اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > منتــدى مُـعـلـمـــي مـصــــــر > الجودة والإعتماد التربـوى

الجودة والإعتماد التربـوى كل ما يخص الجودة و الدراسات التربوية و كادر المعلم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #61  
قديم 16-08-2010, 12:20 PM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي


حين يتخلف أثر التربية الجادة


وكما أن هناك ثماراً يانعة تنتجها التربية الجادة، ففي المقابل هناك ثمار سيئة تخلفها التربية الهزيلة، وليس إدراك ثمار التربية الجادة للتطلع لها، بأحق من إدراك ثمار التربية الهزيلة حتى تتلافى وتحذر.
ولستَ بحاجة إلى بذل جهد أو عناء لإدراك ذلك، فنظرة عاجلة لواقع الأمة التربوي تعطيك البرهان؛ إذ هذا الواقع لا يعدو أن يكون انعكاساً وثمرة للتربية الهزيلة.
وهذه بعض النماذج التي تخلفت فيها التربية الجادة:
1- اذهب أنت وربك فقاتلا:
لقد أمر الله موسى أن يدخل ببني إسرائيل الأرض المقدسة، وأخبرهم أنه سبحانه وتعالى قد كتبها لهم، فماذا كانت النتيجة؟!: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ{21} قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ). [المائدة: 21- 22].
وكان فيهم رجلان ممن أنعم الله عليهما: (قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). [المائدة: 23].
ومع ذلك لم تنجح هذه المحاولة فأعلنوها صريحة مدوية: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ). [المائدة: 24]. ولم يقولوا حتى: (ربنا) شعوراً منهم بأن القضية لا تعنيهم جملة وتفصيلاً، فهي تعني موسى وربه! أما هم فلهم شأن آخر، وغاية ما يقدمون أنهم مستعدون إن خرج القوم الجبارون أن يدخلوا الأرض المقدسة، وحتى هذا الاستعداد ربما يتخلف حين يأتي الأمر الواقع.
إن هذا المستوى الهزيل الذي صار إليه بنو إسرائيل وفي ذلك الموطن ليس المسئول عنه موسى عليه السلام، ولا يمكن لمسلم أن يتجرأ فيعتقد ذلك فموسى عليه السلام لم يأل جهداً في دعوتهم والسعي لإصلاحهم، وكيف يحدث منه ذلك وهو من أولي العزم من الرسل، والضعف التربوي ليس بالضرورة من مسئولية المربي؛ فالتربية تشمل منهجاً ومربياً ومتربياً، وحين يختل أحد هذه العناصر لن تؤتي التربية ثمارها، لكن معادنهم كانت لا تستجيب لأي جهد تربوي؛ إذ كانوا قد عاشوا مرحلة من الذل والهوان والاستعباد عند فرعون وتحت سلطانه لم يستطيعوا تجاوزها، ولهذا حين وصلوا إلى هذا القدر من الهوان تبرأ موسى منهم وقال: (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ). [المائدة: 25].
2- تولوا إلا قليلاً منهم:
ومع طائفة أخرى من بني إسرائيل، فقد سأل ملأ من بني إسرائيل نبياً لهم أن يكتب الله عليهم القتال، فأخبرهم نبي الله أنهم عرضة إن أتاهم أمر الله أن لا يستجيبوا له، فألحوا في مطلبهم، وحين كتب عليهم القتال وقع من أكثرهم ما خشيه نبيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ). [البقرة: 246].
الموضوع الأصلى من هنا: منتديات مملكة المعلم http://www.mo3alem.com/vb/showthread.php?t=35550
وحتى أولئك الذين اجتازوا هذه المرحلة كان فيهم من لا يملك قدراً من الجدية تؤهله لأكثر منها، فحين اختار الله لهم طالوت ملكاً اعترضوا عليه، وقالوا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ). [البقرة: 247].
ثم ابتلاهم الله بالنهر فكان مرحلة ثالثة فشل في اجتيازها طائفة أخرى: (فشربوا منه إلا قيلاً منهم). [البقرة:249]. ثم كانت المرحلة الرابعة حين واجهوا الموقف، قال بعضهم: (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ). [البقرة: 249].
إن هذه القصة كما تعكس التربية الجادة لأولئك الذين يظنون أنهم ملاقو الله، فهي تعكس تخلف أثر التربية الجادة عند النفر الذين تتابعوا في التساقط.
3- ساعة العسرة:
غزوة تبوك كانت من آخر غزواته صلى الله عليه وسلّم وكانت امتحاناً صادقاً للجادين والصادقين، ونزلت بعدها سورة براءة تفضح ما كان عليه أولئك المنافقون من طوية سيئة، ونفوس هزيلة، ومن ذلك:
1- أن الله وصفهم بقوله: (َوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ). [التوبة: 42].
إنهم على أتم الاستعداد للخروج للجهاد والمشاركة حين يكون مأمون العواقب سريع النتائج: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ). [الفتح:15].
ويعرض عليهم الامتحان الذي يكشف نفوسهم: (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ). [الفتح: 16]. فالعدو شديدٌ بأسه، والقتال على الإسلام فلا غنيمة عاجلة فيه.
2- وحين تسابق أولئك في الاعتذار واختلاق الموانع من الجهاد، جاء أحدهم مرتدياً ثوب زور من الورع والعفة، فهو يخشى أن تفتنه نساء بني الأصفر لأنه رجل لا يصبر على النساء فجاء قائلاً: (ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي). [التوبة: 49].
ولئن كانت هذه الحيلة قد تنطوي على البشر، فإنها لا تخفى على من قال - عز وجل-: (أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ). [التوبة: 49].
ويقف المسلم الجاد الذي يخشى الله أمام هذه الآية وجلاً خائفاً، وهو يرى أن مجرد الاعتذار بخوف الفتنة ليس كافياً ليدرج صاحبه ضمن أهل الورع وتوقي الزلل، فنسأل الله الوقاية من شر الهوى والمخادعة للنفس.
إن هذه النماذج وإن كان أصحابها مغموصين بالنفاق وسوء الطوية أصلاً، إلا أنها أيضاً أمثلة لأولئك الذي لم ترق نفوسهم لمعالي الأمور، ولم يدركوا جديتها، وإن من لم يدرك جدية القضية قد يقع في أمثال ما وقعوا فيه.
4 - حادثة الردة:
حين لحق النبي صلى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى تسابقت فئام من الأعراب وحدثاء العهد بالإسلام في إعلان الردة والتمرد على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ولقد كان في أولئك بلا شك من أسلم رغبة في الدنيا، والنفاق مستقر في قلبه، لكن كان منهم فئات ليست بالقليلة ممن قال الله فيهم: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم). [الحجرات: 14].
ولقد كان أهل المدينة ومن حولها ممن قال الله فيهم: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ). [التوبة: 120].
الموضوع الأصلى من هنا: منتديات مملكة المعلم http://www.mo3alem.com/vb/showthread.php?t=35550
كان أولئك من الثابتين على الإسلام، والردة إنما حصلت من حدثاء العهد بالإسلام الذين لما يتلقوا التربية الكافية بعد، أو كما قال الله: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ). [ الحجرات: 14].
وتشرب ضعاف الإيمان الدعوات الخادعة بنبوة مسيلمة وطليحة والأسود، وعادت تلك الموازين الجاهلية التي لم تمحَ جذورها بعد، عادت ليسود عند أولئك منطق: (كذّابُ ربيعة خيرٌ من صادق مضر). أو ليساوموا على فريضة الزكاة، ويربطوا موقفهم من الدين كله بهذه القضية.
5- يحسبون الأحزاب لم يذهبوا:
لقد كان من تمام تربية الرعيل الأول أن واجهته حوادث ومواقف بقدر ما فيها من تمحيص النخبة والارتفاع بهم فهي أداة كشفٍ للنفوس المريضة والنماذج الهزيلة، وتعريتها حين تصهر بنار الفتنة، ففي العام الخامس للهجرة النبوية كان الأمر قد بلغ عند أعداء الملة حداً لا يطاق، ليتفتق حقدهم عن مؤامرة تجمع الصفوف لاستئصال شأفة هذه البذرة الخيرة فيتحزب الأعداء ليزحفوا على المدينة بجيوش آلت على نفسها أن تبيد خضراءها وتحول تجربتها الجديدة إلى كارثة في ملف التاريخ.
ويصف القرآن الكريم الحال جراء هذه المؤامرة: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً). [الأحزاب: 10-11].
وحينئذ ترجف أفئدة ضعاف الإيمان وأهل النفاق ليتولد من ذلك: الشك في وعد الله ورسوله، وممارسة أسلوب التخذيل الجبان، والتسابق للاستئذان لحماية البيوت ظاهراً أما الباطن فهو الفرار والتخاذل.
ولو قدر لتلك الجموع الغازية أن تجوس الديار فهم لن يترددوا في إعلان الاستجابة للفتنة وركوب الغواية: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً* وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً* وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً). [الأحزاب: 12- 14].
إن ذكرنا للصور السلبية التي تعكس تخلف التربية الجادة يزيد من اقتناعنا بضرورتها، وبمدى عمق المشكلة التربوية الناتجة من جراء تخلفها.








رد مع اقتباس
  #62  
قديم 16-08-2010, 12:22 PM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

صور من نتاج التربية الجادة


إن ما سبق حشده من المسوغات والمبررات لرفع الصوت بالمطالبة بالتربية الجادة كافٍ فيما أحسب أن يوجد لدينا الاقتناع بأهميتها وضرورتها.
لكن ذكر النماذج الواقعية يزيد اقتناعاً بإمكانية تحول المقررات العقلية إلى واقع عملي ملموس.
ومن ثم فهذه نماذج وصور من التاريخ القريب والبعيد، ناطقة وشاهدة بأن التربية الجادة شجرة مباركة تؤتي الثمار اليانعة بإذن الله عز وجل.
أ- في العبادة:
سأل سعد بن هشام بن عامر عائشة -رضي الله عنها-: "أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: ألست تقرأ يا أيها المزمل؟! قال: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة ...". [رواه مسلم 746].
وفي رواية: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم". [رواه النسائي 1601، وأبو داود 1342].
أما النبي صلى الله عليه وسلّم فقد سار على هذا المسلك، فعن المغيرة رضي الله عنه قال: "إن كان النبي صلى الله عليه وسلّم ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا". [رواه البخاري 1130، ومسلم 2819].
وتروي هذا المعنى أيضاً عائشة رضي الله عنها إذ تقول: "إن نبي الله صلى الله عليه وسلّم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً.
فلما كثر لحمه صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع". [رواه البخاري 4837، ومسلم 2820].
حين سأل علي بن أبي طالب وفاطمة -رضي الله عنهما- رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم خادماً أمرهما صلى الله عليه وسلّم بالتسبيح قبل النوم والتكبير والتحميد، قال علي رضي الله عنه: "فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قيل له: ولا ليلة صفين؟! قال: ولا ليلة صفين". [متفق عليه. والشاهد منه عند مسلم 2727].
إن النفوس الجادة الصادقة تدرك أن العبادة والصلة بالله تبارك وتعالى أمر لا غنى لها عنه، حتى في الأوقات التي يغفل فيها من يغفل، ويسهو من يسهو فإن هذه النفوس لا تنسى نصيبها من العبادة وصلتها بربها.
وها هو عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم إذا رأى رؤيا قصّها على النبي صلى الله عليه وسلّم، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلّم. وكنت غلاماً أعزب، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، فرأيت في المنام كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر فقال لي: لن تراع، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: نِعْمَ الرجلُ عبد الله لو كان يصلي بالليل. قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً". [رواه البخاري 3738- 3739].
ب- في العلم:
1- لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً:
حين قام موسى عليه السلام خطيباً في بني إسرائيل وسألوه عن أعلم أهل الأرض فلم يكن يعلم أن هناك في الأرض أعلم منه، قال عن نفسه إنه أعلم أهل الأرض، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، وصار له هذا الخبر الذي نقرؤه في سورة الكهف.
عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "قام موسى النبي خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟! فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: يا رب، وكيف به؟! فقيل له: احمل حوتا في مكتل فإذا فقدته فهو ثم ..." . [رواه البخاري 122، ومسلم 2380].
ويحكي لنا القرآن تصميم موسى وعزيمته حين قال: (ُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً). [الكهف:60]. ومضى حتى لقي النّصَب، ولم يجد مسّ النّصَب إلا حين فارق المكان الذي أُمر به.
لقد قام موسى بهذه الرحلة الشاقة من أجل أن يتعلم، فتعلم ثلاث مسائل، فهل نرى اليوم في أتباعه وأتباع محمد صلى الله عليه وسلّم من ينصب ويجتهد لتحصيل العلم؟!
2 - هل وجد لهم وقتاً؟!:
قال أبو حاتم عن القعنبي: "سألناه أن يقرأ علينا الموطأ فقال: تعالوا بالغداة، فقلنا: لنا مجلس عند حجاج بن منهال، قال فإذا فرغتم منه، قلنا نأتي حينئذ مسلم بن إبراهيم، قال فإذا فرغتم، قلنا: نأتي أبا حذيفة النهدي، قال فبعد العصر، قلنا نأتي عارماً أبا النعمان، قال فبعد المغرب، فكان يأتينا بالليل، فيخرج علينا وعليه كَبْلٌ. [كبل: بسكون الباء هو الفرو الكثير الصوف الثقيل. اللسان 11/ 581]. ما تحته شيء في الصيف فكان يقرأ علينا في الحر الشديد حينئذ. [سير أعلام النبلاء 10/ 260].
لقد كان هذا الموقف أثناء فصل الصيف، وكان لهم ثلاثة دروس وقت الضحى، ودرس بعد العصر، في ظل غياب وسائل التبريد وتخفيف حرارة الجو، ولست أدري من أي الموقفين العجب موقف الطلبة الذين احتملوا كل هذه المشقة، أو موقف الشيخ الذي استجاب لهم رغم اعتذاراتهم عن عدد من الفرص التي منحهم إياها.
إن الذي يحمل الاستعداد التام أن يتعلم في مثل هذه الظروف، أو يعلِّم في مثل هذه المشقة سيدرك قيمة العلم وما يوجبه على صاحبه من: قيام بحقه، ودعوة إليه، وصيانة للعلم عن الابتذال والاحتقار والإهانة.
ونتطلع حينئذٍ لجيل الصحوة الحاضر؟! كم منهم من يحمل الاستعداد نفسه، والروح إياها التي يملك أبو حاتم وأصحابه؟!
ج- في الامتثال لأوامر الله:
حين استنفر النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه في غزوة تبوك تخلف عن الغزوة من تخلف، وكان ممن تخلف من الصادقين: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وحين سألهم النبي صلى الله عليه وسلّم كما سأل غيرهم عن سبب تخلفهم عن الغزوة لم يكن لهم عذر يقبله صلى الله عليه وسلّم فأمر الناس أن لا يكلمهم أحد، وبقوا على هذه الحال يمشون في شوارع المدينة، ويجوبونها وكأنهم يتعاملون مع أشباح وصور، وحين بلغوا أربعين يوماً أمروا أن يعتزلوا زوجاتهم فكانت عزلة أكثر، وحصاراً أشد، حتى بلغ بهم الحال إلى ما وصفه الله سبحانه وتعالى في قوله: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). [التوبة: 118].
وفي هذه الحالة يجيء كعبَ بن مالك -رضي الله عنه- خطاب من ملك غسان يطلب منه أن يلحق به فيسجره في التنور، ويسلم أمره لله، فجاء الفرج بعد خمسين ليلة. [حديث كعب: رواه البخاري 4418، ومسلم 2769].
إنها صورة من صور التربية الجادة، والتي تربى عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم.
وكذلك المجتمع يعطي مثالاً في الجدية والانضباط، مما يعكس أثر التربية النبوية وهي في فترة النضج والتمام في العاشرة من الهجرة.
د- في الجهاد:
1- فليس مني:
سأل بنو إسرائيل نبياً لهم أن يُفرض عليهم الجهاد فيقاتلوا من أخرجوهم من ديارهم وأبنائهم فكتب الله عليهم القتال، وولى عليهم طالوت، فسار بمن استجاب منهم، وحين فصل بهم ابتلاهم الله بهذا الابتلاء: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ). [البقرة: 249].
إن الذي لا يستطيع أن يضبط نفسه ويثني رغبته، فيتخلى عن شرب الماء وهو متاحٌ أمامه لا يصلح أن يعتمد عليه في هذه المهمات، وبالمقابل فالذي يجتاز هذا الابتلاء تكون نفسه قد ارتفعت وسمت، وتطلعت إلى مرحلة عالية من الاستسلام والانضباط.
لقد كان الموقف يتطلب نفوساً عالية مهيأة لمثل هذا الدور، ومن هنا كانت هذه المواقف وسيلة لتنقية الصفوف من غير الجادين، حتى لم يبق إلا الذين وصفهم الله تبارك وتعالى بأنهم: (يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ). [البقرة: 249]. فيسّر الله على يديهم الفتح.
2 - لا يتبعني أحد من هؤلاء:
حين رفض بنو إسرائيل الدخول إلى الأرض المقدسة وتاهوا أربعين سنة، أرسل إليهم يوشع بن نون عليه السلام فرأى أنه لابد من الاستفادة من التجربة السابقة فخطبهم قائلاً: "لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها، ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر ولادها.
قال: فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها عليَّ شيئاً فحبست عليه حتى فتح الله عليه...". [رواه البخاري 3124 مسلم 1747].
إن القضية قضية جهاد لا يحتملها إلا الرجال الجادون الصادقون، فمن ينتظر متاعاً من متاع الدنيا، أو تعلقت نفسه برغبة فانية، أو يجعل القضية على هامش الاهتمامات، لا يصلح أن يعتمد عليه في هذه المهمة الشاقة: (تحرير الأرض المقدسة).
ولقد استطاع هذا الجيل الجاد، أن يحقق الهدف، فحرر الله على يديه الأرض المقدسة.
3- لو سرت بنا:
حين خرج النبي صلى الله عليه وسلّم بأصحابه لمواجهة المشركين في غزوة بدر، وكان أصحابه يظنون أنهم خرجوا للعير وفاتت العير ولم يبق إلا ذات الشوكة استشار صلى الله عليه وسلّم أصحابه كعادته، فتكلم أبو بكر -رضي الله عنه- فأعرض عنه، ثم تكلم عمر -رضي الله عنه- فأعرض عنه، فقال سعد بن عبادة -رضي الله عنه-: "إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا". [رواه مسلم 1779].
وفي رواية فقال بعض الأنصار: "إياكم يريد رسول الله يا معشر الأنصار.
فقال بعض الأنصار: يا رسول الله، إذاً لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ). [المائدة: 24]. ولكن والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك". [رواه أحمد. قال ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 288: "هذا إسناد ثلاثي على شرط الصحيح". وانظر السيرة النبوية الصحيحة لأكرم العمري 2/ 358-359. وهو من أحسن ما كُتب في السيرة].
لقد كان هذا الجيل الذي تربى تلك التربية أهلاً لأن يحقق تلك المنجزات والانتصارات والتي ليست بدر إلا فاتحتها، لقد كان يقول تلك الكلمة وهو في الميدان، وهو يدرك تماماً مسئوليتها، أما قبل ذلك فما أكثر من يقولها وحين يحين البأس تتحول اللهجة إلى: (وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ). [النساء: 77].
وتبدو العبرة هنا لا في هذه المقولة التي لا تصدر من غير الجادين، بل في استشارة النبي صلى الله عليه وسلّم لعامة أصحابه وتحميلهم المسئولية في ذلك، فالاستشارة تربية على الجدية والمسئولية الفردية، وهي في الوقت نفسه دليل على ثقة النبي صلى الله عليه وسلّم بهذا الجيل الذي رباه.
4 - كيف نسي الروم وساوس الشيطان؟!:
ومن صور نتاج التربية الجادة ما صنعه خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وذلك أن المسلمين صعب عليهم أمر مواجهة الروم، فكتبوا لأبي بكر - رضي الله عنه - فقال قولته المشهورة: "لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد".
روى الطبري في تاريخه أن كتاب أبي بكر وافى خالداً بالحيرة منصرفه من حجه: "أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك فإنهم قد شجّوا وأشجّوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجي من الناس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والخطوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل فإن الله له المن وهو ولي الجزاء". [تاريخ الطبري 3/ 385].
وسار خالد -رضي الله عنه- ورأى أنه بحاجة إلى طريق يتجنب فيه الروم، وأن الوقت يتطلب المبادرة فقال: كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم؟! فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين، فأجابوه: لا نعرف إلا طريقاً لا يحمل الجيوش، إنما يأخذه الفذ الراكب فإياك أن تغرر بالمسلمين، فعزم عليهم فلم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة الطائي على تهيب شديد، فقام خالد في أصحابه وقال: لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أن المعونة تأتي على قدر النية، والأجر قدر الحسبة، وأن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله، فكان رد أصحابه عليه: أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك. [تاريخ الطبري 3/ 408- 409].
فقال له رافع: استكثروا من الماء، من استطاع منكم أن يصرَّ أذن ناقته على ماء فليفعل فإنها المهالك، إلا ما دفع الله، أبغني عشرين جزوراً عظاماً سماناً مسانَّ.
فأتاه بهن خالد، فعمد إليهن رافع فظمأهن حتى إذا أجهدهن عطشاً أوردهن فشربن حتى إذا تملأن عمد إليهن فقطع مشافرهن، ثم كعمهن. [كعم البعير: يكعمه كعْما، فهو مكعوم وكعيم: شدّ فاه. اللسان 12/ 522]. لئلا يجتررن، ثم أخلى أدبارهن.
ثم قال لخالد: سر، فسار فغذَّاً بالخيول والأثقال فكلما نزل منزلاً افتض أربعاً من تلك الشوارف فأخذ ما في أكراشها فسقاه الخيل، ثم شرب الناس مما حملوا معهم من الماء، ثم وصل موطن الماء بعد خمسة أيام. [تاريخ الطبري 3/ 425. وانظر للاستزادة قادة فتح العراق والجزيرة, للواء محمود شيت خطاب، ص 121- 125].
لقد كانت محاولة جادة وجريئة، وفي الوقت نفسه هي الحل الوحيد.
أترى أنه يمكن أن يتخذ هذا القرار الحاسم رجلٌ غير جاد؟!.
وفي الوقت نفسه لك أن تتصور النتائج المرة والفرص التي تفوت لو لم يحسم الأمر بهذه الجدية.
والجدية لا تتمثل في موقف خالد - رضي الله عنه - فحسب، بل الجيش الذي سار معه كان يتمثل هذا المعنى.
هـ- في الدعوة:
ولعل خير مثال على ذلك سير أنبياء صلوات الله وسلامه عليهم الذين بذلوا أرواحهم ومهجهم وأموالهم في سبيل الله، وكانت الدعوة هي قضيتهم الأولى والأساس مع قومهم.
ويبدو هذا النموذج أيضاً في قصة أصحاب الأخدود وموقف الغلام حين أنجاه الله من القتل أول مرة، فعاد إلى أين؟! إلى الملك: "ثم أرسله في قرقور مرة أخرى فنجاه الله، فجاء يمشي إلى الملك، ثم رأى أنه لابد من إنقاذ الناس فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به". [رواه مسلم 3005].
لقد كان بإمكان الغلام حين نجاه الله أن يذهب في أرض الله ويختار مكاناً آخر، ولن يعلم عنه الملك وربما يظنّ أنه هلك، لكنه لم يفعل ويتكرر الأمر كذلك في المرة الثانية.
وكان بإمكانه أن يأتي مستخفياً إلى القرية، لكنه ذهب إلى الملك، ثم جاد بنفسه في سبيل الله عز وجل لينقذ الناس من الشرك والضلال، فهل نرى اليوم في أمة محمد من يحمل العزيمة نفسها؟!.
و- في العفة والبعد عن الشهوات:
ومن ثمار التربية الجادة الترفع عن اتباع الشهوات، والسمو بالنفس، ولعل من ألمع هذه الصور موقف يوسف عليه السلام فقد "ذكر الله عن يوسف الصديق صلى الله عليه وسلّم من العفاف أعظم ما يكون، فإن الداعي الذي اجتمع في حقه لم يجتمع في حق غيره، فإنه صلى الله عليه وسلّم كان شاباً والشباب مركب الشهوة، وكان عزباً ليس عنده ما يعوضه، وكان غريباً عن أهله ووطنه، والمقيم بين أهله وأصحابه يستحيي منهم أن يعلموا فيسقط من عيونهم، فإذا تغرب زال هذا المانع، وكان في صورة المملوك والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر، وكانت المرأة ذات منصب وجمال، والداعي مع ذلك أقوى من داعي من ليس كذلك، وكانت هي المطالبة فيزول بذلك كلفة تعرض الرجل وطلبه وخوفه من عدم الإجابة، وزادت مع الطلب الرغبة التامة والمراودة التي يزول معها ظن الامتحان والاختبار لتعلم عفافه من فجوره، وكانت في محل سلطانها وبيتها بحيث تعرف وقت الإمكان ومكانه الذي لا تناله العيون، وزادت مع ذلك تغليق الأبواب لتأمن هجوم الداخل على بغتة، وأتته بالرغبة والرهبة، ومع ذلك كله فعف لله ولم يطعها، وقدم حق الله وحق سيدها على ذلك كله، وهذا أمر لو ابتلي به سواه لم يعلم كيف تكون حاله". [روضة المحبين 325-326].
ز- للمرأة دور في الجدية:
حين نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلّم وأصابه ما أصابه من هول الموقف فرجع إلى خديجة -رضي الله عنها- يرجف فؤاده، حينئذ قالت له: "والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك تصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق".
ثم لم تكتف بهذا الأمر، بل ذهبت إلى ورقة، وسألته، واصطحبت معها زوجها صلى الله عليه وسلّم إليه. [رواه البخاري 3، ومسلم 160].
إنها صورة من صور التربية الجادة، لقد كان لهذه المرأة الجادة دورٌ مهمٌ وأساس في تثبيت صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلّم، وكانت له بمثابة خط الدفاع الخلفي، ولذا استحقت رضي الله عنها أن تبشر من عند خالق السموات والأرض بشرى ينقلها جبريل.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أتى جبريل - عليه السلام - إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت، ومعها إناء فيه إدام - أو طعام أو شراب - فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولانصب". [رواه البخاري 3820، ومسلم 2432].
إن هذا الموقف من خديجة رضي الله عنها ليسجل شهادة إدانة لبعض نساء المسلمين اللاتي تقف إحداهن عقبة في طريق زوجها الداعية إلى الله عز وجل، وتثقل كاهله بكثرة المطالب، والشكوى من الانقطاع والغياب وكأنه إنما خلق ليبقى في حضنها.
وحين قدم أحد رجالات الإسلام للمحنة في القول بخلق القرآن وهو بشر تأخذه عواطف البشر ومشاعرهم، حين قدِّم للمحنة تحركت لديه عاطفة الأبوة فتذكر بناته اللاتي خلفهن وراءه في بلاده.
وما لبث أن أتاه كتاب منهن يأمره بالثبات قائلات له: "والله لأن يأتينا خبر نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك قلت بخلق القرآن".
وهي كلمة لم تصدر اعتباطاً، وإنما هي تعكس التربية الجادة التي تلقتها هذه الفتيات حتى صار الحق لديهن ونصرة الدين بمنزلة أعلى من التمتع بالوالد في دار الدنيا، وحين يكون هناك مجال للمفاضلة والخيار فليكن في صالح الحق ونصرة الدين، وليهن نعي الوالد حينئذٍ.
وهكذا يجد الأب نتاج هذه التربية ويستفيد منها هو في دنياه؛ فتكون ثباتاً له بإذن الله؛ فالتربية الجادة شجرة مباركة تؤتي ثمارها كل حين، وكثيراً ما يجني المربي قبل غيره ثمرة هذه التربية.
فكم من شيخ وعظه تلميذه، أو أوقفه على خطأ، أو صحح له هفوة، أو أقاله من زلة، وما كان التلميذ ليبلغ هذه المنزلة لولا التربية التي تلقاها من شيخه، والجزاء من جنس العمل.
وليت المربين والأساتذة يدركون أن نضج التلميذ، واستقلال تفكيره، وتخلصه من أسر الرق الفكري والتبعية العمياء، أن ذلك خيرٌ لهم هم، وأنهم أول من يجني الثمرة.
رد مع اقتباس
  #63  
قديم 16-08-2010, 12:24 PM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

