#46
|
|||
|
|||
حديث المركبة \" أهداف وتوجيهات وأفكار عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الفضل بن عباس رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجهه من خلفه، وجعل الفتى يلاحظ إليهن، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ابن أخي، إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه، غفر له" [رواه أحمد]. مقدمة: في زحمة الأحداث المتتابعة والاستهداف الواضح لفئة الشباب من أقوام نذروا أنفسهم لإضلالهم وتنحيتهم عن طريق الهداية وإقحامهم في زوبعة الشهوات وجحيم الشبهات، وقفت محاضن تربوية برجال صادقين، يصدون الكيد ويفندون الأخطاء من خلال برامج تربوية واعية ومتواكبة مع تطلعات الشاب وطموحاته، ابتداءً بترسيخ العقيدة ومروراً بتهيئته لأن يعيش شاباً صالحاً ينفع أمته ومجتمعه فانتهاء بتعليمه مهارات الحياة التي يعيشها، وفي ظل ذلك كله يتذكر قول حبيبه - صلى الله عليه وسلم -: "الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم". وعندما نتأمل وبعمق في المؤثرات الإيجابية التي تلقاها الطالب من بداية توجهه إلى طريق الاستقامة نجد أن المحاضن التربوية كان لها الحظ الأوفر من الإصلاح والتنشئة على الاقتداء بهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتربية على الأخلاق القويمة. ذلك أن هذه المحاضن تتسم بكثرة المجالسة والمخالطة الذي كان له أكبر الأثر في التأثير غير المباشر على شخصية الطالب، مما يدفعه إلى الاقتداء بالمربي في أغلب تصرفاته وأقواله. ومما يؤسف ـ وإن كان قليلاً ـ أن بعض المربين ينسى أنه بتصرفاته الخاطئة سواء في البرامج العامة أو حتى في الأحاديث العفوية أو أثناء مرافقة الطالب له بسيارته، يسئ إلى المنظومة التربوية التي يعيش داخلها مما يشغل المربين الآخرين في تعديل الخطأ أو على الأقل تبرير الموقف! (لهذا الأمر وغيره يتبين لنا أهمية أن تكون برامجنا واضحة ومدروسة، لئلا يتضح لنا بعد فترة عوار ما نقوم به من زلات وهفوات يكون ضحيتها طالب تلقف كل ما جاءه على أنه الصواب الذي لا شك فيه). وما سنراه في هذه الوريقات البسيطة إنما هو نتاج خبرة إخوان لكم أحبوا أن يضيفوا على الحقل التربوي الأخضر وردة بيضاء تعطر المكان وتبعث الأمل من أجل أن يتخرج جيل يعرف واجباته وينفع أمته. ومحتوى هذه الوريقات يمثل "مقترحات عملية لبرنامج مرور المربين لطلابهم مدعوماً بضوابط وإرشادات وملاحظات" كبداية لنشجع أنفسنا على العمل المنظم المدروس الذي يعود على المحاضن بالنفع والفائدة. ومما ينبغي لنا دائماً في أعمالنا أن يكون لنا سند من سنة فعلها حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - أو خبرة نفذت في مكان ما لا تعارض منهجاً شرعياً ثابتاً، لتنال الأجر والمثوبة وتحظى بالقبول والتطبيق بين أوساط المربين المخلصين. ماذا نقصد ب"حديث المركبة"؟ هو البرنامج الذي يدار بين المربي والطلاب أثناء مرور المربي لهم بسيارته من منازلهم إلى المحضن وبالعكس. ويختلف وقت المرور من محضن لآخر. فالمكتبات يكون فيها المرور شبه يومي وذلك لكثرة البرامج المطروحة يومياً. أما الحلقات فيتركز المرور في الرحلات والبرامج البعيدة عن المسجد لأن أغلب الطلاب قريبون من المسجد، وقد يناسب هذا البرنامج كثيراً من الأسر في سفرهم أو زياراتهم. من القائد؟ يجب أن تتوافر في الشخص الذي يتعهد مجموعة من الطلاب عدة صفات: 1. أن يكون أميناً حريصاً مواظباً على الحضور. 2. أن يأمنه مشرف المحضن من النواحي الشرعية والأخلاقية والأمنية. 3. أن يكون لديه خلفية ولو بسيطة عن فن التعامل مع الآخرين سواء الطلاب أو أولياء أمورهم. 4. أن يكبر الطلاب الذين معه سناً وعلماً وفهماً. 5. أن يكون قادرا على قيادة السيارة بشكل جيد، متبعاً للأنظمة. أهداف المرور: 1. اختصار الوقت وضبط الحضور في وقت محدد للجميع. 2. طرح الموضوعات الخاصة والتي لا يناسب طرحها أمام المجموعة كاملة. 3. التأكيد على ما يطرح في الحلقة وتحقيق مبدأ الفروق الفردية. 4. التعرف على بيئة الطالب وتوطيد العلاقة مع ولي أمره. 5. تقوية الروابط الأخوية بين الطلاب أنفسهم. 6. متابعة المربي لنشاط الطالب في المحضن والمدرسة والمنزل. توجيهات تربوية لقائد المركبة: قضايا مهمة: 1. كن (وقفاً) لله، فعندما يكون من مهامك الإشراف على الطلاب ومرورهم. لماذا لا تستحضر النية الصادقة وتخلص هذا العمل لله؟ وتحتسب النفقة في السيارة، لتنال الأجر والمثوبة. 2. عندما تكون في محضن تربوي فلا يبتعد عن هاجسك بأن ما تعيشه مع الطلاب أثناء قيادتك للسيارة إنما هو جزء من النسيج التربوي الذي يتلقونه من المحضن كله، وهذا يعني أن المكوث في المركبة ليس للقيادة فقط وإنما هو إكمال لمشروع التربية والتزكية. وليكن شعارك على الدوام "أنا مربٍ، ولست بسائق". 3. لعل من مستلزمات العمل المنظم أن يكون هناك نوع من التريث والتنظيم مع مشرف المحضن في إيصال الطلاب إلى بيوتهم أو إلى أي برنامج آخر. 4. مما يجدر التنبيه عليه أن يهتم المربي بسيارته فيكون سمتها مطابقا لسمته الذي من المفترض أن يكون عليه، فالاعتدال في نظافتها وبمظهرها مطلوب. 5. أيها الكريم أنت لا تمثل نفسك فحسب وإنما تمثل شريحة المستقيمين كلهم أمام المجتمع، فاحرص على الظهور دائما بأبهى حلة من الأخلاق في تعاملك مع الآخرين. ولا نجد داعيا ل(السرعة الجنونية، قطع الإشارة، التشاجر و.....) 6. قد تواجه الطالب صعوبات من جهة ولي أمر الطالب من ناحية رفضه لذهاب ابنه لبرنامج أو رحلة، ومن هنا تكمن أهمية تقوية الأواصر والعلاقة مع أولياء الأمور والدخول معهم ومصارحتهم في أمر ابنهم حتى يثقوا بك ويكونوا عوناً لك. وحين تجد الأبواب مغلقة فلا تتردد في إخبار مشرف المحضن ليتخذ اللازم ويبصرك في الأمر. 7. قد يُظهر أحدهم اهتماماً بشريط قرآن أو محاضرة لديك أو حتى أحد الكتب الخاصة بك، فمن المناسب عند ذلك إهداء نسخة له. ولا شك أن ذلك يدل على اهتمامك به وتحسسك لمشاعره. ليكن في الحسبان: 1. مشاورة طلابك. 2. اعترف بخطئك إذا أخطأت. 3. مراعاة النفسيات (برنامج السيارة لا بد أن يكون أكثر مرونة من غيره). 4. الاتصاف (بحسن التعامل). 5. اكسب من حولك ولكن "برضا الله - سبحانه وتعالى-". 6. كن على مشورة بأخيك الأكبر منك سناً وخبرة عن أوضاع من معك إما بطرح مشاكل أو غير ذلك. 7. لا تتساهل بصغائر الأخطاء فمنها معظم العطب، ولكن عالجها بالحكمة والرفق. 8. التأني في التربية وعدم العجلة رأس مال الرابحين. 9. التعلق بالحق لا بالأفراد. 10. لا تستنسخ من طلابك نسخاً منك، فكل ميسر لما خلق له. 11. الهدية لها أثر كبير وملموس، فمن المناسب أن يكون لك بين وقت وآخر هدايا تهديها لإخوانك مهما صغرت ، ولتحرص أن تكون خاصة ومميزة عن غيرها. 12. احذر النقد اللاذع خصوصاً لمن هم في المرحلة الثانوية. 13. اجتنب المنة. قال - تعالى -: {ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}. أخطاء يقع فيها بعض قادة المركبات: 1. توجيه الأسئلة الدقيقة والتي تمس خصوصيات الطالب. 2. طلب الخدمة من الأهل في أمور شخصية. 3. عدم الاهتمام بالمواقف الطارئة والتعليق عليها. 4. عدم الإنكار لبعض المنكرات التي يسوغ لك إنكارها (الصلاة لأصحاب المحلات). 5. الذهاب لأي مكان دون ضابط. أو لأماكن يرتادها شرائح مختلفة. وعدم الذهاب لها فيه "تربية على التميز". 6. كثرة مرور الشاب خارج وقت البرامج. 7. عدم العدل في الاهتمام بالطلاب داخل السيارة. 8. إغفال الواقع الذي نعيشه (مآسي المسلمين وأخبارهم). 9. عدم إعطاء فرصة للطلاب للتحدث. 10. الروتين في البرنامج والاستمرار في نفس الطرح. 11. التشجيع المفرط للطلاب (الاتزان مطلوب). 12. الاهتمام في "الإخراج الفني" للوسائل الدعوية دون المضمون (الأناشيد، الكتب، اللوحات...) مقترحات عملية لتفعيل "حديث المركبة": يشتكي بعض المربين من عدم وجود أفكار بإمكانها أن تنعش هذا البرنامج فيصبح برنامجاً رتيباً ومملاً فيصاب الجميع بالجمود. ولكن المربي الناجح هو الذي لا تحده الحدود ولا تقف أمامه السدود في الابتكار والاستفادة من أي وسيلة بإمكانها أن تفيد طلابه وتنعش سيارته. ومن الأفكار والمقترحات: 1. الاستفادة من الشريط والكتيب الإسلاميين وذلك إما بالسماع والقراءة أو ترتيب برنامج بين المجموعة (مجموعة السيارة) ليطرح هذا البرنامج بشكل جميل ومفيد. 2. الزيارات فيها مجال واسع للاستفادة وتعليق الطلاب بالقراءة والاطلاع الدائم، فحبذا لو كان هناك زيارة بين الفينة والأخرى لأحد التسجيلات التي تخدمك من ناحية سعة المكان وجودة الإصدارات (أحد، التقوى) أو المكتبات الكبيرة (الرشد، العبيكان، دار الندوة، التدمرية...) 3. تفعيل الاستضافات الخاصة كزيارة شيخ فاضل أو طالب علم أو حضور درس لأحد المشائخ أو محاضرة مناسبة لهم، أو حتى زيارة مكتب الدعوة والتعاون معه وغيرها كثير. 4. انتقاء كتاب ويتم تجزئته بحيث يقرأ على مدار فصل دراسي أو على مدى مجموعة مذاكرة أو عطلة صيفية. وتبتكر طريقة لعرض الكتاب تكون مناسبة للجميع. 5. التعاون على القيام ببعض العبادات كالصلاة (الفجر. صلاة الجمعة) والصوم المستحب والتفطير في رمضان والاعتكاف وتتبع المحتاجين والفقراء. 6. إخراج فكرة دعوية عن طريق السيارة وتوزع على جميع طلاب المكتبة والحلقة. كمطوية أو مجلة صوتية أو درس قيم أو تلخيص شريط وغيرها الكثير. 7. ابتكار برنامج (منوع) وخفيف في السيارة ويكون له جدول واضح، وهذا من شأنه أن يشعل الهمم ويعين على المواظبة في الحضور. وعندما تطلق العنان لخيال طلابك الأحبة سيأتوا بما لا يخطر على البال، ولا تنس أهمية إشراكهم في تنفيذ وإعداد البرنامج حتى يكون دافعاً لهم للمشاركة الفاعلة وتقديمه بشكل جيد. وفيه أيضاً تعويد لهم على وضع الخطط والبرامج الذاتية لأنفسهم. (مع الأخذ بالاعتبار أن حديث المركبة يجب أن يكون أكثر مرونة وأريحية وعفوية من أي برنامج آخر، ولكن هذا المقترح هو من باب التغيير وكسر الروتين). 8. من الجميل أن تضع في الجيوب الخلفية للمرتبة بعض الكتب أو المجلات المناسبة. فقد تضطر يوما للإنشغال عن طلابك بمكالمة طويلة أو قضاء أمر في مكتبة أو محل فيكون هناك فرصة لأن يطلعوا عليها. 9. إليك أيها الأخ الفاضل باقة من الأفكار التي يمكن الاستفادة منها داخل المركبة: · برنامج التحدث باللغة العربية. · برنامج "نريد حلاً". · مناقشة قضية (داخل أو خارج الحلقة). · مشاغبات ذهنية (ألغاز عقلية). · الزيارات الهادفة (مغسلة الموتى - المقابر المستشفيات...) · الصيام والعبادات عموماً. · برنامج فنون التعامل (الوالدان الأطفال الزملاء المعلمين....) · استضافة في السيارة. · شعارات أسبوعية داخل السيارة. · يوم مفتوح. · ضيافة منزلية. · إهداءات. · قصص وخواطر. · سماع إذاعة القرآن الكريم. · اعرف فائدة ما تأكل "خضار أو فواكه مع التطبيق العملي". · تطبيق سنة مهجورة. · تراجم أعلام "سير أعلام النبلاء". · صحفي السيارة "حسن قطامش". · سلسة الطريق إلى الصواب (كيف تخسر صديقاً؟). · الدورات السماعية "أشرطة مهارية يتم سماعها في السيارة". · فائدة مدرسية "من المدرسة". · بطاقات الطوارئ "كل شخص يجعل معه بطاقة فيها فوائد يتم استخدامها عند حدوث أي خلل في البرنامج". · مواقف وعبر "آية وتعليق... ". · شفاء العي السؤال "فتاوى". · فوائد تخصصية "كل مشرف يحضر فائدة من تخصصه الذي يدرس فيه". · تأملات في المحيط الخارجي "تفكر في بعض آيات الله - تعالى -". · هكذا علمتني الحياة. · برنامج حول "الرجولة أو المروءة". · تطبيق حديث أبي بكر رضي الله عنه. (صوم ـ صلاة جنازة ـ صدقة ـ عيادة مريض) · جديد الساحة "كتب أشرطة أخبار... " · مراجعة درس علمي سابق. · رسائل من محب "رسائل تصدرها السيارة إلى المقصرين وغيرهم" · برنامج "كيف التزمت؟ ". · قرأت لكم سمعت لكم. · مسرحية كلامية هادفة. · "أجمل برنامج" كل طالب يطرح برنامجه ويتم اختيار الأفضل. وفي آخر المطاف نسأل الله - سبحانه وتعالى- أن يبارك في هذا الجهد البسيط، وتذكر أخي الكريم أنك متى ما صدقت مع الله في تربية هؤلاء الطلاب الذين بين يديك، فإن الله - سبحانه - سوف ييسر على يديك ما تقر به عينك من الخير لهم. وما كان من صواب فمن الله وحده، وماكان من خطأ فمن أنفسنا والشيطان.. والله أعلم وصلى الله على المربي الأول نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.ـ |
#47
|
|||
|
|||
مهبط الوحي
بسم الله الرحمن الرحيم مهبط الوحي ومصدر التأسي .. كلمات قليلة المباني ، كثيرة المعاني ، تنبئ عن أمور عظيمة . فبما أنها مهبط الوحي إذاً فتعظيمها من تعظيمه ، ومصدر التأسي .. منها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوتنا وقدوتنا ، فتعظيمها من تعظيمه . وهي كذلك مصدر تأسي القرى ، ولا عجب فهي أم القرى . وإضافة الوحي إلى مكة إضافة تشريف لها ، كما شُرِّفت بإضافتها إلى الله ،، ففيها بيته وهي مهبط وحيه . وعلى هذا فلابد من تدبر هذا الوحي الذي يشرف حامله به " أهل القرآن هم أهل الله وخاصته " لماذا ؟ لأنهم حاملوا وحيه . ويزداد هذا الشرف بقدر تدبر حامله له ، وعمله به ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهنّ )[1] . وقال الحسن البصري : ( نزل القرآن ليُتَدبَّر ويُعمل به ، فاتخذوا تلاوته عملا ) وذلك لاشك فيه ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ولِيتذكر أولواْ الألباب ) . ومن لا يتدبر أو يتذكر فليس من أولي الألباب ، بل هو من هاجري القرآن ، قال ابن كثير في قوله تعالى : ( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) قال : وترك تدبره وتفهمه من هجرانه . يقول ابن مسعود رضي الله عنه : ( إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع )[2] ، ويقول النووي رحمه الله ( ينبغي للقارئ أن يكون شأنه التدبر والخشوع والخضوع فهذا هو المقصود ، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب )[3] ، ويقول ابن تيمية رحمه الله : ( حاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن ) ، ( فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم ، وأنفع للقلب ، وأدعى لحصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن )[4] فليست كثرة القراءة ، ولا كثرة الحفظ هما المعيار والمقياس ! بل التدبر ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيم الليل كله بقوله تعالى : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) . وقد كان ذلك التدبر دأب أصحابه الأخيار فكان أحدهم إذا افتتح سورة لا يحب أن يختمها من حلاوة التدبر ولو طُعن بسهم وثانٍ وثالث ، . فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان أفضل الصحابة على الإطلاق مع وجود من هم أحفظ وأكثر تلاوة منه ولكن لسبقه عليهم في العلم بالله وبكتابه وتدبره له وعمله به . فكان إذا قرأ لا تسمع قراءته من بكائه رضي الله عنه . وهذا عمر رضي الله عنه يحفظ سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة . وما ذلك إلا ليتدبر القرآن . وعن عكرمة رحمه الله قال : جئت ابن عباس رضي الله عنهما وهو يبكي وإذا المصحف بين يديه في حجره فأعظمت أن أدنو منه ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست فقلت : ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداك ؟ فقال : هؤلاء الورقات ثم قرأ ابن عباس ( فلما نسوا ما ذُكِّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذابٍ بئيسٍ بما كانوا يفسقون )[5] . فحاجتنا جد ماسة إلى مثل هذا الجيل الفريد ، نريد جيلاً قرآنياً يعيد لنا هذه المُثُل الفريدة ، نحن والحمد لله لا نعدم الحفظة ولكن أين حفظة القرآن من أدب القرآن ؟؟ . لذا نهيب بأساتذتنا معلمي القرآن أن يعطوا تدبر القرآن وفهمه والتأثر به وأخلاق حملته أولوية قصوى ولو أدى ذلك إلى تأخر الطالب في الحفظ فترة من الزمن . والفرق واضح بين من يتربى على القرآن وبين غيره . ولنبدأ بأنفسنا فما المانع أن يتأثر المدرس بآية يقرؤها طالب خلال التسميع أو المراجعة ولها من الأثر ما لا يخفى . وما المانع[6] من تخصيص وقت لتعريف الطلاب بمعاني القرآن وعظمته ، أو التعليق على آية حال قراءة الطالب ، أو درس شهري في ذلك ، أو عمل مسابقات لتفسير بعض الآيات أو الأجزاء بين الطلاب ، أو استغلال المناسبات والنوازل والمواقف المؤثرة وربطها بما في القرآن ، أو عن طريق الحوار بين المعلم وطلابه ، أو بعد أن يختم الطالب القرآن ومن خلال المراجعة يُلزم بمدارسة التفسير ، ،، فما المانع من هذا كله وأمثاله ؟!. كمال بن سيد اليماني |
