|
محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا سيرة سيد البشر بكل لغات العالم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#16
|
|||
|
|||
الهجرة الأولى إلى الحبشة الخطوة الثانية : أنه صلى الله عليه وسلم أشار على المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة ، بعد أن تأكد أن النجاشي ملك عادل لا يظلم عنده أحد . وفي رجب سنة 5 من النبوة هاجر أول دفعة من المسلمين ، وكانوا اثني عشر رجلاً وأربع نسوة ، رئيسهم عثمان بن عفان الأموي رضي الله عنه ومعه زوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام . خرج هؤلاء الصحابة سراً في ظلام الليل قاصدين ميناء شعيبة جنوب جدة ، وكان من قدر الله أنهم وجدوا سفينتين تجاريتين فركبوهما حتى وصلوا إلى الحبشة . أما قريش فلما علموا بخروجهم هاجوا وغضبوا ، وأسرعوا في آثارهم حتى يلقوا عليهم القبض ، ويردوهم إلى مكة ، ليواصلوا التنكيل والتعذيب ، ويصرفوهم عن دين الله ، لكن المسلمين فاتوهم إلى البحر ، فرجعوا خائبين بعدما وصلوا إلى الساحل . موافقة المشركين للمسلمين وسجودهم فيس سورة النجم : وفي رمضان سنة خمسة من النبوة أي بعد هجرة المسلمين بحوالي شهرين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام ، وحول الكعبة جمع كبير من قريش ، فيهم ساداتهم وكبراؤهم ، وكانت قد نزلت عليه سورة النجم ، فقام فيهم ، وأخذ يتلوها فجاءة ، وكان أروع كلام سمعوه قط ، فاندهشوا لروعة هذا الكلام ، وأخذ منهم كل مأخذ ، فبقوا يستمعون إليه مبهوتين ساكتين ، حتى إذا تلا في خواتم السورة زواجر وقوارع طارت لها القلوب ، وتلا في الأخير ( فاسجدوا لله واعبدوا ) وخر ساجداً سجد الجميع ، ولم يملكوا أنفسهم . روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم ، فسجد بها ، فما بقي أحد من القوم إلا سجد ، فأخذ رجل من القوم كفا من حصى أو تراب ، فرفعه إلى وجهه ، وقال : يكفيني هذا ، فلقد رأيته بعد قتل كافراً – وهو أمية بن خلف قتل يوم بدر . عودة المهاجرين إلى مكة : وصل هذا الخبر إلى الحبشة ، ولكن في صورة تختلف عن الواقع ، فقد بلغهم أن قريشاً أسلموا ، فرجعوا فرحين مستبشرين إلى مكة ، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار عرفوا جلية الأمر ، فمنهم من رجع إلى الحبشة ومنهم من دخل مكة سراً أو في جوار أحد من قريش .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#17
|
|||
|
|||
الهجرة الثانية إلى الحبشة واشتد البلاء والعذاب على المسلمين من قريش ندماً منهم على ما فرط منهم من السجود مع المسلمين ، وانتقاماً لما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره للمهاجرين ، ونظراً إلى هذه الظروف القاسية أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى ، فهاجر اثنان أو ثلاثة وثمانون رجلاً وثمان عشرة امرأة ، وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من الأولى ، لأن قريشاً كانوا متيقظين يتابعون حركات المسلمين إلا أن المسلمين كانوا أكثر منهم تيقظاً ، وأحسن منهم حكمة ، وأحكم منهم خطوة ، فقد فاتوهم إلى الحبشة رغم كل الجهود . مكيدة قريش بمهاجري الحبشة : شق على المشركون أن أفلت منهم المسلمون ، ووصلوا إلى مأمن يأمنون فيه على أنفسهم وإيمانهم ، فأرسلوا رجلين من دهاتهم ليسترداهم إلى مكة ، وهما : عمرو بن العاص ، وعبد الله بن ربيعة ، وكانا إذ ذاك على الشرك . ونزل الرجلان بالحبشة تحت خطة مدبرة ، فاتصلا أولاً بالبطارقة ، وساقا إليهم الهدايا ، وذكرا لهم الهدف ، ولقناهم الحجة ، حتى وافقوهما ، ثم حضرا إلى النجاشي ، فقدما إليه الهدايا ، ثم كلماه فقالا : أيها الملك : إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دينهم ، ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عيناً ، وأعلم بما عابوا عليهم ، وعاتبوهم فيه . وأيدهما البطارقة فيما قالاه حسب الخطة . ولكن النجاشي احتاط في الأمر ، ورأى أن يسمع القضية من الطرفين حتى يتضح له الحق ، فدعا المسلمين ، وسألهم : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل ؟ فتكلم جعفر بن أبي طالب عن المسلمين ، وقال : أيها الملك : كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل منا القوي الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ،فدعانا إلى الله لنوحده ، ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ، لا نشرك به شيئاً ،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام – فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به من دين الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئاً وحرمنا ما حرم الله علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان ، عن عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا ، وظلمونا ، وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك ! فلما سمع النجاشي هذا ، طلب من جعفر قراءة شيء من القرآن ، فقرأ عليه صدراً من كهيعص – سورة مريم – فبكى النجاشي حتى اخضلت – أي ابتلت – لحيته ، وبكى الأساقفة حتى أخضلوا – أي بلوا – مصاحفهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة . ثم خاطب مندوبي قريش وقال : انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون ، فخرجا . وفي اليوم الثاني احتال عمرو بن العاص حيلة أخرى ، فقال للنجاشي : إنهم – أي المسلمين - يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً . فدعاهم النجاشي وسألهم عن ذلك ، فقال جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به النبي صلى الله عليه وسلم : هو عبد الله ورسوله ، وروحه ، وكلمته ، ألقاها إلى مريم العذراء البتول . فأخذ النجاشي عوداً من الأرض ، ثم قال : والله ما عدا – أي ما جاوز – عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود . اذهبوا فأنتم شيوم – أي آمنون – بأرضي ، من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، ما أحب أن لي دبراً – أي جبلاً – من ذهب ، وأني آذيت رجلاً منكم . ثم أمر برد الهدايا على مندوبي قريش فخرجا مقبوحين ، وأقام المسلمون بخير دار مع خير جار . حيرة المشركين : ولما منى المشركون بالخيبة والفشل في استرداد المسلمين من الحبشة استشاطوا غضباً ، وكادوا يتميزون غيظاً ، وينقضون على بقية المسلمين بطشاً ، ولا سيما وقد كانوا يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ماض في دعوته ، ولكنهم رأوا أبا طالب قائم بنصرته رغم التهديد والوعيد الشديد ، فاحتاروا في أمرهم ، ولم يدروا ماذا يفعلون ؟ فربما غلبت عليهم الضراوة ، فعادوا إلى التعذيب والتنكيل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبمن بقي معه من المسلمين ، وربما فتحوا باب النقاش والجدال ، وربما عرضوا الرغائب والمغريات ، وربما حاولوا المساومة واللقاء في منتصف الطريق ، وربما فكروا في قتل النبي صلى الله عليه وسلم والقضاء على دعوة الإسلام ، إلا أن شيئاً من ذلك لم يجد نفعاً ، ولم يوصلهم إلى المراد ، بل كانت نتيجة جهودهم الخيبة والخسران ، وفيما يلي نقدم صورة مصغرة لكل من ذلك .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#18
|
|||
|
|||
بداية النبوة ونزول الوحي تلك هي قصة بداية النبوة ونزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم لأول مرة ، وقد كان ذلك في رمضان في ليلة القدر ، قال الله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) وقال : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) وقد أفادت الأحاديث الصحيحة ان ذلك كان ليلة الإثنين قبل أن يطلع الفجر . وحيث إن ليلة القدر تقع في وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان ، وقد ثبت علمياً أن يوم الإثنين في رمضان من تلك السنة إنما وقع في اليوم الحادي والعشرين فقد أفاد ذلك أن نبوته صلى الله عليه وسلم إنما بدأت في الليلة الحادية والعشرين من رمضان سنة إحدى وأربعين من مولده صلى الله عليه وسلم وهي توافق اليوم العاشر من شهر أغسطس سنة 610 م وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك أربعين سنة قمرية وستة اشهر واثني عشر يوماً ، وهو يساوي تسعاً وثلاثين سنة شمسية وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوماً فكانت بعثته على رأس أربعين سنة شمسية . فترة الوحي ثم عودته : وكان الوحي قد فتر وانقطع بعد أول نزوله في غار حراء كما سبق ودام هذا الإنقطاعأياما ، وقد أعقب ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم شدة وكآبة والحزن ، ولكن المصلحة كانت في هذا الإنقطاع ، فقد ذهب عنه الروع ، وتثبت من أمره ، وتهيأ لاحتمال مثل ما سبق حين يعود ، وحصل له التشوف والانتظار ، وأخذ يرتقب مجيء الوحي مرة أخرى. وكان صلى الله عليه وسلم قد عاد من عند ورقة بن نوفل إلى حراء ليواصل جواره في غاره ، ويكمل ما تبقى من شهر رمضان ، فلما انتهى شهر رمضان وتم جواره نزل من حراء صبيحة غرة شوال ليعود إلى مكة حسب عادته . قال صلى الله عليه وسلم فلما استبطنت الوادي – أي دخلت في بطنه – نوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ونظرت خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، فإذا الملك جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجئثت منه رعباً حتى هويت إلى الأرض ، فأتيت خديجة ، فقلت زملوني ، زملوني ، دثروني ، وصبوا علي ماءً بارداً ، فدثروني وصبوا علي ماءً بارداً، فنزلت ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ) . وذلك قبل أن تفرض الصلاة ثم حمي الوحي وتتابع . وهذه الآيات هي بدء رسالته صلى الله عليه وسلم وهي متأخرة عن النبوة بمقدار فترة الوحي ، وتشمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه . أما النوع الأول فهو تكليفه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والتحذير ، وذلك في قوله تعالى : ( قم فأنذر ) فإن معناه حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عما هم فيه من الغي والضلال ، وعبادة غير الله المتعال ، والإشراك به في الذات والصفات والحقوق والأفعال . واما النوع الثاني فتكليفه صلى الله عليه وسلم بتطبيق أوامر الله سبحانه وتعالى والالتزام بها في نفسه ، ليحرز بذلك مرضاة الله ، ويصير أسوة لمن آمن بالله ، وذلك في بقية الآيات ، فقوله : ( وربك فكبر ) معناه خصه بالتعظيم ، ولا تشرك به في ذلك أحداً غيره ، وقوله ( وثيابك فطهر ) المقصود الظاهر منه تطهير الثياب والجسد ، إذ ليس لمن يكبر الله ويقف بين يديه أن يكون نجساً مستقذراً ، وقوله ( والرجز فاهجر ) معناه ابتعد عن أسباب سخط الله وعذابه ، وذلك بطاعته وترك معصيته ، وقوله : ( ولا تمنن تستكثر ) أي لا تحسن إحساناً تريد أفضل منه في هذه الدنيا. أما الآية الأخيرة فأشار فيها إلى ما يلحقه من أذى قومه حين يفارقهم في الدين ، ويقوم بدعوتهم إلى الله وحده ، فقال : ( ولربك فاصبر ) .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#19
|
|||
|
|||
