اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > حي على الفلاح

حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #16  
قديم 27-01-2010, 01:38 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

المطلب الثاني
صفة نعيم القبر وعذابه
ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب أن الملائكة تسأل العبد المؤمن في قبره فيحسن الإجابة وعند ذاك : " ينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له باباً إلى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له في قبره مدّ بصره ، قال : ويأتيه [ وفي رواية : يمثل له ] رجل حسن الوجه حسن الثياب ، طيب الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسرك ، [ أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم ] هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له : [ وأنت فبشرك الله بخير ] من أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير ، فيقول : أنا عملك الصالح [ فو الله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله ، بطيئاً في معصية الله ، فجزاك الله خيراً ] ، ثم يفتح له باب من الجنة ، وباب من النار ، فيقال : هذا منزلك لو عصيت الله ، أبدلك الله به هذا ، فإذا رأى ما في الجنة ، قال : ربِّ عجل قيام الساعة ، كيما أرجع إلى أهلي ومالي ، [ فيقال له : اسكن ] " .
وذكر صلوات الله عليه وسلامه أن العبد الكافر (1) أو الفاجر بعد أن يسيء الإجابة " ينادي منادٍ في السماء أن كذب ، فافرشوا له من النار ، وافتحوا له باباً إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ، ويضيق عليه في قبره ، حتى تختلف فيه أضلاعه ، ويأتيه ( وفي رواية : ويمثل له ) رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسوؤك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : [ وأنت فبشرك الله بالبشر ] ، من أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر ، فيقول : أنا عملك الخبيث ، [ فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله ، سريعاً إلى معصية الله ] ، [ فجزاك الله شراً ، ثم يقيض الله له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة ، لو ضرب بها جبل كان تراباً ، فيضربه حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده كما كان ، فيضربه ضربة أخرى ، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين ، ثم يفتح له باب من النار ، ويمهد من فرش النار ] ، فيقول : رب لا تقم الساعة " (2) .
وفي حديث أنس أن العبد المؤمن إذا أجاب الإجابة الصادقة في قبره ، " يقال له : انظر إلى مقعدك من النار ، أبدلك الله به مقعداً من الجنة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعاً ، قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح له في قبره " وذكر في حديث أنس أن الكافر والمنافق بعد أن يجيب في قبره تلك الإجابة الكاذبة ، يقال له : " لا دريت ، ولا تليت ، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه ، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين " أخرجه البخاري ومسلم ، ولفظ الحديث للبخاري ، ولمسلم : " إن العبد إذا وضع في قبره ، ثم ذكر نحواً مما تقدم إلى قوله : وذكر لنا : أنه يفسح فيه سبعين ذراعاً ، ويملأ عليه خضراً إلى يوم تبعثون " ، وفي رواية لأبي داود أن العبد المؤمن بعد أن يسأل ويجيب : " ينطلق به إلى بيت كان له في النار ، فيقول له : هذا كان لك ، ولكن الله عصمك ، فأبدلك به بيتاً في الجنة ، فيراه ، فيقول : دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي ، فيقال له : اسكن " (3) .
وهذا الذي أشارت إليه الأحاديث من أنَّ كل إنسان يعرض عليه مقعده بعد أن يسأل في قبره مستمر طيلة بقائه في القبر ، وقد صرح بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة " (4) .
وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملكين يقولان للعبد المؤمن بعد أن يجيب الإجابة السديدة : " قد كنا نعلم أنك تقول ذلك ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين ، ثم ينور له فيه ، ثم يقال له : نم ، فيقول ، أرجع إلى أهلي فأخبرهم ، فيقولان : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك " . وأنهما يقولان للمنافق : " قد كنا نعلم أنك تقول ذلك ، فيقال للأرض : التئمي عليه ، فتلتئم عليه ، فتختلف أضلاعه ، فلا يزال معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك " (5) .
--------------------------------
(1) هذه اللفظ ومثله كثير في الأحاديث يرد على ابن عبد البرّ والسيوطي والحكيم والترمذي ومن ذهب مذهبهم من القائلين بأن عذاب القبر لعصاة المؤمنين دون الكفار .
(2) حديث صحيح ، سبق تخريجه في ص(22) .
(3) انظر هذه الروايات في جامع الأصول : (11/173) .
(4) رواه البخاري ، كتاب الجنائز ، باب الميت يعرض عليه مقعده في الغداة والعشي ، فتح الباري : (3/243) ، ورواه مسلم في كتاب الجنة ، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار ، (4/2199) حديث رقم (2866) .
(5) حديث حسن رواه الترمذي في سننه . كتاب الجنائز ، باب ما جاء في عذاب القبر : (3/383) حديث رقم : (1071) .
رد مع اقتباس
  #17  
قديم 27-01-2010, 01:39 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

المطلب الثالث
هل يعذب المسلمون في قبورهم
قال القرطبي : " قال أبو محمد عبد الحق : اعلم أن عذاب القبر ليس مختصاً بالكافرين، ولا موقوفاً على المنافقين ، بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين ، وكل على حاله من عمله ، وما استوجبه من خطيئته وزللـه " (1) ، والأدلة على أن المؤمن قد يعذب في قبره بسبب ذنوبه كثيرة ، وسيأتي ذكر طائفة منها في المبحث التالي .
--------------------------------
(1) تذكرة القرطبي : 146 .
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 27-01-2010, 01:39 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