#48
|
|||
|
|||
قرآن يمشي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد: إن الشريعة الإسلامية السمحاء أتت لتنمي في النفس البشرية الأخلاق الحسنة، والقيم الفاضلة؛ عبر المنهج الرباني الفريد الذي جاء به القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والناظر إلى سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يجد أنها حوت جميع مكارم الأخلاق التي تواطأ عليها فضلاء ونجباء البشر ونبلاؤهم، كيف لا وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - القائل: ((إنما بعثت لأتمم صالحي الأخلاق))1، وفي السلسلة الصحيحة ((إنما بعثت لأتمم مكارم (و في رواية صالح) الأخلاق))2. والمتأمل في أخلاقه - صلى الله عليه وآله وسلم - يجد فيه دماثة الأخلاق، وطيب التعامل، ولهذا جاء في وصفه أنه كان خلقه القرآن فعن قتادة عن زرارة أن سعد بن هشام بن عامر وحكيم بن أفلح دخلا على عائشة - رضي الله عنها - قال: فاستأذنا عليها فأذنت لنا، فدخلنا عليها، فقالت: أحكيم؟ فعرفته، فقال: نعم، فقالت: من معك؟ قال: سعد بن هشام، قالت: من هشام؟ قال: ابن عامر فترحمت عليه، وقالت خيراً، قال قتادة: وكان أصيب يوم أحد، فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قالت: فإن خلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن... الحديث.3 وهذا هو الخلق الذي تميز به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكان سمة بارزة له؛ لأن هذه الشهادة صادرة من زوجته - صلى الله عليه وآله وسلم - التي عاشت معه، وخبرت جميع جوانب حياته، والمهم هو: كيف نستطيع أن نوجد من أنفسنا، وأولادنا، ومن نعولهم من هذه صفته؟ وأن نحقق هذه الصفة النبوية واقعاً ملموساً في حياتنا؟ وكيف نجعل من هذه الصفة المحمدية ظاهرة منتشرة في أوساط مجتمعاتنا؟. وللجواب على هذه التساؤلات نسرد عدة نقاط: 1) أن نعلم أن هذه الصفة هي نتيجة للتربية على المنهج الرباني السليم وفق ما يريده الشرع الحنيف، ولو رجعنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا أن هذه الصفة تحققت في الرعيل الأول، فقد اهتم التابعون، وسلفنا الصالح بتربية النفس، ومحاولة زجرها، وردعها لما يشوه فطرتها السليمة التي فطرها الله عليها، والسعي لتحقيق القرآن واقعاً عملياً ملموساً، فقد "قال أبو عبد الرحمن السلمي - رحمه الله -: حدثنا من كانوا يقرئوننا قالوا: كنا نأخذ العشر آيات فلا نتجاوزها إلى غيرها حتى نعمل بما فيها، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً"4. 2) حفظ كتاب الله - عز وجل - حفظاً متقناً عن ظهر قلب، وهنا نأتي إلى بداية الطريق إلى الوصول إلى هذه الصفة النبوية، وعلى كل رب أسرة أن يسعى جاهداً إلى إيجاد الجيل الحافظ لكتاب الله - عز وجل - سواء من البنين أو من البنات، وتحبيب الحفظ لدى الناشئة، وتعليمهم الأحكام القرآنية التي تتضمنها الآيات الشريفة. 3) على رب الأسرة إيجاد الجو القرآني داخل المنزل من خلال توفير الإعلام الملتزم، والمصاحف، والكتب التي تهتم بهذا المجال، والتربية على حب الله - عز وجل -، وحب رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وحب كتاب الله - تبارك وتعالى -، والسعي لأن يكون هذا الجو هو السائد في البيت، وعدم السماح لما يزيل أو يعكر هذا الجو الروحاني، فإزالة الشوائب التي تعترض هذه المسيرة من إعلام، وثقافات مناقضة لهذه المسيرة هو أمر مهم جداً. 4) ربط الناشئة بالمسجد، وتنمية حب المساجد في النفوس لديهم. هذا بعض ما ينبغي على رب الأسرة فعله تجاه من يعولهم إذا أردنا أن ننشئ جيلاً قرآنياً، وعلى الجهات المختصة والمسؤولة عن حلقات تحفيظ القرآن أن تختار المدرس ذو الكفاءة، والمهارة الكبيرة؛ حيث يبقى الجانب الآخر والذي تقع عليه المسؤولية الكبيرة في إخراج هذا الجيل، وتحقيق هذه الصفة في الواقع؛ ألا وهو المدرِّس في حلقات التحفيظ، وعلى المدرس أن يعلم أن دوره كبير وهام جداً، فلا يقتصر على التدريس فقط بل عليه: 1) تربية الشباب على المنهج القرآني من خلال غرس المفاهيم، والأخلاق الإسلامية في نفوس الطلاب، وتنميتها لديهم لتكون من الأمور الجبلّية لديهم. 2) أن يعلم أنه في مقام القدوة للطالب، ومن خلال هذا يستطيع أن يربيه بالقدوة. 3) ترغيب الطلاب في حفظ القرآن الكريم، فيحث الطلاب على الحفظ، وتدعيم ذلك بالآيات والأحاديث التي فيها ذكر فضائل تلاوة القرآن وحفظه، وذكر الأجر المترتب عليه، وإيراد هدي السلف في الحفظ والتلاوة بأسلوب متميز رائع وجذاب؛ مما يشحذ الهمم، ويقوي العزائم. 4) احتواء الطالب داخل الحلقة، وإشعاره بأهميته وقيمته فيها مما يؤدي إلى أن الطالب يغلِّب جانب الحلقة في حياته ومعيشته، ويجعله يقدم الحلقة على كثير من مشاغله، والصوارف التي تصرفه، فلا يستطيع رفقاء السوء التأثير عليه، أو انتزاعه من حضن الحلقة؛ لأنها حصن قوي يحمي كل من ينادي إليه. 5) إقامة البرامج الثقافية: كالمسابقات القرآنية والثقافية، والبرامج الاجتماعية، وهي من أهم البرامج التي يمكن أن تقوم بها الحلقة من أجل نزع الروتين والملل من نفوس الطلاب، والترويح عنهم، وإدخال السرور على نفوسهم، وتوثيق أواصر الأخوة بين بعضهم البعض ومع معلمهم بالرحلات، والأنشطة الترفيهية المشجعة. 6) إكساب الطالب القيم الإيجابية النابعة من تعاليم الدين الإسلامي، والعمل على تكوين شخصيته المسلمة المتكاملة، وغرس الآداب التي تزيد أخلاق المسلم، وتكوين الشعور بالمحبة للفضائل والقيم الأخلاقية الحميدة من خلال توعية وتبصير الطلاب، ووقايتهم من الوقوع في بعض المشكلات والأخطاء. 7) الاهتمام بجميع الطلاب على حد سواء، مع مراعاة الفروق الفردية بينهم، وعدم التمييز بين الطالب المتميز والضعيف من ناحية التعامل، وفي نفس الوقت يعمل على تشجيع المتميزين، والسعي للتقدم بهم إلى الأمام، وإلى أفضل مستوى، وتشجيع الضعفاء، وتحفيزهم دون تأنيب أو تجريح، والسعي لتحسين المستوى لديهم. 8) إكساب الطلاب بعض المهارات العملية، وتطويرهم فيها، كتطويرهم في العلوم الحديثة مثل الحاسوب ونحوه من مجالات العلوم الحديثة. 9) السعي لمراجعة الدروس المدرسية للطالب، ومذاكرتها، وتقويتهم فيها، مما يساعد على زيادة الثقة في نفوس التلاميذ في المجال التعليمي، وترسيخ المعلومة في أذهان التلاميذ. 10) غرس حب العلم الشرعي في النفس، وحب الانتماء إلى قافلة طلبة العلم الشرعي، مع مراعاة التطوير الذاتي للطالب في العلوم الحديثة، والسعي للحصول على أعلى الشهادات والمؤهلات. 11) تفعيل التواصل المستمر مع الأسرة، وولي الأمر، وتعريفهم بالمستوى الذي وصل إليه الطالب، وإشراك الأسرة ممثلة في ولي الأمر في الأنشطة المقامة في الحلقة وخارجها؛ لإيجاد الداعم المعنوي للطالب، والهيبة في وقت واحد، وليزداد الطالب وولي أمره تفاعلاً ونشاطاً مما يكون كفيلاً لأن يستمر الطالب في الحلقة، وفي الحفظ، والتقدم إلى الأمام. 12) التجديد في أساليب المدرس مع الطالب، وعدم السير بهم، وبالحلقة بوتيرة واحدة، مما يسبب الملل عند الطالب، ونفرة الطالب من الحلقة، ويجعله يذهب إلى أماكن أخرى. 13) التركيز على قوة الأداء لدى الطالب بالنسبة للحفظ، والمراجعة، والتركيز على الكيف لا الكم، والتركيز على الأداء في التلاوة والأحكام، وتصحيح القراءة، وعدم التغافل عن الأخطاء التي يعتبرها البعض بسيطة، بل على العكس هي خطيرة. هذه بعض الأفكار التي نستطيع من خلالها ضبط الطالب، وترغيبه في التحفيظ، وضبط الحلقة، وتقديم الأفضل للسعي لإيجاد جيل قرءاني فريد يتمثل القرءان في جميع جوانب حياته العلمية، والعملية، وبهذا نستطيع أن نوجد قرآنا يمشي على الأرض، وشخصاً متصفاً بصفة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - "كان قرآن يمشي على الأرض". نسأل الله - عز وجل - أن يمكِّن لدينه في الأرض، وأن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين. |
#49
|
|||
|
|||
كيف ينامون في البرد أستاذتي
دخلت يوماً قاعتي بعد العصر والجو بارد جداً في تلك الساعة . أخذت أرتب الفصل ثم أشرف على الحضور والغياب وأرى البرد قد أخذ من طالباتي الكثير . حزنت عليهن وتمنيت لوأستطيع أن أقدم لهن شيئاً فكم أُسر لرؤيتهن وقد عدن من العلم الى العلم . وسيعودون إلى حل واجباتهم وكان يومهم كله خير . وأثناء التسميع قرأت الدرس الجديد وكان حديثنا عن الجنة وكيف يَتكئ أهلها فيها وينعمون . وتنعم وجوههم . وكيف أن أهل النار يحترقون أو يأتيهم من حر جهنم ما يشوي وجوههم وجلودهم . فقامت صغيرةوقالت عندي سؤال . كيف ينام أطفال فلسطين في البرد ؟ قلت لها : لم تسألين ؟ قالت لي : لأني الآن أعاني من البرد وتعبانه!! قلت لها :ولم تسالين عنهم ؟ قالت لي: لأني رأيتهم أمس وهم بلا منازل ولا مساكن . ثم قالت : ولا أمهات ياأستاذة رأيتهم بالأمس يقولون إن أمهاتهم ماتوا . ثم قالت : كيف يعيشون الآن ؟ وكيف يرجعون إلى منازلهم بعد المدرسة ؟ من يطبخ لهم الطعام ؟ ومن يرتب لهم الملابس والمنزل ؟ ثم سألت أخرى : لو كان إخوانه ماتوا من سيلعب معهم ؟ ومن سيضحك معهم ؟ ومن سيساعده في ترتيب البيت ؟. ثم سألت أخرى قائلة : طيب والمدرسة متى يذهبون إليها ؟ ومن وين راح يروح للمدرسة بعد ما تهدم بيته؟ سكت لتردف قائلة : أكيد الجنة فيها له كل شيء ألسنا قرأنا عن نعيم أهلها وأنهم مسرورين ووجوهم جميلة ؟. فأجابتها أخرى قائلة : يمكن يذهب مع أمه وإخوانه هناك في الجنة بدون برد ولاحر ولاخوف . ويجمعهم ربي أحسن ويفرحون من جديد. لم أستطع أن أوقف الحوار فلقد عُهد على تلك الطالبة ذات الخيال الواسع أن تسأل بأحلامها وخيالها . لكن مثل هذ الجواب أدهشني و لكن مثل هذ الموقف أوقفني فماذا عساي أن أقول ؟ أببركت القرآن تفتح عقل الطلفة لتحمل هم المسلم ؟ أم ببركة أهلها الصالحين نالت فقه الواقع وتعرفت على حال من حولها . أم أنها إشارة لنا نحن المسلمين أن الأمة ما زالت بخير فلولا أن أهلها عاشوا ألم المسلمين في فلسطين لما نقلته لنا تلك الطفلة . ولا أريد أن أنسى أننا كل يوم في مجالس علم تحفها الملائكة وتغشاها الرحمة وتتنزل فيها السكينة ومن دعا فيها استجاب الله له . فلنقل يارب الفرج منك .. |
#50
|
|||
|
|||
كيف نحقق الأهداف التربوية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده...أما بعد... فذكرنا فيما مضى مضمون الأهداف التربوية في الحلقات وفوائدها وهانحن نواصل حديثنا عن الأهداف التربوية وكيفية تحقيقها...فبعد وضع الهدف تأتي خطوات تحقيق هذا الهدف متسلسلة متعاقبة حتى يصل مبتغيه إلى الهدف المنشود فيجني ثماره ويخرج حصاده ، فإن تقاعس المتمني فقد خاب وخسر ولن يصل إلى أحلامه أبدا، لأنه آثر الخلود إلى أحضان الراحة والدعة والكسل فيفاجأ بقطار العمر قد مضى سريعا وولى من غير رجعة...أما المشمر فهنيئا له في سعيه فإن جد واجتهد سيصل لهدفه حتما مهما توالت عليه العقبات وصدرت منه الهفوات والزلات وحاد عن الطريق لأنه جاد في طلب محبوبه ولن يثنيه عن ذلك الهدف مثبط ولا متخاذل أو حاسد أو غيور ... بل يصل لهدفه يكل ثقة يمشي بخطوات جريئة حتى يحقق الأمل المنشود. ولكي نصل إلى الثمرة المرجوة ، ونستطيع أن نحقق أهدافنا التربوية في الحلقات القرآنية ، لا بد أن تتكاتف وتتظافر أربعة أطراف مهمة يسند بعضها بعضاً ، ويأخذ بعضها برقاب بعض: وهي كالآتي: (إدارة الحلقات ،المعلم ، الطالب ، ولي الأمر) أربعة أطراف لها بصماتها المؤثرة في إنجاح الدور التربوي للحلقة القرآنية، فلابد أن تسعى إدارة الحلقات أولاً إلى اختيار المعلم الفذ الناجح الذي يجمع بين الكم العلمي والحس التربوي، وأن يكون الإشراف على الحلقة متكاملاً من كل النواحي ، من الناحية الفنية والشكلية ، وأيضاً من الناحية التربوية والعلمية التي كثيراً ما تتجاهلها إدارة حلقات تحفيظ القرآن الكريم ، وأن تسعى الإدارة المختصة مع المعلم لإقامة منهجا تربويا متكاملا يختص بشؤون الدارسين في الحلقات القرآنية لمعرفة المدخل التربوي لكل مرحلة عمرية ، حتى تؤتي التربية مفعولها. وأما علاقة الإدارة مع المعلم فينبغي أن يراعى جانب التربية والكيف بالإضافة إلى الكم ، ومن الأهمية بمكان أن يكون من يتابع المعلم أعلى رتبة علمية وتربوية من المعلم ، فيكون قد عمل معلماً للقرآن الكريم مدة زمنية طويلة ، وله باع طويل في العمل في الحلقات القرآنية بحيث يعرف معاناة المعلمين واحتياجاتهم ومشاكل الحلقات وحلولها ، ويأتي بعد ذلك دور المعلم التربوي المباشر في علاقته مع الطالب (الطرف الثالث) بأن يسعى إلى غرس القيم القرآنية والمفاهيم التربوية، والعمل على تربيته تربية صادقة، يشعر فيها الطالب بأن معلم القرآن بمثابة أخ كبير وقدوة حسنة له ، يتابع أحواله برفق ولين ، ويسعى لمصلحته في كل حين. وأخيرا يأتي دور الطرف الرابع في إتمام المسيرة التربوية ، وهو (ولي الأمر) حيث يسعى ولي الأمر إلى إتمام علاقته مع جميع من سبق بدءاً من ابنه الذي استودعه في الحلقة القرآنية ، وأيضاً مع معلمه وإدارته. فيراقب ولي الأمر تطور ابنه التربوي ، ويسعى إلى تعزيز القيم والأخلاق الفاضلة التي تلقاها في الحلقة القرآنية ، حتى تتكامل الثمرة وتنضج. وينبغي أن تسعى إدارة التحفيظ والمعلم إلى التواصل المستمر مع ولي أمر الطالب لمناقشة حال الطالب وإطلاع ولي أمره على المستوى الذي وصل إليه. فحين تتكامل هذه الأطراف ، ويؤدي كل طرف دوره المنوط به فإنه أدعى لإنضاج الثمرة . وفي الختام: يجب على كل من حمل على عاتقه تعليم جيل قرآني صالح يتربى على المكارم وفضائل الأعمال أن لا يكتفي بوضع الهدف فقط دون السعي الجاد لتحقيقه ، فتصبح أهدافه سرابا فينتبه بعد مضي الزمن أنها قد تبخرت وتلاشت في وسط حطام يعتصره الألم والحزن والإخفاق فيرجع خائبا خاسرا... مثله كمثل الراقم على الماء فإن جهده يذهب هباء منثورا ولا يجني من تعبه إلا المشقة والنصب... |
#51
|
|||
|
|||
“عصا موسى” ليست معي ،،