بناء البيت وقصة التحكيم ولما بلغت سنه صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة جاء سيل جارف صدع جدران الكعبة . وكانت قد وهنت من قبل لأجل حريق ، فاضطرت قريش إلى بنائها من جديد ، وقرروا أن لا يدخلوا في نفقتها إلا طيباً ، فلا يدخلوا فيها مهر بغي ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد . وهابوا عقاب الله على هدمها ، فقال لهم الوليد بن المغيرة : إن الله لا يهلك المصلحين ، ثم بدأ يهدم ، فتبعوه في هدمها حتى وصلوا بها إلى قواعد إبراهيم . ثم أخذوا في البناء وخصصوا لكل قبيلة جزءاً منها ، وكان الأشراف يحملون الحجارة على أعناقهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمه العباس فيمن يحمل . وتولى البناء بناء رومي اسمه باقوم ، وضاقت بهم النفقة الطيبة عن إتمامها على قواعد إبراهيم ، فأخرجوا منها نحو ستة أذرع من جهة الشمال وبنوا عليها جداراً قصيراً علامة أنه من الكعبة ، وهذا الجزء معروف بالحجر والحطيم . ولما وصل البنيان إلى موضع الحجر الأسود أراد كل رئيس أن يتشرف بوضعه في مكانه ، فوقع بينهم التنازع والخصام ، واستمر أربعة أيام أو خمسة ، وكاد يتحول إلى حرب دامية في الحرم ، إلا أن ابا أمية بن المغيرة المخزومي تداركها بحكمة وكان أسن رجل في قريش فاقترح عليهم أن يحكموا أول رجل يدخل عليهم من باب المسجد ، فقبلوا ذلك ، واتفقوا عليه . وكان من قدر الله أن أول من دخل بعد هذا القرار هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه هتفوا، وقالوا هذا الأمين رضيناه ، هذا محمد . فلما انتهى إليهم ، وأخبروه الخبر ، أخذ رداءً ووضع فيه الحجر الأسود ، وأمرهم أن يمسك كل واحد منهم بطرف من الرداء ويرفعه ، فلما وصل الحجر الأسود إلى موضعه أخذه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ووضعه في مكانه ، وكان حلاً حصيفاً رضي به الجميع . والحجر الأسود يرتفع عن أرض المطاف متراً ونصف متر ، أما الباب فقد رفعوه نحو مترين حتى لا يدخل إلا من أرادوا ، وأما الجدران فرفعوها ثمانية عشر ذراعاً ، وكانت على النصف من ذلك ، ونصبوا في داخل الكعبة ستة أعمدة في صفين ثم سقفوها على ارتفاع خمسة عشر ذراعاً وكانت من قبل بدون سقف ولا عمود .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#20
|
|||
|
|||
بيعة العقبة الأولى فلما كان حج العام المقبل - سنة 12 من النبوة – قدم اثنا عشر رجلاً منهم عشرة من الخزرج واثنان من الأوس ، فأما العشرو من الخزرج فخمسة منهم هم الذين جاءوا في العام الماضي غير جابر بن عبد الله بن رئاب وخمسة آخرون هم : معاذ بن الحارث( معاذ بن العفراء ) . ذكوان بن عبد القيس . عبادة بن الصامت . يزيد بن ثعلبة . العباس بن عبادة بن نضلة . وأما الإثنان من الأوس فهما : أبو الهيثم بن التيهان . عويم بن ساعدة . اجتمع هؤلاء برسول الله صلى الله عليه وسلم بعقبة منى ، فعلمهم الإسلام ، وقال لهم : تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببرهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوني في معروف . فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ، فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله ، فأمره إلى الله ، إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه ، فبايعوه على ذلك . دعوة الإسلام في يثرب : فلما رجعوا إلى يثرب بعث معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ليقرئهم القرآن ويفقههم في الدين ، ونزل مصعب بن عمير على أبي أمامة أسعد بن زرارة ونشطا في نشر الإسلام ، وبينما هما في بستان إذ قال رئيس الأوس سعد بن معاذ لابن عمه أسيد بن حضير : ألا تقوم إلى هذين الرجلين الذين أتيا يسفهان ضعفاءنا فتزجرهما ، فأخذ أسيد حربته ، وأقبل إليهما فلما رآه أسعد قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه . وجاء أسيد فوقف عليهما وقال : ما جاء بكما إلينا ؟ تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة ، فقال مصعب : أوتجلس فتسمع ، فإن رضيت امراً قبلته ، وإن كرهته كففنا عنك ما تكرهه فقال : أنصفت ، وركز حربته وجلس ، فكلمه مصعب بالإسلام ، وتلا عليه القرآن ، فاستحسن أسيد دين الإسلام واعتنقه ، وشهد شهادة الحق . ثم رجع أسيد ، واحتال ليرسل إليهما سعد بن معاذ ، فقال له : كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأساً ، وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت ، ثم قال : وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، لأنه ابن خالتك ، فيردون أن يخفروك . فغضب سعد ، وقام إليهما متغيظاً ، ففعل معه مصعب مثل ما فعل مع أسيد ، فهداه الله للإسلام ، فأسلم وشهد شهادة الحق ، ثم رجع إلى قومه ، فقال : يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا سيدنا وأفضلنا رأياً . قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة ، إلا رجل واحد اسمه الأصيرم ، تأخر إسلامه إلى يوم أحد ، ثم أسلم وقتل شهيداً في سبيل الله قبل أن يسجد لله سجدة . وعاد مصعب بن عمير إلى مكة قبل حلول موعد الحج يحمل بشائر مثل هذا الفوز .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#21
|
|||
|
|||
بيعة العقبة الثانية وفي موسم الحج سنة 13 من النبوة قدم كثير من أهل يثرب من المسلمين والمشركين ، وقد قرر المسلمون أن لا يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يطوف في أيام التشريق ليلاً في الشعب الذي عند جمرة العقبة . فلما جاء الموعد ناموا في رحالهم مع قومهم ، حتى إذا مضى ثلث الليل الأول أخذوا يتسللون ، فيخرج الرجل والرجلان حتى اجتمعوا عند العقبة ، وهم ثلاثة وسبعون رجلاً اثنان وستون من الخزرج ، وأحد عشر من الأوس ، ومعهم امرأتان : نسيبة بنت كعب من بني النجار ، وأسماء بنت عمرو من بني سلمة ، وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، كان على دين قومه ، ولكن أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له . وكان العباس أول من تكلم ، فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال في عز من قومه ومنعة في بلده ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك وإلا فمن الآن فدعوه . فأجاب المتكلم عنهم – وهو البراء بن معرور – قال : نريد الوفاء والصدق وبذل الأرواح دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم يا رسول الله ! فخذ لنفسك ولربك ما أحببت . فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام واشترط لربه : 1 – أن يعبدوه وحده ، ولا يشركوا به شيئاً . واشترط لنفسه ولربه أيضاً أنهم قالوا له على ما نبايعك ؟ فقال : 2 – على السمع والطاعة في النشاط والكسل . 3 – وعلى النفقة في العسر واليسر . 4 – وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . 5 – وعلى أن تقوموا في الله ، لا تأخذكم في الله لومة لائم . 6 – وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبنائكم ، ولكم الجنة . 7 – وفي رواية عن عبادة : ( بايعناه ) على أن لا ننازع الأمر أهله . فأخذ بيده صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور وقال : نعم ، والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع عنه أزرنا ، فبايعنا ، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة – أي السلاح – ورثناها كابراً عن كابر . فقاطعه أبو الهيثم بن التيهان قائلاً : يارسول الله ! إن بيننا وبين الرجال حبالاً – أي عهوداً وروابط - وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : بل الدم الدم ، والهدم الهدم ، أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم . وفي هذه اللحظة الحاسمة تقدم العباس بن عبادة بن نضلة وقال : هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن ، فإنه خزي في الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة . قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يار سول الله ! قال : الجنة . قالوا : ابسط يدك . فبسط يده ، فقاموا ليبايعوه ، فأخذ بيده أسعد بن زرارة ، وقال : رويدأ يا أهل يثرب ! إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة ، وقتل خياركم ، وأن تعضكم السيوف ، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه ، وأجركم على الله ، وإما انتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فهو أعذر لكم عند الله . قالوا : يا أسعد ! أمط عنا يدك ، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها ، فقاموا إليه رجلاً رجلاً وبايعوه ، وكان أسعد بن زرارة هو أول المبايعين على أرجح الأقوال . وقيل بل أبو الهيثم بن التيهان . وقيل : بل البراء بن معرور . أما بيعة المرأتين فكانت قولاً بدون مصافحة . اثنا عشر نقيباً : وبعد البيعة طلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا اثني عشر نقيباً يكونون عليهم ، ويكفلون المسؤلية عنهم ، فأخرجوا تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس ، أما من الخزرج فهم : 1 – سعد بن عبادة بن دليم . 2 – أسعد بن زرارة بن عدس . 3 - سعد بن الربيع بن عمرو . 4 - عبد الله بن رواحة بن ثعلبة . 5 – رافع بن مالك بن عجلان . 6 – البراء بن معرور بن صخر . 7 – عبد الله بن عمرو بن حرام . 8 – عبادة بن الصامت بن قيس . 9 – المنذر بن عمرو بن خنيس . وأما من الأوس فهم : 10 – أسيد بن حضير بن سماك . 11 – سعد بن خيثمة بن الحارث . 12 – رفاعة بن عبد المنذر بن زبير – وقيل : أبو الهيثم بن التيهان . فلما تم اختيارهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا كفيل على قومي ، قالوا : نعم . هذه هي بيعة العقبة الثانية ، وكانت حقاً أعظم بيعة وأهمها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تغير بها مجرى الأحداث وتحول خط التاريخ . ولما تمت البيعة وكاد الناس ينفضون اكتشفها أحد الشياطين ، وصاح بأنفذ صوت سمع قط ، يا أهل الأخاشب – المنازل – هل لكم في محمد ، والصباة معه ، قد اجتمعوا على حربكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك ، وأمرهم أن ينفضوا رحالهم فرجعوا وناموا حتى أصبحوا . وصباحاً جاءت قريش إلى خيام أهل يثرب ليقدموا الإحتجاج إليهم ، فقال المشركون : هذا خبر باطل ، ما كان من شيء ، وسكت المسلمون ، فصدقت قريش المشركين ورجعوا خائبين . وأخيراً تأكد لدى قريش أن الخبر صحيح ، فأسرع فرسانهم في طلب أهل يثرب ، فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو عند أذاخر ، فأما المنذر فأعجز القوم هرباً ، وأما سعد فأخذوه وربطوه وضربوه وجروا شعره حتى أدخلوه مكة ، فخلصه المطعم بن عدي والحارث بن حرب ، إذ كان يجير لهما قوافلهما بالمدينة ، وأراد الأنصار أن يكروا إلى مكة إذ طلع عليهم سعد قادماً ، فرحلوا إلى المدينة سالمين .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#22
|
|||
|
|||
بين تدبير قريش وتدبير الله سبحانه وتعالى ومن طبيعة مثل هذا الإجتماع السرية للغاية ، وأن لا يبدو على السطح الظاهر أي حركة تخالف اليوميات ، وتغاير العادات المستمرة ، حتى لا يشم أحد رائحة التآمر والخطر ، ولا يدور في خلد أحد أن هناك غموضاً ينبىء عن الشر . وكان هذا مكراً من قريش ، ولكنهم ماكروا بذلك الله سبحانه وتعالى ، فخيبهم من حيث لا يشعرون ، فقد نزل جبريل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمؤامرة قريش ، وأذن له في الهجرة ، وحدد له وقت الخروج ، وبين له خطة الرد على مكر قريش فقال : ( لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ) . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في نحر الظهيرة - حين يستريح الناس في بيوتهم – إلى بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأبرم معه أمور الهجرة ، فجهزا الراحلتين أحث الجهاز واستأجرا عبد الله بن أريقط الليثي – وكان على دين قريش – ليكون دليلاًلهما في الطريق ، وكان هادياً ماهراً بالطرق ، وواعده جبل ثور بعد ثلاث ليال ، ثم استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعماله اليومية حسب المعتاد ، حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة أو لأي أمر آخر اتقاء مما قررته قريش . وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام في أوائل الليل بعد صلاة العشاء ، ويخرج في النصف الأخير من الليل إلى المسجد الحرام، يصلي فيه صلاة التهجد – قيام الليل – فأضجع علياً رضي الله عنه على فراشه تلك الليلة ، وأخبره بأنه لا يصيبه مكروه ، فلما نام عامة الناس وهدأ الليل جاء المتآمرون سراً إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وطوقوه ، ورأوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه نائماً على فراشه صلى الله عليه وسلم متسجياً ببرده الحضرمي الأخضر ، فظنوه محمداً فأخذوا يختالون زهواً ويرصدونه حتى إذا قام وخرج يثبوا عليه . وكان هذا جواب مكرهم من الله سبحانه وتعالى يقول تعالى : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#23
