا` وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقًا` وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا` وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا` وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا` وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا` وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا` وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللهَ فِي الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا` وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا )[الجن: 1-13].
كان هذا الفتح الرباني في مجال الدعوة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة عاجز عن دخول مكة، فهل يستطيع عتاة مكة وثقيف أن يأسروا هؤلاء المؤمنين من الجن، وينزلوا بهم ألوان ال*****؟ ([43]) وعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جوار المطعم بن عدي كان يتلو على صحابته سورة الجن فتتجاوب أفئدتهم خشوعًا وتأثرًا من روعة الفتح العظيم في عالم الدعوة، وارتفاع راياتها، فليسوا هم وحدهم في المعركة، هناك إخوانهم من الجن يخوضون معركة التوحيد مع الشرك.
وبعد عدة أشهر من لقاء الوفد الأول من الجن برسول الله صلى الله عليه وسلم جاء الوفد الثاني متشوقًا لرؤية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والاستماع إلى كلام رب العالمين.([44]) فعن علقمة قال سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكننا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشِّعاب، فقلنا: استُطِير أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا شر ليلة بات بها قوم، فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن» قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم»([45]).
كان هذا الفتح العظيم والنصر المبين في عالم الجن إرهاصًا وتمهيدًا لفتوحات وانتصارات عظيمة في عالم الإنس، فقد كان اللقاء مع وفد الأنصار بعد عدة أشهر([46]).

* * *





([1]) فتح الباري (7/194). (2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/193)


([3]) صحيح مسلم (1/195). (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/184).

([5]) نفس المصدر (1/185). (6) المصدر السابق، (1/185).

([7]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص34.
([8]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص36: 45.
([9]) انظر: تفسير الآلوسي (10/89).
([10]) انظر: مقومات الدعوة والداعية، بادحدح، ص123.
([11]) طبقات ابن سعد (1/221) نقلا عن السيرة النبوية الصحيحة (1/185).
([12]) انظر: شرح العسقلاني لصحيح البخاري، كتاب الكفالة (4/373).
([13]) انظر: أصول الفكر السياسي، ص173. (4) المصدر السابق نفسه، ص174.

([15])انظر: أصول الفكر السياسي، ص174. (2) المصدر السابق ص175.

([17]،4) سيرة ابن هشام، (2/78) (5) انظر: أصول الفكر السياسي ص 175.


([20]) السيرة النبوية جوانب الحذر والحماية، ص109، 110.
([21]) العتبى: الاسترضاء.
([22]) ذهب الدكتور العمري إلى تضعيف الحديث في كتابه السيرة النبوية الصحيحة (1/186) وذهب إبراهيم العلي إلى صحته وبين أن للحديث شاهدًا يقويه ولذلك اعتبره صحيحًا وذكره في كتابه صحيح السيرة النبوية، ص136، وذهب الدكتور عبد الرحمن عبد الحميد البر مدرس الحديث وعلومه في جامعة الأزهر أن الحديث بطريقيه قوي مقبول, وخرج طرقه في كتابه الهجرة النبوية المباركة، ص38.
([23]) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص76.
([24]) هو قرن المنازل ميقات أهل نجد ويسمى الآن السيل الكبير.
([25]) صحيح البخاري رقم 3231. (4) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي، (3/26، 27).

([27]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/20).
([28]) انظر: السيرة النبوية جوانب الحيطة والحذر، ص112، 113.
([29]) انظر: زاد المعاد (2/46).
(1) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن المكي ص176.
([31]) نفس المصدر، ص177، 178.
([32]) سيرة ابن هشام (1/381) ثم زاد المعاد (2/47). (4) محمد رسول الله، لصادق عرجون، (2/324).

([33]) انظر: أنساب الأشراف للبلاذري (1/71) تحقيق محمد حميد الله، دار المعارف بمصر، بدون تاريخ.
([34]) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن المكي، ص180.
(1) البخاري، كتاب 64 باب شهود الملائكة (3/110).
([36]) انظر: التحالف السياسي، ص44.
([37]) انظر: أصول الفكر السياسي، ص181. (4) انظر: الرسول المبلغ للخالدي، ص39، 40.


([39]) صحيح السيرة النبوية، 136، 137. (2) انظر: التاريخ الإسلامي، (3/22).
(3) انظر: سبل الهدى والرشاد (2/578).(4) انظر: التربية القيادية (1/437).


([43]) انظر: التربية القيادية (1/443). (2) نفس المصدر (1/445).

([45]) مسلم، كتاب الصلاة، (1/332) رقم 150.
([46]) انظر: التربية القيادية، (1/445).
__________________
رد مع اقتباس
  #71  
قديم 25-09-2014, 12:00 AM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