نحن بحاجة إلى أن نلقن المتربين مبادئ علاقاتهم مع من يربيهم ، ماحدودها؟ ومامساراتها الصحيحة؟ وكيف يتعاملون معه على وجه لاتكون نتيجته إما إفراط وإما تفريط ، والحديث حول هذا يحتاج إلى تحرير بالغ لقلة الحديث عنه من جهة ولعدم إدراكـ أهميته من جهة أخرى ، ذلكـ أن كثيراً من المربين يعنيه أن يفهم ويتعلم مايخصه هو تجاه من يربيهم ولايعنيه أن يلقنهم مايخصهم تجاه هو . . كثير من المتربين لا يعي الحجم الطبيعي لعلاقته مع من يربيه، فمنهم من يقدمه على كل أحد حتى على والديه ، ومنهم من يبالغ في الجفاء فيتعامل معه كأداة ميكانيكية يأخذ منها العلوم والمعارف ويكتفي بهذا، ومنهم من يظن أنه المعلم الأول وصانع التربية الذي ليس له مثيل ورأيه هو الأفضل وهو الصواب، ومنهم من يظن أنه يمتلكـ الحلول السحرية لكل ومشكلة والاستيعاب الكامل لكل خلاف والأدلة القاطعة لكل مخالف . . وربما كان هذا الفهم الخاطئ نتيجة خطأ وقع فيه المتربي لعلة في تفكيره أو جهل فيه أو فراغ عاطفي لديه، أو كان ذلكـ بمحاولة من المربي لكي يضع حول نفسه قداسة وحرمة توجب له الطاعة والاحترام . أياً ما كان الأمر فالنتيجة لها أبعادها الخطرة ليس أعظمها التحول المفاجئ من المتربي عن هذه القناعة إلى مايضادها، ولن يقف ضرر هذه المشكلة على المتربي وحده بل الضرر على المربي أكبر وأبلغ . . إن على المتربي أن يتفهم قدر مربيه فلا يضعه في مقام أرفع من مقامه ثم يفاجأ فيما بعد أن قناعته ليست كما يظن فتنقلب الحال إلى الجفاء والبغض، فقد يكون المربي ماهراً في جانب من جوانب الحياة مخفقاً في آخر، ولايضيره أو ينقص من قدره أننا نصمه بالإخفاق بل هي طبيعة البشر لاينجو منها أحد، قد يكون ماهراً في رسم الهدف المستقبلي للمتربين ويوجههم نحوه التوجيه السليم لكنه يخفق في العلاقات الاجتماعية سواء كانت تخص المتربين أو غيرهم .. وأول خطوة في طريق إصلاح هذا الفهم الخاطئ أن ينادي المربي وبأعلى صوته: "عذراً . . فـ(عصا موسى) ليست معي" ،، المصدر / مدونة أبي سلمان الخالدي |
#52
|
|||
|
|||
التربية بالسلوك والحال قبل أن تكون بالوعظ والمقال
مع أن التربية تتناول المعارف والقيم والمهارات، فكثيراً ما يختصرها المربّون بعلوم يلقّنونها، ثم يختبرون بها تلاميذهم! ولا نريد هنا أن نحصر مفهوم "المربّي" بذلك الإنسان الذي كانت التربية مهنته، كالمعلّمين والمدرّسين في مختلف مراحل الدراسة من الحضانة والروضة حتى الدراسات الجامعية والعليا... فإن هناك مربّين آخرين لا يقلّ دور بعضهم في التربية عن دور المعلّمين. فالأمهات والآباء، ثم خطباء الجمعة والوعاظ، ثم الإعلاميّون في الصحافة والإذاعة والتلفاز... كل هؤلاء يسهمون في العملية التربوية، كلٌّ حسب موقعه. وكلمة "التلاميذ" كذلك لا تقتصر إذاً على أولئك الذين تحويهم غرفة الصف، وساحة المدرسة، بل إن أولادنا جميعاً تلاميذ في بيوتنا، ثم إننا وأبناؤنا تلاميذ أمام الخطباء والوعّاظ، وبدرجة ما، نحن كذلك تلاميذ أمام رجال الإعلام الذين يسوّقون الأخبار والتحليلات والتمثيليات... بما يتضمّن ذلك كله من توجيهات وقيم. و"الإنسان - التلميذ" كما يتأثر بكلام أستاذه (معلّمه وأبيه وشيخه...) يتأثر بسلوكه وهيئته وحاله... بل إن تأثره بـ(الحال)، كثيراً ما يفوق تأثره بالمقال. وأعظم المربين، على الإطلاق هم الرسل الكرام، عليهم الصلاة والسلام، لذلك جعلهم الله في درجات من الكمال يصلُحون بها أن يكونوا قدوات لأقوامهم، بل كانوا كذلك يؤكدون أنهم لا يبتغون أجراً على عملهم، إنما يطلبون الأجر من الله. وهذا التأكيد نفسه إظهار لعظيم التزامهم بما يدعون إليه. (( قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه )) سورة الممتحنة:4. ونبي الله شعيب يقول لقومه: (( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه. إنْ أريدُ إلا الإصلاح ما استطعت )) سورة هود:88. وجاء على ألسنة عدد من الأنبياء، في القرآن الكريم، قولهم لأقوامهم: (( وما أسألكم عليه من أجر. إن أجري إلا على رب العالمين )) سورة الشعراء:109، 127، 145، 164، 180. ولما كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم خاتَمَ النبيين، فقد كان بسَمْته وحاله ومسلكه وخشوعه وحكمته وشجاعته وصبره وحلمه...، أعظم أسوة لمن طلب الحق والصواب والترقي في معارج الكمال: (( لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ً)) سورة الأحزاب:21. ومن شأن الناس، أنهم إذا خالطوا الرجل العظيم عن قرب، كشفوا فيه بعض جوانب النقص والضعف التي تعتري الإنسان، فضعُفت هيبته ومكانته في نفوسهم... إلا رسول الله r، فقد كان مَن رآه بديهة هابَه، ومن خالطَه عِشرةً أحبّه، وكان أقربُ الناس إليه كخديجة وعائشة، وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأنس بن مالك وأبي هريرة... أكثرَهم حبّاً له وتعظيماً وتوقيراً واقتداءً. ********** وقد أدرك الحكماء أهمية القدوة في شخص المربّي، فكثُرت في ذلك أقوالهم. يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: "من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبّخ نفسه" ويقول الإمام الشافعي (ت:204هـ) موصياً رجلاً كان يؤدب أولاد هارون الرشيد (ت:193هـ): "ليكنْ ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحُ نفسك، فإنما أعيُنهم معقودة بعينك. فالحَسَنُ عندهم ما تستحسِنُه، والقبيح عندهم ما تكرهه!". ويقول مالك بن دينار (ت:131هـ): " العالم إذا لم يعمل بعمله زلَّتْ موعظته عن القلب كما يزلُّ الماء عن الصفا" والصفا: الحجر الأملس. ويقول الشاعر: وينشـأ ناشئ الفتيـان منّا على ما كـان عوّده أبـوه ويقول آخر، مخاطباً المربّي: ابدأ بنفسك فانْهَها عن غَيِّها فإذا انتهتْ عنه فأنت حكيمُ وقد حفظ التراث التربوي الإسلامي الحكمة القائلة: "حال رجلٍ في ألف رجل، أقوى من قول رجلٍ في رجُل" فهذه الأقوال جميعاً تؤكّد مسألتين، تكمل إحداهما الأخرى: الأولى أن الإنسان يتأثر بمسالك الذين ربّوه أكثر مما يتأثر بأقوالهم. الثانية أن المربي الذي لا يلتزم بما يدعو إليه الآخرين، يكون أثره فيهم ضعيفاً، ولذلك فإن عليه أن يبدأ بنفسه، فيما يقوم بغرسه من القيم. ********** المربي الناجح يتفاعل مع تلامذته، فيتفاعلون معه، ويتودد إليهم فيتوددون إليه، وقد يصل الأمر بهم إلى درجة الاستهواء، حيث يقلّدونه ويتقمّصون شخصيته، ويتصرفون مثله، بشعور وغير شعور، وقد يعملون على أن تكون مِشيتهم كمِشيته، وضحكتهم كضحكته... ومن باب أولى أنهم يتقبّلون توجيهاته، وينفّذون أوامره... وبذلك يتمكن من تحقيق الأهداف التربوية فيهم بأسرع ما يكون، وبأعمق ما يكون. لكن هذا الأمر، بقدر ما يكون عظيم الفائدة، يمكن أن يكون عظيم الضرر. فإذا كان سلوكه وحاله على خير ما يرام، فقد أمكنه أن يُكسِب تلامذته ذلك. أما إذا كان على غير ذلك فقد يجرّهم إلى البلاء جرّاً، ولن يحلّ المشكلة أن يكون كلامه معهم سديداً، لأنهم يتأثرون بحاله أكثر مما يتأثرون بكلامه!. وصحيح أن معظم المربين لا يَصِلُون بتلامذتهم إلى درجة الاستهواء هذه، لكنهم على كل حال يؤثّرون فيهم بسلوكهم أولاً وثانياً، ويؤثّرون فيهم بكلامهم ثالثاً، ويعظُم أثر السلوك والقول، كلما زاد حبهم لمربّيهم وثقتُهم به، وكلما كان السلوك متطابقاً مع القول. ويكفي أن نضرب مثلاً بسلوكين يمكن أن يظهرا في المربي، أحدهما سلوك طيب حسن، والآخر ليس كذلك. فالسلوك الأول: أن يكون لسانه رطباً بذكر الله، يسمّي اللهَ إذا بدأ، ويحمده ويستغفره ويصلي على نبيّه r، يفعل هذا بشكل عفوي، بل لا يكاد يمر عليه موقف لا يتخلله الذكر. إنه رجل ربّانيّ، وروحه الصافية تفيض على تلامذته. والسلوك الثاني: أن يكون مدخّناً!. ولست هنا بشأن الحديث عن الأضرار البدنية والنفسية والذوقية للتدخين، ولكن بشأن اقتداء التلميذ بأستاذه فيه. فإنْ أحبّ ذلك من الأستاذ وقلّده فيه فهي كارثة، وإن قال: أستاذي جيد في كل شيء، إلا في التدخين، فإن احترامه لأستاذه سيضعف، وتأثُّره به في جوانب الخير ستضعف. وإن قال: آخذ منه ما هو خير، وأدعُ منه ما سوى ذلك، فقد ضعُفت هيبة المربي في نفسه، وقلَّ احترامه له. وإن قال: العلم والتوجيه شيء، والسلوك شيء آخر، فقد أنشأ في نفسه فِصاماً يوشك أن يتلبَّس به، فيكون تلقّيه للعلم والقيم تلقّياً ظاهراً شكلياً، لا يفيده إلا في اجتياز الامتحان أو التظاهر بالمعرفة أمام الآخرين... أما السلوك فشيء آخر!!. ********** المربي، أباً كان أو معلّماً... يؤدي أمانة عظيمة، وسيُسأل عنها أمام الله تعالى. فليحرِصْ أن يكون في ظاهره وباطنه مُرْضياً لله تعالى، فإنْ فعل خيراً فله أجره وأجر من اقتدى به في ذلك من تلامذته، وإن كانت الأخرى فعليه إثمه وإثم من اقتدى به فيه، وإن ارتكب الإثم سرّاً، فإن هذا الإثم لا يتعدّى إلى التلميذ، ولكن يوشك أن يرشح منه ما يقلل من شأنه أمام تلميذه: ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ وإن خالَها تخفى على الناس، تُعْلَمِ ويكفي المعلّم شرفاً أن رسول الله r قال: "إنما بُعِثتُ معلّماً". رواه ابن ماجه. ويكفيه مسؤوليةً أنه أسوةٌ أمام تلميذه، شاء أم أبى (( ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتيَ خيراً كثيراً. وما يذّكّرُ إلا أولو الألباب )) . |
#53
|
|||
|
|||
الفاروق .. أنموذج في قوة الشخصية
الحديث عن قوة الشخصية ومواصفاتها إلى خبرة علمية وتجريبية , وما أحوجنا إلى تلك الموضوعات الهامة التي تقوم آداءنا الشخصي والعام , ولقد وجدت رجلا يعتبر نموذجا مميزا لقوة الشخصية وتميز الصفات هو الفاروق عمر بن الخطاب , وقد وردت عدة صفات في وصفه نحاول أن نلقي عليها نظرة موجزة وهي : القوة البدنية الجسمانية: فقد قال عبد اللـه بن عمر: كان أبي أبيض تعلوه حمرة ، طوالاً ، أصلع ، أشيب , وقال غيره: كان أمهق - أي خالص البياض - ، طُوالاً ، آدم ، أعْسَرَ يَسَر , وقال أبو الرجاء العطاردي: كان طويلاً جسيماً ، شديد الصلع ، شدة الحمرة ، في عارضيه خفه , و قال سِماك: كان عمر يسرع في مشيته , فهذه بعض صفات عمر ، منها الطول والجسامة ، والإسراع الذي يدل على المبادرة والإقدام ، وهذه الصفات من القوة البنيانية والجسمانية قد تساعد أحياناً في كسب الإنسان القوة في الشخصية , ولكن ولاشك أن قوة الشخصية لا تتوقف عليها بحال . أما الصفات الأخرى الهامة للشاب القوي الشخصية فهي كثيرة : 1. قوة العلاقة باللـه عز و جل: فكان عمر يمر بالآية من ورده فيسقط , حتى - يُزار - منها أياماً كما ذكر ذلك الحسن. ولذا قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما روى ذلك الإمام مسلم : (( والذي نفسي بيده ما لَقِيك الشيطان قط سالكاً فجاً ، إلا سلك فجاً غير فَجِّك )). وما اكتسب عمر- رضي اللـه عنه - هذا الأمر إلا بقوة علاقته باللـه سبحانه , ولئن خسر الناس علاقتهم بربهم فإن شخصياتهم وآثارها وأعمالها ستصير بهدف دنيوي فارغ يسعى وراء حظ زائل , وستنكشف حقائق تلك الشخصيات عند تغير الظروف 2- العلم والفقه بالدين مع الحرص على ذلك: ولذا يقول ابن مسعود - رضي اللـه عنه -: لو أن عِلم عمر وُضِع في كفه ميزان ووُضِع عِلمُ أحياء الأرض في كفة لرجح عِلم عمر بعلمهم , فلا حزم بغير علم ولا تأثير بغير فهم وحكمة , وإنما بلغ عمر بما بلغ بعلم وقر في قلبه وظهر على جوارحه وعمله , فقد جمع بين العلم في الرأس وتطبيقه على الواقع . 3. البساطة وعدم التكلف: يقول أنس - رضي اللـه عنه- : رأيت بين كتفي عمر أربع رقاع في قميصه, وقال قتادة: كان عمر يلبس وهو خليفة ، جُبَّة من صوف مرقوعة بعضها بأدم , وقال عبداللـه بن عامر بن ربيعة: حججت مع عمر ، فما ضرب فسطاطاً ، ولا خِباء ، كان يلقي الكساء والنطع على الشجرة ، ويستظل تحته , فكان أنموذجا في البساطة ومثالا في عدم التكلف لازال يضرب حتى اليوم . 5. البعد عن الإعجاب بالنفس ، ولو أدى ذلك إلى إذلالها: يقول عبيد اللـه بن عمر بن حفص: إن عمر بن الخطاب حمل قربة على كتفه ، فقيل له في ذلك: فقال: إن نفسي أعجبتي فأردت أن أذلَّها , وكذا أقوياء الشخصية , يتحكمون في أنفسهم ولا تتحكم فيهم أهواؤهم ويوجهون رغباتهم ولا توجههم رغباتهم , ويؤدبون نفوسهم ويهذبونها بإبعادها عما يضرها وتقريبها مما ينفعها في الدنيا والآخرة 6. احترام حقوق الآخرين ، والورع في ذلك: ولذا قال محمد بن سيرين: قَدِم صِهرٌ لعمر عليه ، فطلب أن يعطيه عمر من بيت المال فانتهره عمر ، وقال: أردت أن ألقى اللـه ملكاً خائناً !؟ فلما كان بعد ذلك أعطاه من صلب ماله عشرة آلاف درهم. 7. الحرص على نفع الآخرين ، وخدمتهم ، ولو أدى ذلك أحياناً إلى هضم حقه: وهو خلق لا يستطيعه إلا الكبار ، قال أنس - رضي اللـه عنه- : تقرقر بطن عمر من أكل الزيت عام الرمادة؛ و كان قد حرم نفسه قال: فنقر بطنه بإصبعه ، وقال: إنه ليس عندنا غيره حتى يحيا الناس -أي غير الزيت -. 8 . قبوله النقد بصدر رحب : وما كان يسمعه من نقد لاذع لم يكن ليوفقه عن منهجه , فعن ابن عباس ، قال: لمَّا ولي عمر قيل له: لقد كان بعض الناس أن يحيد هذا الأمر عنك. قال: وما ذاك ؟ قال: يزعمون أنك فظ غليظ. قال: الحمد للـه الذي ملأ قلبي لهم رحمة، وملأ قلوبهم لي رعباً. 9 . شفافيته وعدله : فيروي أصحاب السير أن رجلا أوقفه على منبره وسأله عن ثوبه الذي يلبسه - وكان رجلا طوالا - وكيف له بثوبين ؟! فقال : قم يا عبدالله بن عمر , فقام عبد الله وبين للناس أنه قد أعطى اباه ثوبه فجمعهما في ثوب واحد , ولربما كان الرجل يوقفه ويسأله ويعاتبه وهو يستمع ويحسن ذلك ولربما جاءه بعض العامة يشتكون له من بعض أمرائهم فيأخذ الحق من الأمير للعامي سواء يسواء , ولما جاءه رسول فارس وسأل عنه , لم يجد له قصرا ولا حرسا وقيل له إنه نائم تحت ظل شجرة , فراح ونظر إليه ولكأنه خاطب نفسه فقال : عدلت فأمنت فنمت يا عمر ! |
#54
|
|||
|
|||
أفكار إدارية للدورات القرآنية القرآنية
