|
المواضيع و المعلومات العامة قسم يختص بعرض المقالات والمعلومات المتنوعة في شتّى المجالات |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#16
|
||||
|
||||
الصيام وآثاره في الفرد والمجتمع الشيخ محمد الطاهر النيفر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. مِن أعظم مِنَن الله - تعالى - على هاتِه الأمَّة المحمديَّة، أن كَتَبَ عليها الصِّيام كما كَتَبَه على الذين من قبلها، فكان أحدَ الأُسُس المتينة التي أقيم عليها الإسلام، وإحدى دعائمه المُحْكَمة، التي لا يقوى على تخريبها تقادُم العصور، ومَعَاول الأيام، فأثارُه في تقويم النُّفوس البشرية أعظم من أن تُحْصى، وفوائده للمجتمع أكثر من أن تستقصى، وناهيكَ بعبادة ضَمَّت للتقريب من الله زُلْفى، تطهير النفوس مما عسى أن يلتحقَ بها من خشونة الطبع، وضعف العاطفة نحو ذلك البائس الفقير، الذي ترتبط معه بهاتيكَ الرابطة العظمى، رابطة الإسلام التي لا تَنْفَصِم عُراها، ومتى عَمِلَتْ هاتِه العبادةُ عَمَلَها في النفوس، بَسَطَتْ بعضًا منَ النّعَم التي آثَرَها بها المُتصرف الحكيم على السائل والمحروم، فتصبح سعادة البَشَر عامة ولو إلى حين، وإذ قد لَمَّحنا لك في هاته النّبْذَة لعظيم فوائده، وجليلِ قَلائده، فيجدُر بنا أن نُفَصِّلَ لكَ - أيها القارئ الكريم - بعضًا من هاتيكَ الفضائل الجمَّة، في الحال والمَآل، والله الموفق وعليه الاتِّكال. إنَّ مَن نظر بعين الهداية والتوفيق، لما سَنَّه الله لنا في هاتِه الشَّريعة السَّهلة، المُحْكَمة النظام، وجده لا يخرج عن إصلاح مفردنا وجمهورنا، في دُنيانا وبعد نُشُورنا، حتى نكونَ في سعادة شاملة، وخيرات فضائلها مُتكامِلة، وقد كانتْ عبادة الصَّوم جامعة لهاتِهِ الفضائل الثلاث؛ أعني: خير الآخرة، وإصلاح الفرد، والمجتمع؛ ولذا رأينا أنَّ الحديث في هذا المقام يتناوله من ثلاث جهات: فضائله الأخروية، فوائده الفردية، آثاره الاجتماعيَّة. فضائله الأخرويَّة: إنَّ الله - تبارك وتعالى - أوجَبَ الصوم في شهره المبارك، ورغَّب فيه، ووعد بجزيل العطاء عليه، فقال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184]، ونسبه الله لنفسه مِن بين سائر العبادات إظهارًا لشريف مقداره، وجلائل آثاره، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: ((قال الله - عز وجل - كُلّ عمل ابن آدم له، إلاَّ الصَّومَ، فإنَّه لي، وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صيام أحدكم، فلا يَرْفُث، ولا يصخب، فإن سَابه أحد أو قاتَلَه، فلْيَقل إنِّي صائم، إني صائم، والذي نفس محمد بيده، لَخَلُوفُ فم الصَّائم أطيب عند الله مِن ريحِ المِسْك، للصَّائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه))؛ رواه البخاري وغيره، واللفظ له. والوجه في اختصاص هاتِهِ العبادة بالانتساب للذَّات العَلِيَّة، أنه لا يداخلها ما يمكن أن يصاحب العبادات العمليَّة، من رياءٍ وتظاهر بالطاعة، فهي العبادة التي لا يَطَّلع عليها سواه، ولا تكون إلاَّ لله؛ وإظهارًا لمزيد فضل الصوم، خَصَّ الله - تبارك وتعالى - باب الرَّيان في الجنة بالصائمين؛ تمييزًا لهم عن سائر عباده، الذين شَملهم فضله وإحسانه، فكانوا منَ الفائزين؛ كما وعد - جل فضله - بِمَحْو جميع الخطايا والذنوب، لِمَن أتمَّ صومه على الوجه المطلوب، وشَفَّعَه في صاحبه يوم لا يغني مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصِّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أَيْ ربِّ، منعته الطعام والشهوة، فشَفِّعْني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، قال: فيشفعان))؛ رواه أحمد، والطبراني في الكبير، ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه الحاكم، وقال صحيح على شرط مسلم. فإذا كانت هاتِه فَضَائلَه، وتلك مَزَاياه، فالعَجَب كُلُّ العَجَب ممَّن عنه يُعْرِضون، ويستبدلون هاتيكَ السعادة الأبديَّة بإرضاء الشَّهوة البهيميَّة، واتباع مَلَذَّاتهم الدَّنِيَّة، فيخرجون بصفقة المغبون، شأن مَن أَضَلَّه الشيطان، واتَّبَع هواه، فانقلب على وجهه مذمومًا مدحورًا، خَسِر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين، وليس صوم المُؤمن بتَرْك طعامه وشرابه، والإعراض عن إرضاء الشَّهوة الغريزيَّة فقط؛ وإنما الصَّوم بِتَرْك ذلك كله، مع الإعراض عن القيل والقال، وتجنب لغو الكلام وفواحشه، والابتعاد عن انتهاك الحرمات، والتَّعَرُّض لعيوب المخلوقات. فقد ثَبَت في بعض الآثار، أنَّ جُرْم التَّعَرُّض للغير بما لا يُرضيه - يساوي ما أَعَدَّهُ الله من عظيم الجَزَاء على صومه، وعليه أن يَتَجَنَّبَ الرَّفَث والصَّخب، وما يُؤَدِّي لإيقاد العَوَاطف وجَلْب اللعن والغضب، فإن سابَّه أحد أو شاتَمه، فلْيَقُل: إنِّي صائم، إني صائم، وفي الحديث الشَّريف عن أبي هريرة - رضيَ الله عنه -: ((مَن لم يدع قول الزُّور، والعمل به، فَلَيْس لله حاجة في أن يدع طعامَه وشَرابه))؛ أخرجه البخاري. وإذا كان الصيام جُنَّة - كما في حديث أبي هريرة المُتَقَدِّم - أي: ساترًا منَ النَّار، فكيف نجعله مطيَّة للوقوع فيها، فإنَّا أصبحنا نشاهد - ويا لَهَول ما نشاهد - في أغلب أوقات الصيام كَثْرةَ الخِصَام والسباب، والإفراطَ في المُوَاجهة ببذيء القول، وفواحش الخطاب، وَلَرُبَّمَا وصل بهم الأمر للخروج عن دائرة الإسلام، وهم لا يشعرون، فإذا أنحيت على مرتكب ذلك باللَّوم والتَّعنيف، اعتَذَر بأنَّه صائم؛ كأنَّما صومه بذلك أغْرَاه، وما درى المسكينُ أنَّه عن مِثْل ما وَقَع فيه ينهاه، وأنَّه جاء بما يُوازِي إحباط مسعاه، فالواجب المُحَافظةُ على اللسان، فإنَّه أصل كلِّ بليَّة للإنسان، وتعمير أوقاتِه بمختلف الطَّاعات، وذكر خالِق الأرضِ والسَّموات، سبحانَه الكبير المُتعال، فالطاعة يعظم جَزَاؤُها بزيادة فضل أوقاتها، وتَتَفَاوَت درجاتها بِتَفاوت أمكنتها في الشَّرَف والفضل؛ فعن سلمان - رضي الله عنه - قال: خَطَبنا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في آخر يوم من شعبان، قال: ((يا أيها الناس قد أَظَلَّكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلةٌ خير من ألف شهر، شهر جَعَل اللهُ صيامه فريضة، وقيام ليلِه تَطَوُّعًا، مَن تَقَرَّبَ فيه بخصلة كان كمَن أَدَّى فريضةً فيما سواه، ومَن أَدَّى فريضةً فيه كمَن أَدَّى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصَّبر، والصَّبرُ ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يُزَاد في رزق المؤمن فيه، مَن فَطَّر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وعتق رَقَبَتِه منَ النار، وكان له مثل أجره، مِن غير أن ينقصَ من أجره شيء))؛ رواه ابن خُزَيْمة في صحيحه، ثمَّ قال: صَحَّ الخبر، ورواه من طريق البيهقي، ومما أرى لزامًا التَّعَرُّضَ له في هذا المقام - ما اعتاده غالب المسلمين من تعمير لياليه بألعاب اختلفت أنواعها، وتَعَدَّدَتْ أوضاعها، وجميعها لا يخرج عما كانت الشريعة تأباه؛ رأفةً بنا، وحرصًا علينا من أن نضيع الوقت الثمين، فيما لا نجني من ورائه فائدة بإحدى الدارين، والأنكى من ذلك كله أنَّ منَّا مَن يقضي هاتيك الليالي الفُضْلَيات في الميسر، أو غشيان الملاهي، ودور الفسق والفجور، حيث تُهْتَك ستور الشريعة الطاهرة، ويُدَاس الخُلُق النبيل، ولا يرى أرباب هاتيك المحلات بأسًا، في الإعلان عن تلك الحفلات الجامعة لشَتَات المُنكرات، فيكون عاملاً على إفشاء الفاحشة في قومه، وتعميم الرذيلة بينهم؛ كأنما إسلامه عن ذلك لا ينهاه، والخُلُق الفاضل لا يأباه، وإني لأعجب من مثل هذا الخِبِّ اللَّئيم، كيف ارتضى لنفسه هاتِه المهانة؟! وَتَدَلَّى بها لدرك الحقارة والإدانة، فجعلها واسطةَ سوءٍ، بين فُجَّار بني آدم والساقطات من بنات حواء، فجمع بينهما في محله؛ طمعًا في الاستحصال على بعض الدُّرَيْهِمات، التي تكون سُحْتًا عليه، ولا تُثْمِرُ - بحمد الله - لديه، فأَعْرِضوا - أيها المؤمنون - عن جميع ذلك، فإنَّ مَنِ اتَّبَعَ هواه وجد الشيطان إلى قلبه سبيلاً، فَأَضَلَّهُ طريق الرشاد، وأوشك أن يأخذه الله بما كسبت يداه، فيصبح من النادمينَ، وهيهات أن يعود له ما فات، أو تُفِيده الحسرات والتَّأَوهات، واستبدلوا ذلك بإحياء لياليه بالعبادة، والتوبة من الذنوب والدعاء بالإنابة، فمن ليالِيهِ ليلةُ القدر، التي هي خير من ألف شهر، ومَن أحياها بما يُرْضي الرب الكريم، غُفِر له ما تَقَدَّمَ مِن ذنبه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه و سلم - قال: ((مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تَقَدَّمَ من ذنبه، ومَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تَقَدَّمَ من ذنبه))؛ أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وقد أخفاها الله – تعالى - ترغيبًا لنا في إحياء جميع لياليه، حتى يَعْظُمَ الزاد لِيَوم اللقاء والمعاد، فنكون منَ الذين ابْيَضَّتْ وجوههم؛ فكانوا منَ الآمنينَ. فوائده الفردية: أولها الصِّحَّة، فالصَّوم رياضة تُجَفِّف الرطوبات البدنية، وتُفْني المواد المُنْهِكَة للقوى، التي كثيرًا ما يتولد عنها أمراض، يصعب علاجها، ويخفى سببها، فقد أثبت ابن سينا الحكيم أنَّ هاته المواد تَتَوَلَّد منَ الطعام، وتكثر حتى ينجم عنها أمراض معضِلة، يخفى عن الحكيم سببها في غالب الأحيان، ولا وقاية منها إلاَّ بالإعراض عن كثرة الأكل زمنًا في كل سنة، وتابعه فيما قرره حكماء أُورُبَّا