#31
|
||||
|
||||
|
#32
|
||||
|
||||
|
#33
|
||||
|
||||
الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ الشرح: قوله: (باب الحمى من فيح جهنم) بفتح الفاء وسكون التحتانية بعدها مهملة، وسيأتي في حديث رافع آخر الباب " من فوح " بالواو، وتقدم من حديثه في صفة النار بلفظ " فور " بالراء بدل الحاء وكلها بمعنى، والمراد سطوع حرها ووهجه. والحمى أنواع كما سأذكره. واختلف في نسبتها إلى جهنم فقيل حقيقة، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة، أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة. وقد جاء في حديث أخرجه البزار من حديث عائشة بسند حسن، وفي الباب عن أبي أمامة عند أحمد، وعن أبي ريحانة عند الطبراني، وعن ابن مسعود في مسند الشهاب " الحمى حظ المؤمن من النار " وهذا كما تقدم في حديث الامر بالابراد أن شدة الحر من فيح جهنم وأن الله أذن لها بنفسين، وقيل: بل الخبر ورد مورد التشبيه، والمعنى أن حر الحمى شبيه بحر جهنم تنبيها للنفوس على شدة حر النار، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها وهو ما يصيب من قرب منها من حرها كما قيل بذلك في حديث الابراد، والاول أولى، والله أعلم. ويؤيده قول ابن عمر في آخر الباب. الحديث: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ اكْشِفْ عَنَّا الرِّجْزَ الشرح: حديث ابن عمر أخرجه من طريق عبد الله بن وهب عن مالك، وكذا مسلم. وأخرجه النسائي من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك، قال الدار قطني في " الموطئات ": لم يروه من أصحاب مالك في " الموطأ " إلا ابن وهب وابن القاسم وتابعهما الشافعي وسعيد بن عفير وسعيد بن داود، قال: ولم يأت به معن ولا القعنبي ولا أبو مصعب ولا ابن بكير انتهى. وكذا قال ابن عبد البر في التقصي.
وقد أخرجه شيخنا في تقريبه من رواية أبي مصعب عن مالك، وهو ذهول منه، لانه اعتمد فيه على الملخص للقابسي، والقابسي إنما أخرج الملخص من طريق ابن القاسم عن مالك، وهذا ثاني حديث عثرت عليه في تقريب الاسانيد لشيخنا عفا الله تعالى عنه من هذا ال***، وقد نبهت عليه نصيحة لله تعالى والله أعلم، وقد أخرجه الدار قطني والاسماعيلي من رواية حرملة عن الشافعي، وأخرجه الدار قطني من طريق سعيد بن عفير، ومن طريق سعيد بن داود، ولم يخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " لانه ليس في رواية يحيى بن يحيى الليثي، والله أعلم. قوله: (فأطفئوها) بهمزة قطع ثم طاء مهملة وفاء مكسورة ثم همزة أمر بالاطفاء، وتقدم في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع في صفة النار من بدء الخلق بلفظ " فأبردوها " والمشهور في ضبطها بهمزة وصل والراء مضمومة، وحكي كسرها، يقال بردت الحمى أبردها بردا بوزن قتلتها أقتلها قتلا أي أسكنت حرارتها، قال شاعر الحماسة: إذا وجدت لهيب الحب في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد هبني بردت ببرد المـاء ظاهره فمن لنار على الاحشاء تتقد وحكى عياض رواية بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء، من أبرد الشيء إذا عالجه فصيره باردا، مثل أسحنه إذا صيره سخنا، وقد أشار إليها الخطابي. وقال الجوهري: إنها لغة رديئة. قوله: (بالماء) في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه " بالماء البارد " ومثله في حديث سمرة عند أحمد، ووقع في حديث ابن عباس " بماء زمزم " كما مضى في صفة النار من رواية أبي جمرة بالجيم قال: " كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى " وفي رواية أحمد " كنت أدفع للناس عن ابن عباس فاحتبست أياما فقال: ما حبسك؟ قلت الحمى، قال: أبردها بماء زمزم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء أو بماء زمزم " شك همام. كذا في راوية البخاري من طريق أبي عامر العقدي عن همام. وقد تعلق به من قال بأن ذكر ماء زمزم ليس قيدا لشك راوية فيه. وممن ذهب إلى ذلك ابن القيم. وتعقب بأنه وقع في رواية أحمد عن عفان عن همام " فأبردوها بماء زمزم " ولم يشك، وكذا أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم من رواية عفان، وإن كان الحاكم وهم في استدراكه. وترجم له ابن حبان بعد إيراده حديث ابن عمر فقال: ذكر الخبر المفسر للماء المجمل في الحديث الذي قبله، وهو أن شدة الحمى تبرد بماء زمزم دون غيره من المياه، وساق حديث ابن عباس، وقد تعقب - على تقدير أن لا شك في ذكر ماء زمزم فيه - بأن الخطاب لاهل مكة خاصة لتيسر ماء زمزم عندهم، كما خص الخطاب بأصل الامر بأهل البلاد الحارة. وحفي ذلك على بعض الناس. قال الخطابي ومن تبعه: اعترض بعض سخفاء الاطباء على هذا الحديث بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك، لانه يجمع المسام ويحقن البخار ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم فيكون ذلك سببا للتلف، قال الخطابي: غلط بعض من ينسب إلى العلم فانغمس في الماء لما أصابته الحمى فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه فأصابته علة صعبة كادت تهلكه، فلما خرج من علته قال قولا سيئا لا يحسن ذكره، وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث، والجواب أن هذا الاشكال صدر عن صدر مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولا من أين حملت الامر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية فضلا عن اختصاصها بالغسل، وإنما في الحديث الارشاد إلى تبريد الحمى بالماء فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن انغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد، وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع، فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به، وهو كما وقع في أمره العائن بالاغتسال وأطلق، وقد ظهر من الحديث الاخر أنه لم يرد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة، وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى ما صنعته أسماء بنت الصديق، فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئا من الماء بين يديه وثوبه فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، والصحابي ولا سيما مثل أسماء التي هي ممن كان يلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها، ولعل هذا هو السر في إيراد البخاري لحديثها عقب حديث ابن عمر المذكور، وهذا من بديع ترتيبه. وقال المازري: ولا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل، حتى أن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة ثم يصير داء له في الساعة التي تليها، لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه مثلا فيتغير علاجه، ومثل ذلك كثير، فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو بغيره في سائر الاحوال، والاطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف وقوة الطباع. ثم ذكر نحو ما تقدم. قالوا: وعلى تقدير أن يريد التصريح بالاغتسال في جميع الجسد، فيجاب بأنه يحتمل أن يكون أراد أنه يقع بعد إقلاع الحمى، وهو بعيد. ويحتمل أن يكون في وقت مخصوص بعدد مخصوص فيكون من الخواص التي اطلع صلى الله عليه وسلم عليها بالوحي، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب. وقد أخرج الترمذي من حديث ثوبان مرفوعا " إذا أصاب أحدكم الحمى - وهي قطعة من النار - فليطفئها عنه بالماء، يستنقع في نهر جار ويستقبل جريته وليقل: بسم الله، اللهم اشف عبدك وصدق رسولك، بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ فخمس، وإلا فسبع، وإلا فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله " قال الترمذي غريب. قلت: وفي سنده سعيد بن زرعة مختلف فيه. قال: ويحتمل أن يكون لبعض الحميات دون بعض، في بعض الاماكن دون بعض، لبعض الاشخاص دون بعض. وهذا أوجه. فإن خطابه صلى الله عليه وسلم قد يكون عاما وهو الاكثر، وقد يكون خاصا كما قال: " لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا " فقوله " شرقوا أو غربوا " ليس عاما لجميع أهل الارض بل هو خاص لمن كان بالمدينة النبوية وعلى سمتها كما تقدم تقريره في كتاب الطهارة، فكذلك هذا يحتمل أن يكون مخصوصا بأهل الحجاز وما والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من العرضية الحادثة عن شدة الحرارة، وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا، لان الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق إلى جميع البدن، وهي قسمان: عرضية وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك، ومرضية وهي ثلاثة أنواع، وتكون عن مادة، ثم منها ما يسخن جميع البدن، فإن كان مبدأ تعلقها بالروح فهي حمى يوم لانها تقع غالبا في يوم ونهايتها إلى ثلاثة، وإن كان تعلقها بالاعضاء الاصلية فهي حمى دق وهي أخطرها، وإن كان تعلقها بالاخلاط سميت عفنية وهي بعدد الاخلاط الاربعة، وتحت هذه الانواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الافراد والتركيب. وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الاول فإنها تسكن بالانغماس في الماء البارد وشرب الماء المبرد بالثلج وبغيره ولا يحتاج صاحبها إلى علاج آخر، وقد قال جالينوس في كتاب حيلة البرء لو أن شابا حسن اللحم خصب البدن ليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه وقت القيظ عند منتهى الحمى لا ينتفع بذلك. وقال أبو بكر الرازي: إذا كانت القوى قوية والحمى حادة والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق فإن الماء البارد ينفع شربه، فإن كان العليل خصب البدن والزمان حارا وكان معتادا باستعمال الماء البارد اغتسالا فليؤدن له فيه. وقد نزل ابن القيم حديث ثوبان على هذه القيود فقال: هذه الصفة تنفع في فصل الصيف في البلاد الحارة في الحمى العرضية أو الغب الخالصة التي لا ورم معها ولا شيء من الاعراض الرديئة، والمراد الفاسدة، فيطفئها بإذن الله، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس، ووفور القوي في ذلك الوقت لكونه عقب النور والسكون وبرد الهواء، قال: والايام التي أشار إليها هي التي يقع فيها بحرارة الامراض الحادة غالبا ولا سيما في البلاد الحارة. والله أعلم. |
#34
|
||||
|
||||
قالوا: وقد تكرر في الحديث استعماله صلى الله عليه وسلم الماء البارد في علته كما قال " صبوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن " وقد تقدم شرحه.