العملُ لدينِ الله خيرُ ما يشغلُ الأوقاتِ وتفنى فيه الأعمار؛ وتعليمُ القرآنِ والعملُ به ونشرُه بينَ الناسِ على اختلافِ أعمارهم عملٌ عظيم كبيرٌ لا يُقدِّره حقَّ قَدْره إلاَّ مَنْ تأمَّلَ حالَ المجتمعاتِ الإسلامية التي هجرتْ القرآنَ في مناهجِ تعليمها وفي المساجدِ وحِلَقِ العلمِ والحفظ. ومن فضلِ الله علينا في هذه البلاد أنْ احتسبَ أناسٌ منَّا القيامَ بهذا الأمر حتى انتشرتْ حلقُ تحفيظِ القرآن الكريم والدورُ النسائيةُ وأخيراً الدوراتُ الرمضانية والصيفية المكثَّفةُ لحفظِ وتعليمِ القرآنِ الكريم؛ وَكمْ تركَ الأولُ للآخر. وحتى تنجحَ هذه الدوراتُ لا بدَّ لها من ترتيباتٍ ليست بعسيرةِ المنالِ على مَنْ حملوا همَّ الدِّين والتربيةِ والدعوة بعدَ توفيقِ الله وتسديده وفضله. ومن هذه الجوانبِ المهمةِ للدورات القرآنية: حُسنُ الإدارةِ وجودةُ الأداءِ ودقةُ التنظيم، وهو ما سيكونُ محورَ حديثنا في هذه الورقةِ بإذن الله. أولاً: قبل الدورة القرآنية: 1- الاستفادةُ من تجرِبة العام الماضي بتكرارِ إيجابياتها والابتعاد عن جوانبِ القصور فيها؛ فإن لم يكنْ ثمت تجربةٌ سابقة أو أنها لم تُسجَّلْ أو توثق فيمكنُ الانتقالُ حينَها للخطوةِ الثانية. 2- الاستنارةُ بتجارِب الآخرين خاصةً مع الدورات القرآنية المتشابهة في البيئة والأحوال والسمات البشرية. 3- تحديدُ أهداف الدورة القرآنية بواقعيةٍ ووضوح على أنْ تكونَ قابلةً للقياس وتُنقل لكل راغبٍ في التسجيل مع طريقة ونظام الدورة. 4- اختيارُ الطرقِ المناسبة لتحقيق هذه الأهداف على الوجه الأكمل، ومنها اختيارُ المسجدِ الأمثل لإقامة الدورة القرآنية. 5- البحث عن جهةٍ أو شخص يرعى الدورةَ القرآنيةَ مالياً؛ ويجبُ ألاَّ تكونَ الرعايةُ الماليةُ على حسابِ أهدافِ الدورة القرآنية؛ كما ينبغي البراعةُ في تسويقِ هذه الفكرةِ على الأثرياء من خلالِ البناء على قيمِ المتبرع التي لا غضاضةَ فيها من الناحية الشرعية. 6- تنظيم إدارة الدورة والإشراف عليها؛ وتسمية اللجان وتحديد مهامها وصلاحياتها؛ وتوضيح العلاقة الإدارية الصاعدة والنازلة والبينية من خلال هيكل إداري سهل الدلالة، وينضاف لذلك وضع سياساتٍ وإجراءاتٍ للعملِ بموجبها. 7- اختيار المدرسين والإداريين المناسبين لتحقيق أهداف الدورة بأقلِّ تكلفةٍ وأجودِ منتج. 8- تحديد البرامج الملائمة التي تخدم العملية التعليمية والتربوية ووضعها في جدول زمني. 9- الإعلان عن الدورة القرآنية بشكل جذاب غير مبالغ فيه ليعطي صورةً ذهنية إيجابية؛ وتُذكرُ فيه الجهةُ المشرفة على الدورة والفئةُ المستهدفة والفوائدُ العائدة عليهم من المشاركة إضافةً إلى كيفية الالتحاق بها؛ مع ضرورة الإشارة إلى الراعي الرسمي إلا إذا رغبَ في إخفاء إحسانه. ثانياً: خلال الدورة القرآنية: 1- تنفيذ ما اتفق عليه من أهداف وبرامج حتى لا تكونَ مجرَّد تنظيرٍ ماتع أو ترفٍ ذهني لا يتجاوزُ عالمَ الخيال. 2- المتابعة؛ وهي سرُّ نجاحِ أكثرِ الأعمال، فبالمتابعة يتألقُ المجتهدُ ويجتهدُ المقَصِّر. 3- المراجعة في أثناء العمل حتى لا يقعَ خطأٌ ما بسب مخالفةِ السياسات والإجراءات النظامية والمحدَّدة سلفاً. 4- تطبيق الجودة في كلِّ خطوةٍ ومنشط وبرنامج، والجودةُ التي نعنيها هي باختصار أداءُ العملِ الصحيح بطريقةٍ صحيحة من المرَّة الأولى في كلِّ مرَّة. 5- توثيق العمل حتى يسهلَ تقويمه ومن ثمَّ الاستفادة منه مستقبلاً؛ وفي التوثيق مصالح تسويقية ونظامية وتربوية وأمنية. ثالثاً: بعد الدورة القرآنية: 1- تقويم التجربة وتحديد عوامل نجاحها أو أسباب فشلها - لا قدر الله-. 2- نشر التجارب الناجحة والأفكار الإبداعية حتى يستفيد منها الآخرون. 3- استمرار العناية بالطلاب المتميزين. 4- استثمار المدرسين والإداريين والتواصل الدائم معهم. 5- كتابة تقرير موثق وشامل للراعي الرسمي. 6- كتابة تقرير رسمي موثق للجهة المسؤولة. 7- إقامة حفل ختامي غير مكلِّف على أن تستضاف فيه شخصيات عامة مؤثرة ورسمية. 8- توجيه الشكر وبذل الدعاء لكل من ساهم في نجاح الملتقى. رابعاً: توصيات مهمة: 1- الحرص على التجديد والإبداع في كلِّ دورة؛ والمجال فسيح لا يضيق على العقول المبتكرة. 2- أهمية الضبط الإداري والتعليمي والتربوي للدورة القرآنية منعاً لأي خلل؛ وما أكثر الصيادين في الشاطئ العكر. 3- حرص على الجوانب الاجتماعية للطلاب وللمدرسين والإداريين؛ مع أهمية التواصل مع أولياء أمور الطلاب. 4- بذل شيء من الجهد في سبيل تربية الطلاب وتعزيز القيم الدينية والأخلاق الإسلامية في نفوسهم، كما يُشار إلى ضرورة تقديم برنامجٍ نافع للمسجد الذي أُقيمت فيه الدورة. 5- إيَّاكم والشوك والمتاهات الفكرية والسياسية؛ فهذه الدورات لحفظ القرآن وتعليمه ولا مكان فيها لمنحرف أفرط أو فرَّط. وإنَّ هذه الجهود المباركة غرسٌ طيب في أرضٍ مباركة ولا بدَّ من حِياطتها والقيامِ عليها من قبلِ خيارِ الناسِ حتى تستوي قائمةً فيستفيد المجتمعُ منها منافعَ شتى في أمور دينهم ودنياهم. |
#55
|
|||
|
|||
كيفَ يبني المربي ثقافتَه؟
عشنا رَدَحاً منْ الماضي بغيرِ ترَّقُبٍ واستعدادٍ للمستقبلِ الآتي فكانَ صدمةً عنيفةً بحقّ؛ لسرعةِ متغيراتهِ وتقلُّبِ أحوالِه، حتى تقاربتْ أطرافُ العالمِ البعيدةِ وأمكنَ التأثيرُ على النَّاسِ والمجتمعاتِ عنْ بُعدٍ دونَ أنْ نستفيدَ منْ هذهِ الفتوحاتِ والمستجداتِ[1] التي جعلتْ التوجيهَ الحصريَّ والانكفاءَ على الذاتِ تاريخاً وذكرى؛ وصارَ حاضُرنا وبوادرُ المستقبلِ الجديدِ يوجبانَ على المربينَ إعدادَ أنفسهِم بعمقِ تثقيفِها وجودةِ تعليمِها وحُسنِ تربيتِها حتى تنافسَ في الميدانِ الفسيحِ وتؤثرَ في العقولِ والقلوبِ وتقودَ الأفئدةَ والأذهانَ قبلَ الأجسادِ نحوَ الإصلاحِ والإيجابيةِ ومواقعِ التأثيرِ والريادة. ولأنَّ التربيةَ مهمةٌ عسيرةٌ وثمرتُها صعبةُ المنال؛ لارتباطِها بالنَّفسِ البشريةِ المعقَّدةِ في تركيبِها وهمومِها وآمالِها وآلامِها وحوافِزها ودوافِعها ومراحلِ نُموها الجسدي والعقلي والنفسي- لأجلِ ذلكَ كلِّه- وجبَ على مَنْ تصدَّرَ للتربيةِ أنْ يستعدَّ لها منْ بابِ أخذِ الكتابِ بقوةٍ وإتقانِ العملِ ومواجهةِ المستقبلِ ومفاجآتهِ وما أكثرَها. وللمربي النَّاجحِ خصائصٌ لابدَّ منْ توافرِها حتى يبلِّغَ رسالتَه على الوجهِ الأكمل؛ وتشملُ هذهِ الخصائصُ جوانبَ معرفيةٍ وأخرى مهاريةٍ ووجدانيةٍ وشخصية؛ وسوفَ نتحدَّثُ عنْ ثقافةِ المربي وكيفيةِ بنائِها ذاتياً لأهميتِها وتأثيرِها في خصائصِ وصفاتِ المربي[2]. مَنْ هو المربي؟ هو مَنْ يُربي الأجيالَ على الفضائلِ ويوجِهُها نحوَ إصلاحِ النَّفسِ والمجتمعِ وخدمةِ الأهلِ والبلادِ والأمَّةِ ونصرةِ قضاياها في الدُّنيا بُغيةَ الفوزِ بالجنَّةِ ورضا الرحمن، والتعريفُ يشملُ الرجالَ والنِّساء. ما هيَ الثقافة؟ هي العلومُ والمعارفُ والمهاراتُ والسلوكياتُ التي يجبُ أنْ تكونَ متوافرةً في المربي وماثلةً في شخصيتِه بقدرٍ يكفي لأداءِ الرسالةِ التربويةِ بوعيٍ وتميز. أوْ هيَ مجموعُ المنظوماتِ العقديةِ والأخلاقيةِ والاجتماعيةِ والعاداتِ والتقاليدِ وأساليبِ العيشِ التي تؤثرُ في شخصيةِ المربي وطريقةِ تعاملِه التربوي. أينَ يوجدُ المربي؟ يوجدُ المربي في البيتِ أباً أوْ أماً أوْ غيرَهما؛ وقدْ يكونُ في المدرسةِ أستاذاً أوْ مديراً أوْ مشرفاً؛ ولا يغيبُ المربي عنْ المسجدِ عالماً أوْ إماماً أوْ مؤذناً أوْ مُقرِئاً وربما تجدْه في النَّادي مدرباً وفي المركزِ الاجتماعي مسؤولاً وفي مكانِ العملِ زميلاً. والأصلُ أنَّ المربي لهُ أمكنةٌ أساسيةٌ وأخرى فرعية؛ ومَنْ كثُرتْ دروبُه عمَّ نفعُه واستحالَ حصارُه أوْ كاد. أسبابٌ جعلتْ وجودَ المربي المثقفِ أكثرَ أهميةً منْ ذي قبل: * قصورُ أثرِ الأسرةِ وانشغالهُا أحياناً أوْ إهمالهُا. * كثرةُ قنواتِ التوجيهِ السلبي المدارةِ بكفارٍ أوْ منافقينَ أوْ فُساق. * وجودُ ( مربين ) على مناهجَ سيئةٍ كالتربيةِ على الإرجاءِ أوْ التربيةِ على الغلو. * لا يعيشُ الإنسانُ وحيداً ولوْ جَهِدَ أهلُه في سبيلِ الحجرِ عليهِ فلا مناصَ منْ تأثرِه. سرُّ نجاحِ العمليةِ التربوية: حتى تنجحَ عمليةُ التربيةِ ويكونَ لها مخرجاتٌ مباركةٌ وثمارٌ يانعةٌ لابدَّ منْ مُدخلاتٍ ذاتِ قيمةٍ هيَ: * المربي الناضجُ الصادقُ المثقف. * البيئةُ الإيجابية. * المنهجُ الملائمُ المتجدِّدُ في وسائله. * الأفرادُ الذين لديهِم قابليةٌ واستعداد . ولا يكونُ المربي ناجحاً ما لمْ يعِشْ حياةً متوازنةً بنفسٍ طَلِعَةٍ لكلِّ خيرٍ مستعدَّةٍ للتضحيةِ والبذلِ صابرةٍ على طولِ الطريقِ ومشقةِ معالجةِ النُّفوسِ رجاءَ الثوابِ منْ الله. مكوناتُ ثقافةِ المربي: أولاً: ثقافةٌ أساسية: وتشملُ الثقافةَ الدينيةَ والعلومَ الشرعية؛ ومعرفةَ تاريخِ الأمَّةِ الإسلاميةِ وعواملَ نصرِها وأسبابِ نكوصِها؛ وختامُها إلمامٌ مناسبٌ بلغةِ العربِ وآدابِهم وأيامِهم وأمثَالِهم. ثانياً: ثقافةٌ تربوية: وهيَ ما يحتاجُه المربي لأداءِ مهمتِه منْ ثقافةٍ تربويةٍ ونفسيةٍ واجتماعية، وكمْ هوَ نفيسٌ استنباطُ الفوائدِ التربويةِ منْ نصوصِ الوحيينِ الشريفينِ والسيرةِ العطرةِ ودراسةُ تجاربِ المربينَ عبرَ التاريخ. ثالثاً: ثقافةٌ عامَّة: وهيَ المعارفُ والعلومُ التي تزيدُ منْ الحصيلةِ الثقافيةِ والفكريةِ للمربي وتكونُ عوناً لهُ في كمالِ تربيتِه. أهميةُ الثقافةِ للمربي: * التماسكُ العقديُّ والفكريُّ إذْ أنَّ ابتعادَ المرءِ عنْ الثقافةِ بمنهجيتِها السليمةِ يجعلُ تغييرَ مسلماتِه منالاً قريباً. * التجدُّدُ المعرفيُّ الذي ينعكسُ على جميعِ الجوانبِ الشخصيةِ للمربي وعلى وظيفتِه التربوية. * في الثقافةِ إضاءةُ الروحِ واستبصارُ دروبِ الحياة. * الحفاظُ على الحقائقِ منْ العابثينَ والمستخفينَ بها . * العزلةُ والانقطاعُ الثقافيُّ يصيبانِ المربي بالوهنِ ويسلمانِه للخرافةِ فيكونُ موقفُه الدفاعَ فقطْ في زمنِ الهجومِ المتوالي! * التحفيزُ على العملِ المتواصلِ المثمرِ والجديةُ في التعاملِ معْ الزَّمن. * تجويدُ القريحةِ وتحسينُ التفكيرِ وإصلاحُ اللسانِ وتقويمُ السلوكِ وعُذوبةُ المعشر. كيفَ يبني المربي هذهِ الثقافة؟ * القراءةُ في كتبِ التربيةِ وعلمِ النَّفسِ وعلمِ الاجتماع. * القراءةُ العامَّةُ في شتى المعارفِ والفنونِ والعلوم. * حضورُ درسٍ علمي دوري على الأقل. * الانتظامُ في درسٍ تربوي علمي. * الاستماعُ إلى المحاضراتِ التربوية. * مشاهدةُ البرامجِ التربويةِ المباشرةِ أوْ المسجلة . * المشاركةُ في البرامجِ التدريبيةِ الخاصَّةِ بالتربية. * الانضمامُ لعضويةِ الجمعياتِ العلميةِ؛ وإنْ كانتْ غيرَ موجودةٍ فيا حبَّذَا لوْ نفرَ لهَا طائفةٌ منْ المربينَ والتربويينَ تأسيساً وتسجيلاً. * متابعةُ الدورياتِ المتخصصةِ وغالبُها نشاطٌ منبثقٌ عنْ الجمعياتِ والنقابات. * حضورُ الملتقياتِ التربوية. * اللقاءُ معْ المربينَ وأساتيذِ التربيةِ والاجتماعِ والنفسِ والإفادةُ منهم. * العيشُ معْ سيرِ المربينَ وتجارِبِهم في تاريخِنا العَطِرِ واستلهامُ العبرِ منها حفزاً للهمَّة، وتسليةً أمامَ المواجهة. * المشاركةُ في ورشِ العملِ وحلْقاتِ النِّقاشِ حولَ التربيةِ وقضاياها. * متابعةُ الانترنت والمواقعِ التربويةِ أوْ الزوايا التربويةِ في المواقعِ العامَّة. * حضورُ المنتدياتِ التي تُعنى بالقضايا التربوية؛ وإنْ كانتْ غيرَ قائمةٍ ففي همَّةِ المربينَ أملٌ كبيرٌ للبداياتِ المشرقة. * التفاعلُ معْ الساحةِ الثقافيةِ متابعةً ومشاركة. * التواصلُ معْ الأنديةِ الأدبيةِ والمنتدياتِ العلميةِ والفكريةِ والتاريخيةِ وحضورُ بعضِ أنشطتِها. * اقتناصُ أيِّ فرصةٍ متاحةٍ لمزيدٍ من الثقافةِ والعلمِ والفكر. متطلباتٌ لنجاحِ التحصيلِ الثقافي للمربي: * وضوحُ الغايةِ والتخطيطُ لبلوغِها. * الشموليةُ والتدَّرج. * الاستعدادُ النَّفسي والذهني والبيئي. * الاستمرارُ والاجتهادُ وتحييدُ العوائق. * الإيجابيةُ والفاعلية. * المتابعةُ والتقويم. مسائلٌ مهمةٌ يحسنُ بالمربي إدراكَها في مسيرتِه الثقافية: * بناءُ الثقافةِ مسؤوليةُ المربي بالدرجةِ الرئيسة. * أهميةُ التجديدِ فلكلِّ جيلٍ عالمهُ الخاصِّ بخيرِه وشرِه. * لا تنازلَ عنْ الثوابتِ البتةَ وفي غيرِها سَعَةٌ بعدَ النظرِ والمشاورة. * أهميةُ محاسبةِ النَّفسِ فترةً بعدَ أخرى ومراجعةِ نتائجِ عملِها التربوي؛ فالمراجعةُ تكشفُ جوانبَ القصورِ والتميزِ. * ضرورةُ توثيقِ التجارِبِ النَّاجحةِ التي عاشَها المربي أوْ سمعَ عنها. * الاستفادةُ منْ القدواتِ المعاصرةِ في الأعمالِ التربوية. عقباتٌ تقفُ دونَ بناءِ الثقافة : * اعتمادُ المربي على التلقي فقطْ وانتظارُ التثقيفِ منْ الآخرينَ بلا عناءٍ في البحث. * الانهماكُ في الممارسةِ التربويةِ ونسيانِ المراجعةِ والتطوير. * الركونُ للخبرةِ فقط. * الاكتفاءُ بتقليدِ القدواتِ منْ غيرِ نقدٍ أوْ تمحيص. * قلةُ الكتبِ المتخصصةِ بالتربيةِ المتوازنةِ أوْ المنطلقةِ منْ محاضنَ أسريةٍ أوْ تعليميةٍ أوْ دعويةٍ وخلوُّ بعضِ أسواقِ المعرفةِ منها؛ علماً أنَّ قسماً منْ المتاحِ قدْ لا يسلمْ منْ ملاحظات. * كثرةُ الكتبِ التربويةِ المترجمةِ أوْ المعتمدةِ على التراثِ التربوي الغربي فقط. * ندرةُ البرامجِ التربويةِ سواءً في الجامعاتِ أوْ معاهدِ التدريب[3]. * التجاربُ التربويةُ حبيسةُ الصدورِ؛ وللصدورِ قبور. * الهجمةُ الأفَّاكةُ على المحاضنِ التربويةِ وعلى المربينَ وكيلُ التهمِ الجزافيةِ لهم. * إهمالُ بعضِ الثقافاتِ مثل: الإدارة، وعلم النفس، والاتصال. * الخوفُ منْ التجديدِ وتقديسُ القديمِ منْ الوسائل. * الاتكاءُ على المواهبِ والقدراتِ الذاتية. * ضعفُ التواصلِ معْ الآخرينَ واقتباسِ خبراتِهم النَّافعة. * ضمورُ حبِّ القراءةِ وانقطاعُ العلاقةِ معْ سوقِ الكتابِ أوْ فتُورها. * همومُ الحياةِ وصوارفُها. * الاحتباسُ حتى النفادِ فأيُّ معلومةٍ تبقى حبيسةَ ذهنِ صاحبِها جديرةٌ بأنْ تأكلُها أرضةُ النِّسيان. * غيابُ منهجيةِ التحصيلِ إنْ بالعشوائيةِ, أوْ بالتنقلِ قبلَ التمام. ثقافاتٌ مهمةٌ يتبنَّاها المربي المؤثر: * العنايةُ بالأصولِ الشرعية. * تخريجُ القادةِ لا مجرَّدَ أتباعٍ ومستهلكين. * قبولُ الاختلافِ السائغِ والترحيبُ به. * حتميةُ التجديدِ والمراجعة. * الرضا ببروزِ التلميذِ على شيخه. * البحثُ عنْ الأثرِ البعيدِ والمستمر. * تحريكُ العقولِ ومخاطبتُها. * الشراكةُ التربويةُ معْ المتربي وعائلتِه والمجتمعِ بقطاعاتِه. * تقديرُ التميزِ وتوظيفِه. * بناءُ شخصيةِ المتربي بتوازنٍ بينَ جوانبِها المختلفة. * التعلمُ الذاتيُّ للمربي والمتربي. * تقريبُ المعلومةِ ونشرُها بلا تعقيد. * قيادةُ التغييرِ الإيجابي. * الترحيبُ بالمبادراتِ الإبداعيةِ النَّافعة. * احترامُ الخصوصيات. * مراعاةُ اختلافِ الاهتمامات. * فكرةٌ صحيحةٌ ولوْ معْ علمٍ قليلٍ خيرٌ منْ فكرةٍ خاطئةٍ ولوْ معْ علمٍ غزير[4]. آفاقٌ مستقبليةٌ ينبغي للمربي المثقفِ العنايةُ بها: * جعلُ التربيةِ همَّاً عامَّاً يشتركُ الجميعُ في تقديرِ أهميتِه وحملِه والدِّفاعِ عنه. * نقلُ ثقافةِ التربيةِ للمسجدِ والحيِّ والأسرةِ وملتقياتِ العائلةِ والنَّادي الرياضيِّ والمركزِ الاجتماعيِّ وغالبِ مؤسساتِ المجتمع. * بناءُ منهجٍ تربويٍّ للمرأةِ والرجلِ والطفل. * العنايةُ بالرسالةِ التربويةِ للطفلِ قبلَ أنْ تفسدَ فطرتُه. * بذلُ الجهودِ واستفراغُها لتربيةِ الفتاة. * التعاونُ معْ الجهاتِ الحكوميةِ لتبني المشروعاتِ التربوية. * التواصلُ معْ إداراتِ المسؤوليةِ الاجتماعيةِ في القطاعِ الخاصِّ لدعمِ البرامجِ والأفكارِ التربوية. * التنسيقُ معْ قطاعاتِ العملِ الخيريِّ والقطاعاتِ غيرِ الربحيةِ في الدراساتِ والأبحاث. * ممارسةُ التربيةِ بحرَفيةٍ في بيئاتٍ مفتوحةٍ ومساراتٍ جديدة. * استثمارُ الانترنت وقنواتُ الفضاء. * توثيقُ التجارِبِ المميزةِ وتعميمُها. * إنشاءُ كلياتٍ خاصةٍ بالتربيةِ وتخريجِ المربين. * التأليفُ وكتابةُ المقالاتِ والبحوثِ حولَ التربيةِ بمرجعيةٍ شرعية. * قيامُ دوراتٍ تربويةٍ مُحكمةٍ على غرارِ الدوراتِ العلميةِ والبرامجِ التدريبية. * العنايةُ بعائلةِ المتربي. * الاهتمامُ بالشؤونِ العامَّة للمتربي. إنَّ التربيةَ تحتاجُ منًّا إلى الحبِّ العميقِ الصادقِ للنَّاسِ ولوْ لمْ يتبعونَا منْ فورهِم أوْ يُلهبُوا أيديَهم بحرارةِ التصفيقِ وتكرارِ التلويح؛ فأهلُ الحقِّ أرحمُ الخلقِ بالخلق؛ وحريٌّ بالمربينَ أنْ يكونوا أكثرَ النَّاسِ إيماناً وصبراً وحزماً دونَ تغييبِ المعاني اللطيفةِ الكريمةِ منْ اللينِ والسهولةِ والبسمةِ الدائمةِ والرفقِ بالمجتمعِ والمتربين ليكونَ المنتجُ التربويُّ ممَّا ينفعُ النَّاسَ ويمكثُ في الأرض خاصّةً أنَّ التربيةَ بوابةٌ كبرى للإصلاح. |
#56
|
|||
|
|||
دور التربية في علاج التداعيات السلبية للخلاف على الشباب