المبحث الرابع


الإسراء والمعراج... ذروة التكريم

نرى أن لهذه المعجزة الجليلة أهدافًا تتمثل في أمور من أهمها:
* إن الله عز وجل أراد أن يتيح لرسوله فرصة الاطلاع على المظاهر الكبرى لقدرته, حتى يملأ قلبه ثقة فيه واستنادًا إليه, حتى يزداد قوة في مهاجمة سلطان الكفر القائم في الأرض، كما حدث لموسى عليه السلام، فقد شاء الله أن يريه عجائب قدرته، فلما ملأ قلبه بمشاهد هذه الآيات الكبرى قال له بعد ذلك: ( لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى )[طه:23].
في رحلة الإسراء والمعراج أطلع الله نبيه على هذه الآيات الكبرى، توطئة للهجرة ولأعظم مواجهة على مدى التاريخ للكفر والضلال والفسوق، والآيات التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة: الذهاب إلى بيت المقدس، العروج إلى السماء، رؤية الغيب الذي دعا إليه الأنبياء والمرسلين، الملائكة، السماوات، الجنة والنار، نماذج من النعيم والعذاب.
كان حديث القرآن الكريم عن الإسراء في سورة الإسراء, وعن المعراج في سورة النجم، وذكر حكمة الإسراء في سورة الإسراء بقوله: ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا )[الإسراء:1] وفي سورة النجم بقوله: ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى )[النجم:18] وفي الإسراء والمعراج علوم وأسرار ودقائق ودروس وعبر([1])
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: «لم يكن الإسراء مجرد حادث فردي بسيط رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الكبرى، وتجلى له ملكوت السماوات والأرض مشاهدة وعيانًا، بل زيادة إلى ذلك, اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على معانٍ دقيقة كثيرة، وشارات حكيمة بعيدة المدى: فقد ضمت قصة الإسراء، وأعلنت السورتان الكريمتان اللتان نزلتا في شأنه تسميان (الإسراء) , (النجم) أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو نبي القبلتين، وإمام المشرقين والمغربين، ووارث الأنبياء قبله، وإمام الأجيال بعده، فقد التقت في شخصه وفي إسرائه مكة بالقدس، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى، وصلى بالأنبياء خلفه، فكان هذا إيذانًا بعموم رسالته وخلود إمامته وإنسانية تعاليمه، وصلاحيتها لاختلاف المكان والزمان، وأفادت هذه السورة الكريمة تعيين شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ووصف إمامته وقيادته وتحديد مكانة الأمة التي بعث فيها وآمنت به، وبيان رسالته ودورها الذي ستمثله في العالم، ومن بين الشعوب والأمم([2]).
أولاً: قصة الإسراء والمعراج كما جاءت في بعض الأحاديث:
* عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُتيت بالبراق -وهو دابة أبيضٌ طويلٌ فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه- قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال: فربطته بالحلقة([3]) التي يربط بها الأنبياء قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال: جبريل اخترت الفطرة» ([4]) فذكر الحديث([5]).
* وفي حديث مالك بن صعصعة: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري يه، قال: «بينما أنا في الحطيم»([6]) وربما قال: «في الحجر مضطجعًا إذ أتاني آت([7]) فقدَّ» قال: وسمعته يقول: «فشق ما بين هذه» فقلت للجارود وهو إلى جانبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره([8]) إلى شعرته([9]) وسمعته يقول: من قصه([10]) إلى شعرته، «فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا، فغسل قلبي ثم حَشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض» فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم, يضع خطوه عند أقصى طرفه([11])، فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتيت السماء الدنيا فاستفتح ([12])قيل: من هذا؟
قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟
قال: نعم. قيل: مرحبًا به([13]) فنعم المجيء جاء, ففتح، فلما خَلَصت فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح، والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح: قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فَفَتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما فسلمت، فردَّا ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, ففتح فلما خلصت إذا يوسف, قال: هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى السماء الرابعة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, ففتح فلما خلصت فإذا إدريس, قال: هذا إدريس, فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, ففتح فلما خلصت, فإذا هارون قال: هذا هارون، فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى السماء السادسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, فلما خلصت فإذا موسى قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا([14]) بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي.
ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به ونعم المجيء جاء, فلما خلصت فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك فسلم عليه، قال فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم رفعت لي([15]) سدرة فإذا نبقها مثل([16]) قلال هجر([17]) وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار, نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما البطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ثم رفع لي البيت المعمور.
ثم أتيت بإناء من خمر, وإناء من لبن, وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة([18]) التي أنت عليها وأمتُك.
ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة([19]) فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأُسَلِّم، قال: فلما جاوزتُ نادى منادٍ: أمضيتُ فريضتي وخففت عن عبادي»([20]).
* كانت حادثة الإسراء والمعراج قبل هجرته عليه السلام بسنة هكذا قال القاضي عياض في الشفا([21]).
* فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحلته الميمونة أخبر قومه بذلك فقال لهم في مجلس حضره المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة، فقال: «إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد، وصليت به الغداة، وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس، فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى وصليت بهم وكلمتهم» فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ به: صفهم لي، فقال: «أما عيسى، ففوق الربعة، ودون الطول، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد، أشعر تعلوه صهبة([22])، كأنه عروة بن مسعود الثقفي، وأما موسى فضخم آدم طوال، كأنه من رجال شنوءة, متراكب الأسنان، مقلص الشفة، خارج اللثة، عابس، وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي، خَلقا وخُلقا»([23]).
فقالوا: يا محمد فصف لنا بيت المقدس، قال: «دخلت ليلاً، وخرجت ليلاً» فأتاه جبريل بصورته في جناحه، فجعل يقول: «باب منه كذا، في موضع كذا، وباب منه كذا، في موضع كذا».
ثم سألوه عن عيرهم فقال لهم: «أتيت على عير بني فلان بالروحاء، قد أضلوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك» قالوا: هذه والإله آية- «ثم انتهيت إلى عير بني فلان، فنفرت مني الإبل وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق([24])، مخطط ببياض, لا أدري أكسر البعير، أم لا فاسألوهم عن ذلك» قالوا: هذه والإله آية- «ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم، يقدمها جمل أورق([25]) وهاهي تطلع عليكم من الثنية» ([26]).
فقال الوليد بن المغيرة: ساحر فانطلقوا فنظروا, فوجدوا الأمر كما قال، فرموه بالسحر، وقالوا: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال([27]).
* كانت هذه الحادثة فتنة لبعض الناس فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر الصديق t فقالوا: هل لك إلى صاحبك, يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس.
قال: أَوَقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه، أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟
قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق([28]).
ثانيًا: فوائد ودروس وعبر:
1- بعد كل محنة منحة، وقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحن عظيمة، فهذه قريش قد سدت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وفي ثقيف وفي قبائل العرب، وأحكمت الحصار ضد الدعوة ورجالاتها من كل جانب، وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم في خطر بعد وفاة عمه أبي طالب أكبر حُماته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ماضٍ في طريقه، صابر لأمر ربه, لا تأخذه في الله لومة لائم ولا حرب محارب، ولا كيد مستهزئ فقد آن الأوان للمنحة العظيمة، فجاءت حادثة الإسراء والمعراج على قدر من رب العالمين، فيعرج به من دون الخلائق جميعًا، ويكرمه على صبره وجهاده، ويلتقي به مباشرة دون رسول ولا حجاب، ويطلعه على عوالم الغيب دون الخلق
كافة، ويجمعه مع إخوانه من الرسل في صعيدٍ واحد, فيكون الإمام والقدوة لهم وهو
خاتمهم وآخرهم([29]).

2- إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مُقدمًا على مرحلة جديدة، مرحلة الهجرة، والانطلاق لبناء الدولة، يريد الله تعالى لِلَّبِنَات الأولى في البناء أن تكون سليمة قوية متراصة متماسكة، فجعل الله هذا الاختبار والتمحيص، ليخلص الصف من الضعاف المترددين، والذين في قلوبهم مرض، ويثبت المؤمنين الأقوياء الخلص الذين لمسوا عيانا صدق نبيهم بعد أن لمسوه تصديقًا، وشهدوا مدى كرامته على ربه، فأي حظ يحوطهم وأي سعد يغمرهم وهم حول هذا النبي المصطفى وقد آمنوا به, وقدموا حياتهم فداء له ولدينهم، كم يترسخ الإيمان في قلوبهم أمام هذا الحدث الذي تم بعد وعثاء الطائف، وبعد دخول مكة بجوارٍ وبعد أذى الصبيان والسفهاء([30]).
3- إن شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم العالية تتجسد في مواجهته للمشركين بأمر تنكره عقولهم ولا تدركه في أول الأمر تصوراتهم, ولم يمنعه من الجهر به الخوف من مواجهتهم, وتلقي نكيرهم واستهزائهم فضرب بذلك صلى الله عليه وسلم لأمته أروع الأمثلة في الجهر بالحق أمام أهل الباطل, وإن تحزبوا ضد الحق وجندوا لحربه كل ما في وسعهم، وكان من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الحجة على المشركين بأن حدثهم عن إسرائه إلى بيت المقدس، وأظهر الله له علامات تلزم الكفار بالتصديق وهذه العلامات هي:
* وصف النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، وقد أقروا بصدق الوصف ومطابقته للواقع الذي يعرفونه.
* إخباره عن العير التي بالروحاء، والبعير التي أضلوه، وما قام به من شرب الماء الذي في القدح.
* إخباره عن العير الثانية التي نفرت فيها الإبل ووصفه الدقيق لأحد جمالهم.
* إخباره عن العير الثالثة التي بالأبواء ووصفه الجمل الذي يقدمها، وإخباره
بأنها تطلع ذلك الوقت من ثنية التنعيم، وقد تأكد المشركون فوجدوا أن ما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كان صحيحًا فهذه الأدلة الظاهرة كانت مفحمة لهم ولا يستطيعون معها أن يتهموه بالكذب، كانت هذه الرحلة العظيمة, تربية ربانية رفيعة المستوى, وأصبح صلى الله عليه وسلم يرى الأرض كلها بما فيها من مخلوقات نقطة صغيرة في ذلك الكون الفسيح، ثم ما مقام كفار مكة في هذه النقطة؟ إنهم لا يمثلون إلا جزءًا يسيرًا جدًا من هذا الكون، فما الذي سيفعلونه تجاه من اصطفاه الله تعالى من خلقه, وخصه بتلك الرحلة العلية الميمونة وجمعه بالملائكة والأنبياء عليهم السلام، وأراه السماوات السبع وسدرة المنتهى والبيت المعمور وكلمه جلا وعلا([31])؟

4- يظهر إيمان الصديق رضي الله عنه القوي في هذا الحدث الجلل، فعندما أخبره الكفار قال بلسان الواثق، لئن كان قال ذلك لقد صدق، ثم قال: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، وبهذا استحق لقب الصديق، وهذا منتهى الفقه واليقين، حيث وازن بين هذا الخبر ونزول الوحي من السماء، فبين لهم أنه إذا كان غريبا على الإنسان العادي فإنه في غاية الإمكان بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم([32]).
5- إن شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن حين خير بينه وبين الخمر، وبشارة جبريل عليه الصلاة والسلام: هديت للفطرة، تؤكد أن هذا الإسلام دين الفطرة البشرية التي ينسجم معها، فالذي خلق الفطرة البشرية خلق لها هذا الدين الذي يلبي نوازعها واحتياجاتها، ويحقق طموحاتها ويكبح جماحها ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )[الروم:30].
6- إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء دليل على أنهم سلموا له بالقيادة والريادة، وأن شريعة الإسلام نسخت الشرائع السابقة، وأنه وسع أتباع هؤلاء الأنبياء ما وسع أنبياءَهم أن يسلموا بالقيادة لهذا الرسول ولرسالته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
إن على الذين يعقدون مؤتمرات التقارب بين الأديان أن يدركوا هذه الحقيقة، ويدعوا إليها، وهي ضرورة الانخلاع عن الديانات المنحرفة, والإيمان بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته، وعليهم أن يدركوا حقيقة هذه الدعوات المشبوهة, التي تخدم وضعًا من الأوضاع أو نظامًا من الأنظمة الجاهلية.
7- إن الربط بين المسجد الأقصى, والمسجد الحرام وراءه حكم ودلالات وفوائد منها:
* أهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين، إذ أصبح مسرى رسولهم صلى الله عليه وسلم، ومعراجه إلى السماوات العلا، وكان لا يزال قبلتهم الأولى طيلة الفترة المكية، وهذا توجيه وإرشاد للمسلمين بأن يحبوا المسجد الأقصى وفلسطين؛ لأنها مباركة ومقدسة.
* الربط يشعر المسلمين بمسؤوليتهم نحو المسجد الأقصى بمسئولية تحرير المسجد الأقصى من أوضار الشرك وعقيدة التثليث، كما هي أيضًا مسئوليتهم تحرير المسجد الحرام من أوضار الشرك وعبادة الأصنام.
* الربط يشعر بأن التهديد للمسجد الأقصى, هو تهديد للمسجد الحرام وأهله، وأن النيل من المسجد الأقصى توطئة للنيل من المسجد الحرام، فالمسجد الأقصى بوابة الطريق إلى المسجد الحرام، وزوال المسجد الأقصى من أيدي المسلمين, ووقوعه في أيدي اليهود يعني أن المسجد الحرام, والحجاز قد تهدد الأمن فيهما واتجهت أنظار الأعداء إليهما لاحتلالهما.
والتاريخ قديمًا وحديثًا يؤكد هذا، فإن تاريخ الحروب الصليبية يخبرنا أن (أرناط) الصليبي صاحب مملكة الكرك أرسل بعثة للحجاز للاعتداء على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى جثمانه في المسجد النبوي، وحاول البرتغاليون (النصارى الكاثوليك) في بداية العصور الحديثة الوصول إلى الحرمين الشريفين لتنفيذ ما عجز عنه أسلافهم الصليبيون، ولكن المقاومة الشديدة التي أبداها المماليك وكذا العثمانيون حالت دون إتمام مشروعهم الجهنمي وبعد حرب 1967م التي احتل اليهود فيها بيت المقدس صرخ زعماؤهم بأن الهدف بعد ذلك احتلال الحجاز وفي مقدمة ذلك مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيبر.
لقد وقف دافيد بن غوريون زعيم اليهود بعد دخول الجيش اليهودي القدس يستعرض جنودًا وشبانًا من اليهود بالقرب من المسجد الأقصى ويلقي فيهم خطابًا ناريًا يختتمه بقوله: (لقد استولينا على القدس ونحن في طريقنا إلى يثرب)([33]).
ووقفت غولدا مائير, رئيسة وزراء اليهود, بعد احتلال بيت المقدس, وعلى خليج إيلات العقبة، تقول: «إنني أشم رائحة أجدادي في المدينة والحجاز، وهي بلادنا التي سوف نسترجعها»([34]).
وبعد ذلك نشر اليهود خريطة لدولتهم المنتظرة التي شملت المنطقة من الفرات إلى النيل، بما في ذلك الجزيرة العربية والأردن وسوريا والعراق ومصر واليمن والكويت والخليج العربي كله، ووزعوا خريطة دولتهم هذه بعيد انتصارهم في حرب (1967م)
في أوروبا ([35]).