من ثمرات التربية الجادة


إن التربية الجادة شجرةٌ مباركة لابد أن تؤتي ثماراً يانعة لعل من أهمها:
1- تحقيق العبودية لله:
إن الهدف الأسمى والأعلى للتربية الجادة هو إعداد النشء والرقي به لتحقيق الغاية الأساس من خلقه، ألا وهي عبودية الله سبحانه وتعالى والخلافة في الأرض، والعبودية معنى واسع يظلل برواقه جوانب الحياة المختلفة والمتعددة، وهي مراتب ومنازل متفاوتة، فكل جهد يقوم به المسلم في هذه الحياة من شعيرة من شعائر التعبد، أو تعلم علم أو تعليمه أو دعوة أو نفع للناس أو خدمة للأمة، إنما هو داخل هذه الدائرة، فهي كما قال شيخ الإسلام: "اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة".
إن العبودية لله تتضمن فعل أوامر قد تكون شاقة على النفس، وترك نواه قد تميل إليها النفس وتشتهيها، وكل ذلك يعسر القيام به على غير الجادين.
إذاً فالتربية الجادة تهيئ المسلم ليقوم بهذا العمل وهذه المهمة وليحقق الغاية التي من أجلها خلق وأوجد في هذه الحياة، وما يأتي بعد هذه الثمرة فلا يزيد على أن يكون فرعاً لهذه الثمرة الأساس.
2- العمل المستمر المثمر:
قد تجد كثيراً ممن يملك الاستعداد أن يعمل أعمالاً مثمرة ومضنية، لكنها جهود متقطعة، أما من يستمر على العمل ويدعو من خلال برنامج واضح المعالم والخطى فهم قليلٌ جداً، إن المتربي تربية جادة يدرك أن الدعوة قضية مصيرية، ويدرك أنها تستحق منه أن يرسم حياته على ضوئها، وأن تكون له خطا واضحة بعيدة، أما الأول فقد تدفعه حماسة فائرة أو انطلاقة لنفسه يوشك أن تخبو بعد ذلك وتزول.
وإن ضخامة الدور واتساع نطاقه الزمني يتطلب عدداً من أولئك الذين يديمون العمل، ويدركون أن أحبه إلى الله "أدومه وإن قلَّ".
وتستطيع من خلال خطبة أو محاضرة أو درس أن تؤجج عاطفة جمع غفير فيعملون أعمالاً وينتجون نتاجاً هائلاً، لكن أن تنتج واحداً يعمل على الدوام وعلى كافة الأحوال، فلا أظنك تملك بديلاً غير التربية الجادة.
ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل فقال: "سددوا وقاربوا واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل". [رواه البخاري 6464].
وحين سئل صلى الله عليه وسلّم: "أي الأعمال أحب إلى الله؟! قال: أدومها وإن قل".
وقال: "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون". [رواه البخاري 6465، ومسلم 782].
والنص أوسع من أن يكون قاصراً على أبواب الذكر والصلاة والصيام - وإن كانت أولى ما يدخل فيه - بل كل عمل يتقرب به العبد إلى الله فأحبه إليه أدومه وإن قل.
3- الجدية في التعامل مع الأوقات:
كثيراً ما نعاني من الإهدار الهائل للأوقات دون ثمرة، ويقع ذلك ممن يدرك قيمة الوقت ولا تخفى عليه بحال فضلاً عمن لا يدركها، وليس ثمة أقوى دافعٍ لتنظيم الوقت ورعايته من الشعور بجدية الهدف وسموه، فالنفس تعصف بها ريح الكسل والتسويف وحب الراحة، ولا يوقف هدير هذه العواصف العاتية إلا الجاد مع نفسه والحازم، ولعل مقارنة عاجلة بين صنفين من الناس: أحدهما عامل منتج، والآخر مهمل كثير الاعتذار، تريك الفرق الهائل والبون الشاسع في التعامل مع الوقت، ومن ثم القدرة على توفيره.
ولا نزال نسمع من الجميع والصغير والكبير الشكوى من ضيق الوقت وازدحام المشاغل، وهي شكوى تعكس عدم جدية أصحابها في تعاملهم مع أوقاتهم وعدم عنايتهم بها.
4- الجدية في الاهتمامات:
الرجل الجاد صاحب اهتمامات عالية، ونظرات طموحة تتجاوز الكثير مما يشغل الناس من اهتمامات فارغة تنم عن سطحية وسذاجة، ولعل موقف الرجل الجاد من المظاهر والإيغال فيها والعناية بها نتيجة من نتاج الجدية، فهو يتساءل أمام كل خطوة: ما النتيجة؟! وما الثمرة؟! ومن ثم يتحكم هذا التساؤل في محتوى ما يقدم وما يعمل.
إن هناك من ينفق جهداً ووقتاً ومالاً على مظاهر لا تقدم ولا تؤخر، بل لعلها قد تصنع بعض الغبش والضبابية - لدى بعض الشباب - حول الأهداف الحقيقية للعمل، أما إذا تجاوز العناية بالمظاهر ورعايتها الأحوال الفردية لتتسم بها الأنشطة الإسلامية فهذا مما لا يقبل بحال، وهذا المسلك مهما كانت مبرراته لابد أن يؤثر مع مرور الزمن تأثيراً سلبياً لا يرضاه الجميع؛ فيطغى على جدية الهدف، أو يأخذ وقتاً وجهداً وهمَّاً في غير ما طائل.
وحين نلقي نظرة فاحصة على الاهتمامات التي تسيطر على قطاع من جيل الصحوة، ندرك أننا بحاجة إلى إعادة النظر في اهتماماتنا.
والاهتمامات أبعد من أن تكون أمراً يتكلف، فهي لا تعدو أن تكون انعكاساً لشخصية صاحبها ومدى جديته.
5- التفكير العملي الجاد:
قد تجد من يحمل الهم الجاد، لكنه هم يختلج في النفس، وبالتربية الجادة يتجاوز ذلك ببرنامج عمل، أو اقتراح بناء، أو مشورة ثاقبة، أو عزيمة نافذة، أو ثبات على مبدأ.
ولا تزال النفوس الجادة المدركة لسمو الهدف وعظم الواجب تحوِّل الخواطر إلى فكرة مدروسة ورأي عملي منتج، وترفض أن تعطي وكالة للغير بالتفكير نيابة عنها، أو أن يكون دورها مجرد استيرادٍ للأفكار الجاهزة، ولعل تلك الفكرة التي طرحها أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم بحفر الخندق أو جمع المصاحف، تمثل شاهداً على التفكير العملي الجاد الذي يشعر صاحبه بضرورة المشاركة.
إن التفكير لا يكلف صاحبه وقتاً ولا جهداً، ولا تقارن ثمراته ونتائجه مع ما يبذله صاحبه من جهد ذهني، ومن هنا فإن أصحاب الهمم العالية الجادة لا يمكن أن يبخلوا على دعوتهم ومبدئهم باستثمار أوقات يضيعها غيرهم، باستثمارها بالتفكير الذي يكون نواة للعمل المثمر.
والتفكير الجاد الذي نطمح من جيل الصحوة أن يصل إليه لا يقف عند حد طرح فكرة جامدة أو ميتة، بل هو دراسة متأنية ومقترحاتٌ للتطبيق وبدائل وتوقعٌ للمشكلات وحلولها، مما يدفع من تُقدَّمُ له الفكرة إلى الشعور بجديتها وتأهلها للاعتبار والتنفيذ.
6- الاقتصاد في المزاح والهزل:
الإفراط في المزاح والتجاوز في الهزل مظهر يدل على انخفاض مستوى الجدية.
إن الرجل الجاد قد يهزل ويضحك، لكن ثمة خيطٌ يشده إلى حياة الجد ويأبى عليه التجاوز والتمادي، فالمزاح لديه مما يأتي عارضاً لا يستحق لدى صاحبه أن يوفر له لقاءات ويضيع من أجله أوقاتاً، فضلاً عن أن يسعى إليه ويستهدفه وهو يرى نصب عينيه قول الحق تبارك وتعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ). [الحديد: 16].
وقوله صلى الله عليه وسلّم: "لا تكثروا الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب". [رواه الترمذي 2305 وابن ماجه 4193. وقال في الزوائد: "إسناده صحيح، رجاله ثقات". وانظر السلسة الصحيحة 506].
ولعل نظرة عاجلة إلى بعض المناشط الإسلامية تطرح تساؤلاً على الرجل الجاد:
هل يسوغ أن تأخذ البرامج الفكاهية أو الألعاب ضمن برامج الناشئة هذا الوقت الذي تأخذه؟!.
وحين يصعد المسرح شابٌ مستقيم اختط العلم طريقاً له، وهدفه الأول الذي يسعى إليه ويقيِّمُه الجمهور على أساسه هو إضحاك المشاهدين، وقد بذل جهداً وفكراً في ذلك، وأخذ جزءاً من وقته في الإعداد والتدريب، وربما صار عمله إبداعاً يحفل به ويثنى عليه -حين يحصل ذلك فهو داءٌ ينخر فيما يملكه من جدية، ويؤخره عنها مراحل.
وأحسب أن هذه صورة تخالف ما نقل عنه صلى الله عليه وسلّم من مزاح ودعابة يأتي عرضاً، ولا يسعى إليه أو يحفل به ويقصد.
وعلى من يرفض الاعتراض على هذه الصورة أن يأتي بشاهد واحد من سيرته صلى الله عليه وسلّم أخذ فيه الضحك وقتاً للإعداد والتدريب والعناية.
7- تحمل البرامج الجادة:
إن هناك برامج ضرورية في بناء الشخص وإعداده وتأهيله، وهناك ارتباط طردي بين جدية هذه البرامج وعمق آثارها التربوية.
فطلب العلم الشرعي - مثلاً - مطلبٌ ضروري وملح لبناء الشباب، ولن نزال نقول بأعلى صوتنا إنه لابد وأن يقضي الشباب جزءاً من وقتهم في تحصيل العلم، ولابد أن تصاغ البرامج التربوية صياغة تخرج جيلاً يجعل الأساس والأهم من اهتماماته هو التحصيل العلمي.
إن التحصيل العلمي يتطلب نفساً جادة طموحه، تتحمل مشاقّ التعلم وتعب التحصيل ومعاناة الطلب، فحين يرسم برنامجٌ علميٌ طموحٌ للشاب فهل يستطيع احتماله حين يكون ذا تربية هزيلة؟! أليس من حقنا بعد ذلك القول بأن التربية الجادة ضرورة ملحة، وأنه لن يتحمل الشاب البرامج الطموحة إلا حين يتربى التربية الجادة.
وقل مثل ذلك في سائر التكاليف والبرامج الضرورية لبناء الشخصية المسلمة، والتي لا تحتملها إلا نفسٌ جادة.
8- تحمل المسئوليات:
تتطلب الدعوة إلى الله تعالى رجالاً من صنف خاص، يأخذون على عاتقهم مسئوليات وأمانة ثقيلة، كيف لا وهي أمانة حمل الدين وتبليغ الرسالة، وما كان لهذه الأمانة وما ينشأ عنها من تبعات ومسئوليات أن يتحملها إلا الأشداء من الرجال، الذين تربوا على الجدية والبذل والتضحية.
والتربية الجادة هي التي تنتج ذاك النوع من الناس الذي وصفه صلى الله عليه وسلّم بأنه آخذ بعنان فرسه في سبيل الله عز وجل، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة. [رواه البخاري 2887].
أو من وصفه صلى الله عليه وسلّم بقوله: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه، يبتغي القتل أو الموت مظانه". [رواه مسلم 1889].
وبقوله: "سيد الشهداء: حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".
والتربية الجادة هي التي بإذن الله تخرِّج الطائفة الموعودة، المنصورة إلى قيام الساعة: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون".
إن التربية الجادة هي القادرة بإذن الله على تخريج هذا الصنف الفريد من الناس أفراداً أو جماعات.
9- النقد الجاد العملي:
النقد ضرورة فطرية ومطلب شرعي تربوي، ولابد أن يوجد النقد فإن لم يكن بنَّاءً فهو هادم، وإن لم يكن جاداً فهو هازل، والمحصلة النهائية أن النقد لابد له من مساهمة إما في دفع عجلة الدعوة وتصحيح مسيرتها، أو في التعويق والتثبيط والتآكل الداخلي.
وإن من نتاج التربية الجادة أن يتربى الشاب على أن يكون جاداً في انتقاده، والنقد الجاد هو الذي يكون:
أ- موضوعياً وواقعياً، يأخذ في الحسبان الضعف والقصور البشري، ولا يحلق فيه صاحبه في المثاليات ويطلب من الناس العصمة.
ب- وسائراً في المسالك السليمة والطرق الصحيحة، موجهاً لمن يعنيه.
ج- عن علم وعدل، بعيداً عن التسرع والظنون وظلم الناس وبخسهم.
د- وهو الذي يشفع ببرامج للإصلاح، ومقترحات للتصحيح، مع استعداد تام للمشاركة والمساهمة العملية، فمجرد الانتقاد يجيده الجميع.
وهذا يعني بالضرورة أن الشاب الجاد:
1- لا يحتفل كثيراً بتلك الصور البئيسة من النقد المعوق، فهو يرفض أن تلاك الأعراض وتقوم الجهود في مجالس الفارغين ولقاءات البطالين باسم النقد والنصيحة، وكم هي كثيرة تلك المجالس التي تقدم فيها أوراق عمل عابثة يظن أصحابها أنهم يحسنون صنعاً في تسليط كل لسان بالنقد والجرح والتعديل إلا على أنفسهم ومن يوالون. [وهو مع ذلك قد ينتفع بهذا النقد والحق يقبل ممن جاء به أياً كان، لكن ذلك لا يرفع مثل هذه الصور الشاذة من النقد إلى مستوى النقد الجاد].
2- وهو لا يحتفل كثيراً بالنقد الصادر من الشخص المحترف له، والذي حين تنظر لسلوكه وعمله لا تجد فيه ما يسرك، فهو لا يقدم خطوة، ولا تلمس عليه مسحة من عملٍ أو مساهمة، وثمة عددٌ من هؤلاء في الصفوف لا حديث لهم إلا ذلك.
3- وهو لا يحتفل كثيراً بالنقد المثالي الذي يطلب من الناس أن يكونوا في درجة العصمة، ويحاسب على كل صغيرة وكبيرة.
4- وهو أيضاً لا يحتفل كثيراً بالنقد الذي يسلك فيه صاحبه تتبع العورات، ويرصد الأنفاس واللفظات ليعثر من خلال ذلك كله على خطأ أو هفوة.
إن جدية المرء كفيلة بضبط ميزان النقد حتى لا يطغى ويتجاوز، فيساهم في بعثرة الصفوف وخلط الأوراق، أو يضمر ويتخلف دوره فيساهم في وأد كل فكرة سليمة، واستعباد عقول الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
10 - المبادرة الذاتية:
إن من نتاج التربية السلبية السائدة في مجتمعاتنا: الاتكالية، وانعدام المبادرة، وحتى العاملون للإسلام أصاب بعضهم ما أصابه، فأصبح ينتظر الأمر، ولا يعمل إلا من خلال توجيه محدد، فتعطلت طاقات فعَّالة في الأمة، وصارت الصحوة تفكر من خلال عقول محددة، وكم هي الأفكار والأعمال والجهود التي لم تتجاوز نطاق تفكير صاحبها، والسبب أنه لم يعتد على المبادرة ولم يربَّ عليها.
وإن التربية الجادة تنتج فيما تنتج تنمية المبادرة الذاتية، فيعمل صاحبها ابتداءً دون انتظار التكليف أو التوجيه، ويرى أن جدية الهدف وصدق العمل يتطلب منه أن لا تكون الاستشارة والاستفادة من آراء الآخرين حاجزاً وهمياً وعائقاً دون أي عمل، فينطلق ويعمل، ويبادر ويفكر، محيطاً ذلك كله بأسوار الاستشارة، وجاعلاً إياه في دائرة الانضباط والالتزام.
11 - الحل الأمثل للمشكلات التربوية:
تظهر في الساحة الآن مشكلات تربوية يعاني منها كل من المربين والموجهين لجيل الصحوة والمتربين على حد سواء: (الفتور، الكسل عن الطاعة، ضعف العناية بطلب العلم الشرعي ودنو الهمة، الخور في القيام بأعباء الدعوة، ضعف القدرة في تحويل القول إلى عمل، المشكلات الأخلاقية، المشكلات السلوكية، التسويف...).
هذه مشكلات سلبية، وثمة مشكلات من نوع آخر: (التعالم، الكمال الزائف، والتمشيخ المبكر...).
إن هذه المشكلات وتلك تعود إلى محور واحد ومشكلة أساس ألا وهي ضعف التربية.
والتربية الجادة هي العلاج الأنجع بإذن الله من هذه الآفات، واختصار الطريق بالتربية ابتداءً خير من تفتيت هذه المشكلات وعلاجها على حده علاجاً قد ينشغل بالمظهر عن السبب الحقيقي، ويتوجه إلى العرض دون جوهر المشكلة.
12 - النتاج المادي وتقدم الأمة:
لاشك أن وظيفة الأمة الأساس هي قيامها بهذا الدين وإقامة هذه الملة، لكنها مع ذلك مطالبة بأن تقدم البديل الحضاري للحضارة المادية المعاصرة، فضلاً عن أن تكون أمة عصامية، أمة حياتها بيدها لا بيد أعدائها، فتتجاوز مرحلة تسول التقنية والانبهار المادي إلى مرحلة الإبداع والمساهمة الفعالة، وأي إغراق في السطحية والسذاجة فوق أن تتوهم الأمة أنها ستقاتل أعداءها بسلاح تستورده منهم، وتواجه الحرب المتطورة بأساليب بدائية وهي تقرأ التوجيه الرباني (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون). [الأنفال:60].
فكيف حين تكون متسولة على موائدهم، عاجزةً عن تحصيل الرغيف من غير طريقهم.
وإنها لنقلة هائلة تطمح إليها الأمة وتراد منها، فهل يمكن أن يتحقق ذلك إلا على أكتاف الطليعة الجادة؟!
رد مع اقتباس
  #64  
قديم 16-08-2010, 12:28 PM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