1- مدخل: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: الحديث عن الخلاف حديث واسع، وأطراف الموضوع لا تقف عند حد، وحتى يحقق الحديث ثمرة عملية لا بدّ من تحديد نطاقه بما يتيح لنا الفرصة في قدر من التركيز على بعض جوانب الخلاف ومنهجية التعامل معه. تهدف هذه الورقة إلى استجلاء دور التربية في التعامل مع الآثار السلبية للخلاف على الشباب. فهي لا تتناول ظاهرة الخلاف، ولا منهجية التعامل مع الخلاف، ولا تتناول استثمار الخلاف وتوظيفه الإيجابي، إنما تسعى للتركيز على قضية أكثر تحديداً؛ فهي تفترض أن للخلاف آثاراً سلبية على الشباب وعليه كيف يمكن للتربية علاجها. وبداية لا بدّ أن نفرق بين الخلاف والاختلاف، فالخلاف طبيعة بشرية، وسنة كونية، حصل بين الصحابة وسلف الأمة ولا زال يحصل ما شاء الله، أما الاختلاف والتفرق فهو مذموم كما قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ). [آل عمران: ١٠٥]. وقوله: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). [يونس: ٩٣]. وقوله: (وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). [الجاثية: ١٧]. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "ليأتينَّ على أَمَّتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النَّعْلِ بالنَّعْل، حتى إن كان منهم من أتى أُمَّهُ علانية، ليَكُوننَّ في أمتى مَنْ يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرَّقت على ثنتين وسبعين ملة، وستفترق أُمَّتي على ثلاث وسبعين ملة، كُلُّها في النار، إلا ملة واحدة، قالوا: مَنّ هي يا رسول الله؟ قال: مَنْ كان على ما أنا عليه وأصحابي". فحديثنا هنا ينصب على الاختلاف المحمود وذلك فيما يسع فيه الخلاف، وليس على الخلاف المذموم. 2- التداعيات السلبية للخلاف: يترك الخلاف تداعيات سلبية على الشباب والناشئة بوجه أخص؛ إذ هم يتّسمون بحرارة الانفعال وغزارة العاطفة، وكثيرٌ منهم لمَّا يمتلك الخبرة الكافية في التعامل مع مواقف الحياة. وتتمثل أبرز التداعيات السلبية للخلاف فيما يلي: • الاختلاف والفرقة، والتحزب والعصبية، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلّم من أن يقود التعامل مع الخلاف المشروع إلى الفرقة والاختلاف؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سمعت رجلاً قرأ آية، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: كلاكما محسنٌ، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا). [أخرجه البخاري]. • اختلال موازين التعامل مع الإخوة وأهل العلم والدعاة، ما بين غلو ومبالغة، وجفاء وإسقاط. • الشعور بالحيرة والقلق لدى الشاب، وربما قاد ذلك بعضهم إلى التخلي عن طريق الاستقامة بالكلية. • التطرف والغلو، فمن لا يحسنون التعامل مع الرأي المخالف فإنه يزيدهم تمسكاً بما هم عليه وتشبثاً به، وانشغالاً بحشد المؤيدات على صحته، وعلى بطلان الرأي الآخر. • غياب الصفاء في القلوب، وتعكير النوايا. 3- موجهات رئيسة: الحديث عن دور التربية في علاج التداعيات السلبية للخلاف حديث واسع لا يستوعبه الحيز المخصص لهذه الورقة، لذا سننحو منحى الإيجاز والتأكيد على القضايا الكلية. وقبل الولوج في التطبيقات العملية لا بد من التأكيد على موجهات عامة في ذلك، من أبرزها ما يلي: أولاً: البناء التربوي للشخصية يمثل كلاً متكاملاً، والتعامل مع الإنسان لابد أن ينطلق من النظر إلى كيانه كله، وعليه فإن تجزئة الشخصية الإنسانية، والسعي لبناء جانب على حساب آخر، أو البحث عن حل مشكلة تربوية حلاً منفصلا عن الشخصية لن يكون مجدياً. إن الإنسان ليس آلة مادية نستطيع أن نفككها إلى أجزاء ونتعامل مع كل جزء تعاملاً منفصلاً عن نظام الآلة. وعليه فتعامل الإنسان مع قضايا الخلاف هو إفراز لشخصيته وطريقة تفكيره ورؤيته للحياة، وليس كياناً منفصلاً يمكن فهمه أو التعامل معه بصورة مستقلة. وحين نريد الارتقاء بالشباب في التعامل مع الخلاف فلن يتم ذلك من خلال الاكتفاء بتناول المفاهيم ذات الصلة بالتعامل مع الخلاف؛ بل لابد أن يكون الحل جزءاً من منظومة تربوية تتناول الموضوع بأبعاده. ثانياً: حين نسعى للتقليل من الآثار والتداعيات السلبية للخلاف فأفضل وسيلة للعلاج هي الوقاية، وذلك بتنمية القدرة على التعامل الإيجابي مع مسائل الخلاف، بدلا من أن ننشغل بترميم الآثار السلبية. ثالثاً: التربية تتم من خلال منهج تربوي، والشاب ليس بالضرورة نتاج المنهج المعلن أو المخطط له، بل هو نتاج الموقف التربوي بكل عناصره، ومن أبرز ما يؤثر في ذلك المنهج الخفي؛ فهو كثيراً ما يسير في اتجاه مناقض للمنهج المخطط له أو المنهج المعلن، ومن أبسط تعريفاته: كل ما يمكن تعلمه من تعلم غير مقصود وغير موجود في المنهج الرسمي( ) وعليه فالشاب يتلقى في الموقف التربوي كثيراً من القيم والثقافة بصورة غير مقصودة من المربين والدعاة. وبناءاً عليه فالسعي في بناء منهجية التعامل مع قضايا الخلاف لدى الشباب يجب ألا يقف عند حدود المنهج المعلن، أو عند حدود المحتوى المعرفي للمنهج بل ينبغي أن يمتد ليشمل كافة عناصر الموقف التربوي. 4- معالم في البناء التربوي: تتمثل أبرز متطلبات البناء التربوي للتعامل الإيجابي مع الخلاف فيما يلي: أ- الجانب الوجداني: الخلاف ليس كله نتاج موقف فكري واقتناع علمي، والناس لا يتسمون بموضوعية عالية يتعاملون فيها مع الأفكار دون مؤثر ذاتي؛ فالجانب الوجداني والقلبي له أثره في تشكيل مواقف الناس وتعاملهم. ومن هنا فالتربية لابد أن تعنى بالبناء القلبي والوجداني الذي يترك أثره في التعامل مع مواقف الخلاف. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أثر الجانب القلبي الوجداني على إثارة الاختلاف فقال: "وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة؛ علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها، وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل، أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المستنّة في محنة الصفات والقرآن؛ محنة أحمد وغيره، وكما بغت الرافضة على المستنّة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة عَلَى عِليّ وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغى بعض المستنة إما على بعضهم وإما على نوع من المبتدعة، بزيادة على ما أمر اللّه به، وهو الإسراف المذكور في قولهم: (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا). [آل عمران: ١٤٧]". [مجموع الفتاوى 14/ 482- 483]. ومما ينبغي أن تعنى به التربية في ذلك ما يلي: • الصدق وإرادة الحق والسعي له. • حسن الظن بالمسلمين. • صفاء القلب للمسلمين، ومحبة الخير لهم، والبعد عن الحقد والحسد. • التواضع ولين الجانب. وليس هذا المقام مقام تعداد جوانب البناء الوجداني والقلبي؛ فما ذكر إنما هو على سبيل المثال لا الحصر. إن أجواء النقاشات العلمية والحوارات الفكرية كثيراً ما تشتط فتبعد بالإنسان وينسى معها الجوانب القلبية والإيمانية، ومن ثم فالحاجة ماسة إلى تذكير النفوس يوماً بعد يوم، ووقتاً بعد آخر، وإلى إحياء الجوانب القلبية والإيمانية التي تضمر في زخم الحياة المادية وأجواء الخلاف والجدل. ومن أهم ما يحقق هذه المعاني لدى الشباب أن يروا القدوات العملية، فيلمسوا من القدوات والشيوخ تمثل هذه المعاني في سلوكهم وتعاملهم قبل أن يسمعوها في مقالهم. ومن المهم أن تأخذ المعاني الوجدانية والقلبية حيزها في بناء المناهج التربوية، والنشاطات الموجهة للشاب داخل المدرسة أو خارجها، عبر منبر المسجد أو كرسي الحلقة والدرس، أو التواصل الفضائي. ب- الجانب السلوكي والأخلاقي: الجانب السلوكي والأخلاقي ذو أثر بارز في التعامل مع الخلاف والتواصل مع الآخرين، بل نكاد نصف موقف الخلاف بأنه موقف أخلاقي. ورغم أن الحديث عن الأخلاق والسلوك ومفردات حسن الخلق لا يكاد يُفقد في أدبيات خطابنا الدعوي إلا أن ثمة ما يدعو إلى القلق في واقع ممارستنا الأخلاقية والسلوكية. ومما ينتظر من التربية أن تعزز الجانب الخلقي والسلوكي، ومن مفردات ذلك ما يلي: • إعادة النظر في منزلة الأخلاق والسلوك من الدين في فهم الناشئة، وتصحيح المفاهيم الملتبسة التي توحي بأن الأهم هو مسائل الاعتقاد الخبرية ثم لا يضر الإنسان بعد ذلك أن يصبح طعاناً لعاناً لا يسلم المسلمون من لسانه ويده، ولا يأمن إخوانه بوائقه!. • تمثل الأخلاق الحسنة العالية من قبل القدوات وممارستها عملياً. • علاج المشكلات المرتبطة ببعض البيئات والمجتمعات من الجفاء والقسوة والغلظة، والأخطر من بقائها تسويغها وربطها بالدين، خلافاً لمنهج محمد صلى الله عليه وسلّم الذي وصف نفسه بقوله: "إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً". [أخرجه مسلم]. • الفصل بين الغيرة على الدين، والحب في الله والبغض فيه، وبين الممارسات الجافية البعيدة عن هدي من قال عن نفسه صلى الله عليه وسلّم "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق". وقال عنها: "متى عهدتني فاحشاً؟". جـ- السمات الشخصية: تترك السمات والخصائص الشخصية أثرها على الإنسان وتعامله، وتبدو نتائجها على كافة مواقفه وتعاطيه مع مشكلات الحياة: الشخصية والأسرية والفكرية والدعوية. والشاب وهو يتعامل مع المواقف الفكرية لا ينفصل عن طبيعته وذاته، ولا يرتدي قميصاً يخلعه ويلبسه في كل موقف. ورغم بداهة هذه القضية، ورغم سعة تأثير السمات الشخصية على حياة الشاب إلا أنها لا تلق الاهتمام التربوي الكافي. وقلما نجد العناية ببناء السمات والخصائص، واستهدافها بالتقويم والتهذيب التربوي لذاتها؛ إذ يسود في ثقافتنا أن التوجيه الشرعي المجرد وحده كاف لتحقيق هذه الأهداف. ومما ينبغي أن تعنى به التربية في ذلك ما يلي: • تنمية الاعتدال، وليس المقصود بذلك ما يقابل الغلو في الدين، بل الاعتدال باعتباره سمة للشخصية يترك أثره على نظرة الإنسان وتعامله، وتبدو تطبيقاته في كافة تصرفاته، ومن ثم فهو ما لم يكن هدفاً للتربية تسعى لتحقيقه في شخصية الناشئة فلن يكفي في ذلك التحذير من الغلو في الدين والتطرف، ولا الحديث النظري عن ضرورة الاعتدال والوسطية. • تنمية الهدوء والاتزان؛ إذ يسود لدى الشباب الانفعال في الكثير من المواقف، وحين يكون الانفعال مجرد أثر لطبيعة المرحلة والنمو لدى الشاب فالأمر قد لا يثير قلقاً كبيراً، لكن المثير للقلق حين نرى نماذج بارزة من الانفعال لدى دعاة ومتحدثين جاوزوا مرحلة المراهقة وأصبحوا في منابر التوجيه والقيادة الفكرية؛ مما يسهم في مزيد من التعزيز لهذه السمة وانتشارها لدى الشباب بدلا من ترشيدها. • الانفتاح الفكري والذهني في مقابل الانغلاق أو ما يسمى (الدوجماتية)، وهو الآخر سمة عامة للشخصية تتأثر بشكل كبير بالتربية والتنشئة(2). د- المهارات: التعامل مع مواقف الخلاف ليس مجرد اقتناع فكري بل هو اندماج مع الواقع وتعايش معه، ويتطلب قدرة الفرد على المواءمة بين الحفاظ على اقتناعاته، والمرونة في التعامل مع المخالف، وقدرته على الفصل بين الرأي والتعامل مع أصحابه،وهنا يبدو جانب المهارة ذو أثر بالغ لا يقل أهمية عن الجانب الوجداني والسلوكي. والمهارة تشمل ثلاث مكونات:المكون المعرفي، والمكون النفسي، والمكون المهاري؛ فالأول يتصل بالمعرفة بمنهجية الخلاف والتعامل معه وآدابه..إلخ، وهو متاح ومتداول كثيراً ويأخذه حظه في الأدبيات الموجهة للشباب، والمكون النفسي سبق تناول جزء منه في الجانب الوجداني والسمات الشخصية. ويبقى التأكيد هنا على المكون الثالث وهو المهارة والأداء(3) وهذا لا يتحقق من خلال الجانب المعرفي وحده، بل يفتقر إلى جهد تربوي يتناسب مع طبيعة المهارة وإكسابها. ومن أبرز ذلك ما يلي: • التدريب العملي على المهارات ذات الصلة بالتعامل مع الخلاف، وهو تدريب يجب أن يركز على المنحى العملي والتطبيقي، وأن يبنى وفق رؤية علمية منهجية، خلافاً للأنماط السائدة في التدريب اليوم والتي يقوم بكثير منها أفراد غير مؤهلين، ولا يملكون القدرة الكافية على ذلك. • الممارسة العملية؛ فما لم تتم الممارسة العملية للحوار والخلاف في الأوساط التربوية، وما لم يتحول ذلك إلى بيئة الأوساط التربوية فلن يتحقق النمو الطبيعي لمنهجية التعامل مع الخلاف؛ بل السائد اليوم في الأوساط التربوية التي ترعى الشباب ثقافة الرأي الواحد، والمصادرة للتفكير والحوار مما يكرس المخرجات غير المؤهلة على التعامل الإيجابي مع الخلاف. والمهارات ذات الصلة بالتعامل الإيجابي في التعامل مع مواقف الخلاف عديدة، ومن أبرزها: مهارات إدارة الخلاف، ومهارات الحوار، ومهارات التفكير الناقد، والتقويم والحكم على الأفكار. هـ- بناء الثقافة الملائمة للتعامل مع الخلاف: تشكل الثقافة السائدة موجهاً مهماً للشخصية، وتؤثر على تبني الفرد لمواقف سلبية أو إيجابية تجاه ظواهر معينة. وداخل الإطار العام للثقافة يتشكل ما يسمى بخصوصيات الثقافة، وهي تلك التي تميز فئة من الفئات داخل المجتمع، ولئن كنا لا نملك الأدوات الكافية للتغيير المطلوب في ثقافة المجتمع، فثقافة الأوساط الدعوية، ومجتمعات طلاب العلم تتشكل وفق تعاملنا ورؤانا نحن. وهذا يتطلب المراجعة بين وقت وآخر لمفردات الثقافة السائدة في بيئتنا الدعوية، والتي تمثل أحد أدوات تشكيل شخصية الشباب وتربيتهم. وفي هذا الإطار نحتاج لإشاعة الثقافة الملائمة للتعامل مع الخلاف كإشاعة ثقافة تقبل الخلاف، والتنوع والتعددية، واختلاف المدارس الفكرية والدعوية داخل الإطار الواسع الذي يقبل الخلاف والتنوع ولا يتناقض مع محكمات الدين وثوابته. و- ترسيخ الثوابت ومحكمات الدين: بيئة الخلاف ليست بالضرورة بيئة نقية، وكثيراً ما تتسع دوائر الخلاف لتطال محكمات الدين وثوابته، وخطورة اهتزاز الثوابت والمحكمات اليوم لا يقل عن خطورة الصراع الناشئ عن سوء التعامل مع الخلاف. ومن هنا فإن ترسيخ الثوابت والمحكمات لدى الشباب مما يتأكد على التربية العناية به، ومن مفردات ذلك ما يلي: • تأصيل مبادئ الثبات على الحق، والاعتزاز والتمسك به. • تجلية الثوابت ومحكمات الدين، والعناية بتعليمها وفقهها بالأدلة الشرعية. • العناية بحِكَم التشريع ومقاصد الشريعة فيما يتصل بالمحكمات والثوابت؛ فذلك مما يزيدها رسوخاً لدى الشاب ويقوي قدرته على مقاومة الاختراق الفكري والثقافي. • التفريق بين الخلاف في أصل الثوابت والمحكمات، وبين الخلاف الناشئ عن تحقيق المناط؛ إذ كثيراً ما يقع الخلط في ذلك، وربما قاد البعض إلى التكلف في ربط كل موقف خلاف عملي بأصل من الأصول أو من محكمات الدين(4). هذه بعض الرؤى حول التعامل مع الآثار السلبية للخلاف صيغت بقدر ما يسمح به الوقت المخصص لهذه الورقة. أسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً، ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ويهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه؛ إنه سميع مجيب، والله أعلم وأحكم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،،، |
#57
|
|||
|
|||
التربية الجادة مراتب
