|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#16
|
||||
|
||||
![]() المطلب الثاني صفة نعيم القبر وعذابه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب أن الملائكة تسأل العبد المؤمن في قبره فيحسن الإجابة وعند ذاك : " ينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له باباً إلى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له في قبره مدّ بصره ، قال : ويأتيه [ وفي رواية : يمثل له ] رجل حسن الوجه حسن الثياب ، طيب الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسرك ، [ أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم ] هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له : [ وأنت فبشرك الله بخير ] من أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير ، فيقول : أنا عملك الصالح [ فو الله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله ، بطيئاً في معصية الله ، فجزاك الله خيراً ] ، ثم يفتح له باب من الجنة ، وباب من النار ، فيقال : هذا منزلك لو عصيت الله ، أبدلك الله به هذا ، فإذا رأى ما في الجنة ، قال : ربِّ عجل قيام الساعة ، كيما أرجع إلى أهلي ومالي ، [ فيقال له : اسكن ] " .وذكر صلوات الله عليه وسلامه أن العبد الكافر (1) أو الفاجر بعد أن يسيء الإجابة " ينادي منادٍ في السماء أن كذب ، فافرشوا له من النار ، وافتحوا له باباً إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ، ويضيق عليه في قبره ، حتى تختلف فيه أضلاعه ، ويأتيه ( وفي رواية : ويمثل له ) رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسوؤك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : [ وأنت فبشرك الله بالبشر ] ، من أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر ، فيقول : أنا عملك الخبيث ، [ فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله ، سريعاً إلى معصية الله ] ، [ فجزاك الله شراً ، ثم يقيض الله له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة ، لو ضرب بها جبل كان تراباً ، فيضربه حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده كما كان ، فيضربه ضربة أخرى ، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين ، ثم يفتح له باب من النار ، ويمهد من فرش النار ] ، فيقول : رب لا تقم الساعة " (2) . وفي حديث أنس أن العبد المؤمن إذا أجاب الإجابة الصادقة في قبره ، " يقال له : انظر إلى مقعدك من النار ، أبدلك الله به مقعداً من الجنة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعاً ، قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح له في قبره " وذكر في حديث أنس أن الكافر والمنافق بعد أن يجيب في قبره تلك الإجابة الكاذبة ، يقال له : " لا دريت ، ولا تليت ، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه ، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين " أخرجه البخاري ومسلم ، ولفظ الحديث للبخاري ، ولمسلم : " إن العبد إذا وضع في قبره ، ثم ذكر نحواً مما تقدم إلى قوله : وذكر لنا : أنه يفسح فيه سبعين ذراعاً ، ويملأ عليه خضراً إلى يوم تبعثون " ، وفي رواية لأبي داود أن العبد المؤمن بعد أن يسأل ويجيب : " ينطلق به إلى بيت كان له في النار ، فيقول له : هذا كان لك ، ولكن الله عصمك ، فأبدلك به بيتاً في الجنة ، فيراه ، فيقول : دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي ، فيقال له : اسكن " (3) . وهذا الذي أشارت إليه الأحاديث من أنَّ كل إنسان يعرض عليه مقعده بعد أن يسأل في قبره مستمر طيلة بقائه في القبر ، وقد صرح بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة " (4) . وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملكين يقولان للعبد المؤمن بعد أن يجيب الإجابة السديدة : " قد كنا نعلم أنك تقول ذلك ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين ، ثم ينور له فيه ، ثم يقال له : نم ، فيقول ، أرجع إلى أهلي فأخبرهم ، فيقولان : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك " . وأنهما يقولان للمنافق : " قد كنا نعلم أنك تقول ذلك ، فيقال للأرض : التئمي عليه ، فتلتئم عليه ، فتختلف أضلاعه ، فلا يزال معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك " (5) . -------------------------------- (1) هذه اللفظ ومثله كثير في الأحاديث يرد على ابن عبد البرّ والسيوطي والحكيم والترمذي ومن ذهب مذهبهم من القائلين بأن عذاب القبر لعصاة المؤمنين دون الكفار . (2) حديث صحيح ، سبق تخريجه في ص(22) . (3) انظر هذه الروايات في جامع الأصول : (11/173) . (4) رواه البخاري ، كتاب الجنائز ، باب الميت يعرض عليه مقعده في الغداة والعشي ، فتح الباري : (3/243) ، ورواه مسلم في كتاب الجنة ، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار ، (4/2199) حديث رقم (2866) . (5) حديث حسن رواه الترمذي في سننه . كتاب الجنائز ، باب ما جاء في عذاب القبر : (3/383) حديث رقم : (1071) . |
#17
|
||||
|
||||
![]() المطلب الثالث هل يعذب المسلمون في قبورهم قال القرطبي : " قال أبو محمد عبد الحق : اعلم أن عذاب القبر ليس مختصاً بالكافرين، ولا موقوفاً على المنافقين ، بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين ، وكل على حاله من عمله ، وما استوجبه من خطيئته وزللـه " (1) ، والأدلة على أن المؤمن قد يعذب في قبره بسبب ذنوبه كثيرة ، وسيأتي ذكر طائفة منها في المبحث التالي .-------------------------------- (1) تذكرة القرطبي : 146 . |
#18
|
||||
|
||||
![]() المطلب الرابع أسباب عذاب القبر " الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور على قسمين : مجمل ومفصّل ، أمّا المجمل فإنهم يعذبون على جهلهم بالله وإضاعتهم لأمره وارتكابهم معاصيه " (1) .أما المفصل فإن النصوص ذكرت منه الكثير ، وسنشير إلى ما اطلعنا على ذكره في الأحاديث : 1 ، 2 – عدم الاستتار من البول والنميمة : روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين ، فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، ثم قال: بلى ، أمّا أحدهما فكان يسعى بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله ، ثم قال : ثم أخذ عوداً رطباً فكسره باثنتين ، ثم غرز كل واحد منهما على قبر ، ثم قال : لعله يخفف عنهما ، ما لم ييبسا " (2) . وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : " دخلت عليَّ امرأة من اليهود ، فقالت : إن عذاب القبر من البول ، فقلت : كذبت ، فقالت : بلى ، إنا لنقرض منه الجلد والثوب ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ، وقد ارتفعت أصواتنا، فقال : ما هذا ؟ فأخبرته بما قالت فقال : صدقت . قالت : فما صلى بعد يومئذ إلا قال دبر كل صلاة : ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أعذني من حرّ النار وعذاب القبر " (3) . وهذا الذي أشار إليه الحديث من أن بني إسرائيل كانوا يقرضون من البول الجلد والثوب – هو من الدين الذي شرعه الله لهم ، ولذلك لما نهاهم عن فعل ذلك أحدهم عذب في قبره بسبب نهيه ، ففي حديث عبد الرحمن ابن حسنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل ، كانوا إذا أصابهم البول قطعوا ما أصابه البول منهم ، فنهاهم عن ذلك ، فعذب في قبره " (4) . وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن عامة عذاب القبر من البول ، فقد روى أنس رضي الله عنه ، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " تنزهوا من البول ، فإن عامة عذاب القبر منه " ، ورواه ابن عباس بلفظ : " عامة عذاب القبر من البول ، فتنزهوا منه " ورواه أبو هريرة بلفظ : " أكثر عذاب القبر من البول " (5) . 3- الغلول : ومن الذنوب التي يعذب صاحبها في القبر الغلول ، وقد صح في ذلك أكثر من حديث ، فعن أبي هريرة ، قال : أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً يقال له : مِدْعم ، فبينما مدعم يحط رحلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه سهم عائر (6) ، فقتله ، فقال الناس : هنيئاً له الجنة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " كلا ، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم ، لتشتعل عليه ناراً " . فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " شراك من نار أو شراكين من نار " (7) متفق عليه . وعن عبد الله بن عمرو ، قال : كان على ثقل (8) النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له : كَرْكرة ، فمات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو في النار " فذهبوا ينظرون إليه ، فوجدوا عباءة قد غلّها " رواه البخاري (9) . 4-7- الكذب ، هجر القرآن ، الزنا ، الربا : أرى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنواعاً مما يعذب به بعض العصاة ، ففي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال : من رأى منكم الليلة رؤيا ؟ قال : فإن رأى أحد قصها ، فيقول ما شاء الله " . فسألنا يوماً فقال : هل رأى أحدكم منكم رؤيا ؟ قلنا : لا ، قال : لكني رأيت الليلة رجلين أتياني ، فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة ، فإذا رجل جالس ، ورجل قائم بيده كلوب من حديد – قال بعض أصحابنا عن موسى : كلوب من حديد يدخله في شدقه – حتى يبلغ قفاه ، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ، ويلتئم شدقه هذا ، فيعود فيصنع مثله . قلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق . فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ، ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة ، فيشدخ به رأسه ، فإذا ضربه تدهده الحجر ، فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو ، فعاد إليه فضربه . قلت : من هذا ؟ قالا : انطلق . فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته ناراً ، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا ، فإذا خمدت رجعوا فيها ، وفيها رجال ونساء عراة . فقلت : من هذا ؟ قالا : انطلق . فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم ، فيه رجل قائم، على وسط النهر رجل بين يديه حجارة – قال يزيد ووهب بن جرير عن جرير بن حازم: وعلى شط النهر رجل – فأقبل الرجل الذي في النهر ، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان ، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان . فقلت : من هذا ؟ قالا : انطلق . فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة ، وفي أصلها شيخ وصبيان ، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها ، فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها ، فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان ، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل ، فيها شيوخ وشباب . قلت : طَوَّفتماني الليلة فأخبراني عما رأيتُ . قالا : نعم . أما الذي رأيته يُشَقُّ شِدْقُه فكذاب يحدّث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق ، فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة ، والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن ، فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار ، يُفعل به إلى يوم القيامة . والذي رأيته في الثقب فهم الزناة . والذي رأيته في النهر آكلوا الربا . والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام ، والصبيان حوله أولاد الناس . والذي يوقد النار مالك خازن النار . والدار الأولى التي دخلت عامة المؤمنين ، وأما هذه الدار فدارُ الشهداء . وأنا جبريل ، وهذا ميكائيل ، فارفع رأسك . فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب ، قالا : ذاك منزلك . قلت : دعاني أدخل منزلي . قالا : إنه بقي لك عمر لم تستكمله ، فلو استكملت أتيت منزلك " (10) . حبس المدين في قبره بدينه : ومما يضر الميت في قبره ما عليه من دين ، فعن سعد بن الأطول رضي الله عنه : " أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم ، وترك عيالاً ، قال : فأردت أن أنفقها على عياله ، قال : فقال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم : " إن أخاك محبوس بدينه ، [فاذهب] فاقض عنه ، [فذهبت فقضيت عنه ، ثم جئت] ، قلت : يا رسول الله ، قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة ، وليست لها بيِّنه ، قال : أعطها فإنه محقة ، (وفي رواية صادقة) (11)" . فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الصحابي محبوس بسبب دينه ، ويمكن أن يُفسِّر هذا الحبس الحديث الآخر حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنه مأسور بدينه عن الجنة " ، ففي الحديث الذي يرويه سمرة بن جندب " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ، (وفي رواية صلى الصبح) ، فلما انصرف قال : أههنا من آل فلان أحد ؟ [ فسكت القوم ، وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا ] ، فقال ذلك مراراً ، [ ثلاث لا يجيبه أحد ] ، [ فقال رجل : هو ذا ] ، قال : فقام رجل يجر إزاره من مؤخر الناس ، [ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني ؟ ] أما إني لم أنوِّه باسمك إلا لخير ، إن فلاناً – لرجل منهم – مأسور بدينه [ عن الجنة ، فإن شئتم فافدوه ، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله ] ، فلو رأيت أهله ومن يتحرَّون أمره قاموا فقضوا عنه ، [ حتى ما أحد يطلبه بشيء ] (12) . عذاب الميت ببكاء الحي : عندما طُعِن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه صهيب يبكي ، يقول : وا أخاه ، واصاحباه ، فقال عمر رضي الله عنه : يا صهيب أتبكي عليَّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الميت يُعَذَّب ببعض بكاء أهله عليه " (13) . وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال هذا الحديث ، ففي صحيح البخاري أن ابن عباس ذكر لعائشة ما قاله عمر بعد وفاته ، فقالت : رحم الله عمر ، والله ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ، حسبكم القرآن ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [فاطر :18] (14) ، وقد أولت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث أكثر من تأويل ، ورد ذلك عنها في الصحاح والسنن (15) . وها هنا أمران : الأول هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث ؟ قال القرطبي : " إنكار عائشة ذلك ، وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ، ولم يسمع بعضاً بعيد ، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون ، وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح " (16) . الثاني :كيف يعذب ببكاء أهله عليه ، وليس ذلك من فعله ، والله يقول : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [فاطر : 18] . للعلماء في ذلك أجوبة أحسنها ما قاله البخاري في ترجمة الباب الذي وضع الحديث تحته ، قال رحمه الله تعالى : " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته " لقول الله تعالى : ( قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ) [التحريم : 6] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع ومسؤول عن رعيته " فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [فاطر : 18] (17) وممن ذهب هذا المذهب الترمذي رحمه الله ، فإنه روى حديث عمر رضي الله عنه بلفظ " الميت يعذب ببكاء أهله عليه " ثم قال: " قال أبو عيسى (هو الترمذي) : حديث عمر حديث حسن صحيح ، وقد كره قوم من أهل العلم البكاء على الميت ، قالوا : الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، وذهبوا إلى هذا الحديث ، وقال ابن المبارك : أرجو إن كان ينهاهم في حياته ، أن لا يكون عليه من ذلك شيء " (18) . وهذا الفقه للحديث هو مذهب القرطبي رضي الله عنه ، فإنه قال : " قال بعض العلماء أو أكثرهم : إنما يعذب الميت ببكاء الحي إذا كان البكاء من سنة الميت واختياره ، كما قال : إذ أنا مت فانعيني بما أنا أهله ××× وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد وكذلك إذا وصى به (19) ." وقد كان النواح ولطم الخدود وشق الجيوب من شأن أهل الجاهلية ، وكانوا يوصون أهاليهم بالبكاء ، والنوح عليهم ، وإشاعة النعي في الأحياء ، وكان ذلك مشهوراً من مذاهبهم ، وموجوداً في أشعارهم كثيراً ، فالميت تلزمه العقوبة في ذلك لما تقدم إليهم في وقت حياته " كذا قال ابن الأثير (20) . وينبغي أن ينبه هنا إلى لفظ البخاري ، فقد جاء فيه : " يعذب ببعض بكاء أهله عليه" ، ولا يعذب بكل البكاء ، فالبكاء الذي تدمع فيه العين ، ولا شق ، ولا لطم معه لا يؤاخذ صاحبه به ، وقد جاءت في ذلك نصوص كثيرة . وقد تعرض العلامة ابن تيمية للمسألة وضعف مذهب البخاري والقرطبي وابن عبد البرَّ ومن سلك مسلكهم في فقه الأحاديث التي أخبرت أن الميت يعذب ببكاء الحي ، فقد قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر النصوص الواردة في ذلك : " وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف ، واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره ، فهو مخالف لقوله تعالى : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )[فاطر : 18] ، ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة . فمنهم من غلَّط الرواة لها ، كعمر بن الخطاب وغيره ، وهذه طريقة عائشة والشافعي، وغيرهما . ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على إيصائه ، وهو قول طائفة كالمزني ، وغيره . ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كان عادتهم ، فيعذب على ترك النهي عن المنكر ، وهو اختيار طائفة منهم جدى أبو البركات ، وكل هذه الأقوال ضعيفة جداً " (21) وقد رد قول الذين ردوا هذه الأحاديث بنوع من التأويل ، فقال: " والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وأبو موسى الأشعري وغيرهم ، لا ترد بمثل هذا ، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لها مثل هذا نظائر ، ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه ، ولا يكون الأمر كذلك ، ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئاً " (22) . ثم بين رحمه الله تعالى أن عائشة وقعت في مثل ما فرت عنه ، قال : " وعائشة رضي الله عنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظين – وهي الصادقة فيما نقلته – فروت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه " ، وهذا موافق لحديث عمر ، فإنه إذا جاز أن يزيده عذاباً ببكاء أهله ، جاء أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله ، ولهذا رد الشافعي في " مختلف الحديث " هذا الحديث نظراً إلى المعنى ، وقال الأشبه روايتها الأخرى : " إنهم يبكون عليه ، وإنه ليعذب في قبره " (23) . ورد قول الذين ظنوا أن الحديث يفيد معاقبة الإنسان بذنب غيره ، فقال : " والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه ، ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره، وأن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، واعتقد هؤلاء أن الإنسان يعاقب بذنب غيره، فجوزوا أن يدخل أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم (24) وبعد أن أطال النفس في هذه المسألة : مسألة دخول أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم ، وأن هذا ليس بصواب من القول ، وأن الحق أن الله لا يعذب إلا من عصاه ، وأن الذين لم يبتلوا يمتحنون في ***ات القيامة ، قال : " وأما تعذيب الميت : فهو لم يقل : إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه ، بل قال : " يعذب " ، والعذاب أعمُّ من العقاب ، فإن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " السفر قطعة من العذاب ، يمْنَعُ أحدكم طعامه وشرابه " ، فسمى السفر عذاباً ، وليس هو عقاباً . والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها ، مثل الأصوات الهائلة ، والأرواح الخبيثة ، والصور القبيحة ، فهو يتعذب بسماع هذا وشَمِّ هذا ، ورؤية هذا ، ولم يكن ذلك عملاً له عوقب عليه ، فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة ، وإن لم تكن النياحة عملاً له ، يعاقب عليه ؟ والإنسان في قبره يعذب بكلام بعض الناس ، ويتألم برؤية بعضهم ، وبسماع كلامه، ولهذا أفتى القاضي أبو يعلى بأن الموتى إذا عمل عندهم المعاصي فإنهم يتألمون بها ، كما جاءت بذلك الآثار ، فتعذبهم بعمل المعاصي عند قبورهم كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم ، ثم النياحة سبب العذاب " (25) . وهذا الفقه الذي صار إليه الشيخ العلامة جاءت بعض الأحاديث دالة عليه ، فعن النعمان بن بشير ، قال : " أغمي على عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، فجعلت أخته عمرة تبكي : واجبلاه ، واكذا ، واكذا ، تعدد عليه ، فقال حين أفاق : ما قلت شيئاً إلا قيل لي ، أنت كذلك ؟! فلما مات لم تبك عليه " (26) بل إن هذا المعنى ورد صريحاً في الحديث الذي يرويه أبو موسى الأشعري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ميت يموت ، فيقوم باكيه ، فيقول : واجبلاه ! واسيداه ! أو نحو ذلك ، إلا وكل به ملكان يلهزانه : أهكذا كنت " رواه الترمذي . وقال : هذا حديث حسن غريب (27) ، وقال الحافظ في التلخيص بعد سياقه لهذا الحديث : " ورواه الحاكم وصححه ، وشاهده في الصحيح عن النعمان بن بشير " (28) . وينبغي أن ينبه هنا أنه ليس كل ميت يناح عليه يعذب بالنياح عليه ، فقد يندفع حكم السبب بما يعارضه – كما يقول ابن تيمية – كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة ، والأرواح والصور الخبيثة . ثم ذكر أن أحاديث الوعيد يذكر فيها السبب ، وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك ، إما بتوبة مقبولة ، وإما بحسنات ماحية ، وإما بمصائب مكفرة ، وإما بشفاعة شفيع مطاع ، وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته . وبين في خاتمة كلامه أن ما يصيب الميت المؤمن من عذاب في قبره بما نيح عليه يكفر الله به عن سيئاته (29) . -------------------------------- (1) لوامع الأنوار البهية: (2/17) . (2) رواه البخاري ، واللفظ له في كتاب الجنائز ، باب عذاب القبر من الغيبة والبول ، فتح الباري : (3/242) ، ورواه مسلم في كتاب الإيمان ، باب الدليل على نجاسة البول ، (1/240) ، حديث رقم (292) ، ورواه النسائي : (4/106) . (3) رواه النسائي في سننه ، انظر جامع الأصول : (11/167) . (4) عزاه في صحيح الجامع (11/416) إلى أبي داود والترمذي ، وابن ماجة وابن حبان والحاكم . (5) وقد خرجه الشيخ ناصر في ( إرواء الغليل ) ، وقال : صحيح ، وعزا رواية أنس إلى الدارقطني ورواية ابن عباس إلى الدارقطني والحاكم والبزار والطبراني ، ورواية أبي هريرة إلى ابن أبي شيبة وابن ماجة والآجري والحاكم وأحمد ، انظر إرواء الغليل : (1/311) ، حديث رقم (280) . (6) عائر : لا يدري من رماه . (7) مشكاة المصابيح : (2/401) . (8) الثقل : المتاع المحمول على الدابة . (9) صحيح البخاري : 3074 . (10) رواه البخاري في كتاب الجنائز ، فتح الباري (3/251) . (11) قال الشيخ ناصر الدين الألباني في أحكام الجنائز (ص:15) : أخرجه ابن ماجة : (2/82) ، وأحمد : (4/136 ، 5/7) ، والبيهقي : (10/142) ، وأحد إسناديه صحيح ، والآخر مثل إسناده عند ابن ماجة ، وصححه البوصيري في : (الزوائد) ، وسياق الحديث والرواية الثانية للبيهقي ، وهذه الزيادات لأحمد في رواية . (12) قال الشيخ ناصر الدين الألباني في أحكام الجنائز (ص:15) : أخرجه أبو داود (2/84) ، والنسائي : (2/233)، والحاكم (2/25 ، 26) ،والبيهقي (6/4/76) والطيالسي في مسنده (رقم891 ، 892) وكذا أحمد (5/11 ، 13 ، 20) بعضهم عن الشعبي عن سمرة ، وبعضهم أدخل بينهما سمعان بن مُشَنّج ، وهو على الوجه الأول صحيح على شرط الشيخين ، كما قال الحاكم ووافقه الذهبي ، وعلى الوجه الثاني صحيح فقط ، وقد ذكر الشيخ هناك من أخرج الروايات والزيادات . (13) الحديث رواه البخاري ، كتاب الجنائز ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه " فتح الباري : (3/151) ، ورواه مسلم أيضاً ، انظر جامع الأصول : (11/92) . (14) صحيح البخاري ، كتاب الجنائز ، انظر فتح الباري : (3/151) . (15) إذا شئت الإطلاع على هذه التأويلات ارجع إلى فتح الباري : (3/152) . (16) فتح الباري : (3/154) . (17) انظر فتح الباري : (3/150) . (18) سنن الترمذي : (3/326) . (19) التذكرة ، للقرطبي : (102) . (20) جامع الأصول ، لابن الأثير : (102) . (21) مجموع الفتاوى : (24/370) . (22) المصدر السابق : (24/370) . (23) مجموع الفتاوى : (24/371) . (24) المصدر السابق . (25) مجموع الفتاوى : (24/371) . (26) رواه البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة مؤتة . (27) سنن الترمذي ، كتاب الجنائز ، باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت ، (3/326) ، حديث رقم : (1003) . (28) تلخيص الحبير لابن حجر : 2/140 ، حديث رقم (806) . (29) مجموع الفتاوى : (4/375) . |
#19
|
||||
|
||||
![]() المطلب الخامس المنجيات من فتنة القبر وعذابه الذي ينجي المرء من عذاب القبر أن يكون مستعداً للموت ، مشمراً له ، حتى إذا فاجأه الموت لم يعض أصْبعَ الندم ، ومن الاستعداد للموت الإسراع في التوبة ، وقضاء الحقوق ، والإكثار من الأعمال الصالحة ، فإن الإيمان والصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد وبر الوالدين وصلة الأرحام وذكر الله عز وجل وغيرها من صالح الأعمال تحفظ العبد المؤمن ، وبها يجعل الله له من كل هَمّ فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً .وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأعمال الصالحة تحرس الإنسان في قبره، يقول ابن تيمية : " في الحديث المشهور حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو حاتم في صحيحه ، وقد رواه الأئمة قال : " إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه ، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه ، وكان الصيام عن يمينه ، وكانت الزكاة عن يساره ، وكان فعل الخيرات من الصدق والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه . فيؤتى من عند رأسه ، فتقول الصلاة : ما قبلي مدخل ، ثم يؤتى عن يمينه ، فيقول الصيام : ما قبلي مدخل ، ثم يؤتى عن يساره ، فتقول الزكاة : ما قبلي مدخل ، ثم يؤتى من قبل رجليه : فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس : ما قبلي مدخل . فيقال له : اجلس ، فيجلس ، قد مثلت له الشمس وقد دنت للغروب ، فيقال له : ما هذا الرجل الذي كان فيكم ، ما تقول فيه ؟ فيقول : دعوني ، حتى أصلي ، فيقولون : إنك ستفعل ، أخبرنا عما نسألك عنه ، فقال : عمَّ تسألوني ؟ فيقولون : ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم ، ما تشهد به ؟ فيقول : أشهد أنه رسول الله ، وأنه جاء بالحق من عند الله ، فيقال : على ذلك حييت ، وعلى ذلك مت ، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله تعالى ، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة ، فيقال له : ذلك مقعدك منها ، وما أعد الله لك فيها ، فيزداد غبطة وسروراً ، ثم يفتح له باب من أبواب النار ، فيقال : ذلك مقعدك منها، وما أعدَّ الله لك فيها ، [ لو عصيت الله] ، فيزداد غبطة وسروراً ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً ، وينور له فيه ، ويعاد جسده كما بدئ ، وتجعل نسمته في نسم الطيب ، وهي طير تعلق في شجر الجنة " . وفي لفظ : " وهو طير يعلق في شجر الجنة " قال أبو هريرة : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) [ إبراهيم : 27 ] ، وفي لفظ : " ثم يعاد الجسد إلى ما بدى منه " . الاستعاذة بالله من فتنة القبر وعذاب القبر : لما كانت فتنة القبر وعذاب القبر من الأهوال الكبار ، والشدائد العظيمة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من ذلك في صلاته وفي غير صلاته ، وكان يأمر أصحابه بذلك . ففي حديث عائشة التي ذكرت فيه أمر اليهودية التي قالت لها : أعاذك الله من عذاب القبر ، فسألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر ؟ فقال : نعم ، عذاب القبر، قالت : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر ، زاد غندر : " عذاب القبر حق " (1) . وعن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول : " اللهمَّ إني أعوذ بك من العجز والكسل ، والجبن والبخل والهرم ، وأعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات " (2) . عن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم ، والمأثم والمغرم ، ومن فتنة القبر ، وعذاب القبر .. " (3) . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه : " تعوذوا بالله من عذاب القبر" فيقولون : " نعوذ بالله من عذاب القبر " (4) . وكان يقول لهم : " استجيروا بالله من عذاب القبر ، فإن عذاب القبر حق " (5) وكان يأمرهم أن يستعيذوا من أربع فيقول : " استعيذوا بالله من عذاب القبر ، استعيذوا بالله من جهنم ، استعيذوا بالله من فتنة المسيح الدجال ، استعيذوا بالله من فتنة المحيا والممات " (6) . وكان يأمرهم بالاستعاذة في الصلاة بعد التشهد من عذاب القبر ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع . يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر فتنة المسيح الدجال " (7) . وعن ابن عباس أن الرسول كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: " اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ، وأعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات " (8) . -------------------------------- (1) رواه البخاري في كتاب الجنائز ، والسياق له ، باب عذاب القبر ، فتح الباري : (13/232) ورواه مسلم ، كتاب المساجد ، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر : (1/410) . (2) قال الشيخ ناصر في صحيح الجامع (1/406) رواه أحمد ، والبخاري ومسلم . (3) عزاه في صحيح الجامع (1/407) إلى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة . (4) رواه مسلم ، كتاب الجنة ، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه : (4/2199) . (5) رواه الطبراني بإسناد صحيح ، انظر صحيح الجامع : (1/317) . (6) عزاه في صحيح الجامع : (1/320) إلى الترمذي والنسائي . (7) رواه مسلم في صحيحه ، كتاب المساجد ، باب ما يستعاذ منه في الصلاة ، (1/412) حديث رقم : (588) . (8) رواه مسلم في صحيحه ، كتاب المساجد ، باب ما يستعاذ منه في الصلاة (1/412) حديث رقم : (590) . |
#20
|
||||
|
||||
![]() المطلب السادس الذين يعصمون من فتنة القبر وعذابه بعض المؤمنين من الذين قاموا بأعمال جليلة ، أو أصيبوا بمصائب كبيرة يأمنون فتنة القبر وعذابه ، فمن هؤلاء :1- الشهيد : فقد روى المقدام بن معدي كرب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة ، ويرى مقعده في الجنة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين من أقربائه " رواه الترمذي وابن ماجة (1) . وروى النسائي في سننه عن راشد بن سعد بن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال : يا رسول الله ! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة " (2) . 2- الذي مات مرابطاً(3) في سبيل الله ، فقد روى فضالة بن عبيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله ؟ فإنه ينمي له عمله يوم القيامة ، ويأمن فتنة القبر " رواه الترمذي وأبو داود (4) . 3- الذي يموت يوم الجمعة ،ففي الحديث عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " ما من مسلم يموت يوم الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر " رواه أحمد والترمذي ، والحديث صحيح بمجموع طرقه أو حسن (5) . 4- الذي يموت بداء البطن ، وقد ثبت في حديث يرويه عبد الله بن يسار ، قال : " كنت جالساً وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة ، فذكروا أن رجلاً توفي مات ببطنه ، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهدا جنازته ، فقال أحدهما للآخر : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره " ؟ فقال الآخر : بلى ، وفي رواية : صدقت (6) . -------------------------------- (1) مشكاة المصابيح : (2/358) ، وإسناده صحيح كما قال محقق المشكاة الشيخ ناصر الدين الألباني . (2) وسنده صحيح ، انظر أحكام الجنائز للشيخ ناصر الدين الألباني : (36) وصحيح الجامع : (4/164) . (3) الرباط : هو الملازمة في سبيل الله مأخوذة من ربط الخيل ، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور المسلمين مرابطاً : فارساً كان أو راجلاً ، واللفظة مأخوذة من الرباط . (4) مشكاة المصابيح: (2/355) ، وإسناده صحيح كما قال محقق المشكاة . (5) رواه أحمد ، والترمذي ، والحديث بمجموع طرقه صحيح أو حسن ، أحكام الجنائز (35) . (6) قال الشيخ ناصر في أحكام الجنائز : أخرجه النسائي : والترمذي حسنه ، وابن حبان في صحيحه ، والطيالسي ، وأحمد ، وسنده صحيح ، ( أحكام الجنائز ص38) . |
#21
|
||||
|
||||
![]() عِظَة المَوت المطلب الأول الموت أعظم واعظ سقنا إليك طرفاً من النصوص التي تحدث عن الموت وسكراته ، والقبر وأهواله ، والعاقل من اعتبر ، فإن الموت أكبر واعظ ، وقد قيل لبعض الزهاد : ما أبلغ العظات ؟ قال : النظر إلى الأموات (1) ، وقد أحسن القرطبي في وصف الموت حيث يقول : " اعلم أن الموت هو الخطب الأفظع ، والأمر الأشنع ، والكأس الذي طعمهما أكره وأبشع ، وأنه الأهذم للذات ، والأقطع للراحات ، والأجلب للكريهات ، فإن أمراً يقطع أوصالك ، ويفرق أعضاءك ، ويهدم أركانك ، لهو الأمر الفظيع ، والخطب الجسيم ، وإن يومه لهو اليوم العظيم " (2) . المطلب الثاني التفكر في الموت كما أن الحياة آية من آيات الله فالموت كذلك آية أخرى تضاد الحياة ، ولكنها لا تقل عنها عجباً ، ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [ البقرة : 28 ] .والتفكر في هذه الآية تفكر في خلق من خلق الله وعجائبه الدالة على عظيم قدرة الله، وعجيب أمره ، يروى أن أعرابياً كان يسير على جمل له ، فخر ميتاً ، فنزل الأعرابي عنه ، وجعل يطوف به ، ويتفكر فيه ، ويقول : مالك لا تقوم ؟ مالك لا تنبعث ؟ هذه أعضاؤك كاملة ، وجوارحك سالمة . ما شأنك ؟ ما الذي كان يحملك ؟ ما الذي كان يبعثك ؟ ما الذي صرعك ؟ ما الذي عن الحركة منعك ؟ ثم انصرف متفكراً في شأنه ، متعجباً من أمره (3) . وأُنشد في بعض الشجعان مات حتف أنفه (4) : جاءته من قِبَل المنون إشارة ××× فهوى صريعاً لليدين وللفم ورمى بمحكم درعه وبرمحه ××× وامتد ملقى كالفنيق الأعظم لا يستجيب لصارخ إن يدعه ××× أبداً ولا يرجى لخطب معظم ذهبت بسالته ومرَّ مراره ××× لما رأى حبل المنية يرتمي يا ويحه من فارس ما باله ××× ذهبت مرارته ولما يُكْلَم هذي يداه وهذه أعضاؤه ××× ما منه عضو غداً بمثلم هيهات ما حبل الردى محتاجه ××× للمشرفي ولا اللسان اللهذم هي ويحكم أمر الإله وحكمه ××× والله يقضي بالقضاء المحكم المطلب الثالث نماذج من عظات الواعظين وعظ الله رسوله بالموت فقال : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) [ الزمر : 30 ] ، وفي الحديث الذي يرويه الطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الحلية ، والحاكم في مستدركه ، وغيرهم عن علي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني جبريل ، فقال : يا محمد ، عش ما شئت ، فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزى به ، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزه استغناؤه عن الناس " (5) .وقد سقنا كثيراً من النصوص التي وعظنا الله ورسوله فيها بالموت ، وقد كان هذا دأب الصالحين يعظون أنفسهم بالموت ، ويعظون الناس به ، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " ارتحلت الدنيا مدبرة ، وارتحلت الآخرة مقبلة ، ولكل واحدة بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل " رواه البخاري في ترجمة باب : الأمل وطوله (6) . ومن عظات العلماء ما جاء في تذكرة القرطبي : " تفكر يا مغرور في الموت وسكرته ، وصعوبة كأسه ومرارته ، فيا للموت من وعد ما أصدقه ، ومن حاكم ما أعدله ، كفى بالموت مفزعاً للقلوب ، ومبكياً للعيون ، ومفرقاً للجماعات ، وهادماً للذات ، وقاطعاً للأمنيات . فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك ، وانتقالك من موضعك ، إذا نقلت من سعة إلى ضيق ، وخانك الصاحب والرفيق ، وهجرك الأخ والصديق ، وأخذت من فراشك وغطائك إلى غرر ، وغطوك من بعد لين لحافها بتراب ومدر ، فيا جامع المال ، والمجتهد في البنيان ، ليس لك من مالك والله إلا الأكفان ، بل هي للخراب والذهاب ، وجسمك للترائب والمئاب . فأين الذي جمعته من المال ؟ فهل أنقذك من الأهوال ، كلا بل تركته لمن لا يحمدك ، وقدم بأوزارك على من لا يعذرك " (7) . ونقل القرطبي رحمه الله عن يزيد الرقاشي أنه كان يقول لنفسه : " ويحك يا زيد من ذا يصلي عنك بعد الموت ؟ من ذا يصوم عند بعد الموت ؟ من ذا يرضي عنك ربك بعد الموت ؟ " . ثم يقول : " يا أيها الناس ، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم ؟ من القبر طالبه ، والقبر بيته ، والتراب فراشه ، والدود أنيسه ، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر ، كيف يكون حاله ؟ " (8) . وقال القرطبي رحمه الله في موضع آخر : " مَثِّلْ نفسك يا مغرور وقد حلت بك السكرات ، ونزل بك الأنين والغمرات ، فمن قائل يقول : إن فلاناً قد أوصى ، وماله قد أحصى ، ومن قائل يقول : إن فلاناً ثقل لسانه ، فلا يعرف جيرانه ، ولا يكلم إخوانه ، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب ، ولا تقدر على رد الجواب . فَخَيِّل لنفسك ، يا ابن آدم إذا أخذت لفراشك إلى لوح مغسلك ، فغسلك الغاسل ، وألبست الأكفان ، وأوحش منك الأهل والجيران ، وبكت عليك الأصحاب والإخوان ، وقال الغاسل : أين زوجة فلان تحاللـه ، وأين اليتامى ترككم أبوكم فما ترونه بعد هذا اليوم أبداً ، وأنشدوا : ألا أيها المغرور مالك تلعب ××× تؤمل آمالاً وموتك أقرب وتعلم أن الحرص بحر مبعد ××× سفينته الدنيا فإياك تعطب وتعلم أن الموت ينقض مسرعاً ××× عليك يقيناً طعمه ليس يعذب كأنك توصي واليتامى تراهم ××× وأمهم الثكلى تنوح وتندب تغص بحزن ثم تلطم وجهها ××× يراها رجال بعدما هي تحجب وأقبل بالأكفان نحوك قاصد ××× ويحثي عليك الترب والعين تسكب (9) ومن عظات الصحابي الجليل أبي الدرداء قوله : " أضحكني ثلاث ، وأبكاني ثلاث ، أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه ، وغافل ليس بمغفول عنه ، وضاحك بملء فيه ، وهو لا يدري أأرضى الله أم سخطه ؟! .وأبكاني فراق الأحبة محمد صلى الله عليه وسلم وحزبه ، وهول المطلع عند غمرات الموت ، والوقوف بين يدي الله ، يوم تبدو السريرة علانية ، ثم لا يدري إلى الجنة أو إلى النار " (10) . وقال أبو الدرداء أو أبو ذر : " تلدون للموت ، وتعمرون للخراب ، وتحرصون على ما يفنى ، وتذرون ما يبقى " (11) . وقال القرطبي في تذكرته واعظاً ناصحاً : " يا هذا ، أين الذي جمعته من الأموال ، وأعددته للشدائد والأهوال ، لقد أصبحت كفك منه عند الموت خالية صفراً ، وبدلت بعد غناك وعزك ذلاً وفقراً ، فكيف أصبحت يا رهين أوزاره ، ويا من سلب من أهله ودياره ؟ ما كان أخفى عليك سبيل الرشاد ، وأقل اهتمامك لحمل الزاد إلى سفرك البعيد ، وموقفك الصعب الشديد ، أو ما علمت يا مغرور أن لا بدَّ من الارتحال إلى يوم شديد الأهوال ، وليس ينفعك ثمَّ قيل ولا قال ، بل يعد عليك بين يدي الملك الديان ما بطشت اليدان ومشت القدمان ، ونطق به اللسان ، وعملت الجوارح والأركان ، فإن رحمك الله فإلى الجنة ، وإن كانت الأخرى فإلى الميزان . يا غافلاً عن هذه الأحوال إلى كم هذه الغفلة والتوان ؟ أتحسب أن الأمر صغير ، وتزعم أن الخطب يسير ؟ وتظن أن سينفعك حالك إذا آن ارتحالك ، أو ينقذك مالك حين توبقك أعمالك ، أو يغني عنك ندمك إذا زلت بك قدمك ، أو يعطف عليك معشرك حين يضمك محشرك ، كلا والله ساء ما تتوهم ، ولا بدَّ أن ستعلم لا بالكفاف تقنع ، ولا من الحرام تشبع ، ولا للعظات تسمع ، ولا بالوعيد ترتدع ، دأبك أن تتقلب مع الأهواء ، وتخبط خبط العشواء ، يعجبك التكاثر بما لديك ، ولا تذكر ما بين يديك . يا نائماً في غفلة ، وفي خبطة يقظان ، إلى كم هذه الغفلة والتوان ، أتزعم أن ستُترك سُدَى ، وأن لا تحاسب غداً ، أم تحسب أن الموت يقبل الرِّشا ؟ أم تميز بين الأسد والرَّشا؟ كلا والله ، لن يدفع عنك الموت مالك ولا بنون ، ولا ينفع أهل القبول إلا العمل المبرور ، فطوبى لمن سمع ووعى ، وحقق ما ادعى ، ونهى النفس عن الهوى ، وعلم أن الفائز من ارعوى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى ، فانتبه من هذه الرقدة ، واجعل العمل الصالح لك عدة ، ولا تتمنَّ منازل الأبرار وأنت مقيم على الأوزار ، عامل بعمل الفجار ، وراقب الله في الخلوات ، ولا يغرنك الأمل ، فتزهد عن العمل .. ، وأنشدوا : تزود من معاشك للمعاد ××× وقم لله واعمل خير زاد ولا تجمع من الدنيا كثيراً ××× فإن المال يجمع للنفاد أترضى أن تكون رفيق قوم ××× لهم زاد وأنت بغير زاد وقال آخر : إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ××× ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون مثله ××× وأنك لم ترصد كما كان أرصدا (12) المطلب الرابع نماذج من عظات الشعراء وقد أكثر الشعراء من ذكر الموت والوعظ به ، فمن ذلك قول الشاعر : لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ××× يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه ××× والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له ××× والإنس والجن فيما بينها ترد أين الملوك التي كانت لعزتها ××× من كل أوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب ××× لا بد من ورده يوماً كما وردوا وقال الآخر : مشيناها خطا كتبت علينا ××× ومن كتبت عليه خطا مشاها وأرزاق لنا متفرقات ××× فمن لم تأته منا أتاها ومن كتبت منيته بأرض ××× فليس يموت في أرض سواها وقال آخر : وإذا وليت قوماً ليلة ××× فاعلم بأنك بعدها مسؤول وقال آخر :وإذا حَملتَ إلى القبور جنازة ××× فاعلم بأنك بعدها محمول تزود من الدنيا فإنك لا تدري ××× إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر وقال الآخر :فكم من عروس زينوها لزوجها ××× وقد أخذت أرواحهم ليلة القدر وكم من صغار يرجى طول عمرهم ××× وقد أدخلت أرواحهم ظلمة القبر وكم من سليم مات من غير علة ××× وكمن من سقيم عاش حيناً من الدهر وكم من فتى يمسي ويصبح لاهياً ××× وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري وكم من ساكن عند الصباح بقصره ××× وعند المسا قد كان من ساكن القبر فكن مخلصاً واعمل الخير دائماً ××× لعلك تحظى بالمثوبة والأجر وداوم على تقوى الإله فإنها ××× أمان من الأهوال في موقف الحشر هب الدنيا تساق إليك عفواً ××× أليس مصير ذاك إلى انتقال وقال آخر :وما دنياك إلا مثل فيء ××× أظلك ثم آذن بالزوال يا مقيماً قد حان منه رحيل ××× بعد ذاك الرحيل يوم عصيب وقال آخر :إن للموت سكرة فارتقبها ××× لا يداويك إن أتتك طبيب كم تواني حتى تصير رهيناً ××× ثم تأتيك دعوة فتجيب وتذكر يوماً تحاسب فيه ××× إن من يذكر الممات ينيب ليس من ساعة من الدهر إلا ××× للمنايا عليك رقيب كل يوم ترميك بسهم ××× إن تحظى يوماً فسوف تصيب الموت في كل يوم ينشر الكفنا ××× ونحن في غفلة عما يراد بنا وقال آخر :لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها ××× وإن توحشت من أثوابها الحسنا أين الأحبة والجيران ما فعلوا ××× أين الذين همو كانوا لنا سكنا سقاهم الموت كأساً غير صافية ××× فصيرتهم لأطباق الثرى رهناً قدم لنفسك توبة مرجوة ××× قبل الممات وقبل حبس الألسن بادر بها غلق النفوس فإنها ××× ذخر وغنم للمنيب المحسن المطلب الخامس أثر تذكر الموت في إصلاح النفوس إن لتذكر الموت أثراً كبيراً في إصلاح النفوس وتهذيبها ، ذلك أن النفوس تؤثر الدنيا وملذاتها ، وتطمع في البقاء المديد في هذه الحياة ، وقد تهفو إلى الذنوب والمعاصي ن وقد تقصر في الطاعات ، فإذا كان الموت دائماً على بال العبد ، فإنه يصغر الدنيا في عينه ، ويجعله يسعى في إصلاح نفسه ، وتقويم المعوج من أمره ، فقد روى البيهقي في شعب الإيمان ، وابن حبان في صحيحه والبزار في مسنده بإسناد حسن عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثروا ذكر هاذم اللذات : الموت ، فإنه لم يذكره في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها " (13) .ويذكر ابن المبارك أن صالحاً الـمُرّي كان يقول : " إن ذكر الموت إذا فارقني ساعة فسد على قلبي " (14) . وقال الدقاق : " من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة : تعجيل التوبة ، وقناعة القلب ، ونشاط العبادة ، ومن نسى الموت عوجل بثلاثة : تسويف التوبة ، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة " (15) . وقال القرطبي : " اعلم أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية ، والتوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية " (16) ويروى أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة في قلبها ، فقالت لها : أكثري من ذكر الموت يرق قلبك ، ففعلت ذلك فرق قلبها " (17) . وقال القرطبي : قال العلماء : تذكر الموت يردع عن المعاصي ، ويلين القلب القاسي، ويذهب الفرح بالدنيا ، ويهون المصائب (18) . وقال القرطبي أيضاً : قال العلماء – رحمهم الله – ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور ، وخاصة إن كانت قاسية ، فعلى أصحابها أن يعالجوها بثلاثة أمور : أحدها :الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ والتذكير والتخويف والترغيب وأخبار الصالحين ، فإن ذلك مما يلين القلوب . الثاني : ذكر الموت ، فيكثر من ذكر هادم اللذات ، ومفرق الجماعات ، وميتم البنين والبنات . الثالث : مشاهدة المحتضرين ، فإن النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته ونزعاته ، وتأمل صورته بعد مماته ، مما يقطع عن النفوس لذاتها ، ويطرد عن القلوب مسراتها ، ويمسح الأجفان من النوم ، والأبدان من الراحة ، ويبعث على العمل ، ويزيد في الاجتهاد والتعب (19) . وذكر عن الحسن البصري أنه دخل على مريض يعوده ، فوجده في سكرات الموت ، فنظر إلى كربه ، وشدة ما نزل به ، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم ، فقالوا له : الطعام يرحمكم الله ، فقال : يا أهلاه ، عليكم بطعامكم وشرابكم ، فوالله رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه (20) . وقال أبو الدرداء : " من أكثر ذكر الموت قل فرحه ، وقل حسده " (21) . -------------------------------- (1) التذكرة للقرطبي : 99 . (2) التذكرة للقرطبي : 24 . (3) التذكرة للقرطبي : ص4 . (4) التذكرة للقرطبي : ص5 . (5) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، (2/505) ، ورقم الحديث : (831) . (6) مشكاة المصابيح : (2/659) ، ورقم الحديث (5215) . (7) التذكرة : ص 9 . (8) التذكرة : ص 9 . (9) التذكرة : ص 21 . (10) التذكرة : ص 87 . (11) كتاب الزهد والرقائق ، لابن المبارك : ص 88 . (12) تذكرة القرطبي : 91 . (13) صحيح الجامع الصغير : (1/388) ، ورقم الحديث : (1222) . (14) الزهد والرقائق ، لابن المبارك : ص (88) . (15) تذكرة القرطبي : ص 9 . (16) تذكرة القرطبي : ص 8 . (17) التذكرة : ص 12 . (18) التذكرة : ص 12 . (19) تذكرة القرطبي : ص12 . (20) تذكرة القرطبي : ص 12 . (21) كتاب الزهد لابن المبارك : انظر آخر الكتاب : زوائد كتاب الزهد ، رواية نعيم بن حماد : ص 37 . |