وقال سمرة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على قرنه فاغتسل " أخرجه البزار وصححه الحاكم، ولكن في سنده راو ضعيف. وقال أنس: " إذا حم أحدكم فليشن عليه من الماء البارد من السحر ثلاث ليال " أخرجه الطحاوي وأبو نعيم في الطب والطبراني في " الاوسط " وصححه الحاكم وسنده قوي، وله شاهد من حديث أم خالد بنت سعيد أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم في الطب من طريقه. وقال عبد الرحمن بن المرقع رفعه " الحمى رائد الموت، وهي سجن الله في الارض فبردوا لها الماء في الشنان، وصبوه عليكم فيما بين الاذانين المغرب والعشاء. قال ففعلوا فذهب عنهم " أخرجه الطبراني. وهذه الاحاديث كلها ترد التأويل الذي نقله الخطابي عن ابن الانباري أنه قال: المراد بقوله فأبردوها الصدقة به، قال ابن القيم: أظن الذي حمل قائل هذا أنه أشكل عليه استعمال الماء في الحمى فعدل إلى هذا، وله وجه حسن لان الجزاء من *** العمل، فكأنه لما أخمد لهيب العطشان بالماء أخمد الله لهيب الحمى عنه، ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته، وأما المراد به بالاصل فهو استعماله في البدن حقيقة كما تقدم، والله أعلم. قوله: (قال نافع وكان عبد الله) أي ابن عمر (يقول اكشف عنا الرجز) أي العذاب، وهذا موصول بالسند الذي قبله، وكأن ابن عمر فهم من كون أصل الحمى من جهنم أن من أصابته عذب بها، وهذا التعذيب يختلف باختلاف محله: فيكون للمؤمن تكفيرا لذنوبه وزيادة في أجوره كما سبق، وللكافر عقوبة وانتقاما. وإنما طلب ابن عمر كشفه مع ما فيه من الثواب لمشروعية طلب العافية من الله سبحانه، إذ هو قادر على أن يكفر سيئات عبده ويعظم ثوابه، من غير أن يصيبه شيء يشق عليه، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِالْمَرْأَةِ قَدْ حُمَّتْ تَدْعُو لَهَا أَخَذَتْ الْمَاءَ فَصَبَّتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَبْرُدَهَا بِالْمَاءِ الشرح: قوله: (عن هشام) هو ابن عروة بن الزبير، وفاطمة بنت المنذر أي ابن الزبير هي بنت عمه وزوجته، وأسماء بنت أبي بكر جدتهما لابويهما معا. قوله: (بينها وبين جيبها) بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة: هو ما يكون مفرجا من الثوب كالكم والطوق. وفي رواية عبدة عن هشام عند مسلم " فتصبه في جيبها". قوله: (أن نبردها) بفتح أوله وضم الراء الخفيفة. وفي رواية لابي ذر بضم أوله وفتح الموحدة وتشديد الراء من التبريد، وهو بمعنى رواية أبرد بهمزة مقطوعة، زاد عبدة في روايته " وقال إنها من فيح جهنم". الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ الشرح: قوله: (يحيى) هو القطان، وهشام هو ابن عروة أيضا. وأشار بإيراد روايته هذه عقب الاولى إلى أنه ليس اختلافا على هشام، بل له في هذا المتن إسنادان، بقرينة مغايرة السياقين. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الاحْوَصِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْحُمَّى مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ الشرح: قوله: (من فيح جهنم) في رواية السرخسي " من فوح " بالواو، وتقدم في صفة النار من بدء الخلق من هذا الوجه بلفظ " من فور " وكلها بمعنى، وتقدم هناك بلفظ " فأبردوها عنكم " بزيادة " عنكم " وكذا زادها مسلم في روايته عن هناد بن السري عن أبي الاحوص بالسند المذكور هنا. باب مَنْ خَرَجَ مِنْ أَرْضٍ لا تُلايِمُهُ الشرح: قوله: (باب من خرج من أرض لا تلايمه) بتحتانية مكسورة، وأصله بالهمز ثم كثر استعماله فسهل، وهو من الملاءمة بالمد أي الموافقة وزنا ومعنى. وذكر فيه قصة العرنيين، وقد تقدمت الاشارة إليها قريبا، وكأنه أشار إلى أن الحديث الذي أورده بعده في النهي عن الخروج من الارض التي وقع فيها الطاعون ليس على عمومه. وإنما هو مخصوص بمن خرج فرارا منه كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى. |
#35
|
||||
|
||||
الرُّقَى بِالْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ
الشرح: قوله: (باب الرقى) بضم الراء وبالقاف مقصور: جمع رقية بسكون القاف، يقال رقي بالفتح في الماضي يرقى بالكسر في المستقبل، ورقيت فلانا بكسر القاف أرقيه، واسترقى طلب الرقية، والجمع بغير همز، وهو بمعنى التعويذ بالذال المعجمة. قوله: (بالقرآن والمعوذات) هو من عطف الخاص على العام، لان المراد بالمعوذات سورة الفلق والناس والاخلاص كما تقدم في أواخر التفسير، فيكون من باب التغليب. أو المراد الفلق والناس وكل ما ورد من التعويذ في القرآن كقوله تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) ، (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) وغير ذلك، والاول أولى، فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من رواية عبد الرحمن بن حرملة عن ابن مسعود " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال " فذكر فيها الرقى إلا بالمعوذات، وعبد الرحمن بن حرملة قال البخاري لا يصح حديثه. وقال الطبري لا يحتج بهذا الخبر لجهالة راويه، وعلى تقدير صحته فهو منسوخ بالاذن في الرقبة بفاتحة الكتاب، وأشار المهلب إلى الجواب عن ذلك بأن في الفاتحة معنى الاستعاذة وهو الاستعانة فعلى هذا يختص الجواز بما يشتمل على هذا المعنى، وقد أخرج الترمذي وحسنه والنسائي من حديث أبي سعيد " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الانسان حتى نزلت المعودات فأحذ بها وترك ما سواها". وهذا لا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل يدل على الاولوية، ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما، وإنما اجتزأ بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا، وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى. واختلفوا في كونها شرطا، والراجح أنه لا بد من اعتبار الشروط المذكورة، ففي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك قال: " كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " وله من حديث جابر " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا: يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب، قال: فعرضوا عليه فقال: ما أرى بأسا، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه " وقد تمسك قوم بهذا العموم فأجازوا كل رقية جربت منفعتها ولو لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف أنه مهما كان من الرقى يؤدي إلى الشرك يمنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمتنع احتياطا، والشرط الاخر لا بد منه. وقال قوم لا تجوز الرقية إلا من العين واللدغة كما تقدم في " باب من اكتوى " من حديث عمران بن حصين " لا رقية إلا من عين أو حمة"، وأجيب بأن معنى الحصر فيه أنهما أصلا كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلتحق بالعين جواز رقية من به خبل أو مس ونحو ذلك لاشتراكها في كونها تنشأ عن أحوال شيطانية من إنسي أو جني، ويلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية. وقد وقع عند أبي داود في حديث أنس مثل حديث عمران وزاد " أو دم " وفي مسلم من طريق يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أنس قال: " رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقى من العين والحمة والنملة " وفي حديث آخر " والاذن " ولابي داود من حديث الشفاء بنت عيد الله " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ألا تعلمين هذه - يعني حفصة - رقية النملة " والنملة قروح تخرج في الجنب وغيره من الجسد، وقيل المراد بالحصر معنى الافضل، أي لا رقية أنفع كما قيل: لا سيف إلا ذو الفقار. وقال قوم: المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما، وفيه نظر، وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قرنت فيه التمائم بالرقى، فأخرج أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم من طريق ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عنها عن ابن مسعود رفعه " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " وفي الحديث قصة، والتمائم جمع تميمة وهي خرز أو قلادة تعلق في الرأس، كانوا في الجاهلية يعتقدون أن دلك يدفع الافات، والتولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك لانهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله، ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه، فقد ثبت في الاحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه كما سيأتي قريبا في " باب المرأة ترقى الرجل " من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم " كان إذا أوى إلى فراشه ينفث بالمعوذات ويمسح بهما وجهه " الحديث، ومضى في أحاديث الانبياء حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم " كان يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة " الحديث، وصحح الترمذي من حديث خولة بنت حكيم مرفوعا " من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يتحول " وعند أبي داود والنسائي بسند صحيح عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن رجل من أسلم " جاء رجل فقال: لدغت الليلة فلم أنم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك " والاحاديث في هذا المعنى موجودة، لكن يحتمل أن يقال: إن الرقى أخص من التعوذ، وإلا فالخلاف في الرقى مشهور، ولا خلافه في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما وقع وما يتوقع. وقال ابن التين: الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله هو الطب الروحاني، إذا كان على لسان الابرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى، فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم، ويقال: إن الحية لعداوتها للانسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذا اللديغ إذا رقى بتلك الاسماء سالت سمومها من بدن الانسان، فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئا من الشرك، وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الامة. وقال القرطبي: الرقى ثلاثة أقسام، أحدها ما كان يرقى به في الجاهلية مما لا يعقل معناه فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى الشرك. الثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورا فيستحب. الثالث: ما كان بأسماء غير الله من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات كالعرش، قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله والتبرك بأسمائه فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقى به فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله تعالى. قلت: ويأتي بسط ذلك في كتاب الايمان إن شاء الله تعالى. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله، قلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله ا هـ. وفي " الموطأ " أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت ترقى عائشة: ارقيها بكتاب الله. وروى ابن وهب عن مالك كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم. وقال المازري: اختلف في استرقاء أهل الكتاب فأجازها قوم وكرهها مالك لئلا يكون مما بدلوه. وأجاب من أجاز بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه، وهو كالطب سواء كان غير الحاذق لا يحسن أن يقول والحاذق يأنف أن يبدل حرصا على استمرار وصفه بالحذق لترويح صناعته. والحق أنه يختلف باختلاف الاشخاص والاحوال. وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة فمنع منها ما لا يعرف لئلا يكون فيها كفر. وسيأتي الكلام على من منع الرقى أصلا في " باب من لم يرق " بعد خمسة أبواب إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ كَيْفَ يَنْفِثُ قَالَ كَانَ يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ الشرح: قوله: (هشام) هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: (كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات) دلالته على المعطوف في الترجمة ظاهرة، وفي دلالته على المعطوف عليه نظر، لانه لا يلزم من مشروعية الرقى بالمعوذات أن يشرع بغيرها من القرآن لاحتمال أن يكون في المعوذات سر ليس في غيرها. وقد ذكرنا من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم ترك ما عدا المعوذات، لكن ثبتت الرقية بفاتحة الكتاب فدل على أن لا اختصاص للمعوذات، ولعل هذا هو السر في تعقيب المصنف هذه الترجمة بباب الرقى بفاتحة الكتاب، وفي الفاتحة من معنى الاستعاذة بالله الاستعانة به، فمهما كان فيه استعاذة أو استعانة بالله وحده أو ما يعطي معنى ذلك فالاسترقاء به مشروع. ويجاب عن حديث أبي سعيد بأن المراد أنه ترك ما كان يتعوذ به من الكلام غير القرآن، ويحتمل أن يكون المراد بقوله في الترجمة " الرقى بالقرآن " بعضه فإنه اسم *** يصدق على بعضه، والمراد ما كان فيه التجاء إلى الله سبحانه، ومن ذلك المعوذات، وقد ثبت الاستعاذة بكلمات الله في عدة أحاديث كما مضى. قال ابن بطال: في المعوذات جوامع من الدعاء. نعم أكثر المكروهات من السحر والحسد وشر الشيطان ووسوسته وغير ذلك، فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بها. قلت: وسيأتي في " باب السحر " شيء من هذا، وقوله "في المرض الذي مات فيه " ليس قيدا في ذلك وإنما أشارت عائشة إلى أن ذلك وقع في آخر حياته وأن ذلك لم ينسخ. قوله: (أنفث عنه) في رواية الكشميهني " عليه " وسيأتي باب مفرد في النفث في الرقية. قوله: (وأمسح بيده نفسه) بالنصب على المفعولية أي أمسح جسده بيده، وبالكسر على البدل. وفي رواية الكشميهني " بيد نفسه " وهو يؤيد الاحتمال الثاني. قال عياض: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر، وقد يكون على سبيل التفاؤل بزوال ذلك الالم عن المريض كانفصال ذلك عن الراقي انتهى. وليس بين قوله في هذه الرواية " كان ينفث على نفسه " وبين الرواية الاخرى " كان يأمرني أن أفعل ذلك " معارضة لانه محمول على أنه في ابتداء المرض كان يفعله بنفسه وفي اشتداده كان يأمرها به وتفعله هي من قبل نفسها. قوله: (فسألت الزهري) القائل معمر، وهو موصول بالاسناد المذكور، وفي الحديث التبرك بالرجل الصالح وسائر أعضائه وخصوصا اليد اليمنى. |
#36
|
||||
|
||||
الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الشرح: قوله: (باب الرقى بفاتحة الكتاب، ويذكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم) هكذا ذكره بصيغة التمريض، وهو يعكر على ما تقرر بين أهل الحديث أن الذي يورده البخاري بصيغة التمريض لا يكون على شرطه، مع أنه أخرج حديث ابن عباس في الرقية بفاتحة الكتاب عقب هذا الباب. وأجاب شيخنا في كلامه على علوم الحديث بأنه قد يصنع ذلك إذا ذكر الخبر بالمعنى، ولا شك أن خبر ابن عباس ليس فيه التصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرقبة بفاتحة الكتاب وإنما فيه تقريره على ذلك فنسبة ذلك إليه صريحا تكون نسبة معنوية، وقد علق البخاري بعض هذا الحديث بلفظه فأتى به مجزوما كما تقدم في الاجارة في " باب ما يعطى في الرقية بفاتحة الكتاب " وقال ابن عباس " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " ثم قال شيخنا: لعل لابن عباس حديثا آخر صريحا في الرقية بفاتحة الكتاب ليس على شرطه فلذلك أتى به بصيغة التمريض. قلت: ولم يقع لي ذلك بعد التتبع. وقال ابن القيم: إذا ثبت أن لبعض الكلام خواص ومنافع فما الظن بكلام رب العالمين ثم بالفاتحة التي لم ينزل في القرآن ولا غيره من الكتب مثلها لتضمنها جميع معاني الكتاب، فقد اشتملت على ذكر أصول أسماء الله ومجامعها وإثبات المعاد وذكر التوحيد والافتقار إلى الرب في طلب الاعانة به والهداية منه، وذكر أفضل الدعاء وهو طلب الهداية إلى الصراط المستقيم المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والاستقامة عليه، ولتضمنها ذكر أصناف الخلائق وقسمتهم إلى منعم عليه لمعرفته بالحق والعمل به، ومغضوب عليه لعدوله عن الحق بعد معرفته، وضال لعدم معرفته له، مع ما تضمنته من إثبات القدر والشرع والاسماء والمعاد والتوبة وتزكية النفس وإصلاح القلب والرد على جميع أهل البدع، وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من كل داء، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ فَقَالُوا هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ فَقَالُوا إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا وَلا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلا فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعاً مِنْ الشَّاءِ فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ فَبَرَأَ فَأَتَوْا بِالشَّاءِ فَقَالُوا لا نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ وَقَالَ وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ الشرح: حديث أبي سعيد في قصة الذين أتوا على الحي فلم يقروهم، فلدغ سيد الحي فرقاه أبو سعيد بفاتحة الكتاب، وقد تقدم شرحه في كتاب الاجارة مستوفى. |
#37
|
||||
|
||||
|
#38
|
||||
|
||||
رُقْيَةِ الْعَيْنِ