لعل بعض القراء يتساءل: بعد هذا الزخم ورفع الصوت بالمطالبة بالتربية الجادة: هل تريدون أن يصب الجميع في قالبٍ واحد ويسار بهم على وتيرة محددة؟! ثم أين الناس ومستوياتهم والضعف والقوة والنشاط والكسل؟! وهو سؤال يفرض نفسه، وله وجاهته وما يؤيده. إن الجدية مطلوبة من الجميع وبكافة مستوياتهم، وإن التربية على اختلاف طبقاتها ومستوياتها لابد أن تكون جادة. فتعليق أهداف واهتمامات الأمة بالرياضة واللهو والمتعة الحرام، مظهر من مظاهر عدم الجدية في التربية، وكون الأمة تسير وراء المادة وتحصيلها وهي التي تحكم موازينها وقيمها، مظهر من مظاهر عدم الجدية. فالتربية الجادة للأمة تتطلب أن تعلق بقضايا تليق بمكانتها كأمة من الأمم، وفوق ذلك أمة تحمل الرسالة للبشرية، فنحن بحاجة للتربية الجادة على مستوى الأمة بكافة طبقاتها. والطلبة والطالبات وهم فئة أخص، ويفترض فيهم مستوى من الجدية أعلى من عامة أفراد المجتمع، حين يعلقون بالشهادة والحصول عليها، وتصاغ التربية المدرسية بما يؤصل هذا المعنى، بل يقضي على ما يزاحمه، إن هذا الخرق والخلل التربوي مناقض للتربية الجادة، وانتهاك صارخ لغاية التعليم، وهو مسئول عن كثير من مظاهر ضعف التحصيل، والتربية الجادة تتطلب أن تتعلق اهتمامات الدارسين والدارسات بأهداف أسمى وأعلى قدراً من الوظيفة والشهادة. والأستاذ المربي الذي يعد نفسه موظفاً لا غير لدى وزارة التربية يتلقى أجره ثمناً لما يلقيه على طلابه في الفصل، ينتظر الإجازة ونهاية الدوام على أحر من الجمر، يحتاج لتربية جادة تعده ليكون مربياً حقاً. والأب الذي تشغله الدنيا ومتاعها عن الرعاية والتربية، بحاجة إلى التربية الجادة. والأم التي تعنى بالمظهر والموضة، وتستهلك اللقاءات والمكالمات الخاصة جزءاً ثميناً من وقتها على حساب الوظيفة الأساس والدور الرئيس: رعاية المنزل والقيام بشؤون الأسرة، هي الأخرى بحاجة للتربية الجادة. وأصحاب الوظائف الشرعية في المجتمعات الإسلامية حين يسيطر عليهم همُّ العلاوة والمرتب، وحين تخلق أجواء العمل الرسمي أمامهم سياجاً لا ينظرون ولا يتحركون إلا من خلاله يصبحون غير جادين في أداء دورهم المنوط بهم، والتربية الجادة تتطلب أن تتمحض نوايا هؤلاء وتتحرر من الأغراض العاجلة، وأن تأخذ جهودهم ونتاجهم مدى أبعد من السياج والإطار الوظيفي. وجيل الصحوة حين يكون على الواقع الذي هو عليه الآن فهذا يعني أنه بحاجة لتربية جادة تنهض به ويرتفع إلى المستوى اللائق، إذ هو حامل للواء، وحارس للخندق الأول، ومرابط في ثغور الحماية للأمة أجمع. وهكذا فالتربية الجادة مطلب للجميع على المستويات العامة والفردية، واختلاف مستوى التربية بين طبقة وأخرى أو فرد وآخر ليس إلا ناشئاً عن اختلاف الموقع والدور والمنزلة. وبهذا نستطيع الإجابة الواضحة على ذلك التساؤل. لقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلّم بتخيير نسائه بين البقاء معه أو متاع الدنيا وزينتها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً* وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً). [الأحزاب: 28- 29]. إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم يطلب منهن قدراً من الجدية ليس لغيرهن من النساء حتى من الصحابيات، فيحق للمرأة أن تطالب بالنفقة بالمعروف، وأن تتمتع بما يتمتع به سائر النساء، أما نساء النبي صلى الله عليه وسلّم فلهن شأن آخر، وينبغي أن يعلمن أن مقام أمهات المؤمنين يجب أن يتجاوز ذلك كله، وفعلاً كن -رضوان الله عليهن- على هذا المستوى اللائق حين خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين الدنيا والبقاء معه، فاخترن جميعاً الأخرى والأبقى. وقد بايع صلى الله عليه وسلّم بعض أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم يسقط سوطه فلا يطلب من أحد أن يرفعه إليه. [رواه مسلم 1043]. وهذا القدر من الجدية لا يطلب من سواهم من سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، وإن كانت الجدية عموماً مطلوبة من الجميع. وحين لقي النبي صلى الله عليه وسلّم المتخلفين بعد غزوة تبوك قبل عذرهم، وَوَكَلَ سرائرهم إلى الله، عدا الثلاثة المخلفين، فصار لهم شأن آخر، لأن الجديّة المطلوبة منهم ليست كغيرهم. إذاً فالجميع يجب أن يبقى داخل إطار الجدية، ويعيش في أجوائها، وينقل إليها، لكنها تتفاوت بحسب المرء وموقعه ومستواه، وبحسب المجتمعات. |
#58
|
|||
|
|||
وسائل مقترحة للتربية الجادة
إن الحديث عن المشكلات ينبغي أن يتجاوز النظرة السطحية الساذجة ويأخذ بعداً رأسياً أعمق، يتمثل في التحليل الهادئ للمشكلة ودراسة أبعادها وطرح حلولها الواقعية. وكما أن التحليل المبسط للمشكلات من خلال عقدة السبب الواحد والحل الواحد، أو الانخداع بمظاهر المشكلات دون حقيقتها، كما أن هذا التناول المفرط في السطحية منهج مرفوض، فالجانب الآخر المفرط في افتعال أسباب وحلول لا يزيد على أن يكون مجرد صرف عن حقيقة الحل وجوهره، وإزعاج لذهن القارئ. وبناء عليه فنرى أن التربية الجادة هي مستوى معين من التربية ينبغي أن يرتقى إليه، ومن ثم فليس من مسؤولية من يطالب بها افتراض الأسباب، وطرح العلاج في نقاط مرقمة، فغاية ما يؤديه أن يقول: إنكم تقفون في مرحلة متأخرة فتقدموا قليلاً، والقائمون على التربية أياً كانت مستوياتهم وثقافتهم يدركون بوضوح معنى هذا المصطلح وحقيقة هذا المطلب، وأن ما ينتظر من الأمة أفراداً ومجتمعات أكبر بكثير مما هم عليه، وإن التربية المعاصرة -حتى داخل قطاع الصحوة- بحاجة إلى مراجعة وارتفاع مستوى الجدية. إن كثيراً من القراء يتساءل عن البرامج المقترحة، والوسائل التي تسهم في النقلة الجادة، وهو تساؤل له قيمته وأهميته، لكني أشعر أنه إنما يأتي بعد الاقتناع التام بأن التربية الجادة ضرورة، وحينها فلن يعجز جيل الصحوة المبارك، والذي نرى ثمراته ونتاجه يوماً بعد يوم، لن يعجز هذا الجيل عن ابتكار الوسائل والأساليب والحلول. وقضية التربية تستحق من جيل الصحوة أن يبذل لها جهداً في رسم المناهج، واكتشاف الوسائل، وتصحيح الأوضاع. وهو جهد أكبر بكثير من جهد كاتب واحد مأسور بجهله وضعفه وقصوره. وأعتقد أن كثيراً من الأساتذة والمربين يستطيع وبما يملكه الآن من وسائل وبرامج أن ينتقل خطوات واسعة، ويرتقي مراتب عالية في سلم التربية الجادة. وها هي مقترحات ينبئ اسمها عن مسماها، لعلها أن تضع بعض المعالم حول الطريق. وقد قمت بتقسيم هذه الوسائل تقسيماً فنياً إلى وسائل معرفية يمكن أن تمارس من خلال الحديث والطرح المعرفي، وسائل عملية تتم من خلال الممارسة الواقعية، والتقسيم والفصل لا يعدو أن يكون فنياً، وإلا فبينهما من التلازم والتداخل ما لا يخفى. أ- وسائل معرفية: 1- العناية بالحديث حول الوضع: كثيرة هي القضايا التي تملأ مجالسنا في الحديث، وتأخذ أوقاتاً طويلة ونفيسة من أعمارنا، وكثير مما يطرح لا يعدو أن يكون قضايا هامشية، أو نقاشاً عقيماً لا يوصل إلى نتيجة عملية، ولو ألقينا نظرة سريعة على حجم هذه اللقاءات والأحاديث التي تطرح في مجالسنا لرأينا ضرورة استثمارها والاستفادة منها. وحين تكون قضية التربية الجادة قضية نعنى بها في مجالسنا ومنتدياتنا، ويتحدث عنها الخطباء والكتاب والمفكرون، وتدار فيها حلقات النقاش، فإننا سنصل بإذن الله إلى نتائج عملية، وستولد هذه المناقشات والمداولات رأياً عاماً يدرك أهمية التربية الجادة وقيمتها. 2- إدراك سير الجادين: تترك النماذج والقدوات العملية أثرها البالغ في النفوس، وتبقى شواهد حية على مدى تأهل المعاني النظرية لأن تتحول إلى واقع ملموس وإلى أن تترجم هذه المشاعر والاقتناعات إلى عمل ومواقف في جوانب الحياة المختلفة، والتاريخ مليء بهذه الشواهد والنماذج. وإبراز النماذج والقدوات أسلوب تربوي عني به القرآن الكريم، وعني به صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلّم في تربيته لأصحابه. ففي كتاب الله تبارك وتعالى يأتي الحديث كثيراً عن قصص السابقين وفي مقدمتهم الأنبياء وأتباعهم، يأتي آمراً بالتأسي والاعتبار والاتعاظ. فيورد القرآن أمام محمد صلى الله عليه وسلّم - وهو يأمره بالصبر - هذا النموذج الجاد ليتأسى به: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم). [الأحقاف:25]. وحين تحدث القرآن عما أصاب النبي صلى الله عليه وسلّم من تكذيب وصد ذكره بما أصاب إخوانه الأنبياء السابقين: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ). [الأنعام: 34]. ويأتي الحديث كثيراً في القرآن المكي عن قصة سحرة فرعون وصبرهم على طغيانه وتضحيتهم بأرواحهم في سبيل الله، ليكون نموذجاً بارزاً أمام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم الذين أصابهم ما أصابهم في مكة. وبعد غزوة أحد أبرز القرآن أمام المسلمين هذا النموذج الجاد: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). [آل عمران:146-147]. وهكذا يأتي عرض النموذج الجاد في القرآن الكريم كثيراً. ويتبع النبي صلى الله عليه وسلّم هذا المنهج في تربيته لأصحابه، فحين أتاه خباب -رضي الله عنه- شاكياً له ما أصابه من المشركين وضعه صلى الله عليه وسلّم أمام نموذج جاد وقدوة عملية ليعتبر ويتعظ فقال له: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". [رواه البخاري 3612]. 3- إدراك بذل الأعداء وجهدهم: إن من يتأمل في واقع الأعداء يرى عجباً من التضحية لمبادئهم الباطلة والبذل في سبيلها، وتحمل الشدائد والأهوال، ولعل واقع المنصرين اليوم أكبر شاهد على ذلك، كل ذلك يتم مع نتاج بطيء الثمرة محفوف بالمخاطر. وحين يرى المسلم الجاد ما يبذله هؤلاء يتساءل: إذا كان هذا شأن أهل الباطل والضلال، فكيف بأهل الحق والبصيرة؟!. كيف بمن يعلم أنه يؤجر على كل خطوة يخطوها في سبيل الله ولو لم تؤت ثمارها العاجلة؟!. قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ). [التوبة:120-121]. وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في التعقيب على غزوة أحد: (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ). [النساء: 104]. (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ). [آل عمران: 140]. 4- إدراك تحديات الواقع: إنك حين تأخذ في الحديث عن جانب واحد من جوانب واقع الأمة المسلمة اليوم ستشعر أن ما هو متاح لك من الوقت لن يسعفك مهما كان، ولئن كانت الفترات السابقة التي مرت على الأمة من الهوان والضعف تمثل جانباً من الجوانب، فهي اليوم غير ذلك. ويشعر المصلحون اليوم أن الجهود المبذولة لو صرفت لإصلاح الجانب الأخلاقي والسلوكي، أو الجانب العلمي، أو تصحيح مفاهيم الدين التي علاها الغبش، أو غير ذلك -لو صرفت لجانب واحد فقط - لاستوعبها، فكيف حين يراد سد جميع الثغرات، وعلاج مشكلات الأمة. إن الجيل حين يدرك ضخامة التحدي يعلم أنه لن يصل لمستوى ذلك إلا حين يتربى تربية جادة، ومن ثم فإن إبراز التحديات الحقيقية أمام جيل الصحوة أولى من أن نصور للناس أن الدعوة قضية سهلة يمكن أن يقوم بها الإنسان وهو في رحلة أو نزهة، فيلقي كلمة هنا، ويهدي كتاباً هناك، ويطرح برنامجاً في هذا المكان أو ذاك. [لا اعتراض على ذلك لكن حين نصور للناس أن هذا مفهوم الدعوة فقط، تتحول الدعوة إلى هذه الجهود المبعثرة فتقصر عن أداء دورها التغييري المرتقب]. 5- الثقة بتحقق الهدف: إن الشعور بمشكلات الواقع - رغم أهميته - ينبغي أن يربط به التفاؤل بتحقيق الهدف والثقة بنصر الله عز وجل وإلا أصبح مبعثاً على التشاؤم والإحباط، وهي اللغة التي تسيطر اليوم على تفكير فئام من المسلمين فيرون أن الواقع وتحدياته أضخم من أن يقوم بأعبائه بشر، وليس للأمة إلا أن تنتظر ما يأتي به القدر دون أن تعمل وتبذل. لقد وعد الله تبارك وتعالى أن دينه سيظهر ويعلو: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً). [الفتح: 28]. ووعد تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالتمكين والنصر: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً). [النور: 55]. ويخبر صلى الله عليه وسلّم بوعد صادق أن هذا الدين سيعم أرجاء المعمورة، فعن تميم الداري - رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: "ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزّاً يعزّ الله به الإسلام، وذلّاً يذلّ الله به الكفر". [رواه أحمد 4/ 103 والحاكم 4/ 430 بمعناه، وابن مندة في الإيمان 1085، والطبراني كما في المجمع 6/ 14]. إن إدراك هذا المعنى وإبرازه أمام الأمة يبعث على العمل والجد؛ إذ أن الواثق بتحقق هدفه هو وحده الذي يستطيع أن يعمل. 6- إدراك حقيقة الدنيا وزوالها: إن كثيراً مما يعيق الناس عن العمل الصالح لدين الله سيطرة النظرة للدنيا، فهو يريد المال أو الجاه، أو تجنب المخاطر التي قد تلحقه في دنياه، أو الراحة والسلامة، وكلها مطالب دنيوية. وحين يدرك المرء قيمة الدنيا وأنها لا تعدو أن تكون متاعاً زائلاً، تتزين لدى مريدها وتبدو فاتنة ساحرة ثم ما تلبث أن تتحول إلى جحيم لا يطاق، إن ثلاثين سنة من عمر الإنسان في شباب وصبوة، وحين يجاوز الستين تحاصره هموم الشيخوخة، فلا يتبقى له مما يستلذ به في دنياه إلا ثلاثون سنة يذهب ثلثها في الراحة والنوم، وثلثها في العمل والتحصيل لها، فلن يتبقى له بعد إلا سنوات عشر هي حقيقة عمره الذي يتمتع به في لذائذ الدنيا، هذا كله إذا سلم من الحوادث وما أكثرها. وهب أنها تضاعفت أضعافاً ماذا عساها تغني صاحبها؟! إذ بعدها - مهما طالت - الحياة الآخرة الأبدية السرمدية. هل تأملت يوماً في الأرض وقت الربيع وجمالها الفاتن، ثم عدت لها بعد أيام لتراها غدت قفراً يباباً؟! فهكذا الدنيا (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون). [يونس: 24]. لقد ربى صلى الله عليه وسلّم أصحابه على هذا المعنى حين كان يصور لهم الدنيا بهذا التصوير. فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مر بالسوق داخلاً من بعض العالية والناس كنفته، فمر بجديٍ أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟!. فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء! وما نصنع به؟!. قال: أتحبون أنه لكم؟!. قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟!. فقال: فوالله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم". [رواه مسلم 2957]. وحين يستقر هذا المعنى في النفوس تتجه للعمل الجاد المثمر، والنظر إلى الدار الآخرة، والاستهانة بما يلاقي المرء في هذه الدار من نصب وشقاء. ب- وسائل عملية: 1- العبادات الشرعية: إن العبادات الشرعية مع ما فيها من تحقيق الأجر والثواب ورفعة الدرجات، فهي تربي المسلم على البذل والتحمل في سبيل الله، وتوجد لديه العزيمة الصادقة، ولهذا رتب الشرع مزيداً من الفضائل على ما يشق على المسلم أداؤه من العبادات، كما قال صلى الله عليه وسلّم لعائشة -رضي الله عنها-: "أجرك على قدر نصبك". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟!. قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكارة، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط" . [رواه مسلم 251]. إنّ إسباغ الوضوء عبادة فاضلة، لكنه على المكارة والمشقة يصبح أفضل وأكثر رفعة في الدرجات. وهكذا الصيام والقيام والحج وسائر العبادات فهي تعوِّد صاحبها على البذل والتحمل في سبيل الله ومجاوزة الرغبات والأهواء. 2- القدوة: ليس ثمّة أعمق تأثيراً في النفس وأقوى دافعاً من القدوة المرئية، ولاسيما في مثل المعاني الفضفاضة التي قد يختلف الناس في تفسيرها وتحديد ضوابطها، فلعلك أن ترى بعضاً ممن يفرط في حسن الظن بعمله يتصور أنه يقف في مرتبة متقدمة من الجدية، بل ربما رأى أنه متطرفٌ ومبالغ، وأنه يشق على من معه ويحتاج لمزيد من الرفق والراحة. قد تطالب الناس أن يكونوا جادين في تناولهم للقضايا، في نقدهم، في نقاشهم، وتنجح في تحقيق بعض ما تسعى إليه منهم، لكن هذا النجاح الذي تحققه لن يكون حتماً بالدرجة نفسها التي يحققها من يطالبهم من خلال منهج عملي وقدوة منظورة، فهو يعتذر بأدب عن الدخول أو الاستمرار في نقاشٍ غير جاد، ولا يرضى أن يضيع وقته بالإنصات لنقد غير جاد، ويحسب الحساب لوقته أن لا يضيع هدراً، ويرفض الاستجابة لمطلب يخل بجديته، فهو حين يراه الناس يرون النموذج الجاد فعلاً. وكم يساهم الأستاذ والأب والموجه في تأخير الناس مراحل عن المنزلة التي ينبغي أن يصلوها من خلال القدوة السيئة، بل كم يمارس هؤلاء في خلق الإحباط عند الجادين ووأد البذرة الجادة لدى من يريد أن يضع قدمه في أول الطريق. فهل يا ترى ينجح المربون في أن يكونوا قدوة حسنة لمن تحت أيديهم في الجدية والعملية؟! وإلا صاروا أولى أن يطالبوا هم بأن يتربوا تربية جادة تؤهلهم للانتصار على أنفسهم. 