#22
|
||||
|
||||
![]() الرُّوح والنفس تعريف وَبيَان لا بدَّ للباحث في أمر الإنسان بعد موته من إعطاء فكرة عن الروح التي تنعم أو تعذب بعد موتها ، ما هي ؟ وهل لها كيفية تعلم ؟ وهل هي جزء من البدن ، أم شيء آخر غير البدن ؟ فإن كانت غيره فأين مسكنها فيه ؟ وهل هي مخلوقة ؟ وهل هي واحدة في الإنسان أم متعددة ؟ وهل تموت الأرواح ، وكيف موتها ؟ وأين مستقرها في البرزخ ، وهل تعلم الأرواح شيئاً عما يجري في الدنيا من البرزخ ؟يقول ابن تيمية : " والروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه ، وهي النفس التي تفارقه بالموت " (1) ، وقد أخطأ الذين فرقوا بين الروح والنفس واعتقدوا أنهما أمران مختلفان ، ومن تأمل فيما سقناه في بحثنا من نصوص علم النفس هي التي تقبضها الملائكة ، وتصعد بها إلى السماء ، وتعود بها إلى الجسد ، وتسأل ، وتنعم وتعذب ، وهي الروح أيضاً التي إذا خرجت من الجسد تبعها البصر كما ثبت في الأحاديث . وهذا المخلوق الذي تكون به الحياة ، وتفقد الحياة بفقده يسمى روحاً ونفساً ، ولا يمنع هذا أن تطلق كل من الروح والنفس إطلاقات أخرى ، يقول ابن تيمية : " لفظ الروح والنفس يعبر بهما عن عدة معان : فيراد بالروح الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه ، ويراد بالروح البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق ، وهو الذي تسميه الأطباء الروح ، ويسمى الروح الحيواني ، فهذان المعنيان غير الروح التي تفارق بالموت التي هي النفس ، ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه ، وقد يراد بلفظ النفس الدم الذي يكون في الحيوان ، كقول الفقهاء : " ماله نفس سائلة ، وما ليس له نفس سائلة " فهذان المعنيان بالنفس ليسا هما معنى الروح " (2) . وتطلق الروح أيضاً على جبرائيل : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ) [ الشعراء : 193 ] ، وتطلق على القرآن ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ) [ الشورى : 52 ] . ويلاحظ شارح الطحاوية أن الروح والنفس وإن أطلقا على تلك اللطيفة الربانية ، إلا أن " غالب ما يسمى نفساً إذا كانت الروح متصلة بالبدن ، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها " (3) . ويقول ابن تيمية في هذا : " لكن تسمى نفساً باعتبار تدبيره للبدن ، وتسمى روحاً باعتبار لطفه ، ولهذا يسمى الريح روحاً ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الريح من روح الله " (4) أي من الروح التي خلقها الله " (5) . -------------------------------- (1) رسالة العقل والروح ، مجموعة الرسائل المنيرية :2/36 ، وانظر شرح العقيدة الطحاوية : 445 . (2) المصدر السابق : (2/39) . (3) شرح العقيدة الطحاوية : ص (444) . (4) رواه البخاري في الأدب المفرد ، وأبو داود والحاكم . (5) رسالة العقل والروح ، مجموع الرسائل المنيرية : (2/37) . |
#23
|
||||
|
||||
![]() هَل للرُّوح كيفيَّة تعلَم ؟ لما كنت الروح مخلوقة من جنس لا نظير له في عالم الموجودات فإننا لا نستطيع أن نعرف صفاتها ، فقد عرفنا الله أنها تصعد وتهبط ، وتسمع وتبصر وتتكلم إلى غير ذلك ، إلا أن هذه الصفات مخالفة لصفات الأجسام المعروفة ، فليس صعودها وهبوطها وسمعها وبصرها وقيامها وقعودها من جنس ما نعرفه ونعلمه ، فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروح يصعد بها إلى السماوات العلى ، ثم تعاد إلى القبر ، ساعة من الزمن ، وقد أخبرنا أنها تنعم أو تعذّب في القبر ، ولا شك أن هذا النعيم على نحو مخالف لما نعلمه ونعرفه .
|
#24
|
||||
|
||||
![]() استقلال الرًُّوح عَن البَدن " يرى فريق من أهل الكلام المبتدع المحدث من الجهمية والمعتزلة أن الروح جزء من أجزاء البدن ، أو صفة من صفاته ، كقول بعضهم : إنها النفس أو الريح التي تردد في البدن، وقول بعضهم : إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن " (1) ." والفلاسفة المشاؤون يقرون بأن النفس تبقى إذا فارقت البدن ، لكن يصفون النفس بصفات باطلة فيدعون أنها إذا فارقت البدن كانت عقلاً ، والعقل عندهم مجرد عن المادة وعلائق المادة ، والمادة عندهم هي الجسم ، والعقل عندهم قائم بنفسه ، لا يوصف بحركة ولا سكون ، ولا يتجدد له أحوال البتة " (2) . وقد تخبط هؤلاء وهؤلاء في مقالاتهم في الروح ، فأهل الكلام المبتدع المذموم الذين قالوا : إن الروح هي الحياة أو المزاج أو نفس البدن ، أنكر كثير منهم عذاب القبر ، فليس هناك روح تنعم أو تعذب بعد الموت في البرزخ . ورفضوا النصوص التي أثبتت ذلك . والفلاسفة الذين زعموا أن الروح إذا فارقت البدن تصبح عقلاً ، قالوا : " إذا فارقت البدن لا يتجدد لها حال من الأحوال لا علوم ولا تصورات ، ولا سمع ولا بصر ، ولا إرادات ، ولا فرح ولا سرور ، ولا غير ذلك مما قد يتجدد ويحدث ، بل تبقى عندهم على حال واحدة أزلاً وأبداً ، كما يزعمونه في العقل والنفس " (3) . " وفريق من الفلاسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم ، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود ، فيقولون لا هي داخل البدن ولا خارجه ، ولا مباينة له ، ولا مداخلة له ، ولا متحركة ولا ساكنة ، ولا تصعد ولا تهبط ، ولا هي جسم ولا عرض " (4) . والسبب الذي أوقع كلا الفريقين في هذا الخطأ أنهم اعتمدوا على عقولهم وما وضعوه من مقاييس في البحث عن أمر غيبي ، فالفريق الأول أنكر وجود روح مستقلة عن البدن ، وهذا تكذيب للنصوص المتواترة ، وإنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة ، والفلاسفة المشاؤون ومن سلك سبيلهم أثبتوا وجود الروح مستقلة عن البدن ، ولكن لما كانت هذه الروح " ليست من جنس هذا البدن ، ولا جنس العناصر والمولدات منها ، بل هي جنس آخر مخالف لهذه الأجناس " (5) صعب عليهم تعريفها وتصورها ، وضاقت تعبيراتهم ومقاييسهم عن حدها وتصورها . وقد هدى الله الذين استجابوا لله ورسوله ، وآمنوا بما أخبرهم به ، فعلموا أن " الروح جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس ، وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ، ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد ، وسريان الدهن في الزيتون ، والنار في الفحم ، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف ، بقي هذا الجسم اللطيف متشابكاً بهذه الأعضاء ، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإرادة ، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها ، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح " (6) . وقد سقنا في تضاعيف بحثنا كثيراً من الأدلة التي تثبت أن الروح شيء مستقل عن البدن ، كقوله تعالى : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ) [ الزمر : 42 ] ، وقوله : ( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) [ الأنفال : 50 ] ، وقوله : ( وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ) [ الأنعام : 93 ] ، وقوله : ( كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ - وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ - وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ - وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ - إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ) [القيامة : 26-30] ، وقولـه : ( فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ - وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ) [الواقعة : 83-84] ، فالذي يمسك ، وتتوفاه الملائكة ، ويبلغ الحلقوم ، ويبلغ التراقي ، ويساق لا بد أن يكون شيئاً حقيقياً مخالفاً للجسد . وقد سقنا الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ملك الموت يقبض الروح ، وأنَّ الملائكة تضع تلك الروح في كفن من الجنة أو النار بحسب فلاحها أو فسادها ، وأنَّه يذهب بها في رحلة علوية سماوية ، حيث تفتح لها أبواب السماء إن كانت صالحة ، وتغلق دونها إن كانت طالحة ، وأنها تعاد إلى الجسد ، وتسأل وتعذب أو تنعم ، وأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ، وأرواح المؤمنين طير يعلق في شجر الجنة ، وأن الروح إذا قبض تبعه البصر ، إلى غير ذلك من النصوص الدالة في مجموعها دلالة قاطعة على أن الأرواح شيء آخر غير الأبدان ، وأنها تبقى بعد مفارقة البدن . -------------------------------- (1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : (3/31) ، رسالة العقل والروح لابن تيمية ، انظر مجموعة الرسائل المنيرية : (2/21) . (2) مجموعة الرسائل المنيرية ، رسالة العقل والروح : (2/21) . (3) المصدر السابق : (2/22) . (4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (3/31) . (5) المصدر السابق : (3/32) . (6) هذا تعريف ابن القيم للروح في كتابه : الروح ، وقد نقله عنه السفاريني في لوامع الأنوار البهية : (2/29) ، وعزاه إليه ، وذكره بنصه شارح الطحاوية من غير عزو ، انظر شارح الطحاوية : ص (433) ، وقد قال ابن القيم بعد سياقه لهذا التعريف : " وهذا القول هو الصواب في المسألة ، وهو الذي لا يصح غيره ، وكل الأقوال سواه باطلة ، وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة " ، وذكر مائة وخمسة عشر دليلاً فأجاد وأفاد وزيف كلام ابن سينا وابن حزم وأمثالهما . |