8- أهمية الصلاة وعظيم منزلتها: وقد ثبت في السنة النبوية أن الصلاة فرضت على الأمة الإسلامية في ليلة عروجه صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفي هذا كما قال ابن كثير: «اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها» ([36]) فعلى الدعاة أن يؤكدوا على أهمية الصلاة والمحافظة عليها، وأن يذكروا فيما يذكرون, من أهميتها ومنزلتها كونها فرضت في ليلة المعراج، وأنها من آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته([37]).
9- تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عن مخاطر الأمراض الاجتماعية وبين عقوبتها كما شاهد ذلك في ليلة الإسراء والمعراج ومن هذه الأمراض وعقوبتها:
* عقوبة جريمة الغيبة والمغتابين، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا يأكلون الجيف فأخبره جبريل: «هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس»([38]).
* عقوبة أكلة أموال اليتامى، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً لهم مشافر -شفاه كبيرة- كشفاه البعير, في أيديهم قطع من نار كالأفهار (أى الحجارة) يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم فأخبره جبريل: «هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما»([39]).
* أكلة الربا، فقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فأخبره جبريل: «هؤلاء أكلة الربا» ([40]).
* وذكرت الروايات عقوبة الزناة, ومانعي الزكاة, وخطباء الفتنة, والتهاون في الأمانة([41]).
* ثواب المجاهدين، ففي ليلة الإسراء والمعراج مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عادوا كما كان, فأخبر جبريل: «هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنات بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يُخلَف»([42]).
10- إدراك الصحابة لأهمية المسجد الأقصى: أدرك الصحابة رضي الله عنهم مسئوليتهم نحو المسجد الأقصى, وهو يقع أسيرًا تحت حكم الرومان، فحرروه في عهد عمر بن الخطاب t وظل ينعم بالأمن والأمان حتى عاث الصليبيون فسادًا فيه بعد خمسة قرون, من هجرة المصطفى، ومكثوا ما يعادل قرنًا يعيثون فسادًا فحرره المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي، وها هو ذا يقع تحت الاحتلال اليهودي فما الطريق إلى تخليصه([43])؟.
الطريق إلى تخليصه الجهاد في سبيل الله, على المنهج الذي سار عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم.

* * *


([1]) انظر: الأساس في السنة، سعيد حوى (1/291، 292).

([2]) انظر: الأساس في السنة (1/292).

(1) الحلقة المراد باب مسجد بيت المقدس.(2) الفطرة: الإسلام والاستقامة.



([5]) مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول رقم 162.

([6]) الحطيم: هو ما بين الركن والمقام. (5) آت: هو جبريل عليه السلام.



([8]) ثغره النحر: الموضع المنخفض في أدنى الرقبة من الأمام.

([9]) شعرته: شعر عانته وما ما ينبت حول العانة. (8) القص: رأس عظام الصدر.



([11]) يضع خطوه عند أقصى طرفه: يضع رجله عند منتهى بصره.

([12]) استفتح: طلب فتح باب السماء الدنيا. (11) مرحبًا به: أصاب رحبًا وسعة.




([14]) أبكي لأن غلاما. ليس هذا على سبيل النقص بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظم كرمه.

([15]) رفعت لي: قربت لي. (3) النبق: هو ثمر السدر.



([17]) قلال هجر: يضرب بها المثل لكبرها، وهجر قرية في البحرين والقلة: الجرة الكبيرة.

([18]) الفطرة: دين الإسلام.

([19]) عالجتهم أشد المعالجة: مارست بني إسرائيل أشد الممارسة.

([20]) البخاري في مناقب الأنصار، باب في المعراج، رقم 3887.

([21]) انظر: الشفا بتعريفحقوق المصطفى (1/108). (4) صهبة: بياض بحمرة.




([23]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/37).

([24]) الجوالق: هو العدل الذي يوضع فيه المتاع. (2) أورق: أي لونه أبيض وفيه سواد.



([26]) الثنية: أي الطريق الجبلي.