3- الوسط الجاد: مما يمكن أن يلحق بالقدوة ويدرج ضمن إطارها: الوسط الجاد، فكما أن الطالب يلمس القدوة من أستاذه وشيخه، فهو أيضاً لا يمكنه الانخلاع من التأثر بصورة أو أخرى بأقرانه وزملائه من الطلاب. وتأثر الشاب بالوسط الذي يعيشه لا يزال أهم عامل وراء النقلة الهائلة التي يقطعها الشاب نحو طريق الاستقامة. ومن ثم فإن الوسط الجاد ضرورة لا غنى عنها، ومطلب ملح للوصول إلى التربية الجادة، ومن التكليف بما لا يطاق أن يراد من الموهوب والنابغ أن يصل لما ينتظر منه وهو لا يزال يعيش في أوساط غير جادة. أفلا يمكن التفكير في خلق أجواء وأوساط أكثر جدية لبعض العناصر الجادة - ولو كان ذلك بصورة جزئية - أم أن الأوضاع التعليمية والتربوية الموروثة قد صارت سوراً منيعاً لا يسوغ تسلقه أو تجاوزه؟!. وحين نقدم البرامج التربوية بصورة جماعية فهل يعني ذلك أن نشكل الجميع في قالب واحد غير ملقين أي اعتبار للفروق الفردية والاستعدادات الشخصية؟!. ولا نزال نرى العديد من الشباب ممن يحمل همَّةً وتطلعاً للعلم والارتقاء التربوي يبقي ضحية الوسط الذي يعاشره، وبأي معيار استواء من هو في أول الطريق مع من قطع فيه مراحل. ألا يمكن أن نستمد من تاريخنا وخبرتنا التربوية وسائل تسعفنا في تجاوز أو تخفيف أثر الوسط على تلك العناصر المتميزة دون إخلال بجماعية البرامج؟!. 5- الجرأة على تجاوز الأعراف الخاطئة: تترسخ لدى الناس أعراف وعادات تكبلهم بأسرها وقيودها، وتعوقهم كثيراً عن العمل المنتج، لذا فمن يريد أن يكون جاداً منتجاً في حياته لابد له أن يختار أحد البديلين الخضوع المستمر للأعراف والعوائد وخسارة الحياة الجادة، أو تجاوزها والجرأة على مخالفتها. إن المجاملات والمناسبات الاجتماعية، وأنماط التعامل مع الأوقات نماذج للأعراف التي تمثل فيروساً للشخصيات الجادة، فتعيش مع الناس وهي تعاني الحرقة والألم. وحين تكون مشاعر بعض الناس وخواطرهم أغلى علينا من أوقاتنا وأعمالنا فسوف نمارس هدراً بلا حدود لكثير من أوقاتنا وجهودنا، فحين نريد أن نكون جادين فلنملك الجرأة على الخروج على الأعراف الخاطئة، وربما التضحية بمشاعر بعض الناس، وهي مرحلة تمهد بعد ذلك لأن يستوعبنا الناس، ويتعاملون معنا على هذا الأساس. 6- الواقعية والتدرج: يولِّد الحديث حول الجدية ومناقشتها لدى كثير من الخيرين طموحاً وحماسة نحو حياة عالية من الجد والعمل، وحين يسعى بعضهم لتحويل هذا الشعور إلى ميدان الواقع يصطدمون بقدراتهم وعاداتهم ومَن حولهم، وقد يتولد من هذه الصدمة شعور بالإحباط والفشل. ومن ثم فالواقعية والتدرج، والشعور بأن النقلة لا يمكن أن تتم في لحظات، كل ذلك يقوم بدوره في ضبط النفس لتتجنب القفزات المحطمة. وهو منهج يجب أن نمارسه في تربيتنا لأنفسنا، وفي تربيتنا لمن تحت أيدينا، وندرك أن الفترة الطويلة التي قضاها الناس في البطالة والخمول لا يمكن أن تزول آثارها بين عشية وضحاها. وبهذا وجه النبي صلى الله عليه وسلّم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لن ينجي أحداً منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟!. قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة. سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا" . [رواه البخاري 6463، ومسلم 2816 بنحوه]. 7- مراعاة الميدان المناسب: سنة الله تبارك وتعالى في الناس أنهم يتفاوتون، فمن يصلح في ميدان قد لا يصلح في سواه. قال معاوية - رضي الله عنه - لصعصعة بن صوحان: "صف لي الناس. فقال: خلق الناس أصنافاً: فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة فيما بين ذلك، يكدرون الماء، ويغلون السعر، ويضيقون الطريق". وها هو خالد بن الوليد سيف الله -رضي الله عنه- يقول: "منعني الجهاد كثيراً من القراءة". [رواه أبو يعلى، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح]. ونبّه الحافظ ابن القيم من يربي ابنه لهذا المعنى فقال: "ومما ينبغي أن يتعمّد حال الصبي، وما هو مستعدٌ له من الأعمال، ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوقٌ له، فلا يحمله على غيره، ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعدٌ له لم يفلح، وفاته ما هو مهيأ له". [تحفة المودود، ص 243]. وقال رحمه الله: "فإذا علم هذا، فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعلم، قد وفّر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق ويفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته. قال تعالى: (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ). [النساء: 100]. ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر. ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعدٌ لها أظلم عليه وقته، وضاق صدره. ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقاً إلى ربه. ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير قلبه وساءت حاله، ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده. ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه، ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار. ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة...". ثم ذكر من جمع بين تلك الطرق كلها. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي حول قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً). [التوبة: 122]: "وفي هذه الآية أيضاً دليل وإرشادٌ وتنبيه لطيفٌ لفائدة مهمة، وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة والقصد واحد، وهذه من الحكمة النافعة في جميع الأمور". [تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن 3/ 315]. فما صلة ذلك بالتربية الجادة؟!: إن كثيراً من الناشئة يتطلعون إلى ميدان من ميادين الخير، كطلب العلم، أو مجال من مجالات الدعوة مما هم غير مهيئين له أصلاً، فلا يبلغون ما يتطلعون إليه، فيشعرون أو يشعر من يريبهم أنهم صنف غير جاد، بينما لو سلك فيه الميدان المناسب له لأمكن أن يستثمر جهده، ويفتح له باب من العمل الصالح. 9- التعويد على المشاركة والعمل: اعتاد كثير من ناشئة المسلمين اليوم أن يُكفى كل شيء، فهو في المنزل يقدم له الطعام والشراب، ويتولى أهله تنظيم غرفته وغسل ملابسه، فساهم ذلك في توليد جيل كسول لا يعرف العمل والمسئولية. وفي المدرسة وميادين التعليم اعتاد التلاميذ الكسل الفكري، وصار دورهم مجرد تلقي المعلومات جاهزة دون أي جهد، وحتى حين يطلب منهم بحث أو مقالة فلابد أن تحدد لهم المراجع، وبأرقام الصفحات، وقل مثل ذلك في كثير من المحاضن التربوية. إننا حين نريد تخريج الجيل الجاد فلابد من تعويده من البداية على المشاركة وتحمل المسئولية: في المنزل بأن يتولى شؤونه الخاصة، وفي المدرسة بأن يبذل جهداً في التعلم. وعلى القائمين اليوم على المحاضن التربوية أن يأخذوا بأيدي تلامذتهم، وأن يسعوا إلى أن يتجاوزوا - في برامجهم التي يقدمونها - القوالب الجاهزة، وأن يدركوا أن من حسن تربية الناشئة أن يمارسوا المسئولية، وألا يبقوا كلاً على غيرهم في كل شيء، فينبغي أن يكون لهم دور ورأي في البرامج التي يتلقونها. وحين نعود لسيرة المربي الأول سنرى نماذج من رعاية هذا الجانب، فهو صلى الله عليه وسلّم يعلم الناس أن يتحملوا المسئولية أجمع تجاه مجتمعهم، فليست المسئولية لفرد أو فردين. فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: "مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به، فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك؟! قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم". [رواه البخاري 2686]. ومن ذلك أيضاً استشارته صلى الله عليه وسلّم لأصحابه في كثير من المواطن، بل لا تكاد تخلو غزوة أو موقف مشهور في السيرة من ذلك. وفي الاستشارة تعويد وتربية لهم، وفيها غرس للثقة، وفيها إشعار لهم بالمسئولية، ولو عاش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم على خلاف ذلك، أتراهم كانوا سيقفون المواقف المشهودة في حرب أهل الردة وفتوحات فارس والروم؟!. وعلى المستوى الفردي كان النبي صلى الله عليه وسلّم يولي أصحابه المهام، من قيادة للجيش وإمارة ودعوة وقضاء وتعليم، فأرسل رسله للملوك، وبعث معاذاً إلى اليمن، وأمَّر أبا بكر على الحج. بل كان يؤمر الشباب مع وجود غيرهم، فأمر أسامة على سرية إلى الحرقات من جهينة. [رواه البخاري 4269، ومسلم 96]. ثم أمره على جيش يغزو الروم. [رواه البخاري 4469، ومسلم 2426]. وولى عثمان بن أبي العاص إمامة قومه. [رواه مسلم 468]. ... وهكذا فالسيرة تزخر بهذه المواقف. فما أجدر الدعاة والمربين اليوم أن يسيروا على المنهج نفسه ليخرج لنا بإذن الله جيل جاد يحمل المسئولية ويعطيها قدرها. 10- المشاركة العملية من المربي: اعتاد بعض المربين أن يكون دورهم قاصراً على إعطاء الأوامر ومراقبة التنفيذ، وهو مسلك مخالف لمنهج المربي الأول صلى الله عليه وسلّم، الذي كان يعيش مع أصحابه ويشاركهم أعمالهم وهمومهم. • فشاركهم في بناء المسجد: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلّم فيهم أربع عشرة ليلة... وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلّم معهم وهو يقول اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة". [رواه البخاري 428، ومسلم 524]. • وشاركهم في حفر الخندق: فعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الخندق، وهو يحفر ونحن ننقل التراب، ويمر بنا فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة". [رواه البخاري 6414، ومسلم 1804]. • وكان يشاركهم في الفزع للصوت: فعن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلّم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلّم وقد استبرأ الخبر، وهو على فرس لأبي طلحة عريّ، وفي عنقه السيف، وهو يقول: م تراعوا، لم تراعوا. ثم قال: وجدناه بحراً، أو قال إنه لبحر". [رواه البخاري 2908، ومسلم 2307]. • وأما مشاركته لهم في الجهاد: فقد خرج صلى الله عليه وسلّم في (19) غزوة. [رواه البخاري 3949، ومسلم 1254]. بل قال عن نفسه: "ولولا أن أشقّ على أمتي ما قعدت خلف سرية". [رواه البخاري 36، ومسلم 1876]. وهي مشاركة لا تلغي دورهم وتحولهم إلى مجرد آلات صماء، بل هي تدفع للتوازن بين هذا وبين تعويدهم على العمل والمشاركة. |
#59
|
|||
|
|||
معوقات مفتعلة
يروق النموذج الجاد في التربية لكثير من الناس، ويرى أنه مثلٌ ينبغي أن يتطلع إليه، لكنه يبقى عند بعضهم صورةً مثاليةً لا يمكن أن تنزل إلى أرض الواقع، ومرحلة يتمنى الوصول إليها فيأسره الواقع الذي يعيشه، ويقارن بين النموذج المطروح والصنف الذي يتعامل معه، فيشعر أن هناك مسافة شاسعة لا يستطيع قطعها أو اختزالها. وحينئذٍ يبدي عوائق ويحتج بمفاهيم مغلوطة يشغب بها على من يطالبه بهذا المستوى من التربية، وهو في ذلك قد ينطلق من مقدمات صحيحة في الجملة، لكنها وضعت في غير موضعها، ومن هذه المعوقات المفتعلة: 1- ساعة وساعة: لقد قال صلى الله عليه وسلّم لحنظلة -رضي الله عنه-: "يا حنظلة ساعة وساعة". [رواه مسلم 2750]. فيتخذ بعض الناس هذا النص سلاحاً يشهره في وجه من يطالبه بالجدية. إنه ليس هناك ما يمنع من وجود برامج الترويح، ومن التخفيف عن النفس والإمتاع لها، بل إن هذا يهيئ النفس لتستعيد جديتها مرة أخرى، وقد كان السلف لهم نصيب من ذلك. وروى المصنفون في أدب الطلب طائفة من أخبارهم في ذلك، ومنهم الخطيب البغدادي في كتابه [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع]. فروى بإسناده عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "روحوا القلوب وابتغوا لها طرف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان". وروى عن الزهري أنه كان يقول لأصحابه: "هاتوا من أشعاركم، هاتوا من حديثكم؛ فإن الأذن مجَّة، والقلب حَمِض". وروى عن كثير بن أفلح أنه قال: "آخر مجلس جالَسْنا فيه زيد بن ثابت تناشدنا فيه الشعر". [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 129- 130]. لكن هذا شيء، وإعطاء الزخم للبرامج الترويحية شيء آخر، وحين نحتج بما فعله السلف فلا يسوغ أن ننظر بعين واحدة، فنهمل ما نشاء ونحتج بما نشاء، فليس من الجدية في التربية أن يصبح الشاب يتطلع إلى برامج الترويح، وتظل هي مقياسه وتطلعاته، وليس من التربية الجادة أن يفوق وقت برامج الترويح الوقت المخصص للدروس العلمية لئلا ينفر الشباب ! زعموا.ويدركك الأسى حين تنظر إلى الاهتمام البالغ ببرامج الترويح من خلال بعض الأنشطة الإسلامية، مما يخرج جيلاً يهتم بالتوافه ويعد الترويح من أهم متطلباته. لقد حددت الشريعة ضوابط هامة تمنع أن يجنح الترويح عن هدفه فيتحول إلى غاية، ومن ذلك نهي الرسول صلى الله عليه وسلّم عن تتبع الصيد، والصيد في الأصل مباح، إلا أن إهدار الأوقات والأعمار الثمينة في البحث عنه ومطاردته من مكان لمكان هو المنهي عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "من بدا جفا، ومن تبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن". [رواه أحمد 2/ 440 وأبو داود 2859، والنسائي 4309، والترمذي 2256]. ومن ذلك أيضاً الشعر كنشاط من أنشطة الترويح والتسرية والترفيه، فهو مباحٌ في عمومه، ولكن حين يصبح هو الهم الأكبر للإنسان، ويصرف كل وقته له فهذا هو الممنوع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لأن يمتلئ جوف رجلٍ قيحاً حتى يريه خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً". [رواه البخاري 6155، ومسلم 2257]". أ.هـ. [الترويح التربوي، رؤية إسلامية، ص 66]. 2- حدث الناس كل جمعة ولا تُمِلّهم: لقد كان صلى الله عليه وسلّم يتخول الناس بالموعظة في الأيام كراهة السآمة عليهم. [رواه البخاري 68، ومسلم 2821]. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- لعكرمة: "حدّث الناس كل جمعة ولا تُمِلّهم". [رواه البخاري 6337]. وهذا صحيح ولاشك، لكن أليس هناك فرقٌ بين عامة الناس الذين يُذكَّرون ويوعظون باقتصاد، وتُنزل هذه النصوص عليهم، وبين الشباب الذين يعدون ليتسنموا ذروة القيادة، ودفة التوجيه؟! فهؤلاء يتطلبون قدراً عالياً من العلم ومن التربية التي تؤهلهم للتأهل لهذه المواقع، وإلا فماذا نصنع بحال السلف وأعاجيبهم في طلبهم للعلم وحفظهم للأوقات، وقد مضى نماذج من ذلك. وثمة جانب آخر في الموضوع ألا وهو الفرق بين التعليم والإعداد وبين الوعظ الذي يتخول فيه الناس، بل حين يكثر ربما فقد أثره ودوره. 