من بعده؛ إذًا فالصَّوم وإن تولد عنه الضعف والذبول في بعض الأحيان، فعاقبته القوة والنمو، ألا ترى إلى النبات، الذي يُمْنَعُ في بعض الأحيان السَّقْيَ، حتى يذبل، ثم يُفَاض عليه الماء، فيعاوده نُمُوُّه وَزَهْوُه بصفة أتم وأحسن مما لو استمرَّ سقيه، والكثير منَ النباتات استمرارُ سقيها يؤدي لتَلَفِها، ومنها كسر صورة الشهوة، وكبح جماحها، حتى يصبح قيادها بيده، ولا يتم ذلك إلاَّ بتيسيريها طبق رغبته، لا طبق مرغوبها، ولا أرى خطرًا يقضي على كيان الإنسان في هاتِه الحياة، ويسلب سعادته بعد موته، كتَغَلُّب الشهوة على العقل، فإن مَن طَغَت شهوته عليه أفرط في اتباع هواه، وانغمس في مَلَذَّات هاته الحياة، وعندئذ تنطمس من نفسه أشعة الصفات الكريمة؛ كالعفة، والقناعة، والحياء، والسخاء، فتصبح الفضيلة وقد تَهَدَّمَت من نفسه أركانها، وَتَزَعْزَع بنيانها، وفي ذلك البلاء العظيم لأمته جمعاء، فصلاح الأمة بحسن تهذيب أفرادها. ومن فوائده العظيمة آثاره الاجتماعية: أعظمها التَّسوية بين الأغنياء والبائسين، وأهل الخصاصة والمترفين، في فَقْد دواعي اللَّذَّة، وموجبات النعم، وفي هاته التسوية تعميم الألفة بين أفراد الأمة الواحدة، والإعراض عما يدعو للتخالف الناشئ عن تَرَفُّع بعضهم عن بعض، ومتى صَفَتِ النفوس منَ الأحقاد والتنافر، حصلت السعادة العامة للجميع، والتآلف بين أفراد الأمة المحمدية في مقدمة الأمور التي جاء الإسلام داعيًا إليها، في كتابه الحكيم، وعلى لسان الصادق الأمين قال - عليه الصلاة والسلام -: ((ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم، كَمَثَلِ الجسد، إذا اشتكى عضو منه، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))؛ أخرجه البخاري، عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - ومنها تَعَدِّي نِعَمِ ذَوِي اليسار لأهل الخَصَاصَةِ والإعسار؛ لأن مَن تَذَوَّقَ طعم المكاره، حَنَّ قلبه لأهلها، فكان ذلك حاملاً له على مُوَاساتهم، وإعانتهم على التَّخَلُّص من الشدة، التي يتخبطون فيها، وفي هذا القَدْر كفايةٌ وذِكْرى، لمن ألقى السمع وهو شهيد. : توطين النَّفس على المكاره، وتعويدها الصَّبرَ، وعدم الجزع؛ حتى يتمكن من تأديبها، طبق ما يمليه الشرع والعقل، ويقتضيه الشرف وحسن الشيم، ومن لم يوطن نفسه على هاته الصفات، أصابه يوم يعضه الدهر بنابه، والزمان ذو ألوان من جراء ذلك العذاب الأليم، فالذي لا يملك نفسه عند الجزع والشدة لا يقدر على التَّخَلُّص منها، وفي ذلك هلاكه المحقق، وخسرانه المبين؛ ولذا كانت العرب تضرب للإبل الأخماس بالأسداس، استعدادًا بها للسفر في الصحاري والقفار؛ حتى تتمكن من قطع هاتيك المسافات الشاسعات، التي قَلَّ أن يظفر مجتازها بمرغوبه من زلال الماء، ومن أعظم الأغراض التي يرمي إليها الإسلام، وتوطين نفوس أهله على هاته الصفات الجليلة، التي بها سعادة البشر في جميع أطوار حياته، ومن فوائده أيضًا معرفة قيمة النِّعَم، حتى يحسن التصرف فيها والاحتفاظ بها، فإن النعم لا تدرك حقَّ الإدراك إلاَّ بزوالها، والأشياء تعرف بأضدادها. |
#17
|
||||
|
||||
رمضان.. شوقاً إلى الجنة د. هاني درغام هل تشتاق إلى موطنك الأصلي؟ • هل تذكر يوماً وأنت في طريق عودتك إلى مدينتك أو بلدتك بعد رحلة طويلة أو قصيرة سافرت فيها بحثاً عن الرزق والمعاش أو طلباً للعلم أو العلاج.. هل تذكرت مشاعر الشوق والحنين وأنت في طريق عودتك وأنت تُمنّي نفسك بالوصول إلى بيتك حيث الراحة والسكينة والطمأنينة؟ • هل علمت أنك مخلوق أُخروي بالدرجة الأولى تنتظر مثلما ينتظر المسافر الفرصة المناسبة للعودة إلى وطنك الأصلي.. (الجنة)؟ وهذا ما صرح به إبراهيم بن أدهم رحمه الله فقال: (نحن نسْلٌ مِن نسْل الجنَّة، سبَانا إبليس منها بالمعصية، وحقيقٌ على المسبي ألا يهنأَ بعيشه حتى يرجعَ إلى وطنه). أواه.. إنها الجنة: هل تشتاق إليها؟؟ هل تحن إليها؟ قل لي بربك.. كم مرة تفكر فيها في اليوم أو في الأسبوع أو حتى في الشهر؟ وا حسرتاه... لقد طغى ظلام المادة في حياتنا على نور الحق وسمو الروح.. واستحوذت الدنيا بمُتعها التافهة الزائلة على اهتمام الكثير من الناس وصارت أكبر همهم ومبلغ علمهم وشغلوا بها عن الحياة الآخرة الدائمة ونعيمها. دعني أسألك .. كم مرة تفكر في الدنيا في الساعة أو في اليوم؟ ما الذي يشغل بالك في هذه اللحظة؟ هل شيء غير المال والبنون والملبس والمطعم والشهادات والألقاب والأفكار التافهة والنزوات الفارغة الوضيعة ومطالب النفس الحيوانية الباطنة والظاهرة إلا من رحم ربك؟ رمضان ونسائم الجنان: ما أجمل أن تستغل رمضان هذا العام للتحرر من أسر هذه المادية البغيضة.. لتستعيد النفوس شوقها ولهفتها إلي الجنة, وتسترجع الروح سموها وصفائها.. كيف لا وفي شهر رمضان تفتح أبواب الجنة وتتزين لعباد الله الصائمين.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل رمضان فُتحت أبواب الجنة وغُلقت أبواب جهنم وسُلسُلت الشياطين) (متفق عليه). وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أولُ ليلةٍ من رمضانَ صفدت الشياطين ومردة الجن.. وغُلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب.. وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منه باب وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.. ولله عتقاء من النار وذلك كُلَ ليلة) (رواه الترمذيُ وابنُ ماجه والنسائي وحسنه الألباني). أخي.. أبواب الجنة مفتوحة طوال هذا الشهر الكريم.. فهل شممت عبيرها؟ هل تنسمت أريجها؟.. أم زكمت أنوفنا بالمعاصي والآثام فلم تجد الجنة فيها موضعاً؟! وا عجباه.. كيف لا تشتاق إلى الجنة وللصائمين بابا يدخلون منه إلى الجنة لا يدخل منه أحد غيرهم.. فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام قال: (إنَّ في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرُهم يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخُل منه أحدٌ غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد) (متفق عليه). للمشتاقين.. صور من نعيم الجنة: • إن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران.. وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن. • وإن سألت عن بلاطها فهو المسك الأذفر.. وإن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ والجوهر.. وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب. • وإن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون ﴿ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ (الطور: 22). • وإن سألت عن شرابهم فالتسنيم والزنجبيل والكافور ﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ﴾ [الإنسان: 17-18]. • وإن سألت عن عرائسهم وأزواجهم فهن الكواعب الأتراب اللاتي جرى في أعضائهن ماء الشباب فللورد والتفاح ما لبسته الخدود, وللرمان ما تضمنته النهود ,واللؤلؤ المنظوم ما حوته الثغور , وللرقة واللطافة ما دارت عليه الخصور, تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت.. كلما نظر إليها ملأت قلبه سرورا وكلما حدثته ملأت أذنه لؤلؤا منظورا ومنثورا وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نورا. • وإن سألت عن فرشها وسررها فهي فرش بطائنها من الإستبرق وزرابي مبثوثة في كل مكان بأجمل الأشكال والألوان تسر العين والخاطر وتبهج النفس ﴿ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 31]. • وإن سألت عن أسواقها .. فدونك قول النبي عليه الصلاة والسلام : (إن في الجنة سوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم ، فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا، فيقولون: وأنتم الله لقد ازددتم حسنا وجمالا ) (رواه مسلم). • وإن سألت عن الصحبة فيها.. فهل هناك أعظم وأشرف من صحبة النبي المختار وصحابته الأطهار والتابعين لهم بإحسان من الأخيار والأبرار... تَصَوَّرْ نفسَكَ وأنتَ مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم- تجلسُ في مجلسِهِ، وتأكلُ على مائدتِهِ، وتتأمَّلُ قسماتِ وجهِهِ، وتُمتِّعُ نفسَكَ بابتساماتِه العاطرةِ ونظراتِه الآسرةِ، تقبِّلُ جبينَهُ، تضعُ كفَّكَ بكفِّهِ، تستمعُ إلى كلامِهِ.. تصور نفسك وأنت تتحدث مع أبو بكر الصديق, وتقبّل الفاروق عمر, وتناجي عثمان بن عفان, وتصافح علي بن أبي طالب, وتجلس إلى خالد بن الوليد يحدثك عن جهاده وبطولاته و.. وأروع المسرات وأعظم اللذات على الإطلاق لذة النظر إلى وجه ربك الكريم ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22-23] .. فأي مستوى من الرفعة هذا؟ أي مستوى من السعادة؟ وخلاصة القول: الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17]. أخي في الله: • ألا خاطبٌ في هذا الشهر إلى الرحمن؟ ألا هل من مشتاق إلى الحور الحسان؟ • ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان؟ • ألا من مشتاق لدخول الجنة من باب الريان؟ • ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان؟ إن العجب كل العجب ممن يصدق بدار البقاء وهو يسعي لدار الفناء.. ويعلم أن رضا الله في طاعته وهو يسعي في مخالفته. عجبا لك يا مغرور.. ما هذا التواني والفتور؟.. باطنك خراب والظاهر معمور.. آه لو تفكرت في سكرات الموت وفتنة القبور؟ لو تدبرت كتاب ربك لعلمت أن الحياة الدنيا متاع الغرور. كيف ترجو النجاة وأنت غارق في المنكر والزور؟ فيا من أُخرج أبويه من الجنة بذنب واحد بعد أن كان لها مالكاً.. كيف تطمع بدخولها بذنوب كالجبال لست لها تاركاً؟! أيها الكسالى والنائمون .. متى تستيقظون؟ متي لفراش الغفلة تهجرون؟ متي تبادرون؟ ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]. وصية عملية: • استحضر وأنت تؤدي العبادات والطاعات في هذا الشهر الكريم نعيم الجنة وألوان المتعة واللذة فيها, مستعينا في ذلك بقراءة الآيات التي تتحدث عن وصف الجنة ونعيمها بقلب متدبر ونفس مشتاقة.. فهذا مما يشحذ الهمم ويقوي النفوس كلما أصابها الملل أو زارها الفتور. • احرص في دعائك وخاصة قبل الإفطار أن تقول : (اللهم إني أسألك الجنة وما قرب اليها من قول وعمل.. وأعوذ بك من النار وما قرب اليها من قول وعمل).. ولا تنسى صاحب هذا الكتاب من دعوة صالحة بمرافقتك في الجنة. إضاءة: بكى أحد الصالحين عندما قرأ قوله تعالى ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[آل عمران: 133] فقيل له: لقد أبكتك آية ما مثلها يبكي.. إنها جنة عريضة واسعة.. فقال: يا بن أخي وما ينفعني عرضها إن لم يكن لي فيها موضع قدم؟! المصدر : كتاب (هكذا علمني رمضان) |