([27]) المطالب العالية للحافظ ابن حجر (4/201: 204) وعيون الأثر (1/140: 142) وابن هشام بلاغا عن أم هانئ رضي الله عنها (2/11).

([28]) المستدرك (3/62) قال الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد، وأقره الذهبي.

([29]) انظر: التربية القيادية، (1/447).

(2) انظر: التربية القيادية، (1/451).

([31]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/41، 42).

([32])انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/43).

([33]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص314.

([34]) جريدة الدستور الأردنية العدد (4613) بقلم أميل الغوري، نقلا عن السيرة النبوية لأبي فارس، ص314.

([35]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص215. (4) تفسير ابن كثير (3/23).



([37]) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/93).

([38]) الفتح الرباني للساعاتي (20/255) إسناده صحيح.

([39]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/200).

(3) تفسير ابن كثير (4/274).

([41]) تفسير الطبري (15/7)، والفتح الرباني (20/257).

([42]) انظر: الخصائص الكبرى (1/171) والسيرة النبوية لأبي فارس، ص220.

([43]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص220.
__________________
رد مع اقتباس
  #72  
قديم 26-09-2014, 03:43 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

الفصل الخامس


الطواف على القبائل وهجرة الصحابة إلى المدينة


المبحث الأول


الطواف على القبائل طلبًا للنصرة

بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف، بدأ يعرض نفسه على القبائل في المواسم, يشرح لهم الإسلام، ويطلب منهم الإيواء والنصرة، حتى يبلغ كلام الله عز وجل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرك في المواسم التجارية, ومواسم الحج التي تجتمع فيها القبائل, وفق خطة سياسية دعوية واضحة المعالم, ومحددة الأهداف، وكان يصاحبه أبو بكر الصديق, الرجل الذي تخصص في معرفة أنساب العرب وتاريخها، وكانا يقصدان «غرر الناس ووجوه القبائل، وكان أبو بكر t يسأل وجوه القبائل ويقول لهم: كيف العدد فيكم؟ وكيف المنعة فيكم؟ وكيف الحرب فيكم؟ وذلك قبل أن يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرض دعوته»([1]).
يقول المقريزي: «ثم عرض صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل أيام الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، وهم بنو عامر، وغسان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة وقيس بن الخطيم، وأبو اليسر أنس بن أبي رافع» وقد استقصى الواقدي أخبار هذه القبائل قبيلة قبيلة ويقال إنه صلى الله عليه وسلم بدأ بكندة فدعاها إلى الإسلام, ثم أتى كلبًا ثم بني حنيفة ثم بني عامر، وجعل يقول: من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني, حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟ هذا وأبو لهب وراءه يقول للناس: لا تسمعوا منه فإنه كذاب([2]).
ولم يقتصر الأذى على ذلك بل واجه الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو أشد وأقسى، فقد روى البخاري في تاريخه والطبراني في الكبير عن مدرك بن منيب أيضًا عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبه، حتى انتصف النهار، فأقبلت جارية بِعُسٍّ من ماء فغسل وجهه ويديه، وقال: «يا بنية لا تخشي على أبيك غلبة ولا ذلة» فقلت: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي
جارية وضيئة([3]).

وقد كان أبو جهل, وأبو لهب, لعنهما الله يتناوبان على أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يدعو في الأسواق والمواسم، وكان يجد منهما عنتًا كبيرًا، إضافة إلى ما يلحقه من المدعوين أنفسهم([4]).
أولاً: من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في الرد على مكائد أبي جهل والمشركين أثناء الطواف على القبائل:
1- مقابلة القبائل في الليل:
فكان صلى الله عليه وسلم من حكمته العالية يخرج لمقابلة القبائل في ظلام الليل، حتى لا يحول بينه وبينهم أحد من المشركين([5]) وقد نجح هذا العمل في إبطال مفعول الدعاية المضادة، التي كانت تتبعها قريش، كلما اتصل الرسول صلى الله عليه وسلم بقبيلة من القبائل، والدليل على نجاح هذا الأسلوب المضاد اتصال الرسول صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج ليلا، ومن ثم كانت العقبة الأولى والثانية ليلا([6]).
2- ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلمإلى القبائل في منازلهم:
فقد أتى كلبًا وبني حنيفة، وبني عامر في منازلهم([7]) وبذلك يحاول أن يبتعد عن مطاردة قريش، فستطيع أن يتفاوض مع القبائل بالطريقة المناسبة دونما تشويش أو تشويه من قريش.
3- اصطحاب الأعوان:
كان أبو بكر وعلي رضي الله عنهما يرافقان الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض مفاوضاته مع بعض القبائل، وربما كانت هذه الرفقة لأجل ألا يظن المدعوون أنه وحيد، ولا أعوان له من أشراف قومه وأقاربه، هذا إلى جانب معرفة أبي بكر t بأنساب العرب([8]) الأمر الذي يساعد الرسول صلى الله عليه وسلم في التعرف على معادن القبائل، فيقع الاختيار على أفضلها، لتحمل تبعات الدعوة.
4- التأكد من حماية القبيلة:
ومن الجوانب الأمنية المهمة، سؤاله صلى الله عليه وسلم عن المنعة والقوة لدى القبائل, قبل أن يوجه إليهم الدعوة، ويطلب منهم الحماية فقوة ومنعة القبيلة التي تحمي الدعوة شيء ضروري ومهم لا بد منه، لأن هذه القبيلة ستواجه كل قوى الشر والباطل، فلا بد أن تكون أهلاً لهذا الدور من حيث الاستعداد المعنوي والمادي، الذي يرهب الأعداء، ويحمي حمى الدعوة، ويتحمل تبعات نشرها، مزيلاً لكل العقبات التي تقف في طريقها([9]).
__________________
رد مع اقتباس
  #73  
قديم 26-09-2014, 03:44 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