3- لكن الناس لا يتحملون: يطرح بعض المربين إشكالاً من نوع آخر له وجاهته، وهو جدير بأن نقف عنده قليلاً وصورة هذا التساؤل: إن النموذج الجاد مطلبٌ سليم وأمنية غالية، لكن الشباب لا يتحملون البرامج الجادة، وقد تكون سبباً في خسارة كثير من الشباب ونفورهم، ويكاد يكون هذا الإشكال العائق الأهم لدى القطاع الأكبر من المربين. وإننا نقدر هذا الحرص من إخواننا، وندرك تمام الإدراك أن أولئك يدفعهم لهذا التوجه النية الصادقة، والخوف على الشباب من أن يكونوا ضحيةً لهذه المثاليات، وأنهم يعانون الصراع بين الحرص والشفقة التي تتقد في نفوسهم، وبين الرغبة الطموحة في رقي هذا النشء مراتب أعلى في التربية، ورجحت الكفة لديهم للاعتبار الأول. لكنهم أيضاً يوافقوننا أن الحرص وحده غير كافٍ في قياس الأعمال والجهود التربوية. إننا نوافق أن هناك قطاعاً من الشباب قد لا يتحمل بعض البرامج الجادة، وقد تكون عائقاً له عن طريق الاستقامة أصلاً، لكن هذا شيء، وكون الشاب يصبح ضحية هذا الوجل والتخوف شيء آخر. إننا لا نجد مبرراً أن يعد عمر الشاب التربوي بالسنوات، وتحجب عنه مع ذلك البرامج الجادة لئلا تكون عائقاً له، ثم ما عسى هذا الجيل الذي يعيش محروساً بهذا القلق والوجل، ويبقى على التأليف والترغيب سنين عدداً، ما عسى من يتخرج في مثل هذه الأجواء أن يصنع أو يواجه المشكلات التي أمامه، فضلاً عن أن تعتمد عليه الدعوة في مراحلها الحرجة؟!. إننا نرى الشاب حين يسلك بإذن الله طريق الهداية تتحول حياته رأساً على عقب، وينتقل نقلةً هائلةً في جوانب شتى من حياته، فنتساءل حينئذ أيهما أطول مسافة: تلك التي قطعها حين استقام، فتقبل كثيراً من الأعراف، وتخلى عن كثيرٍ من الرغبات، أو النقلة التي نريده أن يصل إليها؟!. إن تلك النقلة الهائلة التي ينتقلها الشاب حين استقامته، تعطينا دلالة على أن الشاب قادر أن ينتقل نقلة أخرى إلى مستويات عالية من الجدية، لقد كان غاية همه في السابق الرياضة واللهو، وكان لا يفارق الأزقة وأماكن اللعب، فاستبدل الخير بالذي هو أدنى، وصارت طموحاته وأمنياته أعلى وأسمى، أفلا يستطيع وقد انتقل هذه النقلة أن ينتقل نقلة أخرى؟! وها هو مصعب بن عمير -رضي الله عنه- كان أعطر فتيان مكة وأنعمهم وأشدهم ثراءً، ومع ذلك مات وليس له إلا بردة إن غطي بها رأسه بدت قدماه، وإن غطيت قدماه بدا رأسه، وعاش هذه الحال راضياً مطمئناً، لقد نقلته التربية النبوية إلى مراتب من الجدية والحزم مع النفس تجاوز معها ما اعتاده في جاهليته من ثراء وترف. لقد كانت تُتَصور هذه الحالة من غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم ممن كان يعيش حالة متواضعة، لكن أن يكون مصعبُ -رضي الله عنه- كذلك فهذا خير دليل على أن التربية الجادة قادرة على أن تنقل الرجال مراحل أقوى مما قد نظن. 4- ضريبة التربية الجماعية: قد يجتاز بعض المربين العقبة السابقة، ويوافق أن الشاب قادر على أن يرتقي إلى مراتب تربوية أعلى، لكنه جزء من منظومة، والتربية الجماعية ضرورة ملحة، ومن ثم فلابد لها من ضحايا، فنحن إما أن نرتقي بهذا الشاب وهذا يعني أن نضحي بمن هو دونه ممن لا يطيق التفاعل مع هذه البرامج، أو أن نقبل بوجود من هو دونه ولو أدى ذلك إلى النزول بالمستوى التربوي له فهو الآن لا يمثل نفسه، وليس هو المقياس الوحيد لمدى ملاءمة البرامج التربوية. وهي صورة تتكرر كثيراً، فتحجب مراتب تربوية عمن يستحقها لأنه ضحية ارتباطه في صف دراسي، أو برنامج تربوي بمن لا يتحمل، ويصبح الضعيف حينئذٍ أميرَ الركب والناس من ورائه تبعاً له. ومع تقديرنا للرفق بالضعيف، وتجنب القفزات المحطمة معه، نتساءل: ما ذنب غيره ممن سار مراحل، ويحمل مواهب وقدرات؟!. ألا نملك عقولاً ناضجة، وتفكيراً مستقلاً يدعونا إلى حل هذه المشكلات؟!. ولست أدري: لماذا تظل الأوضاع التربوية القائمة والوسائل الموروثة سوراً لا يجوز تسلقه ولا ينبغي تخطّيه؟!. اعتدنا في مجتمعاتنا الإسلامية أن يسير ثلاثون طالباً في فصل واحد وفيهم النابغ واللبيب الذي تفهمه الإشارة، ومن دون ذلك، والضعيف، ومع ذلك يبذل لهم جهد واحد، ومدرس واحد، ومنهج واحد لسنوات عدة. وقل مثل ذلك في سائر البرامج التربوية، ولئن كان الوضع الدراسي يحول دون تحويره عقبات كثيرة، ويحتاج لتغيير في البنية التعليمية، وقد يصطدم بآراء، ووجهات نظر، لئن كان هو كذلك فالبرامج التربوية الأخرى دونه بكثير. وجيل الصحوة مدعو للمراجعة الجادة لوسائله وأن لا تكون هذه الوسائل حاجزاً وعائقاً دون تحقيق أهداف طموحة يسعى إليها، وأن تنطلق الوسائل، وتحكم بالاقتناعات والمناهج التربوية، لا أن يكون العكس فتصبح المناهج خاضعة لها. ونستطيع أن نحافظ على البنية الجماعية في البرامج التربوية، مع الارتقاء بها إلى قدر أعلى، ثم مع ذلك نبذل جهداً آخر لفئة تحمل الطموح والتطلع. ولن يكون الغرب الذي يخصص مدارس ومناهج وبرامج خاصة للموهوبين والنابغين، لن يكون أحرص منا على نشئنا وجيلنا. |
#60
|
|||
|
|||
من خوارم التربية الجادة
والآن لنفتح صفحات عاجلة من حاضرنا تنطق جميعها بفقد التربية الجادة، أو انخفاض مستوى الجدية، ولن نستطيع الإتيان على جميع هذه الصفحات، لكنها أمثلة عجلى تذكر بغيرها، وعلامات تدل على ما سواها من الأمراض التي نعاني منها، ومكمن الداء فيها هو افتقاد التربية الجادة، وقد تتداخل بعض هذه الصور، أو ترقى لتمثل وجهين لعملة واحدة، ونحن لسنا في قضية تأصيل منطقية أو جدل فلسفي، وغاية ما نريده ربط القارئ بالواقع المتكرر الذي يشاهده. 1- فمن خوارم التربية الجادة: الانشغال والمبالغة بالحديث عن المكاسب والمنجزات والأعمال والبرامج التي قدمت لخدمة دين الله، حديثاً تسوده لغة المبالغة، فيدرك القريب والبعيد أن ثمة هوة ساحقة بين هذا الحديث وبين الواقع العملي، وأن الرصيد من العمل يعجز عن الوفاء ببعض ما يقال، وقد امتدت العدوى وللأسف إلى بعض المناشط الإسلامية، ولعل قراءة تقرير ختامي أو حضور حفل اختتام نشاط معين تعطينا الدلالة على وجود هذه الظاهرة. 2- ومن خوارم التربية الجادة: لغة النقد التي يحترفها بعض الناس وتملأ مجالسه، فينتقد الأفراد والجماعات والدعاة والعلماء والكتاب والبرامج والمؤسسات الدعوية، نقداً صارخاً لا يبقى على الأخضر واليابس، بل ويكون النقد هدفاً يقرأ ويسمع لأجله، فهناك من وظف نفسه لهذه المهمة، وتطوع لخدمة أعداء الدعوة بالمجان فقضى سحابة نهاره وأشرف لياليه في الطعن والنقد والتصنيف والإثارة؟!. وحين تتساءل عن حاله: ماذا قدم؟! وماذا عمل؟! هل وظف جزءاً من وقته في دعوة شاب منحرف؟! أو في إنكار منكرات عامة أو خاصة؟! أو دعوة غير مسلم للإسلام؟! أو سهر على محتاج أو أرملة؟! ترى البون الشاسع بين واقعه ومقاله!. إن غالب هذا الصنف لا ترى له أثراً عملياً، بل لعل النقد وسيلة نفسية يتهرب بها من العمل، أليس هذا من عاجل العقوبة أن يحرم العمل حيث يعمل الناس، ويسلب بركة الإنتاج حيث يتسابق إليها الناس؟!. 3- ومن خوارم التربية الجادة: كثرة الشكوى من مشكلات الواقع ومشكلات العمل الإسلامي، ومشكلات الشباب والدعوة..... إلى نهاية هذه القائمة الطويلة، وهي غالباً ما تكون شكوى صادقة لكنها تأخذ مساحة من التفكير، وينطبع أثرها على السلوك والعمل فيصبح صاحبها محطم الآمال سريع اليأس، وقد يتخيل بعض الخيرين أن هذا دليل على جدية الاهتمام ومؤشر خير، لكن الرجل الجاد الذي أخذ على عاتقه هم العمل وشعر أنه هو الهدف والمطلب الأساس، يرى أن استطراده في اجترار المشكلات وكثرة الحديث عنها لا يجدي، فوق أنه يشغل عن العمل. وهذا لا يعني رفض مناقشة المشكلات والسؤال عن حلولها، لكنه شيء آخر غير تلك الروح التي سيطرت على بعض الخيرين، فأصبح لا يجيد إلا هذه اللغة، ولا يتقن إلا هذا المنطق. 4- ومن خوارم التربية الجادة: الانهزام أمام أي مشكلة أو تعويق أو مضايقه، والتخلي بحجة عدم فتح المجال وعدم التأييد، إلى غير ذلك من الأعذار. شاب يدرِّس في مدرسة، أو يعمل في مؤسسة، أو يَدْرس في جامعة في أي مكان على عرض العالم الإسلامي وطوله، فيحاصر نشاطه، وتوصد بعض الأبواب أمامه، فيقف مكتوف الأيدي بانتظار فتح تلك الأبواب، أو يطلب الانتقال من هذا المجال إلى مجال آخر، أي منطق يسيطر على تفكير هذا الصنف من الناس؟! وهل كان أنبياء الله أو الدعاة والمصلحون كذلك؟! بل ودعاة الطوائف وحملة المذاهب الأرضية يعانون ما يعانون، ومع ذلك يبذلون ما يطيقون، مع ضعف الثمرة وقلة النتاج، وسوء النية فوق ذلك كله. فلم لا تأخذ التربية على عاتقها إعداد صنف من العاملين يعملون على كافة الأحوال وسائر الظروف والأوضاع؟! إن الجيل الذي لا يعمل إلا من خلال قنوات محددة، أو وسط ترحيب وعناية الآخرين ليس هو الجيل المؤهل للتغيير، ولن يرقى الجيل لذلك حتى يدرك أن من مسئوليته فتح الأبواب والبحث عن المجالات التي لا تقل مسئولية عن العمل ذاته. 5- ومن خوارم التربية الجادة: الاكتفاء بمجرد الانتماء لركب الصحوة والمصاحبة الخيرة دون أي جهد أو مشاركة، أو الاقتصار على حمل المشاعر المؤيدة للخير وأهله، وحضور المنتديات والدروس دون أدنى خطوة إيجابية أو مشاركة فعالة، ويتصور أن هذا غاية ما يمكن تقديمه، وأن الذهاب والإياب واللقاء مع الأخيار والتفاعل مع الأنشطة الإسلامية يكفي حتى يكون مندرجاً في قطار الدعاة إلى الله. وكم يدور في مجالس المثقفين وأنصاف المتعلمين من الحديث المستفيض عن الدعوة، وعن جهود الدعاة، فليت الدعاة يصنعون كذا، وليتهم يقولون كذا، أو يتحفظون من هذا القول، ويتجنبون ذاك، وهي مقترحات جادة، وانتقادات منضبطة، لكنها تدار في هذه المجالس، والمتحدث يعبث بمسبحته، أو يهز يده، ويتوقف الأمر عند هذا الحد، دون خطوة عملية. وتأمل في الساحة الإسلامية بالله عليك لترى كم نسبة أولئك الذين لا يؤهلهم للانتساب للصحوة إلا مجرد التفاعل مع بعض المناشط الإسلامية، والمشاركة في الحديث عن القضايا المطروحة في الساحة؟! أليس هذا الصنف مبعثاً على أزمة الطاقات والجفاف المدقع من العاملين الذي تعانيه المناشط الإسلامية؟! وهذا المنطق والحديث يمثل تنفيساً عن الشعور المختلج في النفس بضرورة العمل للإسلام والمشاركة، وهو تنفيس غير طبيعي فنحن أحوج ما نكون إلى استجماع الطاقة لا تبديدها. 6- ومن خوارم التربية الجادة: الحديث المستفيض عن واقع المجتمع: نقداً وذكراً لصور الانحراف وقصص الفساد، ويأخذ الحديث ساعات طوالاً، دون أن يتمخض عن توصيات عملية، أو مقترحات فعالة توضع موضع التنفيذ، ويكفي أن تبدأ موضوعاً أو تشير إلى جانب من الجوانب الاجتماعية، ليتتابع الجميع في عرض الصور والمواقف والشواهد، وهو حديث يسيطر على كثير من مجالس الأخيار، ويستولي على أوقات ثمينة لهم، ويظن أصحابه أنه حديث إيجابي. لكن تفكيراً متأنياً يقودنا إلى الاقتناع أنه ليس ثمة فائدة عملية من وراء ذلك الحديث، بل هناك نتائج سلبية، ليس أقلها خروج الجميع من مثل هذه المجالس بقدر من الإحباط، وسيطرة عبارة: (هلك الناس) على تفكيرهم ومقالهم، وهذا الشعور اليائس له دور بارز في تبديد كل طاقة للعمل، وتفتيت كل حماسة للإنتاج، وهذا ليس دعوة لإلغاء الحديث في انتقاد الواقع فهو أمر مطلوب ونوع من الإنكار، لكنه حين يكون حديثاً فقط فهو لا يزيد على امتصاص الحماسة والتنفيس عن معاناة نحن أحوج إلى استثمارها في عمل منتج. 7- ومن خوارم الجدية: الحديث عن المؤامرات التي تحاك ضد الإسلام والصحوة من الأعداء في الداخل والخارج، حديث المتشائم، حديث من يقول لسان حاله رويداً: (فالسيل لن تسده بعباءتك... لست وكيلاً لآدم على ذريته... لكم دينكم ولي دين) إلى آخر تلك القائمة الطويلة من المعاذير، بل الاعتراضات على أوامر الله. إن الحديث عن الأعداء وتآمرهم مطلب، وإن الشعور بالمعركة أمر له أهميته، لكن هذا شيء آخر غير حديث هذا الصنف الذي لا يتبعه جهد ولا عمل. أما حين يكون ذلك الحديث للمدارسة، وشحذ الهمم، وكشف الألاعيب، ووضوح سبيل المجرمين، فهذا جزء من الواجب. 8- ومن خوارم الجدية: تدافع المسؤوليات والأدوار، وإلقاء التبعات على الآخرين، قد يسوغ هذا السلوك لموظف في شركة أو عامل بناء يتمنى الخلاص من العمل ليتولاه غيره ويلقي التبعة على سواه، أما الذين يدركون قيمة العمل إذ هو مطلب لهم فنجاحه يهمهم، ومساهمتهم يعتبرون أنها فرصة سانحة يعد التخلف عنها تفويتاً دون مقابل، أولئك لهم شأن آخر وحال مغايرة. نعم فتدافع الفتيا مثلاً أمرٌ مشروع، وتدافع الإمارة كان من هدي السلف، لكن ذلك في حدود من يتولى الأمر فلان أم فلان، أما بعد ذلك فلابد من البت وقطع الأمر، ولم نر أن ولاية للمسلمين عطلت، أو أن مستفتياً لم يجد من يفتيه. 9- ومن خوارم الجدية: التواضع المصطنع، وهو نموذج يتكرر كثيراً، وإجابة تسبق طلبك في أحايين ليست بالقليلة سوف تسمع: (لا أستطيع، لا أقدر، الله المستعان، ومتى كنا أهلاً لذلك، هناك من هو خير مني...). عبارات نسمعها من طائفة من الناس حين يدعون للخير، ويطلب منهم مشاركة في أمور الدعوة. إن التواضع خلق شرعي، ومقت النفس وذمها هدي راتب من هدي السلف لا يسوغ الإخلال به، لكن أن يكون عائقاً عن العمل، ومثبطاً عن المشاركة فهذا شيء آخر، لقد كان من السلف من يتصدى لنشر العلم وللفتيا وللقضاء وللدعوة ولإنكار المنكر، مع كل هذا المقت لأنفسهم واستشعار أنها دون ما ينبغي أن تكون عليه، ومهما أوتي المرء فلن يكون أكثر منهم مقتاً لنفسه، وحتى أولئك الذين تركوا عملاً أو ميداناً من الميادين شغله غيرهم. إن هناك طائفة يدفعهم شعور صادق، وإحساس بالقصور فعلاً - مع أن هذا ليس عذراً - لكن ثمة فئةٌ ليست بالقليلة لو كانوا واقعيين مع أنفسهم لوجدوا أن العذر الحقيقي العجز والكسل لا غير، وشاهد ذلك أنهم يرون العاملين في ميادين كثيرة دونهم في جميع المعايير، وتسمع منهم الانتقاد كثيراً والحديث عن الأخطاء، ولو كان أولئك جادين فعلاً، لدفعهم الانتقاد إلى الشعور بالحاجة، ومن ثم العمل بعد ذلك، لكن حين يعرف السبب يبطل العجب. أليس هذا الصنف من التواضع المصطنع ثمرةٌ سيئة لتخلف التربية الجادة؟! وما الفرق بين أن يسابق المرء لقيام الليل وصيام النفل، أو يسابق لميادين الدعوة إلى الله والمشاركة فيها؟!. إنك تُدهش حين تتأمل واقع الأمة المرير، وحاجتها لكل طاقات أبنائها على اختلاف مستوياتهم وقدراتهم، وترى في المقابل واقع ذلك الصنف من الناس الذي يتخلى عن العمل، ويمتنع عن المشاركة بحجة أنه ليس أهلاً، ولن تستطيع تفسير هذه الظاهرة، أو حل هذا اللغز إلا أنه فقد الجدية. 10- ومن خوارم الجدية: سوء التعامل مع الوقت، والحديث عن أهمية الوقت وضرورة استغلاله أصبح أمراً يدركه الجميع ويتحدث عنه الكثير، لكن كيف يقضي كثير من المنتسبين لجيل الصحوة أوقاتهم؟! إن الاعتذار بضيق الوقت يسبق كل تكليف، ويتقدم كل طلب للمشاركة أو دعوة للعمل، وهو ديباجة تقدم بين يدي المحاضرة، وفي مقدمة الكتاب، وبداية الدرس. لكن ضيَّق الوقت هذا يمكن أن يجد فرصة بكل سهولة لحضور وليمة تستغرق ساعات طويلة، ويستطيع أن يقابل عدداً من الأصدقاء والزملاء في جلسات منوعة، لا يجمعها إلا أنها على غير نتيجة أو عمل ذي بال. أليس الأولى أن تعكس الصورة فيُعتذر عن هذه ويُستجاب لتلك؟! وهو مع ذلك يجد وقتاً واسعاً لكتابة بحث ترقية، أو تقديم رسالة علمية! أو مهمة رسمية تتطلب منه سفراً قد يطول وينأى، ولسنا نعترض على هذه المجالات، أو نحسد هؤلاء في أرزاقهم، لكن من يستطيع أن يجد لها وقتاً يستطيع لما سواها إذا كان جاداً. ولعل من مقاييس اعتناء المرء بوقته كيفية قضائه لوقت الراحة والإجازة، ذلك أن العناية باستثمارها والحرص على استغلالها يحل كثيراً من المشكلات التي نعرضها حول ضيق الوقت واستثماره. إن الرجل الجاد يدرك قيمة الوقت والتفرغ، ومن ثم فله نظرة أخرى لأوقات الراحة والإجازة، في حين يتعامل معها غيره بصورة أكثر إهمالاً وفوضى. وليست هذه دعوة إلى إرهاق النفس وهضمها حقوقها، لكن ومع أن لنفس الإنسان حقاً عليه فلا يعني ذلك أن تضيع أوقاته النفيسة هدراً، فإذا كانت الإجازة للراحة، وحين تنتهي فهو منشغل بهموم عمله الرسمي وأمور منزله وأولاده، ووقته ضيق عن المشاركة أكثر في ميادين الدعوة، فمتى يجد الوقت المناسب يا ترى؟! الإجابة باختصار وبصراحة حين يكون جاداً يستطيع أن يجد الوقت المناسب. 11- ومن خوارم الجدية: الإغراق في قيل وقال؛ إذ تختار النفس هذا المسلك حين تنصرف عن الاهتمامات العالية الطموحة، فيسيطر ذلك على حديث المرء في الحديث عن الناس، وتقييمهم - والغالب في ذلك مجانبة العدل - والحديث عن أمور الدنيا، وآخر أخبار الناس، إلى آخر تلك القائمة الطويلة التي لا توصف بأصدق من قوله صلى الله عليه وسلّم: "إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال". [رواه البخاري 2408، ومسلم 593]. |
العلامات المرجعية |
|
|