الشرح: قوله: ( رقية العين) أي رقية الذي يصاب بالعين، تقول عنت الرجل أصبته بعينك فهو معين ومعيون ورحل عائن ومعيان وعيون. والعين نظر باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر، وقد وقع عند أحمد - من وجه آخر - عن أبي هريرة رفعه " العين حق، ويحضرها الشيطان، وحسد ابن آدم". وقد أشكل ذلك على بعض الناس فقال: كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون؟ والجواب أن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون، وقد نقل عن بعض من كان معيانا أنه قال: إذا رأيت شيئا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني. ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد، وكذا تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس من غير أن تمسها يدها، ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء فيرمد، ويتثاءب واحد بحضرته فيتثاءب هو، أشار إلى ذلك ابن بطال. وقال الخطابي: في الحديث أن للعين تأثيرا في النفوس، وإبطال قول الطبائعيين أنه لا شيء إلا ما تدرك الحواس الخمس وما عدا ذلك لا حقيقة له. وقال المازري: زعم بعض الطبائعيين أن العائن ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد، وهو كإصابة السم من نظر الافاعي. وأشار إلى منع الحصر في ذلك مع تجويزه. وأن الذي يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص لاخر، وهل ثم جواهر خفية أو لا؟ هو أمر محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه، ومن قال ممن ينتمي إلى الاسلام من أصحاب الطبائع بأن جواهر لطيفة غير مرئية تنبعث من العائن فتتصل أخطأ بدعوى القطع، ولكن جائز أن يكون عادة ليست ضرورة ولا طبيعة ا هـ. وهو كلام سديد وقد بالغ ابن العربي في إنكاره قال: ذهبت الفلاسفة إلى أن الاصابة بالعين صادرة عن تأثير النفس بقوتها فيه، فأول ما تؤثر في نفسها ثم تؤثر في غيرها. وقيل: إنما هو سم في عين العائن يصيب بلفحه عند التحديق إليه كما يصيب لفح سم الافعى من يتصل به، ثم رد الاول بأنه لو كان كذلك لما تخلفت الاصابة في كل حال، والواقع خلافه. والثاني: بأن سم الافعى جزء منها وكلها قاتل، والعائن ليس يقتل منه شيء في قولهم إلا نظره وهو معني خارج عن ذلك، قال: والحق أن الله يخلق عند نظر العائن إليه وإعجابه به إذا شاء ما شاء من ألم أو هلكة، وقد يصرف قبل وقوعه إما بالاستعاذة أو بغيرها، وقد يصرفه بعد وقوعه بالرقبة أو بالاغتسال أو بغير ذلك.ا هـ. كلامه، وفيه بعض ما يتعقب، فإن الذي مثل بالافعى لم يرد أنها تلامس المصاب حتى يتصل به من سمها، وإنما أراد أن ***ا من الافاعي اشتهر أنها إذا وقع بصرها على الانسان هلك فكذلك العائن وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث أبي لبابه الماضي في بدء الخلق عند ذكر الابتر وذي الطفيتين قال: فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبل، وليس مراد الخطابي بالتأثير المعنى الذي يذهب إليه الفلاسفة، بل ما أجرى الله به العادة من حصول الضرر للمعيون، وقد أخرج البزار بسند حسن عن جابر رفعه " أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالنفس " قال الراوي: يعني بالعين، وقد أجرى الله العادة بوجود كثير من القوي والخواص في الاجسام والارواح كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك، وكذا الاصفرار عند رؤية من يخافه، وكثير من الناس يسقم بمجرد النظر إليه وتضعف قواه، وكل ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الارواح من التأثيرات ولشدة ارتباطها بالعين نسب الفعل إلى العين، وليست هي المؤثرة وإنما التأثير للروح، والارواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها: فمنها ما يؤثر في البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها الخبيثة. والحاصل أن التأثير بإرادة الله تعالى وخلقه ليس مقصورا على الاتصال الجسماني، بل يكون تارة به وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية وأخرى بتوجه الروح كالذي يحدث من الادعية والرقى والالتجاء إلى الله، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنوي إن صادف البدن لا وقاية له أثر فيه، وإلا لم ينفذ السهم، بل ربما رد على صاحبه كالسهم الحسي سواء. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنْ الْعَيْنِ الشرح: قوله: (سفيان) هو الثوري. قوله: (حدثني معبد بن خالد) هو الجدلي الكوفي تابعي، وشيخه عبد الله بن شداد هو المعروف بابن الهاد له رؤية وأبوه صحابي. قوله: (عن عائشة) كذا للاكثر. وكذا لمسلم من طريق مسعر عن معبد بن خالد، ووقع عند الاسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن مهدي مثله، لكن شك فيه فقال: " أو قال عن عبد الله بن شداد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة". قوله: (قالت أمرني النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر أن يسترقى من العين) أي يطلب الرقية ممن يعرف الرقى بسبب العين، كذا وقع بالشك هل قالت " أمر " بغير إضافة أو " أمرني " وقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه عن الطبراني عن معاذ بن المثنى عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه فقال: " أمرني " جزما وكذا أخرجه النسائي والاسماعيلي من طريق أبي نعيم عن سفيان الثوري، ولمسلم من طريق عبد الله بن نمير عن سفيان " كان يأمرني أن أسترقي " وعنده من طريق مسعر عن معبد بن خالد " كان يأمرها " ولابن ماجه من طريق وكيع عن سفيان " أمرها أن تسترقي " وهو للاسماعيلي في رواية عبد الرحمن بن مهدي. وفي هذا الحديث مشروعية الرقية لمن أصابه العين، وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي من طريق عبيد بن رفاعة " عن أسماء بنت عميس أنها قالت: يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين أفأسترقي لهم؟ قال: نعم " الحديث، وله شاهد من حديث جابر أخرجه مسلم قال: " رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لال حزم في الرقية. وقال لاسماء: ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ أتصيبهم الحاجة؟ قال: لا، ولكن العين تسرع إليهم، قال: ارقيهم، فعرضت عليه فقال: ارقيهم " وقوله: " ضارعة " بمعجمة أوله أي نحيفة، وورد في مداواة المعيون أيضا ما أخرجه أبو داود من رواية الاسود عن عائشة أيضا قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين " وسأذكر كيفية اغتساله في شرح حديث الباب الذي بعد هذا. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ فَقَالَ اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ وَقَالَ عُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن خالد) قال الحاكم والجوزقي والكلاباذي وأبو مسعود ومن تبعهم، هو الذهلي نسب إلى جد أبيه فإنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس، وقد كان أبو داود يروي عن محمد بن يحيى فينسب أباه إلى جد أبيه أيضا فيقول: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، قالوا وقد حدث أبو محمد بن الجارود بحديث الباب عن محمد بن يحيى الذهلي، وهي قرينة في أنه المراد، وقد وقع في رواية الاصيلي هنا " حدثنا محمد بن خالد الذهلي " فانتفى أن يظن أنه محمد بن خالد بن جبلة الرافعي الذي ذكره ابن عدي في شيوخ البخاري، وقد أخرج الاسماعيلي وأبو نعيم أيضا حديث الباب من طريق محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن وهب بن عطية المذكور، وكذا هو في " كتاب الزهريات " جمع الذهلي، وهذا الاسناد مما نزل فيه البخاري في حديث عروة بن الزبير ثلاث درجات، فإنه أخرج في صحيحه حديثا عن عبد الله بن موسى عن هشام بن عروة عن أبيه وهو في العتق فكان بينه وبين عروة رجلان، وهنا بينه وبينه فيه خمسة أنفس، ومحمد بن وهب بن عطية سلمي قد أدركه البخاري وما أدري لقيه أم لا، وهو من أقران الطبقة الوسطى من شيوخه، وما له عنده إلا هذا الحديث، وقد أخرجه مسلم عاليا بالنسبة لرواية البخاري هذه قال: حدثنا أبو الربيع حدثنا محمد بن حرب فذكره، ومحمد بن حرب شيخه خولاني حمصي كان كاتبا للزبيدي شيخه في هذا الحديث وهو ثقة عند الجميع. (تنبيه) : اجتمع في هدا السند من البخاري إلى الزهري ستة أنفس في نسق كل منهم اسمه محمد، وإذا روينا الصحيح من طريق الفراوي عن الحفص عن الكشميهني عن الفربري كانوا عشرة. قوله: (رأى في بيتها جارية) لم أقف على اسمها، ووقع في مسلم قال لجارية في بيت أم سلمة. قوله: (في وجهها سفعة) بفتح المهملة ويجور ضمها وسكون الفاء بعدها عين مهملة وحكى عياض ضم أوله، قال إبراهيم الحربي: هو سواد في الوجه ومنه سفعة الفرس سواد ناصيته، وعن الاصمعي: حمرة يعلوها سواد، وقيل: صفرة، وقيل: سواد مع لون آخر. وقال ابن قتيبة: لون يخالف لون الوجه، وكلها متقاربة، وحاصلها أن بوجهها موضعا على غير لونه الاصلي، وكأن الاختلاف بحسب اللون الاصلي، فإن كان أحمر فالسفعة سواد صرف، وإن كان أبيض فالسفعة صفرة وإن كان أسمر فلسفعة حمرة يعلوها سواد. وذكر صاحب " البارع " في اللغة أن السفع سواد الخدين من المرأة الشاحبة، والشحوب بمعجمة ثم مهملة: تغير اللون بهزال أو غيره، ومنه سفعاء الخدين، وتطلق السفعة على العلامة، ومنه بوجهها سفعة غضب. وهو راجع إلى تغير اللون، وأصل السفع الاخذ بقهر، ومنه قوله تعالى (لنسفعا بالناصية) ويقال أن أصل السفع الاخذ بالناصية ثم استعمل في غيرها، وقيل في تفسيرها: لنعلمنه بعلامة أهل النار من سواد الوجه ونحوه، وقيل: معناه لنذلنه، ممكن رد الجميع إلى معنى واحد فإنه إذا أخذ بناصيته بطريق القهر أذله وأحدث له تغير لونه فظهرت قيه تلك العلامة ومنه قوله في حديث الشفاعة " قوم أصابهم سفع من النار". قوله: (استرقوا لها) بسكون الراء. قوله: (فإن بها النظرة) بسكون الظاء المعجمة. وفي رواية مسلم " فقال إن بها نظرة فاسترقوا لها " يعني بوجهها صفرة، وهدا التفسير ما عرفت قائله إلا أنه يغلب على ظني أنه الزهري، وقد أنكره عياض من حيث اللغة، وتوجيهه ما قدمته واختلف في المراد بالنظرة فقيل: عين من نظر الجن، وقيل من الانس وبه جزم أبو عبيد الهروي، والاولى أنه أعم من ذلك وأنها أصيبت بالعين فلذلك أذن صلى الله عليه وسلم في الاسترقاء لها، وهو دال على مشروعية الرقية من العين على وفق الترجمة. قوله: (تابعه عبد الله بن سالم) يعني الحمصي، وكنيته أبو يوسف (عن الزبيدي) أي على وصل الحديث. " وقال عقيل عن الزهري أخبرني عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم " يعني لم يذكر في إسناده زينب ولا أم سلمه، فأما رواية عبد الله بن سالم فوصلها الذهلي في " الزهريات " والطبراني في " مسند الشاميين " من طريق إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي عن عمرو بن الحارث الحمصي عن عبد الله بن سالم به سندا ومتنا، وأما رواية عقيل فرواها ابن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل ولفظه " أن جارية دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة فقال " كأن بها سفعة أو خطرت بنار " هكذا وقع لنا مسموعا في جزء من " فوائد أبي الفضل بن طاهر " بسنده إلى ابن وهب، ورواه الليث عن عقيل أيضا، ووجدته في " مستدرك الحاكم " من حديثه لكن زاد فيه عائشة بعد عروة، وهو وهم فيما أحسب، ووجدته في " جامع ابن وهب " عن يونس عن الزهري قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجارية " فذكر الحديث، واعتمد الشيخان في هذا الحديث على رواية الزبيدي لسلامتها من الاضطراب ولم يلتفتا إلى تقصير يونس فيه، وقد روى الترمذي من طريق الوليد بن مسلم أنه سمع الاوزاعي يفضل الزبيدي على جميع أصحاب الزهري، يعني في الضبط، وذلك أنه كان يلازمه كثيرا حضرا وسفرا، وقد تمسك بهذا من زعم أن العمدة لمن وصل على من أرسل لاتفاق الشيخين على تصحيح الموصول هنا على المرسل، والتحقيق أنهما ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد بل هو دائر مع القرينة، فمهما ترجح بها اعتمداه، وإلا فكم حديث أعرضا عن تصحيحه للاختلاف في وصله وإرساله، وقد جاء حديث عروة هذا من غير رواية الزهري أخرجه البزار من رواية أبي معاوية عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عروة عن أم سلمة، فسقط من روايته ذكر زينب بنت أم سلمة. وقال الدار قطني: رواه مالك وابن عيينة وسمي جماعة كلهم عن يحيى بن سعيد فلم يجاوزا به عروة، وتفرد أبو معاوية بذكر أم سلمة فيه ولا يصح، وإنما قال ذلك بالنسبة لهذه الطريق لانفراد الواحد عن العدد الجم، وإذا انضمت هذه الطريق إلى رواية الزبيدي قويت جدا، والله أعلم. |
#39
|
||||
|
||||
الشرح:
قوله: ( العين حق) أي الاصابة بالعين شيء ثابت موجود، أو هو من جملة ما تحقق كونه. قال المازري: أخذ الجمهور بظاهر الحديث، وأنكره طوائف المبتدعة لغير معنى، لان كل شيء ليس محالا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل، فهو من متجاوزات العقول، فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن لانكاره معنى، وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمور الاخرة. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْعَيْنُ حَقٌّ وَنَهَى عَنْ الْوَشْمِ الشرح: قوله: (العين حق، ونهى عن الوشم) لم تظهر المناسبة بين هاتين الجملتين، فكأنهما حديثان مستقلان، ولهذا حذف مسلم وأبو داود الجملة الثانية من روايتهما مع أنهما أخرجاه من رواية عبد الرزاق الذي أخرجه البخاري من جهته، ويحتمل أن يقال: المناسبة بينهما اشتراكهما في أن كلا منهما يحدث في العضو لونا غير لونه الاصلي، والوشم بفتح الواو وسكون المعجمة أن يغرز إبرة أو نحوها في موضع من البدن حتى يسيل الدم ثم يحشى ذلك الموضع بالكحل أو نحوه فيخضر، وسيأتي بيان حكمه في " باب المستوشمة " من أواخر كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. وقد ظهرت لي مناسبة بين هاتين الجملتين لم أر من سبق إليها، وهي أن من جملة الباعث على عمل الوشم تغير صفة الموشوم لئلا تصيبه العين، فنهى عن الوشم مع إثبات العين، وأن التحيل بالوشم وغيره مما لا يستند إلى تعليم الشارع لا يفيد شيئا، وأن الذي قدره الله سيقع وأخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه " العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا " فأما الزيادة الاولى ففيها تأكيد وتنبيه على سرعة نفوذها وتأثيره في الذات، وفيها إشارة إلى الرد على من زعم من المتصوفة أن قوله: " العين حق " يريد به القدر أي العين التي تجري منها الاحكام، فإن عين الشيء حقيقته، والمعني أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر إنما هو بقدر الله السابق لا بشيء يحدثه الناظر في المنظور. ووجه الرد أن الحديث ظاهر في المغايرة بين القدر وبين العين، وإن كنا نعتقد أن العين من جملة المقدور، لكن ظاهره إثبات العين التي تصيب إما بما جعل الله تعالى فيها من ذلك وأودعه فيها، وإما بإجراء العادة بحدوث الضرر عند تحديد النظر، وإنما جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين لا أنه يمكن أن يرد القدر شيء إذ القدر عبارة عن سابق علم الله، وهو لا راد لامره، أشار إلى ذلك القرطبي. وحاصله لو فرض أن شيئا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين. لكنها لا تسبق، فكيف غيرها؟ وقد أخرج البزار من حديث جابر بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالانقس " قال الراوي: يعني بالعين. وقال النووي: في الحديث إثبات القدر وصحة أمر العين وأنها قوية الضرر، وأما الزيادة الثانية وهي أمر العاين بالاغتسال عند طلب المعيون منه ذلك ففيها إشارة إلى أن الاغتسال لذلك كان معلوما بينهم، فأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم، وأدنى ما في ذلك رفع الوهم الحاصل في ذلك، وظاهر الامر الوجوب. وحكى المازري فيه خلافا وصحح الوجوب وقال: متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين، وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى، ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الاغتسال، وقد وقعت في حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف " أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف - وكان أبيض حسن الجسم والجلد - فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط - أي صرع وزنا ومعنى - سهل. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تتهمون به من أحد؟ قالوا. عامر بن ربيعة. فدعا عامرا فتغيظ علمه فقال: علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت. ثم قال: اغتسل له، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلقه على رأسه وظهره ثم يكفأ القدح؛ ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس " لفظ أحمد من رواية أبي أويس عن الزهري، ولفظ النسائي من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري بهذا السند أنه يصب صبة على وجهه بيده اليمنى، وكذلك سائر أعضائه صبة صبة في القدح. وقال في آخره " ثم يكفأ القدح وراءه على الارض " ووقع في رواية ابن ماجه من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي أمامة أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل، فذكر الحديث وفيه " فليدع بالبركة. ثم دعا بماء فأمر عامرا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه " قال سفيان قال معمر عن الزهري: " وأمر أن يكفأ الاناء من خلفه " قال المازري: المراد بداخلة الازار الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الايمن، قال فظن بعضهم أنه كناية عن الفرج انتهى. وزاد عياض أن المراد ما يلي جسده من الازار، وقيل: أراد موضع الازار من الجسد، وقيل: أراد وركه لانه معقد الازار. والحديث في " الموطأ " وفيه عن مالك " حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل أنه سمع أباه يقول، اغتسل سهل - فذكر نحوه وفيه - فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء، فوعك سهل مكانه واشتد وعكه - وفيه - إلا بركت؟ إن العين حق، توضأ له، فتوضأ له عامر فراح سهل ليس به بأس". (تنبيهات) : الاول: اقتصر النووي في " الاذكار " على قوله: الاستغسال أن يقال للعائن: اغسل داخلة إزارك مما يلي الجلد، فإذا فعل صبه على المنظور إليه. وهذا يوهم الاقتصار على ذلك، وهو عجيب، ولا سيما وقد نقل في " شرح مسلم " كلام عياض بطوله. الثاني: قال المازري هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه. وقال ابن العربي: إن توقف فيه متشرع قلنا له: قل الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة. أو متفلسف فالرد عليه أظهر لان عنده أن الادوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله الخواص. وقال ابن القيم: هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعلها مجربا غير معتقد، وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الاطباء عللها بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما تفعل بالخاصية فما الذي تنكر جهلتهم من الخواص الشرعية؟ هذا مع أن في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة، فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها، وهذا علاج النفس الغضبية توضع اليد على بدن الغضبان فيسكن، فكان أثر تلك العين كشعلة نار وقعت على جسد، ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة. ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها، ولا شيء أرق من المغابن، فكان في غسلها إبطال لعملها، ولا سيما أن للارواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصا. وفيه أيضا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذا، فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء. الثالث: هذا الغسل ينفع بعد استحكام النظرة، فأما عند الاصابة وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة مسهل بن حنيف المذكورة كما مضى " ألا بركت عليه " وفي رواية ابن ماجه " فليدع بالبركة " ومثله عند ابن السني من حديث عامر بن ربيعة. وأخرج البزار وابن السني من حديث أنس رفعه " من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لم يضره". وفي الحديث من الفوائد أيضا أن العائن إذا عرف يقضي عليه بالاغتسال، وأن الاغتسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الاعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب، ومن الرجل الصالح، وأن الذي يعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه، وأن الماء المستعمل طاهر، وفيه جواز الاغتسال بالفضاء، وأن الاصابة بالعين قد تقتل. وقد اختلف في جريان القصاص بذلك فقال القرطبي: لو أتلف العائن شيئا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة، وهو في ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا، انتهى. ولم يتعرض الشافعية للقصاص في ذلك، بل منعوه وقالوا: إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا. وقال النووي في " الروضة: ولا دية فيه ولا كفارة. لان الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس في بعض الاحوال مما لا انضباط له، كيف ولم يقع منه فعل أصلا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال نعمة. وأيضا فالذي ينشأ عن الاصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين ا هـ. ولا يعكر على ذلك إلا الحكم بقتل الساحر فإنه في معناه، والفرق بينهما فيه عسر. ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم فإنه ينبغي للامام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر رضي الله عنه بمنعه من مخالطة الناس كما تقدم واضحا في بابه، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة. قال النووي: وهذا القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه. |
#40
|
||||
|
||||
رُقْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الشرح: قوله: (رقية النبي صلى الله عليه وسلم) أي التي كان يرقي بها. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَثَابِتٌ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ ثَابِتٌ يَا أَبَا حَمْزَةَ اشْتَكَيْتُ فَقَالَ أَنَسٌ أَلا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَلَى قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ الْبَاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لا شَافِيَ إِلا أَنْتَ شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَماً الشرح: قوله: (عبد الوارث) هو ابن سعيد، وعبد العزيز هو ابن صهيب، والاسناد بصريون. قوله: (فقال ثابت) هو البناني (يا أبا حمزة) هي كنية أنس. قوله: (اشتكيت) بضم التاء أي مرضت، ووقع في رواية الاسماعيلي " إني اشتكيت". قوله: (ألا) بتخفيف اللام و " أرقيك " بفتح الهمزة. قوله: (مذهب الباس) بغير همز للمؤاخاة فإن أصله الهمزة. قوله: (أنت الشافي) يؤخذ منه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن بشرطين: أحدهما أن لا يكون في ذلك ما يوهم نقصا، والثاني أن يكون له أصل في القرآن وهذا من ذاك، فإن في القرآن " وإذا مرضت فهو يشفين". قوله: (لا شافي إلا أنت) إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوي إن لم يصادف تقدير الله تعالى وإلا فلا ينجع. قوله: (شفاء) مصدر منصوب بقوله " اشف " ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ أي هو. قوله: (لا يغادر) بالغين المعجمة أي لا يترك، وقد تقدم بيانه والحكمة فيه في أواخر كتاب المرضى، وقوله "سقما " بضم ثم سكون، وبفتحتين أيضاء. ويؤخذ من هذا الحديث أن الاضافة في الترجمة للفاعل، وقد ورد ما يدل على أنها للمفعول، وذلك فيما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد " أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اشتكيت؟ قال: نعم. قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك " وله شاهد عنده بمعناه من حديث عائشة. الحديث: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ :اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبْ الْبَاسَ اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَماً قَالَ سُفْيَانُ حَدَّثْتُ بِهِ مَنْصُوراً فَحَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ الشرح: قوله: (يحيى) هو القطان، وسفيان هو الثوري، وسليمان هو الاعمش ومسلم هو أبو الضحى مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وجوز الكرماني أن يكون مسلم بن عمران لكونه يروي عن مسروق ويروي الاعمش عنه، وهو تجويز عقلي محض يمجه سمع المحدث، على أنني لم أر لمسلم بن عمران البطين رواية عن مسروق وإن كانت ممكنة، وهذا الحديث إنما هو من رواية الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق، وقد أخرجه مسلم من رواية جرير عن الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق به، ثم أخرجه من رواية هشيم ومن رواية شعبة ومن رواية يحيى القطان عن الثوري كلهم عن الاعمش قال بإسناد جرير، فوضح أن مسلما المذكور في رواية البخاري هو أبو الضحى، فإنه أخرجه من رواية يحيى القطان، وغايته أن بعض الرواة عن يحيى سماه وبعضهم كناه والله أعلم. قوله: (كان يعوذ بعض أهله) لم أقف على تعيينه. قوله: (يمسح بيده اليمني) أي على الوجع قال الطبري: هو على طريق التفاؤل لزوال ذلك، الوجع. قوله: (واشفه وأنت الشافي) في رواية الكشميهني بحذف الواو، والضمير في اشفه للعليل، أو هي هاء السكت. قوله: (لا شفاء) بالمد مبني على الفتح والخبر محذوف والتقدير لنا أو له. قوله: (إلا شفاؤك) بالرفع على أنه بدل من موضع لا شفاء. قوله: (قال سفيان) هو موصول بالاسناد المذكور. قوله: (حدثت به منصورا) هو ابن المعتمر، وصار بذلك في هذا الحديث إلى مسروق طريقان، وإذا ضم الطريق الذي بعده إليه صار إلى عائشة طريقان، وإذا ضم إلى حديث أنس صار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه طريقان. قوله: (نحوه) تقدم سياقه في أواخر كتاب المرضى مع بيان الاختلاف على الاعمش ومنصور في الواسطة بينهما وبين مسروق، ومن أفرد ومن جمع وتحرير ذلك واضحا. الحديث: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْقِي يَقُولُ امْسَحْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ بِيَدِكَ الشِّفَاءُ لا كَاشِفَ لَهُ إِلا أَنْتَ الشرح: (النضر) هو ابن شميل. قوله: (كان يرقي) بكسر القاف، وهو بمعنى قوله في الرواية التي قبلها " كان يعوذ " ولعل هذا هو السر أيضا في إيراد طريق عروة وإن كان سياق مسروق أتم، لكن عروة صرح بكون ذلك رقية فيوافق حديث أنس في أنها رقية النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (امسح) هو بمعنى قوله في الرواية الاخرى " أذهب " والمراد الازالة. قوله: (بيدك الشفاء لا كاشف له) أي للمرض (إلا أنت) وهو بمعنى قوله. " اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت". الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا الشرح: قوله: (سفيان) هو ابن عيينة كما صرح به في الطريق الثانية، وقدم الاولى لتصريح سفيان بالتحديث، وصدقة شيخه في الثانية هو ابن الفضل المروزي. الحديث: حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الرُّقْيَةِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا وَرِيقَةُ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا الشرح: قوله: (عبد ربه بن سعيد) هو الانصاري أخو يحيى بن سعيد، هو ثقة، ويحيى أشهر منه وأكثر حديثا. قوله: (كان يقول للمريض بسم الله) في رواية صدقة " كان يقول في الرقية " وفي رواية مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان زيادة في أوله ولفظه " كان إذا اشتكى الانسان أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا - ووضع سفيان سبابته بالارض ثم رفعها - بسم الله". قوله: (تربة أرضنا) خبر مبتدأ محذوف أي هذه تربة، وقوله "بريقة بعضنا " يدل على أنه كان يتفل عند الرقية، قال النووي: معنى الحديث أنه أخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم وضعها على التراب فعلق به شيء منه ثم مسح به الموضع العليل أو الجريح قائلا الكلام المذكور في حالة المسح، قال القرطبي: فيه دلالة على جواز الرقى من كل الالام، وأن ذلك كأن أمرا فاشيا معلوما بينهم، قال: ووضع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته بالارض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية. ثم قال: وزعم بعض علمائنا أن السر فيه أن تراب الارض لبرودته ويبسه يبرئ الموضع الذي به الالم ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها. قال وقال في الريق: إنه يختص بالتحليل والانضاج وإبراء الجرح والورم لا سيما من الصائم الجائع، وتعقبه القرطبي أن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته، وإلا فالنفث ووضع السبابة على الارض إنما يتعلق بها ما ليس له بال ولا أثر، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله، وأما وضع الاصبع بالارض فلعله لخاصية في ذلك، أو لحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الاسباب المعتادة. وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه في سقائه ليأمن مضرة ذلك. ثم أن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها. وقال التوربشتي: كأن المراد بالتربة الاشارة إلى قطرة آدم، والريقة الاشارة إلى النطفة، كأنه تضرع بلسان الحال أنك اخترعت الاصل من التراب ثم أبدعته مته من ماء مهين فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته. وقال النووي: قيل المراد بأرضنا أرض المدينة خاصة لبركتها، وبعضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصا. وفيه نظر. قوله: (يشفى سقيمنا) ضبط بالوجهين بضم أوله على البناء للمجهول، وسقيمنا بالرفع وبفتح أوله على أن الفاعل مقدر، وسقيمنا بالنصب على المفعولية. (تنبيه) : أخرج أبو داود والنسائي ما يفسر به الشخص المرقى، وذلك في حديث عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ثابت بن قيس بن شماس وهو مريض فقال: اكشف الباس، رب الناس. ثم أخذ من بطحان فجعله في قدح، ثم نفث عليه، ثم صبه عليه". |
#41
|
||||
|
||||
|
#42
|
||||
|
||||
مَسْحِ الرَّاقِي الْوَجَعَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى
الشرح: قوله: ( مسح الراقي الوجع بيده اليمنى) ذكر فيه حديث عائشة في ذلك وقد تقدم شرحه قريبا، والقائل " فذكرته لمنصور " هو سفيان الثوري كما تقدم التصريح به في " باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم". فِي الْمَرْأَةِ تَرْقِي الرَّجُلَ الشرح: قوله: ( المرأة ترقي الرجل) ذكر فيه حديث عائشة، وفيه قولها " كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه " وقد تقدم قبل رواية يونس عن ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك، وزاد في رواية معمر هنا كيفية ذلك فقال " ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه". مَنْ لَمْ يَرْقِ الشرح: قوله: ( من لم يرق) هو بفتح أوله وكسر القاف مبنيا للفاعل، وبضم أوله وفتح القاف مبنيا للمفعول. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ تميز عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خبير عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً فَقَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الامَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلانِ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ وَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الافُقَ فَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ فَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الافُقَ فَقِيلَ لِي انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا فَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الافُقَ فَقِيلَ هَؤُلاءِ أُمَّتُكَ وَمَعَ هَؤُلاءِ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ فَتَذَاكَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا فِي الشِّرْكِ وَلَكِنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَكِنْ هَؤُلاءِ هُمْ أَبْنَاؤُنَا فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هُمْ الَّذِينَ لا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا فَقَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ الشرح: قوله: (حصين بن نمير) بنون مصغر هو الواسطي، ما له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد تقدم بهذا الاسناد في أحاديث الانبياء لكن باختصار، وتقدم الحديث بعينه من وجه آخر عن حصين بن عبد الرحمن في " من اكتوى " وذكرت من زاد في أوله قصة وأن شرحه سيأتي في كتاب الرقاق، والغرض منه هنا قوله " هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون " فأما الطيرة فسيأتي ذكرها بعد هذا، وأما الكي فتقدم ذكرها فيه هناك، وأما الرقية فتمسك بهذا الحديث من كره الرقى والكي من بين سائر الادوية وزعم أنهما قادحان في التوكل دون غيرهما، وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة: أحدها قاله الطبري والمازري وطائفة أنه محمول على من جانب اعتقاد الطبائعيين في أن الادوية تنفع بطبعها كما كان أهل الجاهلية يعتقدون. وقال غيره: الرقى التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية وما الذي لا يعقل معناه لاحتمال أن يكون كفرا، بخلاف الرقى بالذكر ونحوه. وتعقبه عياض وغيره بأن الحديث يدل على أن للسبعين ألفا مزية على غيرهم وفضيلة انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة، ومن كان يعتقد أن الادوية تؤثر بطبعها أو يستعمل رقى الجاهلية ونحوها فليس مسلما فلم يسلم هذا الجواب. ثانيها قال الداودي وطائفة إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء، وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا، وقد قدمت هذا عن ابن قتيبة وغيره في " باب من اكتوى"، وهذا اختيار ابن عبد البر، غير أنه معترض بما قدمته من ثبوت الاستعاذة قبل وقوع الداء. ثالثها قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الاسباب المعدة لدفع العوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء، وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله، والرضا بقضائه، فهم غافلون عن طب الاطباء ورقى الرقاة ولا يحسنون من ذلك شيئا، والله أعلم. رابعها أن المراد بترك الرقى والكي الاعتماد على الله في دفع الداء والرضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك لثبوت وقوعه في الاحاديث الصحيحة وعن السلف الصالح لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الاسباب، وإلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه. قال ابن الاثير: هذا من صفة الاولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء هم خواص الاولياء. ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وأمرا، لانه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله، لانه كان كامل التوكل يقينا فلا يؤثر فيه تعاطي الاسباب شيئا، بخلاف غيره ولو كان كثير التوكل، لكن من ترك الاسباب وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاما. قال الطبري: قيل لا يستحق التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف من شيء البتة حتى السبع الضاري والعدو العادي، ولا من لم يسع في طلب رزق ولا في مداواة ألم، والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الاسباب اتباعا لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الاكل والشرب، وادخر لاهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك. وقال الذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال: " اعقلها وتوكل " فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل، والله أعلم. |
#43
|
||||
|
||||
الطِّيَرَةِ
