اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > قصر الثقافة > قضايا سياسية وأخبار مصرية وعربية وعالمية

قضايا سياسية وأخبار مصرية وعربية وعالمية منتدى يختص بعرض كافة الأخبار السياسية والإقتصادية والرياضية في جميع أنحاء العالم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #16  
قديم 26-01-2012, 09:48 PM
الصورة الرمزية د.عبدالله محمود
د.عبدالله محمود د.عبدالله محمود غير متواجد حالياً
معلم
 
تاريخ التسجيل: Oct 2008
المشاركات: 9,573
معدل تقييم المستوى: 25
د.عبدالله محمود is just really nice
افتراضي

فقد هيكل الكثير من مصداقيته وأراه مدفوعاً فى بعض مقالاته بالثأر الشخصى
أقولها للأمانة ، وليس من قبيل الدفاع عن المخلوع
فما ارتكبه المخلوع من جرائم هو أكبر من أن يدفعه عنه بشر
__________________

استودعكم من لا تضيع ودائعه
رد مع اقتباس
  #17  
قديم 27-01-2012, 02:48 AM
الصورة الرمزية راغب السيد رويه
راغب السيد رويه راغب السيد رويه غير متواجد حالياً
معلم لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 9,278
معدل تقييم المستوى: 24
راغب السيد رويه is a jewel in the rough
افتراضي

جزاك الله خيرا
__________________
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 27-01-2012, 05:20 AM
الصورة الرمزية راغب السيد رويه
راغب السيد رويه راغب السيد رويه غير متواجد حالياً
معلم لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 9,278
معدل تقييم المستوى: 24
راغب السيد رويه is a jewel in the rough
افتراضي

هيكل يواصل "من المنصة إلى الميدان": مبارك كان رجلاً معقولاً في بداية حكمه

الخميس 2012/1/26 12:08 م

هيكل ومبارك



Share5


واصل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، شهاداته على تاريخ الرئيس السابق حسنى مبارك، حيث قال :"إنه – أى مبارك - كان رجلاًا معقولاً فى بداية حكمه، وأنه يستطيع أن يتعلم من منصبه، ويكبر فيه"، وكان ذلك فى لقاء جمع هيكل بالرئيس الفرنسى الأسبق فرانسوا ميتران فى ثمانيات القرن الماضى.

وأضاف هيكل في الحلقة السادسة من كتابه "مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان" التى تنشرها جريدة الشروق اليوم الخميس ::"الرئيس الفرنسى الأسبق كان يعرف مبارك، عن طريق رجال المخابرات الفرنسية، الذين تباعوا تحركات الرئيس السابق، وقت أن كان نائبا للرئيس الراحل أنور السادات".
وحكى هيكل أنه تحدث ذات يوم مع دى ميرانش مدير المخابرات الفرنسية فى الثمانينات، وسأله عن مبارك، فكان رد "ميرانش" سريعًا بأنه يعرف مبارك عن قرب، ووقتها قال لـ"هيكل": "أتذكر مبارك وأتباعه منذ أن ظهرت صورته أمام الفرنسيين لأول مرة فى أجواء صفقة طائرت الميراج التى عقدتها ليبيا مع فرنسا عام 1971، وكانت صفقة كبيرة حجمها 106 طائرات".
وحين حاول "ميرانش" تفسير كواليس الصفقة لـ"هيكل" قال له: "كنا نعرف أن ليبيا تعقد هذه الصفقة لصالح مصر، لمساعدتها فى حرب أكتوبر عام 1973، ولذلك رحنا نراقب باهتمام، وفى الواقع رصدنا وفد المفاوضات الذى بدأ التفاوض فى الصفقة مع شركة طومسون، وكانوا جميعا ضباطا من سلاح الطيران المصرى، أعطوهم جوازات سفر ليبية، لإقناعهم بأنهم ليبيون، لكننا عرفنا حقيقة أمرهم، ولذلك لم يعد الآن سرًا".
وتابع "ميرانش" فى محض تفسيره لكواليس صفقة الطائرات، وفقًا لما ذكره هيكل فى كتابه: "فى هذا الوقت لمحت مبارك، لأول مرة، فقد حدث خلافًا بين بعض الذين شاركوا فى مفاوضات عقد الصفقة، وكانوا قد تركوا سلاح الطيران المصرى، وكونوا شركة بينهم، ثم اختلفوا واشتد خلافهم، وظهر مبارك يصالحهم مع بعضهم، بالحرص على علاقاتهم معًا، وهم من الأصل من ضباطه، وكان علينا أن نرصد كل شئ لأن الصفقة كلها أحاطت بها ظروف غير عادية".
وبالمصادفة، كان هيكل فى رحلة سفر إلى فرنسا، فى شهر سبتمبر عام 2008، والتقى عبد السلام جلود، الذى كان رئيسًا لوزراء ليبيا بعد سبتمبر عام 1969، كما كان جلود فى زمانه، هو الرجل الثانى فى قيادة الثورة الليبية بعد العقيد معمر القذافى وذكر "جلود" خلال هذا اللقاء أن قيمة صفقة قيمة الميراج مع فرنسا كانت 4 مليارات دولار.
وحصل هيكل من "دى ميرانش" على معلومات تفيد أن الولايات المتحدة وإسرائيل –وقت حكم السادات لمصر- كوّنوا مجموعة حملت عنوان "سفارى" أى (السفر فى الغابات) وكان نشاط هذه المجموعة الأصلى فى إفريقيا، وأن الملك "الحسن" فى المغرب، والملك "فيصل" فى السعودية، والشاه محمد رضا بهلوى فى إيران، وأنور السادات فى مصر، توفرت لديهم الجسارة لكى يتعاونوا مع فرنسا فى هذه المهمة، حيث كان يربط الدول الخمس "المغرب والسعودية وإيران ومصر وفرنسا" معاهدة مغلقة، وكان مبارك أحد الأشخاص الذين شاركوا فى هذه المعاهدة التى تم تسميتها بكلمة "كود" ولا يستطيع أحد تحديد معنى هذا الكود إلا إذا كان "طرفًا فى اللعبة"، وكان مبارك أحد المشاركين فيها.
http://www.moheet.com/
__________________
رد مع اقتباس
  #19  
قديم 27-01-2012, 04:33 PM
الصورة الرمزية صوت العقل
صوت العقل صوت العقل غير متواجد حالياً
نجمة العطاء
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 11,125
معدل تقييم المستوى: 26
صوت العقل is a jewel in the rough
افتراضي

حقيقى حسيت بعدم الاقتناع فى بعض الاجزاء ..

شكرا .. جزاكم الله خيرا جميعاااا على المجهود ..
__________________
استودعكم الله ..


رد مع اقتباس
  #20  
قديم 29-01-2012, 05:07 AM
الصورة الرمزية راغب السيد رويه
راغب السيد رويه راغب السيد رويه غير متواجد حالياً
معلم لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 9,278
معدل تقييم المستوى: 24
راغب السيد رويه is a jewel in the rough
افتراضي

اليوم السابع تقرأ فى الحلقة السابعة من كتاب هيكل بدار الشروق.. مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان.. مبارك مبهور لأن أتباع أغاخان يقدمون له وزنه ذهبًا فى كل احتفال به

الأحد، 29 يناير 2012 - 00:15
الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل
نقلاً عن الشروق

◄ يقدم الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى مقدمة الحلقة السابعة من كتاباته "مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان" والتى تصدر عن دار الشروق، انطباعاته عن اللقاء الأول الذى جمعه مع الرئيس السابق مبارك وامتد لساعات طويلة، فيقول..
منذ ذلك اللقاء الأول والمطول مع الرئيس «مبارك»، كان بين ما لفت نظرى وبشدة توسعه الشديد فى استعمال ألفاظ يصعب تداولها فى أحاديث السياسة، ومعظمها مما تتجنبه الأعراف، وبعضها مما تطاله مواد القانون!!

وفى ذلك اللقاء الأول لاحظ هو دهشة لعلها أفلتت إلى ملامح وجهى عندما سمعت بعض ما كان يرد على لسانه بين الحين والحين من لفظ، وكذلك بادر إلى شرح ما لم يكن لديه داعٍ لشرحه، قائلا «لا مؤاخذة يا محمد بيه»، ولكن هذه التعبيرات أننى لاحظت أنها أقلقتك هى اللغة التى كنا نستعملها فى المعسكرات والقواعد البعيدة».

وطمأنته إلى أننى بتجربة مراسل حربى قديم سواء فى الحروب التى خاضتها مصر، أو فى حروب آخرين غطيتها سمعت قادة كبار يستعملون مثيلا لما وصفه بأنه «لغة المعسكرات والقواعد»، وطمأنته أيضا إلى أننى سمعت الرئيس الأمريكى الأشهر الجنرال «دوايت أيزنهاور» يستعمل هذه الألفاظ مرات!
وأظهر اهتماما بقوله: و«كمان» أيزنهاور؟!».

ثم أضاف أنه سمع نفس اللغة عندما كان فى روسيا يدرس فى كلية «فرونز»، ثم سمعها كذلك أثناء اختلاطه بالعسكريين الأمريكيين الذين التقاهم فى تجربته، حتى كنائب رئيس، لكنه لم يخطر له أن يستعملها «أيزنهاور»!!

وعلَّق وهو يبتسم «أن الناس تسمع هذه الأسماء المشهورة فى العالم وتنبهر، لكنه عندما يقتربون منهم كفاية يرونهم مثلنا «ويمكن أوحش»!!».

◄ وفى هذه الفقرة يذكر هيكل لأول مرة اسم سوزان مبارك، وذلك عندما تحدث الرئيس السابق أن زوجته حاولت أن تساعده فى القضاء على مشكلة بعض الألفاظ التى تخرج منه، فيتحدث هيكل قائلاً:
أضاف «مبارك» أن «سوزى» (يقصد السيدة قرينته)، حاولت منذ زواجهما أن «تربينى» من جديد، وقد نجحت، واستدرك «مبارك» بعفوية قائلاً: «إلى حد ما»، وأضاف «أنه واعٍ لهذه المشكلة، حريص ألا تفلت منه كلمة أثناء خطاب عام».

ولم يظهر لى بعدها أن «مبارك» حقق نجاحا كبيرا رغم محاولاته، ومحاولات غيره، فقد حدث فيما بعد أن زارنى الأستاذ «فؤاد سراج الدين» يريدنى أن أسمع شريطا مسجلا وصل إليه لخطاب ألقاه وزير الداخلية وقتها اللواء «زكى بدر» أثناء مؤتمر شعبى فى «قليوب»، وسمعت الشريط وإذا وزير الداخلية يكرس فقرات طويلة من خطابه للهجوم على رئيس حزب الوفد، ثم يتجاوز بالسب والقذف، واصلا إلى أصول العائلة وجذورها، وكان «فؤاد سراج الدين» مستفزا وبحق، وهو يحكى لى وقائع ما جرى!!

◄ ويتناول هيكل، الحديث الذى دار بينه وفؤاد سراج الدين وأسامة الباز عن الشريط الذى تم تسجيله عن طريق زكى بدر، مشيراً إلى أن مبارك عرف الأمر وحقق فيه، وطلب من زكى بدر أن يقدم اعتذاراً لفؤاد سراج الدين، فيقول هيكل:
واتصلت و«فؤاد سراج الدين» أمامى بـ «أسامة الباز»، وكان فى مكتبه بوزارة الخارجية القديم، أسأله إذا كان يستطيع أن يمر علينا، وهو على بُعد خمس دقائق بالسيارة من مكتبى، وبالفعل جاء «أسامة» وسمع بنفسه رواية «سراج الدين»، وتعهَّد بأنه سوف يأخذ الشريط إلى الرئيس، وهو «يثق أنه لا يرضى بإهانة أحد، خصوصا رجل فى مقام «فؤاد» (باشا)».

وبعد يومين اثنين اتصل بى الرئيس «مبارك» بنفسه على التليفون يقول «إنه عرف بما وقع وحقق فيه وأنه طلب من «زكى بدر» أن يعتذر لـ«فؤاد سراج الدين» وأن وزير الداخلية نفذ الأمر وهو يطلب اعتبار الموضوع منتهيا».

وأضاف «مبارك»: أن «زكى بدر» حاول أن يلف ويدور معه، مدعيا أن شريط التسجيل مزور، ولكنه لم يعطه الفرصة، ثم راح «مبارك» يروى ما جرى بعد ذلك.

وطبقا لروايته: «اتصل به «زكى بدر» وأبلغه أنه اعتذر فعلا لـ«سراج الدين» وبأمر الرئيس رغم أنه مازال مصرا على أن الشريط مزور.
وسأله «مبارك»: هل «قَبِلَ» «فؤاد سراج الدين» الاعتذار؟! وكان الرئيس «مبارك» يضحك وهو ينقل لى ما سمعه من وزير الداخلية «زكى بدر»، الذى رد عليه قائلا له: سيادة الرئيس أنت تعرف «فؤاد سراج الدين»، هذا النوع من الناس لا يمكن إقناعهم، فهم (......)، وكلها شتائم أفزع مما قال فى الشريط.
واستطرد «مبارك»: تصور أنه وهو ينكر فى كلامه معى، كرر السب والقذف بأشد مما قاله علنا، و.. « »!!
ولم أتمالك نفسى فأبديت ملاحظة تساءلت فيها: «هل هذا معقول؟!».
وكانت المفاجأة أن الرئيس «مبارك» رد بقوله: «أنت لا تعرف «زكى بدر» لسانه مفلوت و(......)، وكانت كلمات الرئيس فى وصف وزير داخليته «أصعب» مما قاله «زكى بدر» عن «سراج الدين»، ولاحظ «مبارك» بسكوتى أننى مأخوذ مما سمعت منه هو أيضا، ثم كان تعليقه الأخير «لا مؤاخذة يا محمد بك»، يظهر أن «الكتابة» تعلِّمكم الشعر، ولا تعرِّفكم «عن الدنيا وما فيها»!!

واتصلت بالأستاذ «فؤاد سراج الدين»، أرجوه نقلا عن الرئيس أن يعتبر المسألة منتهية، وأن «زكى بدر» على ما أظن اعتذر له.
وقال لى «فؤاد سراج الدين»: «الرئيس «مبارك» كلمنى فورا، وسألنى إذا كان «زكى بدر» قد اعتذر لى، وإذا كنت قبلت اعتذاره!!».

◄ ويحكى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أن سراج الدين طلب منه اللقاء على الغداء، للتحدث فى هذا الأمر، فيروى هيكل من كان موجوداً أثناء اللقاء وكيف دار الحديث، فيقول هيكل:

وأضاف «سراج الدين»: أنه يقترح أن نلتقى ظهر اليوم التالى على الغداء فى بيته ونتحدث فى هذا الموضوع، وفى غيره من هموم الساعة، وعلى الغداء فى بيته فى «جاردن سيتى» التقينا فى اليوم التالى، وكنا على المائدة خمسة:
«فؤاد سراج الدين» نفسه والسيدة «ليلى المغازى»، وهى صديقة عائلية قديمة رأت أحوال الفوضى فى حياة ذلك السياسى المخضرم بعد وفاة زوجته السيدة «زكية البدراوى»، خصوصا وهى تعرف أن صحة ابنته الكبرى «نائلة» لم تكن على ما يرام، كما أن ابنته الثانية «نادية» متزوجة وتعيش فى الكويت وكذلك اقتربت هى من حياته ترتب شئون بيته.

وكان الثالث هو الصديق ورفيق السجن المشترك «عبدالفتاح حسن» (باشا) قطب حزب الوفد السابق، ووزير الدولة مع «فؤاد سراج الدين» فى وزارة الداخلية، لأن «فؤاد سراج الدين» كان مسئول وزارتين فى وزارة «مصطفى النحاس» (باشا) الأخيرة وهما: المالية والداخلية.

ثم قرينتى وأنا.
وراح «فؤاد سراج الدين» يحكى منذ اللحظة الأولى.
حكى كيف وصله شريط التسجيل (من ضابط بوليس كبير يعرفه منذ كان هو نفسه وزيرا للداخلية قبل الثورة!).
وكيف اتصل به «زكى بدر» يحاول التنصل من الاعتذار بأن الشريط مزور، وأنه قال له «إنه كوزير سابق للداخلية لا يرضى لوزير لاحق أن يراوغ كما يراوغ أى متَّهم أمام مأمور القسم الذى احتجز فيه!».
ثم وصل «سراج الدين» إلى اتصال «مبارك» به، وإذا «فؤاد سراج الدين» يسمع من الرئيس «مبارك» مثلما سمعت قبله فى وصف رئيس الدولة لوزير داخليته.
وقال «فؤاد سراج الدين» إنه سأل «مبارك» «إذا كان ذلك رأيك فيه، فلماذا لا تغيره؟!!».
ورد «مبارك» بأن:
«كلهم رشحوه كضابط بوليس قادر على مواجهة حالة الإرهاب فى البلد، لكنه الآن يفكر جديا فى تغييره».
وواصل «فؤاد سراج الدين»:
«إن الرئيس سأله بعدها إذا كان لديه مرشح يصلح؟!».
وأجابه «فؤاد سراج الدين»:
«إن الرئيس يستطيع اختيار أى خفير فى أى بندر، ولن يكون اختياره أسوأ من اختيار «زكى بدر».

وتطوَّع «عبد الفتاح حسن» (باشا) يقول موجِّها كلامه إلى «فؤاد سراج الدين»:
«ولِمَ لمْ ترشح له (يا باشا) أحدا تعرفه بجد؟!».
ورد «فؤاد سراج الدين»، وفى رده تجربة سياسى مخضرم:
«هل يُعقل أن يطلب رئيس دولة من معارض له أن يختار مسئولا عن أمنه، بينما هو يعتبر بالتأكيد أن هذا المعارض خطر سياسى عليه؟!».

ومضى «فؤاد سراج» ملاحظا:
«أنه يستغرب أن يتخلى رئيس بهذه الطريقة عن مرءوس له، حتى وإن أخطأ، وإنما الصواب أن يقوم بتصحيحه فيما بينهما، ومن المعقول أن يطلب إليه الاعتذار لمن أساء إليهم، ولكن لا يكشفه أمام المعارضين ويطلب منهم بديلا يحل محله!!».

وأضاف: «إما أن «مبارك» لا يقصد ما يقوله، وما طلبه منى «فك مجالس»، وهذا سياسيا لا يجوز، وإما أنه على استعداد لأن يرمى أى واحد من رجاله فى البحر لتخف حمولة قاربه، وهذا لا يطمئن!!».

وكان ظنى وقد قلت يومها على الغداء فى بيت «فؤاد سراج الدين» «إنه ليكن ما يكون، وإننى لست مختلفا معه فيما قال، لكن البلد أمام مشكلة حقيقية».
نعم الرجل لديه أسباب للقصور كلنا نراها.
لكنه فى المقابل فإن الرجل يرأس الدولة المصرية فعلا، وليس هناك غيره.
ومن الناحية الأخرى فليست هناك بدائل هذه اللحظة، بل ليست هناك وسائل إلى هذه البدائل.
والظروف فى البلد دقيقة وشديدة، لأن أحدا لا يعرف على وجه التحديد ما يكفى من الحقائق وراء الظاهر مما يراه!!

واتفق «فؤاد سراج الدين» معى فى أشياء واختلف فى أشياء، وكان خلافه فى الأساس قولى «إنه ليس هناك بديل»، وظنه أن حزب الوفد ليس فقط البديل، ولكنه الأصل الشرعى الموجود.

وكان ذلك موضوعا خلافيا بين «فؤاد سراج الدين» وبينى، فقد كان رأيى أن استحضار الماضى مثل استحضار الأرواح غير مقنع فى أبسط الأحوال!!
وقد يصبح حزب الوفد نداء لنوع من الديمقراطية، لكنه يصعب علىَّ أن أراه نداء لشكل المستقبل.

والحقيقة الراهنة أن «مبارك» هو الرئيس، وإلى جانب ذلك فليس فى مقدورنا أن نساعده، لأن كلانا لديه تحيزات مسبقة من تأثير انتمائه إلى مرحلة معينة فى التاريخ المصرى، ومع تسليمى بتواصل المراحل، فإن كل مرحلة لها خصائص، وأيضا لها مسئوليات!!

وكان اقتراحى على «فؤاد سراج الدين» «أن يحاول كل من يستطع مساعدة الرجل على أن ينمو بتجربته الخاصة، وذكَّرته بالرئيس الأمريكى «هارى ترومان» الذى كان نائبا للرئيس، ثم رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية بعد وفاة قائدها الأشهر «فرانكلين روزفلت» بينما الحرب العالمية الثانية ضد «هتلر» مازالت تجرى، و«روزفلت» كان قائد التحالف الكبير الذى يخوض الحرب ضد «هتلر»، وهناك قرارات كبرى تنتظر أمره، وأولها قرار استخدام الأسلحة النووية لأول مرة فى حرب (ضد اليابان)».

وأضفت «أن «ترومان» بدا لكل المهتمين بمستقبل العالم آخر رجل يمكن الاعتماد عليه فى قيادة معركة المستقبل العالمى، سواء لإنهاء الحرب أو بعدها، حتى وإن لم يكن سلاما، لكن النخبة فى الولايات المتحدة وقفت مع الرئيس الجديد وأعطته الفرصة، وقد كبر الرجل ونضج بتجربة المسئولية، وأصبح من أبرز الرؤساء الأمريكيين فى القرن العشرين».

ولم يبدُ على «فؤاد سراج الدين» أنه اقتنع بإمكانية أن يتحول «حسنى مبارك» إلى «هارى ترومان» مصرى.

◄ وفى هذه الفقرة يحكى هيكل كيف فاجأه عبد الفتاح حسن باشا أثناء الحوار، عندما طلب من هيكل الانضمام الى حزب الوفد، وكيف تلقى فؤاد باشا سراج الدين ذلك الطلب، فيقول هيكل ..
وتدخَّل «عبد الفتاح حسن» (باشا) فى الحوار مرة ثانية، يقول موجِّها الكلام لـ«فؤاد سراج»:
«ما رأيك يا باشا أن ينضم («هيكل») إلى الوفد، ويكون من ذلك لقاء بين الثورتين (يقصد سنة 1919 وسنة 1952) وفى حين أن «فؤاد سراج الدين» التفت متحمسا إلى السيدة «ليلى المغازى» يطلب منها أن تذهب بسرعة إلى غرفة مكتبه وتجىء باستمارة عضوية لحزب الوفد فقد قلت من جانبى: «إن «عبد الفتاح حسن» (باشا) لا يريد أن يقتنع بأنى صحفى فقط، لا دخل له بالتنظيمات السياسية، إلى جانب أننى من مؤيدى ثورة سنة 1952 ولكنى لا أمثلها، وفوق ذلك فهناك قناعتى بأن كلا من الثورتين 1919 و1952 قد استوعبها التاريخ المصرى وهضمها، ودخلت عصارتهما فى عروقه، والآن زمان جديد!!».
وكالعادة فى مثل هذه المناقشات لم نصل إلى شىء، وقُصارى ما اتفقنا عليه بعدها: فنجان قهوة ودخان سيجار!!

◄ ويروى هيكل عن اتصال جرى مرة أخرى بينه وبين الرئيس السابق مبارك يشكره فيه، على موعد طلبه مع الأمير صدر الدين أغاخان، فيقول هيكل:
وبعد أيام قليلة عاود «مبارك» اتصاله بى، فقد اتصل يشكرنى أننى طلبت موعدا معه لصديق عزيز يزور مصر، وهو الأمير «صدر الدين أغاخان»، وكنت قد طلبت الموعد عن طريق «أسامة الباز»، وتحدد فعلا، وقابله «مبارك»، والآن كان «مبارك» يتصل بى يشكرنى أن أتحت له الفرصة يقابل رجلا مثل «صدر الدين أغاخان» الذى وجده «رجلا عظيما!!».

وقال الرئيس «مبارك» على التليفون: «إن «الرجل» يعرف الكثير، وشخصيته آسرة، وهو متواضع رغم أنه أمير».

وقلت: «إنه بصرف النظر عن مسألة الإمارة فإن «صدر الدين أغاخان» رجل متحضر، وقد عاش تجربة إنسانية كبيرة، عندما قام على مهمة مفوض الأمم المتحدة لشئون اللاجئين، فذلك أتاح له أن يتحرك على اتساع القارات» أضفت: «إن «صدر الدين أغاخان» تحمَّل هذه المهمة بلا مقابل، وحين قيل له إن لكل منصب عقدا، وكل عقد له مرتب فإنه طلب أن يكون مرتبه فى العقد دولارا واحدا كل سنة».

وقال «مبارك»: «هو غنى جدا كما عرفت من «أسامة»، و«أسامة الباز» قال لى إن أتباع مذهبهم يزنونهم بالذهب كل عام».

ثم أضاف: «أنه استفاد من لقائه، واستمتع به» ثم تساءل: «لم يعد هناك ناس كثيرون بهذا الشكل؟!!».

وقلت: «إن الناس موجودين» أضفت: «أن مصر ملأى برجال ونساء لهم قيمة، لكنه لا يراهم».

◄ ويستطرد هيكل ان الحديث جرى بينه وبين مبارك، عن هؤلاء الأشخاص الذين لهم قيمة، ولكن من الصعب العثور عليهم " على حد قول مبارك "، فيقول هيكل:
وسأل: «وكيف نعثر عليهم؟!».
ووجدتها فرصة لأطرح عليه اقتراحا ظننته نافعا.
وسألته: لماذا لا يدعو على غداء أو عشاء أو حتى فنجان شاى، عشرة أو اثنى عشر رجلا أو امرأة من شخصيات مصر مرة كل شهر يعرفهم ويستمع إليهم ويتحاور معهم؟!!
مفكرون أساتذة جامعات رجال أعمال ساسة، حتى ولو كانوا معارضين.
قلت له: «إنه يتعامل مع كل الناس من خلال قنوات رسمية، أو بالأدق من خلال قناة واحدة فى مكتبه، ومع تقديرى لنشاط رجل مثل «أسامة الباز»، فمن حق الرئيس أكثر مما هو واجبه أن يتوسع فى دائرة من يعرف».
وقلت له: «إن الرئيس «جون كنيدى» كان يتبع هذا التقليد».
غداء أو عشاء أو فنجان شاى منظم كل شهر مع مجموعة متنوعة من عناصر الفكر والفعل فى البلد، ومن خارج المجال الرسمى.
رد بعد قليل: «إن كل هؤلاء سوف يخرجون ويملأوا الدنيا كلاما معظمه «هجص».

وقلت: بإذنه فإنه يظلم الناس، ومع ذلك فماذا يحدث لو تكلموا أو تكلم بعضهم، ثم إن ذلك ربما يحدث فى بداية التجربة، لكنه عندما تتعود النخب على لقاء رئيس الدولة ويسمع منها وتسمع منه فإن التجربة سوف تأخذ مسارها الطبيعى، ولا تعود عجبا يستوجب كثرة الكلام!!».

قلت أيضا: «إنه إذا كان قد استفاد من لقائه مع «صدر الدين أغاخان»، فإن كثيرين من العالم الخارجى مجموعة شخصيات متنوعة ومنتقاة يمكن دعوتها للقائه فى مصر ولأحاديث مفتوحة معه». وأضفت «أننى فعلت ذلك مع «جمال عبدالناصر» ورتبت لكثيرين من نجوم ذلك العصر أن يجيئوا إلى مصر ضيوفا علينا ويلتقون به، بحيث تحتك أفكار بأفكار، وتتلاقى عقول مع عقول، وإنى أتذكر أن «جمال عبدالناصر» استفاد من رجال ونساء دعوتهم إلى مصر، ومنهم على سبيل المثال الماريشال «مونتجمرى» والجنرال «بوفر» و«جان بول سارتر» و«سيمون دى بوفوار»، وصحفيين عالميين من أمثال «والتر ليبمان» و«ساى سالز بورجر» و«دنيس هاملتون» وساطع الحصرى وقسطنطين زريق وكلاهما من جيل المفكرين القوميين الكبار، وكثيرين غير هؤلاء.

وسكت «مبارك» قليلا، ثم تساءل: «ولماذا لا تفعل نفس الشىء الآن؟!» ثم أضاف «أننى عرضت عليك أن تدخل الحزب ومن داخله تستطيع أن تتصرف».

وقلت: سيادة الرئيس.. أولا أنا لم أنتمِ حزبيا طول عمرى. وثانيا فإننى لا أستطيع أن أكرر معك ما فعلته مع «جمال عبد الناصر»، لأن التاريخ لا يعيد نفسه على حد ما قال «كارل ماركس»، التاريخ لا يعيد نفسه وإذا فعل فهو فى المرة الأولى دراما مؤثرة، وفى المرة الثانية مهزلة مضحكة!!».

وأدهشنى تعليقه:
«الله.. تستشهد بـ«كارل ماركس»؟!».
ثم كان اقتراحه ـ تكرارا لسابقة فى ذاكرتى، أن يبعث إلىَّ بـ«أسامة الباز» أتحدث معه فيما أتصوره لتنفيذ ما اقترحه.

◄ وفى هذه الفقرة يحكى الكاتب الكبير عن اللقاء الذى دار بينه وبين أسامة الباز، حول مسألة الترتيب للقاء عدد من الشخصيات، فيقول هيكل :
وجاء «أسامة الباز» فعلا، ومعه نفس الدفتر الأصفر مما يستعمله رجال القانون فى أمريكا، لكنه لم يخرج قلما من جيبه، وإنما راح يحاورنى وهو يجلس أمامى ويهز رأسه على طريقته «عندما يواجه معضلة»، ويقول:
«أنت تتعب نفسك، وتتعب الناس معك دون داعٍ هو لن يقابل أحدا، قد يكون «انبسط» من مقابلة «صدر الدين أغاخان»، لكن هؤلاء ليسوا نوع الناس الذين يستريح معهم».

وقاطعته: لماذا تفترض ذلك، دع الرجل يرى ويسمع ويعرف أن البلد والعالم ملأى برجال ونساء يستطيع أن يتعلم منهم!
ثم قلت: «أسامة» لديك فرصة «تأهيل» رئيس..!

وبدوره قاطعنى «أسامة»: «أنا أعرفه أكثر منك، وصدقنى هو لا يستريح إلا لمن يعرفهم، وأما غيرهم فهو من الأصل لا يشعر معهم بالاطمئنان».