المطلب الرابع
أسباب عذاب القبر
" الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور على قسمين : مجمل ومفصّل ، أمّا المجمل فإنهم يعذبون على جهلهم بالله وإضاعتهم لأمره وارتكابهم معاصيه " (1) .
أما المفصل فإن النصوص ذكرت منه الكثير ، وسنشير إلى ما اطلعنا على ذكره في الأحاديث :
1 ، 2 – عدم الاستتار من البول والنميمة :
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين ، فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، ثم قال: بلى ، أمّا أحدهما فكان يسعى بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله ، ثم قال : ثم أخذ عوداً رطباً فكسره باثنتين ، ثم غرز كل واحد منهما على قبر ، ثم قال : لعله يخفف عنهما ، ما لم ييبسا " (2) .
وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : " دخلت عليَّ امرأة من اليهود ، فقالت : إن عذاب القبر من البول ، فقلت : كذبت ، فقالت : بلى ، إنا لنقرض منه الجلد والثوب ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ، وقد ارتفعت أصواتنا، فقال : ما هذا ؟ فأخبرته بما قالت فقال : صدقت . قالت : فما صلى بعد يومئذ إلا قال دبر كل صلاة : ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أعذني من حرّ النار وعذاب القبر " (3) .
وهذا الذي أشار إليه الحديث من أن بني إسرائيل كانوا يقرضون من البول الجلد والثوب – هو من الدين الذي شرعه الله لهم ، ولذلك لما نهاهم عن فعل ذلك أحدهم عذب في قبره بسبب نهيه ، ففي حديث عبد الرحمن ابن حسنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل ، كانوا إذا أصابهم البول قطعوا ما أصابه البول منهم ، فنهاهم عن ذلك ، فعذب في قبره " (4) .
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن عامة عذاب القبر من البول ، فقد روى أنس رضي الله عنه ، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " تنزهوا من البول ، فإن عامة عذاب القبر منه " ، ورواه ابن عباس بلفظ : " عامة عذاب القبر من البول ، فتنزهوا منه " ورواه أبو هريرة بلفظ : " أكثر عذاب القبر من البول " (5) .
3- الغلول :
ومن الذنوب التي يعذب صاحبها في القبر الغلول ، وقد صح في ذلك أكثر من حديث ، فعن أبي هريرة ، قال : أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً يقال له : مِدْعم ، فبينما مدعم يحط رحلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه سهم عائر (6) ، فقتله ، فقال الناس : هنيئاً له الجنة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " كلا ، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم ، لتشتعل عليه ناراً " . فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " شراك من نار أو شراكين من نار " (7) متفق عليه .
وعن عبد الله بن عمرو ، قال : كان على ثقل (8) النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له : كَرْكرة ، فمات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو في النار " فذهبوا ينظرون إليه ، فوجدوا عباءة قد غلّها " رواه البخاري (9) .
4-7- الكذب ، هجر القرآن ، الزنا ، الربا :
أرى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنواعاً مما يعذب به بعض العصاة ، ففي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال : من رأى منكم الليلة رؤيا ؟ قال : فإن رأى أحد قصها ، فيقول ما شاء الله " .
فسألنا يوماً فقال : هل رأى أحدكم منكم رؤيا ؟ قلنا : لا ، قال : لكني رأيت الليلة رجلين أتياني ، فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة ، فإذا رجل جالس ، ورجل قائم بيده كلوب من حديد – قال بعض أصحابنا عن موسى : كلوب من حديد يدخله في شدقه – حتى يبلغ قفاه ، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ، ويلتئم شدقه هذا ، فيعود فيصنع مثله .
قلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق . فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ، ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة ، فيشدخ به رأسه ، فإذا ضربه تدهده الحجر ، فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو ، فعاد إليه فضربه .
قلت : من هذا ؟ قالا : انطلق . فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته ناراً ، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا ، فإذا خمدت رجعوا فيها ، وفيها رجال ونساء عراة .
فقلت : من هذا ؟ قالا : انطلق . فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم ، فيه رجل قائم، على وسط النهر رجل بين يديه حجارة – قال يزيد ووهب بن جرير عن جرير بن حازم: وعلى شط النهر رجل – فأقبل الرجل الذي في النهر ، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان ، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان .
فقلت : من هذا ؟ قالا : انطلق . فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة ، وفي أصلها شيخ وصبيان ، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها ، فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها ، فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان ، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل ، فيها شيوخ وشباب .
قلت : طَوَّفتماني الليلة فأخبراني عما رأيتُ . قالا : نعم . أما الذي رأيته يُشَقُّ شِدْقُه فكذاب يحدّث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق ، فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة ، والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن ، فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار ، يُفعل به إلى يوم القيامة . والذي رأيته في الثقب فهم الزناة . والذي رأيته في النهر آكلوا الربا . والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام ، والصبيان حوله أولاد الناس . والذي يوقد النار مالك خازن النار . والدار الأولى التي دخلت عامة المؤمنين ، وأما هذه الدار فدارُ الشهداء . وأنا جبريل ، وهذا ميكائيل ، فارفع رأسك . فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب ، قالا : ذاك منزلك . قلت : دعاني أدخل منزلي . قالا : إنه بقي لك عمر لم تستكمله ، فلو استكملت أتيت منزلك " (10) .
حبس المدين في قبره بدينه :
ومما يضر الميت في قبره ما عليه من دين ، فعن سعد بن الأطول رضي الله عنه : " أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم ، وترك عيالاً ، قال : فأردت أن أنفقها على عياله ، قال : فقال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم : " إن أخاك محبوس بدينه ، [فاذهب] فاقض عنه ، [فذهبت فقضيت عنه ، ثم جئت] ، قلت : يا رسول الله ، قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة ، وليست لها بيِّنه ، قال : أعطها فإنه محقة ، (وفي رواية صادقة) (11)" .
فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الصحابي محبوس بسبب دينه ، ويمكن أن يُفسِّر هذا الحبس الحديث الآخر حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنه مأسور بدينه عن الجنة " ، ففي الحديث الذي يرويه سمرة بن جندب " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ، (وفي رواية صلى الصبح) ، فلما انصرف قال : أههنا من آل فلان أحد ؟ [ فسكت القوم ، وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا ] ، فقال ذلك مراراً ، [ ثلاث لا يجيبه أحد ] ، [ فقال رجل : هو ذا ] ، قال : فقام رجل يجر إزاره من مؤخر الناس ، [ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني ؟ ] أما إني لم أنوِّه باسمك إلا لخير ، إن فلاناً – لرجل منهم – مأسور بدينه [ عن الجنة ، فإن شئتم فافدوه ، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله ] ، فلو رأيت أهله ومن يتحرَّون أمره قاموا فقضوا عنه ، [ حتى ما أحد يطلبه بشيء ] (12) .
عذاب الميت ببكاء الحي :
عندما طُعِن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه صهيب يبكي ، يقول : وا أخاه ، واصاحباه ، فقال عمر رضي الله عنه : يا صهيب أتبكي عليَّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الميت يُعَذَّب ببعض بكاء أهله عليه " (13) .
وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال هذا الحديث ، ففي صحيح البخاري أن ابن عباس ذكر لعائشة ما قاله عمر بعد وفاته ، فقالت : رحم الله عمر ، والله ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ، حسبكم القرآن ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [فاطر :18] (14) ، وقد أولت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث أكثر من تأويل ، ورد ذلك عنها في الصحاح والسنن (15) .
وها هنا أمران : الأول هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث ؟ قال القرطبي : " إنكار عائشة ذلك ، وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ، ولم يسمع بعضاً بعيد ، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون ، وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح " (16) .
الثاني :كيف يعذب ببكاء أهله عليه ، وليس ذلك من فعله ، والله يقول : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [فاطر : 18] .
للعلماء في ذلك أجوبة أحسنها ما قاله البخاري في ترجمة الباب الذي وضع الحديث تحته ، قال رحمه الله تعالى : " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته " لقول الله تعالى : ( قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ) [التحريم : 6] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع ومسؤول عن رعيته " فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [فاطر : 18] (17) وممن ذهب هذا المذهب الترمذي رحمه الله ، فإنه روى حديث عمر رضي الله عنه بلفظ " الميت يعذب ببكاء أهله عليه " ثم قال: " قال أبو عيسى (هو الترمذي) : حديث عمر حديث حسن صحيح ، وقد كره قوم من أهل العلم البكاء على الميت ، قالوا : الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، وذهبوا إلى هذا الحديث ، وقال ابن المبارك : أرجو إن كان ينهاهم في حياته ، أن لا يكون عليه من ذلك شيء " (18) .
وهذا الفقه للحديث هو مذهب القرطبي رضي الله عنه ، فإنه قال : " قال بعض العلماء أو أكثرهم : إنما يعذب الميت ببكاء الحي إذا كان البكاء من سنة الميت واختياره ، كما قال :
إذ أنا مت فانعيني بما أنا أهله ××× وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد
وكذلك إذا وصى به (19) .
" وقد كان النواح ولطم الخدود وشق الجيوب من شأن أهل الجاهلية ، وكانوا يوصون أهاليهم بالبكاء ، والنوح عليهم ، وإشاعة النعي في الأحياء ، وكان ذلك مشهوراً من مذاهبهم ، وموجوداً في أشعارهم كثيراً ، فالميت تلزمه العقوبة في ذلك لما تقدم إليهم في وقت حياته " كذا قال ابن الأثير (20) .
وينبغي أن ينبه هنا إلى لفظ البخاري ، فقد جاء فيه : " يعذب ببعض بكاء أهله عليه" ، ولا يعذب بكل البكاء ، فالبكاء الذي تدمع فيه العين ، ولا شق ، ولا لطم معه لا يؤاخذ صاحبه به ، وقد جاءت في ذلك نصوص كثيرة .
وقد تعرض العلامة ابن تيمية للمسألة وضعف مذهب البخاري والقرطبي وابن عبد البرَّ ومن سلك مسلكهم في فقه الأحاديث التي أخبرت أن الميت يعذب ببكاء الحي ، فقد قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر النصوص الواردة في ذلك : " وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف ، واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره ، فهو مخالف لقوله تعالى : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )[فاطر : 18] ، ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة .
فمنهم من غلَّط الرواة لها ، كعمر بن الخطاب وغيره ، وهذه طريقة عائشة والشافعي، وغيرهما . ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على إيصائه ، وهو قول طائفة كالمزني ، وغيره .
ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كان عادتهم ، فيعذب على ترك النهي عن المنكر ، وهو اختيار طائفة منهم جدى أبو البركات ، وكل هذه الأقوال ضعيفة جداً " (21) وقد رد قول الذين ردوا هذه الأحاديث بنوع من التأويل ، فقال: " والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وأبو موسى الأشعري وغيرهم ، لا ترد بمثل هذا ، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لها مثل هذا نظائر ، ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه ، ولا يكون الأمر كذلك ، ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئاً " (22) .
ثم بين رحمه الله تعالى أن عائشة وقعت في مثل ما فرت عنه ، قال : " وعائشة رضي الله عنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظين – وهي الصادقة فيما نقلته – فروت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه " ، وهذا موافق لحديث عمر ، فإنه إذا جاز أن يزيده عذاباً ببكاء أهله ، جاء أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله ، ولهذا رد الشافعي في " مختلف الحديث " هذا الحديث نظراً إلى المعنى ، وقال الأشبه روايتها الأخرى : " إنهم يبكون عليه ، وإنه ليعذب في قبره " (23) .
ورد قول الذين ظنوا أن الحديث يفيد معاقبة الإنسان بذنب غيره ، فقال : " والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه ، ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره، وأن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، واعتقد هؤلاء أن الإنسان يعاقب بذنب غيره، فجوزوا أن يدخل أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم (24) وبعد أن أطال النفس في هذه المسألة : مسألة دخول أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم ، وأن هذا ليس بصواب من القول ، وأن الحق أن الله لا يعذب إلا من عصاه ، وأن الذين لم يبتلوا يمتحنون في ***ات القيامة ، قال : " وأما تعذيب الميت : فهو لم يقل : إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه ، بل قال : " يعذب " ، والعذاب أعمُّ من العقاب ، فإن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " السفر قطعة من العذاب ، يمْنَعُ أحدكم طعامه وشرابه " ، فسمى السفر عذاباً ، وليس هو عقاباً .
والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها ، مثل الأصوات الهائلة ، والأرواح الخبيثة ، والصور القبيحة ، فهو يتعذب بسماع هذا وشَمِّ هذا ، ورؤية هذا ، ولم يكن ذلك عملاً له عوقب عليه ، فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة ، وإن لم تكن النياحة عملاً له ، يعاقب عليه ؟
والإنسان في قبره يعذب بكلام بعض الناس ، ويتألم برؤية بعضهم ، وبسماع كلامه، ولهذا أفتى القاضي أبو يعلى بأن الموتى إذا عمل عندهم المعاصي فإنهم يتألمون بها ، كما جاءت بذلك الآثار ، فتعذبهم بعمل المعاصي عند قبورهم كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم ، ثم النياحة سبب العذاب " (25) .
وهذا الفقه الذي صار إليه الشيخ العلامة جاءت بعض الأحاديث دالة عليه ، فعن النعمان بن بشير ، قال : " أغمي على عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، فجعلت أخته عمرة تبكي : واجبلاه ، واكذا ، واكذا ، تعدد عليه ، فقال حين أفاق : ما قلت شيئاً إلا قيل لي ، أنت كذلك ؟! فلما مات لم تبك عليه " (26) بل إن هذا المعنى ورد صريحاً في الحديث الذي يرويه أبو موسى الأشعري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ميت يموت ، فيقوم باكيه ، فيقول : واجبلاه ! واسيداه ! أو نحو ذلك ، إلا وكل به ملكان يلهزانه : أهكذا كنت " رواه الترمذي . وقال : هذا حديث حسن غريب (27) ، وقال الحافظ في التلخيص بعد سياقه لهذا الحديث : " ورواه الحاكم وصححه ، وشاهده في الصحيح عن النعمان بن بشير " (28) .
وينبغي أن ينبه هنا أنه ليس كل ميت يناح عليه يعذب بالنياح عليه ، فقد يندفع حكم السبب بما يعارضه – كما يقول ابن تيمية – كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة ، والأرواح والصور الخبيثة . ثم ذكر أن أحاديث الوعيد يذكر فيها السبب ، وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك ، إما بتوبة مقبولة ، وإما بحسنات ماحية ، وإما بمصائب مكفرة ، وإما بشفاعة شفيع مطاع ، وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته . وبين في خاتمة كلامه أن ما يصيب الميت المؤمن من عذاب في قبره بما نيح عليه يكفر الله به عن سيئاته (29) .
--------------------------------
(1) لوامع الأنوار البهية: (2/17) .
(2) رواه البخاري ، واللفظ له في كتاب الجنائز ، باب عذاب القبر من الغيبة والبول ، فتح الباري : (3/242) ، ورواه مسلم في كتاب الإيمان ، باب الدليل على نجاسة البول ، (1/240) ، حديث رقم (292) ، ورواه النسائي : (4/106) .
(3) رواه النسائي في سننه ، انظر جامع الأصول : (11/167) .
(4) عزاه في صحيح الجامع (11/416) إلى أبي داود والترمذي ، وابن ماجة وابن حبان والحاكم .
(5) وقد خرجه الشيخ ناصر في ( إرواء الغليل ) ، وقال : صحيح ، وعزا رواية أنس إلى الدارقطني ورواية ابن عباس إلى الدارقطني والحاكم والبزار والطبراني ، ورواية أبي هريرة إلى ابن أبي شيبة وابن ماجة والآجري والحاكم وأحمد ، انظر إرواء الغليل : (1/311) ، حديث رقم (280) .
(6) عائر : لا يدري من رماه .
(7) مشكاة المصابيح : (2/401) .
(8) الثقل : المتاع المحمول على الدابة .
(9) صحيح البخاري : 3074 .
(10) رواه البخاري في كتاب الجنائز ، فتح الباري (3/251) .
(11) قال الشيخ ناصر الدين الألباني في أحكام الجنائز (ص:15) : أخرجه ابن ماجة : (2/82) ، وأحمد : (4/136 ، 5/7) ، والبيهقي : (10/142) ، وأحد إسناديه صحيح ، والآخر مثل إسناده عند ابن ماجة ، وصححه البوصيري في : (الزوائد) ، وسياق الحديث والرواية الثانية للبيهقي ، وهذه الزيادات لأحمد في رواية .
(12) قال الشيخ ناصر الدين الألباني في أحكام الجنائز (ص:15) : أخرجه أبو داود (2/84) ، والنسائي : (2/233)، والحاكم (2/25 ، 26) ،والبيهقي (6/4/76) والطيالسي في مسنده (رقم891 ، 892) وكذا أحمد (5/11 ، 13 ، 20) بعضهم عن الشعبي عن سمرة ، وبعضهم أدخل بينهما سمعان بن مُشَنّج ، وهو على الوجه الأول صحيح على شرط الشيخين ، كما قال الحاكم ووافقه الذهبي ، وعلى الوجه الثاني صحيح فقط ، وقد ذكر الشيخ هناك من أخرج الروايات والزيادات .
(13) الحديث رواه البخاري ، كتاب الجنائز ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه " فتح الباري : (3/151) ، ورواه مسلم أيضاً ، انظر جامع الأصول : (11/92) .
(14) صحيح البخاري ، كتاب الجنائز ، انظر فتح الباري : (3/151) .
(15) إذا شئت الإطلاع على هذه التأويلات ارجع إلى فتح الباري : (3/152) .
(16) فتح الباري : (3/154) .
(17) انظر فتح الباري : (3/150) .
(18) سنن الترمذي : (3/326) .
(19) التذكرة ، للقرطبي : (102) .
(20) جامع الأصول ، لابن الأثير : (102) .
(21) مجموع الفتاوى : (24/370) .
(22) المصدر السابق : (24/370) .
(23) مجموع الفتاوى : (24/371) .
(24) المصدر السابق .
(25) مجموع الفتاوى : (24/371) .
(26) رواه البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة مؤتة .
(27) سنن الترمذي ، كتاب الجنائز ، باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت ، (3/326) ، حديث رقم : (1003) .
(28) تلخيص الحبير لابن حجر : 2/140 ، حديث رقم (806) .
(29) مجموع الفتاوى : (4/375) .
رد مع اقتباس
  #19  
قديم 27-01-2010, 01:40 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