مسوغات التربية الجادة


ثمة مسوغات واعتبارات تفرض على الصحوة أن تدرج الهمَّ التربوي في مرتبة متقدمة ضمن سلم اهتماماتها وأولوياتها، وأن تكون التربية الجادة صفة ملازمة لبرامجها التربوية ومن هذه المسوغات:
• المسوغ الأول: التربية الجادة طريق من سلف:
فهي طريق الأنبياء والعلماء من بعدهم، فوظيفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم التي وصفها الله سبحانه في غير ما موضع من كتابه (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). [الجمعة: 2]. (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ). [آل عمران: 164].
والإسلام إنما قام وانتشر على يد الرعيل الأول الذين رباهم محمد صلى الله عليه وسلّم، فهم القادة والمتقدمون في الصفوف في المعارك والولايات والقضاء والإمارة، وحين ارتدت الجزيرة بقي ذلك النشء ثابتاً على دينه، بل كان له الفضل بعد الله في إعادة الجزيرة إلى حظيرة الإسلام.
إن هذا الجيل الذي كان له الفضل على الأمة جميعاً خير دليل على أن التربية من وظائفه ورسالته صلى الله عليه وسلّم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
بل كان صلى الله عليه وسلّم يلقى جبريل فيدارسه القرآن: "فلرسول الله صلى الله عليه وسلّم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة". [جزء من حديث رواه البخاري 6، ومسلم 2308].
والأنبياء قدوة للناس والدعاة، لا في العبادة والسلوك الشخصي فحسب، بل في منهج الدعوة ووسائل التغيير.
وبعد الأنبياء سار أهل العلم على هذا المنهج فكانوا يوصون الطالب بصحبة العلماء ومجالستهم، حيث يرون أن دور الشيخ يأخذ مدىً يتجاوز مجرد كونه وسيلة لنقل المعلومات.
وما أجمل ما قاله ابن المبارك:
أيهـا الطالب علماً ائت حماد بن زيد
فاكتسـب حلماً وعلماً ثم قيده بقيد
ودع الفتنـة من آثار عمرو بن عبيد
وقال ابن سيرين: "كانوا يتعلمون الهَدْيَ كما يتعلمون العلم".
وقال الحسن: "إن كان الرجل ليخرج في أدب واحد السنة والسنتين".
وأوصى حبيب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال: "يا بني اصحب الفقهاء وتعلم منهم وخذ من أدبهم؛ فإنه أحب إلي من كثير من الحديث".
وكانوا يوصون الطالب في مقتبل الطلب أن يحفظ قصيدة القاضي الجرجاني. [انظر حلية طالب العلم للعلامة بكر أبو زيد 53]:
يقولون لي فيك انقباض وإنما ** رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما ** بدا طمعٌ صيرته لي سلما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة ** إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ** ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ** ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا ** محياه بالأطماع حتى تجهما
وعدَّ الشاطبي من أمارات العالم: "أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم وملازمته لهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك.
وهكذا كان شأن السلف الصالح، فأول ذلك ملازمة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وأخذهم بأقواله وأفعاله... وصار مثل ذلك أصلاً لمن بعدهم، فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلّم حتى فَقُهوا، ونالوا ذروة الكمال في الأمور الشرعية.
وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالماً اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائغة ولا أحدٌ مخالفٌ للسنة، إلا وهو مفارقٌ لهذا الوصف، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم". [الموافقات 1/ 66- 67].
إن هذه النقول وغيرها دليل على أن دور التربية كان يتم عن طريق أولئك العلماء ورثة الأنبياء، وأنه كان لا يقل شأناً وقدراً عن تلقي العلم وحفظ مسائله.
• المسوغ الثاني: نصوص القرآن:
نقرأ في القرآن الكريم نصوصاً عدة تخاطب المؤمنين بخطاب محصله: أن القضية قضيةٌ جادة، وحاسمة منها:
أ- قوله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً). [مريم: 12].
إنه خطاب لنبي الله يحيى عليه الصلاة والسلام: أن يأخذ الكتاب بقوة تتناسب مع عمق القضية التي يحملها والمنهج الذي يدعو إليه. ومثله قوله تعالى لموسى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ). [الأعراف: 154].
وأنبياء الله ورسله إخوة لعلات. [لفظ حديث رواه البخاري 3443، ومسلم 2365. وقد فسره صلى الله عليه وسلّم بقوله "أمهاتهم شتى ودينهم واحد". وأولاد العلّات: الإخوة من الأب.
قال ابن حجر في الفتح 6/ 605: "ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع، وقيل المراد أن أزمنتهم مختلفة". أهـ].
فالخطاب لهم خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلّم، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلّم خطاب لأمته.
ب- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً* إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً). [المزمل: 1- 5].
قال الحافظ ابن جرير: "اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً). [المزمل: 5]. فقال بعضهم: عني به إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً العمل به، وساق بإسناده إلى الحسن قال: العمل به، إن الرجل ليهذّ السورة ولكن العمل به ثقيل.
وعن قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده.
وقال آخرون: بل عنى بذلك أن القول عينه ثقيل محمله.
ثم قال بعد ذلك: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله وصفه بأنه قول ثقيل، فهو كما وصفه به ثقيل محمله، ثقيل العمل بحدوده وفرائضه". [جامع البيان عن تأويل آي القرآن 29/ 127-128].
وتأتي هذه الآيات للنبي صلى الله عليه وسلّم في مبدأ الرسالة واصفة هذا الكتاب الكريم بأنه ثقيل، ومن ثم فلن يحمله ويقوم به إلا الرجال الجادون.
ج- وينعى القرآن الكريم على الذين يظنون أنهم سيدخلون الجنة عبثاً دون عمل أو مجاهدة (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب). [البقرة: 214].
ويضعهم أمام هذا النموذج: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). [آل عمران: 146-147].
"هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته - سبحانه - في تربية عباده المختارين، والذين يكل إليهم رايته وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته.
وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم، وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة، إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه، من الرسول الموصول بالله والمؤمنين الذين آمنوا بالله، إن سؤالهم: متى نصر الله؟! ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة، ولن تكون إلا محنة فوق الوصف تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث ذلك السؤال المكروب: متى نصر الله؟!.
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة عندئذٍ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ). [البقرة: 214].
إنّ الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة، ويرفعها على ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقاً وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها..." . [في ظلال القرآن 1/ 218- 219].
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمَّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين). [آل عمران: 142].
د- ويحكي لنا القرآن الكريم صورة تخلف فيها مظهر التربية الجادة عند الذين يطالبون بالجهاد ولقاء العدو فحين فرض عليهم صارت لهم كلمة أخرى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً). [النساء: 77].
هـ- يأمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يصبر نفسه ويجاهدها مع طائفة جادة من المؤمنين: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). [الكهف: 28].
إن هذه النصوص على اختلاف دلالاتها وموضوعاتها، تشترك جميعاً في إطار واحد هو أن القضية جادة وحاسمة، فمن يسلك سبيل هذا الدين فلابد أن يكون جاداً، ومن باب أولى أن يكون الداعية إليه والحامل له إلى الناس جميعاً يملك قدراً من الجدية يتناسب مع جدية القضية وضخامة المنهج الذي يحمله.
• المسوغ الثالث: نصوص السنة:
ثمة نصوصٌ عدة من السنة النبوية تدل بمجملها على الجدية منها:
أ- قوله صلى الله عليه وسلّم: "استعن بالله ولا تعجز". [رواه مسلم 2664].
ب- قوله صلى الله عليه وسلّم: "حجبت النار بالشهوات، وحُجبت الجنة بالمكاره". [رواه البخاري 6487، ومسلم 2823].
وفي حديث آخر يفصل هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلّم: "لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها، فحفَّها بالمكاره فقال: اذهب فانظر إليها، ثم جاء فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، قال: ولما خلق الله النار قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفَّها بالشهوات، فقال اذهب فانظر إليها، فلما رجع قال: وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها". [رواه أبو داود 4744. والترمذي 2560 والنسائي 3763 وابن حبان والحاكم].
فالطريق للجنة لابد أن يكون عبر قطع قنطرة المكاره وتجاوزها، وهذه القنطرة لا يمكن أن يجتازها إلا رجلٌ جاد يتحمل المكاره ويتخلى عن الشهوات، أما طريق الشهوات واللذات فهو طريقٌ يسلكه اللاهون والعابثون لكن نهايته وخيمة.
ج- لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسوة فقد كان يقول كل يوم: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل". [رواه البخاري 6369، ومسلم 2706].
فهو صلى الله عليه وسلّم يستعيذ بالله من هذه الصفة المقيتة التي لعلك لا تجد للرجل غير الجاد وصفاً أدق منها وأبلغ: (عاجزٌ وكسول).
فهو الذي "لا يزال في حضيض طبعه محبوساً، وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدوداً منكوساً، قد أسام نفسه مع الأنعام راعياً مع الهمل، واستطاب لقيمات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل، لا كمن رفع له علم فشمر إليه، وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن سبيل يرافقه في سبيله". [مفتاح دار السعادة لابن قيم الجوزية 1/ 46].
• المسوغ الرابع: الجدية هي الأصل في الحياة:
فلا ينجح في الحياة ولا يثمر، ولا يحقق أهدافه إلا الرجل الجاد فيها أياً كانت أهدافه وفلسفته للحياة؛ فالتاجر لا ينجح في تجارته إلا حين يكون جاداً، فهو يقضي سحابة نهاره وشطر ليله في عمله الدءوب، قد وظف وقته وجهده وطاقته لتحقيق هذا العمل وحده، والسياسي لا يحقق هدفه إلا حين يكون كذلك، بل وحتى اللص وقاطع الطريق كذلك إن لم يتحمل ويخاطر ويقرر وينفذ - أي يكون جاداً في جريمته ! - فلن يستطيع أن ينجح في تنفيذ جرائمه.
أرأيت أصحاب المذاهب الأرضية والطرق الضالة كيف يبذل أحدهم ويضحي؟! وكيف يدفع حياته وراحته ثمناً لمبادئه؟!.
والأمم التي دخلت التاريخ، وسطرت منجزاتها، لم تكن لتحقق جزءاً مما حققت، ما لم تكن تملك قدراً من الجدية والتصميم؛ إنها سنة الله في الحياة أن لا ينجح إلا الرجل الجاد.
فهل نريد أن تكون لنا سنةٌ خاصة، وهل نظن أننا سننجح في تحقيق أهدافنا التي تتجاوز أهداف أولئك دون أن نملك قدراً من الجدية يفوق ما هم عليه؟!
وكم تتطلع الأمة المسلمة إلى احتلال موقع الريادة وتبوُّء التوجيه لأمم الأرض جميعاً، فهل يمكن أن تحقق تلك المكانة دون جدٍ أو عمل؟!
• المسوغ الخامس: العبادات الشرعية:
هناك أحكام شرعية، وعبادات تتطلب قدراً من الجدية والتحمل، قد أوجبها الله على عباده جميعاً، فالحج مثلاً - الركن الخامس من أركان الإسلام - يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلّم: "جهادٌ لا قتال فيه". [رواه ابن ماجه 2901 وأصله في الصحيحين].
ويتحمل المسلم في الحج ما يتحمل من المشاق والصعوبات، ومع ذلك فما دام مستطيعاً فإن هذه الصعوبات لا تسقط عنه هذه الفريضة، أليس في هذا تربية للأمة على الجدية؟!
والجهاد الذي فيه إراقة الدماء وبذل المهج والأرواح، أليس واجباً على مجموع الأمة؟! فهل هناك مشقةٌ تعدل مشقة الجهاد؟! إن المسلم أياً كان موقعه من سلم المشاركة في الأمة لابد أن يكون مهيئاً للجهاد أصلاً؛ ذلك أن من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق. [رواه مسلم 1910].
ومن يحدث نفسه بالغزو لابد أن يكون مؤهلاً لتحمل المشاق والصعاب، شجاعاً غير هياب، مقداماً لا يعرف التردد.
فهل تربيتنا تهيئ الجيل والنشء للجهاد؟!
وإذا لم تكن كذلك أليست بحاجة إلى مزيد مراجعة وتمحيص؟!
• المسوغ السادس: كيف ساد الرجال؟!:
لقد سطر التاريخ لنا نماذج من الذين ساهموا في صياغة مستقبل الأمة وصناعة حضارتها، فكيف تربى أولئك الرجال؟! لنفتح صفحة من تاريخهم:
فالسيرة تزخر بالمواقف التي مرَّ بها جيل خير القرون بدءاً بما تلقاه في دار الأرقم والفترة المكية، ثم ما بعد الهجرة من أحداث كان يتوالى على أثرها نزول القرآن الكريم: معقباً وموجهاً ومعاتباً، ومبيناً.
إن سنن الله في النصر والهزيمة، والصبر على اللأواء، وإصلاح ذات البين، والتثبت في القول والعمل، والاجتماع والائتلاف... وغيرها دروسٌ تلقاها الجيل الأول بعد بدر وأحد والمريسيع والأحزاب وتبوك وحنين، لقد تربى ذلك الجيل من خلال الأحداث والواقع، ولم تكن تلك المعاني العظيمة لتلقى عليه مجردة، وأنى لها أن تؤدي دورها وأثرها حين تكون كذلك.
وعلى المستوى الفردي كان خير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم يعيشون معه ما لا يعيشه غيرهم، فتقرأ كثيراً في السيرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر، مما يوحي بأن هناك إعداداً أخص لهذه النخبة، علاوة على ما يتلقاه سائر الصحابة رضوان الله عليهم.
وأهل العلم والفتيا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم إنما بلغوا هذه المنزلة بهجر الترفه والصبر والجلد، فابن عباس رضي الله عنهما يقول عن نفسه: "فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟! ألا أرسلت إلي فآتيك؟! فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث". [رواه الدارمي 570].
ولا يقف الأمر عند هذه الحقبة الزمنية، فترى ذلك من خلال سير أهل العلم والقيادة في الأمة على مدى تاريخها الواسع.
قال فضيل بن غزوان: "كنا نجلس أنا وابن شبرمة، والحارث بن يزيد العكلي، والمغيرة، والقعقاع بن يزيد بالليل نتذاكر الفقه، فربما لم نقم حتى نسمع النداء بالفجر". [سير أعلام النبلاء 6/ 348].
وقال أبو عبيد الآجري: سئل أبو داود: "أيهما أحفظ: وكيع أو عبد الرحمن بن مهدي؟! قال: وكيع أحفظ وعبد الرحمن أتقن، وقد التقيا بعد العشاء في المسجد الحرام، فتوافقا حتى سمعا أذان الصبح. [سير أعلام النبلاء 9/ 152].
قال أبو حاتم: سمعت أبي يقول: "أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ (4800 كم).
قال: ثم تركت العدد بعد ذلك، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشياً، ثم إلى الرملة ماشياً، ثم إلى دمشق، ثم أنطاكية وطرسوس، ثم رجعت إلى حمص، ثم إلى الرقة، ثم ركبت إلى العراق، كل هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة. [سير أعلام النبلاء 13/ 255 -256].
قال عبد الله ابن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: "كنت ربما أردت البكور في الحديث، فتأخذ أمي بثيابي وتقول: حتى يؤذن الناس أو يصبحوا، وكنت ربما بكرت إلى مجلس أبي عياش وغيره".
وقال يحيى بن سعيد القطان - وذكروا طلب الحديث -: "كنت أخرج من البيت قبل الغداة فلا أرجع إلا العتمة". [سير أعلام النبلاء 9/ 183].
وقال ابن المديني: إن شريكاً قال: صليت مع أبي إسحق ألف غداة. [انظر في هذه الأخبار الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/ 150].
وقال ابن أبي حاتم: "كنا بمصر سبعة أشهر، لم نأكل فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ ونقابل، فأتينا يوماً أنا ورفيق لي شيخاً فقالوا: هو عليل، فرأيت سمكة أعجبتنا فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت أن تنتن فأكلناها نيئة لم نتفرغ نشويها!.
ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد، وحين نطلب من الجيل الناشئ أن يكون جاداً فلسنا بالضرورة ندعوه لأن يأكل الطعام نيئاً، لكنها صورة مشرقة من جدية السلف تبقى منارةً يتطلع الجيل إليها ليقترب منها علَّ خفاً يقع على خف.
• المسوغ السابع: هكذا تنتصر الدعوات:
لقد مرت الأمة بمراحل من الضعف والهوان والذلة، فقيض الله لها من يجدد أمر دينها، فحين نقرأ في سير الدعوات التجديدية والإصلاحية ندرك تمام الإدراك أن هذه الدعوات لم تنجح عبثاً، وقد كان وراء نجاحها رصيدٌ هائلٌ من التضحيات الجسام.
والدور المنوط بالصحوة الآن لا يمكن أن يتم دون تربية جادة.
فالمجتمعات الإسلامية تعاني من بعثرة الأوراق التربوية، وتناقض الاهتمامات، والبعد عما يريده الله منها - خير أمة أخرجت للناس - ومن ثم فإن إعادة ترتيب أوراقها وصياغتها جهدٌ طموح، يأخذ على عاتقه إصلاح فساد توافر على صنعه أعداء الأمة خلال سنين عديدة، إنه يستهدف إعادة ترميم واسعة التكاليف، فقد مرت فترات ضعف ومرض على هذه الأمة وتجاوزتها بحمد الله، ولئن كانت قادرة دون شك على تجاوز المرحلة المعاصرة، إلا أن هذه المرحلة مرحلة فريدة في تاريخ الأمة، فالنهوض بها وقيام الصحوة بالأدوار المنوطة بها يحتاج لطاقات مؤهلة تربت تربية جادة يمكن الاعتماد عليها بعد الله.
• المسوغ الثامن: كثرة الفتن والمغريات:
يواجه الشباب المسلم في هذا الزمان تياراً جارفاً من الفتن والصوارف عن دين الله عز وجل: فتن الشبهات التي تشككه في دينه وعقيدته، وفتن الشهوات المحرمة التي قد تقوده إلى نارها ولأوائها.
ويصبح الشاب والفتاة ويمسيان والصورة المغرية والمشهد الساقط تلاحقهم في الشارع وعلى الشاشة وفي المجلات والأسواق، وحتى على مقاعد الدراسة في المدارس المختلطة.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلّم عن هذه الفتن بقوله: "ما تركت بعدي فتنةً هي أضر على الرجال من النساء". [رواه البخاري 5096، ومسلم 2740].
وإن التربية الجادة هي بإذن الله من أعظم ما يعين على تنشئة الشاب الذي يخاف الله عز وجل ويرهب المعصية ويحمل قوة الإيمان مع قوة الإرادة والعزيمة في مواجهة الفتن والانتصار عليها.
وفتنة المال هي الأخرى فتنة تواجه النشء المسلم وتحاصره، فيبدو بريق المال أو المنصب أو الشهرة أمام الداعية ثمناً للتخلي عن دعوته، والمساومة على منهجه، وربما لتسخير الدعوة، والمنهج لصالح فلان من الناس، إنها فتنة يصعب تجاوزها على من لم يدرك جدية القضية، ويصبر على الشظف واللأواء.، لقد قال صلى الله عليه وسلّم: "ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه". [رواه الترمذي 2376 وأحمد، والدارمي 2730، وقال الترمذي: حسن صحيح. وللحافظ ابن رجب رسالة قيمة حول شرح هذا الحديث].
والمتأمل في الساحة يرى على جنبات السبيل العديد ممن تنكبوا وأخذوا بنيات الطريق، فعاشوا صرعى هذه الفتن، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى.
أليس من عمق المخاطرة بالمنهج، والمراهنة على ضياع الدعوة، أن يسلك أولئك الذين لم يتربوا ويتأهلوا تأهلاً كافياً في ركاب القيادة، ويسلموا منصة التوجيه، والذين سرعان ما تتخطفهم فتنة أو يأسرهم بريق شهوة؟!.
• المسوغ التاسع: حاجة الأمة للشخصية المتكاملة:
ثمة معان كبيرة: الصبر، التأني، الكرم، الشجاعة، المبادرة، الثقة بالنفس، سعة الأفق، أدب الحوار.... هذه المعاني تعد مواصفات أساسه في الشخصية السوية، فضلاً عن شخصية المسلم، وهي لا يمكن أن تكتسب من خلال الطرح المعرفي المجرد، بل لابد من تربية عملية واقعية، والدعوة التي تعتمد على من يفقد هذه المعاني بنيان هش يوشك أن ينهار، وتصور تحقيقها بمجرد توجيهات عجلى إغراقٌ في السطحية، وجهل بالطبيعة الإنسانية.
• المسوغ العاشر: اتساع نطاق الصحوة:
لقد اتسعت بحمد الله هذه الصحوة المباركة، وامتدت خارطتها لتغطي مساحة واسعة على مستوى العالم الإسلامي، واتساع الصحوة يفترض العناية بالتربية وذلك:
أ- لزيادة قوافل التائبين، والعائدين إلى الله:
فيوماً نسمع عن فنان تائب، وتارة عن مروج للمخدرات، وأخرى عن رياضي... وهكذا تمتد الصحوة أفقياً بزيادة عدد المستجيبين يوماً بعد يوم.
وهذه الأفواج المتوافدة مهما كانت جديتها في التوبة، لا تزال تحمل رواسب تربوية تشربتها من خلال المراحل السابقة التي سلكتها، وهي خليط متنافر من سلوكيات تربوية لا يجمع بينها إلا أنها سيئة ومرفوضة، وقد انتقلت إلى الصف الإسلامي بكل ما تحمله من رواسب، وربما تبوأت مراكز قيادية في الساحة الإسلامية، أو صعدت منابر للتوجيه، وأقرب مثالٍ على ذلك إتاحة الفرص لهم للحديث في المجالس والمنابر الشرعية، وتوجيه الأسئلة لهم عما قد لا يجيدون فهمه فضلاً عن الحديث عنه، ونحن لا ندعو لرفض أولئك فرحمة الله تتسع لمن هو أسوأ حالاً منهم، وندرك أن حالهم ليست كحال غيرهم، لكن البديل لذلك ليس هو إتاحة المنابر الشرعية وتصديرهم.
وليس المقصد من الحديث هذه الطائفة قريبة الهداية لكنه مثال على إهمالنا لشأن التربية، فدون أولئك أفواج هائلة ممن لهم تاريخ مظلم في الفساد والانحراف فعادوا إلى الصف، فالتخلص من هذا الركام التربوي، والتجرد من تلك الرواسب لا يمكن أن يتم بمجرد التوبة، فلابد من تربية جادة تعطى مدىً زمنياً كافياً، تأخذ على عاتقها إزالة رواسب الماضي وإحلال المعايير التربوية الشرعية.
لقد صحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم قومٌ حدثاء عهد بجاهلية في حنين، فمروا بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط فتنادوا من جنبات الوادي: يا رسول الله اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط. [رواه أحمد 5/ 218 والترمذي 2180، وقال: حسن صحيح، وصححه الحافظ في الإصابة 4/ 216. وانظر: الدر النضيد في تخريج كتاب التوحيد 47- 48].
وحين نجا بنو إسرائيل من الغرق وأتوا على قوم يعكفون على أصنامٍ لهم قالوا: (يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة). [الأعراف: 138].
وأمر صلى الله عليه وسلّم من نسي من أصحابه فقال واللات والعزى أن يقول: لا إله إلا الله. [رواه البخاري 6650.، ومسلم 1647].
والمسلم الموحد لا يشك في بطلان ألوهية اللات والعزى فضلاً عن أن يعظمها ويحلف بها، لكنه قد اعتاد لسانه على ذلك في الجاهلية.
إن ذلك كله مما يشهد لما قررناه أنه لابد من تربية جادة لا لتغسل أوضار الماضي وتزيل رواسبه فحسب، بل لتؤسس بناءً قوياً يستحق أن تعقد عليه الآمال.
ب- اتساع نطاق الصحوة يفرض عليها احتلال مواقع جديدة:
والتوسع في فتح القنوات الدعوية، وهذا يعني مخاطبة المجتمع بكافة طبقاته وسائر فئاته، وأن يكون الخطاب الدعوي شاملاً لجوانب الحياة، ولمشكلات الناس جميعاً، وأن تأخذ الدعوة على عاتقها التصدي لمشكلات المجتمع، والمساهمة عملياً في حلِّها، وذلك كله يفترض تربية جادة تخرج من يحمل مسئولية المشاركة في هذه الميادين مع عزم وإصرار ليحقق إنجازاً أو يسد ثغرة.
ج- واتساع نطاق الصحوة يفرض التوسع في القيادات العلمية والفكرية والدعوية:
مما يعني عدم الاعتماد على الشخصيات الآسرة وحدها، فلابد من الاستعانة بالصفوف الثانية من هذه القيادات، من خلال طلبة للعلم الشرعي يأخذون على عاتقهم تعليم الناس وإزالة غشاوة الجهل عنهم، ووعاظ يحركون القلوب القاسية، ومربين يأخذون بيد الناشئة، وقراء يعلِّمون القرآن الكريم، وأصحاب قلوب رحيمة يعنون بالفقراء والمعوزين، وطائفة يحتسبون لإنكار المنكرات العامة.... وهكذا فهذه القائمة الطويلة لابد لها حتى تؤدي دورها المراد من جهد تربوي فعَّال.
د- واتساع نطاق الصحوة ساهم في تنوع المصادر وتناقضها، ووجود أصوات مأجورة ومرتزقة:
فأوقع بعض المنتمين لتيار الصحوة في دوامة وحيرة، وخلق لهم مآزق فكرية، ولم يعد بمقدور أحدٍ كائناً من كان أن يحاصر شيئاً من هذه المصادر، أو يحجب صوتها حتى لا يسمع، فلا سبيل لتجاوز هذه الفوضى الفكرية، وحسن التعامل معها إلا بالتربية العلمية الجادة، والتي تمنح صاحبها المعايير التي يستطيع من خلالها تقويم المدارس والآراء الفكرية والدعوية.
هـ- واتساع نطاق الصحوة أدى إلى بـروز مجالاتٍ ذاتِ نتائجَ عاجلة وبريقٍ لامع:
فساهم ذلك في توجه كثير من الطاقات إلى تلك المجالات، وإهمال الثغور التربوية والتي تمتاز ببطء النتاج وقلته العددية، في مقابل الوسائل الجماهيرية، بل أدى الأمر ببعضهم إلى المراهنة على فشل العمل التربوي، أو الزعم بأنه قد استنفذ أغراضه.
ولا يمكن أحداً الاعتراض على المساهمة في هذه المجالات فهي من الثغور المهمة، لكن اعتبارها المجال الوحيد، أو تصنيفها نداً ونقيضاً للعمل التربوي المنتج، ذلك مما لا يسوغ بحال.
رد مع اقتباس
  #65  
قديم 17-08-2010, 06:57 AM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