وأظن أن «أسامة» كان يعرف أكثر، فلم أسمع بعدها عن الفكرة، لا من «مبارك» ولا من غيره!فى الحلقة القادمة الصيغة السحرية التى أقرها مبارك للانتخابات النيابية قال مبارك لوزير الداخلية: سوف أراك بعد الانتخابات .. وبعدها أخرجه من الوزارة.
__________________
رد مع اقتباس
  #21  
قديم 31-01-2012, 03:14 AM
الصورة الرمزية راغب السيد رويه
راغب السيد رويه راغب السيد رويه غير متواجد حالياً
معلم لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 9,278
معدل تقييم المستوى: 24
راغب السيد رويه is a jewel in the rough
افتراضي اليوم السابع تقرأ فى الحلقة الثامنة من كتاب “هيكل” بدار الشروق.. مبارك وزمانه من المن

اليوم السابع تقرأ فى الحلقة الثامنة من كتاب “هيكل” بدار الشروق.. مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان.. هواجس قديمة وجديدة.. ملوك وسفراء وكتاب حيرهم ما رأوه وقطعوا الأمل من البداية

الثلاثاء، 31 يناير 2012 - 01:55

الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل
نقلاً عن الشروق

◄ «مبارك» يخترع صيغة «عبقرية» فى إدارة الانتخابات النيابية
◄ كان محيراً فى بعض اللحظات تبدت منه تصرفات تلقى القبول.. وفى لحظات أخرى تصرفات تلقى الرفض، وفى مرات أخرى تصرفات تلقى الاستغراب!!
◄ هل تعرف من أين يشترى الرئيس «تيتو» أحذيته وهل هى جاهزة أو تفصيل؟!

يقدم الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى مقدمة الحلقة الثامنة من كتاباته “مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان” والتى تصدر عن دار الشروق، رصداً لآراء مختلف من تعامل مع الرئيس السابق عن مبارك خصوصاً ما قيل عنه “البقرة التى تضحك”، إضافة إلى آراء أخرى.. ويقول:
طوال الفترة الأولى من رئاسة «مبارك» تفاوتت المواقف بشأنه لدى جماهير الشعب المصرى، وتباينت الآراء: فريق مازال واقفًا عند بقايا «حكاية البقرة التى تضحك»، ولا يكف عن إطلاق النكات حوله.

وفريق ثانٍ يطلب من الرئيس الجديد فوق ما تحتمله الظروف، دون إدراك للمصاعب والقيود التى تعترض طريقه، حتى لقد وصل البعض فى هذا المجال إلى مطالبة «مبارك» بنقض «معاهدة السلام» مع إسرائيل، كى يعود إلى الصف العربى.

وفريق ثالث قدَّر أن الظروف ـ بعد اغتيال الرئيس «السادات» وبعد موجات القلق المرتدة بعد صدمة الاغتيال ـ لا تسمح لأحد بترف التمسك بانطباعات مسبقة أو الإلحاح بمطالب عاجلة، لأن الرجل بالفعل يستحق فرصة مفتوحة.

وفريق أخذته الحيرة، وكان موقفه الإمساك بالتداعيات لا تفلت ولا تتردى، ومقولته أن «اتركوا الرجل لنفسه، ولما يعرف، ولمن يعرف، وانتظروا!!».

وللأمانة فإن الأغلبية من الناس كانت على استعداد لأن تقبل بالرجل، وتنتظره، وتعطيه هذه الفرصة المفتوحة، وإن كان ذلك لم يمنع أن آخرين ظلوا يتوقعون أن يتصرف الرئيس، كما يجب فى رأيهم أن يتصرف.

ويكشف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أنه كان ينتمى إلى الفريق الذى يؤيد إعطاء فرصة لمبارك رغم أن مبارك بدا محيراً.. ويقول:
الحقيقة أننى كنت ضمن الفريق الذى يرى أن الرجل يستحق فرصة، خصوصا أن حقائق الأشياء لها منطقها، ومع ذلك فإن الرجل بدا محيراً لى، وبين أسباب حيرتى ما كنت عرفته وإن ظل محجوباً عن دائرة العلم العام.

كنت أعرف شيئاً عن قضية «الخرطوم»، وسلة المانجو الملغمة التى أسهمت على نحو أو آخر فى اغتيال الإمام «الهادى المهدى”.

وكنت أذكر ما سمعت فى باريس عن النشاط الذى قام به «مبارك»، سواء فى إطار مجموعة «السفارى» فى أفريقيا، أو غير ذلك مما سمعت.

لكننى وربما رغبة فى تهدئة قلق يساورنى من توجُّهاته، خصوصا بعدما سمعت منه بنفسى عن رؤيته للعلاقات مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل، حاولت أن أجعل شكوكى تميل إلى ناحية البراءة، كما يقولون.

ويسوق الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أسباب موقفه من مبارك وإعطائه الفرصة، قائلاً:
بمعنى أننى فى كل ما هو سياسى لم أضع على الرجل مسئولية قرار سابق على رئاسته، فالقرار لم يكن عنده وإنما عند غيره، ومن الصعب الطلب من كل مسئول فى الدولة - حتى على مستوى نائب الرئيس - أن يقف أمام كل قرار لا يوافق رأيه ويحوله إلى أزمة، خصوصا إذا كان هذا الرجل نفسه من خارج الدائرة السياسية أصلا، وإنما هو من داخل دائرة تلقى الأوامر وتنفيذها، مع الأخذ فى الاعتبار أن بعض المسائل السياسية فيها من قواعد النظر والتفكير ما يختلف عن مواد القانون، ذلك أن السياسة تقدير، فى حين أن القانون نصوص، ومع أن هناك باستمرار صلة لابد من وجودها بين التقديرات والنصوص، إلا أن هذه الصلة تحتفظ فى عوالم السياسة بمرونة أوسع فى تفسير وتأويل النصوص!

يُضاف إلى ذلك أنه فى النظر إلى تصرفات من نوع ما جرى فى «الخرطوم»، أو فى إطار مجموعة «السفارى»، فإن القضايا معقدة، وفيها ما يتعلق بمصلحة الدولة العليا RAISON D’ETAT، على حد قول الكاردينال «ريشيليو»، لأن المسئول عن القرار له معيار فى حسابه، فى حين أن المسئول عن تنفيذه له معيار آخر، وهذا المسئول عن التنفيذ لديه ما يدفع به أى اتهام، بقاعدة أنه نفذ أوامر صادرة إليه من سلطة أعلى، عليها هى ــ وليس القائم بالتنفيذ ــ حساب دواعى المصلحة العُليا فى القرار.

وأبسط مثال على ذلك أن البوليس لا يملك غير طاعة الأمر، إذا طلب منه إجراء معين فى طلب حفظ الأمن، وكذلك الجيش حين يُقاتل بهدف النصر.

وقد أثيرت هذه القضايا جميعا، وعلى أوسع نطاق بعد الحرب العالمية الثانية بالذات، وتناقضت الآراء إزاء تصرفات متجاوزة (أو هكذا حسبها الآخرون)، لكن الذين قاموا بها، فعلوا ما فعلوا وهم تحت أوامر رؤسائهم، أى تحت ظروف قوة قاهرة تقتضيها مصلحة عامة قدرها مسئول سياسى، باعتبارها مطالب دولة ولا سبيل أمام المكلف بالتنفيذ غير أن ينفذ، وهذه على أية حال قضية يطول فيها الجدل ولا تفرغ الحجج.

وهكذا فيما يتعلق بـ«مبارك»، فقد كان ظنى أن صفحة حسابه السياسى تبدأ منذ انتخابه فى أكتوبر 1981، لأنه قبلها كان موظفا يطيع الأمر، حتى وإن كان بدرجة نائب لرئيس الجمهورية، وهو منصب سياسى.

ويستدرك الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل موضحاً الفرق بين الظنون والشبهات لتصبح أمراً محيراً.. ويقول:
برغم هذه المعايير التى تميل لصالح الشك، بمعنى أنها لا تحكم بمقتضى الظنون، ولا تفصل بالشُبهات، ولا تتعسف فى اختصاصات السلطة بين السياسى والتنفيذى، فإن «مبارك» كان «محيرا»!

فى بعض اللحظات تبدت منه تصرفات تلقى القبول، وفى لحظات أخرى تصرفات تلقى الرفض، وفى مرات أخرى تصرفات تلقى الاستغراب!!

ومثلا فقد رأيته بنفسى على شاشات التليفزيون المصرى يزور أحد المصانع، ثم يتبسط مع أحد الواقفين أمام الآلات، يتحدث إليه ويسأله عن أجره، والرجل يراوغ فى الرد، ويزيد إلحاح الرئيس، والكاميرات مسلطة عليه وعلى الرجل الواقف أمام الميكروفونات، حتى اضطر الرجل الذى بلغ به الإحراج أشده، أن يقول للرئيس الجديد:

ــ «يا فندم، «أنا عنصر أمن، ولست عاملا هنا».

أى أنه ضابط بوليس دس وسط العمال أمام إحدى الآلات تشديدا مقصودا للأمن.
وهز «مبارك» رأسه وكان تعليقه: «آه»!

لم يقل غيرها وانصرف عن الرجل، ومع أن كل من رأوا المشهد علَّقوا عليه، فقد كان ردى على كل من سألوا: «ألا ينسوا أنه تصرف عفويا بحسن نية»، وفى الحقيقة فإنه كان يكفينى منه فى ذلك الوقت أن أراه يقوم بزيارات منتظمة لوحدات الإنتاج، ويظهر حرصا عليها، يدرأ عنها غارات المتربصين!!

ويضرب الكاتب الكبير مثالاً آخر بموقف شخصى تعرض له أثناء لقائه الملك حسين ملك الأردن وردود فعل الأخير حول شخصية مبارك.. ويقول:
وفى مثال آخر لقيت الملك «حسين» ـ ملك الأردن ـ فى القاهرة، وكان قد جاء إليها بعد ما بدا من هدوء بعد عاصفة الاغتيال، ولم يدهشنى كثيرا أن الملك أشار بيده إلى سقف صالون القصر الذى ينزل فيه، ويقترح: دعنا نخرج إلى الحديقة نتمشى، فأنا لم أمارس أى رياضة هذا الصباح، وخرجنا، وكان الملك يريد أن يفضى إلىَّ بما لم يشأ أن يقوله داخل جدران القصر، ولم ينتظر طويلا عندما وصلنا إلى الهواء الطلق، وراح يتحدث عن «مبارك»، وخشيته: «أنه لا يعرف ما يكفى عن علاقات مصر العربية ولا تاريخها السابق أو الجديد، ولم يقرأ الملفات، وإذا كان قرأها فهو لم يستوعبها»، وأضاف الملك «حسين»: «إن الرجل لم يتغير منذ رآه لأول مرة وهو نائب للرئيس، يحمل إليه رسالة من «السادات».

وراح الملك ونحن نمشى بين الأشجار يقلد الرئيس «مبارك» عندما جاءه أول مرة نائبا للرئيس، وبرسالة منه، ويقلده وهو يفتح حقيبته، ويستخرج ملفا منها، وطبقا لرواية الملك: «فإن «مبارك» عند بعض النقط لم يستطع شرح المقصود من الرسالة، واستوضحه الملك، ودقق نائب الرئيس المصرى فى أوراقه، وبدا عليه الارتباك، ثم قال: «لا أعرف، ولكن هذا هو المكتوب أمامى، وعندما أعود إلى القاهرة فسوف أسأل الرئيس «السادات» عن مقصده، وأرجوه أن يكتب إليكم»!!».

وعقَّب الملك «حسين»: أنه لم يستطع أن يفهم، هل محدثه نائب لرئيس الجمهورية، أو حامل حقيبة يلتزم بأوراق كتبها بخطه، ومع ذلك لا يستطيع شرحها؟!!

وكان ردى على الملك «حسين» بأن الرجل ـ أقصد «مبارك» ـ ورث أوضاعا معقدة، ومعظمها مشاكل عويصة وخطيرة، ومن الحق أن تُترك له الفرصة.

ومثلا ـ وفى تلك الفترة أيضاً ـ جاءنى السفير «جمال منصور» وكان وكيلا لوزارة الخارجية، وهو من الأصل واحد من الضباط الأحرار (وهو بالمناسبة خال رئيس الوزراء السابق الدكتور «عصام شرف»)، وكان لدى «جمال منصور» ما يريد أن يقوله عن الرئيس الجديد، لأنه لاحظ ــ ونحن سويا ضيوف عشاء ــ نبرة حسن نية تطلب إعطاء «مبارك» فرصة لتثبيت وضعه، وكان رأى «جمال منصور»: «أنه لا فائدة، ثم راح يروى أنه التقى «مبارك» لأول مرة عندما كان يشغل منصب نائب الرئيس، وقد كُلِّف من «السادات» بنقل رسالة إلى الماريشال «چوزيف بروز تيتو» (رئيس يوجوسلافيا)، وهو صديق قديم لمصر، وكان «جمال منصور» وقتها سفيرا لمصر فى «بلجراد»، وكان بالطبع فى صحبة نائب الرئيس عندما ذهب لمقابلة «تيتو»، وقضى نائب الرئيس والسفير مع الرئيس اليوجوسلافى قرابة ساعة، وخرجا بعدها، وكان أول ما قاله النائب للسفير حين دخلا معا إلى السيارة سؤاله: إذا كان يعرف من أين يأتى «تيتو» بأحذيته، فهو طول المقابلة لم يرفع نظره عن حذاء «تيتو»، ويراه «بديعا»، وهو يريد أن يعرف هل الرئيس اليوجوسلافى يشترى أحذيته جاهزة، أم أنها تفصيل؟، وكان طلبه من السفير أن يسأل من يعرف فى حاشية «تيتو»، مضيفا: «أن الأحذية «الحلوة» هى هوايته الرئيسية»!

وكان تعليق «جمال منصور» قوله: «لا فائدة!».

وكان ردى على السفير «جمال منصور» أن اعطوا الرجل الفرصة، وأن هموم الرئاسة لن تترك لديه وقتا للتطلع إلى أحذية من يقابلهم من الرؤساء، وكان بين ما قلت لـ«جمال منصور»: أن «مبارك» هو نموذج الرجل العادى، لا هو الزعيم التاريخى، ولا هو نجم الشباك، وربما أن هذا ما تحتاجه مصر فى فترة هدوء بعد عاصفة المنصة!

ومثلا أضاف الأستاذ «فتحى رضوان» ـ وهو الزعيم الوطنى الصلب ـ إلى معارفى تلك الفترة قصة أخرى على نفس السياق، ولها مثل سابقتها صلة بالأحذية!

فقد اتصلوا به من رئاسة الجمهورية يبلغوه أن الرئيس «مبارك» يريد أن يراه ويتعرف عليه، وأنه حدد له موعدا فى استراحة «الدخيلة» كان ينزل فيها من أيام قيادته للطيران، وأن سيارة من الرئاسة سوف تجىء إلى بيته فى مصر الجديدة، وتقله إلى مطار «ألماظة» فى الساعة السابعة صباحا ليكون فى «الدخيلة» ولموعده مع الرئيس فى العاشرة، وتحمَّس «فتحى رضوان» للقاء، ولديه كثير يريد أن يقوله، وقد كتب بالفعل نقطا استغرقت خمس ورقات بخطه.

وجاءت السيارة ـ وطارت الطائرة، ووصل الأستاذ «فتحى رضوان» إلى مطار «الدخيلة»، وهناك قيل له إن موعده مع الرئيس تأخر ساعتين، لأن ضيفا أفريقيا كان يزور مصر سوف يجىء إليه، وأن هناك غرفة خُصصت له فى الاستراحة حتى يحين موعده، وقضى «فتحى رضوان» فى الغرفة قرابة خمس ساعات، واعتذر عن تناول غداء جاءوا به إليه فى الظهر، وبعد الظهر جاء إليه أحد الأمناء يخبره بأن الرئيس سوف يعود الآن من المطار إلى القاهرة مباشرة، وأنه فى الطائرة سوف يكون مع الأستاذ «فتحى رضوان» ولمدة ساعة على الأقل، وصعد «فتحى رضوان» إلى الطائرة الرئاسية، وجلس ولا أحد بجواره، لأن الرئيس كان فى الجزء الأمامى من الطائرة مع الضيف، على أنه بعد حوالى ربع ساعة من الطيران، قام «مبارك» عائدا إلى المقاعد الخلفية، وجلس على المقعد المجاور لـ«فتحى رضوان»، معتذرا عما وقع من خطأ، لأنه لم يتذكر موعده مع الرئيس الأفريقى، كما أن مكتبه لم يعرف كيف ينسق ما بين موعدين، وأراد فى دفع مظنة الإهمال أن يقول لـ«فتحى رضوان» إنه مازال نفس الرجل لم يغيره منصب الرئاسة، وإنه ـ مقاطعا حديثه ـ تصدَّق بالله يا «فتحى» بيه أنا لا أزال وأنا رئيس الجمهورية أمسح حذائى صباح كل يوم بنفسى، أجلس على الأرض، وأمسح الحذاء بالورنيش، ثم الفرشة، وبعدها قطيفة ألمعه بها.

وراح «فتحى رضوان» يشرح أن رئيس الدولة لا يصح له تضييع وقته فى مسح حذائه، وقال «مبارك»: «هذه من عوائدى كل يوم، حتى وأنا تلميذ فى ابتدائى، وحتى أصبحت قائدا للطيران، ونائبا لرئيس الجمهورية، والآن رئيسا لمصر، وقبل أن يقول «فتحى رضوان» شيئا، وجاء من يقول للرئيس إن الطائرة على وشك الهبوط فى مطار القاهرة، تذكر «مبارك» ضيفه الأفريقى، وأنه يجب أن يكون معه وقت النزول، فقام بعد أن قال لـ«فتحى رضوان» إنه سوف يطلب توصيله بالسيارة بعد الهبوط إلى بيت الرئيس حيث تكون الجلسة الحقيقية بين الرجلين، وهبطت الطائرة، ونزل الركاب، وكانت هناك سيارة فى انتظار «فتحى رضوان» لكنها لم تحمله إلى بيت الرئيس، وإنما إلى بيته هو!!

وكان «فتحى رضوان» وهو رجل جاد فيما يتصرف به، يقول مستفزا، وهو يروى لى ما حدث له ــ وسؤاله:

ـ هل يُعقل أن أضيع يوما كاملا فى السفر ذهابا وعودة نفس اليوم، ثم يكون لقائى معه خمس دقائق لم أستفد منها إلا أننى علمت أنه «يمسح جزمته بنفسه!!».
ورجوته أن يضع المسئولية على المكتب وليس على الرئيس، ولم يقتنع «فتحى رضوان»، ورحل بعدها عن الدنيا ولم يدع إلى مقابلة الرئيس، على الأقل للاعتذار له!

ويسرد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل تفاصيل لقاء الكاتب الساخر الراحل محمود السعدنى بمبارك، واندهاش السعدنى برد فعل مبارك عندما وجه سؤالاً لمبارك عن شعوره هو جالس على كرسى حكم مصر.. ويقول:
ومثلا فى هذه الفترة جاءنى الكاتب الكبير والساخر الأكبر الأستاذ «محمود السعدنى»، وقد مرَّ على مكتبى دون موعد يقول «إنه لا يريد غير خمس دقائق وسوف ينصرف بعدها»، ودخل «محمود السعدنى» إلى مكتبى، وسحبنى من يدى إلى شرفة مكتبى يقول لى بصوت هامس:

ـ «مصيبة.. كنت عند الرئيس «مبارك» الآن».
وأبديت بالإشارة تساؤلا مؤداه، وأين المصيبة؟!
وراح «محمود السعدنى» يروى:
جلست مع الرئيس ساعة كاملة كلها ضحك ونكت، وعندما حان موعد انصرافى سألته مشيرا إلى المقعد الذى كان يجلس عليه:
ـ يا ريس.. ما هو شعورك وأنت تجلس على الكرسى الذى جلس عليه «رمسيس الثانى» و«صلاح الدين» و«محمد على» و«جمال عبد لناصر»؟!!
بماذا تظنه أجاب علىَّ؟!
ولم ينتظر «محمود السعدنى»، بل واصل روايته:
«نظر إلى الكرسى الذى كان يقعد عليه، والتفت إلىَّ وسألنى:
هل أعجبك الكرسى؟!
إذا كان أعجبك، فخذه معك».
ويخبط «محمود السعدنى» كفا بكف ويقول:
«وخرجت وطول الطريق لم أفق من الصدمة ـ الرجل لم يستطع أن يرى من الكرسى إلا أنه كرسى، لم يدرك المعنى الذى قصدت إليه».
وحاولت طمأنة «محمود السعدنى»، وأنا نفسى لا أشعر بالاطمئنان، وكان تعليقى:
ـ الحق عليك وليس عليه، لماذا تحدثه بالرمز؟! ـ لماذا تفترض أن رئيس الدولة يجب أن يكون عليما «بالمجاز» فى أدب اللغة؟!
وكان تعليق «السعدنى» لفظا واحدا لا يجوز نشره!

ويكشف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أسرار عتاب مبارك له بعد أن وصف “هيكل” مرحلة حكم مبارك بالمرحلة انتقالية بمناسبة بداية العام الثالث لحكم مبارك..
ومرت سنة 1984 والرئيس «مبارك» يدخل إلى سنته الثالثة فى رئاسة الدولة، وبرغم كل شىء فقد بدا رجلا يستطيع ــ على نحو ما أن يتأقلم ــ بما يبدد شكوكا كثيرة تصورت أن مرحلة حكمه مجرد تدبير مؤقت، والآن فقد ظهر أن الرجل خطا خطوة، من رجل جاء به تدبير سريع لمواجهة ظرف طارئ، إلى رجل يعبر مرحلة انتقالية، من عصر إلى عصر، وأدليت وقتها بحديث إلى مجلة لبنانية قلت فيها «إن حكم «مبارك» يبدو مرحلة انتقالية، لكن تجارب التاريخ تعلمنا أنه ليس هناك ما هو أقدر على طول البقاء من نظام يتصوره الناس انتقاليا مؤقتا، وبعث «مبارك» إلىَّ برسالة عتاب على اعتبارى لحكمه «مؤقتا»، لكن الغريب أنه لم يلتفت إلى الجزء الذى تحدثت فيه عن طول عمر «المؤقت»!!

وكان الرأى الغالب فى مصر وخارجها أن اختبار قوة وثبات النظام الجديد هو إدارة معركة انتخابات برلمانية حل موعدها، وتصور كثيرون أنها سوف تكون تحديا سياسيا «من نوع ما»، يواجهه الرئيس الجديد، وأن متابعتها سوف تكشف الكثير عن قدراته السياسية، ولم أتابع معركة انتخابات 1984 بنفسى أثناء جريانها، فقد كنت مشغولا عنها بالإعداد لمجموعة «حرب الثلاثين سنة»، وأولها «ملفات السويس»، وكان البحث عن الوثائق وفرزها وترتيبها فى سياقها شاقا، لكن عندما رفعت رأسى عما كان يستغرقنى، اكتشفت من نتائج الانتخابات أن «مبارك» قد واجه تحديه المنتظر بأسلوب لاشك أنه مبتكر، بصرف النظر عن أية «أحكام قيمة»، والغريب أنه كان أسلوبا شديد البساطة شديد التعقيد فى نفس اللحظة!

ويسرد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل المصادر التى من خلالها حكم على مدرسة حكم مبارك لمصر..
وفى الحقيقة فإن هذا الأسلوب كان تأسيسا لمدرسة مختلفة تسربت إلى السياسة المصرية، ومن حسن الحظ أنه كان أمامى مصدران للتعرف على مدرسة «مبارك» عندما تدخل إلى التطبيق العملى لسياساتها ـ أى فى الحركة عند التنفيذ!

* المصدر الأول: لقاء طويل على جلستين مع اللواء «حسن أبوباشا» (وزير الداخلية) وهو المسئول الذى أشرف على المعركة الانتخابية الأولى فى عهد «مبارك».

و«حسن أبو باشا» ضابط بوليس مصرى أمضى معظم تجربته العملية فى الأمن السياسى، وهو منضبط وملتزم، لكنه عند لحظة من اللحظات يفقد قدرته على الاحتمال ويحتج، سواء بمنطق الممكن أو بمنطق المستحيل!!

* والمصدر الثانى: مجموعة كراسات كان يكتبها اللواء «محمد تعلب» (مساعد وزير الداخلية إلى جوار «حسن أبوباشا»)، وهو ضابط من نوع آخر لديه حس إنسانى عام ووعى تاريخى يتخطى المألوف، وقد خطر للواء «تعلب» أن يسجل ـ وبعلم وزيره ـ نوعا من يوميات معركة الانتخابات لسنة 1984، وكذلك ملأ كراستين كاملتين بخطه بوقائع تلك المعركة.

وكان اللواء «حسن أبوباشا» حين سمعت منه ما سمعت عن معركة انتخابات سنة 1984 ــ قد ترك مقعد وزير الداخلية، وكان الرجل يشعر أنه ظُلم، وتحمَّل عن غيره ما يتردد قبل الإفصاح عنه، ومع تواصل الحديث خصوصا فى اللقاء الثانى، فإن الرجل بدأ يلين، وبدا أسلوب «مبارك» فى السيطرة على نتائج الانتخابات يبين، ليظهر أن الرئيس الجديد لديه أكثر بكثير مما يراه الآخرون على السطح.

وطبقا لرواية اللواء «حسن أبوباشا» (وما قاله تؤيده النصوص مما سجله اللواء «تعلب» من يوميات المعركة الانتخابية) ــ أن «مبارك» عقد مع وزير داخليته جلسة تمهيدية شرح له فيها ما يتصوره لانتخابات مجلس الشعب الجديد:
1ـ «الرئيس» يرى أن تكون الانتخابات ــ وهى الأولى فى عهده ـ مفتوحة لكل من يريد أن يترشح بـ«حريته»!

2 ـ و«الرئيس» بضرورات السلامة الوطنية كما يراها سوف يحدد نسبة مئوية لما يمكن أن تفوز به المعارضة من مقاعد مجلس الشعب، وذلك موضوع سوف يتفق عليه مع وزير الداخلية عندما تتضح «الصورة»، لأن أحوال البلد فى هذه الظروف لا تتحمل «اللعب» أو «المغامرة»!!

3 ـ و«الرئيس» لديه قائمة أسماء لا يريد لأصحابها أن يدخلوا المجلس الجديد مهما كانت الدواعى، وهو أيضا سوف يعطى قائمة هذه الأسماء لوزير الداخلية عندما يظهر على وجه اليقين من ترشح، ومن لم يترشح للبرلمان الجديد!!

كانت الصيغة غاية فى البساطة وتلك «عبقريتها»!!

باب مفتوح لمن يشاء ــ ونسب مئوية لأحزاب المعارضة، وهو يريد أن تكون لوزارة الداخلية مرونة فى «التصرف» كما تشاء فى الدوائر والأسماء، ولكن فى إطار النسب المئوية المقررة!! ــ ثم إنه سوف يعطى لوزير الداخلية قائمة بشخصيات غير مرغوب فيها، لا يُسمح لها بدخول المعركة أصلا، ولا دخول المجلس طبعا!! ــ وهذه الشخصيات مختلفة ومتنوعة، فيها أعضاء من الحزب الوطنى، وفيها أفراد من أحزاب المعارضة ــ وهذا كل شىء!

وفى رواية اللواء «حسن أبوباشا»، ومن «تقديره للظروف»، فإن قواعد اللعبة (كما سمعها من «مبارك») كان يمكن من الناحية العامة تبريرها، شرط توافر ما وصفه «أبوباشا» فى سياق كلامه بـ«درجة من المعقولية «توازن» النتائج ولكن لا تزيفها»، وفى رأيه أن ذلك كان مرهونا بالنسب التى يسمح بها الرئيس للمعارضة، وبمحدودية قائمة غير المرغوب فيهم والمحظور نجاحهم ودخولهم مجلس الشعب الجديد، لكن الصدمة وقعت حين جاءت مقابلة الحسم بين وزير الداخلية وبين رئيس الجمهورية.

ففى لقائهما التالى والسابق للانتخابات، سمع اللواء «حسن أبوباشا» من «مبارك» ما «أفزعه» حسب قوله:

1ـ أن «الرئيس» على استعداد لأن يترك للمعارضة 5% من المقاعد، أى حوالى عشرين مقعدا، لكل الأحزاب وقوى المعارضة مجتمعة.

2 ـ وأن قائمة غير المرغوب فيهم أكبر مما توقع، وكانت دهشته أن الاسم الأول فيها اسم شقيق الرئيس «مبارك» نفسه، وهو السيد «سامى مبارك».

وكان تشدُّدْ «الرئيس» حيال ترشيح شقيقه غير مفهوم، فقد وصل «مبارك» إلى حد القول «بأنه أمر بحذف اسم شقيقه من قائمة مرشحى الحزب الوطنى، ولكنه سمع أنه ذهب بعدها إلى حزب الوفد يطلب من الأستاذ «فؤاد سراج الدين» أن يرشحه عن حزب الوفد، وأن «فؤاد سراج الدين» قَبِلَ منه ما اقترح ــ «سامى» ــ عليه».

وزادت المفاجآت على وزير الداخلية لأن «مبارك» أوفد «أسامة الباز» إلى «فؤاد سراج الدين» حتى لا «يأخذ» شقيقه على قائمة الوفد، ولكنه لم ينجح، ثم طلب «مبارك» من وزير داخليته أن يتصل بنفسه مع «فؤاد سراج الدين»، وأن يبلغه ـ وباسم الرئيس ـ أنه لا يريد أن يدخل شقيقه إلى الانتخابات على قائمة مرشحى الوفد!».

ووعد «أبوباشا» بالاتصال بـ«فؤاد سراج الدين»، ثم انتقل بعد ذلك إلى الموضوع الأساسى، متصورا أن «الصيغة المباركية للانتخابات النيابية» قابلة للمناقشة، وكذلك عرض تعديلات تصورها أكثر ملاءمة.

ـ أولها: أن «يتفضل الرئيس بمراجعة النسبة التى سمح بها للمعارضة، وأن يرفعها من 5% إلى 20%، أى حوالى مائة مقعد، ورأيه أن ذلك لا يؤثر على أغلبية الثلثين فى المجلس، وهى النسبة التى تسمح بتعديل الدستور (إذا طرأ ما يقتضى)».
ـ والثانى: أن يختصر الرئيس قائمة الممنوعين من دخول المجلس، وأولهم السيد «سامى مبارك» شقيقه.

وفوجئ اللواء «أبوباشا» بالرئيس «مبارك» وقد علا صوته، واحتدت نبرة صوته، وهو يقول: «سامى» موش ح يدخل، يعنى موش ح يدخل!!».

وقال «أبوباشا»: «ولكن (سيادة الرئيس) الداخلية قامت باستطلاع لموقف الأستاذ «سامى»، وتبين أنه قادر على النجاح «بالراحة» فى الدائرة التى رشح نفسه عنها».
ورد «مبارك»:

ـ مستحيل!
ثم قال الرئيس لوزير داخليته:
ـ «حسن».. أنت ضغطت على أعصابى بأكثر من اللازم، ولست الآن فى مزاج (استعمل الكلمة الإنجليزية MOOD) يسمح لى بمواصلة الكلام معك، ثم نهض واقفا ينهى المقابلة ويخرج من الغرفة، ويترك وزير داخليته يبحث عن الباب للانصراف!

ويكشف الكاتب الكبير خبايا ما دار فى المعركة الانتخابية.. ويقول:
وفى دفاتر يوميات المعركة الانتخابية (كما سجَّلها اللواء «تعلب» مساعد الوزير بخط يده) ــ إشارات لهذه المقابلة بما فيها عبارة أن الرئيس ليس «فى مزاج MOOD» يسمح له بمواصلة مناقشة العملية الانتخابية بأكثر مما قال وحدد!!