المطلب الخامس
المنجيات من فتنة القبر وعذابه
الذي ينجي المرء من عذاب القبر أن يكون مستعداً للموت ، مشمراً له ، حتى إذا فاجأه الموت لم يعض أصْبعَ الندم ، ومن الاستعداد للموت الإسراع في التوبة ، وقضاء الحقوق ، والإكثار من الأعمال الصالحة ، فإن الإيمان والصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد وبر الوالدين وصلة الأرحام وذكر الله عز وجل وغيرها من صالح الأعمال تحفظ العبد المؤمن ، وبها يجعل الله له من كل هَمّ فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً .
وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأعمال الصالحة تحرس الإنسان في قبره، يقول ابن تيمية : " في الحديث المشهور حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو حاتم في صحيحه ، وقد رواه الأئمة قال : " إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه ، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه ، وكان الصيام عن يمينه ، وكانت الزكاة عن يساره ، وكان فعل الخيرات من الصدق والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه .
فيؤتى من عند رأسه ، فتقول الصلاة : ما قبلي مدخل ، ثم يؤتى عن يمينه ، فيقول الصيام : ما قبلي مدخل ، ثم يؤتى عن يساره ، فتقول الزكاة : ما قبلي مدخل ، ثم يؤتى من قبل رجليه : فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس : ما قبلي مدخل .
فيقال له : اجلس ، فيجلس ، قد مثلت له الشمس وقد دنت للغروب ، فيقال له : ما هذا الرجل الذي كان فيكم ، ما تقول فيه ؟ فيقول : دعوني ، حتى أصلي ، فيقولون : إنك ستفعل ، أخبرنا عما نسألك عنه ، فقال : عمَّ تسألوني ؟ فيقولون : ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم ، ما تشهد به ؟ فيقول : أشهد أنه رسول الله ، وأنه جاء بالحق من عند الله ، فيقال : على ذلك حييت ، وعلى ذلك مت ، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله تعالى ، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة ، فيقال له : ذلك مقعدك منها ، وما أعد الله لك فيها ، فيزداد غبطة وسروراً ، ثم يفتح له باب من أبواب النار ، فيقال : ذلك مقعدك منها، وما أعدَّ الله لك فيها ، [ لو عصيت الله] ، فيزداد غبطة وسروراً ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً ، وينور له فيه ، ويعاد جسده كما بدئ ، وتجعل نسمته في نسم الطيب ، وهي طير تعلق في شجر الجنة " .
وفي لفظ : " وهو طير يعلق في شجر الجنة " قال أبو هريرة : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) [ إبراهيم : 27 ] ، وفي لفظ : " ثم يعاد الجسد إلى ما بدى منه " .
الاستعاذة بالله من فتنة القبر وعذاب القبر :
لما كانت فتنة القبر وعذاب القبر من الأهوال الكبار ، والشدائد العظيمة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من ذلك في صلاته وفي غير صلاته ، وكان يأمر أصحابه بذلك .
ففي حديث عائشة التي ذكرت فيه أمر اليهودية التي قالت لها : أعاذك الله من عذاب القبر ، فسألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر ؟ فقال : نعم ، عذاب القبر، قالت : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر ، زاد غندر : " عذاب القبر حق " (1) .
وعن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول : " اللهمَّ إني أعوذ بك من العجز والكسل ، والجبن والبخل والهرم ، وأعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات " (2) .
عن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم ، والمأثم والمغرم ، ومن فتنة القبر ، وعذاب القبر .. " (3) .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه : " تعوذوا بالله من عذاب القبر" فيقولون : " نعوذ بالله من عذاب القبر " (4) .
وكان يقول لهم : " استجيروا بالله من عذاب القبر ، فإن عذاب القبر حق " (5) وكان يأمرهم أن يستعيذوا من أربع فيقول : " استعيذوا بالله من عذاب القبر ، استعيذوا بالله من جهنم ، استعيذوا بالله من فتنة المسيح الدجال ، استعيذوا بالله من فتنة المحيا والممات " (6) .
وكان يأمرهم بالاستعاذة في الصلاة بعد التشهد من عذاب القبر ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع . يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر فتنة المسيح الدجال " (7) .
وعن ابن عباس أن الرسول كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: " اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ، وأعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات " (8) .
--------------------------------
(1) رواه البخاري في كتاب الجنائز ، والسياق له ، باب عذاب القبر ، فتح الباري : (13/232) ورواه مسلم ، كتاب المساجد ، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر : (1/410) .
(2) قال الشيخ ناصر في صحيح الجامع (1/406) رواه أحمد ، والبخاري ومسلم .
(3) عزاه في صحيح الجامع (1/407) إلى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة .
(4) رواه مسلم ، كتاب الجنة ، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه : (4/2199) .
(5) رواه الطبراني بإسناد صحيح ، انظر صحيح الجامع : (1/317) .
(6) عزاه في صحيح الجامع : (1/320) إلى الترمذي والنسائي .
(7) رواه مسلم في صحيحه ، كتاب المساجد ، باب ما يستعاذ منه في الصلاة ، (1/412) حديث رقم : (588) .
(8) رواه مسلم في صحيحه ، كتاب المساجد ، باب ما يستعاذ منه في الصلاة (1/412) حديث رقم : (590) .
رد مع اقتباس
  #20  
قديم 27-01-2010, 01:41 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