مفهوم التربية الجادة


إن أول تساؤل يفرض نفسه هو تحديد المقصود بالتربية الجادة؛ إذ يمثل تحديد المصطلحات أرضية مشتركة تضبط ميدان البحث والنقاش.
وبعيداً عن الجدل والتعقيد المنطقي حول التعريف نسعى في هذا المبحث إلى تحديد مفهوم لما نعنيه بهذا المصطلح، وهو لا يعدو أن يكون اصطلاحاً للكاتب يحدد فيه مقصود الفكرة التي يدعو إليها.
مفاهيم قاصرة للتربية الجادة:
ينصرف الذهن لدى بعض الناس حين نطلق التربية الجادة إلى بعض المفاهيم القاصرة ومنها:
• المفهوم الأول: قلة الضحك:
مما لاشك فيه أن كثرة الضحك تميت القلب، وأن المسلم الجاد يقتصد في المزاح والهزل، لكن هل ما نعنيه ونريده من التربية الجادة أن يكون المتربي قليل الضحك، لا يفتر ثغره عن ابتسامة إلا في الحول مرة أو مرتين؟!
قد يكون بعض الناس طريفاً بطبعه، فهل يكون مثل هذا النوع غير مؤهل للجدية؟! إليك هذين النموذجين من السلف:
• الشعبي:
كان مشهوراً بالدعابة والطرافة، أتاه رجلٌ يوماً وهو جالس مع امرأته فقال: أيكما الشعبي؟! فأشار إلى امرأته فقال: هذه، وسأله رجلٌ: ما اسم زوجة إبليس؟! فقال: ذاك عرسٌ لم نشهده.
ومع هذه الطرافة التي اشتهر بها قال عنه مكحول: "ما رأيت أحداً أعلم من الشعبي".
وقال هو عن نفسه: "ما مات ذو قرابة لي وعليه دين إلا وقضيت عنه، ولا ضربت مملوكاً لي قط، ولا حللت حبوتي إلى شيء مما ينظر إليه الناس". [انظر في هذه الأخبار: سير أعلام النبلاء 4/ 294].
• الأعمش:
كان صاحب طرفة مشهوراً بها كذلك، سأله رجل: كيف أمسيت البارحة فأحضر وسادة فاضطجع عليها وقال: هكذا.
وقال عيسى: "أتى الأعمش أضياف فأخرج إليهم رغيفين فأكلوهما، فدخل فأخرج لهم نصف حبل قتِّ فوضعه على الخوان، وقال: أكلتم قوت عيالي، فهذا قوت شاتي فكلوه".
وسأله أبو داود الحائك: "ما تقول يا أبا محمد في الصلاة خلف الحائك؟! فقال: لا بأس بها على غير وضوء، قال: وما تقول في شهادته؟! قال: تقبل مع عدلين".
ومع ذلك كان من أعبد الناس، قال عبد الله الخُرَيْبيُّ: ما خلف الأعمش أعبد منه.
وقال عنه أبو بكر بن عياش: "كان الأعمش يعرض القرآن فيمسكون عليه المصاحف فلا يخطئ في حرف".
وقال عنه يحيى القطان: "كان من النسَّاك، وكان محافظاً على الصلاة في جماعة، وعلى الصف الأول". [انظر في هذه الأخبار: سير أعلام النبلاء 6/ 226 فما بعدها].
إذاً فقد يكون المرء ذا طرافة مزَّاحاً لكنه جادٌ في موضع الجد، عاملٌ في موضع العمل.
• المفهوم الثاني: التحصيل العلمي:
وأحياناً ينصرف الذهن عند الحديث عن التربية الجادة إلى أنها تلك التي تعنى بالتحصيل العلمي وبذل الجهد فيه.
ولئن كان طلب العلم من أشرف الأعمال وخيرها، ويمثل ميداناً من أفضل ما يشغل به الشباب المسلم اليوم، ولا يجوز بحال التهوين من شأنه، أو إهماله بحجة الانشغالات الدعوية؛ إلا أن ذلك لن يجعل طلب العلم هو وحده المعيار الذي تقاس من خلاله الجدية.
ثمة طاقات منتجة، وفئات تتقد حماسة وتحمل غيرة وتبدي استعدادها لتقدم خيراً للمسلمين، لكنها لا تملك القدرة العقلية أو التهيؤ النفسي لطلب العلم والتقدم فيه، فهل يجوز أن تهمل جهود هؤلاء؟! أو أن يهمش دورهم ويشعرون أنه لا قيمة لهم ولا مجال ما داموا غير بارعين في الميدان العلمي؟!
إن هناك ميادين كثيرة من الخير والخدمة للدين ونصرة قضايا الأمة يمكن أن يقوم بها أمثال هؤلاء، كالميادين الإدارية والاجتماعية والإغاثية والتربوية وغيرها كثير، وهي لا تفتقر للحصيلة العلمية الواسعة، وهذا وإن كان لن ينقلهم إلى مصاف الدعاة المؤهلين المتصدرين للتعليم والإفتاء والتوجيه، إلا أنه لن يلغي دورهم.
• المفهوم الثالث: الحزم والقسوة:
بعض الناس تعني الجدية لديه القسوة والحزم، والتعامل مع الناس بمنطق لا يقبل العذر، ولا يعفو عن الزلة أو يقيل العثرة، إنه منطق أولئك الذين لا يجيدون التوازن بين المفاهيم النظرية المجردة وبين الواقع العملي، فيتطلعون إلى نموذج مثالي لا يتحقق في دنيا الواقع، حينها يشعر أحدهم أنه يجري ولا يجرى معه.
والمربي الناجح هو الذي يسير ويقود الناس وهم كنفتيه، فلا هو يخالف ما وُصِف به نبيه صلى الله عليه وسلّم: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ). [التوبة: 128]. وقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ). [آل عمران:159]. ولا هو يفهم الرفق فهماً مغلوطاً فيرى أنه يعني مسايرة الناس ومجاراتهم على ما هم عليه، والقعود عن الرقي بهم، فالذي نزلت عليه هذه الآيات، والذي أثنى على الرفق وحث عليه ودعا له هو الذي احمر وجهه حين جاءه شاب من أتباعه وأصحابه يطلب منه الدعاء بعد أن لقي من المشركين شدة، وهو الذي هجر ثلاثة من أصحابه ودعا المؤمنين إلى هجرهم.
مفهوم الجدية:
إن تلك الصور السابقة تملك قدراً من الجدية، لذا آثرنا التعبير عنها بمفاهيم قاصرة لا خاطئة، لكنها لا تمثل بالضرورة المفهوم الذي نريد.
إن الرجل الجاد هو صاحب الهدف الذي يسري في أعماقه وروحه، فهمُّه وجهده متوجه لهذا الدين، إنه الرجل صاحب العبادة الحقة لله سبحانه وتعالى ظاهراً وباطناً، مخلصاً مخبتاً راجياً خائفاً، كثير الذكر والصلاة والصيام والتلاوة، إنه الجاد في طلبه للعلم الشرعي والتأدب بآدابه، إنه الرجل الجاد في نفسه القادر على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، إنه الرجل الشجاع غير الهياب ولا الوجل، إنه باختصار الرجل العامل المنتج.
ولنقف وقفة حول العمل وقيمته، إذ هو صفة الرجل الجاد المتميزة.
العمل مطلب الجميع:
سنة الله سبحانه في الحياة أن لا يعيش فيها ولا يفلح إلا الرجل العامل، بل ولا يأكل رزقه إلا الرجل العامل، وحتى أصحاب الشهوات والمبادئ الأرضية لابد لهم من عمل يحصِّلون من خلاله ما يريدون، فكيف بالمسلم العابد لله.
إن صاحب المؤسسة الخاصة والعمل الشخصي لا يريد أن يوظف لديه إلا الرجل العامل المنتج، والتقارير ومعايير الكفاءة لديه مرتبطة بالعمل الذي يقدمه والإنتاج الذي يحققه.
ومدير الدائرة الرسمية يفترض أن لا يريد إلا الموظف العامل، ومعايير التقويم الرسمي وغير الرسمي لديه مرتبطة بعمل الموظف وما يقدمه.
وأحياناً نسمع أن المدير الفلاني للشركة والموظف الفلاني حين انتقل اختار بعض الموظفين لديه لينقلهم معه: لماذا؟! يجيب الجميع لأن هذا الموظف عامل ومنتج، إذاً فالعمل مطلب الجميع، ومعيار الجميع للتقويم
والأمم السابقة واللاحقة التي سطرت لها صفحات في التاريخ، إنما قامت وحققت إنجازها بالعمل دون الشعارات الفارغة والعيش على الأمجاد، وما فتح التاريخ صفحة لأمة من الكسالى والقاعدين.
• القرآن يدعو إلى العمل:
إننا حين نقرأ القرآن الكريم نجد أنه قد أولى هذا الأمر عناية وجعله مطلباً أساساً.
1- فالإيمان لابد من اقترانه بالعمل، فنقرأ في آيات القرآن الكريم عطف العمل الصالح على الإيمان في أكثر من خمسين موضعاً، مع أن الإيمان يدخل فيه العمل الصالح كما قال صلى الله عليه وسلّم: "الإيمان بضع وستون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شـعبة من الإيمان". [رواه البخاري 9، ومسلم 35]. إلا أن هذا كله تأكيد على قيمة العمل وأهميته.
2- والإيمان حين لا يصاحبه عمل يصبح دعوى فارغة يعاب الإنسان عليها: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). [الحجرات: 14- 15].
3- ويعلق الجزاء في الدنيا للأفراد والمجتمعات على العمل: (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). [العنكبوت:35].
والعمل الصالح يلقى المرء جزاءه في الدنيا بركة وسعة في الرزق: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ). [الأعراف:96].
إذاً فالجزاء بالإحسان أو العقوبة في دار الدنيا مرتبط بالعمل، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
4- والسؤال والحساب يوم القيامة إنما هو عن العمل: (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). [النحل: 93].
5- والثواب الأخروي وهو الأساس الذي شمر إليه المشمرون وسعى إليه العاملون وتنافس فيه الصالحون مرتبط بالعمل: (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). [الأعراف: 43].
6- والعقاب الأخروي في نار الجحيم مرتبطٌ بالعمل: (وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). [النمل: 90].
وحين يطلبون العودة إلى دار الدنيا - ولن يتحقق لهم فهم يسألونها ليعملوا: (فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ). [الأعراف:53]. قالوا ذلك وقد أدركوا قيمة العمل وعلو شأنه، وأن مصيرهم الذي صاروا إليه إنما هو نتيجة للعمل الذي عملوه.
7- والتفكر في آيات الله وما يتبعه من مشاعر لابد أن يتحول إلى رصيدٍ عملي: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ....). إلى أن قال عز وجل: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ). [آل عمران: 190-195]. فلم يجازهم سبحانه على مجرد التفكر أو الدعاء وحده - وإن كان ذلك أمراً يثاب عليه المسلم - وإنما ارتبط الجزاء بالعمل وهو يتضمن الإيمان وتحمل الأذى والقتال والقتل في سبيل الله.
8- وحتى الوعظ والتأثر به والخوف من الله تعالى لابد أن يتحول إلى رصيدٍ عملي، ففي وصف عباد الله الأبرار: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً* إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً). [الإنسان: 7- 10].
فالخوف من هذا اليوم وشدته لم يكن شعوراً داخلياً فحسب بل كان له أثر عملي ترتب عليه إطعام الطعام على حبه والإحسان للناس.
وفي وصف الملائكة وسائر عباد الله الساجدين له: (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ* يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). [النحل:49- 50].
9- ولقد مقت الشرع القول بغير عمل وذمه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ). [الصف:2- 3].
وأُتبعت هذه الآيات بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ). [الصف: 4]. فالله سبحانه وتعالى إنما يحب العاملين المجاهدين.
• وفي السنة النبوية دعوة إلى العمل:
فالعلم الذي هو من أعظم العبادات إن لم ينشأ عنه العمل فهو شرٌ يستعاذ بالله منه: "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع". [رواه الترمذي 3482 والنسائي 5442].
ووظيفة المسلم في الحياة هي العمل، ولذا فقد علمَّنا صلى الله عليه وسلّم أن ندعو للمريض بقولنا: "اللهم اشف عبدك فلاناً ينكأ لك عدواً أو يمشي إلى الصلاة". [رواه أبو داود 3107، والحاكم 1/ 344، 549].
وحين سأل النبيَ صلى الله عليه وسلّم رجل متى الساعة؟! قال له: "ماذا أعددت لها؟!" . [رواه البخاري 3688، ومسلم 2639].
أليس في هذا تربية لأصحابه على أن يكون همهم وشأنهم متجهاً إلى العمل؟!
وسيرته صلى الله عليه وسلّم خير شاهد على ذلك؛ فقد كان العمل هو همه صلى الله عليه وسلّم وشأنه وديدنه، فيدعو الأفراد والقبائل، ويعرض نفسه في المواسم، ويغشى قومه في المنتديات، ويرحل إلى الطائف، ويهاجر للمدينة، وتكون فيها الغزوات والسرايا والبعوث واستقبال الوفود، بل إننا حين نحتاج للاستدلال من سيرته صلى الله عليه وسلّم على هذا المبدأ فلابد أن نسطر كتاباً كاملاً في السيرة، إذ سيرته صلى الله عليه وسلّم كلها عمل.
• أهل العلم يدعون إلى العمل:
وأدرك أهل العلم هذه القضية فكانوا يدعون إلى العمل والاهتمام بشأنه من خلال أقوالهم وقواعدهم وأصولهم التي يؤصلونها.
1- فالعلم عندهم لابد أن يتبعه العمل، إذ تتابعوا وتوارثوا أن يوصوا الطالب بالعمل فيما علم فعقدوا فصولاً في كتب آداب العالم والمتعلم عن العمل بالعلم، وصنف الخطيب البغدادي جزءه المشهور: (اقتضاء العلم العمل).
وللحافظ ابن عساكر جزء في ذم من لا يعمل بعلمه.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال قد علمت فماذا عملت فيما علمت". [رواه الدارمي 263. وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله].
وقال أيضاً رضي الله عنه: "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه". [رواه الدارمي 262].
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "اعملوا ما شئتم بعد أن تعلموا، فلن يأجركم الله بالعلم حتى تعملوا". [رواه الدارمي 260، وابن عبد البر في الجامع 2/ 6].
وقال الحسن: "الذي يفوق الناس في العلم جدير بأن يفوقهم في العمل".
وقال عبد الملك بن إدريس الحزيري الوزير الكاتب:
والعلم ليس بنافع أربابه ** ما لم يفد عملاً وحسن تبصر
سيان عندي علم من لم يستفد **عملاً به وصلاة من لم يطهر
فاعمل بعلمك توفِ نفسك وزنها ** لا رض بالتضييع وزن المخسر.
[انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/ 4- 9].
2- والمسائل العلمية التي لا يترتب عليها ثمرة عملية قد تكون ترفاً فكرياً لا ينبغي الاشتغال به والالتفات إليه، أو أن يحفل به طالب العلم ويتجه له.
قال الشاطبي: "كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعاً، والدليل على ذلك استقراء الشريعة: فإنا قد رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملاً مكلفاً به" . [الموافقات 1/ 31].
وانظر ما قرره رحمه الله في المقدمة التاسعة في الموافقات حول صلب العلم ومُلحه. [انظر الموافقات 1/ 53- 61].
3- والعناية بتتبع الأسانيد وطرقها دون العناية بالمتون ليس من شأن طالب العلم الجاد الباحث عن العمل.
4- والسؤال حين لا يكون واقعياً ولا يتبعه عمل فهو مذموم مطروح لا يستحق صاحبه أن يجاب عليه.
استفتى رجلٌ أبي بن كعب -رضي الله عنه- فقال: يا أبا المنذر، ما تقول في كذا وكذا؟! قال: يا بني أكان الذي سألتني عنه؟! قال: لا، قال: إما لا فأجلني حتى يكون، فنعالج أنفسنا حتى نخبرك. [رواه الدارمي 149].
وسأل ميمون ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل أدركه رمضانان؟! فقال: أكان أولم يكن؟! قال: لم يكن بعد، قال: اترك بلية حتى تنزل. [رواه الدارمي 154].
وحتى أولئك الذين يجيبون السائل عما لم يقع، إنما يجيبونه لأنهم يرون أن ما سأل عنه قد يقع له فيما يستقبل من أمره فيعمل به.
5- وأما مواقفهم وتاريخهم العملي فهي خير شاهد على ذلك، فقد تصدوا لتعليم العلم الشرعي، وتصدوا لنفع الناس وقضاء حوائجهم والشفاعة بحقوقهم، وتصدوا لإنكار المنكرات العامة والخاصة، والاحتساب على الرعية والولاة، وكانوا في مقدم الصفوف في الجهاد وساحات الوغى، وفي تاريخهم شواهد لا تجهل.
لقد أفضنا في الحديث عن العمل وأهميته، ولعل هناك من يتساءل وما علاقة العمل بالتربية الجادة؟!
فنقول: إن العمل يعد من أهم محددات الجدية، وإن من أكبر مواصفات الرجل الجاد والمجتمع الجاد أنه عامل، بل لعلك لا تكاد تجد وصفاً دقيقاً للرجل الجاد غير هذا الوصف.
ومع ذلك فالعمل الذي نريده ليس أي عمل بل هو العمل المنتج الذي ترجى من ورائه ثمرةٌ لهذه الدعوة المباركة.
وليس كون العمل منتجاً فحسب كافياً لإدراج صاحبه ضمن قائمة الجادين، بل لابد أن يكون النتاج بالقدر اللائق؛ إذ هناك من يعمل أعمالاً منتجة فعلاً لكنها تُستقل ممن هو دونه بكثير فما بالك به.
وحين يكون من أولويات اهتمام المربين إعداد الجيل الجاد العامل، وضمن معايير تقويمهم للنجاح التربوي مدى العمل والإنتاجية؛ حينها نشعر فعلاً أن التربية في الأمة صارت منتجة ومحققةً لأهدافها.
رد مع اقتباس
  #66  
قديم 17-08-2010, 07:01 AM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