الشرح: قوله ( الطيرة) بكسر المهملة وفتح التحتانية وقد تسكن، هي التشاؤم بالشين، وهو مصدر تطير مثل تحير حيرة. قال بعض أهل اللغة لم يجيء من المصادر هكذا غير هاتين، وتعقب بأنه سمع طيبة، وأورد بعضهم التولة وفيه نظر، وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير فإذا خرج أحدهم لامر فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك، وكانوا يسمونه السانح بمهملة ثم نون ثم حاء مهملة، والبارح بموحدة وآخره مهملة، بالسانح ما ولاك ميامنه بأن يمر عن يسارك إلى يمينك، والبارح بالعكس. وكانوا يتيمنون بالسانح ويتشاءمون بالبارح، لانه لا يمكن رميه إلا بأن ينحرف إليه، وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له، إذ لا نطق للطير ولا تمييز فيستدل بفعله على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل من فاعله، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير ويتمدح بتركه، قال شاعر منهم: ولقد غدوت وكنت لا أغدو على واق وحاتم فإذا الاشائم كالايامن والايامن كالاشائم وقال آخر: الزجر والطير والكهان كلهم مضللون ودون الغيب أقفال وقال آخر: وما عاجلات الطير تدني من الفتى نجاحا، ولا عن ريثهن قصور وقال آخر: لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ولا زاجرت الطير ما الله صانع وقال آخر: تخير طيرة فيها زياد لتخبره، وما فيها خبير تعلم أنه لا طير إلا على متطير، وهو الثبور بلى شيء يوافق بعض شيء أحايينا، وباطله كثير وكان أكثرهم يتطيرون ويعتمدون على ذلك ويصح معهم غالبا لتزيين الشيطان ذلك، وبقيت من ذلك بقايا في كثير من المسلمين. وقد أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أنس رفعه " لا طيرة، والطيرة على من تطير " وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة، والظن، والحسد. فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق " وهذا مرسل أو معضل، لكن له شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي في " الشعب " وأخرج ابن عدي بسند لين عن أبي هريرة رفعه " إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا " وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء رفعه " لن ينال الدرجات العلا من تكهن، أو استقسم، أو رجع من سفر تطيرا " ورجاله ثقات، إلا أنني أظن أن فيه انقطاعا وله شاهد عن عمران بن حصين وأخرجه البزار في أثناء حديث بسند جيد. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان عن ابن مسعود رفعه " الطيرة شرك، وما منا إلا تطير، ولكن الله يذهبه بالتوكل " وقوله " وما منا إلا " من كلام ابن مسعود أدرج في الخبر، وقد بينه سليمان بن حرب شيخ البخاري فيما حكاه الترمذي عن البخاري عنه، وإنما جعل ذلك شركا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعا أو يدفع ضرا، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى، وقوله "ولكن الله يذهبه بالتوكل " إشارة إلى أن من وقع له فسلم لله ولم يعبأ بالطيرة أنه لا يؤاخذ بما عرض له من ذلك. وأخرج البيهقي في " الشعب " من حديث عبد الله بن عمرو موقوفا " من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك". الحديث: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَالشُّؤْمُ فِي ثَلاثٍ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ الشرح: قوله: (لا عدوى، ولا طيرة، والشؤم في ثلاث) قد تقدم شرح هذا الحديث وبيان اختلاف الرواة في سياقه في كتاب الجهاد، والتطير والتشاؤم بمعني واحد، فنفى أولا بطريق العموم كما نفى العدوى، ثم اثبت الشؤم في الثلاثة المذكورة، وقد ذكرت ما قيل في ذلك هناك. وقد وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي داود بلفظ " وإن كانت الطيرة في شيء " الحديث. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ قَالُوا وَمَا الْفَأْلُ قَالَ الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ الشرح: قوله (لا طيرة، وخيرها الفأل) يأتي شرحه في الباب الذي بعده، وكأنه أشار بذلك إلى أن النفي في الطيرة على ظاهره لكن في الشر، ويستثنى من ذلك ما يقع فيه من الخير كما سأذكره. |
#44
|
||||
|
||||
الْفَأْلِ
الشرح: قوله: ( الفأل) بفاء ثم همزة وقد تسهل، والجمع فئول بالهمزة جزما. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ قَالَ وَمَا الْفَأْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ الشرح: قوله: (عن عبيد الله بن عبد الله) أي ابن عتبة بن مسعود، وقد صرح في رواية شعيب التي قبل هذه فيه بالاخبار. قوله: (قال وما الفأل) ؟ كذا للاكثر بالافراد، وللكشميهني " قالوا " كرواية شعيب. قوله: (الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم) وقال في حديث أنس ثاني حديثي الباب " ويعجبني الفأل الصالح، الكلمة الحسنة". وفي حديث عروة بن عامر الذي أخرجه أبو داود قال " ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خيرها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله " وقوله " وخيرها الفأل " قال الكرماني تبعا لغيره: هذه الاضافة تشعر بأن الفأل من جملة الطيرة، وليس كذلك بل هي إضافة توضيح، ثم قال: وأيضا فإن من جملة الطيرة كما تقدم تقريره التيامن، فبين بهذا الحديث أنه ليس كل التيامن مردودا كالتشاؤم، بل بعض التيامن مقبول. قلت: وفي جواب الاول دفع في صدر السؤال، وفي الثاني تسليم السؤال ودعوى التخصيص وهو أقرب وقد أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أبي هريرة رفعه " كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة " وأخرج الترمذي من حديث حابس التميمي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول " العين حق، وأصدق الطيرة الفأل " ففي هذا التصريح أن الفأل من جملة الطيرة لكنه مستثنى. وقال الطيبي: الضمير المؤنث في قوله " وخيرها " راجع إلى الطيرة، وقد علم أن الطيرة كلها لا خير فيها، فهو كقوله تعالى (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا) وهو مبني على زعمهم، وهو من إرخاء العنان في المخادعة بأن يجري الكلام على زعم الخصم حتى لا يشمئز عن التفكر فيه، فإذا تفكر فأنصف من نفسه قبل الحق، فقوله " خيرها الفأل " إطماع للسامع في الاستماع والقبول، لا أن في الطيرة خيرا حقيقة، أو هو من نحو قولهم " الصيف أحر من الشتاء " أي الفأل في بابه أبلغ من الطيرة في بابها. والحاصل أن أفعل التفضيل في ذلك إنما هو بين القدر المشترك بين الشيئين، والقدر المشترك بين الطيرة والفأل تأثير كل منهما فيما هو فيه، والفأل في ذلك أبلغ. قال الخطابي: وإنما كان ذلك لان مصدر الفأل عن نطق وبيان، فكأنه خبر جاء عن غيب، بخلاف غيره فإنه مستند إلى حركة الطائر أو نطقه وليس فيه بيان أصلا، وإنما هو تكلف ممن يتعاطاه. وقد أخرج الطبري عن عكرمة قال: كنت عند ابن عباس فمر طائر فصاح، فقال رجل: خير خير، فقال ابن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شر. وقال أيضا الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل من طريق حسن الظن بالله، والطيرة لا تكون إلا في السوء فلذلك كرهت. وقال النووي: الفأل يستعمل فيما يسوء وفيما يسر، وأكثره في السرور. والطيرة لا تكون إلا في الشؤم، وقد تستعمل مجازا في السرور ا ه. وكأن ذلك بحسب الواقع، وأما الشرع فخص الطيرة بما يسوء والفأل بما يسر، ومن شرطه أن لا يقصد إليه فيصير من الطيرة. قال ابن بطال: جعل الله في فطر الناس محبة الكلمة الطيبة والانس بها كما جعل فيهم الارتياح بالمنظر الانيق والماء الصافي وإن كان لا يملكه ولا يشربه. وأخرج الترمذي وصححه من حديث أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: يا نجيح يا راشد " وأخرج أبو داود بسند حسن عن بريدة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا يسأل عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رؤي كراهة ذلك في وجهه " وذكر البيهقي في " الشعب " عن الحليمي ما ملخصه: كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة، فذكر نحو ما تقدم ثم قال. وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب وبمرور الظباء فسموا الكل تطيرا، لان أصله الاول. وقال. وكان التشاؤم في العجم إذا رأى الصبي ذاهبا إلى المعلم تشاءم أو راجعا تيمن، وكذا إذا رأى الجمل موقرا حملا تشاؤم فإن رآه واضعا حمله تيمن، ونحو ذلك، فجاء الشرع برفع ذلك كله. وقال "من تكهن أورده عن سفر تطير فليس منا " ونحو ذلك من الاحاديث. وذلك إذا اعتقد أن الذي يشاهده من حال الطير موجبا ما ظنه ولم يضف التدبير إلى الله تعالى، فأما إن علم أن الله هو المدبر ولكنه اشفق من الشر لان التجارب قضت بأن صوتا من أصواتها معلوما أو حالا من أحوالها معلومة يردفها مكروه فإن وطن نفسه على ذلك أساء، وإن سأل الله الخير واستعاذ به من الشر ومضى متوكلا لم يضره ما وجد في نفسه من ذلك، وإلا فيؤاخذ به، وربما وقع به ذلك المكروه بعينه الذي اعتقده عقوبة له كما كان يقع كثيرا لاهل الجاهلية. والله أعلم. قال الحليمي: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لان التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال. وقال الطيبي: معنى الترخص في الفأل والمنع من الطيرة هو أن الشخص لو رأى شيئا فظنه حسنا محرضا على طلب حاجته فليفعل ذلك. وإن رآه بضد ذلك فلا يقبله بل يمضي لسبيله. فلو قبل وانتهى عن المضي فهو الطيرة التي اختصت بأن تستعمل في الشؤم. والله أعلم. |
#45
|
||||
|
||||
|
العلامات المرجعية |
|
|