كانت معركة الرئيس «حسنى مبارك» ضد شقيقه «سامى مبارك» دالة فى كثير من تفاصيلها على طبائع يصعب تفسيرها.

فالرئيس لم يكتف فقط بإبلاغ وزير الداخلية أن شقيقه لا ينبغى أن ينجح فى الانتخابات مهما كان الثمن، وإنما أضاف إلى ذلك احتياطات بدت غريبة لوزير الداخلية، لأنه اتصل بوزير الحكم المحلى وأكَّد طلبه، بل واتصل مكتبه ببعض مديرى الأمن.

وسجَّل مساعد وزير الداخلية اللواء «محمد تعلب» فى دفتر يومياته عدة ملاحظات تثير الاستغراب:

ـ ملاحظة أولى: نقل فيها عن اللواء «حسن أبوباشا» وزير الداخلية «أن شدة الضغوط عليه جعلته يقول له بنص ما كتبه «تعرف يا تعلب، العلاج الوحيد للوضع ده أنى أموت!».
ـ ملاحظة ثانية: يكتب فيها مساعد وزير الداخلية بالنص: «لا أعرف السر فى إصراره (يقصد الرئيس) على عدم نجاح أخيه إلى هذا الحد، حتى بت أتصور أنه هو الذى يحقد على أخيه وليس العكس!».

ـ ملاحظة ثالثة: أن وزير الداخلية طلب مقابلة «مبارك» قبل الانتخابات بعدة أيام، والهدف أن يحدِّثه فى موضوع شقيقه (ضمن موضوعات أخرى)، لكن «مبارك» رفض وقال إنه ليس لديه المزاج لمقابلة وزير داخليته (ليس فى MOOD يقابل فيها أحدا)، ولم تكن هذه هى المرة الأولى الذى يستعمل فيها «مبارك» هذا التعبير مع «حسن أبوباشا»، وبعد رجاء كان رد «مبارك»: «موعدنا بعد الانتخابات يا حسن»!!

(وبعد الانتخابات كان «موعدنا» هو الخروج من الوزارة).

لكن دفاتر اللواء «تعلب» تسجل ما هو أغرب، وذلك أنه فى نهاية يوم الانتخابات تبين حصول السيد «سامى مبارك» ورغم ـ كل الجهود ـ على نسبة تزيد على سبعين فى المائة من الأصوات فى الدائرة التى رشَّح نفسه عنها!

وجاءت الأوامر من الرئيس شخصيا بأنه «أبدا»! ـ وأن كل شىء فى اللجنة العامة للفرز يجب أن يتوقف، حتى يصل إلى هناك مبعوث خاص للرئيس، وبالفعل وصل إلى مقر اللجنة الرئيسية مستشاره «أسامة الباز»، وطلب إعادة فرز الأصوات، و«التصرف» بكياسة لكى لا يغضب الرئيس، وكان المشهد مزعجا للجميع، وأعيد فرز الأوراق، بحضور أعضاء من اللجنة العامة، وظهرت النتائج ـ مرة أخرى ـ كاسحة لصالح «سامى»، وإلى درجة لا تنفع معها أية «كياسة»، لأن المشهد كان واضحا أمام كثيرين، والالتفاف حوله فضيحة يلزم تجنبها من أجل الرئيس نفسه!

وعاد «أسامة الباز» إلى الرئيس يهدئ خواطره إلى أنهم أمام FAIT ACCOMPLI أى أمر واقع، وطبقا لرواية وزير الداخلية فإن الرئيس «مبارك» لم يجد حلا، لكنه قال «إن «أبوباشا» سوف يدفع ثمن غلطته!!».

وكذلك خرج «حسن أبوباشا» من وزارة الداخلية!

وبعد شهور طلب السيد «سامى مبارك» مقابلتى، وحددت له بالفعل موعدا جاء فيه، وجلس أمامى فى مكتبى، وراح يحكى، ورأيت لفت نظره إلى أن غرفة مكتبى قد لا تكون مأمونة لما يقول، وكان رده: «أنه لا يبالى إذا سمع «حسنى» ما سوف يقوله لى، «لأنه» بعد ذلك سوف يترك البلد «له» ويسافر إلى ألمانيا».

واستطرد «سامى مبارك» إلى حديث طويل عن علاقات عائلية مزدحمة بالعقد الغائرة والتعقيدات الظاهرة، وكله معبأ بالمرارة، وكله فى ظنى مما لا يصح الخوض فيه.

لكنى لا أستطيع إنكار هواجس جديدة راحت تنضم إلى هواجس سابقة حاولت تنويمها.

http://www1.youm7.com/News.asp?NewsID=590739&SecID=12
__________________
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 01-02-2012, 02:41 AM
الصورة الرمزية راغب السيد رويه
راغب السيد رويه راغب السيد رويه غير متواجد حالياً
معلم لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 9,278
معدل تقييم المستوى: 24
راغب السيد رويه is a jewel in the rough
افتراضي

هيكل: مبارك يعشق الأحذية وأطاح بـ"أبو باشا" لأنه لم ينكل بشقيقه "سامي"

الثلاثاء 2012/1/31 3:02 م





Share7



يقدم الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في مقدمة الحلقة الثامنة من كتاباته "مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان" والتى تصدر عن دار الشروق، رصداً لآراء مختلف من تعامل مع الرئيس السابق خصوصاً ما قيل عنه "البقرة التى تضحك"، إضافة إلى آراء أخرى.. ويقول:

طوال الفترة الأولى من رئاسة «مبارك» تفاوتت المواقف بشأنه لدى جماهير الشعب المصرى، وتباينت الآراء: فريق مازال واقفًا عند بقايا «حكاية البقرة التى تضحك»، ولا يكف عن إطلاق النكات حوله.

وفريق ثانٍ يطلب من الرئيس الجديد فوق ما تحتمله الظروف، دون إدراك للمصاعب والقيود التى تعترض طريقه، حتى لقد وصل البعض فى هذا المجال إلى مطالبة «مبارك» بنقض «معاهدة السلام» مع إسرائيل، كى يعود إلى الصف العربى.

وفريق ثالث قدَّر أن الظروف ـ بعد اغتيال الرئيس «السادات» وبعد موجات القلق المرتدة بعد صدمة الاغتيال ـ لا تسمح لأحد بترف التمسك بانطباعات مسبقة أو الإلحاح بمطالب عاجلة، لأن الرجل بالفعل يستحق فرصة مفتوحة.

وفريق أخذته الحيرة، وكان موقفه الإمساك بالتداعيات لا تفلت ولا تتردى، ومقولته أن «اتركوا الرجل لنفسه، ولما يعرف، ولمن يعرف، وانتظروا!!».

وللأمانة فإن الأغلبية من الناس كانت على استعداد لأن تقبل بالرجل، وتنتظره، وتعطيه هذه الفرصة المفتوحة، وإن كان ذلك لم يمنع أن آخرين ظلوا يتوقعون أن يتصرف الرئيس، كما يجب فى رأيهم أن يتصرف.

والحقيقة أننى كنت ضمن الفريق الذى يرى أن الرجل يستحق فرصة، خصوصا أن حقائق الأشياء لها منطقها، ومع ذلك فإن الرجل بدا محيراً لى، وبين أسباب حيرتى ما كنت عرفته وإن ظل محجوباً عن دائرة العلم العام.

كنت أعرف شيئاً عن قضية «الخرطوم»، وسلة المانجو الملغمة التى أسهمت على نحو أو آخر فى اغتيال الإمام «الهادى المهدى”.

وكنت أذكر ما سمعت فى باريس عن النشاط الذى قام به «مبارك»، سواء فى إطار مجموعة «السفارى» فى أفريقيا، أو غير ذلك مما سمعت.

لكننى وربما رغبة فى تهدئة قلق يساورنى من توجُّهاته، خصوصا بعدما سمعت منه بنفسى عن رؤيته للعلاقات مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل، حاولت أن أجعل شكوكى تميل إلى ناحية البراءة، كما يقولون.

بمعنى أننى فى كل ما هو سياسى لم أضع على الرجل مسئولية قرار سابق على رئاسته، فالقرار لم يكن عنده وإنما عند غيره، ومن الصعب الطلب من كل مسئول فى الدولة - حتى على مستوى نائب الرئيس - أن يقف أمام كل قرار لا يوافق رأيه ويحوله إلى أزمة، خصوصا إذا كان هذا الرجل نفسه من خارج الدائرة السياسية أصلا، وإنما هو من داخل دائرة تلقى الأوامر وتنفيذها، مع الأخذ فى الاعتبار أن بعض المسائل السياسية فيها من قواعد النظر والتفكير ما يختلف عن مواد القانون، ذلك أن السياسة تقدير، فى حين أن القانون نصوص، ومع أن هناك باستمرار صلة لابد من وجودها بين التقديرات والنصوص، إلا أن هذه الصلة تحتفظ فى عوالم السياسة بمرونة أوسع فى تفسير وتأويل النصوص!

يُضاف إلى ذلك أنه فى النظر إلى تصرفات من نوع ما جرى فى «الخرطوم»، أو فى إطار مجموعة «السفارى»، فإن القضايا معقدة، وفيها ما يتعلق بمصلحة الدولة العليا RAISON D’ETAT، على حد قول الكاردينال «ريشيليو»، لأن المسئول عن القرار له معيار فى حسابه، فى حين أن المسئول عن تنفيذه له معيار آخر، وهذا المسئول عن التنفيذ لديه ما يدفع به أى اتهام، بقاعدة أنه نفذ أوامر صادرة إليه من سلطة أعلى، عليها هى ــ وليس القائم بالتنفيذ ــ حساب دواعى المصلحة العُليا فى القرار.

وأبسط مثال على ذلك أن البوليس لا يملك غير طاعة الأمر، إذا طلب منه إجراء معين فى طلب حفظ الأمن، وكذلك الجيش حين يُقاتل بهدف النصر.

وقد أثيرت هذه القضايا جميعا، وعلى أوسع نطاق بعد الحرب العالمية الثانية بالذات، وتناقضت الآراء إزاء تصرفات متجاوزة (أو هكذا حسبها الآخرون)، لكن الذين قاموا بها، فعلوا ما فعلوا وهم تحت أوامر رؤسائهم، أى تحت ظروف قوة قاهرة تقتضيها مصلحة عامة قدرها مسئول سياسى، باعتبارها مطالب دولة ولا سبيل أمام المكلف بالتنفيذ غير أن ينفذ، وهذه على أية حال قضية يطول فيها الجدل ولا تفرغ الحجج.

وهكذا فيما يتعلق بـ«مبارك»، فقد كان ظنى أن صفحة حسابه السياسى تبدأ منذ انتخابه فى أكتوبر 1981، لأنه قبلها كان موظفا يطيع الأمر، حتى وإن كان بدرجة نائب لرئيس الجمهورية، وهو منصب سياسى.

برغم هذه المعايير التى تميل لصالح الشك، بمعنى أنها لا تحكم بمقتضى الظنون، ولا تفصل بالشُبهات، ولا تتعسف فى اختصاصات السلطة بين السياسى والتنفيذى، فإن «مبارك» كان «محيرا»!

فى بعض اللحظات تبدت منه تصرفات تلقى القبول، وفى لحظات أخرى تصرفات تلقى الرفض، وفى مرات أخرى تصرفات تلقى الاستغراب!!

ومثلا فقد رأيته بنفسى على شاشات التليفزيون المصرى يزور أحد المصانع، ثم يتبسط مع أحد الواقفين أمام الآلات، يتحدث إليه ويسأله عن أجره، والرجل يراوغ فى الرد، ويزيد إلحاح الرئيس، والكاميرات مسلطة عليه وعلى الرجل الواقف أمام الميكروفونات، حتى اضطر الرجل الذى بلغ به الإحراج أشده، أن يقول للرئيس الجديد:

ــ «يا فندم، «أنا عنصر أمن، ولست عاملا هنا».

أى أنه ضابط بوليس دس وسط العمال أمام إحدى الآلات تشديدا مقصودا للأمن.
وهز «مبارك» رأسه وكان تعليقه: «آه»!

لم يقل غيرها وانصرف عن الرجل، ومع أن كل من رأوا المشهد علَّقوا عليه، فقد كان ردى على كل من سألوا: «ألا ينسوا أنه تصرف عفويا بحسن نية»، وفى الحقيقة فإنه كان يكفينى منه فى ذلك الوقت أن أراه يقوم بزيارات منتظمة لوحدات الإنتاج، ويظهر حرصا عليها، يدرأ عنها غارات المتربصين!!

وفى مثال آخر لقيت الملك «حسين» ـ ملك الأردن ـ فى القاهرة، وكان قد جاء إليها بعد ما بدا من هدوء بعد عاصفة الاغتيال، ولم يدهشنى كثيرا أن الملك أشار بيده إلى سقف صالون القصر الذى ينزل فيه، ويقترح: دعنا نخرج إلى الحديقة نتمشى، فأنا لم أمارس أى رياضة هذا الصباح، وخرجنا، وكان الملك يريد أن يفضى إلىَّ بما لم يشأ أن يقوله داخل جدران القصر، ولم ينتظر طويلا عندما وصلنا إلى الهواء الطلق، وراح يتحدث عن «مبارك»، وخشيته: «أنه لا يعرف ما يكفى عن علاقات مصر العربية ولا تاريخها السابق أو الجديد، ولم يقرأ الملفات، وإذا كان قرأها فهو لم يستوعبها»، وأضاف الملك «حسين»: «إن الرجل لم يتغير منذ رآه لأول مرة وهو نائب للرئيس، يحمل إليه رسالة من «السادات».

وراح الملك ونحن نمشى بين الأشجار يقلد الرئيس «مبارك» عندما جاءه أول مرة نائبا للرئيس، وبرسالة منه، ويقلده وهو يفتح حقيبته، ويستخرج ملفا منها، وطبقا لرواية الملك: «فإن «مبارك» عند بعض النقط لم يستطع شرح المقصود من الرسالة، واستوضحه الملك، ودقق نائب الرئيس المصرى فى أوراقه، وبدا عليه الارتباك، ثم قال: «لا أعرف، ولكن هذا هو المكتوب أمامى، وعندما أعود إلى القاهرة فسوف أسأل الرئيس «السادات» عن مقصده، وأرجوه أن يكتب إليكم»!!».

وعقَّب الملك «حسين»: أنه لم يستطع أن يفهم، هل محدثه نائب لرئيس الجمهورية، أو حامل حقيبة يلتزم بأوراق كتبها بخطه، ومع ذلك لا يستطيع شرحها؟!!

وكان ردى على الملك «حسين» بأن الرجل ـ أقصد «مبارك» ـ ورث أوضاعا معقدة، ومعظمها مشاكل عويصة وخطيرة، ومن الحق أن تُترك له الفرصة.

ومثلا ـ وفى تلك الفترة أيضاً ـ جاءنى السفير «جمال منصور» وكان وكيلا لوزارة الخارجية، وهو من الأصل واحد من الضباط الأحرار (وهو بالمناسبة خال رئيس الوزراء السابق الدكتور «عصام شرف»)، وكان لدى «جمال منصور» ما يريد أن يقوله عن الرئيس الجديد، لأنه لاحظ ــ ونحن سويا ضيوف عشاء ــ نبرة حسن نية تطلب إعطاء «مبارك» فرصة لتثبيت وضعه، وكان رأى «جمال منصور»: «أنه لا فائدة، ثم راح يروى أنه التقى «مبارك» لأول مرة عندما كان يشغل منصب نائب الرئيس، وقد كُلِّف من «السادات» بنقل رسالة إلى الماريشال «جوزيف بروز تيتو» (رئيس يوجوسلافيا)، وهو صديق قديم لمصر، وكان «جمال منصور» وقتها سفيرا لمصر فى «بلجراد»، وكان بالطبع فى صحبة نائب الرئيس عندما ذهب لمقابلة «تيتو»، وقضى نائب الرئيس والسفير مع الرئيس اليوجوسلافى قرابة ساعة، وخرجا بعدها، وكان أول ما قاله النائب للسفير حين دخلا معا إلى السيارة سؤاله: إذا كان يعرف من أين يأتى «تيتو» بأحذيته، فهو طول المقابلة لم يرفع نظره عن حذاء «تيتو»، ويراه «بديعا»، وهو يريد أن يعرف هل الرئيس اليوجوسلافى يشترى أحذيته جاهزة، أم أنها تفصيل؟، وكان طلبه من السفير أن يسأل من يعرف فى حاشية «تيتو»، مضيفا: «أن الأحذية «الحلوة» هى هوايته الرئيسية»!

وكان تعليق «جمال منصور» قوله: «لا فائدة!».

وكان ردى على السفير «جمال منصور» أن اعطوا الرجل الفرصة، وأن هموم الرئاسة لن تترك لديه وقتا للتطلع إلى أحذية من يقابلهم من الرؤساء، وكان بين ما قلت لـ«جمال منصور»: أن «مبارك» هو نموذج الرجل العادى، لا هو الزعيم التاريخى، ولا هو نجم الشباك، وربما أن هذا ما تحتاجه مصر فى فترة هدوء بعد عاصفة المنصة!

ومثلا أضاف الأستاذ «فتحى رضوان» ـ وهو الزعيم الوطنى الصلب ـ إلى معارفى تلك الفترة قصة أخرى على نفس السياق، ولها مثل سابقتها صلة بالأحذية!

فقد اتصلوا به من رئاسة الجمهورية يبلغوه أن الرئيس «مبارك» يريد أن يراه ويتعرف عليه، وأنه حدد له موعدا فى استراحة «الدخيلة» كان ينزل فيها من أيام قيادته للطيران، وأن سيارة من الرئاسة سوف تجىء إلى بيته فى مصر الجديدة، وتقله إلى مطار «ألماظة» فى الساعة السابعة صباحا ليكون فى «الدخيلة» ولموعده مع الرئيس فى العاشرة، وتحمَّس «فتحى رضوان» للقاء، ولديه كثير يريد أن يقوله، وقد كتب بالفعل نقطا استغرقت خمس ورقات بخطه.

وجاءت السيارة ـ وطارت الطائرة، ووصل الأستاذ «فتحى رضوان» إلى مطار «الدخيلة»، وهناك قيل له إن موعده مع الرئيس تأخر ساعتين، لأن ضيفا أفريقيا كان يزور مصر سوف يجىء إليه، وأن هناك غرفة خُصصت له فى الاستراحة حتى يحين موعده، وقضى «فتحى رضوان» فى الغرفة قرابة خمس ساعات، واعتذر عن تناول غداء جاءوا به إليه فى الظهر، وبعد الظهر جاء إليه أحد الأمناء يخبره بأن الرئيس سوف يعود الآن من المطار إلى القاهرة مباشرة، وأنه فى الطائرة سوف يكون مع الأستاذ «فتحى رضوان» ولمدة ساعة على الأقل، وصعد «فتحى رضوان» إلى الطائرة الرئاسية، وجلس ولا أحد بجواره، لأن الرئيس كان فى الجزء الأمامى من الطائرة مع الضيف، على أنه بعد حوالى ربع ساعة من الطيران، قام «مبارك» عائدا إلى المقاعد الخلفية، وجلس على المقعد المجاور لـ«فتحى رضوان»، معتذرا عما وقع من خطأ، لأنه لم يتذكر موعده مع الرئيس الأفريقى، كما أن مكتبه لم يعرف كيف ينسق ما بين موعدين، وأراد فى دفع مظنة الإهمال أن يقول لـ«فتحى رضوان» إنه مازال نفس الرجل لم يغيره منصب الرئاسة، وإنه ـ مقاطعا حديثه ـ تصدَّق بالله يا «فتحى» بيه أنا لا أزال وأنا رئيس الجمهورية أمسح حذائى صباح كل يوم بنفسى، أجلس على الأرض، وأمسح الحذاء بالورنيش، ثم الفرشة، وبعدها قطيفة ألمعه بها.

وراح «فتحى رضوان» يشرح أن رئيس الدولة لا يصح له تضييع وقته فى مسح حذائه، وقال «مبارك»: «هذه من عوائدى كل يوم، حتى وأنا تلميذ فى ابتدائى، وحتى أصبحت قائدا للطيران، ونائبا لرئيس الجمهورية، والآن رئيسا لمصر، وقبل أن يقول «فتحى رضوان» شيئا، وجاء من يقول للرئيس إن الطائرة على وشك الهبوط فى مطار القاهرة، تذكر «مبارك» ضيفه الأفريقى، وأنه يجب أن يكون معه وقت النزول، فقام بعد أن قال لـ«فتحى رضوان» إنه سوف يطلب توصيله بالسيارة بعد الهبوط إلى بيت الرئيس حيث تكون الجلسة الحقيقية بين الرجلين، وهبطت الطائرة، ونزل الركاب، وكانت هناك سيارة فى انتظار «فتحى رضوان» لكنها لم تحمله إلى بيت الرئيس، وإنما إلى بيته هو!!

وكان «فتحى رضوان» وهو رجل جاد فيما يتصرف به، يقول مستفزا، وهو يروى لى ما حدث له ــ وسؤاله:

ـ هل يُعقل أن أضيع يوما كاملا فى السفر ذهابا وعودة نفس اليوم، ثم يكون لقائى معه خمس دقائق لم أستفد منها إلا أننى علمت أنه «يمسح جزمته بنفسه!!».

ورجوته أن يضع المسئولية على المكتب وليس على الرئيس، ولم يقتنع «فتحى رضوان»، ورحل بعدها عن الدنيا ولم يدع إلى مقابلة الرئيس، على الأقل للاعتذار له!

ومثلا فى هذه الفترة جاءنى الكاتب الكبير والساخر الأكبر الأستاذ «محمود السعدنى»، وقد مرَّ على مكتبى دون موعد يقول «إنه لا يريد غير خمس دقائق وسوف ينصرف بعدها»، ودخل «محمود السعدنى» إلى مكتبى، وسحبنى من يدى إلى شرفة مكتبى يقول لى بصوت هامس:

ـ «مصيبة.. كنت عند الرئيس «مبارك» الآن».
وأبديت بالإشارة تساؤلا مؤداه، وأين المصيبة؟!
وراح «محمود السعدنى» يروى:
جلست مع الرئيس ساعة كاملة كلها ضحك ونكت، وعندما حان موعد انصرافى سألته مشيرا إلى المقعد الذى كان يجلس عليه:
ـ يا ريس.. ما هو شعورك وأنت تجلس على الكرسى الذى جلس عليه «رمسيس الثانى» و«صلاح الدين» و«محمد على» و«جمال عبد لناصر»؟!!
بماذا تظنه أجاب علىَّ؟!
ولم ينتظر «محمود السعدنى»، بل واصل روايته:
«نظر إلى الكرسى الذى كان يقعد عليه، والتفت إلىَّ وسألنى:
هل أعجبك الكرسى؟!
إذا كان أعجبك، فخذه معك».
ويخبط «محمود السعدنى» كفا بكف ويقول:
«وخرجت وطول الطريق لم أفق من الصدمة ـ الرجل لم يستطع أن يرى من الكرسى إلا أنه كرسى، لم يدرك المعنى الذى قصدت إليه».
وحاولت طمأنة «محمود السعدنى»، وأنا نفسى لا أشعر بالاطمئنان، وكان تعليقى:
ـ الحق عليك وليس عليه، لماذا تحدثه بالرمز؟! ـ لماذا تفترض أن رئيس الدولة يجب أن يكون عليما «بالمجاز» فى أدب اللغة؟!
وكان تعليق «السعدنى» لفظا واحدا لا يجوز نشره!

ومرت سنة 1984 والرئيس «مبارك» يدخل إلى سنته الثالثة فى رئاسة الدولة، وبرغم كل شىء فقد بدا رجلا يستطيع ــ على نحو ما أن يتأقلم ــ بما يبدد شكوكا كثيرة تصورت أن مرحلة حكمه مجرد تدبير مؤقت، والآن فقد ظهر أن الرجل خطا خطوة، من رجل جاء به تدبير سريع لمواجهة ظرف طارئ، إلى رجل يعبر مرحلة انتقالية، من عصر إلى عصر، وأدليت وقتها بحديث إلى مجلة لبنانية قلت فيها «إن حكم «مبارك» يبدو مرحلة انتقالية، لكن تجارب التاريخ تعلمنا أنه ليس هناك ما هو أقدر على طول البقاء من نظام يتصوره الناس انتقاليا مؤقتا، وبعث «مبارك» إلىَّ برسالة عتاب على اعتبارى لحكمه «مؤقتا»، لكن الغريب أنه لم يلتفت إلى الجزء الذى تحدثت فيه عن طول عمر «المؤقت»!!

وكان الرأى الغالب فى مصر وخارجها أن اختبار قوة وثبات النظام الجديد هو إدارة معركة انتخابات برلمانية حل موعدها، وتصور كثيرون أنها سوف تكون تحديا سياسيا «من نوع ما»، يواجهه الرئيس الجديد، وأن متابعتها سوف تكشف الكثير عن قدراته السياسية، ولم أتابع معركة انتخابات 1984 بنفسى أثناء جريانها، فقد كنت مشغولا عنها بالإعداد لمجموعة «حرب الثلاثين سنة»، وأولها «ملفات السويس»، وكان البحث عن الوثائق وفرزها وترتيبها فى سياقها شاقا، لكن عندما رفعت رأسى عما كان يستغرقنى، اكتشفت من نتائج الانتخابات أن «مبارك» قد واجه تحديه المنتظر بأسلوب لاشك أنه مبتكر، بصرف النظر عن أية «أحكام قيمة»، والغريب أنه كان أسلوبا شديد البساطة شديد التعقيد فى نفس اللحظة!

وفى الحقيقة فإن هذا الأسلوب كان تأسيسا لمدرسة مختلفة تسربت إلى السياسة المصرية، ومن حسن الحظ أنه كان أمامى مصدران للتعرف على مدرسة «مبارك» عندما تدخل إلى التطبيق العملى لسياساتها ـ أى فى الحركة عند التنفيذ!

* المصدر الأول: لقاء طويل على جلستين مع اللواء «حسن أبو باشا» (وزير الداخلية) وهو المسئول الذى أشرف على المعركة الانتخابية الأولى فى عهد «مبارك».

و«حسن أبو باشا» ضابط بوليس مصرى أمضى معظم تجربته العملية فى الأمن السياسى، وهو منضبط وملتزم، لكنه عند لحظة من اللحظات يفقد قدرته على الاحتمال ويحتج، سواء بمنطق الممكن أو بمنطق المستحيل!!

* والمصدر الثانى: مجموعة كراسات كان يكتبها اللواء «محمد تعلب» (مساعد وزير الداخلية إلى جوار «حسن أبو باشا»)، وهو ضابط من نوع آخر لديه حس إنسانى عام ووعى تاريخى يتخطى المألوف، وقد خطر للواء «تعلب» أن يسجل ـ وبعلم وزيره ـ نوعا من يوميات معركة الانتخابات لسنة 1984، وكذلك ملأ كراستين كاملتين بخطه بوقائع تلك المعركة.

وكان اللواء «حسن أبو باشا» حين سمعت منه ما سمعت عن معركة انتخابات سنة 1984 ــ قد ترك مقعد وزير الداخلية، وكان الرجل يشعر أنه ظُلم، وتحمَّل عن غيره ما يتردد قبل الإفصاح عنه، ومع تواصل الحديث خصوصا فى اللقاء الثانى، فإن الرجل بدأ يلين، وبدا أسلوب «مبارك» فى السيطرة على نتائج الانتخابات يبين، ليظهر أن الرئيس الجديد لديه أكثر بكثير مما يراه الآخرون على السطح.

وطبقا لرواية اللواء «حسن أبو باشا» (وما قاله تؤيده النصوص مما سجله اللواء «تعلب» من يوميات المعركة الانتخابية) ــ أن «مبارك» عقد مع وزير داخليته جلسة تمهيدية شرح له فيها ما يتصوره لانتخابات مجلس الشعب الجديد:

1ـ «الرئيس» يرى أن تكون الانتخابات ــ وهى الأولى فى عهده ـ مفتوحة لكل من يريد أن يترشح بـ«حريته»!

2 ـ و«الرئيس» بضرورات السلامة الوطنية كما يراها سوف يحدد نسبة مئوية لما يمكن أن تفوز به المعارضة من مقاعد مجلس الشعب، وذلك موضوع سوف يتفق عليه مع وزير الداخلية عندما تتضح «الصورة»، لأن أحوال البلد فى هذه الظروف لا تتحمل «اللعب» أو «المغامرة»!!

3 ـ و«الرئيس» لديه قائمة أسماء لا يريد لأصحابها أن يدخلوا المجلس الجديد مهما كانت الدواعى، وهو أيضا سوف يعطى قائمة هذه الأسماء لوزير الداخلية عندما يظهر على وجه اليقين من ترشح، ومن لم يترشح للبرلمان الجديد!!

كانت الصيغة غاية فى البساطة وتلك «عبقريتها»!!

باب مفتوح لمن يشاء ــ ونسب مئوية لأحزاب المعارضة، وهو يريد أن تكون لوزارة الداخلية مرونة فى «التصرف» كما تشاء فى الدوائر والأسماء، ولكن فى إطار النسب المئوية المقررة!! ــ ثم إنه سوف يعطى لوزير الداخلية قائمة بشخصيات غير مرغوب فيها، لا يُسمح لها بدخول المعركة أصلا، ولا دخول المجلس طبعا!! ــ وهذه الشخصيات مختلفة ومتنوعة، فيها أعضاء من الحزب الوطنى، وفيها أفراد من أحزاب المعارضة ــ وهذا كل شىء!

وفى رواية اللواء «حسن أبو باشا»، ومن «تقديره للظروف»، فإن قواعد اللعبة (كما سمعها من «مبارك») كان يمكن من الناحية العامة تبريرها، شرط توافر ما وصفه «أبو باشا» فى سياق كلامه بـ«درجة من المعقولية «توازن» النتائج ولكن لا تزيفها»، وفى رأيه أن ذلك كان مرهونا بالنسب التى يسمح بها الرئيس للمعارضة، وبمحدودية قائمة غير المرغوب فيهم والمحظور نجاحهم ودخولهم مجلس الشعب الجديد، لكن الصدمة وقعت حين جاءت مقابلة الحسم بين وزير الداخلية وبين رئيس الجمهورية.

ففى لقائهما التالى والسابق للانتخابات، سمع اللواء «حسن أبو باشا» من «مبارك» ما «أفزعه» حسب قوله:

1ـ أن «الرئيس» على استعداد لأن يترك للمعارضة 5% من المقاعد، أى حوالى عشرين مقعدا، لكل الأحزاب وقوى المعارضة مجتمعة.

2 ـ وأن قائمة غير المرغوب فيهم أكبر مما توقع، وكانت دهشته أن الاسم الأول فيها اسم شقيق الرئيس «مبارك» نفسه، وهو السيد «سامى مبارك».

وكان تشدُّدْ «الرئيس» حيال ترشيح شقيقه غير مفهوم، فقد وصل «مبارك» إلى حد القول «بأنه أمر بحذف اسم شقيقه من قائمة مرشحى الحزب الوطنى، ولكنه سمع أنه ذهب بعدها إلى حزب الوفد يطلب من الأستاذ «فؤاد سراج الدين» أن يرشحه عن حزب الوفد، وأن «فؤاد سراج الدين» قَبِلَ منه ما اقترح ــ «سامى» ــ عليه».