#18
|
||||
|
||||
مبارك عليك الشهر (5) أ. محمود توفيق حسين عندما تضع زوجتك لكم طعام الإفطارِ بالأطايب المختلفة وقد بدا عليها الإنهاك بعد أن غابت لساعتين في المطبخ وتسألها عن نوع الحلوى المفضل لديك؛ الذي دخلتَ إليها المطبخ وطلبته منها وتُحرج منك، وتعتذر إليك لأنها نسيت فلا تصرخ في وجهها معترضاً على التجاهل لا تفكِّر بأنها فعلت ما أرادت فعله ولم تهتمَّ بما يشغلك بل فكِّر في ألاَّ تنشغل في رمضان بغذاء بطنك.. بل بغذاءِ روحك لا تفكِّر بأن هذه الحلوى ترتبطُ برمضان بل فكِّر في أن رمضان لا يرتبط تذوقاً إلاَّ بحلاوة الإيمان. مبارك عليك الشهر وقد خرجت منه ولم تعُد همَّتك بطنك |
#19
|
||||
|
||||
ونحن في رمضان حقوق المستهلك وحمى الشراء وجشع التجار!! د. زيد بن محمد الرماني مدخل: إن هناك سلوكيات اقتصادية بدأت في الظهور والانتشار في المجتمعات المعاصرة تمثل عبئاً اقتصادياً لها آثار ضارة على الاقتصاد الأسري، وكذا الاقتصاد الوطني فضلاً عن اقتصاد المجتمعات والدول. وتعد سلوكيات التخمة وإدمان الشراء والاستهلاك الشره وهوس التسوق والإسراف والترف والتبذير أمثلة نموذجية لتلك السلوكيات الاقتصادية. وقد ساعد على انتشار تلك السلوكيات والعادات عوامل عديدة، أهمها: إغراق السوق بصنوف الكماليات والإعلان عنها بطريقة مثيرة، وكذا انخفاض الوعي الاستهلاكي لدى معظم أفراد المجتمع، وعدم توجيه الناس بشكل مباشر. إن الإدمان على الشراء لا يقل خطراً ودماراً نفسياً عن خطر الإدمان على الكحول والمخدرات. جاء في بعض التحقيقات الصحفية: أحدهم يقول: أنزل إلى السوق وليس لدي نية للشراء فخطرت على بالي أشياء فاشتريتها. وآخر يقول: إننا نستسلم للإغراء، فنشتري ما لا نحتاج إليه. وثالث يقول: دائماً أشتري أشياء زائدة عن حاجتي. وإحداهن تقول: إن السبب الرئيس الذي يكون وراء دفع النساء إلى الإفراط في إنفاق المال في الشراء هو السعي الدائم منهن من أجل الحصول على إحساسهن بالرضا. وللأسف، فلقد باتت حمى الشراء والتسوق تستشري كثيراً؛ لأن ضغوط الشراء الدعائية والتسابق من أجل رفع مستوى المعيشة وتسهيلات البيع وأسلوب العرض تتحكم في الإنسان، وقد أوقعت بأسر كثيرة في شباك الهوس. إن ظاهرة حمى الشراء، ظاهرة انتشرت بين الناس أفراداً وأسراً ومجتمعات ودولاً وعوالم. ظاهرة اخترقت حواجز العرف والعادة، ودمرت قواعد العقل والقيم، وأجهزت على ما تبقى من الأهداف الشريفة والغايات النبيلة. ظاهرة فريدة في نوعها، ذات ارتباطات قوية مع أخواتها: النهم الاستهلاكي، وهوس التسوق، وإدمان الإنفاق. ظاهرة تنخر في جسد الأمة، وتهدم كيانها باستمرار من قديم الزمن وإلى الآن. الشراء بين الأمس واليوم: فيما مضى، كان كل شيء يُقتنى ويُشترى موضع رعاية وعناية خاصة واستخدام إلى آخر حدود الاستخدام، وكانت الأشياء والسلع ت-ُشترى ليحافظ عليها، وكأن شعار ذلك الزمان: ما أجمل القديم. أما اليوم، فقد أصبح التأكيد على الاستهلاك وليس على الحفظ، وأصبحت الأشياء تشتري كي ت-ُرمى فأياً كان الشيء الذي يُشترى، سيارة، أو ملابس أو آلات من أي نوع، فإن الشخص سرعان ما يمل منه ويصبح توّاقاً للتخلص من القديم وشراء آخر طراز وموديل، وكأن شعار هذا الزمان: ما أجمل الجديد. يقول أحد الباحثين: شخص يحتاج إلى سيارة واحدة فقط، لكننا نجده يجمع ثلاث سيارات، زعماً منه بأن منزلته الاجتماعية سوف ترتفع وتكون له وجاهة بين الناس. وآخر يحتاج إلى هاتف، ولكنه يطلب - أيضاً - هاتفاً نقالاً، وجهاز نداء آلي، وهاتفاً خاصاً بالفاكس. إنه إغراء الاستهلاك غير المتزن!!! المدمن على الشراء فأر تجارب: إن الإنسان المدمن على الشراء والاستهلاك لا يعدو كونه فأراً لتجارب المصانع التجارية ذات الأهداف الاقتصادية البحتة بكل المعايير. حيث تتسابق المصانع لتسويق منتجاتها وإغراء المستهلكين لشرائها وتملكها، غير آبهين بالأضرار الصحية أو الاجتماعية أو الاقتصادية التي قد تسببها بعض تلك السلع!!. السلع المعدة للشراء نماذج كرتونية: للأسف، فقد أصبحت المصانع تنتج آلاف السلع الكرتونية التي لا يتجاوز عمرها الافتراضي بضع سنوات قليلة، مما يجعلها لا تعدو كونها قبراً متناقلاً يدفع ثمنه الفرد برضى تام، ومَنْ يبقى على قيد الحياة، فإنه - بلا شك - سوف يقوم بإصلاح ذلك القبر المتنقل بكل مدخراته أو جزءاً كبيراً منها، فهناك السموم المزخرفة خارجياً، المليئة بالكيماويات والمواد الحافظة والملونة والمسرطنة داخلياً!!! الشراء النزوي: إن الشراء النزوي أو التلقائي كما اصطلح عليه، يعني شراء سلع لم تكن في ذهن المشتري قبل دخوله المتجر أو السوق. وقد أصبح هذا النوع من الشراء عادة استهلاكية وظاهرة سلوكية نتيجة لحدوثها باستمرار، خاصة بعد انتشار المتاجر وما يعرف بالسوبر ماركت - الأسواق المركزية - التي تعرض السلع بشكل جيد وجذاب وتستخدم أسلوب الخدمة الذاتية. وحسب بعض الدراسات والإحصاءات فإن هناك 60% من قراراتنا قرارات نزوية!!. أسباب الإدمان على الشراء: إن الإدمان على الشراء قد يكون ردة فعل للكآبة والتوتر النفسي وحالات القلق. فيجد المرء المتنفس الوحيد له في الإغراق في الشراء. وقد يشتري سلعاً ليس في حاجة لها. ثم إن المدمن على الشراء يعاني من نوع من الندم أو تأنيب الضمير؛ لأنه يندم بعد الشراء. كما أن المدمن على الشراء كثيراً ما يعاهد نفسه ألا يفعل ذلك. ومما يلاحظ أن الإدمان على الشراء ينتشر كثيراً بين الناس غير السعداء في حياتهم الزوجية وهم يجدون فيه عملية هروب من وضع غير مريح. وللأسف، فإن نتيجة للإدمان على الشراء، فإن المدمن على ذلك يصاب بنوع من الاستهتار بالالتزامات وربما يكون عرضة لمشاكل الديون والأقساط. يقول أحد الباحثين: تنشأ المشكلات الزوجية بسبب رغبة قوية في نفس الزوجة بالشراء، شراء ما تحتاجه وما لا تحتاجه. حكمة اقتصادية: ذات يوم أوقف الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ابنه عبدالله (وقيل جابر بن عبدالله) رضي الله عنهم - وسأله إلى أين أنت ذاهب؟ فقال عبدالله: للسوق. فقال الفاروق له لماذا؟! فأجاب: لأشتري لحماً، وبرر ذلك الشراء بأنه اشتهى لحماً فخرج للسوق ليشتري بعضاً منه، فقال له الفاروق: أكلما اشتهيت شيئاً اشتريته. إنها حكمة اقتصادية خالدة، وقاعدة استهلاكية رشيدة، خاصة ونحن نشهد في أيامنا هذه سباقاً محموماً يترافق معه أساليب تسويقية جديدة وأساليب إعلانية مثيرة ووسائل إعلامية جذابة ودعايات كثيفة من أجل الشراء والمزيد منه. نصائح لمن ابتلي بحمى الشراء: 1- تخلص من القيم الاستهلاكية السيئة الضارة، حتى لا يتسبب الاستهلاك الترفي في وجود الفقر وسط الرخاء، إذ باستمراره قد تضيع موارد الأسرة ويُفقد معها التوازن الأسري والنفسي والاجتماعي. 2- قدِّر الكميات المطلوبة والجودة والنوعية والفترة الزمنية لاستهلاك السلع والخدمات. 3- اكبح جماح انفعالاتك العاطفية المتعلقة بالكميات المطلوب شراؤها واستهلاكها سواء على مستوى الأطفال أو النساء أو الأسرة. 4- راقب الاستهلاك بصفة مستمرة وتحكم فيه عن طريق التوعية المستمرة والقرارات الرشيدة ونبِّه أفراد الأسرة على خطورة الاستهلاك المرتفع. 5- شجِّع أفراد أسرتك ومجتمعك أطفالاً وشباناً ونساءً على الادخار الإيجابي وضرورة تيسير قنوات فعالة وأوعية مناسبة لاستثمار مدخراتهم. 6- احذر تأثير وسائل الإعلان وفنون الدعاية التي تدعو إلى الشراهة الاستهلاكية ونهم الإنفاق وحمى الشراء والتسوق. 7- ابتعد عن تقليد المجتمعات المترفة ذات النمط الاستهلاكي الشره المتلاف المترف. خطوات إيجابية: ينبغي للمرأة عندما تشعر بأن حافز الإنفاق يدفعها إلى مزيد من الإسراف والتبذير والتسوق والشراء أن تتعامل مع ذلك باتباع الخطوات التالية: أولاً: تمهلي قليلاً قبل أن تخرجي نقودك، واسألي نفسكِ إن كان هذا الشعور حقيقياً أم انفعالياً. ثانياً: احرصي على ألا تشتري محبة الآخرين بالهدايا والإنفاق المفرط. ثالثاً: اسألي نفسكِ قبل الشراء إذا كان بالإمكان شراء ما هو أفضل إذا اتيحت فرصة عرض سعري أفضل. رابعاً: اسألي نفسكِ عن الحاجة الضرورية للشراء هذا اليوم. خامساً: حدِّدي جوانب النقص العاطفي عندكِ؛ لمعرفة إن كان هذا الشراء المفرط يعوِّض هذا النقص. |
#20
|
||||
|
||||