المطلب السادس
الذين يعصمون من فتنة القبر وعذابه
بعض المؤمنين من الذين قاموا بأعمال جليلة ، أو أصيبوا بمصائب كبيرة يأمنون فتنة القبر وعذابه ، فمن هؤلاء :
1- الشهيد : فقد روى المقدام بن معدي كرب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة ، ويرى مقعده في الجنة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين من أقربائه " رواه الترمذي وابن ماجة (1) .
وروى النسائي في سننه عن راشد بن سعد بن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال : يا رسول الله ! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة " (2) .
2- الذي مات مرابطاً(3) في سبيل الله ، فقد روى فضالة بن عبيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله ؟ فإنه ينمي له عمله يوم القيامة ، ويأمن فتنة القبر " رواه الترمذي وأبو داود (4) .
3- الذي يموت يوم الجمعة ،ففي الحديث عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " ما من مسلم يموت يوم الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر " رواه أحمد والترمذي ، والحديث صحيح بمجموع طرقه أو حسن (5) .
4- الذي يموت بداء البطن ، وقد ثبت في حديث يرويه عبد الله بن يسار ، قال : " كنت جالساً وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة ، فذكروا أن رجلاً توفي مات ببطنه ، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهدا جنازته ، فقال أحدهما للآخر : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره " ؟ فقال الآخر : بلى ، وفي رواية : صدقت (6) .
--------------------------------
(1) مشكاة المصابيح : (2/358) ، وإسناده صحيح كما قال محقق المشكاة الشيخ ناصر الدين الألباني .
(2) وسنده صحيح ، انظر أحكام الجنائز للشيخ ناصر الدين الألباني : (36) وصحيح الجامع : (4/164) .
(3) الرباط : هو الملازمة في سبيل الله مأخوذة من ربط الخيل ، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور المسلمين مرابطاً : فارساً كان أو راجلاً ، واللفظة مأخوذة من الرباط .
(4) مشكاة المصابيح: (2/355) ، وإسناده صحيح كما قال محقق المشكاة .
(5) رواه أحمد ، والترمذي ، والحديث بمجموع طرقه صحيح أو حسن ، أحكام الجنائز (35) .
(6) قال الشيخ ناصر في أحكام الجنائز : أخرجه النسائي : والترمذي حسنه ، وابن حبان في صحيحه ، والطيالسي ، وأحمد ، وسنده صحيح ، ( أحكام الجنائز ص38) .
رد مع اقتباس
  #21  
قديم 27-01-2010, 01:41 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