وزادت المفاجآت على وزير الداخلية لأن «مبارك» أوفد «أسامة الباز» إلى «فؤاد سراج الدين» حتى لا «يأخذ» شقيقه على قائمة الوفد، ولكنه لم ينجح، ثم طلب «مبارك» من وزير داخليته أن يتصل بنفسه مع «فؤاد سراج الدين»، وأن يبلغه ـ وباسم الرئيس ـ أنه لا يريد أن يدخل شقيقه إلى الانتخابات على قائمة مرشحى الوفد!».

ووعد «أبو باشا» بالاتصال بـ«فؤاد سراج الدين»، ثم انتقل بعد ذلك إلى الموضوع الأساسى، متصورا أن «الصيغة المباركية للانتخابات النيابية» قابلة للمناقشة، وكذلك عرض تعديلات تصورها أكثر ملاءمة.

ـ أولها: أن «يتفضل الرئيس بمراجعة النسبة التى سمح بها للمعارضة، وأن يرفعها من 5% إلى 20%، أى حوالى مائة مقعد، ورأيه أن ذلك لا يؤثر على أغلبية الثلثين فى المجلس، وهى النسبة التى تسمح بتعديل الدستور (إذا طرأ ما يقتضى)».

ـ والثانى: أن يختصر الرئيس قائمة الممنوعين من دخول المجلس، وأولهم السيد «سامى مبارك» شقيقه.

وفوجئ اللواء «أبو باشا» بالرئيس «مبارك» وقد علا صوته، واحتدت نبرة صوته، وهو يقول: «سامى» موش ح يدخل، يعنى موش ح يدخل!!».

وقال «أبو باشا»: «ولكن (سيادة الرئيس) الداخلية قامت باستطلاع لموقف الأستاذ «سامى»، وتبين أنه قادر على النجاح «بالراحة» فى الدائرة التى رشح نفسه عنها».

ورد «مبارك»:

ـ مستحيل!
ثم قال الرئيس لوزير داخليته:

ـ «حسن».. أنت ضغطت على أعصابى بأكثر من اللازم، ولست الآن فى مزاج (استعمل الكلمة الإنجليزية MOOD) يسمح لى بمواصلة الكلام معك، ثم نهض واقفا ينهى المقابلة ويخرج من الغرفة، ويترك وزير داخليته يبحث عن الباب للانصراف!

وفى دفاتر يوميات المعركة الانتخابية (كما سجَّلها اللواء «تعلب» مساعد الوزير بخط يده) ــ إشارات لهذه المقابلة بما فيها عبارة أن الرئيس ليس «فى مزاج MOOD» يسمح له بمواصلة مناقشة العملية الانتخابية بأكثر مما قال وحدد!!

كانت معركة الرئيس «حسنى مبارك» ضد شقيقه «سامى مبارك» دالة فى كثير من تفاصيلها على طبائع يصعب تفسيرها.

فالرئيس لم يكتف فقط بإبلاغ وزير الداخلية أن شقيقه لا ينبغى أن ينجح فى الانتخابات مهما كان الثمن، وإنما أضاف إلى ذلك احتياطات بدت غريبة لوزير الداخلية، لأنه اتصل بوزير الحكم المحلى وأكَّد طلبه، بل واتصل مكتبه ببعض مديرى الأمن.

وسجَّل مساعد وزير الداخلية اللواء «محمد تعلب» فى دفتر يومياته عدة ملاحظات تثير الاستغراب:

ـ ملاحظة أولى: نقل فيها عن اللواء «حسن أبو باشا» وزير الداخلية «أن شدة الضغوط عليه جعلته يقول له بنص ما كتبه «تعرف يا تعلب، العلاج الوحيد للوضع ده أنى أموت!».

ـ ملاحظة ثانية: يكتب فيها مساعد وزير الداخلية بالنص: «لا أعرف السر فى إصراره (يقصد الرئيس) على عدم نجاح أخيه إلى هذا الحد، حتى بت أتصور أنه هو الذى يحقد على أخيه وليس العكس!».

ـ ملاحظة ثالثة: أن وزير الداخلية طلب مقابلة «مبارك» قبل الانتخابات بعدة أيام، والهدف أن يحدِّثه فى موضوع شقيقه (ضمن موضوعات أخرى)، لكن «مبارك» رفض وقال إنه ليس لديه المزاج لمقابلة وزير داخليته (ليس فى MOOD يقابل فيها أحدا)، ولم تكن هذه هى المرة الأولى الذى يستعمل فيها «مبارك» هذا التعبير مع «حسن أبو باشا»، وبعد رجاء كان رد «مبارك»: «موعدنا بعد الانتخابات يا حسن»!!

(وبعد الانتخابات كان «موعدنا» هو الخروج من الوزارة).

لكن دفاتر اللواء «تعلب» تسجل ما هو أغرب، وذلك أنه فى نهاية يوم الانتخابات تبين حصول السيد «سامى مبارك» ورغم ـ كل الجهود ـ على نسبة تزيد على سبعين فى المائة من الأصوات فى الدائرة التى رشَّح نفسه عنها!

وجاءت الأوامر من الرئيس شخصيا بأنه «أبدا»! ـ وأن كل شىء فى اللجنة العامة للفرز يجب أن يتوقف، حتى يصل إلى هناك مبعوث خاص للرئيس، وبالفعل وصل إلى مقر اللجنة الرئيسية مستشاره «أسامة الباز»، وطلب إعادة فرز الأصوات، و«التصرف» بكياسة لكى لا يغضب الرئيس، وكان المشهد مزعجا للجميع، وأعيد فرز الأوراق، بحضور أعضاء من اللجنة العامة، وظهرت النتائج ـ مرة أخرى ـ كاسحة لصالح «سامى»، وإلى درجة لا تنفع معها أية «كياسة»، لأن المشهد كان واضحا أمام كثيرين، والالتفاف حوله فضيحة يلزم تجنبها من أجل الرئيس نفسه!

وعاد «أسامة الباز» إلى الرئيس يهدئ خواطره إلى أنهم أمام FAIT ACCOMPLI أى أمر واقع، وطبقا لرواية وزير الداخلية فإن الرئيس «مبارك» لم يجد حلا، لكنه قال «إن «أبو باشا» سوف يدفع ثمن غلطته!!».

وكذلك خرج «حسن أبو باشا» من وزارة الداخلية!

وبعد شهور طلب السيد «سامى مبارك» مقابلتى، وحددت له بالفعل موعدا جاء فيه، وجلس أمامى فى مكتبى، وراح يحكى، ورأيت لفت نظره إلى أن غرفة مكتبى قد لا تكون مأمونة لما يقول، وكان رده: «أنه لا يبالى إذا سمع «حسنى» ما سوف يقوله لى، «لأنه» بعد ذلك سوف يترك البلد «له» ويسافر إلى ألمانيا».

واستطرد «سامى مبارك» إلى حديث طويل عن علاقات عائلية مزدحمة بالعقد الغائرة والتعقيدات الظاهرة، وكله معبأ بالمرارة، وكله فى ظنى مما لا يصح الخوض فيه.

لكنى لا أستطيع إنكار هواجس جديدة راحت تنضم إلى هواجس سابقة حاولت تنويمها.
__________________
رد مع اقتباس
  #23  
قديم 04-02-2012, 06:17 AM
الصورة الرمزية راغب السيد رويه
راغب السيد رويه راغب السيد رويه غير متواجد حالياً
معلم لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 9,278
معدل تقييم المستوى: 24
راغب السيد رويه is a jewel in the rough
افتراضي


تمرد قوات الأمن الـمركزى .. علامة حـاسمة فى نظام (مبارك)

مبارك وزمانه من المنصة إلي الميدان (الحلقة التاسعة) .. منحنى على النهر!









محمد حسنين هيكل وفى أجواء الاستعداد لـ «رئاسة ثالثة لمبارك» آثرت أن أتابع من مسافة أكثر بُعدا قدر ما أستطيع، دون انعزال كامل عن الحوادث أقطع به أى صلة مع الشأن الجارى.

وكان ظاهرا لى أن الحيرة ليست حيرتى فقط، ولكنها حيرة كثيرين، وربما حيرة التاريخ ذاته فى شأن رجل يتصور بعض الناس أنهم يعرفونه جيدا، ثم يتبين أنهم لا يعرفون شيئا!

●●●

فى ذلك الوقت بدا أن مجرى الحوادث فى ظاهره لا يكفى لرؤية ما يدور تحت السطح، فعلى الظاهر بدا أن الرتابة والركود والتردى هى السمات الغالبة على القرار فى مصر.

لكنه فى نفس الوقت تبدَّى أن العمق المصرى يموج بتفاعلات تتسارع حركتها، وتتصارع عواملها، حيث لا يراها أحد، ولكن آثارها ما تلبث أن تطفو على السطح.

وبشكل ما سرى اعتقاد أن هناك درجة من خيبة التوقعات الداخلى تنتشر، وأن محاولة لتعويضها تجرى بالظهور الخارجى، وتجاوزت الأمور حتى ساد الظن أن «الخارج الدولى» يجرى استعماله ساترا للقصور الداخلى، وناقشت الموضوع صراحة، ومرة أخرى مع «أسامة الباز»، وكان رأيه: «أن مجال العمل فى الداخل محصور، وأنه ربما استطاع العمل الخارجى أن يضيف شيئا» ــ وسألنى أسامة: «ألم يكن ذلك يحدث فى عهد الرئيس «عبدالناصر«؟!» ــ وقلت «إن العمل الخارجى فى وقت «عبدالناصر» كان فى خدمة الداخل، وأشرت كنموذج إلى معركة بناء «السد العالى«، بما مؤداه ــ دون داعٍ إلى كثرة التفاصيل ــ أن الاهتمام بالسياسة الخارجية فى ذلك الزمن كان مطلبه النهائى داخليا».

مُضافا إلى ذلك «أنه أى الجزء الرئيسى من ذلك الجهد كان بهدف استكمال تحرير العالم العربى، خصوصا فى الخليج واليمن، ثم تأكيد استقلال أفريقيا بالتركير على دول حوض النيل وجواره، وأخيرا إقامة جبهة عريضة من دول العالم الثالث مطلبها الدفاع عن الحرية والعدل فى مجتمع الدول».

وأما الآن فإن النشاط الخارجى يبدو أمامى ــ كذلك قلت لـ «أسامة الباز» ــ موجَّه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حتى أصبحت زيارتها حجا سنويا منتظما إلى واشنطن، موعده الربيع مع كل رئيس أمريكى!!


مبارك وزوجته مع الرئيس الأمريكي ريجان وزوجته

وكانت المواكب المسافرة إلى واشنطن تتوقف للاستراحة فى باريس ولندن، ثم تستأنف السفر تعبر المحيط إلى الشاطئ الأمريكى.

وقلت لـ «أسامة» يومها: «إن عددا من ساسة أوروبا لم تعد تريحهم هذه الزيارات لعواصمهم، ورجوته أن ينقل إلى الرئيس «مبارك» أننى سمعت الرئيس الفرنسى «ميتران» يعبر عن شعوره بهذا الموضوع متحرجا بقوله «إن باريس أهم من أن تكون محطة على الطريق إلى واشنطن».

بمعنى أن «ميتران» يريد أن يشعر أن زيارة الرئيس المصرى لفرنسا هى زيارة لفرنسا، وليس محطة استراحة على الممر إلى أمريكا!!

ثم إن الرئيس «ميتران» وذلك ما سمعته منه ــ يريد أن يرى لهذه اللقاءات جدول أعمال مفيدا للبلدين، بحيث يجرى الترتيب له قبل أى لقاء بدراسات خبراء ومناقشات وزراء خارجية.

ولم أقل لأسامة الباز ما سمعته من «ميتران» عن شكواه من أن معظم لقاءاته مع «مبارك»، لم تكن جلسات سياسية وإنما مجرد مناسبات اجتماعية تُحكى فيها الحكايات، وتطول الروايات، ومعظمها مما يدخل فى باب «النميمة» عن ساسة عرب آخرين يحكيها الرئيس «مبارك» من باب التندر والسخرية.

●●●

كان ذلك التوجُّه إلى الخارج أصلا بلا جدوى، إذا لم يكن مقصده النهائى هو الداخل، بدءا منه وعودة إليه، وهدفه النهائى البناء فوق الأساس وخدمته وطنيا أو قوميا، أما التركيز على هذه القوى الكبرى التى يسافر إليها رئيس الدولة، وخلفه وفود جرارة، ثم تكون حصيلتها فيضا من الصور يسيل على صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون فجهد عقيم، لا نتيجة له ولا مردود، وإنما هو نوع من توظيف غير الموجود فى طلب غير الممكن، لأن هذه القوى الكبرى تتعامل مع غيرها بحسابات «القدرة»، ولا يحركها غير منطق المنفعة والربح، وأما حين يكون المطلوب ــ وهو ظاهر أمام الجميع تغطية قصور الداخل بظل الخارج ــ فإن المحصلة صفر وبالتناقص أيضا، بصرف النظر عن حجم الوفود، وكثرة الصور، وتكاليف السفر!!

●●●

وفجأة فى أجواء فترة الرئاسة الثالثة وقعت فى مصر واقعة، فقد انفجر تمرد الأمن المركزى يوم 25 فبراير سنة 1986، وانفلت الأمن، وانكشف الساتر عن المستور، واضطر الرئيس «مبارك» إلى الاستعانة بالقوات المسلحة لاستعادة زمام السلطة.

وصحيح أن استعادة السلطة تحققت فى ظرف أسابيع، لكن النتائج والتداعيات التى ترتبت على واقعة تمرد الأمن المركزى أحدثت شرخا أكبر من مجرد تمرد قوات نظامية على سلطة الدولة، كما أنها ــ فى آثارها ــ أبعد من أن تنتهى بنزول القوات المسلحة إلى الشوارع.

ولعلى أميل إلى اعتبار تلك الحادثة علامة ظاهرة ــ تستحق التوقف طويلا أمامها ــ فى شأن نظام «مبارك»، لأن اختلال الموازين زاد إلى درجة الانزلاق بعدها ــ بدلا من حالة هبوط على درجات سُلم كما كان قبلها!!


أحداث الأمن المركزي 1986

والسبب فى تحول الهبوط إلى الانزلاق بيِّن، لأن أزمة تمرد الأمن المركزى كشفت «مبارك» ــ بقسوة ــ أمام جبهتين:

ــ جبهة الخارج، لأنها أوضحت ــ سواء للولايات المتحدة أو غيرها من القوى ــ أن مركز «مبارك» فى السلطة ليس بالثبات الذى تصوروه بعد فوزه بالرئاسة مرتين.

ــ ثم جبهة الداخل لأن الأزمة كشفته أمام القوات المسلحة وهى سنده الأخير للبقاء، فهذه الأزمة جعلته يلجأ إلى سنده الأخير ليجعله حاميه الأول، وذلك ينزل بالحكم من مظلة الدستور إلى عصا الأمر الواقع، والفارق كبير!!

●●●

وربما يكفى لتصوير حساسية الموقف أن أتذكر من تلك المرحلة ــ اتصالا تليفونيا من الرئيس «مبارك» ــ ثم لقاء بعد ذلك مع المشير «عبدالحليم أبوغزالة» (وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة).

● وفى الاتصال التليفونى ــ كان اهتمام الرئيس «مبارك» على ما كتبته ونشرته «أخبار اليوم» من أن تمرد الأمن المركزى «يعكس أحوالا لا يصح النظر إليها باعتبارها قضية أمن، وإنما لابد من النظر إليها كقضية أوضاع اجتماعية أكثر بُعدا وعمقا».

ومن كلام الرئيس «مبارك» فإنه لم يكن من أنصار هذا الرأى، وكان قوله «إننى أعلق على هذه الحادثة بأكثر جدا من حجمها»، مضيفا: «أنا شخصيا لم أقلق، كنت أعرف من أول لحظة أنه فى مقدورى أن «أطبِّق» (هذا هو الوصف الذى استعمله بمعنى التطبيق) تمرد الأمن المركزى بالقوات المسلحة».

وعندما سألته مذكرا بالاحتمال الموازى على الناحية الأخرى:

«وإذا تمردت القوات المسلحة، فكيف يمكن «تطبيق» تمردها؟!».

وتردد الرئيس «مبارك» لحظة ثم قال:

ــ «إن زمن الانقلابات العسكرية انتهى!».


مبارك وأبو غزالة

● وأما اللقاء مع «أبو غزالة» فقد كان فى سكنه أيامها فى بيت على طريق مطار القاهرة مواجه لمبنى الكلية الحربية، ولسبب ما كان الصالون الذى جلسنا فيه معبأ بتلاوة من المصحف المرتل بصوت الشيخ «عبدالباسط عبدالصمد»، ولم أر بعينى مصدر الصوت، لكن التلاوة كانت ملء القاعة طول حديث امتد على ساعتين.

وتحدَّث «أبو غزالة» طويلا وضمن ما قال:

«إن هناك من يتآمر عليه عند الرئيس «مبارك»، يصورون للرئيس أنه (المشير «أبو غزالة») يرى نفسه أجدر بالرئاسة منه».

ويضيف «أبو غزالة» وبثقة بالنفس لافتة:

«الرئاسة لم تخطر على بالى، فأنا أعرف من أحوال البلد ما فيه الكفاية لإقناعى بالبقاء حيث أنا»، ويستدرك «هذا إذا كانت الرئاسة ضمن مطالبى، وهى لم تكن كذلك، فخلال الأحداث (تمرد الأمن المركزى) كانت: «دباباتى موجودة فى كل مكان فى العاصمة، ولو كان الاستيلاء على السلطة مطروحا بالنسبة لى لما احتاج الأمر منى إلى أكثر من ضابط (وحتى برتبة ملازم) يذهب إلى استوديوهات الإذاعة والتليفزيون ويلقى بيانا باسمى، وتنتهى القصة فى خمس دقائق، «وساعتها كان الشعب مستعدا لأن يرحب، وأيضا كان العالم مستعدا لأن يقبل!!».

●●●

فى تلك الظروف وقع التقاء ضرورات بين مطالب القلقين والمتشككين فى مصر بعد أحداث الأمن المركزى ــ وبين عناصر إقليمية ودولية متعددة فى صراع أكبر يتمدد باتساع الشرق الأوسط كله، وبمشاركة قوى العالم تقريبا.

كانت الولايات المتحدة الأمريكية أول الأطراف الخارجية المهتمة بالشرق الأوسط (وبعدها بريطانيا إلى حد ما وربما غيرها)، وكلها قوى يهمها موقع المنطقة، وتهمها مواردها، وكلهم لا يستطيعون تحقيق مُرادهم بحروب مكشوفة، خصوصا الولايات المتحدة وهى مازالت بعد «ڤيتنام» تحاذر أن تضع قدما أمريكية على أرض آسيوية، بينما بريطانيا لا تقدر ولا تستطيع.

● وكان الاتحاد السوڤييتى ــ القوة العالمية الثانية ــ يحارب آخر معاركه خارج حدوده فى «أفغانستان»، فقد رصدت أجهزته عمليات تقوم بها المخابرات الأمريكية للنفاذ إلى داخل إمبراطوريته، وهدفها استثارة الشعوب الإسلامية فى الجمهوريات الجنوبية للإمبراطورية، والسلاح والموقع الذى يُستخدم للإثارة هو «أفغانستان»، والسلاح الذى يحرِّك المشاعر هو «الدين»، وكذلك تورط الاتحاد السوڤييتى فى غزو «أفغانستان» (والوثائق الأمريكية قبل غيرها تكشف أن «الكرملين» دُفع إلى التدخل العسكرى فى «أفغانستان» مرغما ــ أو كذلك تصوره ــ وكانت تلك خطة مرسومة لاصطياده واستنزافه فى الجبال الصعبة والوديان الموحشة ــ بحرب عصابات تنتظره لتستنزف دمه وسلاحه ــ وسمعته!!)، وبهذا التورط فإنه أعطى الفرصة لصيحة مدوية باسم «الجهاد الإسلامى ضد الإلحاد».

● وقتها أيضا كان قلب الشرق الأوسط يعيش زلزال الثورة الإسلامية التى أطاحت بنظام الشاه فى إيران، وأقامت حكمها وسلطتها فى البلد الأهم على رأس الخليج، وهو موطن البترول الأكبر، والجوار القريب من «أفغانستان» بكل ما يجرى فيها، ثم إن نداء الثورة الإسلامية خصوصا فى بدايتها أثار مخاوف كثيرة لها جذور تاريخية غائرة، فإيران قومية راسخة ومذهبها الشيعى فى احتكاك ــ خشن أحيانا ورقيق أحيانا أخرى ــ مع غيره من المذاهب الإسلامية، وبالتحديد مذهب أهل السنة.

والفتنة المذهبية وقود جاهز لمن يريد إشعال الحريق فى دار الإسلام بكاملها، وكذلك ارتفعت ألسنة اللهب!!

أى أنها حرب الجهاد ضد الإلحاد أولا، ثم حرب المذاهب الإسلامية فيما بينها ثانيا!!

● إلى جانب ذلك فقد راحت دواعى التوتر والخوف والقلق فى الخليج تتزايد وتلقى بوساوسها على دول ومشيخات وإمارات الخليج التى وجدت نفسها بين نارين ــ نار جوارها الشرقى فى «باكستان» وقد أصبحت القاعدة الرئيسية لحرب الجهاد ضد الإلحاد فى «أفغانستان» ــ إلى جانب نار أخرى تلسع بسخونة من وهج ما يجرى فى إيران على جوارها الشمالى، وباختصار فإن الخليج وجد نفسه وسط حرب على جبهتين: شرقا فى «أفغانستان» عن طريق «باكستان» (وهذه حرب الجهاد ضد الإلحاد)، وشمالا من «إيران» عن طريق «العراق» (وهذه حرب المذاهب الإسلامية)!!

●●●

وفى تلك اللحظة من حياة الشرق الأوسط كانت ضرورات الأطراف على اختلافهم تفرض حلفا بينهم تلاقت فيه عناصر متباعدة، تصنع للأحداث مجرى مختلفا، ومثل ذلك يقع فى الطبيعة، بمعنى أن زلزالا قد يحدث فى منطقة، تلامس تربة قد تكون هشة سواء قبل الزلزال أو بعده، وفى الجوار نهر يفيض بمياه تكاد تعلو فوق ضفافه، وفجأة ترتج المنطقة ويحدث شرخ فى التربة، ويندفع الماء، فإذا هو منحنى على النهر يدور حول مساره الأصلى، أو يشق لنفسه فرعا نحو اتجاه جديد.

وفى السياسة وفى تلك اللحظة التاريخية ــ حدث شىء مماثل فى منطقة الخليج، وتلاقت ضرورات على الساحة القلقة للإقليم، ورسمت منعرجا على مجرى الأحداث، يظهر على الخريطة وكأنه منحنى على النهر!!

وفى تلك اللحظة المتزاحمة بالضرورات كانت الأوضاع فى مصر ــ وبتفاعلات أحداثها الداخلية ــ وتمرد الأمن المركزى فى وسطها ــ تتوالى وتتداعى تأثيراتها، وبينها انكشاف سلطة الحكم، وظهور مركزين للقوة فى القاهرة، مع علاقات قلقة بين رجلين («مبارك» و«أبو غزالة»)، وكلاهما يريد لنفسه سندا ودعما.

●●●

وتبدَّى لكثيرين أن مصر هى الحل خصوصا مع اعتبارات طارئة:

ــ مصر دولة كبيرة فى الإقليم وهى دولته القاعدية، ثم إن ظروفها بعد معاهدة السلام حددت مجال فعلها، وهى متشوقة لدور تخرج به إلى الإقليم.

ــ وهى بلد يكاد يكون خزان طاقة بشرية غير محدودة.

ــ وهذه الطاقة فيها مورد فياض بشباب مستعد للجهاد ضد الإلحاد.

ــ وضمن هذا البلد عناصر توجَّهت نحو العنف، وهناك من لا يمانع فى تصديره خارج مصر، يتخلص منه، ويشغله بشىء آخر يلهيه عن الداخل المصرى.

ــ وأهم من ذلك فإن مصر توافر لديها فى نفس اللحظة مخزون هائل من السلاح السوڤييتى لم تعد فى حاجة إليه، لأنها نقلت تسليحها إلى نظم غربية (أمريكية بالذات)، وبدأت السياسة المصرية تحاول تصريف ما لديها مما لم تعد بها حاجة إليه، وباعت كثيرا منه فى صفقات للعراق قدرت فيها السعر الذى تبيع به، لأن احتياجات «صدام حسين» فى حربه ضد إيران فاقت كل التقديرات، والحاجة تجعل طالب السلاح مستعدا لقبول أية شروط.

وعندها اكتشف كثيرون ممن يبحثون أن الصيغة السحرية للوفاء بكافة الضرورات قد تكون فى القاهرة، وفى رجلين فيها بالتحديد: «مبارك» و«أبو غزالة».

● الأول لديه رئاسة الدولة المصرية بكل ما تمثله، وبكل ما تقدر عليه من اعتماد السياسات.

● والثانى لديه فائض سلاح ومعه القدرات الإنسانية المُدرَّبة على القتال.

وبين الاثنين طبقة فى مصر مستعدة لما يُطلب منها، خصوصا إذا كانت ثروة النفط هى التى تطلب، وكان النفوذ الدولى هو الذى يسند!!

●●●

ومن الإنصاف أن يُقال أن كل واحد من الرجلين كان لديه الحافز «المشروع» لدخول الساحة المتسعة والقلقة خارج الحدود.

● «مبارك» يتصور ــ مع ترجيح حسن النية ــ أن هذه اللحظة وبالجوار، وقوة الجذب السياسى، وضخامة الموارد الإنسانية المتاحة فى مصر ــ تمكن له فى زحام الأحداث أن يحصل على مساعدات مالية ضخمة تنفع فى تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية فى مصر، كما تخدم التطلعات التى تفتحت شهيتها للثراء فيها، ثم روَّعتها أحداث الأمن المركزى.

● و«أبو غزالة» من ناحية أخرى يتصور ــ ومن باب ترجيح حُسن النية أيضا ــ أنه يستطيع فى نفس الزحام أن يحقق مكاسب لها قيمة، ضمنها أن يجد سوقا للسلاح السوڤييتى الذى لم يعد يحتاجه بعد تغيير أنظمة التسليح فى مصر إلى التسليح الأمريكى، وهو بدعاوى ما يمكن أن تحققه هذه المبيعات يستطيع أن يزيد مشترياته من الأسلحة الغربية، ويستطيع توفير وسائل أوسع لدخول مجال تصنيع الصواريخ، وبالتوازى فإنه يستطيع توفير متطوعين للجهاد أنهوا خدمتهم العسكرية فى مصر، وهم على وشك التسريح من الخدمة، وليست هناك فرص عمل تنتظرهم، والخوف أن تلتقطهم «الجماعات المتشددة» فى مصر، والظن أنه يمكن إغراؤهم بأجور مغرية إذا هم قَبِلوا بمخاطر «التطوع» فى صفوف الجهاد ضد الإلحاد، وهنا يكون الثواب مضاعفا، ثواب عن الجهاد، ومنافع عن القتال!! ــ وربما تصور الرجلان معا أنه بالنسبة للسياسة الداخلية فى مصر، فإنها عصافير كثيرة بحجر واحد.

ــ أول العصافير موارد مالية تتدفق.

ــ والثانى عناصر من الشباب المستعد للجهاد، وتصديرها للخارج أفضل.

ــ ثم وهذا هو العصفور الأجمل شكلا والأزهى لونا، فإن كليهما يستطيع من خلال دور يقوم به أن يجد فى الخارج ما يستطيع به تعزيز أرصدته فى الداخل.
(وللأمانة فإنه يمكن أن يُقال إن هذه الفترة الحافلة وفرت لمصر سيولة ضخمة يسَّرت بعضا من أزماتها!!).

●●●

وشهدت السياسة المصرية فى تلك السنوات من أوائل التسعينيات من القرن العشرين أدوارا حساسة يقوم بها كل من الرجلين، والأدوار تتلاقى أحيانا، وتتنافس أحيانا أخرى، وتتقاطع فى أحوال أكثر مع محاولة توزيع الاختصاصات بين الرجلين فى شراكة قلقة وسط زحام اختلط فيه الحابل والنابل فى المنطقة، صراعا على التفوق، وعلى النفوذ، وعلى المال، وعلى المستقبل!!

وكانت الولايات المتحدة موجودة «بشدة» فى القاهرة، وكانت الولايات المتحدة موجودة «بأشد» فى الخليج.


الخليج العربي

وبشكل ما فإن «مبارك» ــ وهو رئيس الدولة ــ أصبح مختصا رئيسا بالعلاقة مع الأمن القومى فى البيت الأبيض فى واشنطن (ومعه وكالة المخابرات المركزية)، وبدوائر الأسر الحاكمة فى دول وإمارات ومشيخات الخليج.

كما أن «أبو غزالة» بالتوازى أصبح مختصا بالعلاقات العملية على الأرض وبالقيادة المركزية الأمريكية، وهى المسئولة عن أمن الشرق الأوسط، وبالطبع بالتعاون مع مؤسسات المخابرات والسلاح فى الخليج، وكلهم دون استثناء من أفراد الأسر الحاكمة فى بلدانهم.

وبالطبع فقد تسللت وراء الرجلين عناصر من الجماعات الجديدة التى ظهرت فى مصر، وقد دخلوا على المؤخرة يحاولون جمع ما تستطيع أيديهم أن تصل إليه من الغنائم والأسلاب.

وكانت تلك هى الفترة التى شهدت كثيرا من الغرائب.

● منها مثلا أن الجهاد فى «أفغانستان» احتاج إلى ستة آلاف بغل، لأن البغال أشد تحملا لطلوع الجبال فى «أفغانستان»، وتكفَّل أحد رجال الأعمال من المحظوظين باستيراد البغال ــ ستة آلاف بغل من قبرص، وشحنها إلى «أفغانستان».

● ثم اكتشف أحدهم أن الشيخ «زايد» رئيس دولة الإمارات يريد أن يتخلص من الحمير فى الإمارات، فجمع ما كان منها فى بلده، وأرسله هدية إلى من يحتاجها فى الريف المصرى، لكن هدية الحمير وجدت من يحصل عليها، ثم يعيد بيعها لأفغانستان، ومع أنها لم تكن مطلوبة إلا أنها وصلت إلى الميدان، وكان يمكن استعمالها للنقل على الخطوط الخلفية للجهاد، وقد كان!!

وكان الجهاد ضد الإلحاد فى حاجة إلى الكثير، بصرف النظر عن البغال والحمير، وإذا فوران المنطقة يتحول فى مصر إلى سوق مفتوح لكل شىء، والمشترى موجود دائما، والمال وفير!!

ورغم أن العلاقات السياسية بين مصر وبقية الدول العربية كانت مقطوعة فى معظم تلك الفترة من آثار صلح منفرد بين مصر وإسرائيل، فإن تلك الفترة شهدت وراء الستار درجة من القُرب نادرة المثال، لأن الضرورات المباشرة للأطراف ــ وليست الأفكار والمشروعات القومية ــ أصبحت الإطار والوعاء والدافع والمحرك!!