أخطاء في علاج الأخطاء


يمثل تصحيح الخطأ جانباً مهماً من الأدوار التي يقوم بها المربي؛ إذ كثيراً ما يجد نفسه أمام أخطاء من يربيهم، وقد تكون أخطاءً فردية أو عامة، وقد تكون نتاج البيئة المنزلية أو المجتمع الأوسع، وقد تكون طارئة أو مزمنة.
وأياً كان الأمر فهي تحتاج إلى مراجعة منهجنا وأساليبنا في التعامل معها، وفي هذا المبحث سنتناول بعض الأخطاء التي قد نقع فيها في علاجنا لأخطاء من نربيهم.
1 - اعتبار تصحيح الأخطاء وحده هو منهج التربية:
يمثل تصحيح الأخطاء عند بعض المربين المنطلق الوحيد للتربية، وعليه فالتربية عندهم تبدأ من تحديد قائمة بالأخطاء والملحوظات، ومن ثم ترتيب البرامج لتصحيحها وتلافيها، فتمثل الأخطاء المنطلق الوحيد في رسم البرامج، والمعيار الوحيد في تحديد نوعية ما يقدم للناس، وتبدو آثار هذا الأسلوب من التفكير في اختيار الموضوعات التي يتحدث فيها لفئة معينة من الناس، فحين يستضاف أحد المتحدثين يُقترح عليه موضوعات تدور حول الأخطاء والملحوظات الشائعة لدى المخاطبين، أو يَسْأل هو عنها لتكون محور حديثه.
وهذا الأسلوب يتولد منه آثار غير محمودة؛ فحين نسلك هذا المسلك فغاية ما نحققه إذا نجحنا - ولن نحقق النجاح الكامل - أن نحافظ على الإنسان عند مستوى محدد.
وثاني هذه الآثار أن تسيطر لغة النقد على حديثنا فتترك هذه اللغة أثرها على أولئك الذين لم يعد يطرق سمعهم غيرها، فيعيشون حالة من الإحباط والشعور بالفشل والنقص على الدوام.
وفرق بين عطاء هؤلاء، وأولئك الذين غرست لديهم الثقة بإمكاناتهم وقدراتهم، ورفعت لهم المنارات ليتطلعوا إليها ويسيروا نحوها.
وثالثة الأثافي أن يحصر العطاء في زوايا محددة وهي تلك التي تبدو فيها أخطاء واضحة صارخة، أما البناء وتفعيل الطاقات وتنمية المواهب فلن يجد له مكاناً عند هؤلاء الذين يسيطر عليهم هذا المنطق في التفكير.
2 - تجاهل الخطأ حتى يستفحل:
إن المشكلات الكبار لا تولد دفعة واحدة، والنار تنشأ من مستصغر الشرر، لذا فكثير من الصفات السيئة في البشر تبدو بذرة صغيرة يسقيها الإهمال والتسويف، ويُمدها التجاهل بماء الحياة حتى تنمو وتترعرع لتتجذر في النفس فيصعب اقتلاعها وزوالها.
وأعظم شاهد على ذلك ما نراه من أن كثيراً ممن يضِلّون بعد الهدى، وينتكسون بعد الاستقامة، كان سبب ذلك أخطاء وأحوال من الضعف تدرجت بهم وتركوها حتى تستفحل.
وكثيرة هي المشكلات والأخطاء التي نقع فيها نحن، أو يقع فيها من نتولى تربيته، ونهملها ولا نعبأ بها فلا تلبث أن تستفحل وتأسرنا لتصبح جزءاً من سلوكنا.
وسواء كان الدافع لإهمال العلاج وتأخيره التسويف والعجز والكسل، أو افتراض أن الزمن كفيل بحله وتجاوزه، أو المبالغة في مراعاة نفسية المخطئ والخوف على جرح مشاعره، سواء كان هذا أو ذاك فالنتيجة لا تعدو واحدة من ثلاث:
أ - أن يذوب السلوك السيئ في نفس صاحبه ويصبح جزءاً من شخصيته، فيسعى لتبريره والدفاع عنه، واتهام من يلومه بالغلو والتشدد، وما أكثر ما نرى هذه الصورة.
ب - أن يستفحل في النفس فيرى صاحبه أنه قد صار صفة ملازمة له، وأنه لا يستطيع الخلاص منه أو الفكاك، وقد يدعوه ذلك إلى الإفراط في ركوب الانحراف والشطط.
ج - أن يستفيق بعد فترة، فيلوم أولئك الذين تجاهلوا هذا الخطأ، والأغلب أن يبالغ في ذلك، وقد يقوده هذا إلى التخلي عن بعض الميادين الخيرة.
3 - ردة الفعل وعلاج الخطأ بخطأ آخر:
يترك الخطأ أثره الواضح عند من يرقبه، وقد تكون مشاعره جياشة فيولد وقوع الخطأ لديه أثراً قد يغفل فيه عن الأسلوب الأمثل في التعامل معه، وهو موقف طبعي في النفس الإنسانية، ولعل من أمثلة ذلك ما وقع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم في حالات عدة.
ومنها قصة الأعرابي الذي بال في المسجد وهي مشهورة في السنة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلّم: "دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين". [رواه البخاري 220، ورواه مسلم 284 من حديث أنس، رضي الله عنه].
ومثله حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: "إن فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه، فقال: ادنه. فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك ؟... - إلى أن قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء". [رواه أحمد 21708 5/ 257].
ففي هذه النصوص نظر الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى عظم الخطأ فتعاملوا معه بما يرون أنه يليق به، أما النبي صلى الله عليه وسلّم فنظر إلى أمر أبعد من ذلك، ألا وهو أثر ذلك على صاحب الخطأ نفسه. [كثير من المتحدثين يحتجون بهذه الأحاديث وغيرها، ويشددون على الذين يقعون في هذا الخطأ، ويغفلون عن أن الصحابة رضوان الله عليهم وقعوا في ذلك، وإن كانت الحجة في فعل النبي صلى الله عليه وسلّم وقوله، إلا أن وقوع مثل ذلك من الصحابة يدل على أن الأمر لا يخلو منه بشر، واعتراضنا على هؤلاء ليس منصباً على مطالبتهم للدعاة بالرفق، إنما ينصب على أن نطالبهم بأن يرفقوا هم فيمن يطالبونه بالرفق كما رفق النبي صلى الله عليه وسلّم بالصحابة الذين وقعوا في التعنيف].
وحين نطالب المربي بأن يكون متزناً في تعامله مع الأخطاء فهذا لا يعني أن نطالبه بالعصمة وبإلغاء مشاعره، لكن بالاجتهاد قدر الإمكان.
هذه حالة، وثمة حالة أخرى قد لا يكون المربي أمام خطأ معين مباشر يريد علاجه، بل أمام قصور أو ثغرة لا تتمثل في موقف محدد فهنا يكون عذره أقل من الصورة السابقة إن هو لم يتحكم بردة فعله.
إن ردة الفعل قد ينشأ منها تضخيم الخطأ وربما إشعار صاحبه باليأس، أو قد ينشأ عنها غلو وشطط على النفس، أو قد ينشأ عنها خطأ آخر في الطرف المقابل.
فقد يكتشف الإنسان خطأً في نفسه وحينئذٍ يدعوه الحماس إلى تصحيحه فيتعامل مع نفسه بردة فعل غير متزنة؛ فعلى سبيل المثال: حين يكتشف المرء أنه مقصر في طلب العلم الشرعي، ويرى أن أقرانه قد فاقوه وسبقوه سبقاً بعيداً، فيسعى إلى تصحيح هذا الخطأ ويرسم لنفسه برنامجاً طموحاً لا يطيق أن يصبر على بعضه فضلاً عن أن يطيقه كله، وحين يبدأ التنفيذ ويخوض الميدان يصطدم بالواقع ويرى أن ثمة مسافة هائلة بين المثال والواقع؛ ثمة مسافة بين تلك الصورة التي رسمها لنفسه وكان يتطلع إليها وبين ما يمكن أن يصل إليه من قدر من التصحيح، وحين يصل إلى هذا الحال فإنه في الأغلب لا يعود إلى التوازن مرة أخرى، وقد يدعوه ذلك إلى إهمال واجبات وحقوق أخرى، وما أكثر ما نقع في هذا.
بل الأمر يتعدى ذلك حين تكون ردة الفعل مسئولة عن رسم المناهج أصلاً؛ فكم نرى من مناهج للتغيير يراهن أصحابها عليها ويرون أنه لا منهج لتغيير الأمة إلا هذا، وأي امرئ يسلك غير هذا الطريق بل أي امرئ لا يتطرف هذا التطرف الذي يتطرف فيه أصحابه فهو لا يملك التأهل لإنقاذ الأمة والتغيير.
وحين تتأمل في هذا المنهج كله تراه لا يعدو أن يكون ردة فعل تجاه خطأ آخر، بل لو تأملت الواقع ووضعت أمامك قائمة من مناهج التغيير المطروحة في الساحة لرأيت أن عدداً منها لا يعدو أن يكون ردة فعل لعلاج خطأ في مناهج أخرى.
4 - الإفراط في العقوبة:
النفس البشرية تعتريها حالات من الضعف والقصور، ويقعد بها الهوى وتستجيب أحياناً لداعي الشهوة على حساب أحكام الشرع ومنطق العقل، ومن ثم احتاجت إلى أن يؤخذ بزمامها، وأن تسلك معها وسائل متنوعة؛ إذ الإقناع وحده لا يكفي في حمل النفوس على الامتثال.
ومن ثم جاء الشرع بمبدأ العقوبة لتكون رادعاً عن وقوع النفوس في المحظورات وتقصيرها في المأمورات، وتنوعت العقوبات بين العقوبات الدنيوية التي يراها الناس حاضرة والأخروية التي تُدخر لهم في البرزخ والقيامة - عافانا الله وحمانا - وبين العقوبات الكونية التي تصيب الناس في أموالهم وأولادهم وأمنهم، والعقوبات الشرعية التي أُمر الناس أن يوقعوها على من أصاب ما يستوجب ذلك كالحدود والتعزيرات.
وكما أن إهمال العقوبات وتعطيلها مخالف لأمر الله، فالإفراط فيها ووضعها في غير موضعها هو الآخر مخالف لأمر الله تعالى، ومؤدٍ لتعطل مقاصد العقوبة وفواتها.
لذا نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن أن يُتجاوز في العقوبة - فيما لا معصية فيه - عشرة أسواط، فقال: "لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله". [رواه البخاري 6848، ومسلم 1708]. والمقصود بحدود الله على الصحيح المخالفات الشرعية، كما قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا). [البقرة: 229].
وكما قال صلى الله عليه وسلّم في الحديث الآخر: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها...". [رواه البخاري 2493].
وحين يفرط المربي في العقوبة ينقلب الأمر إلى تأثير مضاد، فيدفع المتربي شعوره بأنه مظلوم إلى الإصرار على الخطأ وتبريره، وينشغل بالعقوبة التي وجهت له عن الاعتناء بإصلاح الخطأ، وكثيراً ما يصر عليه ويتشبث به، ويكره الحق وأهله.
كما ينشأ عن ذلك أيضاً أن تنمو لديه مشاعر الكراهية والبغض لمن عاقبه، وكثيراً ما نرى بعض الأبناء يكرهون آباءهم أو معلميهم بل ربما يتمنون هلاكهم، والسبب في ذلك ما يلقونه منهم من إفراط في العقوبة.
ولا شك أن ترسخ هذه النظرة لديه تجاه معلمه أو والده تقف عائقاً كبيراً أمام تقبله للتوجيه والتربية.
5 - المثالية:
حين يعيش المرء في ميدان التنظير يحلق في أجواء الخيال، ويرسم صوراً مثالية يصعب أو يستحيل تحققها.
وهو أسلوب قد يمارسه المرء مع نفسه، فيرسم لها أهدافاً وبرامج وخططاً طموحة، ومن ثم يصطدم بجدار الواقع فيرى أنه عاجز عن تحقيق جزء يسير مما رسمه لنفسه.
وقد يمارسه المرء مع من يربيه، فالأم كثيراً ما تعاتب طفلها وربما تعاقبه على أخطاء لا بد أن يقع فيها مادام طفلاً؛ فحين يعبث ببعض أثاث المنزل، أو يعمد إلى آنية فيكسرها، أو يسيء إلى أحد إخوانه الصغار تعاتبه وتعاقبه، وربما كانت العقوبة شديدة، إنها تطلب منه أن يكون منضبطاً مثالياً فلا يسيء إلى إخوانه الصغار ولا يعبث بالتراب ولا يعبث بالأثاث ولا يرفع صوتاً ولا يبكي.
والأستاذ قد يرسم صورة مثالية للطالب؛ فيرى أنه ذاك الطالب الذي يلتزم بالأدب التام فلا يسيء الأدب مع أستاذه في استئذانه وحديثه وتعامله، ولا يسيء الأدب مع زملائه، ولا يمكن أن يتأخر عن أداء الواجب يوماً من الأيام، ولا بد أن يفهم ما يلقى عليه فهماً سليماً، ولا يسوغ له أن ينشغل عن الدرس، ولا أن يلهو، ولا أن يتأخر عن الحضور إلى الفصل، ولا أن يتغيب...إلخ هذه القائمة التي ربما عجز الأستاذ نفسه حين كان طالباً عن استجماعها وتحقيقها.
إننا حين نرسم للناس صورة مثالية سوف نحاسبهم على ضوئها، فنرى أن النقص عنها يعد قصوراً في تربيتهم، فتأخذ مساحة الأخطاء أكثر من مداها الطبيعي الواقعي.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلّم أصحابه أنهم لن يصلوا إلى منزلة لا يواقعون فيها ذنباً، فقال: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". [رواه مسلم 2749].
وحين حضرت أبا أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - الوفاة قال: كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: "لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون يغفر لهم". [رواه مسلم 2748 والترمذي 3539].
وقد قال أيضاً صلى الله عليه وسلّم: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون" . [رواه الترمذي 2499، وابن ماجة 4251، وأحمد 126373/ 199].
إن الواقعية في التفكير، وإدراك الطبيعة البشرية، والهدوء في الدراسة والمراجعة، والخبرة المتراكمة؛ كل ذلك يسهم إلى حد كبير في الاقتراب من الواقعية والبعد عن المثالية المجنحة في الخيال.
6 - الإفراط في الواقعية:
وهو خطأ في الطرف المقابل للخطأ السابق، فينطلق صاحبه من نظرته لبشرية الناس وامتناع عصمتهم إلى تبرير الأخطاء والدفاع عنها بحجة الواقعية، وهي نظرة تنعكس أيضاً على أهداف المرء وبرامجه فتصبغها بصبغة التخاذل ودنو الهمة والطموح.
وتسهم هذه النظرة في تكريس الأخطاء وإعطائها صفة المشروعية، ولعل من أصدق الأمثلة على ذلك ما اعتدناه من الفوضى في مواعيدنا وأوقاتنا، حتى أصبح الانضباط شذوذاً، وصار يقال إن في بني فلان رجلاً منضبطاً في مواعيده وأوقاته.
فالمثالية في التعامل مع هذه القضية تتمثل في التشدد في الدقائق فلا يقبل المرء عذر من تأخر عن موعده ولو لدقائق قليلة، والواقعية المفرطة تتمثل في التساهل بما هو أكثر من ذلك وهو الأغلب، وحين يراد تحديد الموعد تترك هذه الروح الفوضوية أثرها في تفكيرنا فنضيف ساعة أو نحواً من ذلك احتياطاً.
7 - إهمال البعد الزمني في تصحيح الخطأ:
لقد خلق الله الإنسان من عجل فهو يستعجل النتائج والثمرات بطبعه، ويريد أن يحقق في ساعات ما لا يتم إلا في أيام، وحين يضاف إلى ذلك حرصه على بلوغ الغاية وحماسه لها يزداد الأمر عجلة.
إن إهمال البعد الزمني في التفكير مرض ورثه بعض الدعاة والخيرين من عقلية المجتمعات الإسلامية التي لا تفكر إلا فيما تزرعه اليوم وتحصده في الغد وتأكله في اليوم الثالث.
فهل يمكن أن تعالج الأخطاء التربوية المتراكمة - التي أصحبت تشكل جزءاً من كيان الشخص وتربيته، وترسبت لديه من خلال مؤثرات عدة - في أيام قصيرة، أو من خلال توجيهات بخطأ هذا السلوك، ووجوب نهج السلوك الآخر؟
والأمر أكثر وأشد تعقيداً حين ننظر إلى جيل الصحوة أجمع، فعمره لا يزال قصيراً، وهذا الجيل المتوافد على الخير والهداية نتاج تربية آباء وتربية أمهات وتربية مؤسسات تربوية عامه؛ إنه إفراز لمجتمع يعيشه، فمسؤولية واقعه التربوي ليست قاصرة على الصحوة ذاتها.
وحين نسعى إلى تصحيح الأخطاء في هذا الجيل، وإلى تحقيق قدر من النضج فلا بد أن نعطيه المدى الزمني الذي يمكن أن يؤهله لحل هذه المشكلة إذا أردنا أن نكون واقعيين.
8 - إحراج الواقع في الخطأ:
إنه ليس من أهداف تصحيح الخطأ إصدار حكم بإدانة صاحبه وإثبات التهمة في حقه، لذا فالجدل الطويل حول إثبات التهمة، أو السعي للتصريح بالاعتراف بالتقصير والوقوع في الخطأ أمر لا مبرر له.
وحين يأخذ المربي في حسبانه مراعاة مشاعر الناس وعواطفهم، ويكون همه منصباً على الإصلاح والتغيير فلن يسعى لإحراج صاحبه، ولقد أشار النبي صلى الله عليه وسلّم إلى مراعاة هذا الجانب.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر". [رواه البخاري 2234، ومسلم 1703].
فمع أن هذه الأمة قد وقعت في ذنب عظيم وخطيئة كبيرة، إلا أن إقامة الحد كانت كافية في زجرها فلا ينبغي المبالغة والتثريب عليها.
وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلّم هذا الهدي في سنته العملية؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلّم برجل قد شرب قال: "اضربوه"قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: "لا تقولوا هكذا؛ لا تعينوا عليه الشيطان". [رواه البخاري 6777].
وقد ينشأ الإحراج نتيجة الإصرار على الإدانة وانتزاع الاعتراف بالخطأ، أو نتيجة المواجهة المباشرة، أو نتيجة اللوم والتأنيب والإغلاظ في الحديث.
9 - المبالغة في تصوير الخطأ:
إن الاعتدال سنة الله في الكون أجمع، وحين يقع الخطأ فليس ذلك مبرراً للمبالغة في تصوير حجمه والحديث عنه.
إن تحويل الحادثة إلى ظاهرة، والمشكلات الفردية إلى قضايا عامة، وربط المشكلات المعقدة بقضية محددة؛ كل ذلك إفراز للمبالغة في التعامل مع الأخطاء وتجنب الاعتدال، وما أكثر ما نسمع أمثلة صارخة تثير الاستغراب حين الحديث عن ظاهرة من الظواهر، وكون هذه الأمثلة تملك قدراً من الغرابة أعظم دليل على شذوذها وأنها مما لا يقاس عليه.
وحتى في الحديث عن المعاصي والمخالفات الشرعية - فما لم يقد الأمر إلى الاستهانة بحدود الله - لا يجوز تحويل الشبهة إلى أمر مقطوع بتحريمه، واللمم والصغيرة إلى موبقة من الموبقات.
10 - الاحتفاظ بصورة سلبية عن المخطئ:
يتطلع كثير ممن يقع في الخطأ ويلومه الناس على ذلك أن يثبت لهم أنه قد تجاوزه، وأن يغير هؤلاء النظرة السلبية التي ارتسمت لديهم تجاهه.
لذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يرعى هذا الجانب فهو يعتني صلى الله عليه وسلّم ببيان الخطأ لمن يقع فيه حين يقتضي الموقف البيان، لكنه لا يتحول إلى نظرة ثابتة ترسخ الشعور بالفشل والإحباط لدى الواقع في الخطأ، أو تؤدي به إلى الشعور بأن هذا الخطأ أصبح أمراً ملازماً له لا يفارقه.
عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم النبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض..). إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"فبلغ ذلك اليهود فقالوا: مايريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه؛ فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما. [رواه مسلم 302].
وحتى حين يقتضي الخطأ الإغلاظ على صاحبه والتشديد عليه، فإنه لا يبقى ملاحقاً له في كل موقف، كما حصل مع أسامة بن زيد - رضي الله عنه - في موقف يرويه هو فيقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: "يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟"قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. [رواه البخاري 4269، ومسلم 96].
وبعد هذه الواقعة أمَّره صلى الله عليه وسلّم على جيش أكبر من ذلك، ألا وهو الجيش الذي سيغزو الروم وشعر بعض الناس أن هذه المهمة ربما ينوء بها أسامة - رضي الله عنه - ، وأنه لو ولي غيره كان أولى فبين النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك لهم؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعث بعثاً وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله، إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده". [رواه البخاري 4469، ومسلم 2426].
لقد أعطى هذا الموقف أسامة - رضي الله عنه - وغيره الشعور بأن الإنسان يمكن أن يتجاوز الخطأ، وليس بالضرورة يبقى علماً عليه لا يفارقه.
لذا فإن ما يمارسه بعض الآباء من تكرار تذكير أبنائهم بأخطائهم أمر مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلّم ومنهجه في التربية.
11 - الاقتصار على الأسلوب المباشر وحده:
وذلك بالحديث المباشر الصريح أن هذا الأمر المعين خطأ، وأن الشخص الذي قام بذلك العمل قد أخطأ.
وثمة أخطاء تستوجب الحديث الصريح المباشر عنها، وثمة حالات لا يسوغ أن يتجاوز وصفها والحديث عنها هذه الكلمات أو مشتقاتها أو ما ينوب عنها، لكن ذلك لا يعني الاعتماد على هذا الأسلوب وحده.
ومن تأمل المنهج النبوي وجد أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعطي كل ذي حق حقه؛ فتارة يتحدث عن الخطأ حديثاً صريحاً دون مواربة، وتارة يومئ ويشير إليه، ومن هذه المواقف التي كان صلى الله عليه وسلّم يستخدم فيها هذا الأسلوب:
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنسان منهم وهو عندي فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: "لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا". [رواه البخاري 902، ومسلم 847].
وعن ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها - أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلّم ، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: " أوَفعلت؟ قالت: نعم، قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك". [رواه البخاري 2592، ومسلم 999].
وحين رأى ابن عمر - رضي الله عنهما - رؤيا وقصها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل". [رواه البخاري 1122، ومسلم 2479].
وعن سليمان بن صرد - رضي الله عنه - قال: "استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلّم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". [رواه البخاري 6115، ومسلم 2610].
إن مثل هذه الأساليب غير المباشرة تترك أثرها في النفس، فهي توصل الرسالة التي يريدها المربي، وتنقذ المواجه بالخطأ من الحرج والخجل، وتشعره بحسن الخلق والتقدير والتوقير، إنه أسلوب الكرام العظام.
نسأل الله عز وجل أن يقينا شر أنفسنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،،
رد مع اقتباس
  #67  
قديم 17-08-2010, 07:04 AM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