|
|||
|
|||
تجارته وزواجه من خديجة واولاده منها حياة العمل : معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يتيماً ونشأ في كفالة جده ثم عمه ، ولم يرث عن أبيه شيئاً يغنيه ، فلما بلغ سناً يمكن العمل فيه عادة رعى الغنم مع أخوته من الرضاعة في بني سعد ، ولما رجع إلى مكة رعاها لآهلها على قراريط ، والقيراط جزء يسير من الدينار : نصف العشر أو ثلث الثمن منه قيمته في هذا الزمان عشرة ريالات تقريباً . ورعي الغنم من سنن الأنبياء في أوائل حياتهم . فقد قال صلى الله عليه وسلم مرة بعد أن أكرمه الله بالنبوة : ( ما من نبي إلا ورعاها ) . ولما شب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ الفتوة فكأنه كان يتجر ، فقد ورد أنه كان يتجر مع السائب بن أبي السائب ، فكان خير شريك له ، لا يجاري ولا يماري . وعرف صلى الله عليه وسلم في معاملاته بغاية الأمانة والصدق والعفاف . وكان هذا هديه صلى الله عليه وسلم في جميع مجالات الحياة حتى لقب بالأمين . سفره إلى الشام وتجارته في مال خديجة : وكانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها من أفضل نساء قريش شرفاً ومالاً وكانت تعطي مالها للتجار يتجرون فيه على أجرة ، فلما سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه مالهاليخرج فيه إلى الشام تاجراً ، وتعطيه أفضل ما أعطته غيره . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غلامها ميسرة إلى الشام ، فباع وابتاع وربح ربحاً عظيماً ، وحصل في مالها من البركة ما لم يحصل من قبل ، ثم رجع إلى مكة وأدى الأمانة . زواجه بخديجة : ورأت خديجة من الأمانة والبركة ما يبهر القلوب ، وقص عليها ميسرة ما رأى في النبي صلى الله عليه وسلم من كرم الشمائل وعذوبة الخلال يقال : وبعض الخوارق ، مثل تظليل الملكين له في الحر فشعرت خديجة بنيل بغيتها فيه ، فأرسلت إليه إحدى صديقاتها تبدي رغبتها في الزواج به ، ورضي النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وكلم أعمامه ، فخطبوها له إلى عمها عمرو بن أسد ، فزوجها عمها بالنبي صلى الله عليه وسلم في محضر من بني هاشم ورؤساء قريش على صداق قدره عشرون بكرة ، وقيل ست بكرات ،وكان الذي ألقى خطبة النكاح هو عمه ابو طالب فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم ذكر شرف النسب وفضل النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر كلمة العقد وبين الصداق . تم هذا الزواج بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الشام بشهرين وأيام ، وكان عمره إذ ذاك خمساً وعشرين سنة ، أما خديجة فالأشهر أن سنها كانت أربعين سنة ، وقيل ثمان وعشرين سنة ، وقيل غير ذلك ، وكانت أولاً متزوجة بعتيق بن عائذ المخزومي ، فمات عنها ، فتزوجها أبو هالة التيمي ، فمات عنها أيضاً بعد أن ترك له منها ولداً ، ثم حرص على زواجها كبار رؤساء قريش فأبت حتى رغبت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجت به . فسعدت به سعادة يغبط عليها الأولون والآخرون . وهي أول أزواجه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت ، وكل أولاده صلى الله عليه وسلم منها إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية . أولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة : هم : القاسم ، ثم زينب ، ثم رقية ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم عبد الله ، وقيل غير ذلك في عددهم وترتيبهم ، وقد مات البنون كلهم صغاراً . أما البنات فقد أدركن كلهن زمن النبوة ، فأسلمن وهاجرن ، ثم توفاهن الموت قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة رضي الله عنها ، فإنها عاشت بعده صلى الله عليه وسلم ستة أشهر .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#24
|
|||
|
|||
تشاور قريش في أمر دعوة الرسول واشمأزت قريش من كل ذلك ، وساءهم ما رأوه ، وما هي إلا أيام حتى اقترب موعد الحج ، وأهمهم أمر الحجاج ، فاجتمع نفر منهم إلى الوليد بن المغيرة – وكان ذا سن وشرف فيهم – فقال لهم : يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا ، فيكذب بعضكم بعضاً . قالوا : أنت فقل ، وأقم لنا رأياً نقول به . قال : لا بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا : نقول : كاهن . قال : ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بزمزمة الكهان ولا بسجعهم . قالوا: فنقول : مجنون . قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقة ولا تخالجه وسوسته . قالوا: فنقول : شاعر . قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله ، رجزه وهجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه . فما هو بالشعر . قالوا : فنقول : ساحر . قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثه ولا بعقده . قالوا : فماذا نقول ؟ قال : والله إن لقوله حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة . وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا: هو ساحر ، وقوله سحر ، يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه بذلك ، وجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا للموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه وذكروا له أمره صلى الله عليه وسلم فعرف الناس أمره قبل أن يروه أو يسمعوا منه . وجاءت أيام الحج فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجامع الحجاج ورحالهم ومنازلهم ، ودعاهم إلى الإسلام ، وقال لهم : ( يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وتبعه أبو لهب يكذبه ويؤذيه ، فصدرت العرب من ذلك الموسم وقد عرفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#25