●●●

وظهرت وتفاقمت فى مصر حالة فوضى شديدة بين السياسة والسلاح والمال، وبين القرار السياسى وفعل المخابرات، وبين سلطة الدين وسلاح السلطة، فقد كان الجهاد فى حاجة إلى «ضخ» الفتاوى، قدر حاجته إلى «شفط» المال!!

وكذلك راح الداخل المصرى يعيش أحوال سيولة خطرة، وفى خضم تلك الأحوال وجَّه «مبارك» ضربته القاضية إلى منافسه الأكبر داخل مصر، وهو المشير «أبو غزالة»، وقد وجهها وهو يعرف أن أرصدته فى الإقليم وفى مواقع القرار فى «واشنطن» أكبر من أرصدة منافسه، وكذلك ضرب مطمئنا إلى أنها مجازفة محدودة، سواء فى الداخل المصرى أو خارجه!! ــ فقد كان هو الطرف الأكثر تأثيرا فى الحرب بين العراق وإيران، خصوصا وأن ظروفها وملابساتها فتحت الطريق إلى عودة العلاقات بينها وبين بقية العالم العربى ــ رسميا ــ كما عادت واقعيا.

●●●

وفى وسط هذه المرحلة نشبت موقعة جديدة، فقد زارنى الأستاذ «إبراهيم سعدة» (رئيس تحرير «أخبار اليوم») وقتها، واقتراحه أن أكتب لـ«أخبار اليوم»، فلا يُعقل من وجهة نظره أن تظهر كتاباتى فى صحافة العالم كله، وتظل غائبة فى مصر.

وكانت دعوتى للكتابة فى مصر وقد شاع خبرها ــ أثارت ضيقا فى بعض أوساط الحكم، لكن الرئيس «مبارك» وقف ــ للحق ــ مُدافعا عن دعوتى للكتابة!!

وفى الواقع فإننى لم أكن واثقا من أننى ممنوع من الكتابة بالمعنى الحرفى للكلمة، فقد كان الأمر ملتبسا شأن غيره من الأمور فى ذلك الزمان، ولكن المؤكد فيه بالنسبة لى أننى لم أكن أريد دورا فى الصحافة المصرية، عن اعتقاد بأن حركة الزمن وتعاقب الأجيال قضية تستحق الاعتبار، وبرغم ذلك قبلت الدعوة!

●●●

واهتم يومها ــ كثيرون ــ بما سوف أكتب، وما سوف أقول، عندما أعود إلى الكتابة فى مصر بعد غياب.

ومر علىَّ الدكتور «أسامة الباز» (أيضا)، يسألنى عما أنوى الكتابة فيه، وتفضَّل واقترح أن يكون الموضوع الذى أبدأ به هو الحرب العراقية الإيرانية (وهو شاغل الناس فى تقديره وقتها)، ولم أعلق، لأنى كنت قد اخترت موضوعى بالفعل، ولم أشأ إحراجه بالحديث مُسبقا عنه، لأن اختيارى كان أن أكتب فى موضوع «صُنع القرار السياسى المصرى الآن»، وظنى أنه الموضوع الذى زاد إلحاحه وسط ما يجرى فى مصر والمنطقة من أحداث!!

●●●

وظهر المقال الأول، وفيه نقد من موقع الحرص على سلامة القرار السياسى المصرى أكثر من كونه معارضة رافضة، لكن الرأى لم يعجب «مبارك» وضايقه، وكان ذلك مقدرا فى حسابى، لكن ردة فعل «مبارك» كانت أبعد مما ظننت، وكان الذى نقل إلىَّ ذلك دون قصد هو المهندس «حسب الله الكفراوى»، الذى زارنى مساء يوم صدور مقال «أخبار اليوم» على غير موعد ليقول لى: «إنه كان فى صحبة الرئيس اليوم على طائرة إلى الغردقة، وأن مقالى كان مثار الأحاديث طول الرحلة، وأن الرئيس كان مكفهر الملامح معظم الوقت، وحين قلت لـ«الكفراوى» إننى نقدت من موضع ودّ، علا صوته يقول:

«أى ود، أنت وضعت الرئيس فى موضع التلميذ، و«قرمعت» أصابعه بسن المسطرة!!».

(وكان المهندس «حسب الله الكفراوى» حتى ذلك الوقت يُحسن الظن بـ «مبارك»، لكن الرجل بدأ يرى من موقعه ما دفعه فيما بعد إلى العصا الغليظة، وليس قرمعة الأصابع بالمسطرة فقط!!).

وفى أعقاب نشر المقالين الأول والثانى عن صنع القرار السياسى فى مصر، قامت قيامة السلطة بكل أدواتها، خصوصا فى الحزب الوطنى ــ وآثرت أن أختصر، وكان تقديرى أن أكتب فى «صنع القرار السياسى فى مصر» ثلاثة مقالات، واكتفيت بثانية كنت قد أرسلتها فعلا إلى الأستاذ «إبراهيم سعدة».

وفى الحقيقة فإننى لم أشأ إحراجه، خصوصا وقد عرفت أن أمامه فرصة لتولى رئاسة مجلس إدارة «أخبار اليوم».
__________________
رد مع اقتباس
  #24  
قديم 05-02-2012, 06:19 AM
الصورة الرمزية راغب السيد رويه
راغب السيد رويه راغب السيد رويه غير متواجد حالياً
معلم لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 9,278
معدل تقييم المستوى: 24
راغب السيد رويه is a jewel in the rough
افتراضي

اليوم السابع تقرأ فى الحلقة العاشرة من كتاب الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.. مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان.. الصادر عن دار الشروق.. 11 ساعة مع الملك حسين على يومين وسط الوثائق فى عمان

الأحد، 5 فبراير 2012 - 00:24
الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل
نقلا عن الشروق

◄يحكى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى مقدمة الحلقة العاشرة عما دار بينه وبين الملك حسين، والاتصال الذى تلقاه هيكل بعد وصوله من الأردن بثلاثة أيام، فيقول هيكل:
وبعد عودتى إلى «القاهرة» بثلاثة أيام تلقيت اتصالا من الرئيس «مبارك»، بدأه كذلك بغير مقدمات:
«هل كذب عليك (يقصد «الملك حسين»)، وروى لك ما يشاء لكى يبرر موقفه؟!».. وأشهد للدكتور «مصطفى الفقى» أنه أخذنى لكى يقول لى همسا: «لا تجعل شيئا مما يُقال يضايقك، الحق كان معك، والواقع كما أعرفه من موقعى أفظع بكثير من أى شىء قلته فى كتابك!».
«أنه من حق الملك أن يقول ما يشاء، وعلىَّ أن أفرز ما أسمع، وعلى أى حال فإن الملك أبلغنى عن طريق رئيس ديوانه بأنه رغبة منه فى اطلاعى على الحقائق كاملة فسوف يفتح أمامى كل الملفات دون تحفظ، أطلع فيها على ما أشاء».

حل مشاكل مصر على طريقة «ماكيافيللى» لم ينجح، لسبب واضح وهو أن جماعات المصالح التى أحاطت بالأب، وزحفت مع الابن تحولت إلى سرب جراد أتى على ما جاءت به السياسة».

كانت تلك لحظة تستحق أن يعيشها ويرصدها الفيلسوف الأكبر فى علوم السياسة وممارستها، وهو فيلسوف التنوير الأشهر «نيكولو ماكيافيللى».

◄ ويتحدث الكاتب الكبير هيكل فى هذه الفقرة، عن الفترة ما بين منتصف السبيعينات ومنتصف الثمانينات، فيروى أنها كانت فترة كارثية على العالم العربى:
لم يكن العالم العربى فى أحسن أحواله وهو على وشك الدخول إلى فترة صعبة من تاريخه، والواقع أن السنوات العشر ما بين منتصف السبعينيات ومنتصف الثمانينيات كانت كارثية على العالم العربى.

وكانت البداية أن ذلك التحالف العربى الكبير الذى خاض حرب أكتوبر 1973، والذى كان بلا سابق فى التاريخ العربى الحديث، وكذلك بلا لاحق حتى هذه اللحظة راح يتفكك جميعه وتتحلل روابطه.

فالحرب فى أكتوبر 1973 دارت بالسلاح على جبهتين: مصر وسوريا، واصطف وراء الجبهتين دعم شعوب الأمة كافة، وبإصرار عنيد ووراء الإصرار إمداد متدفق بالعتاد والمال وقوة النفط، وجاءت النتائج التى تحققت فى ميادين القتال فى مطالع المعركة باهرة لكن الطرق تباينت وسط القتال!
وكذلك فإنه عندما توقفت المعارك كان العالم العربى فى مأزق، لأن مصر آثرت أن تستكشف وحدها ما سُمى بطريق السلام.

ثم توالت العثرات: من الحرب الأهلية فى «لبنان» إلى الحروب فى القرن الأفريقى بما أدى إلى تآكل دولة الصومال إلى الصراع بين الجنوب والشمال فى السودان إلى الحرب العراقية الإيرانية إلى غزو «الكويت» وبهذا وغيره فإن بنيان المشروع العربى والذى ظل واقفا رغم ما كان فيه من ثغرات راح يتصدع، فعندما خرجت مصر بصلح منفرد مع إسرائيل سنحت الفرص لتجمعات إقليمية أو عائلية مكبوتة تحت ضغط الظروف، ولها مشروع تجمع دول الخليج تبتعد بها عن القلب العربى، تاركة له قضاياه الكبرى، آخذة معها ثرواتها الطائلة، وكذلك نشأت «منظمة التعاون الخليجى» وفى مقابلة أن اقترح العراق ما سُمى «مجلس التعاون العربى»، وفيها «العراق» و«الأردن» و«مصر» و«اليمن»، ثم جرى طرح ومناقشة اتحاد الدول المغاربية، ثم انقض الغزو العراقى ل «الكويت»، وانفجر النظام العربى، حتى وإن حاولت الأشلاء أن تلتحق بالأشلاء!!
ومع أن السياسة المصرية فى ذلك الوقت كانت عضوا فى الاتحاد العربى الذى يجمعها مع العراق ويحولها هى والأردن إلى قاعدة خلفية للحرب ضد إيران فإن ظروف العالم العربى وجواره ما لبثت أن أضافت بمستجدات ومضاعفات حمولات زائدة نزلت عليها، خصوصا معركة الجهاد ضد الإلحاد فى «أفغانستان»، وما فاض معها من مغانم راحت تتدفق فى المنطقة، وكانت هذه المغانم هى ما أخذ السياسة المصرية إلى تغيير تحالفاتها بسرعة، فغزو العراق للكويت أغرى السياسة المصرية بدور اتسع نطاقه واختلطت فيه المسالك، فإذا مقاومة غزو «الكويت» تفتح باب الذرائع لتدمير «العراق» نفسه من الانقسامات والتحالفات المتناقضة والمتغيرة، ومن الصراعات والحروب العبثية، كل هذا أزاح القضية الفلسطينية والصراع العربى الإسرائيلى إلى الأركان والهوامش!

وكانت تلك كلها أعراض أمراض لحقت بأمة ضيَّعت هويتها وذاكرتها وطريقها مهما شطحت الأوهام ببعض الأطراف!

◄ وبعد أن استعرض هيكل فترة العشرة سنوات الصعبة على الأمة العربية، يتحدث الكاتب الكبير عن توقيعه عقد مع دار «هاربر كولينز»، ثم يتحدث عن الاتصال الذى جرى بينه وبين مبارك بعد انقطاع لفترة طويلة، فيقول:
وفى ذلك الوقت كنت قد وقَّعت عقدا مع دار «هاربر كولينز» (فى لندن ونيويورك) يشمل ثلاثة كتب عن الشرق الأوسط، وسألنى رئيس مجلس إدارتها («إيدى بيل») إذا كنت مستعدا لبدئها بكتاب عن تلك الحرب فى الخليج، ووافقت، وبدأت العمل فيه، ونشرت بعض الصحف فى مصر وخارجها أننى أكتب كتابا اخترت له عنوان ILLUSIONS OF TRIUMPH «أوهام القوة والنصر»!
وذات صباح فى مكتبى، اتصل بى الرئيس «مبارك» بعد فترة انقطاع طويل، وبادر فسألنى دون مقدمات تقريبا:

«إنه قرأ فى إحدى الجرائد أننى سوف أذهب إلى «عمان» لمقابلة الملك «حسين»، «لأنك» تكتب كتابا عن حرب الخليج!».
وقلت للرئيس: «إن ما قرأه صحيح!».
وسألنى الرئيس: لماذا الملك «حسين»!
وقلت: «سوف أقابل كثيرين غيره، ولكن المسألة فيما يتعلق بالملك «حسين» إنه الرجل الذى بقى منذ غزو الكويت حتى ضرب العراق على اتصال بكل أطراف الأزمة، فقد ظل على صلة ب «صدام حسين»، و«جورج بوش»، و«مارجريت تاتشر» دون انقطاع»!

وقال الرئيس «مبارك» معترضا: «أنت على خطأ فى ذلك، لأن «حسين» لم يكن الطرف الذى بقى على اتصال بالجميع حتى آخر لحظة، وإنما كنت أنا الذى ظل على اتصال بالجميع من أول لحظة حتى آخر لحظة».

وواصل الرئيس «مبارك» كلامه قائلا: «والملك «حسين» سوف يكذب عليك، وأنت تعرف ذلك!».

ومع أن عبارته أدهشتنى، فقد قلت: «أنه من حق الملك أن يقول ما يشاء، وعلىَّ أن أفرز ما أسمع، وعلى أى حال فإن الملك أبلغنى عن طريق رئيس ديوانه بأنه رغبة منه فى اطلاعى على الحقائق كاملة فسوف يفتح أمامى كل الملفات دون تحفظ، أطلع فيها على ما أشاء».

وعلق الرئيس بما يعرف عن «اهتمامى بالورق»، ثم أضاف: «أنه بالقطع لا يعترض حقى فى مقابلة من شاء».

وقصدت إلى «عمان» فعلا، والتقيت الملك «حسين» على يومين متواليين: فى اليوم الأول من الساعة الحادية عشرة صباحا حتى الثامنة مساء، وتغدينا معا فى قصر «الندوة»، والحديث متواصل، ورئيس ديوانه الأستاذ «عدنان أبوعودة» حاضر معنا معظم الوقت، وجاهز فور الطلب بالملفات والوثائق.
◄ويستكمل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، حديثه حول رحلته إلى الأردن ولقائه مع الملك حسين فى ذلك الوقت، فيقول هيكل:
وعُدت إلى فندق «الإنتركونتننتال»، وفى انتظارى مجمع من الأصدقاء: ساسة ومفكرون وصحفيون، وعند منتصف الليل تلقيت اتصالا تليفونيا من الملك «حسين» يقول لى «إنه يعرف أننى عائد بالطائرة الأردنية ظهر غد إلى «القاهرة»، وأنه يقترح أن نتقابل مرة أخرى فى الساعة العاشرة صباحا فى قصر «الندوة»، وقلت للملك: «إننى على موعد أبلغت به قبل قليل مع ولى عهده الأمير «الحسن»، وهو أيضا فى الساعة العاشرة»، وقال الملك «حسين»: «إنه سوف يرتب الأمر مع الأمير «الحسن»، وسوف يقوم بالاعتذار عنى لولى العهد لأنه هو شخصيا «الملك حسين» لديه بقية يراها ضرورية لاستكمال ما كنا نتحدث فيه (رغم أن حديثنا تواصل 9 ساعات)».

وكذلك كان، وعُدت إلى قصر «الندوة» فى الساعة العاشرة صباحا، وحتى الساعة الثانية عشرة ظهرا كان الملك منهمكا فى الشرح وفى الرواية وأحس بقلقى وأنا أنظر فى ساعة يدى مخافة أن يفوتنى موعد الطائرة (الساعة الواحدة ظهرا)، وقال بسرعة: «سوف أريحك» ورفع سماعة التليفون يأمر بتأجيل قيام طائرة القاهرة حتى أصل إلى المطار، وواصل الحديث وتجاوزت الساعة الثانية بعد الظهر، وكان الكلام مازال متواصلا!

وبلغت سلم الطائرة فى الساعة الثانية والنصف، وكان ركابها قد جلسوا على مقاعدهم فى الموعد المقرر لقيامها، والطائرة بما فيها أى بهم فى مكانها على مدرج المطار، وركابها لا يعرفون سببا لتأخيرها، وقيل لهم إن السبب فنى، لكنهم لم يروا من حول الطائرة ما يدل على عملية صيانة، وطال انتظارهم حتى وصلت سيارتى أمام سلم الطائرة، وصعدت إليها، شاعرا بالحرج أكاد أغطى وجهى، ولا كيف أعتذر لكل هؤلاء الذين تأخروا بسببى، وأنقذنى قائد الطائرة تفضلا منه إذ رحَّب بى على ظهر طائرته، معتذرا للركاب بأننى كنت مع «جلالة الملك»، وأن التأخير كان «بأمر صاحب الجلالة!».

وكان رد الفعل لدى الرُكَّاب كريما وتنفسْتُ الصعداء!

◄ويعود هيكل ليتحدث عن الاتصال الذى تلقاه من مبارك، يسأله فيه عن ما جرى بينه وبين الملك حسين، فيروى الكاتب الكبير، قائلاً:
وبعد عودتى إلى «القاهرة» بثلاثة أيام تلقيت اتصالا من الرئيس «مبارك»، بدأه كذلك بغير مقدمات: «هل كذب عليك (يقصد «الملك حسين»)، وروى لك ما يشاء لكى يبرر موقفه؟!».

ولم ينتظر بل استطرد: «أنه سوف يفاجئنى بما لم أتوقعه، فقد تأكد له غرامى بالوثائق، أبحث فيها عن صورة الوقائع بنفسى، وقد قرر أن يطلعنى على أوراق الرئاسة (السرية)، وسوف يسمح لى بقراءة ما أشاء منها، شرط عدم تصويرها».

ثم واصل «مبارك» سائلا: «أليس «مصطفى الفقى» (سكرتير الرئيس للمعلومات) صديقك؟! وقلت: «صحيح» وقال: سوف أبعث «مصطفى الفقى» إليك ومعه الملفات، تطلع عليها فى حضوره، وكلما فرغت من جزء منها، عاد إليك بجزء جديد حتى تستوفى ما تريد».
«ما رأيك؟!».
وشكرت الرئيس «مبارك» بصدق على اهتمامه، ولم يمض نصف ساعة إلا واتصل بى الدكتور «مصطفى الفقى» ليقول: «إن الرئيس أمره بأن يطلعنى على الملفات السرية للرئاسة فى شأن حرب الخليج. واتفقنا على أن يمر علىَّ فى مكتبى غدا فى الساعة الواحدة بعد الظهر، ثم ينزل حتى يلحق بالإفطار (وكنا فى شهر رمضان).
وبعد هذا الموعد الأول تستطيع أن تحدد ما يليه.

◄ وفى هذه الفقرة يتحدث هيكل عن الموعد المتفق عليه مع الدكتور مصطفى الفقى، واستقباله له حتى يدون ويقرا ما جاء به هيكل، فيقول الكاتب الكبير:
وجاء الدكتور «مصطفى الفقى» فى موعدنا المتفق عليه، ومعه مساعد له يحمل حقيبة جلدية كبيرة متخمة بالملفات، وراح وهو يفتحها جالسا أمامى يقول: «إن التعليمات لديه أن أقرأ ما أريد، ولكن لا أصور شيئا».

وبدا فاستخرج رزمة من «مسيرات الرئاسة»، وهى الدفاتر التى تسجل ضمن ما تسجل اتصالات الرئيس وما يتم تحريره فيها بعد هذه الاتصالات.

وانهمكت فى القراءة، والدكتور «مصطفى الفقى» جالس أمامى يتابع ملامحى مرات، ثم يقلب ملفات الحقيبة الجلدية مرات أخرى، أو يبدى ملاحظة مرحة سريعة، لكن الرجل بيقظة سياسى خبير أحس بشعور يراودنى، وأنا أقلب أوراق أحد الملفات واستعرض محتوياته بسرعة، وبدأ ينظر فى ساعته، وموعد المغرب يقترب، وهو مدعو للإفطار على مائدة أحد أصدقائه (كما قال).

وقررت اختصار الطرق، فقلت له بصراحة: «إننى أفضل أن لا أواصل قراءة هذه الأوراق، وهو يستطيع أن يأخذها معه الآن، وأظننى سوف أكتفى بما قرأت، لا أطلب مزيدا عليها يحمله إلىَّ كل يوم».
◄ ويروى هيكل أن الدكتور مصطفى الفقى أراد استيضاح موقف الكاتب الكبير وقد انعكس هذا على ملامح وجهه، فيقول هيكل فى هذه الفقرة:
وبدت نظرة تساؤل فى عينى الدكتور «مصطفى الفقى»، وانعكست بسرعة على ملامح وجهه، وقد أراد استيضاح موقفى، وقلت بصراحة ما مؤداه: «أن ما قرأت من مسيرات الرئاسة، جعلنى أشعر أن هذه المسيرات مكتوبة بأثر رجعى، أى بعد الحوادث وليس أثناءها، وهذا يفقد المسيرات قيمتها، لأن الأهمية القصوى للمسيرات أن يكون تسجيلها أولا بأول، فإذا وقعت كتابتها كما أحسست بعد فوات أوانها، إذن فهى «محررة» «بتوجيه»، لكى ترسم صورة معينة قد لا تكون موافقة لحقيقة ما جرى!».

وسألنى الدكتور «الفقى» عما يدعونى إلى هذا الشك، وقلت بصراحة أيضا: «هذا ما شعرت به كرجل تعوَّد النظر فى الوثائق».
وعاد الدكتور «الفقى» يسألنى: وماذا أقول للرئيس؟!
وقلت: «إننى أترك المشكلة لحصافته، لكنى أخشى إذا واصلت قراءة كل ما يحمله اليوم من أوراق وما قد يحمله إلىَّ غدا وبعد غد أن أكون قيدت نفسى أدبيا بمصدر لا أجده أمامى مقنعا، وأنا أفضل أن أكتب ما أكتب مستندا إلى ما أستطيع الوصول إليه، راضيا عن مصادره، أما إذا واصلت قراءة ما جاء به إلىَّ ولدىَّ شكوك فيه، فإن قراءتى له سوف تضع علىَّ قيدا ربما يلزمنى بما لم أقتنع به».

وأعاد الدكتور «مصطفى الفقى» أوراقه إلى الحقيبة الكبيرة، ودعا مساعده الذى كان ينتظرنا خارج مكتبى كى يجىء لحملها، ويسبق بها إلى السيارة، ومشيت بعدها مع الدكتور «مصطفى الفقى» إلى باب المكتب، منتظرا المصعد، وفجأة وبصدق قدرته له قال الرجل: «أستاذ هيكل.. لا تعتمد فيما تكتب إلا على ما تثق فيه، ولا تسألنى أكثر من ذلك!».

وفى اليوم التالى كان هو الذى اتصل بى يبلغنى أن أخطر الرئيس بأننى اكتفيت بما قرأت مما حمل إلىَّ من ملفات الرئاسة، وأن الرئيس سأله، وهو بناء على ذلك يسألنى: هل الكتاب سوف يعكس وجهة نظرنا أو وجهة نظر الملك «حسين»!

وقلت له بصراحة: «لا وجهة نظركم، ولا وجهة نظر الملك «حسين»، وإنما هو مثل أى كتاب، يعكس جهد كاتب فى تقصى موضوعه، وهذا كل شىء!!».

◄ وفى هذه الفقرة يتحدث الكاتب الكبير عن الحملة الضارية التى بدأت، فور صدور الكتاب وترجمته إلى اللغة العربية، فيروى هيكل قائلاً:
ولكن ذلك لم يكن كل شىء كما تمنيت، وإنما كان بداية حملة ضارية، فما أن صدر الكتاب، وتُرجم إلى اللغة العربية حتى قامت القيامة، وكانت المواقع الحساسة فى القصة، والتى دار عليها الجزء الأكبر من الخلاف الذى قامت عليه القيامة هى:
متى نزلت القوات الأمريكية فى السعودية؟! وهل كان ذلك قبل مؤتمر القمة، وباتفاق خاص مع الرئيس «مبارك» وغيره قبل مؤتمر القمة؟! أو أن النزول الأمريكى كان بعد مؤتمر القمة، ونتيجة لدعوة منها؟!

ثم هل كان الهدف تحرير الكويت، أو أن تدمير العراق كان مطلوبا لضرورة أو مقصودا بسبق الإصرار؟! وأخيرا هل كان نزول القوات الأمريكية فى الخليج وفى السعودية على هذا النطاق الواسع إجراء طوارئ، أو خريطة استراتيجية مستجدة؟!

ودار جدل طويل حول التناقض فى التصرفات والمواقيت، وصدرت فى مصر كتب رسمية بيضاء، وهى فى الحقيقة ملونة، وأشهد للدكتور «مصطفى الفقى» أنه أخذنى إلى ناحية أثناء عشاء التقينا فيه على مائدة أحد الأصدقاء المشتركين، لكى يقول لى همسا:
«لا تجعل شيئا مما يُقال يضايقك، الحق كان معك، والواقع كما أعرفه من موقعى أفظع بكثير من أى شىء قلته فى كتابك!».
وكانت تلك لحظة تستحق الدراسة فى تاريخ مصر، فقد لاح وكأن مصر قد جرى تنويمها أو تخديرها.

كانت تلك لحظة تستحق أن يعيشها ويرصدها الفيلسوف الأكبر فى علوم السياسة وممارستها، وهو فيلسوف التنوير الأشهر «نيكولو ماكيافيللى» صاحب كتاب «الأمير».

كان «ماكيافيللى» فى شرحه للسياسة فى رسالته التى أهداها إلى أمير «فلورنسا» «لونزو العظيم» يعتبر أن الأمير يستطيع ممارسة السياسة فى عزلة عن الأخلاق.

وظُلم «ماكيافيللى» لأن بعض الناس سحبوا مقولاته على تصرفات البشر العاديين، فى حين أن «ماكيافيللى» كان يتحدث إلى الأمير وسياسات الأمير، أى أن حديثه للأمير كان بمفهوم الأزمنة الجديدة، حديثا إلى الدولة وعن سياساتها.

وفجأة مع اشتعال الحرب فى الخليج ومضت فرصة أمل، حتى وإن كانت على طريقة «ماكيافيللى» تنفصل فيها السياسة عن الأخلاق!

ولسوء الحظ أو لحسن الحظ على طريقة «ماكيافيللى» فإن حروب المنطقة جاءت «كوارث موفقة» (إذا جاز التعبير)، لأنها أتاحت ما بدا للبعض أنه فرصة للتغلب على «مصاعب مصرية»، بصرف النظر عن أى أحكام قيمة!
كان الاقتصاد المصرى مُثقلا ولم تكن أثقاله فى حاجة إلى جهد كبير لاستقراء أسبابها، وإنما كانت الأسباب عديدة: الاقتصاد المصرى تحمَّل بأعباء مشروعات كبرى فى التنمية لم تعط بعد عائدها، أو لم تعط بعد هذا العائد كاملا.

الاقتصاد المصرى تحمَّل بأعباء حرب 1967، وحرب الاستنزاف (والحقيقة أن القطاع العام كان السند الأكبر فى التعويض عن هذه الأعباء).
ثم إن اتجاه مصر بعد حرب أكتوبر لم يستدع إليها ما هو تنتظره من مساعدات عربية، وأول أسباب خيبة التوقعات أن مصر حين انتهاء المعارك اختارت أن تتوجَّه إلى صلح منفرد مع إسرائيل.

وكذلك وقع فى تلك اللحظة أن المساعدات الخارجية توقفت، فقد لمح المعسكر الشرقى بوادر التحول فى السياسة المصرية، وتمهَّل فيما يقدمه، وفى نفس الوقت فإن المعسكر الغربى ودولة الولايات المتحدة كان يريد أن يتأكد من ثبات هذه التحولات.

وفى هذا التوقيت فإن الإغارة على القطاع العام بدأت، وأوله انقضاضها على التوكيلات وإرجاعها.

ثم إن الذين لم ترق لهم المقاومة الشعبية ضد الخصخصة، مع الطريقة التى طرحت بها وقتها، ونفذت بها فيما بعد لجأوا إلى سياسات شبه تآمرية على هذا القطاع العام، فقد حجبوا عنه أى استثمارات جديدة، بينما ظل فائض أرباحه يذهب إلى حسابات الخزينة العامة.

زاد على ذلك أنه فى أعقاب توقف معارك أكتوبر فقد أراد البعض أن يعوض نقص الموارد بزيادة الإيمان، لعل الدعاء يسد حاجة المحتاجين أو يقنعهم بالزهد، برغم كل ما رأوه من غارات تنظم نفسها للانقضاض على النصيب الأكبر من الثروة الوطنية باسم «الانفتاح».

◄ ثم يتحدث هيكل عن الأحوال التى جرت فى تلك الفترة، والتى شهدت موجة هجرة من الشباب، خاصة الكفاءات، موضحاً أن التحولات فى العالم، والثروات المنهمرة فى الإقليم لوَّحت باستعداد للاستجابة للوعد بأكثر مما تقدر عليه الأوضاع المحلية، فيروى هيكل:
وفى هذه الأجواء وقعت موجة هجرة فى الشباب، وفى الكفاءات، لأن التحولات فى العالم، والثروات المنهمرة فى الإقليم لوَّحت باستعداد للاستجابة للوعد بأكثر مما تقدر عليه الأوضاع المحلية، خصوصاً أن ظروف التعبئة العامة لسنوات سبع من 1967 1974 أوقفت سفر البعثات الدراسية إلى الخارج، لأن شباب المؤهلات كان فى الخنادق!

وكان الاحتجاج الشعبى الأكبر تلك الفترة وهى مظاهرات 18و19 يناير سنة 1977، قد ضاع صيحة فى الفراغ، ووقع علاجها أمنيا إلى درجة وصفها بأنها «انتفاضة حرامية»!

ثم وقع اغتيال الرئيس «السادات» بموجة الإرهاب التى تلته، وبدت مصر بلدا غير مأمون فى أبسط الاحتمالات. وراح الاقتصاد المصرى يتدحرج إلى حافة الخطر.

ولست أعرف أن «مبارك» قرأ «ماكيافيللى»، لكنه فى حرب الخليج طبق آراءه خير تطبيق، بمعنى أنه يمكن أن يُقال باطمئنان أن مصر كانت تواجه موقفا اقتصاديا فى منتهى الصعوبة، فى جزء من الثمانينيات وعلى طول التسعينيات، ثم تكفَّلت حروب الإقليم وحرب الخليج ب«رد الروح» إلى الاقتصاد المصرى، لأنها ببساطة جلبت له أموالا جديدة هرعت إلى نجدتها لتقدر على تنفيذ سياساتها على الأرض التى ظهرت بعد ذلك المنحنى على النهر، وبعد جهاد «أفغانستان»!

وبعد ثورة «إيران»، وكل ما فى الحربين من تناقض بدت المنطقة كلها وكأنها فى حالة انفصام فى الشخصية: «شيزوفرينيا».