الشباب الملتزم بين الفردية والجماعية


أولا : مقدمة لا بد منها :
المتأمل لأحوال الشباب الملتزم بدينه يجد فوجاً منهم يميلون إلى العيش فراداً ، فإذا نظرت في حال أحد هؤلاء وجدته مستقلاً برأيه متمسكاً بحظوظ نفسه ، لا يحرص على الجلوس مع أقرانه وأترابه ولا يهتم بذلك .
وفي المقابل ، تجد أفواجاً آخرين ارتموا في أحضان الجماعة فإذا أحسنوا أحسنت وإن أساءوا فهم في ذوبان كامل مع هذه الصحبة ، وبين هؤلاء وأولئك تجد من يوازن بين الفردية والجماعية ويأخذ من إيجابيات هذه وتلك فيحصل على غنيمة من كل الواديين ، وفي هذا يقول الأستاذ محمد قطب :
( الفردية والجماعية من الخطوط المزدوجة في كيان الإنسان ، هذان الخطان المرتبطان المتناقضان : إحساس الإنسان بفرديته ، وإحساسه بالميل إلى الاجتماع بالآخرين ، والحياة معهم كواحد منهم ، وهذه الظاهرة لها أثر بالغ في الحياة البشرية .. والتناقض يحدث في باطن النفس كما يحدث الاضطراب في واقع الحياة ، حين تزيد النسبة المقررة لكل واحد فينحرف عن مساره ويتعدى على مسار الآخر ويشده إليه ، أما حين يأخذ كل منهما مداره الصحيح فلن يحدث التنافر بين الفرد والجماعة أو يحدث الشقاق )) منهج التربية الإسلامية ( 1 / 162 ، 163 ) باختصار يسير
ثانياً : الآثار الإيجابية للفردية :
ونعني بالفرد أن يقيم المرء الإسلام في نفسه ويسعى جاهداً لإقامته في الناس ولكن بجهود فردية مستقلة عن التعاون والتشاور مع بقية الدعاة .
ولهذا الأسلوب آثار عديدة إيجابية وسلبية ، أما الإيجابية فمنها ما يلي :
1 - التفكير في الواقع بنظرة شخصية .
فتجد الشاب الملتزم الذي يحس بفرديته يجول ببصره هنا وهناك ويتفكر فيما حوله ، ويحاول جهده أن يطوعه وينتفع به مرضاة لله أولاً ثم حفاظاً على هذه الذاتية أو الفردية ثانياً .
ولكن هذه النظرة الفردية ، ولأنها تتأثر بشخصية صاحبها فإنها قد لا تكون صحيحة بالضرورة ، وقد يعتريها المبالغة أو النظرة السوداء ، ومن ذلك أن يقول بعد تفكير ضيق إن الناس هلكوا أو لم يهتدوا ونحوه .
2- مضاعفة النشاط الذاتي :
فإن المرء وبسبب فرديته ، يشعر أنه إذا لم يتحرك ولم يبذل فإن ما يريد تتغيره لن يتغير وسيبقى ما كان على ما كان ، ولذا لا حل بين يديه إلا أن ينطلق للتغيير بنفسه وهذا يعني مضاعفة النشاط الذاتي ، إلا أن دوام هذا النشاط أو توقفه يرجع إلى طبيعة الشخص وجلده . إضافة إلى أن هذه الانطلاقة قد تكون حكيمة وقد لا تكون
3- إعمال الذهن :
فتجد الشاب يقلب النظر في مواقفه حتى يخرج برأي فعال وفي هذا مِرَان لذهنه وشحن لعقله ، وقد يخطئ مرة ويصيب مرة والشخص الإيجابي هو من يستفيد من تجارب وتجارب الآخرين .
4- الجرأة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
ذلك إن الداعية إذا رأى أن الجهل قد فشا وشاع ، ولم يجد من الآخرين تعليماً ونصحاً فإنه سينبري لذلك ولن يتكل على غيره وهكذا إذا رأى المنكر ولم يجد من ينكره أحس بمسؤوليته في إزالته فيصدع عندها بالحق وينكر المنكر بكل جرأة ، وما كان ليفعل ذلك لولا فرديته .
5- متابعة محاسبة النفس :
فما دام هذا الإنسان ضعيف الخلطة بالآخرين ، فإنه من المتوقع أن تزل به القدم ويقع في الأخطاء ولأنه لا يجد الناصح يندفع إلى محاسبة نفسه وإصلاحها ذاتياً ، لكن يبقى أن بعض الزلات والعيوب لن يشعر بها وستدوم معه إلا أن يشاء الله .
ثالثاً : الآثار السلبية للفردية :
1- حب الانزواء عن الناس :
ومن ذلك اعتياد الشباب الملتزم العزلة عن الآخرين واستحسان ذلك لأوقات طويلة ، وينبني على ذلك ضياع حقوق الناس من القيام بواجب النصيحة لهم وكذا التقصير في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ودعوتهم إلى الله تعالى وتعليمهم ما جهلوا من أمور دينهم .. ، كما أن اعتزال الآخرين يُضيع على المرء استفادته من خبرات غيره وتجاربهم
2- الكسل والخمول والفتور :
فإن الغالب أن المرء الوحيد يجتهد فترةً وينشط في صلاح نفسه وإصلاح غيره ثم يتعب ويصاب بالملل ، ولعدم وجود من يسنده ويشجعه يكون على شرف هاوية الانقطاع أو الإصابة بالفتور والضعف .
3- السقوط والانتكاس :
فإن من الشباب الملتزم من ينفصلون عن صحبتهم لأسباب معينة ، ثم تجرفهم الشهوات والشبهات فإذا بهم ينقلبون على أعقابهم وينكصون عن التزامهم بدينهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية )) .
4- الإصابة بآفات عظيمة من أعظمها :
الأنانية ، الاستبداد بالرأي والتكبر على النصيحة ، كثرة الجدال مع الآخرين ، الإغراق في المباحات ، النظرة المثالية ... وغيرها .
رابعاً : الآثار الإيجابية للجماعية :
1- اكتشاف قدرات النفس ومواهبها :
يحتاج كل إنسان إلى آخرين يختلطون به ويتعايشون معه ، ومن إيجابيات ذلك أن يكتشفوا ما وهب الله له من قدرات ويساعدوه على الارتقاء بمواهبه .
ولذلك أمثلة عديدة ، منها :
1- القدرة على ضبط النفس عند الحوار مع الآخر .
2- الجراءة على إلقاء الكلمات .
3- حسن التعامل مع الشخصيات مختلفة الطبائع .
4- التضحية والإيثار والكرم .
5- العفو والصفح .
6- حفظ السر .
2- اكتشاف عيوب النفس وآفاتها :
فإن المرء إذا خالط الآخرين اكتشف الآفات بنفسه أو كشفها له أصحابه وعلى سبيل المثال لا الحصر لا يستطيع الإنسان أن يكتشف ما في شخصيته من أثره وأنانية أو حسد للآخرين إلا إذا عاش في جماعة وخالط أفرادها ورأى المحتاجين منهم والمتفوقين .
وهكذا الحال بالنسبة لعيوب كثيرة مثل : الفوضوية ، الحمق ، العجلة ، الخور ، البخل ، الكذب ، الخيانة ، الغلظة مع المخالف وغيرها .
وبهذا نعلم أن الإنسان مهما كان ذكاؤه ، ومهما تكن فطنته لا يمكنه أن يعرف أبعاد ومعالم شخصيته معرفة دقيقة ، ولربما فعل الشر أو ترك الخير وهو يظن أنه يحسن صنعاً ، وهكذا تُعد الجماعة الصالحة حقلاً تجريبياً يطّلع المرء من خلاله على ما في نفسه من تقصير وضعف ، فيسهل بعدها أن يعمل على علاج نقاط ضعفه ويحرص على الارتقاء بنفسه .
وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم الأنظار إلى دور الجماعة جين قال : (( المؤمن مرآة أخيه والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه )) رواه أبو داود .
3- الاستفادة من خبرات الآخرين ونصحهم :
فإن الجماعة الناصحة تتعهد من معها بإصلاح عيوبه ، كما أنها تحرص على تطوير قدراته وتنمي مواهبه وتهدي إليه الخبرات من خلال مرافقة القدوات وطرح الدروس التربوية المتتابعة ، وتارة يلجأ إلى العتاب واللوم من خلال النصيحة الشخصية ، وغير ذلك من أساليب ترتقي بشخصية المرء إلى ما يليق به .
4- توظيف الطاقات :
فمن خلال الجماعة يتم توظيف سائر طاقات المرء وهذا يعني استغلال اهتماماته وتفريغ حماسه فيما ينفعه ، وكل ذلك يؤدي إلى التوازن والتكامل في شخصيته ، ويقضي على أيِّ فراغ يمكن أن يستغله الشيطان وأعوانه أو تحدثه به شرور نفسه عند انفراده .
5- التثبيت وتجديد النشاط :
فالداعية إذا تحرك مع الجماعية في الميدان الدعوي ، كان ذلك معيناً له على الثبات على طريق الدعوة من خلال القرناء القدوة ، أو من خلال التشجيع ودفع اليأس ، وحاصل ذلك أن يشعر الداعية أنه ليس وحيداً ، وهذا يزيد من ثقته ويجدد نشاطه .
6- استيعاب المشاريع الدعوية الكبرى :
فإن الداعية مع الجماعية طاقة وقدر يمكن معها تحمل المشاريع الدعوية الكبرى ، وهذا لا يتسنى للعمل الفردي ولا يطيقه الداعية لوحده ، ولذا كان الأمر الرباني : ((انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) التوبة آية 41 .
ومن أمثلة المشاريع الدعوية الكبرى :
1- إقامة مركز صيفي لدعوة الشباب وحفظهم من آفات الفراغ فمثل هذا النشاط لا يستطيع الفرد أن يستوعبه مهما كانت مواهبه .
2- إقامة معرض لجمع التبرعات لصالح قضية من قضايا المسلمين ، فمثل هذا العمل الجبار لا يطيقه فرد مهما كانت علاقاته وطاقاته .
3- إقامة دورة مكثفة في العلوم الشرعية مع وضع حوافز تشجيعية وتوفير البيئة المناسبة للطلاب الملتزمين لهذه الدورة ، كل ذلك لا بد له من اجتهاد جماعي ليظهر بصورة ناجحة .
7- تيسير أبواب الأجر والثواب :
فإن المرء مع الجماعة يجد الفرص الكثيرة لبذل المعروف وإنكار المنكر وعمل المستحبات ، فتراه يؤدي سنة السلام وإجابة الدعوة وعيادة المريض والقيام بواجب النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم ويبذل الصدقة ويذكِّر ويُعلم ، أما إذا كان لوحده فأنَّى له أن يحصل على أجور هذه الأبواب الفضيلة ؟
خامساً : الآثار السلبية للجماعية :
1- الاتكالية على الآخرين ورمي المسئوليات عليهم :
فتجد الشاب الملتزم لا يتحرك دعوياً ، ولا يشتغل بتعليم الآخرين وكل ذلك لشعوره بأن الآخرين قد كفوه مسئولية ذلك .
2- قتل الإبداع والطموح في الشاب ، فلقد ترك التفكير للجماعة .
فمن الشباب الملتزم من أصيب بجمود الذهن فالجماعة هم الذين يقررون له كيف ومن يدعو ؟ وتأتيه الفرص الدعوية العديدة ، لكنه يضيعها بسبب عدم اعتياده حسن التفكير الدعوي .
3- الانشغال بالمخالطة عن الحرص على النافع .
فتجد الشاب يزور هذا ، ويجالس ذاك ، ويهاتف هؤلاء ، وهم بالمثل يردون الزيارة بزيارة والاتصال باتصال ، فتضيع الأوقات ويفوت الانتفاع بالعمر .
4- التعلق والتأثر ببعض الصفات السلبية في بعض أفراد الجماعة التي تحتضن الشخص في أنشطتها .
فإن الواقع يشهد بأن من الشباب الملتزم من يمتلك صفات جيدة كالجدية والحرص والتنظيم ، ولكن حين يخالط بعض الصالحين ممن ينقصهم هذه الصفات الإيجابية تجده يتأثر بهم ويضعف معهم إلى هزل كهزلهم أو لا مبالاة بالمسئوليات ونحوها ، فيكون اجتماعه بهؤلاء سبباً لضعفه لا قوته وهذا أثر سلبي ظاهر عند البعض .
سادساً : كيف نحقق التوازن بين الفردية والجماعية ؟
من خلال ما تم استعرضاه من سلبيات للفردية والجماعية ، وما ذكرناه من إيجابيات لهما .. نعلم أن ترك الفردية بالكلية تفوت على المرء الكثير ، وتجاهل الحاجة للجماعة فيه من المفاسد ما فيه .
ولذا يأتي السؤال المهم : كيف نحقق التوازن بين الفردية والجماعية .
ويمكن الإجابة عليه من خلال بيان النقاط التالية :
1- تذكر المرء دائماً أنه هو المسئول الأول عن نفسه قال تعالى ( كل نفس بما كسبت رهينة ) المدثر آية 38 .
وقال تعالى ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ) القيامة آية 15 .
ولذا ، حريٌّ بالشاب الملتزم بدينه أن يحرص على نفسه ، فيحاسب نفسه على الإخلاص والمتابعة ، ويجاهد نفسه ، على تقوى الله في السر والعلن ويبذل ما في وسعه من النوافل تقرباً إلى الله ، والجماعة قد تدعو المرء إلى الإخلاص والتقوى ، وقد تعظ بالمسابقة إلى الخيرات وتشجع عليها لكن أن تفرض ذلك على المنتمين إليها ، فهذا محال ! وهكذا الحال بالنسبة لأعمال فردية كثيرة ينبغي على الجاد في التزامه أن يصدق في تحقيقها ومنها : ( بر الوالدين ، غض البصر ، تجنب السماع المحرم ، تلاوة الورد اليومي من القرآن ، الاستغفار ودوام الذكر ، الحرص على صلاة الجماعة ... إلخ ) .
2- تحديد المرء أهدافه من ارتباطه بالجماعة الصالحة :
فالشاب الملتزم بدينه يحرص على الصحبة لغاية شرعية لا لمجرد اللهو وقتل أوقات الفراغ ..
ولعل من أهم الأهداف للارتباط بالجماعة الصالحة ما يلي :
1- الثبات على دين الله .
2- التفقه في الدين .
3- التعاون على البر والتقوى .
4- التناصح والتعاضد في سبيل ارتقاء إيماني .
5- تحصيل الأجر والثواب والمشاركة الفعالة في الدعوة .
6- توظيف طاقة المرء فيما ينفع .
3- العيش مع الجماعة الصالحة مطلب شرعي .
فالمتأمل للنصوص الشرعية الكثيرة يجد الدعوة الصريحة للعيش مع الجماعة الصالحة والصبر عليها وعدم التفرق عنها ، ومن ذلك :
- قوله تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا )
- قول النبي عليه الصلاة والسلام : ( إياكم والفرقة ، وعليكم بالجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ، ومن أراد بحبوحة الجنة فليزم الجماعة ) رواه الترمذي .
والعيش مع الجماعة لا يعني أن يلغي الشاب الملتزم أوقاتاً كان يقضيها في محاسبة نفسه أو تقرب إلى الله بعبادة أو طلب للعلم أو دعوة للآخرين . ومن ذلك قول الفاروق رضي الله عنه : ( خذوا حظكم من العزلة ) والمطلوب تحقيق التوازن وأن يعطي لكل ذي حقٍّ حقه ، وحول هذا المعنى يقول الشافعي : ( الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة ، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين المنقبض والمنبسط ) . وأوصى وهب بن منبه رجلاً أراد الانفراد عن الناس فقال له : لا تفعل إنه لا بد لك من الناس ولا بد لهم منك ، ولكن كن فيهم أصم سميعاً سكوتاً نطوقاً .
من كتاب ( كلمات في الالتزام الجزء الثاني ) ص 6- 16 .
رد مع اقتباس
  #68  
قديم 17-08-2010, 07:06 AM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

متى يكون الأب سبباً لانحراف ابنه ؟


متى يكون الأب سبباً لانحراف ابنه؟
إن من نعمة الله على الآباء أن يرزقهم الله أبناء صالحين، ولكن بعض الآباء قد لا يشعر بهذه النعمة وقد يغفل عنها، بل قد يكون سبباً في ضياع ابنه وعودته إلى الذنوب السابقة.
فيا ترى متى يكون الأب سبباً في انحراف ابنه ؟
الجواب :
1- الاستهزاء بالابن لأجل استقامته وهدايته ؛ كقول بعض الآباء: ابني مطوع متشدد، أو ما هذه اللحية يا فلان، أوماذا صنعت بثوبك؛ لأن الابن قد رفع إزاره إلى فوق الكعب والعبارات التي فيها السخرية كثيرة.

فليعلم الأب أنه عندما يسخر بولده أنه بذلك يضع عقبة كبيرة في استمرار استقامة الابن على الدين .. ومن ناحية أخرى : فإن الأب قد وقع في مصيبة عظيمة ألا وهي الاستهزاء بأمور الدين كاللحية والثوب القصير ونحوها، ولا شك أن الاستهزاء بأمور الشريعة من الطامات الكبار كما قال تعالى : (( قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ) [التوبة:65] (( لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) [التوبة:66] .
2- وقد يكون الأب سبباً لانحراف ابنه عندما يمنعه من مجالس الخير مثل: حلقات التحفيظ، الدروس العلمية والمحاضرات، والطلعات البرية والخروج والاستراحات.. وغيرها..
وهنا لا بد للأب أن يعلم أن الابن يريد بيئة صالحة يعيش بينها ليقوى دينه، ويشتد ثباته وتمسكه بهذا الدين، وعندما يمارس الأب منع الابن فإنه بذلك يحرم ابنه من الاستمتاع بمجالسة الصالحين الذين هم أقوى وسيلة للثبات وخاصة في هذا العصر .
ومن جهة أخرى : فإن الشباب بحاجة إلى الزملاء الصالحين؛ لأنه يعاني من الفتن والمصائب وجلوسه مع الزملاء يحفظه من تلك الفتن .. ولكن للأسف فإن أكثر الآباء لا يشعرون بذلك.
3- وقد يكون الأب سبباً لانحراف الابن عندما يعامله بالقسوة والغلظة والشدة، فذلك الابن لا يسمع من أبيه إلا ألفاظ السب والشتم، ولا يرى من والده إلا العبوس والجفاء، فحينها يصاب الابن بأزمة نفسية ويصبح يكره البيت ويكره والده، ويحاول الهروب من البيت، ويبدأ في البحث عن البديل لذلك البيت بيت الجحيم، فيا ترى أين سيذهب؟ ومع من سيجلس؟.
4- وبعض الآباء يحرم أبناءه من المال مما يترتب على ذلك الضياع والبحث عن المال بطرق غير شرعية.
5- وبعض الآباء يريد من ابنه أن يبقى ملازماً للبيت لا يخرج للترفيه عن نفسه، ولا لحضور مجالس الخير مما يترتب على ذلك الاكتئاب والملل وبعد ذلك الانحراف التدريجي.
6- وأحياناً يريد الأب من الابن أن يسلك وظيفة معينة أو دراسة جامعية معينة والابن لا يريد ذلك التخصص ولا تلك الوظيفة، بل قد تكون في تلك الدراسة أو تلك الوظيفة بعض المنكرات التي تكون سبباً في الضياع والانحراف.
7- وبعض الآباء يأتي بالمنكرات إلى البيت كالقنوات ويسمح بالنظر لها بدون ضوابط وبلا رقيب، والقنوات فيها من الفساد والانحلال الشيء الكثير، والضحية هم الأبناء.

فيبدأ ذلك الابن بالتساهل في النظر للقنوات ويبدأ في التراجع عن مبادئ الاستقامة وتظهر عليه علامات الفتور، والسبب في تلك القنوات الفاسدة.
8- التساهل في مبدأ السفر للخارج والذي قد يترتب عليه انحراف ابنه عن طريق الاستقامة؛ لأن الأب إذا أخذ ابنه إلى تلك البلاد فإنه سيرى الصور العارية والملابس الفاضحة.. ولا يخفى فتنة النساء وشدة خطرها وخاصة في البلاد ال*****ة.. والنتيجة يرى الابن المناظر التي تثير الشهوة وتحرك الغريزة وبعد ذلك الانتكاسة والرجوع إلى الماضي.
9- وبعض الآباء يأتي بالخادمة إلى البيت لأجل بعض الظروف.. ولكنه ينسى أن هناك في البيت أبناء يتأثرون ولهم شهوة وغريزة، وقد تكون الخادمة ممن يتساهل في الحجاب ومخالطة الرجال، فيترتب على ذلك كثرة النظر لها وحب الخلوة بها، والنتيجة...
10- وقد يكون الأب سبباً لانحراف الابن عندما يكون هم الأب هو البحث عن الرزق والغفلة عن البيت بسبب ذلك، فالأب عنده عمل في النهار وفي الليل ويغيب عن البيت ساعات طويلة، مما يكون سباً للانحراف التدريجي عند الأبناء والبنات..
والحل هنا : هو التوازن في الحضور إلى البيت وعدم الغياب الدائم، والحرص على تكوين علاقة مودة ورحمة مع الأسرة، والحرص على تفقد الأبناء والنظر في دينهم ودنياهم.
11- والجهل بطرق التربية الصحيحة من أكبر أسباب انحراف الأبناء.
فبعض الآباء يجهل مبادئ التربية الصحيحة ولا يعرف وسائل التأثير في أبنائه، ولا يدري ما هي الفروقات التربوية والنفسية بين الأبناء والبنات، ويترتب على ذلك الأفعال الخاطئة، مما يسبب المشاكل والمصائب.
والحل هنا: هو القراءة والسماع والثقافة في أمور التربية حتى يمكن لك أيها الأب من زيادة الثقافة في الأمور التربوية لتعرف كيف تربي أبناءك وبناتك.
واعلم أيها الأب أن ذلك ليس عيباً فيك بل هذا والله من الكمال؛ لأن بعض الآباء ناجح في أمور دينه أو دنياه وتجارته ولكنه فاشل في إدارة بيته وتربية أسرته.
12- والدعاء على الأبناء من أكبر أسباب انحرافهم .. فبعض الآباء يدعو على أبنائه أو بناته، وقد يستجيب الله له، فيترتب على ذلك الخسارة العظمى، ولهذا ثبت في الحديث: ( لا تدعوا على أموالكم ولا على أولادكم لا توافقوا من الله ساعة فيستجيب لكم ) رواه مسلم [ 14/295 ] .
أيها الأب : قبل أن تدعو على أبنائك تذكر أن هذا الدعاء قد يستجاب، وبعد ذلك قد يكون الضياع والانحراف لأبنائك .. أيها الأب : عود لسانك الدعاء لأبنائك وبناتك بأمور الخير والصلاح، لعل هذا يكون مفتاح خير لهم ( لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ) [الطلاق:1] .
13- وكثرة المشاكل الزوجية سبب لانحراف الأبناء .. نعم .. إن وجود الخلافات الزوجية وخاصة أمام الأبناء سب كبير لانحراف الأبناء، والقصص كثيرة في هذا الباب.
فوصيتي للوالدين : لا يكون الخلاف والحوار أمام الأبناء، بل لا بد أن يكون في غرفة خاصة حتى لا يشعر الأبناء بشيء.
إن رفع الأصوات بين الزوج وزوجته عند الحوار أمام الأبناء له أثر سلبي كبير على نفسية الأبناء، ويزداد الأمر خطورة إذا ضرب الرجل زوجته أمام أبناءه، حينها تبدأ الخواطر والأفكار تتسلل إلى عقول الأبناء وبرتب وراء ذلك ألواناً من الهموم والأحزان.
14- ومن أسباب الانحراف : تأخير زواج الأبناء والبنات مما يترتب عليه الضياع والبحث عن طرق محرمة في قضاء الشهوة .
أيها الأب: إن ابنك محتاج إلى العفاف، وهذا العفاف لا يكون إلا بالوقوف معه في ترغيبه في الزواج وتسيره .. إن الشباب يعانون من تسلط القنوات والصور في المجلات وقد لعبت بعقولهم مما جعلت بعضاً منهم يمارس العادة السرية لأجل تفريغ الشهوة الكامنة في جسده .. وبعضهم بدأ يبحث عن الحب المحرم عن طريق المعاكسات وتصيد الفتيات .
وبعض الشباب تجرأ على الأعراض وارتكب جريمة الزنا عياذاً بالله منها .. وبعضهم انسلخ من فطرته وتخلى عن رجولته وقام بجريمة اللواط ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الأب : إن الشهوة قنبلة في جسد ابنك وقد تنفجر في أقرب وقت، وإن سعيك لتزويج ابنك يزيل أثر تلك القنبلة ..
أيها الأب : لماذا لا تقف مع ولدك لكي تعينه على إكمال نصف دينه وهو الزواج.
قد تحتج ببعض الأمور فأقول لك : كن صادقاً مع الله في إعفاف ابنك وستجد العون من الله تعالى، واعلم بأنه ثبت في الحديث : ( ثلاثة حق على الله عونهم ... والناكح يريد العفاف ) حسن. صحيح الترغيب والترهيب [ 2/52 ] .
أيها الأب : لن أنسى موضوع ابنتك فهي بحاجة إلى أن تعيش في عالم الزواج وتذوق لذته وسعادته، فأنا أرسل لك رسالة محب : تأكد أن ابنتك تحتاج إلى زوج صادق وصاحب دين وخلق أعظم من حاجتها إلى وجودك أنت أيها الأب.
وإن بعض الآباء وقع في جرم عظيم عندما تساهل في تزويج بناته ، فهاهم بعض بناته قد قاربن الثلاثين وهو إلى الآن لم يفكر في تزويجهن .. وبعض الآباء يريد بقاء ابنته عنده ليستفيد من راتبها، ولم يفكر في أن ابنته بحاجة إلى العفاف والزواج.
ومن الآباء من أهمل اختيار الزوج لابنته فزوجها من رجل قد أضاع دينه ، وترتب على ذلك الحياة الزوجية النكدة، فلا سعادة ولا مودة، بل هموم ومشاكل دائمة بين الزوجين والسبب هو أنت أيها الأب.
وبعض الآباء قد زوج ابنته التي في العشرين من رجل عجوز تجاوز الخمسين بل والستين ، فيا ترى كيف ستكون حياتهم ؟ وهل سينجحون في تكوين أسرة سعيدة ؟.
وأخيراً : كانت هذه إشارات أردنا بها أن تكون أيها الأب سبباً في هداية ابنك وثباته لا سبباً في ضياعه وانحرافه .
محبكم في الله : سلطان بن عبد الله العمري .
رد مع اقتباس
  #69  
قديم 17-08-2010, 07:08 AM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

حين يعدم الآباء أبناءهم!!!