|
|||
|
|||
تعذيب المسلمين فأما تعذيبهم المسلمين فقد أتوا فيه بأنواع تقشعر لها الجلود وتتفطر منها القلوب . كان بلال بن رباح رضي الله عنه مملوكاً لأمية بن خلف الجمحي ، فكان أمية يجعل في عنقه حبلاً، ويدفعه إلى الصبيان ، يلعبون به وهو يقول أحد أحد ، وكان يخرج به في وقت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في الرمضاء ، وهي الرمل أو الحجر الشديد الحرارة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول:لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى ، فيقول : أحد أحد . ومر به أبو بكر رضي الله عنه يوماً وهو يعذب فاشتراه وأعتقه لله . وكان عامر بن فهيرة يعذب حتى يفقد وعيه ، ولا يدري ما يقول . وعذب أبو فكيهة واسمه أفلح ، قيل كان من الأزد ، وكان مولى لبني عبد الدار ، فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد ، وفي رجليه قيد من حديد ، فيجردونه من الثياب ، ويطرحونه في الرمضاء ،ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لا يتحرك ، فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل ، فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ، وكانوا مرة قد ربطوا رجليه بحبل ، ثم جروه وألقوه في الرمضاء ، وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات ، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه لله . وكان خباب بن الأرت ممن سبي في الجاهلية ، فاشترته أم أنمار بنت سباع الخزاعية وكان حداداً فلما أسلم عذبته مولاته بالنار ، كانت تأتي بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فلم يكن يزيده ذلك إلا إيماناً وتسليماً ، وكان المشركون أيضاً يعذبونه ، فيلوون عنقه ، ويجذبون شعره ، وقد القوه مراراً على فحم النار ، ثم وضعوا على صدره حجراً ثقيلاً حتى لا يقوم . وكانت زنيرة أمة رومية، أسلمت ، فعذبت في الله وأصيبت في بصرها حتى عميت ، فقيل لها : أصابتك اللات والعزى ، فقالت : لا والله ما أصابتني ، وهذا من الله ، وإن شاء كشفه ، فأصبحت من الغد ، وقد رد الله بصرها ، فقالت قريش : هذا بعض سحر محمد . وأسلمت أم عميس : جارية لبني زهرة ، فكان يعذبها مولاها الأسود بن عبد يغوث ، وكان من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المستهزئين به . وأسلمت جارية عمرو بن مؤمل من بني عدي ، فكان عمر بن الخطاب يعذبها ،وهو يومئذ على الشرك ، فكان يضربها حتى يفتر ، ثم يدعها ، ويقول : والله ما أدعك إلا سآمة ، فتقول كذلك يفعل بك ربك . وتذكر فيمن أسلمن وعذبن من الجواري : النهدية ، وابنتها وكانتا لامراة من بني عبد الدار . واشترى أبو بكر رضي الله تعالى عنه هؤلاء الجواري ، وأعتقهن كما أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة ، وأبا فكيهة ، ، وقد عاتبه أبوه أبو قحافة ، وقال : أراك تعتق رقاباً ضعافاً ، فلو أعتقت رجالاً جلداً لمنعوك . فقال : إني أريد وجه الله ، فأنزل الله تعالى قرآناً مدحه فيه وذم أعداءه فقال : ( فأنذرتكم ناراً تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى ، الذي كذب وتولى ) وهو أمية بن خلف ، ومن كان على شاكلته ( وسيجنبها الأتقى ، الذي يؤتى ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمن أعتقهم ، وعن الصحابة أجمعين . وعذب عمار بن ياسر وأمه وأبوه رضي الله عنهم وكانوا حلفاء بني مخزوم فكان بنو مخزوم وعلى رأسهم أبو جهل يخرجونهم إلى الأبطح ، إذا حمين الرمضاء ، فيعذبونهم بحرها ، ويمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : ( صبراً آل ياسر موعدكم الجنة ، اللهم اغفر لآل ياسر ) . أما ياسر والد عمار – وهو ياسر بن عامر بن مالك العنسي المذحجي – فقد مات تحت العذاب ، وأما أم عمار – وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة المخزومي ، وكانت عجوزاً كبيرة ضعيفة ، فطعنها أبو جهل في قبلها بحربة ، فماتت وهي أول شهيدة في الإسلام . وأما عمارفثقل عليه العذاب ، فإن المشركين تارة كانوا يلبسونه درعاً من حديد في يوم صائف ، وتارة كانوا يضعون على صدره صخراً أحمر ثقيلاً ، وتارة كانوا يغطونه في الماء ، حتى قال بلسانه بعض ما يوافقهم ، وقلبه مليء بالإيمان ، فأنزل الله : ( من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) . وعذب في الله مصعب بن عمير ، وكان من أنعم الناس عيشاً ، فلما دخل في الإسلام منعته أمه الطعام والشراب ، وأخرجته من البيت ، فتخشف جلده تخشف الحية . وعذب صهيب بن سنان الرومي ، حتى فقد وعيه ، ولا يدري ما يقول . وعذب عثمان بن عفان ، وكان عمه يلفه في حصير من ورق النخيل ، ثم يدخنه من تحته . وأوذي أبو بكر الصديق ، وطلحة بن عبيد الله ، أخذهما نوفل بن خويلد العدوي وقيل : عثمان بن عبيد الله ، أخو طلحة بن عبيد الله ، فشدهما في حبل واحد ، ليمنعهما عن الصلاة وعن الدين ، فلم يجيباه ، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان ، وسميا بالقرينين لكونهما قد شدا في حبل واحد . وكان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم وله شرف ومنعة ، أنبه ، وأخزاه ،وأوعده بإلحاق الخسارة الفادحة في المال والجاه ، وإذا كان الرجل ضعيفاًضربه وأغرى به ، والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذى والنكال . كانت هذه الأعتداءات ضد ضعفاء المسلمين وعامتهم ، أما من أسلم من الكبار والأشراف فإنهم كانوا يحسبون له حساباً ، ولم يكن يجترىء عليهم إلا أمثالهم من رؤساء القبائل وأشرافها ، وذلك مع قدر كبير من الحيطة والحذر .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#26