فى «أفغانستان» جهاد من أجل الإسلام، وفى «إيران» حرب ضد ثورة إسلامية.

والحرب فى «أفغانستان» ضد سلطة إسلامية سنية هى سلطة «طالبان» (التى كانت بدايتها فى الجهاد ضد الإلحاد)، لكن الحرب فى «إيران» حرب السنة ضد الشيعة.

والحرب فى «أفغانستان» كانت ضد منطق المحافظة المؤمنة فى «السنة».
وفى إيران كانت الحرب ضد الثورة فى بلد «الشيعة»!

وبصرف النظر عن المتناقضات، فإن التناقض دائما فرصة فيما تقول به دروس «ماكيافيللى».

والحقيقة أن هذه المتناقضات فى المنطقة أحدثت درجة من الحمى فى دوران عجلة ثروة النفط والذهب، وفى أسلحة المخابرات الدولية والجهاد ضد الإلحاد، وذلك وفَّر لمصر فيضان من المساعدات لا يشك أحد أنه أنقذ اقتصادها.

وبناء على أرقام صندوق النقد الدولى فإن مصر جاءتها فى ظروف حرب الخليج وما بعدها مساعدات وهبات بلغت قيمتها 100 مليار دولار، وهى على النحو التالى:
30 مليارا إعفاء ديون مستحقة على مصر لدول أجنبية.
25 مليار دولار من الكويت.
10 مليارات دولار من السعودية.
10 مليارات دولار من دولة الإمارات.
والباقى من مصادر متفرقة، وذلك بالإضافة إلى كثير من خدمات المخابرات والأمن والسلاح والتوريدات المقدمة إلى ما لا نهاية من الخدمات، وكله أعطى مصر صفحة اقتصادية جديدة مشجعة!

وهنا نقلة إلى اللحظة الراهنة أحكى فيها مشهدا مثيرا وقع لى فى باريس، فقد سألت أحد كبار الاقتصاديين المشهود لهم فى العالم عن الطريق الأمثل لحل المشكلة الاقتصادية المستعصية فى مصر، وأجابنى الرجل المشهود له عالميا:
هناك طريقان: أحدهما طويل وصعب، والآخر سريع وسهل.
طريق طويل الآن يقتضى إجراءات حازمة وحاسمة، لأن التفريط فى الثروة عندكم كان مذهلا فى السنوات الخمس عشرة الأخيرة.

وسكت الرجل وسألته باهتمام: وماذا عن الطريق السريع والسهل؟!
وكان رده وفى حضور واحد من أهم سفراء مصر فى العالم الخارجى قوله:
«الطريق السهل والسريع حرب إقليمية فى الشرق الأوسط حرب أخرى فى الشرق الأوسط تنقذ مصر على نحو ما سبق فى حرب الخليج!!».

◄ ويتحدث هيكل فى هذه الفقرة، عن تحول كبير فى توجهات مبارك، عندما وجد أطرافاً فى المنطقة تطلب تقوية دوره، فيقول هيكل:
والشاهد أن تلك اللحظة كانت نقطة تحول كبير فى توجهات «مبارك»، فقد وجد أطرافا تطلب تقوية دوره فى المنطقة وتوظيفه، بحيث يأخذ معه «وضع» مصر فى الإقليم كله إلى حيث يريد وكما يشاء، وكانت تلك البداية فى مطلب تأييد حكمه طول حياته، مسنودا بقوى دولية وإقليمية، وكان وحتى دون أن يقصد أحد تمهيدا منطقيا لورود فكرة التوريث على البال، فـ«مبارك» الآن يؤدى دورا، وهو يسحب مصر وراءه فى أدائه، ومن المهم أن يستمر ذلك، ولا شىء يحقق ضمان استمراره لأطول مدى إلا أن يكون الابن استمرارا للأب، أو على الأقل لتأكيد الاستمرار على نفس الطريق!

لكن المشكلة أن حل مشكلات مصر على طريقة «ماكيافيللى» لم ينجح، لسبب واضح وهو أن جماعات المصالح التى أحاطت بالأب، وزحفت مع الابن تحولت إلى سرب جراد أتى على ما جاءت به السياسة، متحررة من الأخلاق على طريقة «ماكيافيللى»، أى أن الوعاء الاقتصادى الذى امتلأ بالسيولة بعد حرب الخليج، جرى تفريغه بالنهب بعدها!فى الحلقة القادمة هنرى كيسنجر يضع 3 خطط لتأمين السياسات المصرية الجديدة المصالح تنهب الموارد علنًا وتقدم خدماتها للسياسة سرًا.
__________________
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 07-02-2012, 04:37 AM
الصورة الرمزية راغب السيد رويه
راغب السيد رويه راغب السيد رويه غير متواجد حالياً
معلم لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 9,278
معدل تقييم المستوى: 24
راغب السيد رويه is a jewel in the rough
افتراضي

اليوم السابع تقرأ فى الحلقة الحادية عشرة من كتاب "هيكل" بدار الشروق.. "مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان".. الأمن والتأمين.. والثروة والسلطة.. الخطة لها ثلاثة فروع.. وواضعها هو "هنرى كيسنجر"

الثلاثاء، 7 فبراير 2012 - 03:42
الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل

◄ كيف حُلت أزمة «طابا» بعد عناد إسرائيل فى قبول قرار التحكيم؟!
◄ من دفع التعويضات لأسر المصابين الإسرائيليين فى حادثة «سليمان خاطر»؟!
◄ فى آخر زيارة قام بها الرئيس «فرانسوا ميتران» لمصر كان سؤاله الوحيد: «لماذا شوَّهتم وجه النيل بهذه الصورة المعادية للحضارة وللحياة؟!!».
◄ لماذا اختار «مبارك» أن يجعل «شرم الشيخ» مقر إقامته الرئيسى؟!

يواصل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل رصد وتحليل مشوار حسنى مبارك من المنصة إلى الميدان.. ويتناول فى الحلقة الحادية عشرة من كتاباته خطة الأمن والتأمين، والثروة والسلطة.. ويقول:
منذ اللحظة الأولى بعد حرب أكتوبر أصبح «أمن النظام» و«أمن الرئيس» قضية أساسية وحيوية لضمان استمرار سياسات مستجدة طرأت على الظروف التى أحاطت بالأسبوع الثانى من حرب أكتوبر وتداعياتها.

وقد جرى طَرْحْ موضوع الأمن والتأمين للمرة الأولى أثناء اجتماع بين الرئيس «أنور السادات» وبين وزير الخارجية الأمريكى «هنرى كيسنجر» فى استراحة أسوان يوم 12 يناير 1974، وكان تقدير الرجلين معاً أن التحولات الكبرى فى مصر والسياسات المستجدة على إستراتيچيتها بعد حرب أكتوبر تقتضى إجراءات حماية واسعة للرئيس وللنظام، حتى تتمكن تلك التحولات وتترسخ!!

ويعرض الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل مداخل خطة التأمين والأمن التى وضعها هنرى كيسنجر، قائلاً:
كان المدخل إلى طرح موضوع الأمن والتأمين أن الرئيس «السادات» توصل إلى قناعات نهائية فى قراءته لشكل المستقبل فى مصر وهو مقتنع كل الاقتناع بموجباتها وقد طرح وجهة نظره فيها بطريقة قاطعة:

1 - إن المستقبل لأمريكا، وهو يريد أن تكون مصر فى هذا المستقبل مع أمريكا وليس مع غيرها.
2 - إنه ترتيبا على ذلك فإنه سوف يتخذ فى سياساته الدولية والعربية منهجا يختلف عما جرت عليه السياسة المصرية من قبل.
3 - ثم إنه وبمقتضى اختياراته بعد حرب أكتوبر على استعداد من الآن للتحرك نحو سياساته الجديدة وحده، دون انتظار بقية العالم العربى، ثم إنه سوف يصطف مع الولايات المتحدة فى مواجهة السوفييت.
4 - وهو بالتوازى مع ذلك يعتبر أن حرب أكتوبر 1973 ضد إسرائيل، هى آخر حروب مصر معها، وذلك سوف يجرى اعتماده وإعلانه تأكيدا نهائيا للسياسات الجديدة.
5 - وبالإضافة إلى ذلك، فإن تصوُّره للتطور الاجتماعى المصرى سوف يختلف عن تصورات سلفه، عن يقين لديه بأن متغيرات العالم تثبت أن المستقبل للرأسمالية.
ولأول وهلة تبدَّى ل«كيسنجر» أن تلك سياسات تتجاوز الحقائق الراهنة فى مصر، وربما تتصادم معها، وساوره الشك فى قدرة الرئيس «السادات» عليها.

ويحكى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل تفاصيل لقاء أسوان بين السادات وكيسنجر:
على أن «كيسنجر» استمع إلى ما أفضى به الرئيس «السادات» إليه فى أول لقاء بين الاثنين ظهر يوم 6 نوفمبر 1973 ثم سألنى حولها بطريق غير مباشر مساء نفس اليوم فى لقاء بيننا فى جناحه فى الدور الثانى عشر من فندق «هيلتون«، ولم أكن بأمانة على علم بما طرحه الرئيس من تصورات، لكن «كيسنجر» سألنى دون تفاصيل عن «درجة قوة الرئيس «السادات» داخليا، وما إذا كان فى مقدوره أن يطرح وينفذ فى مصر سياسات جديدة، واكتفيت بالقول إن «الرئيس قادر على الوفاء بما يعد به»، وآثرت حتى لا تتشابك الخطوط أن أنتقل فى الحديث معه إلى ما عداه من شئون الساعة، وكان حديثنا تلك الليلة موضوع مقال طويل نشرته فى الأهرام بتاريخ 16 نوفمبر 1973 تحت عنوان «مناقشة مع كيسنجر!!».

حمل «هنرى كيسنجر» معه إلى «واشنطن» ما سمعه من الرئيس «السادات» وهناك جرى بحثه، وعاد مرة أخرى إلى مصر يوم 12 يناير 1974، والتقى الرئيس «السادات» فى استراحة الرئاسة وراء خزان أسوان القديم.

ويكشف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عن موقف الرئيس الراحل أنور السادات من خطة الأمن.. ويقول:
كان الرئيس «السادات» مازال على موقفه، وكان «كيسنجر» جاهزا بخطة أمن رآها ضرورية للرجل المُقْبِل على مخاطر تحول أساسى فى اتجاه مصر، وللاستراتيجية الجديدة التى تحمل مسئولية سياساتها!!
وعرض «كيسنجر» فى هذا الاجتماع الثانى على الرئيس «السادات» خطة أمن وتأمين يتم تنفيذها على ثلاثة محاور:

1 الأمن الشخصى للرئيس، وهو يقتضى إعادة تنظيم حراسة أماكن إقامته فى أى مكان وأى وقت.
2 والأمن الإقليمى للدولة فى حركتها على الخطوط الإستراتيجية الجديدة، وهى تشمل عنصرين:
< أن يكون «البلد» THE COUNTRY تحت مظلة منظومة الدفاع الإقليمى الذى تشرف عليه القيادة المركزية الأمريكية المكلفة بالدفاع عن الشرق الأوسط.
< وأن تتواكب مع هذه المظلة العسكرية، مظلة أمنية هى شبكة المخابرات الكبرى فى المنطقة، التى تتلاقى فى إطارها جهود الوكالتين الرئيسيتين وهما:
وكالة المخابرات المركزية الأمريكية العاملة مع مجلس الأمن القومى فى البيت الأبيض.
ثم وكالة الأمن الوطنى العاملة فى إطاره وزارة الدفاع الأمريكية وهى وكالة N.S.A NATIONAL SECURITY AGENCY، وكذلك يكون الغطاء شاملا مدنيا وعسكريا عابرا للحدود بين الدول، نافذا إلى العمق داخل هذه الدول!!

3 وبعد الأمن الشخصى للرئيس والأمن الإقليمى للدولة يجىء الدور ثالثا فى خطة «كيسنجر» على الأمن الاجتماعى للنظام، وهو الآن يقتضى إعادة الهندسة الاجتماعية وخلق طبقات جديدة تسند التوجهات الجديدة بأسرع ما يمكن.

ويؤكد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أن الأمن الشخصى للسادات كان هاجس الرئيس الراحل الأول.. ويقول:
< كان الأمن الشخصى للرئيس هو البند الأول على القائمة، وقد اقترح «كيسنجر» أن تجىء إلى القاهرة مجموعة خاصة من الخبراء تقوم بمهمة متعددة الجوانب:
مباشرة نظام الحماية المخصص للرئيس على الفور.
وإعادة تدريب قوة الحراسة الرئاسية على أحدث وسائل وأساليب الحماية.
ثم وضع خطة دائمة لإجراءات وضمانات الأمن المطلوبة للرئيس.
وبالفعل فإن «هنرى كيسنجر» بعد سفره من أسوان بعشرة أيام بعث إلى وزير الخارجية السيد «إسماعيل فهمى» برقية شفرية لإبلاغه أن بعثة على مستوى فنى متقدم سوف تجىء إلى القاهرة لوضع خطة كاملة لتأمين الرئيس (ولم تكن هذه المسألة من اختصاص وزير الخارجية المصرى، لكنه وقد حضر جانبا من اجتماع أسوان الذى عُرض فيه الموضوع كان هو الطرف الذى آثر «كيسنجر» أن يوجِّه إليه الرد، وفى الحقيقة فإنه كان يجب أن يوجَّه إلى السيد «حافظ إسماعيل» (مستشار الأمن القومى والمسئول عن نظام العمل فى الرئاسة)، لكن «حافظ إسماعيل» لم يكن حاضرا ذلك الاجتماع فى أسوان.

ويكشف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عن إحدى الوثائق التى تحمل عنوان "سرى للغاية" من كسينجر إلى السادات تسلمها إسماعيل فهمى.. وفيها:
كان نص رسالة «كيسنجر» التى تسلَّمها «إسماعيل فهمى»:
وزارة الخارجية واشنطن
مكتب الوزير
سرى للغاية
28 يناير 1974
رسالة من وزير الخارجية «كيسنجر» إلى الرئيس «السادات» عبر وزير الخارجية «فهمى».
نص الرسالة:
بالنسبة للمشاورات التى دارت بيننا حين تناقشنا حول مسألة أمنكم الشخصى، فنحن على استعداد لإرسال فريق الخبراء التالى إلى القاهرة فورا:
«چورچ ك. كيثان» KEITHAN وهو خبير فى شئون الحماية الشخصية.
«بول لويس» PAUL LEWIS وهو خبير فى شئون مقاومة التنصت.
«هيو وارد» HUGH WARD وهو متخصص فى تدريب المسئولين عن الحماية الشخصية.

وإلى جانب ذلك فإن خبيراً فى الأمن المباشر وفى كشف المتفجرات سوف يلحق بالفريق بعد أيام قليلة، بالإضافة إلى ذلك فنحن نقترح أن نرسل فريقا آخر برئاسة المستر «آلان د. وولف» ALAN D. WOLF، وهو متخصص فى شئون المخابرات، وإذا وافق الرئيس «السادات» فإننا نريد إلحاقه ببعثة رعاية المصالح الأمريكية فى القاهرة، والغرض من قدومه هذه المرة هو أن يُتاح لخبرائكم فى الأمن الفرصة للقائه ومناقشة مقترحاته للتأكد من قبولكم لها.

إننا ننوى إرسال هذا الفريق بسرعة إلى القاهرة وفى موعد لا يتجاوز 2 فبراير، وإذا رأيتم موعدا أنسب فإننا بالطبع على استعداد للتلاؤم مع رغباتكم.
هنرى كيسنجر

ويحلل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل خطط الأمن قائلاً:
تقاطرت على مصر وفود من خبراء الأمن، وظل بعضها فى مصر لمدة سنتين، تم أثناءها وضع الخطط اللازمة لهذا الجزء من خطة الأمن وهو المتعلق بالحماية الشخصية للرئيس، والإشراف على تطبيقها عمليا، ثم وضع ترتيبات دائمة لأمن الرئيس.

وكانت خطة الأمن الخاص أوسع من مجرد تشديد الحراسة حول الرئيس حيث يكون أو حين يتحرك، فقد كان بين بنودها إجراءات تواجه احتمالات مفاجآت غير متوقعة، ثم قائمة إجراءات تحقق مطالب الأمن المحتملة فى حياة كل يوم، وبدت بعض الإجراءات مشددة، وأوسع مجالا من المتعارف عليه:

منها مثلا حرس خاص، وسلاح مختلف، وتدريب أعلى، وقيودا وحدودا تطبق فى أى مكان يتواجد فيه الرئيس، مع ضرورة تأمين أى موقع يحل فيه قبل دخوله إليه بست وثلاثين ساعة على الأقل!!

ومنها مثلا أن يتنقل الرئيس كلما استطاع بعيدا عن شوارع القاهرة، مع تفضيل الهليوكوبتر وسيلة للانتقال شرط حركتها من ممرات دائرية تتفادى المناطق المزدحمة بالعمران والمبانى العالية التى لا ينكشف حولها ما يدور على سطحها، أو تلك المنخفضة التى تتكدس فيها المخلفات وتوفر إمكانية الكمون والتربص وسطها.

ومنها مثلا أن تتعدد أماكن إقامة الرئيس فى أكثر من مكان، وبحيث لا يستطيع أحد أن يخطط لشىء أثناء وجوده لمدة معلومة فى مكان معين.

ومنها مثلا أن يكون معظم تواجده فى مناطق تسهل السيطرة عليها، كما يسهل عزلها عما حولها، كما تتنوع إمكانيات الخروج السريع منها فى حالات الطوارئ، كأن تكون بها مساحات صالحة لاستعمال الهليوكوبتر أو مجارى مياه لاستعمال القوارب، إلى جانب الطرق المفتوحة للسيارات.

ومنها مثلا أن تكون هناك مواقع تمركز جاهزة لتسكين مجموعات من سرايا القوات الخاصة من الحرس الجمهورى تتحرك مع الرئيس حيثما ذهب.

ومنها مثلا أن ترصد حوافز ومكافآت خاصة لقوات البوليس التى تصطف على طرق المواكب، إذا ما اضطر الرئيس لسبب من الأسباب أن يتحرك وسط «مدن»، وأن تتميز هذه المكافآت عن غيرها بأن توضع فى أظرف خاصة عليها شعار رئاسة الجمهورية، تذكِّر من يتسلمها ولو بالإيحاء أنها من «ولى النِعَم»!!

ويقفز الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عشر سنوات من تاريخ خطة تأمين السادات، وصولاً إلى اغتيال السادات وتولى مبارك مقاليد حكم مصر، وملامح خطة مبارك لتأمينه.. يقول هيكل:
ومرت قُرابة عشر سنوات، وتوالت أحداث، وطرأت متغيرات، ولكن المقادير ضربت ضربتها يوم 6 أكتوبر 1981، ووقع اغتيال الرئيس «السادات» على منصة العرض العسكرى، وبواسطة ضابط فى القوات المسلحة، بيده مدفع رشاش من صنع روسى، وفى جيبه مسدس من صنع أمريكى!!

وخطا «حسنى مبارك» من المنصة إلى القصر الجمهورى، وكان أول اجتماع حضره بعد توليه مسئولية الرئاسة اجتماع لمسئولى الأمن والتأمين بدأه بأن «إجراءات الأمن والتأمين التى اتخذت لحماية سلفه لم تثبت كفاءتها، بدليل نجاح خطة الاغتيال التى كان هو شاهدا عليها، وأفلت بمعجزة أن يكون إحدى ضحاياها!!».

وفى اجتماعات توالت بعد ذلك مخصصة لبحث أمن وتأمين شخص الرئيس، تولى «مبارك» بنفسه وبتجربته الخاصة إضافة إجراءات أوسع وأبعد:
منها مثلا إغلاق المجال الجوى وقت تحليق طائرة الرئيس فيها، وعلى طول الطريق الذى تسلكه.

ومنها مثلا إغلاق الشوارع من الجانبين أثناء مرور أى موكب رئاسى، (وكانت الرغبة فى تسهيل المرور خصوصا على طريق مطار القاهرة تدعو مرات إلى إغلاق الطريق من الجانب الذى يتحرك الموكب عليه، وحدث مرة من المرات أن «مبارك» لاحظ وهو فى طريقه إلى مطار «ألماظة» أن الناحية الأخرى مفتوحة للمرور، وعندما وصل إلى «ألماظة» طلب التحقيق بنفسه مع المسئول، ودعى قائد المرور فى المنطقة إلى المثول أمام الرئيس، وعندما أبدى الرجل عذره بأنه فتح الجانب الآخر من الطريق بناء على طلب مُلِحْ من مسئولى مطار القاهرة، لأن عدة طائرات محملة بالسياح على وشك الإقلاع، بينما ركابها متأخرون بسبب موكب الرئيس ثار «مبارك» على مدير المرور وقائد قوة الاصطفاف عليه، وعندما سمع عبارة تأمين وصول سياح إلى المطار، زاد غضبه قائلا: «ما هو الأهم: تأمين السياح أو تأمين الرئيس؟!» مضيفا «أنه ليس هناك هدف فى الدولة المصرية أكثر أهمية من تأمين الرئيس»).

ومنها مثلا تعليمات دائمة بأنه لا يريد أن يرى على أى طريق يمر فيه بابا مغلقا، لا يبين ما وراءه، وأن أى باب مغلق لابد أن يُفتح ولو كسرا، وتفتيش ما وراءه، وأن توضع أمامه حراسة مضافة إلى حراسة الاصطفاف على الطريق.

ويحلل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أسباب اختيار مبارك لمدينة شرم الشيخ كأحد وسائل خطة التأمين.. ويقول:
مثلا أن تكون «شرم الشيخ» مقر إقامته الأساسى، وكان ذلك رأى الخبراء الأمريكيين أيضاً، لأن «شرم الشيخ» توفر مزايا أمنية مثالية، فهى منطقة محددة عند الطرف الجنوبى من شبه جزيرة سيناء، وأجواؤها مكشوفة من كل اتجاه، وهى على بُعد دقائق بالقارب من السعودية، وعلى بُعد أقل من ثلث ساعة عن الأردن وإسرائيل، ثم إن موقعها مجاور لمواقع قوة المراقبة الدولية فى سيناء (وهى فى الواقع أمريكية، ولديها من الوسائل ما يجعلها تلتقط دبيب النمل على رمل الصحراء!!).

وحين كان الرئيس «مبارك» يسافر من «القاهرة» إلى «شرم الشيخ» أو غيرها، فإن عشرة جهات على الأقل كانت تُخطر بمسئوليتها فى حماية سفره، وفيها الحرس الجمهورى بالطبع والأمن الخاص لرئاسة الجمهورية والدفاع الجوى ووزارة الداخلية ووزارة الطيران المدنى والمخابرات العامة وغيرها.

وكانت كل جهة من هذه الجهات تتخذ ما ترى من إجراءات التأمين المباشرة والخاصة بها، ثم لا يعرف أحد فى النهاية أى طريق سوف يتخذه الرئيس، إلا قبل أن يخرج من بيته فعلا!!

وكثيرا ما حدث اصطفاف كثيف على طرق ممتدة، باعتبار أن الرئيس «مبارك» سوف يسافر بالسيارة، ثم تظهر الهليوكوبتر فجأة تنقله من داخل بيته إلى المطار، وتنتهى مهمة طوابير الاصطفاف وتكون قد انتظرته على الطرق عشر ساعات، وأحيانا أكثر!!

ويعرض الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل لهواجس التأمين لدى مبارك قائلا:
وصل هاجس الأمن والتأمين بالرئيس «مبارك» وبحاشيته إلى درجة عبثية.
كانت أجهزة الأمن فى الدولة قد توسعَّت إلى أبعد من أى حد سبق فى مصر بسبب ما جرى بثورة التكنولوچيا، وكذلك قفزت برامج الأمن والتأمين فى مجال الرقابة إلى حد غير مسبوق، لأن البعض كان يريد أن يتأكد بنفسه ويطمئن، خصوصا بالتسمُّع على أطراف مشكوك فى نواياهم.

وكانت البداية هى الطلب من جهاز أمن الدولة تخصيص نسبة معينة لمراقبات مرغوب فيها من الرئاسة، سواء كانت داخلة فى قائمة أمن الدولة أو لم تكن. وكانت القوائم مستفيضة، لأن الطالبين كثر، وكان الجزء الأكبر من طلبات المراقبة فى القوائم الخاصة من مكتب «إرث الرئاسة«، وكثيرا ما وصلت تسجيلاتها إلى لجنة السياسات فى الحزب الوطنى، وكثيرا ما تسرَّب بعضها ملونا أو مشوها إلى بعض الصحف والمجلات.

ثم وقع تطور أهم، وذلك أن «أحدهم» عاد من لندن ذات مرة ومعه جهاز جديد للتنصت على التليفونات، موجود فى محال متخصصة لبيع «أجهزة التأمين»، لكن شراءها يقتضى «شهادة من جهة رسمية تأذن باستعماله»، وذلك شرط بيعه وتسليمه.

وفى القاهرة جرت تجربة «الجهاز«، واستطاع «الراغبون» أن يدخلوا على أى خط يريدون التسمع عليه فى أى وقت، ثم ما لبث أمر هذا الجهاز أن أصبح «موضة» عند مستوى معين من أصحاب السلطة، وكذلك وطبقا لتقدير خبير نافذ فى وزارة الداخلية، شغل بعض أهم مناصبها فى ذلك الزمن، فقد وقع:

أن الحصة التى كانت تُخصص من مراقبات أمن الدولة للطلبات الخاصة وصلت فى وقت من الأوقات إلى 7% من حجم المراقبات.

أن عدد أجهزة الرقابة على التليفونات الموضوعة تحت تصرف أفراد بعينهم، ومما جرى شراؤه من لندن، وصل حسب علمه إلى 11 جهازا محمولا، والمدهش أن بعضه كان يُستخدم لأغراض شخصية، أو بهدف التسلية، والنميمة الاجتماعية.

ولم يكن هناك حد ولا رادع لأية «معلومات» عامة أو خاصة قد تكون لها فائدة فى أمن أو تأمين أحد دون حساب التكاليف!!
حتى «شرم الشيخ» نزل وأقام فيها أكثر من جهاز تسمُّع خاص!!

ويستطرد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، طارحا أسئلة تتعلق بتكاليف وأسباب إقامة مبارك فى شرم الشيخ.. ويقول:
ولم يتصور أحد أو يخطر بباله مثلا أن يحسب تكاليف وجود رئيس الدولة فى «شرم الشيخ»، وحوله موظفى ديوانه، وحرسه، ومكاتب للاتصال مع الدولة، وزوارا قادمين وذاهبين، ومسئولين لديهم ما يعرضونه أو يسألون فيه، وسفر الجميع إلى شرم الشيخ «مهمة» لها تكاليفها من مواصلات وإقامة وبدل سفر، ذلك غير مصروفات تتحمل بها جهات أخرى فى الدولة، وكانت تقديرات الخبراء تحسب أعباء إقامة الرئيس فى «شرم الشيخ» بما مقداره مليون جنيه بالزيادة يوميا عن المصروفات العادية للرئاسة!! (كما أن تكاليف كل يوم سفر للرئيس خارج البلاد كانت تصل وتزيد أحيانا عن مليون دولار يوميا!!).

وعندما سُئل الرئيس «مبارك» يوما عن سبب إقامته شبه الدائمة فى «شرم الشيخ»، كان رده (وقد تكرر نشره على لسانه) «أن وجوده فى شرم الشيخ يشجع السياحة إليها، وذلك مفيد للاقتصاد المصرى!!».

لكن الحقيقة كانت «أمنية» متصلة بالبند الأول من خطة التأمين التى وضع تصميمها الأصلى «هنرى كيسنجر».

ويعرض الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل البند الثانى من خطة تأمين مبارك:
كان البند الثانى فى خطة الأمن والتأمين ربط «أمن النظام» بمؤسسات الأمن والتأمين الإقليمية للولايات المتحدة الأمريكية، والتى تضم شبكة القيادة المركزية الأمريكية فى الشرق الأوسط ووكالات المخابرات السياسية C.I.A، ووكالة الأمن الوطنى التابعة لوزارة الدفاع الأمريكى N.S.A.

وربما كان الأنسب هنا ألا أقول فى تفاصيل هذه القضية الشائكة شيئا من عندى، وإنما أنقل عن كتاب «بوب وودوارد» الصحفى الأمريكى الأشهر فى مجال الاستقصاء، والمعروف بدقة مصادره أنها على أرفع مستوى بين صُنَّاع القرار الأمريكى، فقد تعرَّض «وودوارد» فى كتابه لمسألة أمن وتأمين النظام من البداية، أى منذ اتفاق «كيسنجر» مع الرئيس «أنور السادات»، ففى صفحة 312 313 من كتابه THE VEIL (أى البرقع أو الحجاب) ذكر «بوب وودوارد» تفاصيل كثيرة تثير الانزعاج، ولذلك أكتفى فى الحديث عنها بمجرد لمحات تغنى عن التفاصيل، ففى نصوص ما قاله «بوب وودوارد» مثلا:

«لقد أوضحت عملية الدعم الأمنى والمخابراتى للرئيس الراحل «أنور السادات» ميزات وعيوب هذه النوعية من العلاقات السرية. لقد وصل «السادات» إلى الحكم عام 1970، وبعدها بعامين أطاح بالروس خارج مصر، وبعد سنتين أعدت الC.I.A واحدا من أقوى برامجها للحماية الشخصية والمساعدة الاستخباراتية. فى المقام الأول أرادت الولايات المتحدة أولا أن يبقى «السادات» على قيد الحياة، وثانيا أرادت تحصيل أكبر ما يمكن للمعلومات عن «السادات»، وعن سياسات ومناورات القصر، وكان هناك طوفان من تلك المعلومات وبعضه غير ذى قيمة، ولكن كانت هناك حالة انتعاش فى الC.I.A بالحصول على مصادر موثوقة، وعمل جداول لنزوات وطموحات وسياسات العشرات من الوزراء ونواب الوزراء.

لم يكن هناك تقييم كافٍ لما تحصل عليه المخابرات، فقد غلب الكم على الكيف، بتدفق هذا الكم الغزير من المعلومات، وتحول العمل السرى للمخابرات إلى إدمان، وفى أوقات معينة بدا أن الأمر يستحيل تقييمه ويصعب تصنيفه، وكلما زادت المعلومات التى تعرفها الC.I.A كلما قل ما يمكن الاستفادة به منها، لقد استخدم قادة مثل «السادات» هذه العمليات المخابراتية باعتبارها مرتكزا ومتكأ، يؤمِّن لهم بابا خلفيا لحكومة الولايات المتحدة، وهى طريقة للالتفاف حول القنوات الدبلوماسية المعتادة، وطلب معلومات خاصة من ال C.I.A وخدمات مختلفة، أو حتى اعتمادات مالية.