عِظَة المَوت
المطلب الأول
الموت أعظم واعظ
سقنا إليك طرفاً من النصوص التي تحدث عن الموت وسكراته ، والقبر وأهواله ، والعاقل من اعتبر ، فإن الموت أكبر واعظ ، وقد قيل لبعض الزهاد : ما أبلغ العظات ؟ قال : النظر إلى الأموات (1) ، وقد أحسن القرطبي في وصف الموت حيث يقول : " اعلم أن الموت هو الخطب الأفظع ، والأمر الأشنع ، والكأس الذي طعمهما أكره وأبشع ، وأنه الأهذم للذات ، والأقطع للراحات ، والأجلب للكريهات ، فإن أمراً يقطع أوصالك ، ويفرق أعضاءك ، ويهدم أركانك ، لهو الأمر الفظيع ، والخطب الجسيم ، وإن يومه لهو اليوم العظيم " (2) .
المطلب الثاني
التفكر في الموت
كما أن الحياة آية من آيات الله فالموت كذلك آية أخرى تضاد الحياة ، ولكنها لا تقل عنها عجباً ، ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [ البقرة : 28 ] .
والتفكر في هذه الآية تفكر في خلق من خلق الله وعجائبه الدالة على عظيم قدرة الله، وعجيب أمره ، يروى أن أعرابياً كان يسير على جمل له ، فخر ميتاً ، فنزل الأعرابي عنه ، وجعل يطوف به ، ويتفكر فيه ، ويقول : مالك لا تقوم ؟ مالك لا تنبعث ؟
هذه أعضاؤك كاملة ، وجوارحك سالمة . ما شأنك ؟ ما الذي كان يحملك ؟ ما الذي كان يبعثك ؟ ما الذي صرعك ؟ ما الذي عن الحركة منعك ؟
ثم انصرف متفكراً في شأنه ، متعجباً من أمره (3) .
وأُنشد في بعض الشجعان مات حتف أنفه (4) :
جاءته من قِبَل المنون إشارة ××× فهوى صريعاً لليدين وللفم
ورمى بمحكم درعه وبرمحه ××× وامتد ملقى كالفنيق الأعظم
لا يستجيب لصارخ إن يدعه ××× أبداً ولا يرجى لخطب معظم
ذهبت بسالته ومرَّ مراره ××× لما رأى حبل المنية يرتمي
يا ويحه من فارس ما باله ××× ذهبت مرارته ولما يُكْلَم
هذي يداه وهذه أعضاؤه ××× ما منه عضو غداً بمثلم
هيهات ما حبل الردى محتاجه ××× للمشرفي ولا اللسان اللهذم
هي ويحكم أمر الإله وحكمه ××× والله يقضي بالقضاء المحكم
المطلب الثالث
نماذج من عظات الواعظين
وعظ الله رسوله بالموت فقال : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) [ الزمر : 30 ] ، وفي الحديث الذي يرويه الطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الحلية ، والحاكم في مستدركه ، وغيرهم عن علي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني جبريل ، فقال : يا محمد ، عش ما شئت ، فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزى به ، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزه استغناؤه عن الناس " (5) .
وقد سقنا كثيراً من النصوص التي وعظنا الله ورسوله فيها بالموت ، وقد كان هذا دأب الصالحين يعظون أنفسهم بالموت ، ويعظون الناس به ، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " ارتحلت الدنيا مدبرة ، وارتحلت الآخرة مقبلة ، ولكل واحدة بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل " رواه البخاري في ترجمة باب : الأمل وطوله (6) .
ومن عظات العلماء ما جاء في تذكرة القرطبي : " تفكر يا مغرور في الموت وسكرته ، وصعوبة كأسه ومرارته ، فيا للموت من وعد ما أصدقه ، ومن حاكم ما أعدله ، كفى بالموت مفزعاً للقلوب ، ومبكياً للعيون ، ومفرقاً للجماعات ، وهادماً للذات ، وقاطعاً للأمنيات .
فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك ، وانتقالك من موضعك ، إذا نقلت من سعة إلى ضيق ، وخانك الصاحب والرفيق ، وهجرك الأخ والصديق ، وأخذت من فراشك وغطائك إلى غرر ، وغطوك من بعد لين لحافها بتراب ومدر ، فيا جامع المال ، والمجتهد في البنيان ، ليس لك من مالك والله إلا الأكفان ، بل هي للخراب والذهاب ، وجسمك للترائب والمئاب .
فأين الذي جمعته من المال ؟ فهل أنقذك من الأهوال ، كلا بل تركته لمن لا يحمدك ، وقدم بأوزارك على من لا يعذرك " (7) .
ونقل القرطبي رحمه الله عن يزيد الرقاشي أنه كان يقول لنفسه : " ويحك يا زيد من ذا يصلي عنك بعد الموت ؟ من ذا يصوم عند بعد الموت ؟ من ذا يرضي عنك ربك بعد الموت ؟ " .
ثم يقول : " يا أيها الناس ، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم ؟ من القبر طالبه ، والقبر بيته ، والتراب فراشه ، والدود أنيسه ، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر ، كيف يكون حاله ؟ " (8) .
وقال القرطبي رحمه الله في موضع آخر : " مَثِّلْ نفسك يا مغرور وقد حلت بك السكرات ، ونزل بك الأنين والغمرات ، فمن قائل يقول : إن فلاناً قد أوصى ، وماله قد أحصى ، ومن قائل يقول : إن فلاناً ثقل لسانه ، فلا يعرف جيرانه ، ولا يكلم إخوانه ، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب ، ولا تقدر على رد الجواب . فَخَيِّل لنفسك ، يا ابن آدم إذا أخذت لفراشك إلى لوح مغسلك ، فغسلك الغاسل ، وألبست الأكفان ، وأوحش منك الأهل والجيران ، وبكت عليك الأصحاب والإخوان ، وقال الغاسل : أين زوجة فلان تحاللـه ، وأين اليتامى ترككم أبوكم فما ترونه بعد هذا اليوم أبداً ، وأنشدوا :
ألا أيها المغرور مالك تلعب ××× تؤمل آمالاً وموتك أقرب
وتعلم أن الحرص بحر مبعد ××× سفينته الدنيا فإياك تعطب
وتعلم أن الموت ينقض مسرعاً ××× عليك يقيناً طعمه ليس يعذب
كأنك توصي واليتامى تراهم ××× وأمهم الثكلى تنوح وتندب
تغص بحزن ثم تلطم وجهها ××× يراها رجال بعدما هي تحجب
وأقبل بالأكفان نحوك قاصد ××× ويحثي عليك الترب والعين تسكب (9)
ومن عظات الصحابي الجليل أبي الدرداء قوله : " أضحكني ثلاث ، وأبكاني ثلاث ، أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه ، وغافل ليس بمغفول عنه ، وضاحك بملء فيه ، وهو لا يدري أأرضى الله أم سخطه ؟! .
وأبكاني فراق الأحبة محمد صلى الله عليه وسلم وحزبه ، وهول المطلع عند غمرات الموت ، والوقوف بين يدي الله ، يوم تبدو السريرة علانية ، ثم لا يدري إلى الجنة أو إلى النار " (10) .
وقال أبو الدرداء أو أبو ذر : " تلدون للموت ، وتعمرون للخراب ، وتحرصون على ما يفنى ، وتذرون ما يبقى " (11) .
وقال القرطبي في تذكرته واعظاً ناصحاً :
" يا هذا ، أين الذي جمعته من الأموال ، وأعددته للشدائد والأهوال ، لقد أصبحت كفك منه عند الموت خالية صفراً ، وبدلت بعد غناك وعزك ذلاً وفقراً ، فكيف أصبحت يا رهين أوزاره ، ويا من سلب من أهله ودياره ؟
ما كان أخفى عليك سبيل الرشاد ، وأقل اهتمامك لحمل الزاد إلى سفرك البعيد ، وموقفك الصعب الشديد ، أو ما علمت يا مغرور أن لا بدَّ من الارتحال إلى يوم شديد الأهوال ، وليس ينفعك ثمَّ قيل ولا قال ، بل يعد عليك بين يدي الملك الديان ما بطشت اليدان ومشت القدمان ، ونطق به اللسان ، وعملت الجوارح والأركان ، فإن رحمك الله فإلى الجنة ، وإن كانت الأخرى فإلى الميزان .
يا غافلاً عن هذه الأحوال إلى كم هذه الغفلة والتوان ؟ أتحسب أن الأمر صغير ، وتزعم أن الخطب يسير ؟ وتظن أن سينفعك حالك إذا آن ارتحالك ، أو ينقذك مالك حين توبقك أعمالك ، أو يغني عنك ندمك إذا زلت بك قدمك ، أو يعطف عليك معشرك حين يضمك محشرك ، كلا والله ساء ما تتوهم ، ولا بدَّ أن ستعلم لا بالكفاف تقنع ، ولا من الحرام تشبع ، ولا للعظات تسمع ، ولا بالوعيد ترتدع ، دأبك أن تتقلب مع الأهواء ، وتخبط خبط العشواء ، يعجبك التكاثر بما لديك ، ولا تذكر ما بين يديك . يا نائماً في غفلة ، وفي خبطة يقظان ، إلى كم هذه الغفلة والتوان ، أتزعم أن ستُترك سُدَى ، وأن لا تحاسب غداً ، أم تحسب أن الموت يقبل الرِّشا ؟ أم تميز بين الأسد والرَّشا؟
كلا والله ، لن يدفع عنك الموت مالك ولا بنون ، ولا ينفع أهل القبول إلا العمل المبرور ، فطوبى لمن سمع ووعى ، وحقق ما ادعى ، ونهى النفس عن الهوى ، وعلم أن الفائز من ارعوى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى ، فانتبه من هذه الرقدة ، واجعل العمل الصالح لك عدة ، ولا تتمنَّ منازل الأبرار وأنت مقيم على الأوزار ، عامل بعمل الفجار ، وراقب الله في الخلوات ، ولا يغرنك الأمل ، فتزهد عن العمل .. ، وأنشدوا :
تزود من معاشك للمعاد ××× وقم لله واعمل خير زاد
ولا تجمع من الدنيا كثيراً ××× فإن المال يجمع للنفاد
أترضى أن تكون رفيق قوم ××× لهم زاد وأنت بغير زاد
وقال آخر :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ××× ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون مثله ××× وأنك لم ترصد كما كان أرصدا (12)
المطلب الرابع
نماذج من عظات الشعراء
وقد أكثر الشعراء من ذكر الموت والوعظ به ، فمن ذلك قول الشاعر :
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ××× يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه ××× والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له ××× والإنس والجن فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت لعزتها ××× من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب ××× لا بد من ورده يوماً كما وردوا
وقال الآخر :
مشيناها خطا كتبت علينا ××× ومن كتبت عليه خطا مشاها
وأرزاق لنا متفرقات ××× فمن لم تأته منا أتاها
ومن كتبت منيته بأرض ××× فليس يموت في أرض سواها
وقال آخر :
وإذا وليت قوماً ليلة ××× فاعلم بأنك بعدها مسؤول
وإذا حَملتَ إلى القبور جنازة ××× فاعلم بأنك بعدها محمول
وقال آخر :
تزود من الدنيا فإنك لا تدري ××× إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من عروس زينوها لزوجها ××× وقد أخذت أرواحهم ليلة القدر
وكم من صغار يرجى طول عمرهم ××× وقد أدخلت أرواحهم ظلمة القبر
وكم من سليم مات من غير علة ××× وكمن من سقيم عاش حيناً من الدهر
وكم من فتى يمسي ويصبح لاهياً ××× وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من ساكن عند الصباح بقصره ××× وعند المسا قد كان من ساكن القبر
فكن مخلصاً واعمل الخير دائماً ××× لعلك تحظى بالمثوبة والأجر
وداوم على تقوى الإله فإنها ××× أمان من الأهوال في موقف الحشر
وقال الآخر :
هب الدنيا تساق إليك عفواً ××× أليس مصير ذاك إلى انتقال
وما دنياك إلا مثل فيء ××× أظلك ثم آذن بالزوال
وقال آخر :
يا مقيماً قد حان منه رحيل ××× بعد ذاك الرحيل يوم عصيب
إن للموت سكرة فارتقبها ××× لا يداويك إن أتتك طبيب
كم تواني حتى تصير رهيناً ××× ثم تأتيك دعوة فتجيب
وتذكر يوماً تحاسب فيه ××× إن من يذكر الممات ينيب
ليس من ساعة من الدهر إلا ××× للمنايا عليك رقيب
كل يوم ترميك بسهم ××× إن تحظى يوماً فسوف تصيب
وقال آخر :
الموت في كل يوم ينشر الكفنا ××× ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها ××× وإن توحشت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا ××× أين الذين همو كانوا لنا سكنا
سقاهم الموت كأساً غير صافية ××× فصيرتهم لأطباق الثرى رهناً
وقال آخر :
قدم لنفسك توبة مرجوة ××× قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غلق النفوس فإنها ××× ذخر وغنم للمنيب المحسن

المطلب الخامس
أثر تذكر الموت في إصلاح النفوس
إن لتذكر الموت أثراً كبيراً في إصلاح النفوس وتهذيبها ، ذلك أن النفوس تؤثر الدنيا وملذاتها ، وتطمع في البقاء المديد في هذه الحياة ، وقد تهفو إلى الذنوب والمعاصي ن وقد تقصر في الطاعات ، فإذا كان الموت دائماً على بال العبد ، فإنه يصغر الدنيا في عينه ، ويجعله يسعى في إصلاح نفسه ، وتقويم المعوج من أمره ، فقد روى البيهقي في شعب الإيمان ، وابن حبان في صحيحه والبزار في مسنده بإسناد حسن عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثروا ذكر هاذم اللذات : الموت ، فإنه لم يذكره في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها " (13) .
ويذكر ابن المبارك أن صالحاً الـمُرّي كان يقول : " إن ذكر الموت إذا فارقني ساعة فسد على قلبي " (14) .
وقال الدقاق : " من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة : تعجيل التوبة ، وقناعة القلب ، ونشاط العبادة ، ومن نسى الموت عوجل بثلاثة : تسويف التوبة ، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة " (15) .
وقال القرطبي : " اعلم أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية ، والتوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية " (16) ويروى أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة في قلبها ، فقالت لها : أكثري من ذكر الموت يرق قلبك ، ففعلت ذلك فرق قلبها " (17) .
وقال القرطبي : قال العلماء : تذكر الموت يردع عن المعاصي ، ويلين القلب القاسي، ويذهب الفرح بالدنيا ، ويهون المصائب (18) .
وقال القرطبي أيضاً : قال العلماء – رحمهم الله – ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور ، وخاصة إن كانت قاسية ، فعلى أصحابها أن يعالجوها بثلاثة أمور :
أحدها :الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ والتذكير والتخويف والترغيب وأخبار الصالحين ، فإن ذلك مما يلين القلوب .
الثاني : ذكر الموت ، فيكثر من ذكر هادم اللذات ، ومفرق الجماعات ، وميتم البنين والبنات .
الثالث : مشاهدة المحتضرين ، فإن النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته ونزعاته ، وتأمل صورته بعد مماته ، مما يقطع عن النفوس لذاتها ، ويطرد عن القلوب مسراتها ، ويمسح الأجفان من النوم ، والأبدان من الراحة ، ويبعث على العمل ، ويزيد في الاجتهاد والتعب (19) .
وذكر عن الحسن البصري أنه دخل على مريض يعوده ، فوجده في سكرات الموت ، فنظر إلى كربه ، وشدة ما نزل به ، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم ، فقالوا له : الطعام يرحمكم الله ، فقال : يا أهلاه ، عليكم بطعامكم وشرابكم ، فوالله رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه (20) .
وقال أبو الدرداء : " من أكثر ذكر الموت قل فرحه ، وقل حسده " (21) .
--------------------------------
(1) التذكرة للقرطبي : 99 .
(2) التذكرة للقرطبي : 24 .
(3) التذكرة للقرطبي : ص4 .
(4) التذكرة للقرطبي : ص5 .
(5) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، (2/505) ، ورقم الحديث : (831) .
(6) مشكاة المصابيح : (2/659) ، ورقم الحديث (5215) .
(7) التذكرة : ص 9 .
(8) التذكرة : ص 9 .
(9) التذكرة : ص 21 .
(10) التذكرة : ص 87 .
(11) كتاب الزهد والرقائق ، لابن المبارك : ص 88 .
(12) تذكرة القرطبي : 91 .
(13) صحيح الجامع الصغير : (1/388) ، ورقم الحديث : (1222) .
(14) الزهد والرقائق ، لابن المبارك : ص (88) .
(15) تذكرة القرطبي : ص 9 .
(16) تذكرة القرطبي : ص 8 .
(17) التذكرة : ص 12 .
(18) التذكرة : ص 12 .
(19) تذكرة القرطبي : ص12 .
(20) تذكرة القرطبي : ص 12 .
(21) كتاب الزهد لابن المبارك : انظر آخر الكتاب : زوائد كتاب الزهد ، رواية نعيم بن حماد : ص 37 .
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 27-01-2010, 01:42 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