ثانيًا: المفاوضات مع بني عامر:
اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجري مفاوضات مع بني عامر قامت تلك المفاوضات على دراسة وتخطيط، فالرسول وصاحبه أبو بكر كانا يعلمان أن بني عامر قبيلة مقاتلة كبيرة العدد وعزيزة الجانب، بل هي من القبائل الخمس التي لم يمسها سباء ولم تتبع لملك ولم تؤد إتاوة([10]) مثلها مثل قريش وخزاعة([11]) كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن هنالك تضادًا قديمًا بين بني عامر وثقيف، فإذا كانت ثقيف امتنعت عليه من الداخل فلماذا لا يحاول أيضا تطويقها من الخارج، والاستفادة في من بني عامر بن صعصعة، فإذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبرم حلفًا مع بني عامر فإن موقف ثقيف سيكون على حافة الخطر([12]) يذكر أصحاب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتى بني عامر بن صعصعة، فدعا إلى الله, وعرض عليهم نفسه، قال له رجل منهم يقال له بَيْحَرة بن فِراس: «والله لو أني أخذت هذا الفتى لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأمر لله يضعه حيث يشاء» قال: فقال له: أَفَنُهدفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمير لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه ([13]).
ثالثًا: المفاوضات مع بني شيبان:
ففي رواية علي بن أبي طالب t قال: لما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه.. إلى أن قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر, عليه السكينة والوقار فتقدم أبو بكر فسلم فقال: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بأبي وأمي, هؤلاء غُرَر الناس, وفيهم مفروق قد غلبهم لسانًا وجمالاً، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبتيه، وكان أدنى القوم مجلسًا من أبي بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لا نزيد على الألف ولن تغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى. وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد, والسلاح على اللقاح, والنصر من عند الله يديلنا مرة, ويديل علينا أخرى, لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فها هو ذا، فقال مفروق: إلام تدعونا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عنالحق، والله هو الغني الحميد» فقال مفروق، وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا, فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )[الأنعام:151].
فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق, ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك, وظاهروا عليك، ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا, وصاحب ديننا, فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش, وإني أرى تركنا ديننا, واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا, لا أول له ولا آخر لذل في الرأي, وقلة نظر في العاقبة أن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن نرجع وترجع, وننظر, ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا فقال المثنى –وأسلم بعد ذلك–: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش, والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة, في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَين أحدهما اليمامة والآخر السَّمامة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذان الصريان» قال: أنهار كسرى, ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى, فذنب صاحبه غير مغفور, وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى, أن لا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدثًا, وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك, فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب, فعلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك([14]).
رابعًا: فوائد ودروس وعبر:
كانت النصرة التي طلبها النبي صلى الله عليه وسلم ذات صفة مخصوصة، وذلك على النحو التالي:
1- كان طلب الرسول صلى الله عليه وسلم للنصرة من خارج مكة إنما بدأ ينشط بشكل ملحوظ بعد أن اشتد الأذى عليه, عقب وفاة عمه أبي طالب, الذي كان يحميه من قريش؛ وذلك لأن من يحمل الدعوة لن يستطيع أن يتحرك التحرك الفعّال والنشاط في حمل الدعوة، وتوفير الاستجابة لها، في جو من ال***، والضعف والإرهاب.
2- كان عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل يطلب منهم النصرة، إنما هو بأمر من الله عز وجل له في ذلك، وليس مجرد اجتهاد من قبل نفسه, اقتضته الظروف التي وصلت إليها الدعوة.
3- حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب النصرة بزعماء القبائل، وذوي الشرف والمكانة ممن لهم أتباع يسمعون لهم، ويطيعون؛ لأن هؤلاء هم القادرون على توفير الحماية للدعوة وصاحبها.
5- رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي القوى المستعدة لتقديم نصرتها أي ضمانات بأن يكون لأشخاصهم شيء من الحكم والسلطان, على سبيل الثمن، أو المكافأة لما يقدمون من نصرة, وتأييد للدعوة الإسلامية؛ وذلك لأن الدعوة الإسلامية إنما هي دعوة إلى الله، فالشرط الأساسي فيمن يؤمن بها, ويستعد لنصرتها أن يكون الإخلاص لله، ونشدان رضاه، هما الغاية التي يسعى إليها من النصرة والتضحية، وليس طمعًا في نفوذ أو رغبة في سلطان، وذلك لأن الغاية التي يضعها الإنسان للشيء، هي التي تكيف نشاط الإنسان في السعي إليه، فلا بد إذن من أن تتجرد الغاية المستهدفة من وراء نصرة الدعوة، عن أي مصلحة مادية لضمان دوام التأييد لها، وضمان المحافظة عليها من أي انحراف، وضمان أقصى ما يمكن من بذل الدعم لها، وتقديم التضحيات في سبيلها([15]) فيجب على كل من يريد أن يلتزم بالجماعة التي تدعو إلى الله، ألا يشترط عليها منصبًا أو عرضًا من أعراض الدنيا؛ لأن هذه الدعوة لله، والأمر لله يضعه حيث يشاء، والداخل في أمر الدعوة إنما يريد ابتداء وجه الله، والعمل من أجل رفع رايته، أما إذا كان المنصب هو همه الشاغل، فهذه علامة خطيرة تنبئ عن دخن في نية صاحبه([16]) لذا قال يحيى بن معاذ الرازي: «لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة»([17]).
5- ومن صفة النصرة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها لدعوته من زعماء القبائل, أن يكون أهل النصرة غير مرتبطين بمعاهدات دولية, تتناقض مع الدعوة, ولا يستطيعون التحرر منها، وذلك لأن احتضانهم للدعوة والحالة هذه, يعرضها لخطر القضاء عليها من قبل الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات، والتي تجد في الدعوة الإسلامية خطرًا عليها وتهديدًا لمصالحها([18]).
إن الحماية المشروطة أو الجزئية لا تحقق الهدف المقصود فلن يخوض بنو شيبان حربًا ضد كسرى لو أراد القبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسليمه، ولن يخوضوا حربًا ضد كسرى، لو أراد مهاجمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات([19]).
6- «إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه» كان هذا الرد من النبي صلى الله عليه وسلم على المثنى بن حارثة حين عرض على النبي صلى الله عليه وسلم حمايته على مياه العرب دون مياه الفرس، فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة, يرَ بُعد النظر الإسلامي النبوي الذي لا يسامى([20]).
7- كان موقف بني شيبان يتسم بالإريحية والخلق والرجولة، وينم عن تعظيم هذا النبي، وعن وضوح في العرض، وتحديد مدى قدرة الحماية التي يملكونها، وقد بينوا أن أمر الدعوة مما تكرهه الملوك، وقدر الله لشيبان بعد عشر سنين أو يزيد, أن تحمل هي ابتداء عبء مواجهة الملوك بعد أن أشرق قلبها بنور الإسلام، وكان المثنى بن حارثة الشيباني صاحب حربهم وبطلهم المغوار, الذي قاد الفتوح في أرض العراق، في خلافة الصديق t([21])، فكان وقومه من أجرأ المسلمين بعد إسلامهم على قتال الفرس، بينما كانوا في جاهليتهم يرهبون الفرس ولا يفكرون في قتالهم، بل إنهم ردوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد قناعتهم بها لاحتمال أن تلجئهم إلى قتال الفرس، الأمر الذي لم يكونوا يفكرون به أبدا، وبهذا نعلم عظمة هذا الدين الذي رفع الله به المسلمين في الدنيا، حيث جعلهم سادة الأرض مع ما ينتظرون في أخراهم من النعيم الدائم في جنات النعيم([22]).