وأما بالنسبة لزمن «مبارك«، فإن «بوب وودوارد» أفاض فى التفاصيل بالتحديد ابتداء من صفحة 168 من نفس الكتاب وأكتفى منه لأسباب عديدة بمجرد إشارة يقول فيها «وودوارد»:

«فى يوم 6 أكتوبر تلقى «كايسى» CASEY («ويليام كايسى» رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية) تقريرا عاجلا بأن الرئيس المصرى السادات تعرَّض لإطلاق النار أثناء مشاهدته العرض العسكرى، وعلى مدى ثلاث ساعات كررت التقارير الصادرة من محطة وكالة المخابرات المركزية فى القاهرة الخط الرسمى للحكومة المصرية بأن إصابة «السادات» ليست خطيرة، على الرغم من أن التليفزيون الأمريكى كان يبث تقارير تقول إن الرئيس المصرى قد مات.

وبعد قُرابة ثلاث ساعات من التقرير الأول ليوم 6 أكتوبر أكدت محطة القاهرة أن «السادات» قد قُتِل، وأنه قد توفى على الفور بعد إصابته بعدة طلقات.

شعر «كايسى» CASEY بالخزى، فى حين أمضى «ريجان» REAGAN النهار فى المكتب البيضاوى يتلقى تطمينات بأن تقارير التليفزيون خاطئة. كان «كايسى» و«إينمان» INMAN قلقين من أن يتقدم الرئيس الجديد «حسنى مبارك» باحتجاج عنيف وربما انفعالى، لأن الC.I.A التى قامت بتدريب الحرس الشخصى ل«السادات» قد فشلت فى تحذيرهم، إلا أن أيا من هذا لم يحدث، ولا حتى شكوى رقيقة.

لقد اتضح أن منفذى الاغتيال كانوا جزءا من مجموعة إسلامية أصولية فى مصر، لقد أولت الC.I.A اهتماما كبيرا بالتنصت واختراق حكومة «السادات»، وتحذير «السادات» من الأخطار الخارجية إلى درجة أنها تجاهلت القوى الداخلية فى مصر، لقد بدا الأمر قريبا لدرجة الخطر من كونه إعادة لكارثة إيران، وانتاب «كايسى» الغضب الشديد، لقد احتاجت الC.I.A قنوات مستقلة أوسع وأكثر للمعلومات فى مصر، وأراد «كايسى» المزيد، سواء من المصادر البشرية أو ما يتم جمعه إلكترونيا، وعلى أعلى مستوى فى الحكومة الجديدة، وكانت أوامر «كايسى»: «أخرج بعض الناس فى الشارع اللعين للتحقق عما إذا كان أحد سيطلق الرصاص على (مبارك)»!!

ويسهب الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى شرح البند الثالث لخطة التأمين، قائلاً:
كان البند الثالث فى خطة الأمن والتأمين اجتماعيا واقتصاديا، وكذلك فكريا وثقافيا.

والحقيقة أن الظروف كانت تفتح الأبواب واسعة لهذا البند، ذلك أنه على الطريق إلى أكتوبر وكذلك بعد المعركة بدا واضحا أن هناك مستجدات وضرورات لابد على نحو ما من التوافق معها، وكانت هذه المستجدات علمية واقتصادية واجتماعية هبت رياحها على مصر، وتوافقت معها فوائض ثروات من قفزة أسعار البترول أشاعت جوا من التوقعات تفاعلت بين المستجدات والتطلعات، ونشأ بالتالى مناخ مستعد ومهيأ لكل شىء وأى شىء، ولأن الظروف تستدعى الرجال، فقد كانت تلك هى اللحظة التى ظهر فيها رجال مثل المهندس «عثمان أحمد عثمان» بالقُرب من الرئيس «السادات»، مبشرين بالمنطق «العملى» و«الواقعى» دون «أحلام أو خيالات»!

وليس مصادفة أن تلك الأوضاع تأكيدا ولو على المدى القصير لتصورات «هنرى كيسنجر» وخطته فى بند الأمن والتأمين الاجتماعى والفكرى والثقافى، وأتذكر أننى سمعت بنفسى كلام «هنرى كيسنجر» فى هذه النقطة بالذات، وكان مجمل حديثه وقد أطال النظر هو وغيره من القائمين على مراكز القرار الأمريكى فيما يقوله الرئيس «السادات» «أن الظروف المستجدة على استراتيجية مصر بالفعل تفتح المجال لظهور طبقة أو جماعات اجتماعية تؤيد السياسات الجديدة وتسندها، ورأى الجميع أن تلك عملية ممكنة ومقبولة، لأن مصر تواجه حالة فراغ طبقى، فقد قام «ناصر» («جمال عبد الناصر») بتصفية الملكيات الكبيرة للأرض، وبتأميم كثير من شركات التجارة والخارجية والبنوك، وبطرد القائمين على شركات التجارة الخارجية والبنوك والتوكيلات التجارية، وكلهم من الأجانب وترتب على ذلك أن الطبقة العُليا فى المجتمع المصرى فقدت قاعدتها، وفى نفس الوقت فإن الطبقات الوسطى والفقيرة التى قصد إليها «جمال عبد الناصر» بإجراءاته، لم تتمكن بعد من صنع قاعدتها، رغم وجود قطاع عام واسع فيه جماعات من أصحاب الكفاءة، لكن رباطهم بعملهم وظيفى (بيروقراطى) لا يصنع طبقة سياسية، لأن الطبقات تصنعها الملكية».

وبناء عليه فى تقدير «كيسنجر» وآخرين فى واشنطن فإن المجتمع المصرى يواجه الآن «مشكلة فراغ يمكن ملؤه بطبقة جديدة تدخل إلى البنيان الاجتماعى المصرى».

ما بين الصحيح والمبالغ فيه والمصطنع يسرد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل دور القطاع الخاص وبداية الخصخصة فى مصر.. ويقول:
كان دور القطاع الخاص قد برز وازداد بروزا لأسباب بعضها صحيح، وبعضها مُبالغ فيه، وبعضها مصطنع.

< كان الصحيح هو أن العالم راح يتجه أكثر إلى إفساح المجال للقطاع الخاص، بهدف توسيع مجال التنمية، بمعنى أن القطاع الخاص يقدر بحيوية كامنة، وبحوافز المبادرة الفردية على زيادة طاقة الإنتاج، بل ومضاعفتها، ويخلق منافسة صحية بين قطاع عام قد تعوقه البيروقراطية، وقطاع خاص قد يملك مرونة إيقاع يساعد على دورة نشيطة لرأس المال.

< وأما المُبالغ فيه فهو نسيان أن القطاع الخاص بالقيمة الحقيقية له يحتاج إلى وقت لنضوج رأسمالية واعية بالتزامها الاجتماعى، دون عدوان بالفساد تتجاوز به حدود المشروع إلى ما بعده، لأن نجاح العملية الرأسمالية له شروط:

أن تدخل الرأسمالية إلى السوق بمشروعات موصولة بخريطة الاقتصاد الوطنى واحتياجاتها.
أن تدخل الرأسمالية ومعها رأسمالها، بحيث يكون اعتمادها على النظام البنكى فى حدود معقولة مما هو متعارف عليه عالميا!
وأن تكون قادرة على تحمل مخاطر الربح، باعتبار أن هذه المخاطر هى مشروعية الربح.
< وأما المصطنع فأوله الاستيلاء على القطاع العام، وبالتخصيص وحداته الرابحة.
وأن تفعل ذلك بالاعتماد على قطاع البنوك العامة وتسهيلاته دون مخاطرة بأموالها.
وأن تلجأ إلى الدولة لحمايتها من مخاطر كان لابد أن تكون فى حسابها.
وفى الواقع فإن تلك الشروط باستثناءات معدودة جرى تجاهلها، خصوصا مع أول موجة تقدمت تحت مُسمَّى القطاع الخاص بعد حرب أكتوبر.

ويضيف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل:
وعلى أرض الواقع فإنه عندما بدأ حديث «الخصخصة» أوائل سنة 1974 ثارت قطاعات كبيرة من الرأى العام تبدى قلقها مما حسبته غارات على مدَّخراتها، وكذلك اكتشف الطالبون وقتها أن الاقتراب من الشركات الآن صعب، وأولى الصعوبات أن النقابات العمالية أثبتت أنها قادرة على حركة مؤثرة، ساعد عليها أن حرب أكتوبر وتضحياتها مازالت فى الأذهان وحدث تراجع جزئى للغارات المتعجلة.

وتوقفت عمليات الخصخصة مؤقتا لكن الاهتمام تركَّز على التوكيلات الأجنبية، فهى جانب مهم من النشاط المالى يقع بعيدا عن المصانع والمنشآت الكبرى المرئية رأى العين، ثم هى الجزء الرابح أكيدا من القطاع العام، فهذه التوكيلات تهيمن على معظم ما تستورده مصر، وهو فى حدود 12 مليار دولار سنويا ذلك الوقت، ونسبة الربح فيه ما بين 10 و14 فى المائة سنويا، أى أن هامش الربح يقارب 2 مليار دولار سنويا، وكانت هذه التوكيلات بالكامل ملكا للأجانب قبل معركة السويس سنة 1956 قد وقع تمصيرها، وفى ذلك الوقت اختار «جمال عبدالناصر» أن يكون استردادها «وطنيا» عن طريق «التأميم» وليس «التمصير»، وتفكيره ذلك الوقت أن «التمصير» ينقل هذا القطاع من ملكية الأجانب إلى ملكية القادرين على الشراء من المصريين ومعنى ذلك فى نهاية المطاف أن يزداد الأغنياء غنى، دون أن يحصل الفقراء على نصيب، والآن وبعد أقل من عشرين سنة (من سنة 1956 1974) كانت العجلة تدور دورة شبه كاملة، والتوكيلات تطرح للتوزيع على من يقع عليهم الاختيار، وممن يطمئن النظام إلى قُربهم من سياساته الجديدة، خصوصا فى السلام مع إسرائيل، والعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وفى هذا الوقت أوائل 75 وقع توزيع ما يقارب ألفى توكيلا، وبجرة قلم أصبح فى مصر ألفين من أصحاب الملايين الجُدد، وكانت تلك عملية هندسة طبقية أحدثت خللا مفاجئا فى توازن الدخول، لا تبرره الأوضاع الاجتماعية فى مصر، لكنه فى المحصلة أعطى للسياسات الجديدة سندا اجتماعيا قادرا على التأثير وسط الساحة السياسية.

وكان ذلك إجراء مؤقتا حتى جاءت الخطوة التالية فى عصر «مبارك»، وبدأ التصرف فى القطاع العام، وبخصخصة أنجح وأكبر الشركات وأكثرها ملاءة وربحية، ثم تدفق الطوفان بتسييل أراضى الدولة، ثم تطويق قطاعات مهمة بمصالح مالية ذات طبائع عنكبوتية، تنقض على مواقع محددة مثل البترول والغاز، وخدمات الطيران، ومراكز الإعلام (1).

وفى هذا المناخ نشأت علاقة غرام بين السلطة والمصالح التى تفتَّحت شهيتها أكثر على أبعد مما كانت تحلم به.

والشاهد أن العمل الحثيث فى خدمة مشروع التوريث كان نوعا من الأمل فى تحويل العلاقة بين المصالح والسلطة، من مجرد عهد «غرام» إلى عقد زواج، يؤكد الرغبة بين الطرفين فى عيش مشترك له كل مقومات وضمانات التقنين لحياة متواصلة فى بيت واحد.

وفى كل العصور فإن العيش المشترك لا تضمنه غير مصالح متكافئة ومتبادلة، ومسئولية واقعة على كل طرف من الطرفين.

وحتى تلك اللحظة فإن السلطة كانت هى الطرف الذى يمنح ويعطى، وكانت المصالح هى التى تتلقى وتأخذ، والآن فإن المصالح كان عليها أن تثبت قدرتها وتؤكد فائدتها.

وهكذا راحت المصالح تتحين الفرص، ولعلها خشيت إذا بقيت العلاقة دون نوع من تبادل العطايا والهدايا، كما جرى فى مسألة التوكيلات الأجنبية، فإنها قد تصبح رهينة لنزوات هذه السلطة، وأما إذا تجاسرت وتشجعت فإنها تستطيع أن تجعل من نفسها نظيرا شرعيا أو على الأقل موازيا لقوة السلطة!

ويرى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أن قضية عودة طابا إلى مصر كان لها دور كبير فى حياة مبارك من المنصة إلى الميدان:
وفجأة لاحت فرصة لهدايا وعطايا تقدمها المصالح إلى السلطة، ولسوء الحظ فإن كثيرين لم يتنبهوا إلى ما قيل بالهمس وما جرى فى الخفاء.

وهنا فإن قضية «طابا» تستحق الوقوف بعناية وتنبُّه أمامها.
كانت إسرائيل طوال المحادثات التى أجراها «هنرى كيسنجر» حول فك الاشتباك، قد أرست مبدأ يمكن اعتباره «فخا سياسيا» لم يكن هناك مبرر للوقوع فى حفرته، وذلك هو مبدأ الفصل بين «السيادة» وبين «الأمن».

وتفسيره كما جرى اعتماده يعنى أن مصر تستطيع أن تعود إلى ممارسة حقوقها فى السيادة على «سيناء»، لكن هناك ترتيبات للأمن أمن إسرائيل بالطبع يتحتم إجراؤها على الأرض دون إخلال (كما يقولون) «بحق السيادة لمصر»!

وكانت فكرة وضع قوات دولية للرقابة فى «سيناء» غير تابعة للأمم المتحدة، وإنما أمريكية فى تكوينها، وفى قيادتها نوعا من هذا الفصل بين «السيادة» وبين «الأمن»، وجرى التوسع فى هذا المبدأ، فلم تعد مقتضيات الأمن تفرض مجرد الفصل بين القوات، وإنما وصل الحال إلى قوة دولية (أمريكية فى الحقيقة والواقع)، لها داوريات تفتيش، ونقط تسمع وترصد وتتدخل وتطلب، وبالتوازى مع ذلك جرى تقسيم «سيناء» إلى مناطق، تتفاوت فيها درجات وجود قوات مصرية وسلاح مصرى على الأرض المصرية، ثم يقع ترتيب درجات التواجد العسكرى المصرى بالنقصان كلما زاد القُرب من خط الحدود الدولية، فإذا ما بلغته إذا القوة المصرية المسموح بها هى 750 فردا من حرس الحدود، وليس معهم من السلاح غير ما تمسك به أيديهم، وذلك على اتساع منطقة تكاد مساحتها أن توازى نصف مساحة إسرائيل كلها!

وكان الخندق الأخير فى مسألة الانسحاب الإسرائيلى من «سيناء» هو موقع «طابا»، وعندما رفضت إسرائيل أن تنسحب، فإن الحكومة المصرية وطبقا لمشروطية «كامب داڤيد» لجأت إلى التحكيم الدولى، وخاض عدد من الدبلوماسيين والمؤرخين والخبراء معركة طويلة وشاقة حتى جاء التحكيم لصالح مصر.

لكن إسرائيل ظلت متمسكة بالرفض، ثم أمكن حل الأزمة والوصول فيها إلى حل وسط بأسلوب بدا غامضا، حتى تكفلت مذكرات «جورج شولتز» (وزير الخارجية الأمريكية وقتها وفى رئاسة «رونالد ريجان») بكشف اللغز الذى احتار فيه الكثيرون، فقد قدم «شولتز» فى هذا الصدد خبرا صريحا حاول إخفاؤه فى هامش على صفحة 477 من مذكراته، وكان نصه:

أن إسرائيل كانت ترفض تسليم «طابا» إلى مصر مهما كانت الأسباب، وهدفها إقرار مبدأ أن قرار مجلس الأمن 242 لا يفرض انسحابها من كل الأراضى، لكن المستشار القانونى لوزارة الخارجية الأمريكية «إبراهام صوفير» توصل إلى حل يعطى مصر «حق السيادة»، ويعطى إسرائيل «حق الانتفاع»!!

وكذلك جاء الحل فخا آخر منصوبا وبنفس دعوى الفصل بين «السيادة» وبين «الأمن»، وبمقتضاه ظهرت مجموعة من رجال الأعمال المصريين ورجال الأعمال الإسرائيليين ينشئون شركة سياحة دولية تدير الفندق الكبير فى «طابا» (وهو يشغل كل شاطئها)، والاكتتاب فى رأس المال مفتوح للمساهمين على الناحيتين بحرية السوق، ثم جرى إسناد إدارة الفندق إلى شركة «هيلتون» العالمية تديره لمدة خمسة عشر عاما، وبدورها فإن «هيلتون» العالمية شكَّلت مجلس إدارة مشترك يضم مصريين وإسرائيليين، على أن يكون هناك مدير مصرى ومدير إسرائيلى، وعلى أن تكون العملة المتداولة فيه لتسوية الحسابات، هى: الجنيه المصرى والشيكل الإسرائيلى.

أى أن فندق «طابا» وهو معظم مساحة «طابا» أصبح إدارة مصرية إسرائيلية، والعلم المصرى يرفرف على الفندق إعلانا للسيادة، والشراكة الإسرائيلية فى داخله ضمان للأمن المنفصل عن السيادة.

والمدهش أن السياسيين والدبلوماسيين الذين عملوا على صدور قرار التحكيم الدولى لصالح مصر، لم تكن لدى أيهم فكرة عما وقع من ترتيبات على الأرض، لأن المسألة انتقلت من وزارة إلى وزارة، خرجت من وزارة الخارجية كقضية وانتقلت إلى وزارة السياحة، كشركة وفندق وشاطئ، ولم يتوقف أحد عند التفاصيل، وكان الشيطان موجودا فى التفاصيل على حد التعبير المأثور فى دراسة النصوص!

ولاحت فرصة أخرى ومرة ثانية دار الكلام همسا ووقعت الحركة خفاء! وإذا المصالح تقدم خدمة أخرى مفيدة للقرار السياسى المصرى.
فقد وقعت فى إطار نفس التوقيت أواخر الثمانينيات حادثة «سليمان خاطر»، وهو مجند مصرى، كان يؤدى الخدمة ضمن وحدة عسكرية مصرية فى «سيناء».

وقصة «سليمان خاطر» معروفة فى حد ذاتها، ملخصها أن هذا المجند المصرى وجد أمامه مجموعة من السياح الإسرائيليين يدخلون وفقا لترتيبات معاهدة السلام دون جوازات أو تأشيرات وإنما بمجرد بطاقة الهوية الشخصية (الفصل بين السيادة والأمن أيضا)، ويبدو أن الشاب وهو يراهم يقتربون من موقعه، صاح يحذرهم، لكنهم واصلوا الاقتراب، وفَقَدَ الشاب المجنَّد أعصابه، وإذا هو يطلق النار، يقتل واحدا ويصيب ستة من الإسرائيليين!

وبرغم محاكمة «سليمان خاطر»، والحكم بالسجن المشدد عليه (تم العثور عليه بعد شهور ميتا فى زنزانة سجنه) فإن الحكومة الإسرائيلية صممت على أن تدفع مصر تعويضات مقدارها مليون ونصف مليون دولار، بحساب: مليون دولار لأسرة القتيل، ومائة ألف دولار لكل جريح، رغم أن جروح بعضهم خدوش! وكان ذلك مُحرِجًا للحكومة المصرية أمام رأى عام مصرى وعربى يعرف بالعلم العام أن إسرائيل قتلت مواطنين مصريين حتى بعد معاهدة السلام، دون أن يكلفها أو يطالبها أحد فى مصر بطلب تعويضات!
والآن كانت إسرائيل هى التى تصر.
والحكومة المصرية تشعر بالحرج.

وفجأة هدأ الموضوع، ولم يعد يتكلم فيه أحد، وتبين أن عددا من رجال الأعمال المصريين الجُدد خشوا على معاهدة السلام أن تتأثر، وعلى الطرف المصرى أن يتحرج، وأرادوا الاستجابة للمطلب الإسرائيلى دون أن يشعر أحد، وجمعوا من بينهم مبلغ التعويضات التى طلبتها إسرائيل، وتم دفعه بهدوء، وانتهى الإشكال دون ضجة، وبغير مضاعفات.

وكانت العلاقة بين المصالح والقرار السياسى تزداد حميمة، وتحتاج إلى تحصينها على نحو ما باعتراف، حتى يتحول «الغرام» وتوابعه إلى زواج يسدل ستار الشرعية على «وليد التوريث»، ولذلك لم يكن غريبا أن تجىء انتخابات آخر مجلس شعب وقع انتخابه قبل ثورة 25 يناير 2011، وفيه عدد غير مسبوق من رجال الأعمال، لا تكفى لطمأنتهم وعود وعهود ولا سلطة تطوع من أجلهم القانون، لكنهم يريدون أن يكتبوا النصوص الآن وفى المستقبل.

ولو أن أحدا راجع تشكيل البعثات والوفود المتحركة بنشاط على الطريق إلى «واشنطن»، لظهر أمامه الدور المتزايد للجماعات الجديدة الصاعدة فى مصر، وهى تلتصق بالسلطة، وتبذل أقصى الجهود للترويج لها من خارج الإطار.

ولم تكتفِ البعثات والوفود بما تستطيع توصيله إلى من التقوهم فى أروقة الكونجرس أو دور الصحف، بل وصل بعضهم إلى توظيف خدمات مكاتب علاقات عامة، وجماعات ضغط تتحرك بظن التأثير على مراكز القرار الأمريكى، وإقناعه بأن النظام القائم على السلطة فى مصر لابد من مساندته على الأمد الطويل، ومساندته فى المستقبل كما فى الحاضر، لأنه ضرورة أمريكية قبل أن يكون ضرورة مصرية، باعتبار أن الحاضر يحكمه الأب، والمستقبل يحتاج إلى الابن!

وكذلك تسربت الطبقة الجديدة فى مصر إلى آفاق أوسع فى الداخل والخارج، خصوصا فى مجالات الإعلام والعلاقات العامة والتأثير قريبا وبعيدا على المناخ الثقافى فى مصر، وهكذا وقع عملية تجريف مصر، وكان أسوأ ما فيه ما جرى للتعليم، بعدما جرى للإعلام والثقافة.

كانت مصر دائما تقوم بدورين فى العالم العربى: دور تنويرى ودور توحيدى، وكانت الصلة بين الدورين وثيقة وطبيعية، وفى الواقع أن مشروع النظام العربى كان فى الأساس ثقافيا.

فقد كانت حركة التنوير (بالتعليم والثقافة والإعلام)، والتى بدأت فى مصر (ولبنان) هى التى تحرِّك عوامل التقارب والتواصل بين شعوب الأمة العربية كلها.

وكانت حركة التوحيد نتيجة منطقية لهذا التواصل والتقارب، وبخروج مصر بصلح منفرد مع إسرائيل توقفت عملية التقارب والتواصل.

وفى أجواء ما سُمى بالانفتاح وفى التمهيد له، وبهذه العلاقة غير المشروعة بين السلطة والثروة فإن أفضل العناصر المستعدة والمؤهلة للحِراك الاجتماعى والفكرى أحست أن الآفاق أمامها محصورة أو مُحاصَرة، وفجأة فُتح الباب للتعاقد الفردى للمعلمين وأساتذة الجامعات المصرية للعمل خارجها، وفى أجواء الحَصر والحِصار هرع كثيرون إلى حيث وجدوا الفرصة، وكانت العقود جاهزة وسخية، وفى عشر سنوات لا أكثر من سنة 1975 وحتى سنة 1985 كانت الإحصاءات الرسمية تؤكد أن الجامعات المصرية فقدت 55% من طاقتها العلمية، كما أن التدريس فى المدارس الثانوية فقد 42% من طاقته التعليمية.

ولعل ما حدث لنهر النيل أثناء مروره فى كل مدينة كشف حجم العدوان حتى على قداسة الحياة.

كانت الرغبة جامحة مع التحولات والتغيرات السياسية، فى إرضاء جميع الطوائف والجماعات حتى تتلهى وتنصرف، وفى ظرف خمس سنوات بعد حرب أكتوبر كانت ملايين الأطنان من الأسمنت قد ألقيت فى مجرى النيل لإنشاء ملاعب ونوادٍ نهرية لمختلف الهيئات والتجمعات المهنية إرضاء وإلهاء لفئات متعددة ما لبث معظمها أن اكتشف أنها على ضفافه، لكن خصوبته تسير فى اتجاه آخر، وحدث للنيل ما لم يحدث لأى نهر فى مقامه، حتى كاد النهر العظيم يختنق على طول مجراه فى مصر كلما مر بعاصمة أو مدينة.

وفى آخر زيارة قام بها الرئيس «فرانسوا ميتران» لمصر كان سؤاله الوحيد: «لماذا شوَّهتم وجه النيل بهذه الصورة المعادية للحضارة وللحياة؟!».

وكان قد خرج من بيت السفير الفرنسى على النيل فى الجيزة يتمشى على شاطئ النهر العظيم، ويتأمل ما يرى بشعور من الأسى!

(1) (من الإنصاف القول بإن بعض مراكز الإعلام الخاص التى استجدت فى تلك الظروف، قامت بدور شديد الأهمية فى السنوات الأخيرة بتأثير نجوم ظهروا فيها على الصفحات وعلى الشاشات). وغيرها مما كان الوصول إليه ضروريا لخدمة المصالح الطارئة، وتوفير الأمن والتأمين لها هى الأخرى!فى الحلقة القادمة 450 مليون يورو تخرج مع حسين سالم من مصر إلى أبوظبى لغز حسين سالم ولقاء معه على الطريق إلى جنيف.. وماذا جرى؟!
__________________
رد مع اقتباس
  #26  
قديم 07-02-2012, 04:56 AM
الصورة الرمزية عبدة قورة
عبدة قورة عبدة قورة غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
المشاركات: 8,638
معدل تقييم المستوى: 23
عبدة قورة is on a distinguished road
افتراضي

فقد هيكل الكثير من مصداقيته وأراه مدفوعاً فى بعض مقالاته بالثأر الشخصى
أقولها للأمانة ، وليس من قبيل الدفاع عن المخلوع
فما ارتكبه المخلوع من جرائم هو أكبر من أن يدفعه عنه بشر
هيكل انسان متسلق
رد مع اقتباس
  #27  
قديم 09-02-2012, 06:25 AM
الصورة الرمزية راغب السيد رويه
راغب السيد رويه راغب السيد رويه غير متواجد حالياً
معلم لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 9,278
معدل تقييم المستوى: 24
راغب السيد رويه is a jewel in the rough
افتراضي

اليوم السابع تقرأ فى الحلقة الثانية عشرة من كتاب "هيكل" بدار الشروق.. "مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان".. 450 مليون يورو خرجت على طائرة حسين سالم حين سافر من شرم الشيخ.. أين هى؟!

الخميس، 9 فبراير 2012 - 03:30
الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل

◄ حوار ممتد مع «حسين سالم» عن «المهم» و«المثير» و«الخطير» فى علاقته مع «مبارك»
◄مقال لـ«جاك أندرسون»: «عقود السلاح تشير إلى كل الرؤساء فى مصر!»

◄يكشف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى سر العلاقة الغريبة بين الرئيس السابق حسنى مبارك ورجل الأعمال الأشهر الهارب حسين سالم.. ويجيب فى الحلقة الثانية عشرة من "مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان" عن أسرار حسين سالم عمدة العاصمة الثانية لمصر "شرم الشيخ.. ويقول:

شبح «حسين سالم» بقرب «مبارك» بدأ يخرج من الظل إلى ضوء الشمس مع تحول منتجع «شرم الشيخ» إلى شبه عاصمة سياسية ثانية لمصر، وكان «حسين سالم» بمثابة العمدة لهذه العاصمة الثانية («شرم الشيخ»)!

«كان آخر مشهد ظهر فيه «حسين سالم» على الساحة المصرية هو ركوبه لطائرته الخاصة من مطار «شرم الشيخ» بعد أيام من ثورة 25 يناير، ومعه مجموعة صناديق تحتوى على 450 مليون يورو نقدًا وجديدة وحطت طائرة «حسين سالم» فى مطار «أبو ظبى».

◄ويحلل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل مدة مبارك الرئاسية الثالثة، بعد أن فرغ الرئيس السابق محيط النخبة فى مصر، لأنه لا يريد رجلا ثانيا يقف وراءه، قائلا:

عندما بدأ ترشيح «مبارك» لمدة رئاسة ثالثة لم يكن فى مقدورى غير أن أقف بعيداً لا تأييد ولا معارضة، وللحقيقة فإنه لم يكن الآن فى حاجة إلى سند من أى طرف، فقد عزز مواقعه، أو كذلك بدا داخليا وخارجيا أو بالعكس.

وأكثر من ذلك فقد تمكَّن من تفريغ محيط النخبة فى مصر، فلم تتعد تتسع لغيره، أو لمن يشاء ويختار، إذا جاءت ضرورات للاختيار، حتى بالنسبة لمنصب نائب رئيس الجمهورية.

ولم يكن «مبارك» على أى حال مستعدا لقبول «رجل» يجلس خلفه أو يجلس بجانبه فى انتظار موعد التغيير أو مفاجأة المقادير، وكان عذره للناس «أنه لا يريد أن يفرض عليهم بديلا، إذا عُيِّن بقرار منه نائبا له»، وكان فى ذلك القول منطق، وفى ظاهره حق، ولم يخطر ببال أحد أن ظاهر الحق قد يخفى وراءه خاطرا ما زال بعيدا فى ضباب المجهول!!

لكن الرجل وهو يؤبد لحكمه برئاسة ثالثة وإلى آخر «نبض يخفق، ونَفَسْ يتردد» على حد ما قال، لا يزال كما كان فى أول يوم سؤالا بلا جواب!!
من هو الرجل بالضبط؟! وماذا يعلم الناس عنه أكثر من اختيار «السادات» له؟! ما الذى علَّمته له السلطة خلال قرابة العشرين سنة قضاها على قمة سلطة لم يكن يريدها، ولم يكن مستعدا لها (كما قال وكرر)؟!!

وما هى بالضبط عناصر ثقافته، وماذا أضاف الحكم إليها، أو ماذا حذف منها أو صحح؟!!

◄ويسهب الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى شرح بدايات علاقة حسين سالم بمبارك قائلاً:

ولعل أسباب القلق زادت وظهرت إلى العلن عندما لاح شبح السيد «حسين سالم» قريبا من «مبارك»، وفى الواقع فإن اسم «حسين سالم» تقاطع مع اسم الرئيس «مبارك»، وإن لم يكن التماسا ظاهرا فى البداية، والواقع أن العلاقة بين الاثنين تبدت منذ وصول «مبارك» إلى مقعد الرئاسة عقب اغتيال الرئيس «السادات»، وبالذات فى معرض قضية نظرت بالفعل أمام محاكم «فلوريدا»، وهى تخص شركة (ايستكو) لنقل المعدات العسكرية الأمريكية الممنوحة لمصر، بمقتضى المساعدات الملحقة باتفاقية السلام مع إسرائيل، فقد كان اسم «مبارك» بصفته الرسمية مسجلا فى مستندات القضية كواحد من مؤسسى الشركة، وراح الصحفى الأمريكى الذائع الصيت فى ذلك الوقت «چاك أندرسون» يكتب عنها ويشير إلى «مبارك» بالاسم فى عموده اليومى الذى تنشره مئات الصحف الأمريكية.