الرُّوح والنفس
تعريف وَبيَان
لا بدَّ للباحث في أمر الإنسان بعد موته من إعطاء فكرة عن الروح التي تنعم أو تعذب بعد موتها ، ما هي ؟ وهل لها كيفية تعلم ؟ وهل هي جزء من البدن ، أم شيء آخر غير البدن ؟ فإن كانت غيره فأين مسكنها فيه ؟ وهل هي مخلوقة ؟ وهل هي واحدة في الإنسان أم متعددة ؟ وهل تموت الأرواح ، وكيف موتها ؟ وأين مستقرها في البرزخ ، وهل تعلم الأرواح شيئاً عما يجري في الدنيا من البرزخ ؟
يقول ابن تيمية : " والروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه ، وهي النفس التي تفارقه بالموت " (1) ، وقد أخطأ الذين فرقوا بين الروح والنفس واعتقدوا أنهما أمران مختلفان ، ومن تأمل فيما سقناه في بحثنا من نصوص علم النفس هي التي تقبضها الملائكة ، وتصعد بها إلى السماء ، وتعود بها إلى الجسد ، وتسأل ، وتنعم وتعذب ، وهي الروح أيضاً التي إذا خرجت من الجسد تبعها البصر كما ثبت في الأحاديث .
وهذا المخلوق الذي تكون به الحياة ، وتفقد الحياة بفقده يسمى روحاً ونفساً ، ولا يمنع هذا أن تطلق كل من الروح والنفس إطلاقات أخرى ، يقول ابن تيمية : " لفظ الروح والنفس يعبر بهما عن عدة معان : فيراد بالروح الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه ، ويراد بالروح البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق ، وهو الذي تسميه الأطباء الروح ، ويسمى الروح الحيواني ، فهذان المعنيان غير الروح التي تفارق بالموت التي هي النفس ، ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه ، وقد يراد بلفظ النفس الدم الذي يكون في الحيوان ، كقول الفقهاء : " ماله نفس سائلة ، وما ليس له نفس سائلة " فهذان المعنيان بالنفس ليسا هما معنى الروح " (2) .
وتطلق الروح أيضاً على جبرائيل : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ) [ الشعراء : 193 ] ، وتطلق على القرآن ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ) [ الشورى : 52 ] .
ويلاحظ شارح الطحاوية أن الروح والنفس وإن أطلقا على تلك اللطيفة الربانية ، إلا أن " غالب ما يسمى نفساً إذا كانت الروح متصلة بالبدن ، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها " (3) .
ويقول ابن تيمية في هذا : " لكن تسمى نفساً باعتبار تدبيره للبدن ، وتسمى روحاً باعتبار لطفه ، ولهذا يسمى الريح روحاً ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الريح من روح الله " (4) أي من الروح التي خلقها الله " (5) .
--------------------------------
(1) رسالة العقل والروح ، مجموعة الرسائل المنيرية :2/36 ، وانظر شرح العقيدة الطحاوية : 445 .
(2) المصدر السابق : (2/39) .
(3) شرح العقيدة الطحاوية : ص (444) .
(4) رواه البخاري في الأدب المفرد ، وأبو داود والحاكم .
(5) رسالة العقل والروح ، مجموع الرسائل المنيرية : (2/37) .
رد مع اقتباس
  #23  
قديم 27-01-2010, 01:42 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

هَل للرُّوح كيفيَّة تعلَم ؟
لما كنت الروح مخلوقة من جنس لا نظير له في عالم الموجودات فإننا لا نستطيع أن نعرف صفاتها ، فقد عرفنا الله أنها تصعد وتهبط ، وتسمع وتبصر وتتكلم إلى غير ذلك ، إلا أن هذه الصفات مخالفة لصفات الأجسام المعروفة ، فليس صعودها وهبوطها وسمعها وبصرها وقيامها وقعودها من جنس ما نعرفه ونعلمه ، فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروح يصعد بها إلى السماوات العلى ، ثم تعاد إلى القبر ، ساعة من الزمن ، وقد أخبرنا أنها تنعم أو تعذّب في القبر ، ولا شك أن هذا النعيم على نحو مخالف لما نعلمه ونعرفه .
رد مع اقتباس
  #24  
قديم 27-01-2010, 01:43 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

استقلال الرًُّوح عَن البَدن
" يرى فريق من أهل الكلام المبتدع المحدث من الجهمية والمعتزلة أن الروح جزء من أجزاء البدن ، أو صفة من صفاته ، كقول بعضهم : إنها النفس أو الريح التي تردد في البدن، وقول بعضهم : إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن " (1) .
" والفلاسفة المشاؤون يقرون بأن النفس تبقى إذا فارقت البدن ، لكن يصفون النفس بصفات باطلة فيدعون أنها إذا فارقت البدن كانت عقلاً ، والعقل عندهم مجرد عن المادة وعلائق المادة ، والمادة عندهم هي الجسم ، والعقل عندهم قائم بنفسه ، لا يوصف بحركة ولا سكون ، ولا يتجدد له أحوال البتة " (2) .
وقد تخبط هؤلاء وهؤلاء في مقالاتهم في الروح ، فأهل الكلام المبتدع المذموم الذين قالوا : إن الروح هي الحياة أو المزاج أو نفس البدن ، أنكر كثير منهم عذاب القبر ، فليس هناك روح تنعم أو تعذب بعد الموت في البرزخ . ورفضوا النصوص التي أثبتت ذلك .
والفلاسفة الذين زعموا أن الروح إذا فارقت البدن تصبح عقلاً ، قالوا : " إذا فارقت البدن لا يتجدد لها حال من الأحوال لا علوم ولا تصورات ، ولا سمع ولا بصر ، ولا إرادات ، ولا فرح ولا سرور ، ولا غير ذلك مما قد يتجدد ويحدث ، بل تبقى عندهم على حال واحدة أزلاً وأبداً ، كما يزعمونه في العقل والنفس " (3) .
" وفريق من الفلاسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم ، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود ، فيقولون لا هي داخل البدن ولا خارجه ، ولا مباينة له ، ولا مداخلة له ، ولا متحركة ولا ساكنة ، ولا تصعد ولا تهبط ، ولا هي جسم ولا عرض " (4) .
والسبب الذي أوقع كلا الفريقين في هذا الخطأ أنهم اعتمدوا على عقولهم وما وضعوه من مقاييس في البحث عن أمر غيبي ، فالفريق الأول أنكر وجود روح مستقلة عن البدن ، وهذا تكذيب للنصوص المتواترة ، وإنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة ، والفلاسفة المشاؤون ومن سلك سبيلهم أثبتوا وجود الروح مستقلة عن البدن ، ولكن لما كانت هذه الروح " ليست من جنس هذا البدن ، ولا جنس العناصر والمولدات منها ، بل هي جنس آخر مخالف لهذه الأجناس " (5) صعب عليهم تعريفها وتصورها ، وضاقت تعبيراتهم ومقاييسهم عن حدها وتصورها .
وقد هدى الله الذين استجابوا لله ورسوله ، وآمنوا بما أخبرهم به ، فعلموا أن " الروح جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس ، وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ، ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد ، وسريان الدهن في الزيتون ، والنار في الفحم ، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف ، بقي هذا الجسم اللطيف متشابكاً بهذه الأعضاء ، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإرادة ، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها ، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح " (6) .
وقد سقنا في تضاعيف بحثنا كثيراً من الأدلة التي تثبت أن الروح شيء مستقل عن البدن ، كقوله تعالى : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ) [ الزمر : 42 ] ، وقوله : ( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) [ الأنفال : 50 ] ، وقوله : ( وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ) [ الأنعام : 93 ] ، وقوله : ( كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ - وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ - وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ - وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ - إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ) [القيامة : 26-30] ، وقولـه : ( فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ - وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ) [الواقعة : 83-84] ، فالذي يمسك ، وتتوفاه الملائكة ، ويبلغ الحلقوم ، ويبلغ التراقي ، ويساق لا بد أن يكون شيئاً حقيقياً مخالفاً للجسد .
وقد سقنا الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ملك الموت يقبض الروح ، وأنَّ الملائكة تضع تلك الروح في كفن من الجنة أو النار بحسب فلاحها أو فسادها ، وأنَّه يذهب بها في رحلة علوية سماوية ، حيث تفتح لها أبواب السماء إن كانت صالحة ، وتغلق دونها إن كانت طالحة ، وأنها تعاد إلى الجسد ، وتسأل وتعذب أو تنعم ، وأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ، وأرواح المؤمنين طير يعلق في شجر الجنة ، وأن الروح إذا قبض تبعه البصر ، إلى غير ذلك من النصوص الدالة في مجموعها دلالة قاطعة على أن الأرواح شيء آخر غير الأبدان ، وأنها تبقى بعد مفارقة البدن .
--------------------------------
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : (3/31) ، رسالة العقل والروح لابن تيمية ، انظر مجموعة الرسائل المنيرية : (2/21) .
(2) مجموعة الرسائل المنيرية ، رسالة العقل والروح : (2/21) .
(3) المصدر السابق : (2/22) .
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (3/31) .
(5) المصدر السابق : (3/32) .
(6) هذا تعريف ابن القيم للروح في كتابه : الروح ، وقد نقله عنه السفاريني في لوامع الأنوار البهية : (2/29) ، وعزاه إليه ، وذكره بنصه شارح الطحاوية من غير عزو ، انظر شارح الطحاوية : ص (433) ، وقد قال ابن القيم بعد سياقه لهذا التعريف : " وهذا القول هو الصواب في المسألة ، وهو الذي لا يصح غيره ، وكل الأقوال سواه باطلة ، وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة " ، وذكر مائة وخمسة عشر دليلاً فأجاد وأفاد وزيف كلام ابن سينا وابن حزم وأمثالهما .
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 27-01-2010, 01:43 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