ليس ثمةَ شيءٌ أشد إحزاناً من أن يفشل الآباءُ في صناعة أبنائهم - أقصدُ: تربيتهم!- يجتهدون في إطعامهم وكسوتهم وترفيههم.. يحققون لهم كل ما يطلبونه، كعصا سحرية! تلبي طلباتهم؛ دون النظر إلى السلبيات والمساوئ المترتبةِ عليها!! ولسانُ حالِهم يقول للأبناء: لا تكونوا أقلَّ تنعُّماً وعنايةً من غيركم!!
ألعابُ (فيديو) لا تراقب.. أجهزةٌ محمولةٌ وشبكةٌ عنكبوتية.. حتى الهواتفُ النقَّالة مع أطفال لمَّا يدخلوا المدرسةَ بعد!!
تبحثُ عن أفرادِ الأسرة في البيت، فلا تجدهم مجتمعين.. كلٌّ غارقٌ في غرفته.. عفوًا، بل كلٌّ في غرفة إعدامِ حواسِّهِ وأخلاقِهِ، دون رقيب..
الأبوان مشغولان، وتلك غارقة في عالم الشبكة العنكبوتية... وذاك منفعل مع ألعاب (الفيديو) إلى درجة التشنج!!!
تدخل البيتَ، وكأنه خال من الأبناء.. فلا تسمع فيه همسًا!!
فيا كلَّ أب وأم..
اجلسا مع أبنائكم، راقباهم، ليس بقصد الشك؛ بل بقصد التوجيه والإرشاد. خَصِّصا وقتًا ما للحديث والحوار الأسري، ولا تتركا الحبل على الغارب..
فعالمُ الشبكة العنكبوتية عالمٌ مروِّعٌ.. يَغْرَقُ فيه من لا يعرف السباحةَ!!! لا سيما إن كان البيت يفتقر إلى الحبِّ والوئامِ، والتوجيه والنُّصح..
وكذلك ألعاب (الفيديو/ البلاي ستيشن)، التي أثبت الباحثون خطورتَها, وشدة تأثيرها على أطفالنا؛ ما هي إلا أشرطة مدسوسة، تحمل ال*****ة، وتسيطر على عقول أبنائنا؛ فتفسدها بما تحملُه من عقائدَ وثقافات مخالِفة للإسلام، تغذِّي عقولَهم بمشاهدِ العُنف والإجرام، فيطبِّقُ ما أُعْجِبَ به على أخيه وأخته؛ لأنه بعقلِه الصغيِر أحبَّ البطلَ، فأراد أن يحذوَ حَذْوه!!!
وليعلم كلٌّ أبٍ وأمٍّ أنه مسؤولٌ أمام الله -عز وجل- وأنه سيُسألُ عن رعيَّتِهِ يومَ القيامة..
فعن عبد اللهِ بن عمرَ قالَ: ( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.. الإِمَامُ رَاعٍ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))، قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: ((وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) )[1].
فهل هيّأَ الأبوان أنفسَهما للإجابة عن هذا السؤال؟؟!
فالتربيةُ ليست عنايةً بالأكلِ والشربِ والدراسةِ فقط.؛ بل هي تربيةُ النفسِ على الخُلُقِ الكريمِ، والسلوكِ المستقيمِ.. هي تربيةٌ على الأخلاق الإسلامية؛ ليعيش الأبوان بعدها قريرا العين، ويجنيا ثمرةَ صلاح أبنائهما في الدنيا والآخرة.
بارك الله لنا ولكم في أبنائنا.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] البخاري: 844.
رد مع اقتباس
  #70  
قديم 17-08-2010, 07:10 AM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

الإجازةُ.. في حضن الآباء..


مضى شهرٌ أو أكثر على انتهاء السنة الدراسية.. ونحن اليوم.. وسط معمعتها نخوض..!
فأمامَنا أيضًا شهر وأكثر لتوديعها..
الإجازة في يومنا تعني قلبَ الموازين.. فيغدو الليل صباحًا والصباح ليلاً.. وإلا فلن تكون إجازة عند البعض..!
الإجازة عند بعضنا.. ألاَّ يرى الأهلُ أبناءهم.. فالوالدان يتأهبان للنوم.. في حين إن الأبناء لم يستيقظوا بعد.!!
العشاء يصبح إفطارا.. والغداء عشاء..!! وهكذا قلب لموازين الحياة.. وتضييع للصلوات.. فتصبح الأنفس في أرق.. والأمزجة في تكدر وقلق..!! وقد يظن الأبوان أنها إجازة عن الأبناء أيضا فيسافر الأب بمفرده.. وتلهى الأم مع قريباتها.. والأبناء في دوامة ضياع..!!
فيا كل أب وأم.. لتكن الإجازة.. حضنا كبيرا لكم تحضنكم وأبناءكم وتقربكم أكثر وأكثر..
تعلمونهم فيها بعض المهارات.. أو تصطحبونهم في رحلة عائلية يسودها الحب.. وروح الود..
فكيف نَسعَد ونُسعِد أبناءنا في هذه الإجازة ؟؟
في البداية لا بد أن يتشارك الوالدان وأبناؤهما في وضع برنامجهم الصيفي، وأخذ رأيهم فيما يرغبون فيه مع ملاحظة أن يكون البرنامج منميا للجانب الإيماني والأخلاقي والثقافي والبدني والاجتماعي، ويكون كل ذلك بوسائل محببة وممتعة للأبناء، مثلا:
- تشجيع الأبناء على حفظ قدر معين من القرآن حسب طاقة الابن؛ سواء بالبيت أو عن طريق إلحاقهم بدور التحفيظ.
- حفظ الحديث الشريف بمعدل حديث أسبوعيا تقريبا مع مراعاة أن تكون الأحاديث تحث على مكارم الأخلاق أو التي ترتبط بالصفات التي نريد أن نغرسها في أبنائنا في الإجازة.
- زيادة ثقافة الأبناء من خلال الذهاب إلى المكتبات واختيارهم للكتب التي يحبونها ومكافأتهم على الانتهاء من قراءة الكتاب.
- تنمية المهارات والهوايات التي يحبها كل واحد منهم ومساعدتهم في تجهيز الخامات أو الأماكن أو إلحاقهم بنوادٍ ودورات تساعدهم على تنمية المواهب كالرسم والتلوين والشعر ولعب الكرة وغيرها.
- تعلم بعض برامج الكمبيوتر مثل الوورد والفوتوشُب.. وتكليف بعض الأبناء والفتيات بعمل مجلة تتم كتابتها بالكمبيوتر وتتضمن أخبار الأهل وبعض المشاركات من الصديقات والأخوات وقبلهم الوالدان، وتتم طباعتها وتوزيعها على الأقارب.. بحيث يكتب على غلافها من أعدها وأخرجها، فهو إنجاز رائع يشغل فيه الأبناء وقتهم، ويدربهم على العمل الكتابي وإخراج المجلات.. ولا تنسوا مكافأتهم على ذلك.
- العلاقات الاجتماعية وصلة الأرحام، وحبذا وضع جدول لزيارة الأقارب والاتصال بهم هاتفيا ليتعود الأبناء التواصل مع أقاربهم.
- اصطحاب الأبناء في زيارة لدور الأيتام والمعاقين والعجزة وتوزيع بعض الهدايا عليهم لتعويد الأبناء العطاء ومساعدة الآخرين.
- التجهيز لرحلات قصيرة مع الأبناء في إحدى الحدائق وتشجيع الأبناء على المشاركة في إعداد الطعام والتجهيز للرحلة.
- السفر لمجموعة من بلادنا الحبيبة؛ لتعريف الأبناء بلادهم، وتثقيفهم بزيارة المتاحف والمعالم السياحية، ولا تنس أيها الأب الكريم في أثناء سفرك أن يكون همك الأول هو حفظ الأهل من كل منكر، ولو ضغطوا عليك، فكن حريصا على إبعادهم عن أماكن الاختلاط والتبرج.
- تناقشوا مع أبنائكم في الرحلة عن كل ما يمر بكم في الطريق من جبال وأنهار وبحار، وعرفهم بها، واتفقوا معهم في الطريق على احترام عادات وتقاليد كل مدينة، وأن تكون أخلاقهم كالتاج على رؤوسهم.
- عند زيارتكم لكل منطقة سياحية حبذا أن تجعلوا أبناءكم يأخذوا شيئا من تلك البلاد تذكرهم بها مستقبلا.
حقق الله آمالكم..
ونفع بإجازتكم..
ولا حرمكم أجر الجلوس والترفيه عن أبنائكم..
رد مع اقتباس
  #71  
قديم 17-08-2010, 07:12 AM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

التربيةُ عن طريق جماعاتِ الأصدقاء


لِجماعات الأصدقاء والرفاق دورٌ كبير في حياة الفرد في مختلف مراحلِ عمره، ففي مرحلة الطفولة يُقْبِلُ الطفلُ بشَغَفٍ على مُشَاطَرة الأطفال الآخرين لعبَهم، والتعاون معهم، حتى أطلق البعض على مرحلة الطفولة مرحلةَ الاجتماعية الطبيعية؛ إذ يُحب الأطفالُ اللعبَ مع بعضهم بطريقة جماعية، ويتعاونون في نشاطاتهم المختلفة[1]، وقد وُجِدَ أن الطفل يحصل على أفضل النتائج من خلال مشاطرة الآخرين لعبهم والتعاون معهم[2].
وفي مرحلة المراهقة يرتبطُ المراهقُ ارتباطاً وثيقاً بمجموعة النُّظَرَاء (الشِّلَّة)، فيسعى إليها سعياً أكيداً، ويكافحُ في سبيل تثبيت مكانته بها، ويتبنَّى قِيَمَها ومعاييرَها ومُثُلَها السلوكية، ويتجه إليها -قبل غيرها من المجموعات الأخرى- بوجدانه وعاطفته وولائه؛ ذلك أن المراهق يشعر في وسط إخوانه بالمشابهة والمجانسة وبوحدة الأهداف والمشاعر، كما يشعر في الوقت نفسه بالهوة الواسعة التي تَفصِل بينه وبين الكبار في كثير من الأحيان[3].
كما تمارسُ جماعاتُ الأصدقاء والرِّفاق دورَها وأثرها في حياة الفرد فيما بعد مرحلة المراهقة من مراحل الحياة، وهنا تجدُرُ الإشارةُ إلى أن أماكن العمل -سواء أكانت رسميَّة أم تَطَوُّعيَّة- تُعَدُّ من جماعات الرفاق، إلا أنه يغلِب عليها الطابع الرسمي في العادة، وهي مؤسسات اجتماعية ذات تأثيرٍ مُهمٍ على تربية الإنسان بعامة؛ نظراً لما يترتب على وجوده فيها من احتكاك بالآخرين، إضافة إلى أنه يقضي فيها جزءاً ليس باليسير من وقته الذي يكتسبُ خلالَه الكثيرَ من المهارات والعادات والطباع والخبرات المختلفة.
والمعنى: أن جماعات الرِّفاق توجد وتمارس نشاطاتها المختلفة في المكان الذي يجتمع فيه أفرادُها، إذ تجمعهم -في الغالب- الاهتماماتُ المشتركة والنشاطات المرغوب فيها؛ كالنشاطات الرياضية، أو الترويحية، أو الثقافية، أو الاجتماعية، أو الوظيفية، أو التطوعية، ونحوها.
كما أنَّ لكل جماعة من جماعات الرفاق ثقافةً خاصة بهم، وهذه الثقافة تُعَدُّ فرعية ومتناسبة مع مستوياتهم العقلية والعمرية، وخبراتهم الشخصية، وحاجاتهم المختلفة، إلا أنها تختلف من جماعة إلى أخرى، تبعاً للمستويات الثقافية والتعليمية والعمرية، والأوساط الاجتماعية المتباينة[4].
وذلك الدور الكبير الذي تؤديه جماعاتُ الرِّفاق والأصدقاء في المراحل المختلفة من حياة الإنسان، يُلقِي الضوءَ على جانبٍ من جوانب التميُّز في التربية الإسلامية، التي عُنيت بجماعات الرفاق والأصدقاء؛ لأنها وسيلة مهمة من وسائل التربية؛ إذ حرَص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن يَنشأ الطفلُ بين الأطفال بعيداً عن العُزْلَةِ والانطواء؛ فقد مر -صلى الله عليه وسلم- بصبيان يلعبون فَسَلَّم عليهم، فعن أنس قال: ((انتهى إلينا رسول الله وأنا غلام مع الغلمان، فسلم علينا ...))[5].
وفي هذا تنبيه منه -صلى الله عليه وسلم- على السماح للطفل بالاتصال بالأطفال الآخرين، وخصوصاً في زمن الطفولة الأولى التي تترك آثاراً دائمة في شخصيته؛ لذا فالأطفال الذين يُعزَلون عن جماعاتهم الإنسانية لسبب أو لآخر، لا يستطيعون أن يكوِّنوا شخصياتٍ إنسانية؛ إذ إن هذا التكوين لا بد له من أشخاص آخرين يتفاعلون معهم[6].
ولكن لكي يؤتي هذا الاختلاطُ ثمارَه التربوية المرغوب فيها؛ فلا بد أن يُحسِن المُرَبُّون اختيارَ الصُّحْبَة التي يختلط بها الطفل، وكذلك لا بد أن يحسن الفردُ في كل مرحلة من مراحل حياته اختيارَ صحبته ورفاقه، وهو ما نبه عليه الحق -سبحانه وتعالى- بقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً} [الفرقان: 27، 28]، ويقول سبحانه: {الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
كما نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أهمية اختيار الصاحب والرفيق، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((المرءُ على دين خليله؛ فلينظرْ أَحَدُكُم من يُخَالِل))[7].
ويقول أيضا: ((مَثَلُ الْجَلِيسِ الصالح والجليس السَّوء كحامل المسك وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فحاملُ المسك إما أن يُحْذِيَكَ، وإما أن تَبْتَاعَ منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيِّبة، وَنَافِخُ الْكِيرِ إما أن يُحرِق ثيابَك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة))[8].
وفيما رواه ابن عساكر: ((إيَّاكَ وَقَرِينَ السُّوء؛ فإنك به تُعْرَف))[9].
وكذلك أدرك السلفُ الصالح دورَ الرفاق والأصدقاء وتأثيرَهم في الفرد؛ فيقول الإمام علي -كرم الله وجهه-: "إياك ومخالطةَ السَّفِلة؛ فإن السَّفِلة لا تؤدي إلى خير"[10].
ويقول أيضا: "الأصدقاء نفس واحدة في جُسُومٍ متفرقة"[11].
وينصح ابنُ سينا في تربية الصغير أن يكون معه في مكتبه "صِبْيةٌ حَسَنَةٌ آدابُهم، مَرْضِيَّةٌ عاداتُهم؛ لأن الصبيَّ عن الصبيِّ أَلْقَن، وهو عنه آخذ، وبه آنس"[12].
وعلى الآباء والمربين أن يبادروا بتوجيه الصغار إلى أهمية الصحبة الصالحة، وأن يُرَغِّبوهُم في مرافقة ذوي الأخلاق الحسنة، وأن يُنَفِّرُوهُم من رُفقَةِ ذَوِي النُّفوس الخبيثة والأخلاق الذميمة منذ الصِّغَر، ولا يهملوا ذلك إلى مراحلَ تالية؛ لأنه مع تَقَدُّم العمر بالطفل يَكره تدخلَ الآباء في اختيار رفاقه وأصدقائِهِ، ويَرْغَبُ في أن ينفرد هو باختياره؛ ولا سيما في مرحلة المراهقة، إذ يختار المُرَاهِق من يريد من أصدقائه بنفسه، ويرفضُ أيَّ تَدَخُّل من والديه في ذلك الموضوع، بخلاف الطفل، الذي لا يمانعُ مطلقاً في أن يختار له الوالدان بعضَ الأصدقاء، ومعنى ذلك أن موقف الطفل من والديه في اختيار الأصدقاء إنما هو موقفٌ سلبيٌّ[13].
فيجب على الآباء والمربين استغلالُ هذا الموقف السلبي من جهة الطفل، بتعويده اختيارَ الصديق الصالح؛ فإنه إن اعتاد ذلك في صغره شب عليه ثم استمر كذلك في باقي مراحل حياته.
وأما المراهقُ فإن دوره في اختيار الأصدقاء دورٌ إيجابيٌّ؛ ومن ثم فكثيراً ما يظهر على وجه المراهق مظاهرُ عدم الرضا عن الأسلوب الذي تتبعه الأسرة في التوجيه أو الأمر بعدم مصادقة شخص أو أشخاص معروفين بالسلوك الشاذ؛ فهو يرفض التَّدَخُّل بالأسلوب المباشر، على الرغم من قناعته بصحة وسلامة رأي الأسرة؛ لأنه يعُدُّ هذا التدخل إضعافا لشخصيته، وهذا يتطلب من المربين إذا أرادوا التدخل في اختيار أصدقاء المراهق أن يكون تدخلُهم بأسلوب غير مباشر، بأن يناقش الأب مثلاً مع ابنه قضايا الأخلاق والعلاقات الاجتماعية مناقشةً موضوعية، وأن يتحدث خلالَها عن الصفات التي يجبُ أن تتوافر في الأصدقاء، ويعطي فرصة للمراهق في الحديث الحر عن الصفات المُثْلَى للصديق[14].
ولا شك أن هذا المراهق إذا كان قد تَعَوَّد منذ الصغر اختيارَ الصديق الصالح، ونشأ على البعد عن أصدقاء السوء؛ فإن هذا سيسهل كثيراً على الأب مهمةَ توجيهه إلى ما يريد بالطريق غير المباشر.
رد مع اقتباس
  #72  
قديم 17-08-2010, 07:15 AM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