أنت بطل التغيير د. خالد بن سعود الحليبي أخي الصائم: أعجبتني كلمةُ أحدهم : "الإنسان هو بطل التغيير الاجتماعي في الإسلام"، ومصدر إعجابي بهذه المقولة هو إسباغ صفة البطولة على الإنسان القادر على التغيير، فما أكثر ما نفكر في التغيير الإيجابي ونتمناه، ولكنَّنا نجبن حتى عن تغيير ما نكرهه في ذواتنا، فضلاً عن محاولة تغيير ما حولنا مما نعتقد خطأه مهما كان ذلك في إمكاننا. منذ أن يهل رمضان ومنادي الله ينادي: يا باغي الخير أقبلْ! ويا باغي الشر أقصرْ! إنه نداء خاص بشهر رمضان، يخاطب كل مَن شهده خطابًا منفردًا وكأنه موجه له، وهو خطاب مزدوج الطلب، ينادي في المرء جانبَ الخير: أنْ أقبلْ؛ فهذا موسمك الذهبي، كل بذرة تضعها اليوم ستحصدها سبعين ضعفًا ويزيد، وينادي جانبَ الشر فيه: أنْ أقصرْ؛ فكل أعوانك قد صُفِّدوا، ولن يَخلُصوا إلى ما كانوا يخلصون إليه مِن قبلُ. إنَّ هذا التَّغيير مطلوب في كل الشهور، ولكنَّه ميزة هذا الشهر، الذي يمثل لمن يدخل جامعته المبجلة دورةً تدريبية متخصصة في قضية من أهمّ قضاياه، وهي التعامل مع حياته بشجاعة تؤهله أن يُحدِث فيها التغييرَ المناسب؛ لتطويرها في الوقت المناسب، فالنمطية والرتابة تجمد الشخصية، وتَفتِك بخلايا المخ وتُعيقُه عن التفكير التطويري. كلّ ابْنِ آدم خطَّاء، وليس مِن الشَّجاعة بمكانٍ الثباتُ على الخطأ والإصرار على التشبث به؛ فإنَّ ذلك ليس علامة رجولة، ولا ذكاء، ولا أريحيَّة؛ بل هو عكس ذلك كله تمامًا، إنه زيادة طغيان، واسترسال في الطريق المهلك. لقد هبَّت نفحاتُ رمضان على قلوبنا كالنسائم الطريَّة فأنعشتها، وأحدثت فيها تغييرًا سريعًا، لم نستطع أن نتعرَّف سِرَّه، ولكنَّنا نعيش نعيمه، أحسَسْنَا بقُربنا من الله أكثر من ذي قبل بِمجرَّد أن هلَّ الهلال، وشعرنا بالنّداء الحبيب يُحَرِّك قلوبنَا الساكنة، يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. وتَلفَّتنا مِن حوْلِنا فوجدنا مُجتمعَ الخير يستقبل ضيفَه بكلّ حفاوة وإكرام في كل المظاهر العبادية والاجتماعية والدراسية والوظيفيَّة، كلّ شيء تغيَّر من أجل رمضان، ولكن السؤال يصارحنا: هل هذا التغيير يمثل استجابةَ الحياءِ المؤقتة؛ للظرف الطارئِ الماضي عن قريب؟ أم استجابة المُخبِت الذي دخل الشهرُ أجواءَ روحه، فاكتسح ما في داخلها من لغط الأيام، وسفه الشباب، وعناد الشيوخ، وبدلها كما تبدل الثياب للصلاة؟! إنَّ التغيير قضية هائلة، بعيدة الغور، واسعة الأفق، ولكنها تبدأ من الإنسان ذاته، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]؛ ففي رمضان فرصة لإخضاع سلطة العادة لسلطة الإرادة، فالتغيير فيه شامل لكل المظاهر الحياتية، ويشترك فيه كل المجتمع، وسريع يقع بين عشية وضحاها، وواقعيٌّ يكشف للنفس التي كانت تتمسك بِمحبوباتها السيئة، متعلِّلةً بأنها لا تستطيع الاستغناء عنها - أنها أقوى من ذلك، وأنها قادرة حقًّا على هجرها مدة من الزمن ليست يسيرة، فإذا كانت جادة في التغيير الإيجابي نجحتْ في الاستمرار على هذا الهجر الجميل. أخي الصائم: هل عرضتَ عددًا من عاداتك التي كنتَ تتمنى التخلص منها على آلة التغيير العجيبة في شهر رمضان؟! جرِّب فقد تكون نهايتها التي تترقبها منذ أمد طويل، ولكن وصيتي لك أن تكون قويًّا في وجه العادة، هادئًا في التعامل مع عنادها؛ لتضمن - بإذن الله - دوام الإقلاع عنها، لا أريد أن أحدد لك عادة معينة؛ بل يكفيني أن تمتلك الشجاعة الكافية على امتلاك آلية التغيير التي يمنحها لك رمضان، يا صائم رمضان. |
#21
|
||||
|
||||
فَاطِرٌ، ومُفْطِرٌ د. أحمد عيد عبدالفتاح حسن كلا اللفظينِ اسمُ فاعلٍ، لكنَّ الأولَ منهما مأخوذٌ من الفعل الثلاثيِّ المجرد، وهو (فَطَرَ)، والثاني مأخوذٌ من الفعل الثلاثيِّ المزيد فيه حرفٌ واحدٌ، وهو (أَفْطَرَ). وبين مَعْنَيِ اللفظينِ فرقٌ كبيرٌ. ذلك أنَّ كلمةَ (فَطَرَ) تُؤدي معانيَ غير التي تُؤديها كلمة (أَفْطَرَ)، ألا ترى أنَّك تقول: ♦ فَطَرَ اللهُ الخلقَ فَطْرًا من باب (قَتَلَ يَقْتُلُ)، أعني: مفتوح العين في الماضي مضمومها في المضارع، والمعنى الذي تُريده: خَلَقَهُمْ. ♦ والله تعالى فاطر السماوات والأرض، والمعنى: مبتدعهما ومبتدئهما على غير مثال سَبَقَ. وقد خَفِيَ معنى كلمة (فاطر) على حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما -، وفي ذلك قال: " ما كنتُ أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى اختصم إليَّ أعرابيانِ في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتُها، أي: ابتدأتها " [1]. ♦ وقيل: فاطر السماوات والأرض، والمعنى: خالق السماوات والأرض. ♦ ويقال: فَطَرَ نابُ البعيرِ فَطْرًا من باب (قَتَلَ يَقْتُلُ) - أيضًا- فهو فاطرٌ، والمعنى: شَقَّ اللحمَ وطَلَعَ، وفَطَرَ النَّبَاتُ، والمعنى: شَقَّ الأرضَ ونَبَتَ منها، وفَطَرَ الرجلُ الشيءَ، والمعنى: شَقَّهُ. ♦ وفَطَرَ العالمُ الأمرَ، والمعنى: اخترعه وابتدأه. أما كلمة (أَفْطَرَ) فلها معانٍ متعددة، والسياقُ يُحَدِّدُ المراد منها، تقول: ♦ أَفْطَرَ عليٌّ في نهار رمضان، والمعنى: قَطَعَ صيامَهُ وأفسده بسبب تناوله شيئًا من المفطرات. ♦ وتقول: إذا غربت الشمس فقد أَفْطَرَ الصائمُ، والمعنى: دخل في وقت الفطر، مثلما تقول: أصبحَ المسافرُ وأمسى، والمعنى: دَخَلَ في وقت الصباح والمساء وغير ذلك. ♦ وتقول: أَفْطَرَ حمدي على تمرٍ، والمعنى: جَعَلَهُ فَطُورَهُ بعد الغروب. وتقول في غير رمضان: أَفْطَرَ الرجلُ قبل خروجه إلى العمل، والمعنى: تناولَ طعامَ الصباح. وكلمة (فَطُور) على وزن كلمة (رَسُول)، ومعناها: ما يُفْطَرُ عليه. واسم الفاعل من هذا الفعل الثلاثي المزيد فيه حرف هو (مُفْطِرٌ). فإذا أردت أن تُخبر عن شخصٍ تناولَ شيئًا مفطرًا في نهار رمضان - فاللغة العربية تقتضي منك أن تقول: فُلانٌ مُفْطِرٌ، وإيَّاك أن تقولَ: فاطرٌ، وأنت تُريد أن تُخبر عن هذا المعنى، فإن قلتَ ذلك فقد تعديتَ حدودَ العربية، وسلكتَ طريقًا غيرَ طريق الفصحاء. فكلمة (صائم) مقابلها ومضادها كلمة (مُفْطِر) لا فاطر. ومن حقِّ العربية عليَّ وعليك تصحيحُ الخطأ الذي يدور على ألسنة بعض الناس في هذا العصر المريض بمرض البعد عن العربية، فالفاطرُ شيءٌ، والمفطرُ شيءٌ آخر، وضدُّ الصائم هو: المفطر لا الفاطر. أمَّا إذا أخضعنا كلمة (فَاطِر) لنظرية التطور الدلالي للكلمات فلا خطأ حينئذ، ولا إشكال. والله الموفق والهادي. [1] شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم للحميري 8/5215. |
#22
|
||||
|
||||
أفكار حول رمضان د. عبدالحكيم الأنيس الحياةُ عندما تكون كشريطٍ واحدٍ تُمَلُّ، ولذلك كان فيها المناسبات كالجُمَع والأعياد وما إلى ذلك، كي تُقلِّص من شعور الناس بـ (الرتابة) المملة، وتجعلهم يعيشون أياماً تختلفُ عن أيامهم في سائر السنة، وتكون بمثابة الأمل، وقديماً قيل: لولا الأمل لبطل العمل، وشهرُ رمضان له الأثر الكبير في هذا المجال في كثيرٍ من نواحي الحياة، وأنماط أحداثها، وبه يشعرُ الناسُ بتغييرٍ تامٍّ عمّا تعودوه صباحَ مساء، وبهذا تتجدَّدُ الحياةُ وتتبلور صورُها. •••• وشهر رمضان كثيراً ما يُساعد على (عبادةٍ) قد أعرض كثيرٌ من الناس عنها ولم يعودوا يُعيرونها أيَّ اهتمام، تلك هي عبادةُ التفكُّر في آلاء الله، وعظمته، وإبداع خلقه، والتفكر في المبدأ والمصير، ومساعدةُ شهر رمضان على هذه العبادة إنما هو من باب خلاء المعدة من كثرة الأطعمة والأشربة مما ترتخي معه الأعضاءُ، ويكسلُ الجسم، وتنشلُّ حركة العقل، فالبطنة تُذهب الفطنة، والامتلاءُ الدائمُ سببٌ كبير لإفساد الفكر، وإبعاده عن وظيفته ووجوده. •••• ومن أهم دروس رمضان ذلك الدرس الذي تفتقرُ إليه الأمةُ بأجمعها: (الصبر)، فالمسلمُ عندما يُكابِد ألم الجوع والعطش، ويَحْمل نفسَه على ما تكره، ينصاعُ له ما يعصيه من الصبر، إلى أنْ يصيرَ له سجية وجبلة، وإذا ما اعترضتْهُ خطوبُ الحياة وأكدارُ الدنيا كان ذا سلاحٍ قويٍ أمينٍ يدافِعُ به عن إيمانه ويقينه، وعزته وكرامته، هذا أولاً، وثانياً يُساعِد على حمل أمانة التبليغ واستعذاب الأذى في سبيل الحق والسلام. كلُّنا بحاجة إلى الصبر كي نستطيعَ مواكبة السير وقلع الأشواك من الطريق، ومرحباً برمضان عندما يُملي علينا هذا الدرسُ البليغُ. •••• وفي رمضان تتجلى وتترقرقُ أسمى وأعظم آيات الحبِّ للخالق العظيم، فهذا هو المسلمُ وقد صام نهارَه وقام ليله لا يأبه بالجوع والعطش ولا بالسهر والسمر، انصرف بكليته إلى ربه تائباً منيباً، داعياً راجياً، ما له مِن همٍّ إلا القبول والتجاوز عمَّا مضى، قد تُعرَضُ أمامه أشهى الأطعمة فيُعرض عنها، ويلوح له أعذب الشراب فلا يلتفت له، كلُّ رغبته أن يرضى الله عنه، ويقول له يومَ القيامة بعد كل هذا التعب والنَّصَب: لقد بلوتُك يا عبدي ووجدتُك عند العهد، والآن ï´؟ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ï´¾، وهناك ما أشدَّ خيبة من خسِرَ الامتحان. •••• وساعات رمضان كلها خيرٌ وبركةٌ، وإنَّ مِن أجلها بهجة ونقاء وقرباً واتصالاً ساعة السحر، مُنى أنفس العُبَّاد والزهاد، وبُغية الطالبين والراغبين. كثيرٌ أولئك الذين يَمرُّ عليهم السَّحَرُ وهم في غفلة النوم غارقون، يأتيهم الخير إلى أبوابهم وهم عنه راغبون، ولكن رمضان شهر الرحمة والحنان يأبى إلا أنْ يجعل للجميع نصيباً من هذه الساعة المباركة العظيمة، فلا بُدَّ للصائم من سحور، ولا بُدَّ للسحور من استيقاظ، ولا يكادُ الإنسان يشمُّ عبيرَ السَّحَر حتى تنتعشَ نفسُه، وتتفتح ذابلاتُ وروده، فيلجأ إلى مُصلَّاه يناجي ربَّه، ويذرف أمامَه دموعَ الخوف والرجاء، ويشكر شهرَ رمضان الذي كان السبب في تعريفه بهذه الساعة الغنّاء، حيث يفيض بحرُ الكرم، وتمتد يدُ المغفرة إلى كلِّ الغرقى والتائهين: (هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفرَ له، هل من تائب فأتوب عليه...). •••• أمّا ما يُسبغه شهرُ رمضان على النفس من صفات طيبة، ومشاعر نبيلة حية، فذلك ما ليس بالغامض ولا البعيد، فقد عَوَّدَ رمضانُ النفوسَ أن يُهذبها، ويرقى بها إلى قمم المساواة والعدالة، إذ تذوقُ معاناةَ الآخرين فلا يخفى عليها بعدُ ما تنطوي عليه صدورُ الفقراء والمحتاجين من ألمٍ حزينٍ راضٍ، وصمتٍ متدثرٍ شفّاف، فتتقرَّبُ إليها وتمسحُ عنها غبارَ الفقر والحاجة، وتقدِّمُ لها المعونة والبسمة، والشعورَ الإنساني الصادق، تتقرَّبُ إليها لتقول بأننا جسدٌ واحدٌ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعتْ له سائرُ الأعضاء بالسَّهر والحمّى. •••• ورمضان بصيامهِ وقيامهِ وتسبيحاتهِ وقرآنهِ قوةٌ إيمانية هائلة، تشحذُ عزيمة المسلم، وتنيرُ له الدرب طيلة أيام السنة، كلما سَلطت الشمسُ أشعتَها على نهره فأضرمته، وكلما حاول الألمُ واليأسُ أن يقتربا من شاطئه... قوةٌ تمنحُ القلبَ حلاوةَ اليقين، وتهب العين قرّةَ السرور، وهو بهذا محطةٌ سنوية يقفُ المسلمُ بها ليملأ عقله وقلبه مِن معينها، محطةٌ سنوية تتخللها محطاتٌ أخرى لك الخيارُ أن تنهل منها أي وقتٍ شئتَ. رمضان فرصة ذهبية، ونفحة إلهية، علينا جميعاً أن نتعرضَ لها، ونستسقي منها كؤوسَ المحبة والصفاء، ونتزودَ لغدنا في الدنيا، وغدنا في الآخرة، وعسى الرحمة أن تطل علينا - بعد حبس الجوارح عن متطلباتها - وتهتف بنا في الدارين قائلةً: اذهبوا فأنتم الطلقاء. |
#23
|
||||
|
||||
الصيام والوظيفة د. خالد بن سعود الحليبي أخي الصائم: لعلَّك تُشاركُني العَجَبَ من قومٍ جعلوا صيامَهم حُجَّةً لهم، وعُذرًا عن تقصيرهم في أداء واجبَاتهم على الوجه الحسن, فعلَّلوا تأخُّرهم في قدومهم إلى وظائفهم بأنهم كانوا نائمين، ونوم الصَّائم عبادة!! وعلَّلوا تراخيَهم عن إتقان أعمالهم بأنهم مرهَقون بسبب الجوع أو العطش، وللصائم الحق في أن يخفف عنه من جهد العمل ومشقته!! وعلَّلوا خروجهم المبكر قبل أن يستوفي وقت العمل حقَّه، بأنَّهم محتاجون لقضاء بعض اللوازم للإفطار!! وعللوا تذمرهم من المراجعين، وسلاطة ألسنتهم على الناس بأنهم - أستغفر الله - صائمُون!! فيا ليت شعري؛ كيف يفسّر هؤلاء أثرَ الصيام على أنفسهم،؟ وكيف يُفصِّلونه على قُدُودِ مشتهياتهم؟! رمضان شهر العمل والبذل والعطاء، لا شهر الكسل والخور والضعف، شهر وقعتْ فيه أكبرُ الانتصارات في الإسلام في القديم والحديث، فلم يكن عائقًا عن أداء مهمَّة، ولا داعيًا للتقاعس عن إتقان عمل، ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)). حديث جليل لا يتخلَّف مراده بتغيُّر الأزمان، وقاعدة عظيمة لا تختل بظرف طارئ، كيف والصوم عبادة تؤدَّى لله، هدفها الأول تربية التقوى في النفس المؤمنة؟! يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، والتقوى وازعٌ إيماني عميق الجذور، إذا تغلغل في النفس كان حاجزًا مانعًا لها عن كل ما يسخط الله، ودافعًا قويًّا لها إلى كل ما يحب الله، والإتقان مما يحب اللهُ، وهو من صفات الكمال التي اتَّصف بها - عز وجل، قال تعالى: {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، فأولُ ثمرةٍ متوخَّاة مِن تقوى الله تعالى في العمل - مراقبتُه عزَّ وجلَّ في كلّ الساعات التي تُمضيها - أخي الموظف الصائم - وأنت تُمارس عملك، بأن تكون في مرضاة الله، وألا تضيع منها دقيقة واحدة في غير ما يخص وظيفتك، وأن تنشط لمهامك بوعي تام، وأن تكون في موقعك ينبوعَ أخلاق، ونهرَ عطاء، تتدفق بكل خير على مراجعيك، دون تذمر منهم، أو مشقة عليهم، فقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - قولُه: ((اللهُمَّ مَن ولي مِن أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليه، فاشقُق عليه، ومَن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم، فارفُق به)). وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب؛ فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقُلْ: إنّي امرؤ صائم))، تخيَّل معي لو أنَّ كلَّ صائم منَّا حَمل هذه الرايةَ البيضاء، إذًا لبكى الشيطان بكاء مرًّا!! لأننا أفشلنا أكبر مؤامرة خَطَّط لها من أجل إفساد عبادتنا وذاتِ بيننا. فما رأيك - أخي الصائم - أن تحمل الراية معي؛ لنكون في كوكبة الصابرين، ونواجه كل متحدٍّ لمشاعرنا، أو مستفز لأعصابنا بهذا الهتاف الإيماني: "إني امرؤ صائم"؛ بل فلنحاول أن ننصح زملاءنا في العمل ونذكِّرهم إذا رأينا منهم بعض ظواهر هذه الممارسات الخاطئة؛ فلعلنا نفوز باستجابة، ودعوة، ومثوبة. |
#24
|
||||
|
||||
مزعجات رمضان الشيخ علي الطنطاوي أنا أكتب في الصُّحف والمجلات مِن ثلاثين سنة، والكتابة هي حِرفَتي، ولم أكن مع ذلك منَ المُجَلينَ السابقين في درس "الإنشاء" في المدرسة، وكان بعض إخواننا في "الصف"، ممن صاروا اليوم أبعد الناس عنِ الكتابة، وإن صاروا من أعلام السِّياسة، أوِ العلم، أوِ الاقتصاد - يأخذون مِن علامات النَّجاح أكثر مما آخُذ... لا لأنَّهم كانوا يكتبون أحسن مما أكتب؛ بل لأنَّ المُدَرِّس كان يُحَدد لنا الموضوع، وعدد الأسطر، ووجهة التفكير، فلا أستطيع مع هذه القيود أن أسيرَ، كماء الساقية إن أقمت في وجهه السدود، ومنعته أن يجريَ في مجراه، وقف ثم انقلبَ مِن رقراق عذب مُتَحدر إلى بركة آسنة. لذلك كنتُ أخيب، فلا عجب إذا خبتُ اليوم، وقد جاء مُحَرر مجلة الإذاعة يُعيد معي قصة مُدَرِّس الإنشاء، فيُحَدد لي الموضوع والأسطر: فالموضوع "تقاليد رمضان الماضي"، والمجال صفحة أو صفحتان منَ المجلة. وأنا أعرف رمضان الذي كان يجيء دِمَشق من أكثر من أربعين سنة، ولا أزال أذكُر ملامح وجهه، ولون ثيابه، والذي افتقدتُه مِن زمن بَعِيد، فلم أعد أراه. لقد تَبَدَّلَ كما تَبَدَّلْتُ أنا، ونحن كل يوم في موتٍ وحياة، لقد مات كما مات فيَّ ذلك الطفل، الذي كان يذهب إلى المدرسة قبل إعلان الحرب الأولى، وأين ذلك الطفل؟ إنه مضى كما مضى رمضان، إلى لا يعود الذَّاهبون، وجاء في مكانِه إنسانٌ آخر يحمل اسمه؛ ولكنه ليس إيَّاه، كما يحمل رمضان هذا اسم رمضان الماضي، وليس ذلك الـ"رمضان". أنا أعرفه، وأذكر كيف كان يستقبله الشَّاميُّون، وأعرف أنَّ للحديث عنه مُتعةً ولَذَّةً، ولكنِّي قاعد من ساعتين أحاول أن أحصرَ ذهني لأكتبَ عنه، فلا أجد في ذهني إلا "مُزعجات رمضان"، يجول الفِكر فيها، ثم يقف عليها، ويستقر عندها، وقد يكون الفِكر كالفرس الجامح لا يمشي بك حيث تريد أنت؛ بل حيث يريد هو، ولم يبقَ أمامي إلاَّ أحد أمرين: إمَّا أن تعفيني المجلة منَ المقال، وإمَّا أن أكتبَ في "مُزعجات رمضان". ولستُ أعني بالمُزعجات الجوع، والعطش، واضطراب ميزان اليَقَظة، والمنام، فذلكَ شيء لا بدَّ منه، ولولاه لم يكن لِرَمضان معنى، وأي معنى يبقى لـ"التدريب العسكري"، إذا خلا من الشُّقَّة والتَّعب، وبَذْل الجُهد، وصار نومًا مُتَّصلاً، وأكلاً مُتَّصلاً، وأكلاً، وشربًا، واسترخاء؟ ولكني أعني مزعجات الناس، وإذا كان قُرَّاء المجلة يَعِدونني بأن يكتموا ما أقول عن مدير الإذاعة، لَقُلتُ لهم: إن شطر هذا الإزعاج منَ الإذاعة، والشطر منَ الناس. إزعاج يستمر منَ الصباح إلى المساء، ولا ينقطع لحظةً واحدةً، نرجع فيها إلى أنفسنا ونستطيع أن نستجليَ فيها طلعة رمضان، أو نحس بِوُجوده، ورمضان أجمل مرحلة في طريق الزمان، يمر فيه ركب الإنسانيَّة على الرَّوض الأنيق، فيرى المشهد البارع، ويشم العطر العبق، ويسمع من صدح البلابل، وهديل الحمام، ما يرقص منَ الطرب القلوب. ولكن كيف يرى المشهد مَن يزدحم عليه الناس، حتى يسدوا في وجهه منافذ النَّظَر؟ وكيف يشم الأريج مَن تهب من حوله العواصف؟ وكيف يسمع الصوت الرقيق مَن تحف به ضجة تزلزل الأرض؟ إنها مائدة حافِلة؛ ولكنَّكم لا تدعونني أتناول لُقمة منها حتى تصدوني عنها. إنَّه شهر التَّأَمُّل والعِبادة، ولَذَّة الرُّوح، وأنس القلب، ولكنَّكم لا تتركون لي ساعة، ساعة واحدة أستمتع بهدأة التَّأَمُّل، وذهلة الحلم، ونَشْوة المناجاة. وهذا هو الموجز، وهاكم تفصيل الأنباء كما يقول المُذيع: أمَّا الإذاعة، فهي لا تَسْكُت من صباح الله الباكِر إلى نصف الليل، ولا تستريح ولا تريح، ولا تكف لِسَانها دقيقة، ولو كانت تذيع ما يُعين على الخُشُوع والعبادة في رمضان، وما يُذَكِّر بالله، لَهَان الخطب؛ ولكنَّها تذيع الأغاني التي أجمعتْ كلمةُ الإنس والجن على استنكار أكثرها، وأنا لا أقول للإذاعة: لا تُغَنِّي؛ لأنِّي لا أحبُّ أن أقولَ كلمة، أَعْلَم أنه لن يُستَجاب لها، ولكن أقول: إن موسيقى الناس نصفها ألحان معبرة، ونصفها كلام ملحن، وموسيقانا كلها كلام، وإن الكلام في موسيقاهم نصفه للمرأة، ونصفه للطبيعة، والوطن، والحياة، وما عندنا كله للمرأة، وإن ما للمرأة عندهم نصفه منَ الغزل السامي والاتباعي (الكلاسيك)، ونصفه غزل خفيف، وليس عندنا إلاَّ هذا الغزل الخفيف، بلفظ عاميٍّ فظيع، ومعانٍ شنيعة مُبْتَذلة، ونغم مسترخ متخنث، وهم يجدون كل يوم جديدًا، ونحن لِعُقم القرائح نُرَدِّد ونُعيد، ولماذا أعمم القول فأكون ظالمًا؟ لا ليس كله كذلك، وقد نسمع أغانيَ تبلغ في جمال لفظها، وحسن معناها، وتوقيع لحنها ذروة الكمال؛ ولكنَّا نسمعها أول مرة فنَسْتَجدها، ونستجيدها، ونستعيدها، ونسمعها الثانية فنطرب لها ونُسَر بها، ونسمعها الثالثة فنستملحها، والرابعة فلا نكرهها، والخامسة فنبدأ بالإعراض عنها، والسادسة فنضيق بِتَكرارها، فلا تزال الإذاعة تعيدها حتى تأتي المرة العاشرة والخامسة عشرة والسادسة والسبعون، فتطلع منها أرواحنا، ولو كانتِ الشَّهد المُصَفى، أو الفالوذج، وأطعمتها إنسانًا كل يوم عشر مرات، وحشوت به فمه جائعًا وشبعان، راغبًا وكارهًا، لَصَار لها في فمه طعم العَلْقم. أمَّا الناس فإزعاجهم أكبر وأنكر، وأنا أستطيع أن أسد الراد فلا أسمع ما تذيع الإذاعة، أو آخذ منه ما صفا، وأدع ما كدر؛ ولكن ما أصنع بِمَن لا يطرب إلاَّ أن أشرك معه بِسَماع الأغنية مائة جارة وجار، من أمام، ومن خلف، وعنِ اليمين، وعنِ اليسار؟ فكيف ننام، وكيف نشتغل، وكيف نخلص التَّوَجُّه إلى الله، ومِن كل جهة من حولنا، هذه المصائب الثِّقال، والضَّجَّة المروعة، وفريد الأطرش، وهذا الآخر عبدالحليم حافظ؟! فإذا سكت الرَّاد في الساعة الثانية عشرة وحاولتَ أن تنام، لم تمر نصف ساعة حتى يجيء "أبو طبلة"، هذه الآفة التي لا دافع لها، المُسَحر، الذي ضاقت به الصناعات والمهن، فلم يجد له صنعة إلاَّ أن يحمل طبلاً، ثم يأتي نصف الليل ليقرع به رأسك، ويوقظك من منامك، وأعجب العجب أن يعترفَ المجتمع بهذه الصَّنعة، ويعدها منَ الصناعات المُقَررة، ويوجب عليك أن تقولَ له: أشكرك، وأن تدفعَ له في آخر الشهر أجرته على أنه قد حَطَّم أعصابك، وكسر دماغك. وأنا أفهم أن يكون للمسحر موضعًا في الماضي، أما اليوم وفي البلد إذاعة، وفي كل بيت ساعة، وفي كل حي منارة عليها مُؤَذن، وفي البلد مدفع يوقظ صوته أهل المقابر، فليس للمسحر موضع فينا. فإذا انقضى السحور، وأردت أن تنام عادت أختنا الإذاعة إلى "وراك وراك"، و"يا بياع الورد"، وعاد الجيران إلى تطبيق الجو بهذه الأصوات، وجاء بَيَّاع الحليب، وبَيَّاع الفول، ومصلح البوابير، و"الذي عنده خزانات للبيع، والذي عنده كنبات للبيع"، وزلزلت الأرض بأبواق السيارات، وصراخ الأولاد... فإن هربت إلى المسجد الأموي، لتأخذ منه موعظة أو تسمع درسًا، رأيت النائمينَ مصفوفينَ بالطول وبالعرض، يشخِّرون ويتنفسون من كلِّ منفذ، وحلقات المتحدثين يضحكون ويمزحون ويغتابون ويكذبون، ووجدت العوام يُدَرِّسون بلا رخصة، ولا إِذن؛ لأن العلماء غائبون، ولم تجد في المسجد شيئًا مما يجب أن يكونَ فيه! فإن سِرْت في الشوارع رأيتَ المطاعم مفتوحة، والمفطرين في كل مكان، وركب أمامك في الترام مَن يُدَخن، وينفخ الدخان في وجهك، مع أن القانون والعُرف يمنعان التدخين في الترام، والذوق - إن لم نَقُل الدِّين - يمنع إعلان الفطر في رمضان في البلد المسلم. فمن أين مع هذه المزعجات، من أين "يا مجلة الإذاعة" أستطيع أن أنفذ إلى الموضوع الذي تريدون منِّي أن أكتبَ فيه؟! |
#25
|
||||
|
||||
لنطرق باب الريان راشد عبدالرحمن العسيري رمضان شهر البر والإحسان، شهر فضله الله فأعلى في العالمين ذكره، ورفع بين الشهور منزلته وقدره، شهر تُضاعف فيه الحسنات، من رب الأرض والسماوات، أختص الله ثوابه لنفسه، فأجره لم يُطلع عليه أحد من خلقه، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: ((... قَالَ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)). ومن فضل الله وكرمه أن أبواب الجنان تفتح كلها في هذا الشهر المبارك، ترغيباً للنفوس وشحذاً للهمم، لما عند الله من عظيم الثواب وجليل النعم،يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فتّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهنّم، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ)). يكفي للصائمين شرفاً أن بشرهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بأعظم بشارة، هي للصائمين وحدهم، حين ينادون يوم القيامة لدخول الجنة من باب أختصه الله لهم، إكرام منه وتفضلاً وإنعاماً، فيدخلون من باب الريان، باب للصائمين لا يدخل غيرهم فيه، فعن سهل رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ)). أما من كان سبّاقاً لأعمال الخير، طارقاً لأبوابها؛ فإنه يُدعى من أبواب الجنة كلها، وهو شرف ما بعده شرف كما أخبر به الصادق المصدوق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ)) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ)). فضل عظيم وأجر جزيل أعده الله لعباده المتقين، ونحن في هذا الشهر المبارك نلتمس الأجر من رب كريم، يحب التائبين ويقبل العائدين ويمهل العاصين ويفرح لعودة الآيبين، أعد الله لهم من الأجور مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وللفوز بدخول باب الريان لأبد أن يكون الصيام مصاناً مما ينقص ثوابه، فليس المقصود من الصوم مجرد الامتناع عن الطعام والشراب وسائر المفطرات الحسية فقط، بل وجب حفظه وصونه من كل ما يدنسه أو ينقص أجره، فلنسارع إلى الخيرات ولنغتنم هذه الفرصة العظيمة لدخول جنة عرضها الأرض والسموات أعدت للمتقين. إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون ولا تغفل عن الإحسان فيها فلا تدري السكون متى يكون |
#26
|
||||
|
||||
شهر ربيع القلوب الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل طيلة العام ينشغل أكثر الناس عن القرآن بأمور حياتهم ومعاشهم، ثم جاءت أجهزة الاتصال الحديث في الفضائيات والإنترنت فسرقت البقية الباقية من أوقات الناس، وصار القرآن مهجورا أو شبه مهجور عند كثير من المسلمين، وخاصة من هم في سن الشباب. وإذا قدم رمضان أقبل كثير من المسلمين على قراءة القرآن في أوله، ثم يضعف كثير منهم فلا يبقى في ميدان القراءة إلا القليل منهم، وأغلبهم من كانوا مداومين على القراءة في رمضان وغيره فلم يجدوا صعوبة في الاستمرار على التلاوة وزيادتها، وأقل منهم من بقوا بسبب مجاهدتهم لأنفسهم، ويجدون عنتا ومشقة، وهم خير ممن ترك القرآن إلى مجالس اللهو، وعاد إلى ما اعتاد قبل رمضان. وقلوبنا هي أوعية ما تتلقاه من كلام بالقراءة أو بالسماع، وهي أوعية ما تشاهده من صور ثابتة أو متحركة، وكلما كان ما تتلقاه القلوب من الألسن والأسماع والأبصار سيئا موبقا أضر بالقلوب ضررا بالغا، وأفسدها وقساها، وأصابها بالغفلة والموت، وإذا سلمت الأبصار والأسماع والألسن من المعاصي، وأقبلت على الطاعات كان ما تتلقاه القلوب أطيب الثمار وأزكى الغذاء، فتتغذى عليه وتكون قلوبا حية مطمئنة موقنة ثابتة لا تزعزعها الأهواء، ولا تميد بها الفتن، ولا تلين مع شدة المحن. وأعظم دواء وغذاء تتغذى به القلوب، وبه تشفى وتعافى وتقوى كلام الله تعالى، فهو ربيعها الجامع بين شفائها وغذائها. وإذا كنا نشكو قسوة قلوبنا وغفلتها، وانصرافها عما فيه نفعنا ونجاتنا فلا بد من تغذيتها بالربيع؛ لزيادة قوتها وصلابتها، وسلوانها في شديد المصائب، وتثبيتها لئلا تميد بها الفتن والمحن عن الجادة السوية، فكل الناس يحسن التنظير والادعاء بالثبات حال العافية والرخاء والأمن، ولا يثبت في المحن والفتن والخوف إلا قلائل الناس، ممن ملكوا قلوبا ثابتة على الحق، موقنة بالله تعالى، واثقة بوعده لعباده.. وشهر رمضان هو شهر القرآن، والقرآن هو ربيع القلب. وربيع القلب وصف به الصبر؛ فقيل: الصبر ربيع القلب، ووصف به الصدق، فقيل: الصدق ربيع القلب، ووصفت به الحكمة فقيل: الحكمة ربيع القلب. في كلام منقول عن العرب والعجم، ولم أقف على صفات أخرى وصفت بأنها ربيع القلب غير هذه. والقرآن كتاب صدق، وأمر الله تعالى فيه بالصدق وبالصبر ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ﴾ [آل عمران: 200] وهو كتاب حكمة ﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ﴾ [الإسراء: 39]، وسبب ذلك أنه كتاب محكم ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ﴾ [هود: 1]. إذن ما ذكره العرب والعجم ربيعا للقلوب فكله موجود في القرآن، وهو منزل في شهر رمضان، فصار رمضان ربيعا لقلوب المؤمنين بكثرة قراءة القرآن فيه، وسماعهم له، فقلوبهم بالقرآن في جنات وأنهار ونعيم ولو كانت أبدانهم في شدة الحر، وتحت الهاجرة، وفي أرض مغبرة، وأبعد ما تكون عن الربيع الحسي. وربيع القلوب أعلى وأجل وأولى بالرعاية والعناية من ربيع الأبدان، ونحن نرى كثيرا من الناس وقت الربيع يلتمسون الفياض والرياض والخضرة، فيقصدون أجمل الأراضي المربعة فيخيمون فيها أياما يحسون خلالها بالسعادة والحبور، والقلوب أحوج إلى ربيعها من الأبدان إلى ربيعها. قال الله تعالى ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ ﴾ [البقرة: 185] وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ فقال: اللهم إني عَبْدُكَ بن عبدك بن أَمَتِكَ ناصيتي بِيَدِكَ مَاضٍ في حُكْمُكَ عَدْلٌ في قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هو لك سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أو عَلَّمْتَهُ أَحَداً من خَلْقِكَ أو أَنْزَلْتَهُ في كِتَابِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ في عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قلبي وَنُورَ صدري وَجَلاَءَ حزني وَذَهَابَ همي إِلاَّ أَذْهَبَ الله هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً قال: فَقِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَتَعَلَّمُهَا فقال بَلَى ينبغي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا" [رواه أحمد: 1/391، وصححه ابن حبان: 972]. فالربيع هو أحسن فصول السنة، ويأنس فيه الناس ما لا يأنسون في غيره من الفصول حيث الأمطار والنبات والخيرات. والقرآن أحسن الكلام، وعلومه ومعارفه أعلى المعارف والعلوم، ومواعظه أرق المواعظ وأجزلها، فكان ربيع القلوب. قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: جعل القرآن ربيع قلبه؛ لأن الإنسان يرتاح قلبه في الربيع من الأزمان، ويميل إليه. [جامع الاصول: 4/299]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فسأل الله أن يجعله ماء يحيي به قلبه كما يحيي الأرض بالربيع، ونورا لصدره. والحياة والنور جماع الكمال، كما قال ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122]، وفي خطبة أحمد بن حنبل: يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى؛ لأنه بالحياة يخرج عن الموت وبالنور يخرج عن ظلمة الجهل فيصير حيا عالما ناطقا وهو كمال الصفات فى المخلوق. [الفتاوى: 18/310-311]. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: فتضمن الدعاء أن يحيي قلبه بربيع القرآن وأن ينور به صدره فتجتمع له الحياة والنور. [الفوائد: 26]. وقال القاري رحمه الله تعالى: كما أن الربيع سبب ظهور آثار رحمة الله تعالى وإحياء الأرض بعد موتها كذلك القرآن سبب ظهور تأثير لطف الله من الإيمان والمعارف وزوال ظلمات الكفر والجهل. [المرقاة: 5/363]. ونلحظ أنه صلى الله عليه وسلم سأل الربيع للقلب، وسأل النور للصدر، والسبب هو: أن الغيث لا يتعدى محله، فإذا نزل الربيع بأرض أحياها، أما النور فإنه ينتشر ضوءه عن محله، فلما كان الصدر حاويا للقلب جعل الربيع فى القلب والنور فى الصدر لانتشاره. [ينظر: فتاوى ابن تيمية: 18/312]. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولما كان الصدر أوسع من القلب كان النور الحاصل له يسري منه إلى القلب؛ لأنه قد حصل لما هو أوسع منه. ولما كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب تسري الحياة منه إلى الصدر ثم إلى الجوارح؛ سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها. [الفوائد: 26]. وفي سؤال الله تعالى أن يجعل القرآن ربيع قلبه أن القلب المعرض عن القرآن معرض عن الربيع، فهو معرض عن دواء القلوب وغذاؤها، وعن سبب سعادتها وقوتها وثباتها. وهو يفيد أيضا: أن الإنسان قد يقرأ القرآن لكن القرآن لا يكون ربيع قلبه، كمن يقرأ رياء وسمعة، ومن يهمل التدبر، ويهذرم القرآن هذرمة، وهذا يشبه سحابا مركوما بالغيث المبارك يمر بأرض جدباء صفراء مغبرة، ولكنه لا يمطر فيها، بل يتعداها إلى غيرها، فلا تنتفع بمجرد مرور السحاب فوقها، بل تبقى كما هي جدباء مغبرة، وهكذا آيات القرآن إذا مرت على القلوب ولم تلامسها وتداخلها فإن الانتفاع به ينعدم كلية أو يقل بحسب قلة التأثر بالقرآن، وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: يا أهل القرآن، ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيث ربيع الأرض. [تفسير القرطبي: 16/55]. وغالب الانصراف عن قراءة القرآن هو بسبب أنه لم يكن ربيعا لقلب قارئه؛ لعدم إتيانه بالأسباب من الإخلاص وحضور القلب، فيمل وينصرف، كما يمل من أقام في أرض ميتة مغبرة، وإلا لو كانت أرضا حية مخضرة لما فارقها. ونحن الآن في شهر ربيع القلوب؛ فلتأخذ قلوبنا حظها من هذا الربيع. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا. |
#27
|
||||
|
||||
خلق الصائم الشيخ عبدالوهاب خلاف عندما تجتمعين مع النساء اللاَّئي قدمنَ إليكِ تلبيةً لدعوة الإفطار في بيتك وتنفتح قبل موعد الإفطار سيرةُ إحدى معارفكنّ التي غضبت في بيت أهلها تاركة بيت الزوجية مرة أخرى وتبدأنَ في تبادل ما سمعتنَّ عن أحوال هذه الأسرة وكيف هي مدللة وغير قادرة على تحمل مسؤولية بيت وكذلك ما سمعتُنَّه عن علاقاته النسائية، وحبيبته الأولى التي عاود الاتصال بها أديري الحديث بعيداً عن أسرار الناس لا تفكِّري بأن هذا حديث نسويٌّ عادي تتسلَّين به قبل أن يأكل ضيوفُك مما أحسنتِ إعداده وأنكن جميعاً تُبدين الأسف لا الشماتة بل فكري في أنه لا يليق بمن سيفرحنَ بعد قليلٍ بأكلهن ما أعددتِ من لحومٍ شهية؛ أن يتلهَّين قبلها بأكل لحوم إخوانهن موتى! مبارك عليك الشهر وقد خرجت منه معرضةً عن اللغو |
#28
|
||||
|
||||
رمضان في المدينة المنورة أم حسان الحلو ألا ما أجمل تَعانُق شرف المكان والزمان، بل لعلي بُهرت حقاً بليالي رمضان وأنا في رحاب المدينة المنوّرة. أذكر حين نزلت في مدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في رمضان المبارك في عام ١٣٩٩من هجرته صلى الله عليه وسلم، كنت أرى أموراً مبهرة مذهلة مدهشة حقاً... كنا نعبر قبل صلاة الفجر زقق «العنّابيّة» القديمة سيراً على الأقدام، ولشد ما كانت دهشتي حين كنت أرى المحالّ وقد أُغلقت بقطع من قماش ليس إلا!! قطع تقف حائلاً دون عبث القطط فقط. ولربما كذبت عيني حين رأيت النقود مرتبة على طاولة في محل صرافة دون حارس ولا بائع! فتسمرت في موقعي وقد ارتدت أطرافي دهشة غريبة وبدت الحيرة عليّ وكأني (أليس في مدينة العجائب)!!! فيتنقل بصري وإذ بي أرى قِطَعَ الذهب والمجوهرات وقد رُصّت في محالّ الذهب دون أن يلتفت إليها أحد! فأدركت أن هؤلاء قوم يُثبتون لنا أن الصلاة والطاعة والعبادة والإقبال على الله أغلى من الذهب والفضة وكنوز الأرض جميعاً. مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم منورة وغيرها من المدن مُضاء، شتّان ما بين الإضاءة والنور... كل ما في المدينة يتلألأ طهراً وجمالاً. أكاد أجزم أنني لم أرَ أطيب ولا أنبل ولا أكرم من أهل طيبة الطيّبة. هم كرماء في كل الليالي والأيام، لكنهم في ليلة استقبالهم لشهر الخير والبركة كانوا يُسرجون ليلهم وهم يوزعون التمور على جيرانهم أياً كانت ***يّاتهم بمحبة وبشر وسعادة غامرة. والسعيد من زار سوق التمور في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم هناك ترى الكرم والجود والعطاء والثقة بما عند الله. حدثتني صديقتي أنها كانت تزور المدينة للمرة الأولى في حياتها، وكانت تسير بسوق المدينة تنتقي هداياها لأهلها وبجانبها أختها... لم تصدق زميلتي حين سمعت صاحب الحانوت يقول لها: لقد بعت اليوم وجاري في الزاوية هناك لم يبدأ يومه بعد، فهلا اشتريت منه ما تريدين!!! تقول: فتحت عينيّ وأذنيّ لئلاّ يسقط مني سهواً أي خير يتردد حولي... وفي لحظة تعب وإعياء قالت لأختها: هيا عجلي فقد أنهكني الجوع... فسمعها أحد المارّين وقال منفعلاً: أتجوعين في مدينة رسول الله؟ والله لن يكون هذا. وقدم لها طعاماً يكفيها ويكفي أختها ليالي وأياماً!! أعوام مضت على هذه الحادثة ولا تزال صاحبتنا تدعو لذاك الغريب خاصة ولأهل المدينة عامة بالخير والبركة.. ويوم دعتني امرأة غريبة إلى مائدة عامرة فاخرة تنبعث منها روائح لذيذة يذوب الصائم شوقاً لها، رفضت وفي نفسي أنها رأتني غريبة الدّيار فأشفقت عليّ!! وأنا أمقت مشاعر الشفقة هذه فكيف وفي بيتي ولله الحمد ما لذ وطاب! ثم علمت فيما بعد أن أهل المدينة يستقبلون الصائمين على موائدهم العامرة بجوار الحرم، وكلما امتدت موائدهم ازداد أملهم بالله في مضاعفة الأجور. سلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدينته وأهلها الطيبين إلى يوم الدين... |
#29
|
||||
|
||||
رمضان.. ليس شهر الأكل والنوم!! صدقي البيك المظهر الإسلامي في شهر الصوم لا بد أن يكون انعكاساً للنية الصادقة. "شهر رمضان، هذا الموسم الديني المتجدد، وهذا المهرجان الإسلامي العظيم، شهر الخير والبركة. إنه الشهر الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن الكريم، وهو بهذا الشرف جدير، فهو الشهر الذي فيه أنزل القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وفيه بدأ تنزيل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وهو الشهر الذي شهد أول وأخطر معركة خاضها المسلمون بقيادة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، تلك هي غزوة بدر الكبرى، التي أظهر الله فيها الحق وأزهق الباطل، وفيه جرت أيضاً أشهر المعارك الإسلامية الحاسمة في التاريخ كعين جالوت وغيرها. فضائل الصوم في رمضان: يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: لو علمتم ما في رمضان من الخير لتمنيتم أن يكون رمضان الدهر كله. فالصيام في هذا الشهر يمثل قمة الإيمان الخالي من كل مظاهر الرياء والنفاق، لأنه عبادة لا يراها إلا الله، فليس لها مظاهر تدركها حواس الناس، أما الصلاة والزكاة والحج والجهاد.. فهي عبادات إيجابية، تؤدى بأعمال يراها الناس، ومن هنا قال الله تعالى في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي"، هذا كله لأن الصائم لا يكون إلا مخلصاً لله، وصيامه سرٌّ بينه وبين ربه، ويعتمد الصيام في الأساس على عدم القيام بأعمال بل بالامتناع عن أعمال. حكم الصيام: من أبرز حكم الصيام وفوائده أنه يدرب المسلم على الصبر، فأي صبر أوضح من أن يردع الإنسان نفسه عن الطعام والشراب وهما ماثلان أمامه ونفسه تتوق إليهما؟ وأي صبر أقوى من أن يتحمل الإنسان المشاق النفسية والجسدية استجابة لأمر الله وامتثالاً لتعاليمه؟ والمسلم يتدرب بصومه على ملاقاة الظروف القاسية التي قد تعترض حياته إذا انقطعت به السبل، فلا يجزع ولا ينهار لأول صدمة. والصيام يدرب المسلم على الإحساس بمشاعر الآخرين، ومعاناة ما يعانونه، فإذا كان الغني قد تيسر له كل ما يشاء من طيبات الدنيا وحينما يشاء، فإن الفقير يعاني من عضة الجوع وحرقة العطش، ويتعرض لأذاهما طويلاً، فإذا صام المسلم الغني أدرك أن هناك أناساً يجوعون ويعطشون ويألمون من غير اختيار أو صيام، فيرق قلبه لهم ويجود عليهم بما يخفف بلواهم. والصيام في رمضان يدرب المسلمين على النظام والدقة في الوقت، فيقيسون الزمن، فيه. بالدقائق والثواني. على غير ما يفعلونه في غيره من الشهور! فلا يتقدمون عن وقت الإفطار دقيقة ولا يتأخرون عن وقت الإمساك ثانية! وبذلك يتعلم المسلمون الدقة في المواعيد والالتزام بها، فقبيل الإفطار تدب الحركة في حياة الناس وتصرفاتهم، فكل منهم يهرع إلى البيت، ويسير على عجل يسابق الآخرين، حريصاً على الوصول إلى أهله قبل الغروب، فإذا حانت لحظة الإفطار هدأت الحركة في الشوارع وخلت الطرقات من المارة فلا تكاد تسمع إلا همساً، ولا ترى إلا متعجلاً يسابق الريح فاتته لحظة الهدوء والاستقرار فهو يحاول إدراكها. فما أحوجنا إلى دروس رمضان فلا نضيع أوقاتنا وأوقات الناس بالانتظار للمواعيد أو بإهمالها. وما أكثر الدروس والعظات التي يمدنا بها رمضان والصيام فيه، وما أجدرنا بأن نستفيد منها ونتزود بها كلما مررنا بمحطة رمضان في سفرنا عبر الحياة. حالنا الآن في رمضان: هذا ما كان عليه رمضان لدى المسلمين الأوائل، وعند كثير منهم حديثاً، وهذا هو الوجه المشرق المتلألئ لرمضان وللصائمين فيه، ولكن هناك أناساً، وما أكثرهم، أصبح رمضان عندهم شيئاً آخر، المظهر مظهر إسلامي وعبادة مرجوة الأجر، ولكن الاهتمام عندهم ينصبّ على الطعام بأنواعه والأشربة بألوانها!! فكأن رمضان عندهم معرض غذائي لشتى المأكولات والمشروبات التي تزدحم بها موائد الإفطار! ويقبلون عليها بنهم، ويكثرون منها حتى يصابوا بالتخمة، ويثقلون على معداتهم متناسين حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-... فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفَسه. وبذلك يتلاشى عندهم الإحساس بما يعاني منه الفقراء، وتنقلب عندهم الأمور فينامون النهار و(يقومون!) الليل، ويتأخر العاملون منهم عن الدوام بحجة أنهم (قاموا) ليل رمضان (يعنون سهروا فيه حتى الفجر!!) وإذا لحقوا بأعمالهم كانت عيونهم مفتحة وقلوبهم نائمة، بل لا يتورع كثير منهم عن النوم قلباً وعيوناً، وبذلك تتعطل المصالح والأعمال، وتتوقف عجلة الإنتاج، ويكثر التسويف في الإنجاز للمعاملات، والحضور المتأخر والانصراف المبكر، أهكذا يكون النظام في رمضان؟ أهكذا نحرص على الدقة فيه؟ نحافظ على الدقائق والثواني ونضيع الساعات والأيام!! وأما الصبر فأين هو عندهم؟ وعلام يصبرون وهم في ظل ظليل وبرودة محببة تهب من المكيفات، وأعمال لم يبق فيها مشاق، سهلت ولانت وقلّت، وقصرت فترة الدوام، وتُقضى فترة الصيام والصائم نائم فلا يحس بجوع ولا عطش؟! ومع ذلك فإنهم تثور أعصابهم لأبسط الأسباب ويعبرون عن انفلاتهم العصبي بشتى الطرق من غضب وصخب وعدم احتمال كلام الآخرين، مبتعدين عن تحقيق الصفاء النفسي والسمو الروحي بتطبيق حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن سابّك أحد فقل إني صائم. |
#30
|
||||
|
||||
أنواع الصيام حسن سعد الدين إذا عرفنا أن معنى "الصيام" في اللغة هو "مطلق الامتناع والإمساك"، سواء عن الطعام والشراب والجماع، أو العمل أو الكلام. اتضحت لنا أنواعُ الصيام وطبيعته، فالصيام عن الكلام عرف قبل الإسلام، كما في القرآن عن السيدة مريم فيما أمرت به: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]. واكتفت السيدة مريم "بالإشارة" في تفاهمها مع قومها، فليس من كلام يفيد في حالتها، وهي تحمل عيسى الذي ولدته دون أب، فكان كلامه في المهد إعلانًا ببراءتها من أي سوء ظنه بها قومها، فيقول الله في كتابه الحكيم: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ...} [مريم: 27-30]. وكان صيام مريم على شريعتها التي كانت عليها هي وقومها قبل مبعث عيسى بالرسالة المسيحية، وذكرت بعضُ الروايات أن اليهود كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام، وعن ابن إسحاق عن حارثه قال: "كنت عند عبد الله بن مسعود، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر، فقال: ما شأنك؟ قال أصحابه: حلف أن لا يكلم الناس اليوم.. فقال ابن مسعود: كلم الناس وسلم عليهم، فإن تلك امرأة -يقصد السيدة مريم- علمت أن أحدًا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج ليكون عذرًا لها إذا سئلت"، كما ذكر أنه في عهد الرسول وكان يخطب الناس فرأى رجلا واقفًا في الشمس من دون المستمعين، ولما سأل عنه قيل: له هذا أبو إسرائيل نذر أن يصوم واقفًا في الشمس. كما أن الصوم عن الكلام موجود بالمسيحية، قررته طائفة الكاثوليك، وجعلته فرضًا على رجال الدين في بعض الأحوال، ومستحبًّا لمن عداهم. وكانت فرقة "الترابيست" من أشد فرق الكاثوليك التزامًا بهذا النوع من الصوم، حتى لقد فرضته على أتباعها مدى الحياة، فكانوا يعتزلون العالم في مهاجر يقيمون فيها صائمين صامتين عن الكلام حتى الموت، وكما يذكر د. عبد الله وافي في بحثه القيم عن الصيام بين الإسلام ومختلف الشرائع، فان هذه الفرقة نشأت حوالي القرن الثاني عشر وظلت قائمة حتى القرن التاسع عشر الميلادي. وقد عرف العرب في جاهليتهم هذا النوع من الصوم ومارسوه، وكان يطلق عليه عندهم اسم "الضَرْس" -بفتح الضاد وسكون الراء - ويعني في اللغة، صمت يوم إلى الليل، وقد ظلت بعض عشائر العرب محافِظة على هذا النوع من الصوم حتى بعد الإسلام. ويروى أن أبا بكر الصديق دخل على امرأة اسمها زينب، من "الحُمْس"، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة -أي حجت وهي صائمة عن الكلام ولم تنته بعد مدة صيامها- فقال لها أبو بكر: تكلمي؛ فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت. وقد حرم الرسول - صلَّى الله عليه وسَلَّم - صيام الصمت عن الكلام طول اليوم حتى الليل، فقاول: "لا صمات يوم إلى الليل". وغير صيام الصمت، هناك نوع آخر من الصيام هو "الصيام عن العمل"، وهو إن وجد عند طوائف كالبرهمية والجينية والبوذية، فإنه أيضًا مقرر في الشريعة اليهودية. إذ حرم على اليهود العمل يوم السبت، ويؤكد القرآن ذلك فيما رواه عن عصيانهم في هذا اليوم وقيامهم بالعمل والصيد، فعاقبهم بأن أصبحوا مثل القردة، فيقول الله مخاطبًا اليهود: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، والسبب الذي من أجله حرم العمل على اليهود في يوم السبت، يرجع في زعمهم إلى أن الله تعالى قد خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، فوجب عليهم أن يكونوا مثل الرب فلا يعملون في هذا اليوم، ولكن القرآن يكذب هذا الادعاء فيقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38]، أي لم يمسسنا تعب حتى نحتاج إلى راحة. كما يتضمن صيامُ اليهود في اليوم العاشر من شهر تشري العبري وهو الشهر الأول من شهر سنتهم المدنية، الامتناعَ عن معظم الأعمال، ويسمي اليهودُ هذا اليوم الذي يصومونه، يومَ "كبور"، يعني يوم الكفارة، عن عبادتهم للعجل الذهبي في أثناء غياب موسى عنهم لتلقي الألواح من ربه. ومع أنه لا يوجد نص في تحريم العمل يوم الجمعة، الذي يعد عادة يوم إجازة وراحة للمسلمين تمييزًا لهم عن اليهود في يوم سبتهم، وعن النصارى في يوم الأحد، فإن القرآن الكريم يأمر المسلمين بأن يدعوا أعمالهم وقت صلاة الجمعة بحيث لا يتخلف أحد منهم عن صلاة هذا الفرض الذي لا يصلح إلا في جماعة، فيقول الله في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]. و"ذروا البيع" أي اتركوا البيع، وإذا لم يكن هناك بيع فليس هناك شراء، وقد اتفق العلماء على تحريم البيع بعد الأذان الثاني لصلاة الجمعة الذي تبدأ بعده خطبه الجمعة. هذا وقد اعتاد المسلمون، بالإضافة إلى صيامهم في رمضان، أن يكونوا في شبه صوم عن العمل، خاصة في مصر التي دأبت على تقصير أوقات العمل في شهر رمضان رغبة في التخفيف عن الصائمين وإتاحة السبل أمامهم للتعبد وقضاء لوازمهم المنزلية. ويرجع هذا التقليد إلى العصر الطولوني، فقد حدث أن زار أحمد بن طولون مسجده وقت بنائه -وكان ذلك في رمضان- فرأى الصناع يعملون إلى وقت الغروب، فقال: متى يشترى هؤلاء الضعفاء إفطارًا لعيالهم؟ وأمر أن يتركوا العمل وقت العصر، ولما انتهى شهرُ رمضان قيل له: هل سيرجعون إلى العمل حتى الغروب؟ فقال: لقد بلغني دعاؤهم وقد تبركت، اصرفوهم عصرًا، فصارت سنة في مصر من بعده. وتشير كل الدلائل إلى أن حجم الإنتاج يكون أقل من معدله الطبيعي في شهر رمضان في الوقت الذي يزيد فيه الاستهلاك، مع أن العكس كان يجب أن يكون. وبالعودة إلى أنواع الصيام غير صيام الكلام وصيام العمل - نجد الصيام عن الطعام والشراب، وهذا هو الشائع، ولكنه يختلف من أمة إلى أمة. فعند المسيحيين مثلا يقتضي بعض أنواع صيامهم الامتناعَ عن بعض أنواع المأكولات والمشروبات دون بعضها الآخر، فيصومون فقط عن الحيوانات البرية وما يستخرج منها، وبعض صيامهم يقتضي منهم الامتناع عن تناول لحوم الحيوانات البحرية وما يستخرج منها إضافة إلى لحوم الحيوانات البرية وما يستخرج منها. ومن أنواع صيام المسيحيين أيضًا: ما يقتضي الإمساك عن المفطرات نهار اليوم وليله. ومن الصيام: الامتناع عن المأكولات والمشروبات والجماع من طلوع الشمس إلى غروبها كصيام البوذيين والصابئة والمانويين. أو صيام يوم واحد أو ليلة واحدة أو جزء من يوم وليلة كصيام اليهود. أو الصيام الليلي الذي يبدأ بعد صلاة العشاء إلى غروب شمس اليوم التالي، كما كان يفعل المسلمون في بدء صيامهم. |
العلامات المرجعية |
|
|