مَسكن الرُّوح في الجسَد
الروح تسري في بدن الإنسان كله ، يقول ابن تيمية : " لا اختصاص للروح بشيء من الجسد ، بل هي سارية في الجسد كما تسري الحياة التي هي عرض في جميع الجسد ، فإن الحياة مشروطة بالروح ، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة ، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة " (1) .
--------------------------------
(1) رسالة العقل والروح ، مجموعة الرسائل المنيرية : (2/47) .
رد مع اقتباس
  #26  
قديم 27-01-2010, 01:43 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

الرُّوح مخلوقَة
ذهب فريق من الفلاسفة إلى أن الروح غير مخلوقة ، بل هي قديمة أزلية ، ولكنها ليست من ذات الرب ، ومقالتهم في الروح هي مقالتهم في العقول والنفوس الملكية ، ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملائكة .
وذهب صنف آخر من زنادقة هذه الأمة وضُلالها من المتكلمة والمتصوفة والمحدثة إلى أن الروح من ذات الله ، وهؤلاء – كما يقول ابن تيمية – أشرُّ قولاً من أولئك ، وهؤلاء جعلوا الآدمي نصفين : نصف لاهوت ، وهو روحه ، ونصف ناسوت ، وهو جسده : نصفه رب ونصفه عبد (1) .
والحق الذي لا ينبغي أن يخالف فيـه أن الروح مخلوقة مبتدعة ، ويدل على ذلك أمور :
1- الإجماع :
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " روح الآدمي مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائل أهل السنة ، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غيرُ واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي ، الإمام المشهور ، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف ، أو من أعلمهم .
وكذلك أبو محمد بن قتيبة ، قال في ( كتاب اللقط ) لما تكلم على خلق الروح ، قال : النسم الأرواح ، قال : وأجمع الناس أن الله خالق الجثة وبارئ النسمة ، أي : الروح.
وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة : سألت رحمك الله عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة ، قال : هذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب ، إلى أن قال : والروح من الأشياء المخلوقة ، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشايخ ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة .
وصنف الحافظ أبو عبد الله بن منده في ذلك كتاباً كبيراً في ( الروح والنفس ) وذكر فيه من الأحاديث والآثار شيئاً كثيراً ، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره ، والشيخ أبو يعقوب الخراز ، وأبو يعقوب النهرجوري ، والقاضي أبو يعلى ، وقد نص على ذلك الأئمة الكبار ، واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في عيسى ابن مريم ، لا سيما في روح غيره كما ذكره أحمد في كتابه في " الرد على الزنادقة والجهمية " (2) .
2- الكتاب والسنة :
الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على خلقها كثيرة ، مثل قوله تعالى : ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) [ الرعد : 16 ] ، [الزمر : 62 ] ، يقول شارح الطحاوية عقب استدلاله بهذه الآية : " فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما " (3) ومن ذلك قوله تعالى : ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ) [ الإنسان : 1 ] ، وقوله جل وعلا لزكريا : ( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) [مريم : 9 ] ، والإنسان اسم لروح الإنسان وبدنه ، وخطاب الله لزكريا لروحه وبدنه .
يقول ابن تيمية : " الإنسان عبارة عن البدن والروح معاً ، بل هو بالروح أخص منه بالبدن ، وإنما البدن مطية للروح ، كما قال أبو الدرداء : إنما بدني مطيتي ، فإن رفقت بها بلغتني ، وإن لم أرفق بها لم تبلغني ، وقد رواه ابن منده وغيره عن ابن عباس ، قال : لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن ، فتقول الروح للبدن : أنت عملت السيئات ، فيقول البدن للروح : أنت أمرتني ، فيبعث الله ملكاً يقضي بينهما فيقول : إنما مثلكما كمثل مقعد وأعمى دخلا بستاناً ، فرأى المقعد فيه ثمراً معلقاً ، فقال للأعمى : إني أرى ثمراً ولكن لا أستطيع النهوض إليه ، وقال الأعمى : لكني أستطيع النهوض إليه ، ولكني لا أراه ، فقال المقعد : تعال فاحملني حتى أقطفه ، فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى حيث يشاء فقطع الثمرة ، قال المَلَكُ : فعلى أيهما العقوبة ؟ قالا : عليهما جميعاً ، قال : فكذلك أنتما " (4) .
3- ذكرنا في بحثنا هذا كثيراً من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرواح تقبض ، وتوضع في كفن وحنوط تأتي بهما الملائكة ، ويصعد بها ، وتنعم وتعذب ، وتمسك في النوم ، وترسل ، وكل هذا شأن المخلوق المحدث .
4- لو لم تكن مخلوقة مربوبة لما أقرت بالربوبية ، وقد قال الله للأرواح حين أخذ الميثاق على العباد ، وهم في عالم الذرّ ، ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، وذلك ما قرره الحق في قوله : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ... ) [ الأعراف : 172 ] ، وما دام هو ربهم فإنهم مربوبون مخلوقون .
5- لو لم تكن الأرواح مخلوقة فإن النصارى لا لوم عليهم في عبادتهم عيسى ، ولا في قولهم : إنه ابن الله ، أو هو الله .
6- لو كانت الروح غير مخلوقة فإنها لا تدخل النار ولا تعذب ، ولا تحجب عن الله، ولا تغيب عن البدن ، ولا يملكها ملك الموت ، ولما كانت صورة توصف ، ولم تحاسب ولم تعذب ، ولم تتعبد ولم تخف ، ولم ترج ، ولأن أرواح المؤمنين تتلألأ ، وأرواح الكفار سود مثل الفحم (5) .
--------------------------------
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/222) .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/216) .
(3) شرح الطحاوية : ص (442) .
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/222) .
(5) الأدلة الثلاثة الأخيرة استدل بها أبو سعيد الخراز ، أحد أكابر المشايخ الأئمة من أقران النجيد فيما نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ، انظر مجموع فتاوى (4/220) .
رد مع اقتباس
  #27  
قديم 27-01-2010, 01:44 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