#25
|
||||
|
||||
![]() مَسكن الرُّوح في الجسَد الروح تسري في بدن الإنسان كله ، يقول ابن تيمية : " لا اختصاص للروح بشيء من الجسد ، بل هي سارية في الجسد كما تسري الحياة التي هي عرض في جميع الجسد ، فإن الحياة مشروطة بالروح ، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة ، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة " (1) .-------------------------------- (1) رسالة العقل والروح ، مجموعة الرسائل المنيرية : (2/47) . |
#26
|
||||
|
||||
![]() الرُّوح مخلوقَة ذهب فريق من الفلاسفة إلى أن الروح غير مخلوقة ، بل هي قديمة أزلية ، ولكنها ليست من ذات الرب ، ومقالتهم في الروح هي مقالتهم في العقول والنفوس الملكية ، ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملائكة .وذهب صنف آخر من زنادقة هذه الأمة وضُلالها من المتكلمة والمتصوفة والمحدثة إلى أن الروح من ذات الله ، وهؤلاء – كما يقول ابن تيمية – أشرُّ قولاً من أولئك ، وهؤلاء جعلوا الآدمي نصفين : نصف لاهوت ، وهو روحه ، ونصف ناسوت ، وهو جسده : نصفه رب ونصفه عبد (1) . والحق الذي لا ينبغي أن يخالف فيـه أن الروح مخلوقة مبتدعة ، ويدل على ذلك أمور : 1- الإجماع : يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " روح الآدمي مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائل أهل السنة ، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غيرُ واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي ، الإمام المشهور ، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف ، أو من أعلمهم . وكذلك أبو محمد بن قتيبة ، قال في ( كتاب اللقط ) لما تكلم على خلق الروح ، قال : النسم الأرواح ، قال : وأجمع الناس أن الله خالق الجثة وبارئ النسمة ، أي : الروح. وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة : سألت رحمك الله عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة ، قال : هذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب ، إلى أن قال : والروح من الأشياء المخلوقة ، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشايخ ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة . وصنف الحافظ أبو عبد الله بن منده في ذلك كتاباً كبيراً في ( الروح والنفس ) وذكر فيه من الأحاديث والآثار شيئاً كثيراً ، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره ، والشيخ أبو يعقوب الخراز ، وأبو يعقوب النهرجوري ، والقاضي أبو يعلى ، وقد نص على ذلك الأئمة الكبار ، واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في عيسى ابن مريم ، لا سيما في روح غيره كما ذكره أحمد في كتابه في " الرد على الزنادقة والجهمية " (2) . 2- الكتاب والسنة : الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على خلقها كثيرة ، مثل قوله تعالى : ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) [ الرعد : 16 ] ، [الزمر : 62 ] ، يقول شارح الطحاوية عقب استدلاله بهذه الآية : " فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما " (3) ومن ذلك قوله تعالى : ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ) [ الإنسان : 1 ] ، وقوله جل وعلا لزكريا : ( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) [مريم : 9 ] ، والإنسان اسم لروح الإنسان وبدنه ، وخطاب الله لزكريا لروحه وبدنه . يقول ابن تيمية : " الإنسان عبارة عن البدن والروح معاً ، بل هو بالروح أخص منه بالبدن ، وإنما البدن مطية للروح ، كما قال أبو الدرداء : إنما بدني مطيتي ، فإن رفقت بها بلغتني ، وإن لم أرفق بها لم تبلغني ، وقد رواه ابن منده وغيره عن ابن عباس ، قال : لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن ، فتقول الروح للبدن : أنت عملت السيئات ، فيقول البدن للروح : أنت أمرتني ، فيبعث الله ملكاً يقضي بينهما فيقول : إنما مثلكما كمثل مقعد وأعمى دخلا بستاناً ، فرأى المقعد فيه ثمراً معلقاً ، فقال للأعمى : إني أرى ثمراً ولكن لا أستطيع النهوض إليه ، وقال الأعمى : لكني أستطيع النهوض إليه ، ولكني لا أراه ، فقال المقعد : تعال فاحملني حتى أقطفه ، فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى حيث يشاء فقطع الثمرة ، قال المَلَكُ : فعلى أيهما العقوبة ؟ قالا : عليهما جميعاً ، قال : فكذلك أنتما " (4) . 3- ذكرنا في بحثنا هذا كثيراً من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرواح تقبض ، وتوضع في كفن وحنوط تأتي بهما الملائكة ، ويصعد بها ، وتنعم وتعذب ، وتمسك في النوم ، وترسل ، وكل هذا شأن المخلوق المحدث . 4- لو لم تكن مخلوقة مربوبة لما أقرت بالربوبية ، وقد قال الله للأرواح حين أخذ الميثاق على العباد ، وهم في عالم الذرّ ، ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، وذلك ما قرره الحق في قوله : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ... ) [ الأعراف : 172 ] ، وما دام هو ربهم فإنهم مربوبون مخلوقون . 5- لو لم تكن الأرواح مخلوقة فإن النصارى لا لوم عليهم في عبادتهم عيسى ، ولا في قولهم : إنه ابن الله ، أو هو الله . 6- لو كانت الروح غير مخلوقة فإنها لا تدخل النار ولا تعذب ، ولا تحجب عن الله، ولا تغيب عن البدن ، ولا يملكها ملك الموت ، ولما كانت صورة توصف ، ولم تحاسب ولم تعذب ، ولم تتعبد ولم تخف ، ولم ترج ، ولأن أرواح المؤمنين تتلألأ ، وأرواح الكفار سود مثل الفحم (5) . -------------------------------- (1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/222) . (2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/216) . (3) شرح الطحاوية : ص (442) . (4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/222) . (5) الأدلة الثلاثة الأخيرة استدل بها أبو سعيد الخراز ، أحد أكابر المشايخ الأئمة من أقران النجيد فيما نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ، انظر مجموع فتاوى (4/220) . |
#27
|
||||
|
||||
![]() شبهات الذين زعموا أنّ الرُّوح غير مخلوقة الذين قالوا : إن الروح غير مخلوقة احتجوا بمثل قوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) [ الإسراء : 85 ] ، والجواب عن هذا من وجوه :الأول : أن الروح هنا ليست روح الآدمي ، وإنما هو اسم ملك ، كما قال تعالى : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ) [ النبأ : 38 ] ، وقال : ( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) [ المعارج : 4 ] ، وقال : ( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم ) [القدر :4] وهذا قول معروف مشهور عند علماء السلف في تفسير الآية . الثاني :وإذا قلنا : إن المراد بالروح هنا روح الآدمي – كما هو قول جمع من علماء السلف في الآية – فليس فيها ما يدل على أن الروح غير مخلوقة ، وأنها جزء من ذات الله تعالى كما يقال هذه الخرقة من هذا الثواب ، بل المراد أنها تنسب إلى الله ، لأنها بأمره تكونت ، أو لأنها بكلمته كانت ، والأمر في القرآن يذكر ويراد به المصدر تارة ، ويراد به المفعول تارة أخرى ، وهو المأمور به ، كقوله تعالى : ( أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ) [النحل: 1] أي : المأمور به ، ويمكن أن يقال أيضاً : إن لفظة ( مِنْ ) في قوله : ( مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) لابتداء الغاية ، ومعلوم أن ( مِنْ ) تأتي لبيان الجنس ، كقولهم : باب من حديد ، وتأتي لابتداء الغاية ، كقولهم : خرجت من مكة ، فقوله : ( مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) ليس نصاً في أن الروح بعض الأمر ومن جنسه ، بل هي لابتداء الغاية إذ كونت بالأمر ، وصدرت عنه، وهذا معنى جواب الإمام أحمد في قوله : ( وَرُوحٌ مِّنْهُ ) حيث قال : ( وَرُوحٌ مِّنْهُ ) يقول: من أمره كان الروح ، كقوله تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) [ الجاثية : 13] ، ونظير هذا أيضاً قوله تعالى : ( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ) [ النحل : 53 ] . فإذا كانت المسخرات والنعم من الله ، ولم تكن بعض ذاته ، بل منه صدرت ، لم يجب أن يكون معنى قوله في المسيح ( وَرُوحٌ مِّنْهُ ) ، أنها بعض ذاته (1) . الشبهة الثانية : قوله تعالى في آدم : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) [الحجر : 29] ، وقوله في عيسى : ( فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ) [ الأنبياء : 91 ] ، قالوا : فقد أضاف الله الروح إلى نفسه ، وقد أجاب عن هذه الشبهة شارح الطحاوية فقال : " ينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله تعالى نوعان : صفات لا تقوم بأنفسها ، كالعلم والقدرة ، والكلام والسمع والبصر ، فهذه إضافة صفة إلى موصوف بها ، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له ، وكذا وجهه ويده سبحانه . والثاني : إضافة أعيان منفصلة عنه ، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح كقوله: ( نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ) [الشمس : 13 ] وقوله : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ) [ الفرقان : 1 ] وقوله : ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ... ) [ الحج : 26 ] فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه ، لكن إضافة تقتضي تخصيصاً وتشريفاً ، يتميز بها المضاف إلى غيره " (2) . -------------------------------- (1) للتوسع في هذا المبحث راجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/226-235) . (2) شرح الطحاوية : ص442 ، وراجع رسالة الروح ، ومجموعة الرسائل المنيرية : (2/38) . |
#28
|
||||
|
||||
![]() أنواع النفوس أخبرنا الحق أن النفوس ثلاثة أنواع : النفس الأمارة بالسوء : ( إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ ) [ يوسف : 53 ] ، والنفس اللوامة : ( وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) [ القيامة : 2 ] ، والنفس المطمئنة : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً - فَادْخُلِي فِي عِبَادِي - وَادْخُلِي جَنَّتِي )[ الفجر : 27-30 ] ، وليس المراد أن لكل إنسان ثلاثة نفوس ، وإنما المراد أن هذه صفات وأحوال لذات واحدة ، فإذا غلب على النفس هواها بفعلها للذنوب والمعاصي فهي النفس الأمارة بالسوء ، والنفس اللوامة هي التي تذنب وتتوب ، سميت لوامة ، لأنها تلوم صاحبها على الذنوب ، ولأنها تتلوم ، أي : تترد بين فعل الخير والشر ، والنفس المطمئنة هي التي تحب الخير والحسنات وتريدها، وتبغض الشر والسيئات وتكره ذلك ، وقد صار ذلك لها خلقاً وعادة وملكة (1) .وقال شارح الطحاوية بعد أن ذكر أنواع النفوس : " والتحقيق : أنها نفس واحدة ، لها صفات ، فهي أمارة بالسوء ، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة ، تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها ، وتلوم بين الفعل والترك ، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة " (2) . -------------------------------- (1) راجع رسالة العقل والروح لابن تيمية ، مجموعة الرسائل المنيرية : (2/41) . (2) شرح الطحاوية: ص 445 . |
#29
|
||||
|
||||
![]() هل تموت النفوس يقول ابن تيمية : " والأرواح مخلوقة بلا شك ، وهي لا تعدم ولا تفنى ، ولكن موتها بمفارقة الأبدان ، وعند النفخة الثانية تعاد الأرواح إلى الأبدان " (1) .وقد تعرَّض شارح الطحاوية لهذه المسألة ، فقال : " واختلف الناس هل تموت الروح أم لا ؟ فقالت طائفة : تموت لأنها نفس ، وكل نفس ذائقة الموت ، .. وإذا كانت الملائكة تموت ، فالنفوس البشرية أولى بالموت ، وقال آخرون : لا تموت الأرواح ، فإنها خلقت للبقاء ، وإنما تموت الأبدان ، قالوا : وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها ، والصواب أن يقال : موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها ، فإن أريد بموتها هذا القدر ، فهي ذائقة الموت ، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية فهي لا تموت بهذا الاعتبار ، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب ، .. وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة ( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ) [ الدخان : 56 ] ، وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد " (2) . -------------------------------- (1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/279) . (2) شرح الطحاوية : ص (446) . |
#30
|
||||
|
||||
![]() مستقر الأرواح في البرزخ أرواح العباد في البرزخ متفاوتة في منازلها ، وقد استقرأنا النصوص الواردة في ذلك فأفادتنا التقسيم التالي :أولاً : أرواح الأنبياء ، وهذه تكون في خير المنازل في أعلى عليين ، في الرفيق الأعلى ، وقد سمعت السيدة عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر لحظات حياته يقول : " اللهمَّ الرفيق الأعلى " (1) . الثاني : أرواح الشهداء ، وهؤلاء أحياء عند ربهم يرزقون ، قال تعالى : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) [آل عمران : 16] ، وقد سأل مسروق عبد الله بن مسعود عن هذه الآية ، فقال : " إنا قد سألنا عن ذلك ، فقال : " أرواحهم في أجواف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل " رواه مسلم في صحيحه (2) . وهذه أرواح بعض الشهداء لا كل الشهداء ، لأن منهم من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه ، كما في المسند عن عبد الله بن جحش : أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، مالي إن قتلت في سبيل الله ؟ قال : " الجنة " ، فلما ولّى ، قال : " إلا الدين ، سارني به جبري آنفاً " (3) . الثالث : أرواح المؤمنين الصالحين : تكون طيوراً تعلق في شجر الجنة ، ففي الحديث الذي يرويه عبد الرحمن بن كعب بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنما نسمة المسلم طير يعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعها الله إلى جسده إلى يوم القيامة " رواه أحمد (4) . والفرق بين أرواح المؤمنين وأرواح الشهداء ، أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح متنقلة في رياض الجنة ، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرض ، أما أرواح المؤمنين فإنها في أجواف طير يعلق ثمر الجنة ولا ينتقل في أرجائها . وكون أرواح المؤمنين في أجواف طير يعلق شجر الجنة لا يشكل عليه الحديث الآخر الذي يرويه أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفيه أن الملائكة تقبض روح العبد المؤمن ، وترقى به إلى السماء ، فتقول الملائكة : " ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض ، فيأتون به أرواح المؤمنين ، فلهم أشدُّ فرحاً من أحدكم بغائبه يقدم عليه ، فيسألونه : ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان ؟ فيقولون : دعوه ، فإنه كان في غم الدنيا ، فيقول : قد مات ، أما أتاكم ؟ قالوا : ذهب به إلى أمه الهاوية " (5) ، فإن روح المؤمن تلتقي بأرواح المؤمنين في الجنة . الرابع : أرواح العصاة :سبق أن أوردت النصوص التي تبين ما يلاقيه العصاة من العذاب ، فمن ذلك أن الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق يعذب بكلوب من حديد يدخل في شدقه حتى يبلغ قفاه ، والذي نام عن الصلاة المكتوبة يشدخ رأسه بصخرة ، والزناة والزواني يعذبون في ثقب مثل التنور ، ضيق أعلاه ، وأسفله واسع ، توقد النار من تحته ، والمرابي يسبح في بحر من دم ، وعلى الشط من يلقمه حجارة (6) . وقد ذكرنا الأحاديث التي تتحدث عن عذاب الذي لم يكن يستنزه من بوله ، والذي يمشي بالنميمة بين الناس ، والذي غلَّ من الغنيمة ونحو ذلك . الخامس : أرواح الكفار :في حديث أبي هريرة عند النسائي بعد وصف حال المؤمن إلى أن يبلغ مستقره في الجنة ، ذكر حال الكافر ، وما يلاقيه عند النزع ، وبعد أن تقبض روحه " تخرج منه كأنتن ريح ، حتى يأتون به باب الأرض ، فيقولون : ما أنتن هذه الريح ، حتى يأتون به أرواح الكفار " (7). -------------------------------- (1) صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، باب من أحب لقاء الله ، فتح الباري : (11/357) . (2) مشكاة المصابيح : (2/351) ، وللحديث تتمة . (3) قال الشيخ ناصر الدين الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية : ص 445 (صحيح) ، وقد سقنا من قبل أكثر من حديث في هذا المعنى . (4) أورده الشيخ ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة : (2/730) ، حديث رقم (995) ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ورواه ابن ماجة في سننه ، ومالك في موطئه ، والنسائي بلفظ : ( إن أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر ، تعلق بشجر الجنة ) . (5) رواه النسائي ، كتاب الجنائز ، باب ما يلقى المؤمن من الكرامة عند خروج نفسه : (4/8) . (6) سبق أن سقنا هذا الحديث بطوله ، انظر ص (64-65) ، والحديث رواه البخار في صحيحه . (7) رواه النسائي ، كتاب الجنائز ، باب ما يلقى المؤمن من الكرامة عند خروج نفسه ، (4/8) . |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|