* * *






([1]) انظر: الأنساب للسمعاني، (1/36). (2) المقريزي في إمتاع الأسماع (1/30، 31).
(3) انظر: المحنة في العهد المكي، ص 53.

([4]) انظر: المحنة في العهد المكي، ص53.
([5]) تاريخ إسلام النجيب آبادي (1/129) نقلا عن الرحيق المختوم.
([6]) السيرة النبوية لابن هشام (2/44، 52) السيرة النبوية جوانب الحذر والحماية، ص116.
([7]) البداية والنهاية لابن كثير، (3/140).
([8]) السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص116.
([9]) نفس المصدر، ص116، 117.
([10]) انظر: أصول الفكر السياسي، ص182، سباء: لم تُسبَ نساؤها في الحروب.
([11]،4) نفس المصدر، ص182.

([13]) انظر: سيرة ابن هشام، (2/38).
([14]) انظر: البداية والنهاية (3/143: 145) وفيها زيادات ليست عند الصالحي في سُبُل الرشاد (2/596: 597)
([15]) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، لمحمد خير (1/411)
([16]) انظر: وقفات تربوية من السيرة النبوية، عبد الحميد البلالي، ص72.
([17]) انظر: صفة الصفوة (4/94).
(4) انظر:الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (1/412).


([19]) انظر: التحالف السياسي في الإسلام، منير الغضبان، ص53.
([20]) نفس المصدر، ص64.
(3) انظر: التربية القيادية (2/20).
([22]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/69).
__________________
رد مع اقتباس
  #74  
قديم 26-09-2014, 03:48 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

المبحث الثاني


مواكب الخير وطلائع النور

قال جابر بن عبد الله الأنصاري:
مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتَّبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة في المواسم بمنى يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟» حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو مضر، فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتننك، ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه، وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لا يبقى دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام([1]).
أولاً: الاتصالات الأولى بالأنصار في مواسم الحج والعمرة:
1- إسلام سويد بن الصامت:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله وعرض عليه ما جاء به من الهدى والحق، فقدم سويد بن الصامت- أخو بني عمرو بن عوف- مكة حاجًا أو معتمرًا، وكان سويد يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده، وشعره، وشرفه، ونسبه، فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما الذي معك؟» قال: مجلة([2]) لقمان، فقال له رسول الله: «اعرضها علي» فعرضها عليه فقال: «إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله عليّ، هو هدى ونور» فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن ***ه الخزرج، وقد كان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه قُتل وهو مسلم، وكان ***ه يوم بَعاث([3]) وعلى أية حال لا توجد دلائل على قيام سويد بن الصامت بالدعوة إلى الإسلام وسط قومه([4]).
2- إسلام إياس بن معاذ:
لما قدم أبو الحيسر بن رافع مكة ومعه فتيان من بني عبد الأشهل, فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم، فقال: «هل لكم في خير مما جئتم له؟» قالوا: وما ذاك؟ قال: «أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا وأنزل عليَّ الكتاب»، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن فقال إياس بن معاذ وكان غلامًا حدثًا: هذا والله خير مما جئتم له فيأخذ أبو الحيسر كفًّا من تراب، فضرب به وجهه، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا, فصمت إياس، وقام رسول الله عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، وقد روي من حضره من قومه أنه ما زال يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه مات مسلمًا، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع([5]).
ثانيًا: بدء إسلام الأنصار:
كانت البداية المثمرة مع وفد من الخزرج في موسم الحج, عند عقبة منى، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنتم؟». قالوا: نفر من الخزرج. قال: «أمن موالي يهود؟» قالوا: نعم. قال: «أفلا تجلسون أكلمكم؟» قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن([6]).
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم: تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا([7])، وكانوا ستة نفر: وهم أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث من بني النجار، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله بن رئاب([8]). فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا بينهم فلم تبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم([9]).
فهذا أول موكب من مواكب الخير، لم يكتف بالإيمان، وإنما أخذ العهد على نفسه أن يدعو إليه قومه، وقد وفى كل منهم لدينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنهم حين رجعوا نشطوا في الدعوة إلى الله، وعرضوا كلمة الهدى على أهلهم وذويهم, فلم تبقَ دار من دور المدينة إلا وفيها ذكر لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا عندما يأذن الله تأتي ساعة الحسم الفاصلة فقد كان لقاء هؤلاء مع الرسول على غير موعد، لكنه لقاء هيأه الله ليكون نبع الخير المتجدد الموصول، ونقطة التحول الحاسم في التاريخ... وساعة الخلاص المحقق من عبادة الأحجار، بل إنها على التحقيق, ساعة الحسم في مصير العالم كله ونقل الحياة من الظلمات إلى النور.
أكان معقولاً في لحظة يسيرة أن يتحول هؤلاء من وثنيين متعصبين إلى أنصار للدعوة متفتحين، وجنود للحق مخلصين، ودعاة إلى الله متجردين يذهبون إلى أقوامهم وبين جوانحهم نور، وعلى وجوههم نور، وإنهم لعلى نور؟ تلك مشيئة القدر العالي هيأت للدعوة مجالها الخصب، وحماها الأمين، والسنوات العجاف التي قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم نضالاً مستمرًا، وكفاحًا دائمًا، وتطوافًا على القبائل، والتماسًا للحليف، قد ولت إلى غير رجعة، سيكون بعد اليوم للإسلام قوته الرادعة، وجيشه الباسل وسيلتقي الحق بالباطل ليصفي معه حساب الأيام الخوالي، والعاقبة للمتقين، وستتوالى على مكة منذ اليوم مواكب الخير وطلائع النور التي هيأها الله للخير لتتصل بالهداية وتسبح في النور، وتغترف من الخير، وترجع إلى يثرب بما وعت من خير، وبما حلمت من نور([10]).
ومن الجدير بالتنبيه أن هذه المقابلة التي حدثت عند العقبة, وتلاقى فيها فريق من الخزرج بالنبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا على يديه لم تكن فيها بيعة([11])؛ لأنها كانت من نفر صغير لا يرون لأنفسهم الحق في أن يلتزموا بمعاهدة دون الرجوع إلى قبائلهم في المدينة, ولكنهم أخلصوا في تبليغ رسالة الإسلام([12]).
__________________
رد مع اقتباس
  #75  
قديم 26-09-2014, 03:50 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 36
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