|
|||
|
|||
جدال المشركين وطلبهم الآيات وكان من جملة جدال المشركين أنهم كانوا يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات تعجيزاً وعناداً وقد تكرر ذلك منهم تكراراًفي أوقات مختلفة ، فمن ذلك أنهم اجتمعوا مرة في المسجد الحرام ، واستشاروا بينهم ، ثم أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك . وحيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على رشدهم غاية الحرص كما قال الله : ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ) فقد جاءهم سريعاً يرجو إسلامهم ، فقالوا : إنك تخبرنا أن الرسل كانت لهم آيات ، كانت لموسى عصا ، ولثمود اناقة ، وكان عيسى يحيى الموتى ، فأتنا بآية كما أرسل الأولون . وكانوا يظنون أن من خواص الرسل أنهم يقدرون على إحداث مثل هذه الخوارق والمعجزات متى شاءوا ، كما يقدر عامة الناس على أعمالهم الطبيعية . فاقترحوا عليه صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً ، أو يسير عنهم الجبال ، ويبسط لهم البلاد ، ويجري فيها الأنهار ، أو يبعث من مضى من آبائهم حتى يشهدوا بأنه رسول : السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتاباً نقرؤه ) وقد أبدوا رغبتهم في الإسلام إذا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بما اقترحوه ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) فدعا الله أن يريهم ما طلبوه ، ورجا إسلامهم ، فجاء جبريل وخيره بين أن يريهم الله ما طلبوه فمن كفر بعد ذلك منهم عذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين ، وبين أن يفتح لهم أبواب التوبة والرحمة ، فقال بل باب التوبة والرحمة ، فلما اختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا أنزل الله عليه جواب مقترحات المشركين فقال له : ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً ) والمعنى قل لست أقدر على إحداث الخوارق والإتيان بالمعجزات ، لأن القدرة على ذلك أمر يختص بالله سبحانه وتعالى ، وهو منـزه من أن يكون له شريك في قدرته ، وإنما أنا بشر ، كما أنكم بشر ، فلست أقدر عليه كما أنكم لا تقدرون عليه ، وإنما الذي امتزت به فيما بينكم هو أنني رسول ، يوحى إلي ، وأنتم لستم برسل وليس يوحى إليكم ، فالذي طلبتموه من الآيات ليس في يدي ولا تحت تصرفي ، وإنما هو إلى الله – عز وجل – إن شاء أظهرها لكم ، ويؤيدني بها عليكم وإن شاء أخرها عنكم ، وفي ذلك مصلحتكم . وقد أكد الله هذا المعنى في سورة الأنعام فقال : ( قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) أي إن الأنبياء والرسل ليسوا بالذين يأتون بالخوارق والمعجزات ، وإنما الله – سبحانه وتعالى – هو الذي يأتي بها . وهو إنما يظهرها على أيدي الأنبياء والمرسلين تكريماً لهم ، وتأييداً وإثباتاً لنبوتهم ورسالتهم . ثم بين الله – سبحانه وتعالى – أنه لو أراهم وأظهر لهم ما طلبوه من الآيات لا يؤمنون به ، مع كونهم قد أقسموا بالله جهد أيمانهم ليؤمنن به فقال : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ) وقال : ( ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ) وفي ثنايا مثل هذه الآيات أشار الله تعالى إلى سنة من سننه ، وهي أن القوم إذا طلبوا آية معينة ، ثم لم يؤمنوا بها إذا جاءتهم فإنهم يهلكون ولا يمهلون ، وسنة الله لا تتغير ولا تتبدل ، وقد علم الله أن معظم قريش يؤمنون فيما بعد ، فلذلك لم يأت لهم بما اقترحوه من الآيات الخاصة التي مضى ذكرها قريباً .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#27
|
|||
|
|||
سفره إلى الشام وحرب الفجار وحلف الفضول سفره إلى الشام وبحيرا الراهب : وأراد أبو طالب أن يخرج بتجارة إلى الشام في عير قريش ، وكان عمره صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة وقيل وشهرين وعشرة أيام فاستعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم فراقه فرق عليه وأخذه معه ، فلما نزل الركب قريباً من مدينة بصرى على مشارف الشام خرج إليهم أحد كبار رهبان النصارى – وهو بحيرا الراهب – فتخلل في الركب حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده وقال : ( هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين ) . قالوا وما علمك بذلك ؟ قال : ( إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجداًولا يسجدان إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، وإنا نجده في كتبنا ) . ثم أكرمهم بالضيافة ، وسأل أبا طالب أن يرده ولايقدم به يقدم به إلى الشام خوفا من اليهود والرومان ، فرده أبو طالب إلى مكة . حرب الفجار: وحين كان عمره صلى الله عليه وسلم عشرين سنة ، وقعت في سوق عكاظ حرب بين قبائل قريش وكنانة من جهة ، وبين قبائل قيس عيلان من جهة أخرى . اشتد فيها البأس ، وقتل عدد من الفريقين، ثم اصطلحوا على أن يحصوا قتلى الفريقين فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد ، ووضعوا الحرب ، وهدموا ما وقع بينهم من العداوة والشر . وقد حضر هذه الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ينبل على أعمامه ، أي يجهز لهم النبل للرمي . وسميت هذه الحرب بحرب الفجار لأنهم انتهكوا فيها حرمة مكة والشهر الحرام ، والفجار أربعة : كل في سنة ، وهذه آخرها ، وانتهت الثلاثة الأولى بعد خصام واشتجار طفيف ، ولم يقع القتال إلا في الرابع فقط . حلف الفضول : وفي شهر ذي القعدة على إثر هذه الحرب تم حلف الفضول بين خمسة بطون من قبيلة قريش وهم : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وبنو أسد ، وبنو زهرة ، وبنو تيم . وسببه أن رجلاً من زبيد جاء بسلعة إلى مكة ، فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي ، وحبس عنه حقه ، فاستعدى عليه ببني عبد الدار ، وبني مخزوم ، وبني جمح ، وبني سهم ، وبني عدي ، فلم يكترثوا له ، فعلا جبل أبي قبيس ، وذكر ظلامته في أبيات ، ونادى من يعينه على حقه ، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في دار عبد الله بن جدعان رئيس بني تيم ، وتحالفوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته ، ثم قاموا إلى العاص بن وائل السهمي ، فانتزعوا منه حق الزبيدي ، ودفعوه إليه . وقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحلف مع أعمامه ، وقال بعد أن شرفه الله بالرسالة : ( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت ) .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#28