التربية ورقع الخروق


التربية ذلك الثوب الفضفاض، الذي ضم بين عطفيه على مر العصور؛ قدرًا هائلاً من القيم والأفكار، والمبادئ والشخصيات، والكتب والتعريفات، وما أن تمسك بطرف الثوب وتهزه هزًا عنيفًا حتى ترى أكوامًا هائلة تتهاوى، وأصنامًا مقدسة تتطاير، فهو قصر مشيد كثر على أعتابه المتمسحون، وقلعة شامخة غير حصينة فتحت أبوابها للمدّعين، فتبصر في مضمار التربية جموعًا حاشدة، وأرقامًا مذهلة، وما أن تمعن النظر وترجعه كرتين، إلا وينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير.
ما أنا ممن يدعي الوصول أو يبتغي الكمال، أو يصطاد في الماء العكر، فكل ما أطمح إليه في هذا المقال؛ لفت الأنظار، وتنبيه الممارسين "في المحاضن التربوية المتنوعة في الطرق والأساليب، والمتحدة في الإسناد إلى المنهج الرباني" من خلال عدة نقاط:
وجزء منها تبلور نتيجة المرحلة العصيبة التي نعيشها، والتي من أبرز ملامحها التغير والتغيير الذي أدار رحاه على المجتمع بأسره، وأحدث هزات عنيفة، وخنادق عميقة، ومفاهيم خاطئة تستعد للرحيل، ولم يستطع كثير من العاملين في حقل التربية في بعض الأوساط استيعاب التغير، فجاءت ممارساتهم وأطروحاتهم ضعيفة مهلهلة؛ لأنها في الغالب خليط بين عجز عن فهم الواقع، وتمسّك مرير برؤى الماضي.
إن إحياء نوازع النفس الخيرة ورفع مستوى الذوق الذاتي في نفوس المتلقين، ومخاطبة عقولهم، وامتلاك أدوات الحوار معهم، وفتح بابه، بل ودفع الناشئة إليه دفعًا، من أخص خصائص النجاح في واقعنا المعيش، فقد أضحت المراقبة التقليدية المباشرة من مخلفات عصر مضى.. لم يعد يُحتمل مع الانفتاح الإعلامي الهائل، والتواصل الكوني المثير؛ تثبيت أبصار المتلقين على مناطق محددة، وعلى شخصيات معينة، ومنعهم من التلفّت ذات اليمين وذات الشمال، ولئن كان المتلقي العادي في السابق يسمع طرحًا واحدًا فقط، أو على الأدق لا يشدّ ناظريه إلا طرح واحد؛ هو الطرح السائد في المجتمع، وهو الذي يحظى بالتأييد من كافة شرائحه، ويُسمع صداه في كل جهاته، أصبح اليوم يسمع أصواتًا كثيرة، أصداؤها متقاربة، ويبصر أطيافًا عديدة، ألوانها متنافسة، ولكل منها مشاريعه ورؤاه وأساليبه ورواده.
(إن مجرد الإيمان والاعتراف بتعدد المؤثرات في المجتمع، سيصنع منا بشكل مذهل مربين ذوي كفاءات راقية، وقدرات عالية، وطروحات مناسبة ومنسابة في عقول الناشئة).
إن من يحمل بين جنبيه ديناً سماويًا، ويقتفي في خطاه منهجًا نبويًا، فقد ضمن لمشروعه السيرورة والانتشار، والغلبة والتمكن، فمن السذاجة أن يفرض على نفسه سياجًا يمنع ويحد من اتساعه، فلا يدفعكم الخوف على الدين؛ إلى إقصائه ووضعه في دهاليز مغلقة، ولا يدفعكم الشعور بالمسؤولية الزائدة عن رؤاكم وتصوراتكم البشرية؛ إلى الانكفاء على الذات، والعزلة عن مجتمعكم، أنتم -شئتم أم أبيتم- جزء لا يتجزأ من هذا العالم المتفاعل، ورقم صعب يحسب لكم أعداؤكم ألف حساب، وخير هدية تقدمونها لهم هي التقزّم والانزواء؛ فلا تحرموا مجتمعاتكم من عطائكم، فتجعلوه محصورًا في فئة معينة، وأماكن محددة، بل مدوا الجسور مع كافة شرائح المجتمع، بأطيافه المتعددة والمتفاوتة، وللتفاعل خاصية المراجعة والتحديث، ولئن لم تتفاعلوا بشروطكم ورؤاكم لربما اضطررتم في يوم ما أن تلبسوا عباءة لا ترتضونها، وتتبنوا رؤى لا تقبلونها.
المرحلة المعيشة ما هي إلا إرهاص لمرحلة قادمة مثيرة، ونحن لا نرى إلا قمة جبل الجليد كما يُقال، فمن الكياسة والنجابة تحديث عدد من المفاهيم، ومنها مفهوم الأصدقاء والأعداء، وتحديدهم على نحو واضح، وتكثيف الأول وتقليص الثاني، فلسنا بحاجة إلى كسب عداوات جديدة، ولسنا بحاجة إلى أن نلتفت يمينًا وشمالاً، ونوزع البطاقات الحمراء مع كل من نختلف معه، في رأي أو مسألة صغيرة كانت أو كبيرة، وأذكر مقولة جميلة قرأتها قبل سنوات: "إن الإيمان الحق يدعوك أن تفرح كلما رأيت من يضع لبنة في البناء أيا كان انتماؤه".
لقد أُنهكنا بصراعاتنا مع أنفسنا، وتألمنا من الضرب بسوطنا، وقوضنا بنياننا بأيدينا، وإن من الخيانة لأنفسنا أن نقحم الناشئة ومن تحت أيدينا إلى حمأة الصراع، وبؤر التوتر، وأن تُحوّل بعض التجمعات من محاضن تُبنى فيها الشخصية المسلمة، إلى مطاحن تخرج خبراء التصنيف والردود، مما يساهم في حرق المواهب واستنـزافها فيما لا طائل من ورائه.
فلنفتح صفحة جديدة بيضاء مسالمة مع إخواننا تنعكس بشكل واضح على خطابنا وبرامجنا، وترسم البسمة على شفاه متلقينا، ونفهم ناشئتنا أننا نستطيع أن نتعايش مع إخواننا المختلفين معنا في بعض الجزئيات، ونرسم نحن وإياهم خطوطاً متوازية كلها تصل ولا تتقاطع.
كما أنه ليس بعالم من يعتقد أنه حصّل العلم كله، فإنه كذلك ليس بناضج من اعتقد أنه وصل إلى قمة النضج، فالإنسان مادام حيًّا فهو مع الوقت يكتسب خبرات جديدة وحقائق غائبة، فمن الذكاء جعل رؤانا وتصوراتنا مفتوحة وقابلة للأخذ والرد، والحذف والإضافة، ويُروى في هذا الصدد أن الإمام مالك كان يقول بعد أن يفتي: "إن نظن إلا ظنًا وما نحن بمستيقنين"، وقد كان الإمام الشافعي يدرك هذا فيقول: "مذهبي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب"، فلنجعل لأنفسنا خطوطًا للرجعة، حتى لا تصبح أقوالنا ومواقفنا كلاليب تمسك بخناقنا عن المراجعة والتراجع.
ومن الحكمة أن نقلص مقدار المنطقة الحمراء التي بالغنا في بعض المراحل في وضع حدودها، فكل شيء قابل للنقاش والتعديل، مادام لا يتعارض مع الأصلين، الكتاب والسنة؛ لنحاول أن ننفي من لغتنا ومن خطابنا الأحكام القطعية، والنتائج المعلبة الجاهزة، والثنائيات الحادّة.
فبالإقناع والحوار ومقابلة الحجة، تتلاقح الأفكار وتنبت الأشجار عميقة الجذور، متأصلة في باطن الأرض، وفي هذا الأسلوب وصفة سحرية من شأنها أن تقلل من سيناريوهات الإقدام فترة ثم الإحجام والعطاء ثم التوقف.
أيها المربون:
الحديث معكم ذو شجون، وحسبي منه ما يلفت أنظاركم، ويسترعي انتباهكم ويساهم في تثبيت مسيرتكم، والله من وراء القصد.
رد مع اقتباس
  #73  
قديم 17-08-2010, 11:08 AM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

المحاضن التربوية.. ضرورة لا غنى عنها


بالرغم من أهمية التربية الذاتية إلى أقصى مدى الأهمية، إلا أنها -وحدها- لا تُنشئ كياناً سوياً للإنسان، ولا تصقل شخصيته وتبرز مواهبه، لأن هناك جوانب وقدرات ومواهب في النفس البشرية، لا تنضج ولا تبرز ولا تثبت إلا في داخل جماعة صالحة.
كما أن هذه الجماعة ضرورة لعلاج معظم السلبيات التربوية التي تبدو وتظهر على كثير من شباب الإسلام بفعل إفراز أوضاع بعض المجتمعات الإسلامية وبيئتها الثقافية والإعلامية والاجتماعية.. ، ومعالجة تلك السلبيات تتطلب التربية وسط جماعة صالحة.
وهذه الجماعة ينبغي أن تكون واعية جادة قوية تُعنى بمعالي الأمور، ولا تبدد طاقات الشباب وتستهلك قدراتهم وهممهم في أنشطة وفعاليات ليس لها كبير فائدة، وقد يُذهب المداومة عليها حلاوة الإيمان ويضعف جذوته في نفوسهم.
وهذه البيئة الصالحة، ينبغي أن يكون من أهم أهدافها، تقويم ما قد يكون في الشخص من انحراف، وتثبيت ما تجد فيه من استقامة، وتشجيعه إذا فتر، والوقوف معه إذا ضعف، كي لا يكون عرضة للانحراف عندما تضغط الظروف والفتن على المشاعر والوجدان، فالإنسان قليل بنفسه، كثير بإخوانه.
ومن هنا كانت الحاجة إلى وجود جماعة أو مؤسسة تربوية، يتربى فيها المسلم تربية جادة، إذ لا يمكن للإنسان أن يتربى تربية حقيقية متكاملة إلا في وجود جماعة صالحة.
ولأجل هذه المعاني وغيرها، فقد اتخذ -صلى الله عليه وسلم- من دار الأرقم بن أبي الأرقم مكاناً يجتمع فيه مع من آمن من أصحابه رضي الله عنهم، لتكون المحضن التربوي لبناء النفس وتربيتها، ثم انطلاقها في المجتمع تُصلح وتبلغ دين الله تعالى..
رد مع اقتباس
  #74  
قديم 17-08-2010, 11:10 AM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

دور الأســرة


إن للأسرة دوراً كبيراً في العناية بالطالب، ومتابعته وحثه على حفظ كتاب الله تعالى، والأسرة تضطلع بالجزء الأكبر في ذلك، وكثير من الناس يلقي اللوم في حالة تأخر الطالب أو إهماله أو وجود انحراف في سلوكه على مدرِّسه، وفي الحقيقة أن المعلم قد يكون احتكاكه بطالبه في وقت يسير، بخلاف الأسرة التي يقضي الطالب جل وقته فيها.
وكم سمعنا عن آباء يأتون بأبنائهم إلى مدارس التحفيظ، ويريد من معلمه أن يجعل منه معجزة في الحفظ والأدب، ثم لا يسأل عن ابنه ولا يعلم شيئاً عن مستواه الدراسي، بل هو مشغول بعمله وتجارته فإذا أخفق الطالب ألقى اللوم على معلمه ومربيه.
إن دور الأسرة أساسي وليس تكميلي فقد قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ}(72) سورة الأحزاب.وقد جاء ضمن معاني الأمانة؛ أمانة الأهل والأولاد، فيلزم الولي أن يأمر أهله وأولاده بالصلاة، ويحفظهم من المحارم واللهو واللعب،لأنه مؤتمن ومسؤول عما استرعاه الله.

وإِنَّ التأكيد على أهمية دور الأسرة في رعاية الأولاد، من أَجَلِّ الأمور،التي يجب أن تتضافر جهود الآباء والأمهات، وأهل العلم، والدعاة، والتربويين، والإعلاميين... للمحافظة على بناء الأسرة الصالحة في المجتمع، فهي أمانة أمام الله-تعالى- نحن مسؤولون عنها، فالمرء يُجزى على تأدية الحقوق المتعلقة بأسرته، إِنْ خيراً فخير وإلا غير ذلك، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (6) سورة التحريم.

ولقد فطر الله -عز وجل- الناس على حب أولادهم قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}(46) سورة الكهف، ويبذل الأبوان الغالي والنفيس من أجل تربية أبنائهم وتنشئتهم وتعليمهم، ومسؤولية الوالدين في ذلك كبيرة، فالأبناء أمانة في عنق والديهم، والتركيز على تربية المنزل أولاً، وتربية الأم بالذات في السنوات الأُوَل، فقلوبهم الطاهرة جواهر نفيسة خالية من كل نقش وصورة، وهم قابلون لكل ما ينقش عليها، فإن عُوِّدُوا الخير والمعروف نشأوا عليه، وسُعِدوا في الدنيا والآخرة، وشاركوا في ثواب والديهم، وإن عُوِّدُوا الشر والباطل، شقُوا وهلكُوا، وكان الوِزْرُ في رقبة والديهم، والوالي لهم1.

ويمكن القول بأن للأسرة دورًا كبيرًا في رعاية الأولاد - منذ ولادتهم - وفي تشكيل أخلاقهم وسلوكهم، وما أجمل مقولة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- "الصلاح من الله والأدب من الآباء". ومن يُحَلِّل شخصية صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله-، فإنه سيجد أن سر نجاحه وتميزه سببه التربية التي تلقاها في البيت. وما أجمل عبارة : " إن وراء كل رجل عظيم أبوين مربيين"، وكما يقول بعض أساتذة علم النفس : "أعطونا السنوات السبع الأولى للأبناء نعطيكم التشكيل الذي سيكون عليه الأبناء". وكما قيل: "الرجال لا يولدون بل يُصنعون". وكما عبر الشاعر:
وينشأُ ناشئُ الفتيانِ مِنا على ما كان عَوَّدَهُ أبُوهُ
وإهمال تربية الأبناء جريمة يترتب عليها أَوْخَم العواقب على حد قول الشاعر:
إهمالُ تربية البنين جريمةٌ عادت على الآباء بالنكبات

وهذه قصة تبين جانب الإهمال، فقد سرق رجل مالاً كثيرًا، وقُدّم للحد فطلب أمه، ولما جاءت دعاها ليقبلها، ثم عضها عضة شديدة، وقيل له ما حملك على ما صنعت؟ قال: سرقت بيضة وأنا صغير، فشجعتني وأقرتني على الجريمة حتى أفضت بي إلى ما أنا عليه الآن2.

إن التوجيه للأولاد يبدأُ في نطاقِ الأسرةِ أولاً، ثم المسجد والمدرسة والمجتمع . فالأسرةُ هي التي تُكْسِبُ الطفلَ قِيَمَهُ فَيَعْرِفُ الَحقَ والبَاطلَ، والخيرَ والشرَ، وَهو يَتلَّقَى هذه القيمِ دونَ مناقشةٍ في سِنيهِ الأولى، حيث تتحددُ عناصرُ شخصيتِهِ، وتتميزُ ملامحُ هويتِهِ على سلوكه وأخلاقه؛ لذلك فإن مسؤولية عائلَ الأسرةِ في تعليمِ أهلِهِ وأولاده القيم الرفيعة، والأخلاق الحسنة، وحثهم على تعلم القرآن، وليس التركيز فقط على السعيِ من أجل الرزق والطعام والشراب واللباس..، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا)3، وكان يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه -رضوان الله عليهم- ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ)4. يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فمن أهملَ تعليمَ ولدِهِ ما ينفعه، وَتَرَكَهَ سُدى، فقد أَساءَ إليه غايةَ الإساءة، وأكثرُ الأولادِ إِنما جاء فسادُهُم من قِبَلِ الآباءِ وإهمالِهِم لهم، وتركِ تعليمِهِم فرائضَ الدينِ وَسُنَنَه، فأضاعوها صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسِهِم ولم ينفعوا آباءَهُم كِبَارا)5.

وقصة الرجل مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، الذي جاء يشتكي عقوق ابنه إلى أمير المؤمنين، فطلب عمر: أن يلقى ابنه، فسأل الابن عن عقوقه لوالده، فقال: إن أبي سماني جُعُلاً، ولم يعلمني آية واحدة..؛ فقال عمر للرجل: لقد عققت ابنك قبل أن يعقك6.
إذن نخلص من هذا أن على الأسرة مسؤولية كبيرة تجاه أبنائها، وينبغي أن يتضافر دور الأسرة مع دور المدرسة والمعلم، وأن لا يكون أحدهما بمعزل عن الآخر، فكل يقوم بدوره وبذلك تتآزر الوسائل جميعها في تنشئة الطالب وتربيته، والارتقاء به في أعلى مراتب التفوق والنجاح.
رد مع اقتباس
  #75  
قديم 17-08-2010, 11:12 AM
عمروعبده عمروعبده غير متواجد حالياً
مدرس لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 4,766
معدل تقييم المستوى: 21
عمروعبده is on a distinguished road
افتراضي

أين دور الأسرة؟


الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.. أما بعد:
فإن حديثنا في هذا الموضوع سيكون: عن دور الأسرة في تربية الأبناء التربية الصالحة، ليكون الطفل والشاب محافظاً على دينه وأخلاقه، والأسرة بهذا تعين المدرسين في المدارس والمحفظين في دور القرآن الكريم على التربية الشاملة.. فالأسرة تعتبر اللبنة الأولى في كيان المجتمع، وهي الأساس المتين الذي يقوم عليه هذا الكيان، فبصلاح هذا الأساس يصلح البناء، ومنها يكتسب علومه الأولى ومعارفه وخبراته وأخلاقه، من أبيه وأمه وإخوانه، وبقية أفراد أسرته.
إن مسؤولية تربية الأبناء تقع على الوالدين في المرتبة الأولى، ونعني بالتربية معناها الشامل ولا تعني توفير الطعام، والشراب والكساء والعلاج وغيرها من أمور الدنيا، بل تشمل كذلك ما يصلح الإنسان ويسعده من غرس القيم والفضائل الكريمة والآداب والأخلاقيات والعادات الاجتماعية التي تدعم حياة الفرد وتحثه على أداء دوره في الحياة، وإشعاره بمسئوليته تجاه مجتمعه ووطنه، وتجعله مسلماً صالحاً في المجتمع، تبني فيه قيماً عظيمة وأخلاقاً سامية مثل: الصدق والمحبة والتعاون والإخلاص وإتقان العمل.
لقد جعل الله -عز وجل- الأبناء من الأمانة، كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} (72) سورة الأحزاب، فمن ضمن معاني الأمانة؛ أمانة الأهل والأولاد، فيلزم الولي أن يأمر أهله وأولاده بالصلاة، ويحفظهم من المحارم واللهو الباطل، لأنه مؤتمن ومسؤول عما استرعاه الله. والله -عز وجل- قد فطر الناس على حب أولادهم قال تعالى: {المالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدنيا} (46 الكهف)، ومسؤولية الوالدين في ذلك كبيرة، فالأبناء أمانة في عنق والديهم، وينبغي التركيز على تربية المنزل أولاً، وتربية الأم بالذات في السنوات الأُوَل فقلوبهم الطاهرة جواهر نفيسة خالية من كل نقش وصورة، وهم قابلون لكل ما ينقش عليها، فإن عُوِّدُوا الخير والمعروف نشأوا عليه، وسُعِدوا في الدنيا والآخرة، وشاركوا في ثواب والديهم، وإن عُوِّدُوا الشر والباطل، شقُوا وهلكُوا، وكان الوِزْرُ في رقبة والديهم والوالي لهم. وما أجمل مقولة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "الصلاح من الله والأدب من الآباء" وما أجمل عبارة: "إن وراء كل رجل عظيم أبوين مربيين" وكما يقول بعض أساتذة علم النفس: "أعطونا السنوات السبع الأولى للأبناء نعطيكم التشكيل الذي سيكون عليه الأبناء" وكما قيل: "الرجال لا يولدون بل يُصنعون". وكما عبر الشاعر:
وينشأُ ناشئُ الفتيانِ مِنا على ما كان عَوَّدَهُ أبُوهُ
وإهمال تربية الأبناء جريمة يترتب عليها أَوْخَم العواقب كما قال الشاعر:
إهمالُ تربية البنين جريمةٌ عادت على الآباء بالنكباتِ
ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال: يا أبت إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً، فأضعتك شيخاً"1 ونذكر قصة تدل على إهمال التربية بل والقدوة السيئة: سرق رجل مالاً كثيراً، وقُدّم للحد فطلب أمه، ولما جاءت دعاها ليقبلها، ثم عضها عضة شديدة، وقيل له ما حملك على ما صنعت؟ قال: سرقت بيضة وأنا صغير، فشجعتني وأقرتني على الجريمة حتى أفضت بي إلى ما أنا عليه الآن"2. وعلى الأسرة توعية الأبناء بما يحيط بهم من أخطار، وتصحيح ما لديهم من مفاهيم خاطئة، لأن وقوع الشباب في مشاكل وانحرافات هو نتيجة لإهمال الأسرة لدورها في تربية الأبناء، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (6) سورة التحريم، فالتوعية هي الوسيلة المهمة في بناء شخصية الطفل كفرد وكشخصية اجتماعية، وبث فيهم روح الألفة والمحبة، وتعويدهم على النظام والتعاون. وتربية الأبناء من قبل الأسرة لا بد أن تكون تربية مستمرة، ولا يظن كثير من الآباء والأمهات أن دورهم في تربية أولادهم ينتهي عند بلوغ الولد أو البنت سن معين فيترك ظناً أن أولادهم كبروا في السن ولا يحتاجون إلى توجيه ومتابعة، وهذا خلل في التربية ينتج عنه مشاكل لا تحمد عقباها، فمسؤولية الأبوين لا تنتهي مهما كبر الأبناء، فهم في حاجة دائماً إلى التوجيه والنصح والإرشاد، وبحاجة لخبرات وتجارب كبار السن. فمن أبرز الجوانب التي يجب على الأسرة أن توجه أبناءها إليها هي وسائل الإعلام فهي سلاح ذو حدين، وخطورتها في إفساد الجيل شديدة، ومما يدل على خطورة الغزو الفكري والإعلامي على الأبناء قول شمعون بيريز -رئيس وزراء إسرائيل السابق-: "لسنا نحن الذين سنغير العالم العربي، ولكنه ذلك الطبق الصغير الذي يرفعونه على أسطح منازلهم!!" وما أكثر الأطباق الفضائية على بيوت المسلمين! وليتهم يتعلمون منها ما ينفع، لكن للأسف فقد أصبحت الأنظار تتجه إلى كل ما يحط من قدر الإنسان المخلوق المكرم عند الله، إلا ما ندر ممن وجه ذلك التوجيه السليم.
فلا بد من تقديم البديل النافع للأسرة من الوسائل المسموعة أو المرئية أو المكتوبة، وإبعادهم عن رفاق السوء، وهذه النقطة في غاية الأهمية، فلا يمكن أن تكتمل تربية الأسرة إذا كان لأولادهم رفاق سوء يهدمون ما بناه الوالدان، فمعظم الجرائم، وتعاطي المخدرات، والانحراف الفكري يقف خلفه رفاق السوء. ومن ذلك تربية الأولاد على أهمية المحافظة على أوقاتهم، وصرفها فيما يعود عليهم بالنفع، وكذلك شغل أوقاتهم وتوجيه طاقاتهم عن طريق البرامج العلمية النافعة، والدورات التدريبية المفيدة، و ممارسة الرياضة البدنية. وقيام الآباء والأمهات بمتابعة سير أبنائهم الدراسي من فترة لأخرى، فالزيارات المستمرة للمدرسة تعطي ولي الأمر تصوراً واضحاً عن ابنه في المدرسة، ليس فقط فيما يتعلق بوضعه الدراسي، ولكن أيضاً التعرف على سلوكياته ونشاطاته داخل المدرسة، مما يتيح له من خلال التعاون مع المدرسة تعزيز السلوكيات الإيجابية، والتصدي لكل ما يمكن أن يعود بالضرر على الفرد أو مجتمعه".
ولعل الدور الأكبر في هذه المهمة يقع على الأب، وبالأخص عندما يكون متعلماً ولديه دراية بكثير من المواضيع والأمـور التي تهم أبناءه وأسرته فيجب أن يكون الموجه الأول والقدوة المثلى للأبناء وألا يلقي بالعبء على كاهل ألام من خلال معرفة من هم أصدقاء الأبناء ومع من يجتمعون خارج المنزل ومن أي النوعيات هم ومدى مناسبتهم للأبناء من حيث السن والمستوى الدراسي والفكري والاقتصادي والقرب المكاني والالتزام الأخلاقي، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع)4 ولا بد أن يكون الأب متمتعاً بثقافة تربوية كافية والتخلق بها لتوجيه الأولاد توجيهاً سليماً، وأن يقف على كتب الحديث والسيرة ويقتبس من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأساليبه في تربية أولاده، والتعرف على خصائص نمو كل مرحلة عمرية يمر بها الأولاد، ومطالب وحاجات كل مرحلة، وأن يسلك الأبوان في تربية أولادهما مسلك الاعتدال والوسط".
والواقع أن تربية الأبناء ليس بالأمر السهل، بل هي مسؤولية كبيرة مشتركة بين الأسرة ومدارس التحفيظ والمدارس النظامية والمحاضن التربوية المختلفة، ويتطلب الأمر الكثير من الجهد والتخطيط وتحديد الأهداف، ومعرفة الوسائل والطرق اللازمة للحصول على تلك الأهداف في تكوينِ شخصيةِ الأبناء، وتوجيهِ سلوكِهمِ، وإعدادهم للمستقبل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 05:42 PM.