ثالثًا: بيعة العقبة الأولى:
بعد عام من المقابلة الأولى التي تمت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل يثرب عند العقبة وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً فلقوه صلى الله عليه وسلم بالعقبة, وبايعوه بيعة العقبة الأولى، (عشرة من الخزرج واثنان من الأوس) مما يشير إلى نشاط وفد الخزرج الذين أسلموا في العام الماضي، تركز على وسطهم القبلي بالدرجة الأولى, لكنهم تمكنوا في نفس الوقت من اجتذاب رجال الأوس، وكان ذلك بداية ائتلاف القبيلتين تحت راية الإسلام([13]).
وقد تحدث عبادة بن الصامت الخزرجي عن البيعة في العقبة الأولى، فقال: «كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تُفترض علينا الحرب: على ألا نشرك بالله، ولا نسرق، ولا نزني، ولا ن*** أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا, ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئًا فأمركم إلى الله عز وجل, إن شاء غفر وإن شاء عذب» ([14]).
وبنود هذه البيعة هي التي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم عليها النساء فيما بعد ولذلك عرفت باسم بيعة النساء([15])، وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم مع المبايعين مصعب بن عمير, يعلمهم الدين ويقرئهم القرآن فكان يسمى بالمدينة (المقرئ)، وكان يؤمهم في الصلاة، وقد اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علم بشخصيته من جهة، وعلم بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى، حيث كان t بجانب حفظه لما نزل من القرآن، يملك من اللباقة والهدوء، وحسن الخلق والحكمة، قدرًا كبيرًا، فضلاً عن قوة إيمانه, وشدة حماسه للدين، ولذلك تمكن خلال أشهر أن ينشر الإسلام في سائر بيوتات المدينة، وأن يكسب للإسلام أنصارًا من كبار زعمائها, كسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم([16]).
لقد نجحت سفارة مصعب بن عمير t في شرح تعاليم الدين الجديد، وتعليم القرآن الكريم وتفسيره, وتقوية الروابط الأخوية بين أفراد القبائل المؤمنة من ناحية، وبين النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه بمكة المكرمة لإيجاد القاعدة الأمينة لانطلاق الدعوة.
وقد نزل مصعب بن عمير t في يثرب على أسعد بن زرارة t([17]) ونشط المسلمون في الدعوة إلى الله يقود تلك الحركة الدعوية الرائدة مصعب t، وقد انتهج منهج القرآن الكريم في دعوته وهذا الذي تعلمه من أمامه صلى الله عليه وسلم، وقد شرح لنا بعض الآيات القرآنية المكية بصورة عملية حية قال تعالى: ( ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )[النحل:125].
رابعًا: قصة إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما:
كان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدَي قومهما من بني عبد الأشهل، وكانا مشركين على دين قومهما، فلما سمعا بمصعب بن عمير, ونشاطه في الدعوة إلى الإسلام قال سعد لأسيد: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين, اللذين أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدمًا، فأخذ أُسيد حربته ثم أقبل عليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال: هذا سيد قومه، وقد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه، فوقف عليهما متشتمًا فقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب بلسان المؤمن الهادئ الواثق من سماحة دعوته: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته نكف عنك ما تكره؟
قال أسيد: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام -قبل أن يتكلم- في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق, ثم تصلي, فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكم الآن: سعد بن معاذ.
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة, لي***وه, وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك([18]).
فقام سعد مغضبًا مبادرًا مخوفًا للذي ذكر له من أمر بني حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئًا، ثم خرج إليهما سعد فوجدهما مطمئنين, فعرف أن أسيد إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتمًا، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره، وكان أسعد قد قال لمصعب: لقد جاء والله سيد من ورائه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف منهم اثنان، فقال له مصعب: أَوَتقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، فقال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ القرآن، وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول سورة الزخرف، قالا: فعرفنا –والله- في وجهه الإسلام -قبل أن يتكلم- في إشراقه وتسهله.
ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم، ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل، فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، ثم تشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائدًا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم, فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة.
ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام, حتى لم تبْقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات، إلا ما كان من الأصيرم، وهو عمرو بن ثابت بن وقش, فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم، واستشهد بأحد، ولم يصلِّ لله بسجدة قط، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة.
وقد روى ابن إسحاق بإسناد حسن عن أبي هريرة أنه كان يقول: «حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة قط، فإذا لم يعرفه الناس قال هو أصيرم بني عبد الأشهل»([19]).
__________________
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 03:52 AM.