|
|||
|
|||
سيرته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة نشأ صلى الله عليه وسلم منذ صباه سليم العقل ، وافر القوى ، نزيه الجانب ، فترعرع ، وشب ، ونضج ، وهو جامع للصفات الحميدة والشيم النبيلة ، فكان طرازاً رفيعاً من الفكر الصائب والنظر السديد ، ومثالاً نهائياً في مكارم الأخلاق ومحاسن الخصال ، امتاز بالصدق ، والأمانة ، والمروءة ، والشجاعة والعدل ، والحكمة ، والعفة ، والزهد ، والقناعة ، والحلم ، والصبر والشكر ، والحياء والوفاء ، والتواضع والتناصح . وكان على أعلى قمة من البر والإحسان كما قال عمه أبو طالب : وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل وكان وصولاً للرحم ، حمولاً لما يثقل كواهل الناس ، يساعد من أعدم العيش حتى يصيب الكسب ، وكان يقري الضيف ، ويعين من نزلت به النوازل . وقد حاطه الله بالحفظ والرعاية ، وبغض إليه ما كان في قومه من خرافة وسوء ، فلم يشهد أعياد الأوثان واحتفالات الشرك ، ولم يأكل مما ذبح على النصب أو أهل به لغير الله ، وكان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى فضلاً عن مس الأصنام أو التقرب إليها . وكان أبعد الناس من شرب الخمر وشهود الملاهي حتى لم يحضر مجالس اللهو والسمر ونواديها التي كانت منتزه الشباب وملتقى الأحبة في مكة .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#29
|
|||
|
|||
شق القمر وكأن قريشاً لما رأوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجبهم إلى ما اقترحوه من الآيات الخاصة ظنوا أن طلب الآيات أحسن وسيلة لتعجيزه وإسكاته ولإقناع عامة الناس بأنه متقول ، وليس برسول ، فتقدموا خطوة أخرى ، وقرروا أن يطلبوا منه آية بغير تعيين ، ليتبين للناس عجزه ، فلا يؤمنوا به ، فجاءوا إليه ، وقالوا له : هل من آية نعرف بها أنك رسول الله ؟ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يريهم آية . فأراهم القمر قد انشق فرقتين : فرقة فوق الجبل – أي جبل أبي قبيس – وفرقة دونه ، حتى رأوا حراء بينهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اشهدوا ) . ورأت قريش هذه الآية جهاراً ، بوضوح ، ولوقت طويل ، فسقط في أيديهم وبهتوا ، ولكنهم لم يؤمنوا ، بل قالوا : هذا سحر ابن أبي كبشة ، لقد سحرنا محمد ، فقال رجل : إن كان قد سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، فانظروا ما يأتيكم به السفار ، فجاء السفار فسألوهم ، فقالوا : نعم قد رأيناه ، ولكن قريشاً مع ذلك أصروا على كفرهم واتبعوا أهواءهم . وكأن انشقاق القمر كان تمهيداً لما هو أكبر وأهم حدثاً من ذلك ، وهو الإسراء والمعراج ، فإن رؤية القمر هكذا منشقاً بعين اليقين تسهل على الذهن قبول إمكان الإسراء والمعراج والله أعلم .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
#30
|
|||
|
|||
شق صدره وعودته إلى أمه وجده وعمه قال أنس بن مالك رضي الله عنه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبيريل ، وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه ، فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقة ، فقال : هذا حظ الشيطان منك . ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه – أي ضمه وجمعه – ثم أعاده في مكانه . وجاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعني ظئره ( وهي المرضعة ) – فقالوا : إن محمداً قد قتل . فاستقبلوه وهو منتقع اللون . أي متغير اللون . قال أنس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره . إلى أمه الحنون : ورجع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا الحادث إلى مكة ، فبقي عند أمه وفي أسرته نحو سنتين ، ثم سافرت معه إلى المدينة ، حيث قبر والده وأخوال جده بنو عدي بن النجار ، وكان معها قيمها عبد المطلب ، وخادمتها أم ايمن ، فمكثت شهراً ثم رجعت ، وبينما هي في الطريق لحقها المرض ، واشتد حتى توفيت بالأبواء بين مكة والمدينة ، ودفنت هناك . إلى جده العطوف : وعاد به صلى الله عليه وسلم جده عبد المطلب إلى مكة ، وهو يشعر بأعماق قلبه شدة ألم المصاب الجديد . فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده ن فكان يعظم قدره ، ويقدمه على أولاده ، ويكرمه غاية الإكرام ، ويجلسه على فراشه الخاص الذي لم يكن يجلس عليه غيره . ويمسح ظهره ، ويسر بما يراه يصنع . ويعتقد أن له شأناً عظيماً في المستقبل ، ولكنه توفي بعد سنتين حين كان عمره صلى الله عليه وسلم ثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام . إلى عمه الشفيق: وقام بكفالته صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب شقيق أبيه ، واختصه بفضل الرحمة والمودة ، وكان مقلاً من المال ، فبارك الله في قليله ، حتى كان طعام الواحد يشبع جميع أسرته ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مثال القناعة والصبر ، يكتفي بما قدر الله له .
__________________
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
العلامات المرجعية |
|
|