شبهات الذين زعموا أنّ الرُّوح غير مخلوقة
الذين قالوا : إن الروح غير مخلوقة احتجوا بمثل قوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) [ الإسراء : 85 ] ، والجواب عن هذا من وجوه :
الأول : أن الروح هنا ليست روح الآدمي ، وإنما هو اسم ملك ، كما قال تعالى : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ) [ النبأ : 38 ] ، وقال : ( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) [ المعارج : 4 ] ، وقال : ( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم ) [القدر :4] وهذا قول معروف مشهور عند علماء السلف في تفسير الآية .
الثاني :وإذا قلنا : إن المراد بالروح هنا روح الآدمي – كما هو قول جمع من علماء السلف في الآية – فليس فيها ما يدل على أن الروح غير مخلوقة ، وأنها جزء من ذات الله تعالى كما يقال هذه الخرقة من هذا الثواب ، بل المراد أنها تنسب إلى الله ، لأنها بأمره تكونت ، أو لأنها بكلمته كانت ، والأمر في القرآن يذكر ويراد به المصدر تارة ، ويراد به المفعول تارة أخرى ، وهو المأمور به ، كقوله تعالى : ( أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ) [النحل: 1] أي : المأمور به ، ويمكن أن يقال أيضاً : إن لفظة ( مِنْ ) في قوله : ( مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) لابتداء الغاية ، ومعلوم أن ( مِنْ ) تأتي لبيان الجنس ، كقولهم : باب من حديد ، وتأتي لابتداء الغاية ، كقولهم : خرجت من مكة ، فقوله : ( مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) ليس نصاً في أن الروح بعض الأمر ومن جنسه ، بل هي لابتداء الغاية إذ كونت بالأمر ، وصدرت عنه، وهذا معنى جواب الإمام أحمد في قوله : ( وَرُوحٌ مِّنْهُ ) حيث قال : ( وَرُوحٌ مِّنْهُ ) يقول: من أمره كان الروح ، كقوله تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) [ الجاثية : 13] ، ونظير هذا أيضاً قوله تعالى : ( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ) [ النحل : 53 ] .
فإذا كانت المسخرات والنعم من الله ، ولم تكن بعض ذاته ، بل منه صدرت ، لم يجب أن يكون معنى قوله في المسيح ( وَرُوحٌ مِّنْهُ ) ، أنها بعض ذاته (1) .
الشبهة الثانية : قوله تعالى في آدم : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) [الحجر : 29] ، وقوله في عيسى : ( فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ) [ الأنبياء : 91 ] ، قالوا : فقد أضاف الله الروح إلى نفسه ، وقد أجاب عن هذه الشبهة شارح الطحاوية فقال : " ينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله تعالى نوعان : صفات لا تقوم بأنفسها ، كالعلم والقدرة ، والكلام والسمع والبصر ، فهذه إضافة صفة إلى موصوف بها ، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له ، وكذا وجهه ويده سبحانه .
والثاني : إضافة أعيان منفصلة عنه ، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح كقوله: ( نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ) [الشمس : 13 ] وقوله : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ) [ الفرقان : 1 ] وقوله : ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ... ) [ الحج : 26 ] فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه ، لكن إضافة تقتضي تخصيصاً وتشريفاً ، يتميز بها المضاف إلى غيره " (2) .
--------------------------------
(1) للتوسع في هذا المبحث راجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/226-235) .
(2) شرح الطحاوية : ص442 ، وراجع رسالة الروح ، ومجموعة الرسائل المنيرية : (2/38) .
رد مع اقتباس
  #28  
قديم 27-01-2010, 01:44 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

أنواع النفوس
أخبرنا الحق أن النفوس ثلاثة أنواع : النفس الأمارة بالسوء : ( إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ ) [ يوسف : 53 ] ، والنفس اللوامة : ( وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) [ القيامة : 2 ] ، والنفس المطمئنة : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً - فَادْخُلِي فِي عِبَادِي - وَادْخُلِي جَنَّتِي )[ الفجر : 27-30 ] ، وليس المراد أن لكل إنسان ثلاثة نفوس ، وإنما المراد أن هذه صفات وأحوال لذات واحدة ، فإذا غلب على النفس هواها بفعلها للذنوب والمعاصي فهي النفس الأمارة بالسوء ، والنفس اللوامة هي التي تذنب وتتوب ، سميت لوامة ، لأنها تلوم صاحبها على الذنوب ، ولأنها تتلوم ، أي : تترد بين فعل الخير والشر ، والنفس المطمئنة هي التي تحب الخير والحسنات وتريدها، وتبغض الشر والسيئات وتكره ذلك ، وقد صار ذلك لها خلقاً وعادة وملكة (1) .
وقال شارح الطحاوية بعد أن ذكر أنواع النفوس : " والتحقيق : أنها نفس واحدة ، لها صفات ، فهي أمارة بالسوء ، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة ، تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها ، وتلوم بين الفعل والترك ، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة " (2) .
--------------------------------
(1) راجع رسالة العقل والروح لابن تيمية ، مجموعة الرسائل المنيرية : (2/41) .
(2) شرح الطحاوية: ص 445 .
رد مع اقتباس
  #29  
قديم 27-01-2010, 01:45 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

هل تموت النفوس
يقول ابن تيمية : " والأرواح مخلوقة بلا شك ، وهي لا تعدم ولا تفنى ، ولكن موتها بمفارقة الأبدان ، وعند النفخة الثانية تعاد الأرواح إلى الأبدان " (1) .
وقد تعرَّض شارح الطحاوية لهذه المسألة ، فقال : " واختلف الناس هل تموت الروح أم لا ؟ فقالت طائفة : تموت لأنها نفس ، وكل نفس ذائقة الموت ، .. وإذا كانت الملائكة تموت ، فالنفوس البشرية أولى بالموت ، وقال آخرون : لا تموت الأرواح ، فإنها خلقت للبقاء ، وإنما تموت الأبدان ، قالوا : وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها ، والصواب أن يقال : موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها ، فإن أريد بموتها هذا القدر ، فهي ذائقة الموت ، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية فهي لا تموت بهذا الاعتبار ، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب ، .. وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة ( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ) [ الدخان : 56 ] ، وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد " (2) .
--------------------------------
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/279) .
(2) شرح الطحاوية : ص (446) .
رد مع اقتباس
  #30  
قديم 27-01-2010, 01:45 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

مستقر الأرواح في البرزخ
أرواح العباد في البرزخ متفاوتة في منازلها ، وقد استقرأنا النصوص الواردة في ذلك فأفادتنا التقسيم التالي :
أولاً : أرواح الأنبياء ، وهذه تكون في خير المنازل في أعلى عليين ، في الرفيق الأعلى ، وقد سمعت السيدة عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر لحظات حياته يقول : " اللهمَّ الرفيق الأعلى " (1) .
الثاني : أرواح الشهداء ، وهؤلاء أحياء عند ربهم يرزقون ، قال تعالى : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) [آل عمران : 16] ، وقد سأل مسروق عبد الله بن مسعود عن هذه الآية ، فقال : " إنا قد سألنا عن ذلك ، فقال : " أرواحهم في أجواف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل " رواه مسلم في صحيحه (2) . وهذه أرواح بعض الشهداء لا كل الشهداء ، لأن منهم من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه ، كما في المسند عن عبد الله بن جحش : أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، مالي إن قتلت في سبيل الله ؟ قال : " الجنة " ، فلما ولّى ، قال : " إلا الدين ، سارني به جبري آنفاً " (3) .
الثالث : أرواح المؤمنين الصالحين : تكون طيوراً تعلق في شجر الجنة ، ففي الحديث الذي يرويه عبد الرحمن بن كعب بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنما نسمة المسلم طير يعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعها الله إلى جسده إلى يوم القيامة " رواه أحمد (4) .
والفرق بين أرواح المؤمنين وأرواح الشهداء ، أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح متنقلة في رياض الجنة ، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرض ، أما أرواح المؤمنين فإنها في أجواف طير يعلق ثمر الجنة ولا ينتقل في أرجائها . وكون أرواح المؤمنين في أجواف طير يعلق شجر الجنة لا يشكل عليه الحديث الآخر الذي يرويه أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفيه أن الملائكة تقبض روح العبد المؤمن ، وترقى به إلى السماء ، فتقول الملائكة : " ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض ، فيأتون به أرواح المؤمنين ، فلهم أشدُّ فرحاً من أحدكم بغائبه يقدم عليه ، فيسألونه : ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان ؟ فيقولون : دعوه ، فإنه كان في غم الدنيا ، فيقول : قد مات ، أما أتاكم ؟ قالوا : ذهب به إلى أمه الهاوية " (5) ، فإن روح المؤمن تلتقي بأرواح المؤمنين في الجنة .
الرابع : أرواح العصاة :سبق أن أوردت النصوص التي تبين ما يلاقيه العصاة من العذاب ، فمن ذلك أن الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق يعذب بكلوب من حديد يدخل في شدقه حتى يبلغ قفاه ، والذي نام عن الصلاة المكتوبة يشدخ رأسه بصخرة ، والزناة والزواني يعذبون في ثقب مثل التنور ، ضيق أعلاه ، وأسفله واسع ، توقد النار من تحته ، والمرابي يسبح في بحر من دم ، وعلى الشط من يلقمه حجارة (6) . وقد ذكرنا الأحاديث التي تتحدث عن عذاب الذي لم يكن يستنزه من بوله ، والذي يمشي بالنميمة بين الناس ، والذي غلَّ من الغنيمة ونحو ذلك .
الخامس : أرواح الكفار :في حديث أبي هريرة عند النسائي بعد وصف حال المؤمن إلى أن يبلغ مستقره في الجنة ، ذكر حال الكافر ، وما يلاقيه عند النزع ، وبعد أن تقبض روحه " تخرج منه كأنتن ريح ، حتى يأتون به باب الأرض ، فيقولون : ما أنتن هذه الريح ، حتى يأتون به أرواح الكفار " (7).
--------------------------------
(1) صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، باب من أحب لقاء الله ، فتح الباري : (11/357) .
(2) مشكاة المصابيح : (2/351) ، وللحديث تتمة .
(3) قال الشيخ ناصر الدين الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية : ص 445 (صحيح) ، وقد سقنا من قبل أكثر من حديث في هذا المعنى .
(4) أورده الشيخ ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة : (2/730) ، حديث رقم (995) ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ورواه ابن ماجة في سننه ، ومالك في موطئه ، والنسائي بلفظ : ( إن أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر ، تعلق بشجر الجنة ) .
(5) رواه النسائي ، كتاب الجنائز ، باب ما يلقى المؤمن من الكرامة عند خروج نفسه : (4/8) .
(6) سبق أن سقنا هذا الحديث بطوله ، انظر ص (64-65) ، والحديث رواه البخار في صحيحه .
(7) رواه النسائي ، كتاب الجنائز ، باب ما يلقى المؤمن من الكرامة عند خروج نفسه ، (4/8) .
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 04:37 AM.