لكن الضجة التى ثارت من حول القضية هدأت حدتها ونامت وقائعها، إلا من حكم صدر غيابيا يمنع «حسين سالم» من دخول أمريكا.

◄ويرى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، أن شبح حسين سالم بدأ يخرج إلى الظل مع تحول شرم الشيخ إلى منتجع.. ويروى تفاصيل أول لقاء بينه وبين حسين سالم على الطائرة السويسرية.. ويقول:

لكن شبح «حسين سالم» بقرب «مبارك» بدأ يخرج من الظل إلى ضوء الشمس مع تحول منتجع «شرم الشيخ» إلى شبه عاصمة سياسية ثانية لمصر، وكان «حسين سالم» بمثابة العمدة لهذه العاصمة الثانية («شرم الشيخ»)!!

وبمحض مصادفات ذات يوم سنة 1988 وجدت السيد «حسين سالم» أمامى، فقد صعدت إلى طائرة سويسرية من مطار القاهرة قاصدا «جنيف»، وبعد أن أقلعت الطائرة واستوت فى الجو، وإذا رجل طويل القامة أسمر الملامح يقف بجوار مقعدى، ويقدم نفسه لى على أنه: «حسين سالم».

وسألته تلقائيا عما إذا كان هو «ال»: حرف THE، الذى يستعمل فى وصف شخصية بالذات تحمل اسما بالذات شاعت حوله مواصفات تخصه، وصفات تشير إليه تحديدا.

ورد الرجل بحيرة ظاهرة: «لا أعرف من هو «THE» الذى تقصده، ولكنى أظنه أنا».

وأوضح أنه كان يجلس فى مقاعد الوسط فى الطائرة السويسرية، ورآنى أدخل الطائرة وأجلس على الجناح الأيمن لها فى الصف التالى، وراودته فكرة أن يتحدث معى، ثم استأذن إذا كانت قرينتى الجالسة إلى جوارى تسمح بأن تنتقل إلى مقعده بجوار زوجته، لأنه يريد أن يتحدث معى بعض الوقت، وكذلك جرى، وعندما جلس إلى جوارى كانت أول ملاحظة قلتها له: «هذه السيدة زوجتك شابة جدا عليك»، وفهم الملاحظة ورد عليها: «إن هذه زوجته الثانية، وأضاف: هى «ليست أم الأولاد»، لدىَّ فى الحقيقة زوجتان: واحدة للبيت والعائلة، وهى أم الأولاد، وثانية للسفر والسياحة».

وعلَّقت: «أن هذا ترتيب عبقرى، لا يقدر عليه إلا ذوى العزم من الرجال، خصوصا إذا كانوا أصدقاء «بالالتصاق» مع رئيس الدولة».

ورد: «هذا بالضبط ما أريد أن أتحدث فيه معك، وقد أحسست أن الفرصة جاءتنى من السماء، عندما وجدتك على نفس الطائرة، وأمامنا أربع ساعات كاملة إذا سمحت لى «الهانم»، (يقصد قرينتى)، وبادلت مؤقتا مقعدها بمقعدى. ورجوته ألا يقلق، لأن «هدايت» تعوَّدت على كثرة ما تأخذنى الأحداث منها والمصادفات أيضا.

وجلس إلى جانبى، وأشار إلى السيدة التى وصفها بأنها زوجة السياحة والسفر وقال: «إنها شابة وجميلة، ولديها فكرة عن الدنيا، ووجودها معى عندما لا أكون فى مصر أو إسبانيا يجعل حياتى شيئا آخر».

وأضاف: «فى مصر عيونهم مفتوحة على كل حركة، وفى إسبانيا (حيث تقيم زوجته أم الأولاد فكل واحد من الناس فى حاله)، ولكن العالم أوسع من مصر ومن إسبانيا!!».

وقلت له «إن تقسيمه للاختصاصات جغرافيا على هذا النحو مثير، وربما كان يعبر عن أسلوب رجل عمل فى المخابرات له حياتان: واحدة يراها بعض الناس، وأخرى يراها غيرهم».

ومرة أخرى فهم «حسين سالم» الإشارة وقال:
إننى قرأت لك كل ما كتبت، ومعنى ذلك أننى أعرفك، وأما «سيادتك» فلا تعرف عنى إلا ما سمعته من غيرى، ومعظمه «تشويه مقصود»!!
وسألته: لماذا تتصور أنه «تشويه» وأنه «مقصود»؟!! أنا شخصيا سمعت الكثير عما هو «مهم» وما هو «مثير»، وبعضه أيضا «خطير»!!

◄ويستطرد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى سرد أول لقاء جمعه بـ"حسين سالم" قائلاً:

وسألنى عن معنى «مثير»، وقلت «إننى سمعت مثلا أنك المسئول عن توريد ملابس «مبارك»، وأنك ترتب لها مع محل «بريونى»، وقاطعنى يقول: «إن هذا بالضبط هو التشويه المقصود»!!

واستطرد: الحكاية لها أصل «عادى»، لكن التشويه المقصود خرج بها عن كل الحدود!». وراح يشرح: «أصل الحكاية أن الرئيس «مبارك» ولعلمك فأنا أحبه كثيرا، وهو صديق من زمن طويل كان يزور الإمارات العربية المتحدة لاجتماع مع رئيسها الشيخ «زايد»، وقاطع نفسه ليقول: «لابد أنهم قالوا لك إننى أعرف الإمارات جيدا، وعملت هناك لسنوات طويلة ممثلا لشركة النصر للتجارة، وهى كما تعلم إحدى شركات المخابرات» ثم عاد إلى سياق حديثه:

كان الرئيس «مبارك» على موعد مع الشيخ «زايد»، ووصل الشيخ «زايد» إلى قاعة الاجتماع بعد الرئيس بدقيقتين، واعتذر للرئيس عن التأخير «بأنه كان مع جماعة «بريونى» (محل أزياء الرجال الإيطالى الشهير)، يجرون قياسا جديدا له، لأن قياسه الموجود عندهم لم يعد ملائما بعد أن فقد الشيخ «زايد» بعض وزنه)، وراح الشيخ «زايد» يستعجل خبراء «بريونى» (كما قال للرئيس)، لكنهم «كما تعرف فخامة الرئيس حريصون على شغلهم، يحسبون المقاسات بالمللى»، وأبدى «مبارك» إعجابه بذوق «بريونى» BRIONI، وسأل عن إمكانية أن يعرضوا عليه ما لديهم ذات يوم، ورد الشيخ «زايد» بكرمه المعهود «ولماذا لا يفعلون ذلك، وأنت هنا فى «أبو ظبى»؟!! والأمر لن يستغرق أكثر من ربع ساعة أول مرة، وسوف يصنعون «على مقاسك نموذجا بالحجم الدقيق، ثم يفصِّلون عليه، ولا تراهم مرة ثانية إلا عندما يجيئون إليك لتجربة نهائية بعد أن يفرغوا من صنعه، وفى كل الأحيان سوف تجده مطابقا ومضبوطا إلا إذا تغيَّر وزنك كثيرا، وفى كل موسم فإنهم سوف يرسلون إليك من عينات أقمشتهم أحسنها، وتختار من العينات ما يعجبك، وفى ظرف أيام يكون معلقا فى خزانة ملابسك، ثم هم أيضا مع كل «طقم» يرسلون إليك ما يناسبه من القمصان وربطات العنق».

وأعجب الرئيس «مبارك» بالفكرة، وتم ترتيب موعد يذهب إليه خبراء «بريونى»، حيث ينزل فى «أبوظبى» فأخذوا مقاساته، واختار من عينات القماش عدة ألوان.

وقاطعته: كم قطعة اختار؟! واحتار قليلا ثم أجاب: ثلاثين قطعة إذا كانت ذاكرتى سليمة لا تنس أنه رئيس دولة، ثم إن المعروض عليه كان كثيرا، وهم يلحِّون عليه بتقديم أقمشة وألوان جميلة!!

هذه هى الحكاية هذا هو أصل الحكاية أصل الحكاية هدية من الشيخ «زايد» وهذا ما أعرفه، بأمانة لا أعرف إذا كان الرئيس قد كرر الطلب من «بريونى»، وإذا كان فعل، فلم يكن ذلك عن طريقى!!

واستدرك «حسين سالم» «أنه تحدَّث معى بصدق ولم يخف شيئا، لأنه ببساطة لا يريد أن يلف ويدور على «رجل مثلى»!!

وشكرت له «حسن ظنه»!! وقلت: «إننى أريد أن أسمعه فيما يقول، وأما التصديق فمرهون بالتفكير على مهل لاستيعاب الروايات والمقارنة بينها، وأنا لا أريد أن أخدعه بالتظاهر».

استطردت قائلا: «إننى سوف أترك هذه الحكاية «المثيرة» إلى غيرها».
ونظر إلىَّ باهتمام وقال: «إنه مستعد لأى سؤال»، وقلت: قيل لى من عدة مصادر أنك كنت المسئول عن اختيار هدايا أمراء الخليج إلى قرينة الرئيس.
ورد بسرعة بدون أن أكمل ما أريد، قائلا: «هذه أيضا لها أصل، ولكن عملية التشويه لحقت بأصل الوقائع».

واستطرد يسألنى: أنت تعرف قرينة الرئيس؟!! وقلت: «إننى لم أتعرف عليها شخصيا، لكنى لا أنكر أننى فى وقت من الأوقات كنت أعلق أملا عليها، فقد كان تصورى وأنا أعرف أنها درست العلوم الاجتماعية فى الجامعة الأمريكية، واهتمت كثيرا بحى «بولاق»، وأجرت فيه أبحاثا قد تكون عنصر توازن يكمل ثقافة زوجها، فهى تعرفت بالتدقيق على الواقع الاجتماعى فى البلد وتستطيع تذكيره به إذا كان نساه!!».

◄ويضيف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل: مرة أخرى لم ينتظر «حسين سالم»: قال وهو يقصد الكلام عن قرينة الرئيس: «إن «سوزى» هكذا سيدة ممتازة ولها ذوق رفيع، وهى على صداقة بأسر عدد من الحكام فى الخليج، وهى تزورهم وهم يزورونها، وبالطبع فإنهم كرماء فى هداياهم، وهى أيضا ترد لهم الهدايا»، واستدرك: «لكنها لا تستطيع أن تجارى».

على أن المشكلة التى ظهرت أنهم يختارون لها الهدايا قبل مجيئهم أو قبل ذهابها هى، وفى كثير من الأحيان تجىء الهدايا مكررة، وتتلقى قرينة الرئيس نفس الشىء نفس الطقم مرتين وثلاثة وأحيانا أربعة، وبالطبع فإن التنويع مطلوب، وكذلك «طلبوا» أن أرى الهدايا حتى لا تتكرر الأطقم، فعلت هذا بعض الوقت، لكن التكرار وقع برغم الاحتياط، ثم تقرر أن ترسل عينات الهدايا المقترحة إلى مصر قبل أى لقاء، وهناك يجرى الاختيار منها، بنظر من يعرف ما لديه، ويفضل جديدا غيره».

وعاد يسألنى: أين الخطأ هنا؟ الناس هناك يحبون التعبير عن مشاعرهم بالهدايا، وهداياهم غالية، والهدايا لا يصح أن تتكرر، وإلا ماذا يفعل بها الذين يتلقونها، هل يلبسون نفس «الرسم» كل مرة، أو يبحثون عن طريقة تضمن التجديد؟ هل تتخيل أن يجىء من نفس الطقم نسخا مكررة، وماذا يفعلون بها، وإذا باعوا المكرر واحتفظوا بنسخة واحدة من الرسم، ألا يثير ذلك انتقادات وحكايات وشائعات؟!!

وقلت له: دعنا من كل ما هو «مثير» فيما سمعت عنك، دعنا نتكلم عما هو «خطير» أقصد موضوع السلاح!!

ومد بصره عبر نافذة الطائرة، وقال: هذه قمم جبال الألب أمامنا، والطائرة أوشكت على الهبوط فى «جنيف»، ولكن لا تظن أننى أتهرب من سؤالك فأنا على استعداد للكلام فيه.

وأكمل يسألنى: ماذا لو التقينا على الغداء غدا، لنكمل الحديث؟!!
وقلت: إننى مدعو على الغداء غدا مع السفير المصرى فى «جنيف» (الدكتور «نبيل العربى»).
وقال: أعرف أنه «عديلك»، وقلت إن ذلك صحيح، وعلى أى حال فقد أستطيع إقناعه بتأجيل غدائه، وإذا رضى فسوف أقبل دعوتك.

واستأذن أن ينتقل إلى مقعده بجوار «زوجة السفر والسياحة» قبل هبوط الطائرة. وعندما نزلنا إلى مطار «جنيف» كان السفير الدكتور «نبيل العربى» وقرينته فى استقبالنا، وقال لى «نبيل العربى»: إنه دُهش عندما وجدنى أخرج من الطائرة مع «حسين سالم»، واستأذنته وقرينته فى تأجيل غدائى معهما إلى اليوم التالى، ووافق الاثنان، وكلاهما يستطيع أن يفهم اهتماماتى ويقدرها.

والتفت إلىَّ «حسين سالم»، وقلت له إننى سوف أقبل دعوته غدا، وقال هو: إذن غدا فى فندق «الريزرڤ» LA RESERVE، وحاول «حسين سالم» مد الدعوة إلى «نبيل العربى»، لكن ذلك السفير اليقظ والمقتدر اعتذر قائلا: «إنه يتصور أن بيننا حديثا، من الأفضل إتمامه على انفراد» وقد كان!!

◄وينتقل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، من حوار الطائرة المصادف، إلى لقاء آخر مرتب فى فندق "الريزيرف» ويقول:

كان واضحا لى من أول نظرة على المائدة التى وُضعت فى ركن بعيد من حديقة فندق «الريزيرف» أن «حسين سالم» اتخذ من الترتيبات ما يجعل غداءه «مناسبة خاصة» فقد كانت المائدة مُعدَّة بعناية ملحوظة، كما أن رئيس الخدمة فى الفندق كان واقفا بجوارها يُشرف على تهيئتها بنفسه، وإلى جوارها كانت مائدة يتوسطها حامل من الفضة عليه زجاجة نبيذ مفتوحة، لاحظت أنها «شاتولاتور 1949»، وأبديت دهشتى، فهذه زجاجة نبيذ لا يقل ثمنها عن عشرة آلاف دولار، وعلَّقت عابرا على نوع زجاجة النبيذ، ثم أضفت: «أنها خسارة لأنى لا أشرب»، وللإنصاف فقد رد قائلا: «ولا أنا» وقلت: إذن لماذا فتحتها، وقال: «إن رئيس الخدمة (المتر دوتيل) رأى أن يفتحها مبكرا، لأن النبيذ المعتق يحتاج أن يتنفس الهواء»، وكان رئيس الخدمة قد نقل جزءا منها إلى إناء من الكريستال بقربه شمعة مشتعلة تشيع من حولها دفئا قبل صبها فى كئوس الشاربين. وقال «حسين سالم»: «لقد فتحها وانتهى الأمر» ورجوته إبعادها عن المائدة، لأن وجودها بالقرب منا مستفز دون داعٍ، وأشار إلى رئيس الخدمة، وطلب إليه أن «يتصرفوا» فى النبيذ، وبدا الرجل مرتبكا، لكن «حسين سالم» طمأنه بصوت خفيض بما معناه (كما أظن) أنه سوف يدفعها ضمن الحساب، حتى وإن لم نستهلكها، وكان الرجل أكثر ارتباكا، لكن ارتباكه هذه المرة كان بالسعادة وليس بالقلق!!

◄ويكشف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، كيف باغت حسين سالم بالانتقال من الحديث عن النبيذ، إلى سؤال مباشر عن تجارة السلاح، ويقول:

ولم أشأ إضاعة الوقت، فقلت: على أى حال زجاجة نبيذ من هذا النوع تغرى على الفور بموضوع تجارة السلاح!!

وقال على الفور: أنا لا أحب تجارة السلاح ولم أدخل فيها، تجارة السلاح خطرة على من يقترب منها وعلى من يتاجر فيها، أو حتى يكتب عنها، أضاف فيما أحسست به شبه تحذير:

أرجوك ألا تكتب أبدا عن موضوع تجارة السلاح لأنه مجال خطر، ومن يعملون فيه «قلبهم ميت»، لا يتورعون عن شىء!!

وقلت: «إن كل مهنة لها مخاطرها، الصحافة بالطبيعة خطرة، والبحث عن الحقيقة فى أى مجال يعرض الباحث باستمرار لأصحاب المصالح، والمصالح فى السلاح مروعة، والاقتراب منها مروع أيضا».

ثم أضفت لطمأنته: «وأنا فى هذا اللقاء لست صحفيا، ثم إن اهتمامى هو بالسياسة أكثر منه بالسلاح!!».

وقال: «إنه أولا ولعلمى الخاص يريد أن يوضح أنه لم يدخل فى تجارة السلاح، وإنما دخل فى نقل السلاح، وهناك فرق كبير بين النقل، وهو عملية شحن بضائع، حتى وإن كانت سلاحا وبين تجارة السلاح فى حد ذاته باعتباره هذه البضاعة!». وقلت له: «إننى أريد فهم القضية أكثر مما يهمنى نشرها».

أضفت: «لكى أكون صريحا معك، فإننى بعد لقائنا فى الطائرة، اتصلت بمكتبى وطلبت أن يرسلوا إلىَّ صورا من بعض الأوراق التى حددتها لهم، وجاءتنى هذه الأوراق وراجعتها، وهى الآن معى فى السيارة التى جئت بها إلى هنا».

وسألنى إذا كان يستطيع أن يراها، لأنها سوف تساعد على تحديد ما أريد أن نتحدث فيه!!

واتصلت بسائق سيارتى أطلب إليه أن يجىء بمظروف تركته فيها، وكان «حسين سالم» يتابع حركة المظروف، ينتقل من يد السائق إلى يدى، ثم يتابع حركة يدى، وأنا أستخرج مجموعة أوراق ناولتها له.

كانت الأوراق التى سلمتها له مجموعة وثائق:
1 حكم استئناف الدائرة الرابعة فى القضية بتاريخ 4 نوفمبر 1983، والقضاة فيها ثلاثة هم: «رسل» و«فيلبس» و«مور ناجان»، وهم مكلفون بالنظر فى دعوى رفعتها الحكومة الأمريكية على مجموعة من الشركات يمثلها المستر «ادوين بول ويلسون»، وضمن منطوق الحكم ذكر لشركة «ايتسكو» EATSCO، وهى شركة يملك «حسين سالم» 51% من أسهمها، كما يرأس مجلس إدارتها خمسة رجال يحملون أسماء نافذة فى مصر، وكلهم فى صميم القرار السياسى، والشركة طبقا لعريضة الاتهام تولَّت عمليات نقل أسلحة أمريكية إلى الشرق الأوسط، وفى الإشارة ما يوحى بالشبهات فى عملية بين هذه المجموعة وبين شركات السلاح، ثم صلة صحيفة الدعوى وقد تردد فيها ذِكر وكالة المخابرات المركزية، وأخيرا معلومات عن تلاعب فى الفواتير.

2 نص حكم قضائى آخر صادر ضد شركة «ايتسكو» بالتحديد، والشركة متهمة بالاسم، ومقدم الدعوى وزارة الدفاع الأمريكية التى حصلت فيها على حكم، بعد أن أثبتت أن الشركة «غالطت» الحكومة الأمريكية فى مبالغ بملايين الدولارات، أضافتها بالتزوير إلى فواتير نقل السلاح.
وقد صدر الحكم غيابيا على «حسين سالم» إلا أنه سارع إلى مغادرة الولايات المتحدة قبل إعلانه. وأصدر مكتب النائب العام الأمريكى أمرا بالقبض على «حسين» إذا وصل إلى أراضيها.

3 مجموعة مقالات للصحفى الأمريكى الشهير «چاك أندرسون»، نشرتها جريدة الواشنطن بوست، عن قضايا تجارة السلاح.

أولها بعنوان «عقود السلاح الفضيحة تطبق على الرؤساء فى مصر!!».
واسم «مبارك» موجود فى المقال فى معرض تقرير وصل إلى الرئيس «السادات» عن تردد اسم اللواء «منير ثابت» (مدير مكتب المشتريات العسكرية فى واشنطن) مع اسم «حسين سالم» فى سياق أرباح وعمولات تتصل ب«نقل الأسلحة»، ويشير «چاك أندرسون» فى مقاله صراحة إلى برقية من وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 2 يوليو 1979 تخطر الخارجية: «بأن الرئيس «السادات» كلف «حسنى مبارك» بالتحقيق فى التقرير».

لكن السفارة الأمريكية فى القاهرة ردت فى اليوم التالى ببرقية تقول فيها: «إن مصادرها أكدت لها أن نائب الرئيس سوف يغطى على التحقيق، لأن «منير ثابت» هو شقيق زوجته، وأن «مبارك» ساعد على ترقيته من منصب مساعد الملحق العسكرى فى واشنطن، إلى منصب مدير مكتب المبيعات العسكرية الأمريكية لمصر.

وتطرق المقال إلى ذكر «حسين سالم» وشركة «ايتسكو».
وكان المقال الثانى ل«چاك أندرسون» أيضا تحت عنوان «فلسطينيون يسيطرون على مبيعات السلاح إلى مصر»، وكانت الإشارة إلى رجل أعمال من أصل فلسطينى، يعيش فى الإمارات، وتربطه شراكة مع «حسين سالم»، وفى المقال أن «مبارك» الذى أصبح رئيسا لمصر وكذلك أنت (موجها الحديث مباشرة إلى «حسين سالم») شركاء فى صفقات سلاح تتم فى الغرف الخلفية، وأن وكالة المخابرات الأمريكية على علم بالتفاصيل، بل إنها تدخلت فى بعض اللحظات للتسهيل والتشهيل!!

4 وكانت الوثيقة الأخيرة تقريرا عن سفينة شحن اسمها «بوميه» تناوبت على تأجيرها شركات إسرائيلية، وكذلك أجَّرتها شركة «ايتسكو»، وتلى ذلك تفاصيل فيها ذكر لأسماء مسئولين مصريين شاركوا فى عمليات تجارة الأسلحة، من «نيكاراجوا» إلى «أفغانستان» إلى «إيران»، وفى مقابل عمولات طائلة، وكانت الإشارات إلى «حسين سالم» متكررة، كما أن الإشارات إلى شركة «ايتسكو» وإلى علاقاته بمسئولين مصريين كبار، ظاهرة فى حركة نشيطة واصلة من «واشنطن» إلى «مدريد» إلى «القاهرة» إلى بلاد أخرى بعيدة.

◄مفاجأة الوثائق والمستندات التى عرضها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، على حسين سالم، جعلت الأخير يسب الأمريكان، ويقول هيكل:

وفرغ «حسين سالم» من تقليب الأوراق، ثم كان أول تعليق له:
«الأمريكان أولاد ال(...) هدفهم بالدرجة الأولى ابتزاز السياسة المصرية، وتصوير الأمور بما يوهم الناس بأن لديهم وسائل للسيطرة CONTROL على مسئولين مصريين.

ثم بدأ يدخل فى تفاصيل كثيرة عن صفقات سرية لبيع السلاح، وكان تركيزه بالدرجة الأولى أن معظم هذه الصفقات لصالح المجاهدين فى أفغانستان.

وفوجئت به يوجه إلىَّ سؤالا: عما إذا كنت ضد تسليح المجاهدين فى أفغانستان؟!! وقلت إننى لا أريد أن أتشعب بالحديث إلى موضوعات نستطيع أن «نغرق» فيها حتى الصباح!! وقال: «إنه يعرف أننى مهتم بالسياسة، ثم إننى لا أعرف «مبارك» بما فيه الكفاية، وهو يريدنى أن لا أظلم الرجل، فليس عيبا أن الرجل اقترب بوظائفه فى لحظة من اللحظات من موضوع السلاح.

وربما خطر له شىء، لقد كان على وشك انتهاء خدمته فى سلاح الطيران، ولم يكن يعرف أن الرئيس «السادات» سوف يختاره نائبا له، ومن الطبيعى أن يفكر الرجل فى مستقبله ومستقبل أولاده، وأن يبحث فى الخيارات المتاحة له، لأنه سيخرج وهو بالكاد فى الخمسين من عمره.

وأنا لا أقطع بشىء، ولكن لاحظ أن الرجل كان قريبا من موضوع السلاح للدول العربية، وأقول لك إنه ربما ربما خطر له الاشتراك مع بعض زملائه فى شىء أنا أقول ربما ولا أقطع بشىء هذا ما أستطيع أن أقوله وأكثر منه لن أقول شيئا»!. وكان واضحا أنه بلغ نقطة لا يستطيع أن يتزحزح بعدها.

وانتقلت بالحديث إلى بيع الغاز لإسرائيل، ولم تكن الاتفاقيات الكبرى قد عُقدت بعد، ولا خط الأنابيب قد امتد مساره عبر سيناء، وقال «حسين سالم»: «نعم عقدت صفقات غاز لإسرائيل، الغاز يظهر فى مصر بغزارة، ونستطيع أن نصدره».

وسألته عن الأسعار، واستغربت رده: «عقدت صفقات مع إسرائيل لها دواعيها السياسية وهى أكبر منى، وأما الغاز لإسبانيا، فلأنى مدين للإسبان، فقد أعطونى ال***ية الإسبانية، ورحبوا بى وبعائلتى هناك، وأكرمونا فى الحقيقة، وكان لابد أن أرد لهم الجميل!!».

◄ويكشف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عن آخر ظهور لـ"حسين سالم" فى مصر بعد ثورة 25 يناير قائلا:
وكان آخر مشهد ظهر فيه «حسين سالم» على الساحة المصرية هو ركوبه لطائرته الخاصة من مطار «شرم الشيخ» بعد أيام من قيام ثورة 25 يناير، ومعه مجموعة صناديق تحتوى على 450 مليون يورو نقدا وجديدة، ولا تزال بنفس التغليف الذى صُرفت به من البنك المركزى الأوروبى، وحطت طائرة «حسين سالم» فى مطار «أبوظبى»، وفى مطار «أبوظبى» لاحظ مأمور المطار هذه الصناديق، وأدرك على الفور أنها أوراق نقد، وأخطروا بالأمر سلطات مسئولة فى «أبوظبى»، وصدر قرار بالاتصال بالقاهرة لسؤالها فى الموضوع، وكان «مبارك» شبه معتزل فى «شرم الشيخ»، لكنه لم يكن قد «تخلَّى» عن السلطة بعد وجرى الاتصال بنائبه الجديد السيد «عمر سليمان»، وأشار النائب بالإفراج عن الرجل، وعدم إثارة ضجة فى الوقت الحاضر حول الموضوع، لأن الظرف حرج، وسأل بعض المسئولين فى الإمارات شخصيات مصرية عما يمكن التصرف به حيال الموضوع، وكان بينهم نائب رئيس الوزراء المصرى السابق، ووزير الصناعة والتجارة فى مصر السيد «رشيد محمد رشيد»، وكانت نصيحة «رشيد» وغيره إيداع المبلغ مؤقتا فى البنك المركزى للإمارات، والاتصال مع السلطات المصرية للبحث عن الأصل فى هذا الموضوع، وكيفية التصرف حياله.

وقد سألت المهندس «رشيد محمد رشيد» فيما بعد عندما قابلته فى عاصمة أوروبية عن صحة الرواية، واستأذن الرجل «أن أبقيه بعيدا عن هذا الموضوع»، لأن لديه من المشاكل ما يكفيه، وإن استفاض فى الحديث عن غيره من الموضوعات، وأهمها روايته عن الأيام الأخيرة لنظام «مبارك» فى مصر، وللأمانة فإنى لم أستأذن الرجل فى نشر ما أشرت إليه الآن مما ورد فيه اسمه، فحين قابلته لم يكن فى تقديرى أننى سوف أكتب هذه الصفحات، وكذلك لم أستأذنه!!

وعلى أى حال فقد انقضت الآن أيام وأسابيع وشهور، وظهرت أخبار كثيرة فى صحف مصرية وخارج مصر عنها، لكن الغموض ما زال يكتنف مصير صناديق الربعمائة وخمسين مليون يورو، ومن هو صاحبها الحقيقى؟! وماذا جرى لها؟! وأسئلة أخرى بغير نهاية!!
__________________
رد مع اقتباس
  #28  
قديم 12-02-2012, 03:58 AM
الصورة الرمزية راغب السيد رويه
راغب السيد رويه راغب السيد رويه غير متواجد حالياً
معلم لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 9,278
معدل تقييم المستوى: 24
راغب السيد رويه is a jewel in the rough
افتراضي

اليوم السابع تقرأ فى الحلقة الثالثة عشرة من كتاب هيكل الصادر عن دار الشروق.. مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان.. كيف ظهر اسم "أشرف مروان" فى معركة بين جنرالين فى إسرائيل؟

الأحد، 12 فبراير 2012 - 00:12

محمد حسنين هيكل
نقلا عن الشروق

ـ يتحدث الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى هذه الحلقة عن ظهور اسم أشرف مروان، ومدى قوته فى هذه الفترة التى كان الرئيس مبارك فيها قائداً للطيران، فيقول هيكل:

رجوت مبارك عن طريق صديق مشترك إجراء تحقيق لصالح الحقيقة ولصالح أشرف مروان«فى مكتبى ذلك الوقت من سنة 1974 و«أشرف مروان» يحكى عن مهمته فى ليبيا وجدته ينهض فجأة كمن تذكَّر أمرا، ويتصل بقائد الطيران الفريق «حسنى مبارك»، ويخاطبه باسمه الأول: «حسنى».. (هكذا بلا ألقاب) جهز طائرة من عندك للسفر غدا إلى «طرابلس»، وأريدك بنفسك على الطائرة».

أريد أن أسمعك بقلب مفتوح وعقل مفتوح لا أنت ولا أنا نستطيع أن نعرف كما أنه لم يحدث شىء أشرف مروان يقول: مبارك لا يستطيع أن يأمرنى وأنا أستطيع تدميره! «هذا «الشخص» قدَّم نفسه لإسرائيل فى لندن سنة 1972، وقد رتب له بعض من يعرفهم ويتصل بهم زيارة إلى عيادة الدكتور «إيمانويل هربرت»، وهى نفس العيادة ونفس الطبيب الذى قام بدور صلة الوصل بين الملك «حسين» (ملك الأردن) الراحل، وبين الإسرائيليين».قلت لأشرف مروان بصراحة: «دعنى أكون واضحا معك، لا شهادة حُسن سير وسلوك من «أنور السادات»، ولا صلة مصاهرة مع «جمال عبدالناصر» تعطيان عصمة لأحد.. نحن أمام مشكلة حقيقية تقتضى وضوحا مقنعا حقيقيا».!

ـ وفى هذه الفقرة يتحدث هيكل عن علاقته بأشرف مروان عندما كان مدير لمكتب الرئيس السادات لشئون المعلومات، حيث حاول مروان تهدئة الأجواء بين السادات وهيكل، فيروى الكاتب الكبير:

كانت العلاقة بين الرئيس «حسنى مبارك» والدكتور «أشرف مروان» وثيقة فيما بدا لى، وكان ما لفت نظرى مبكرا إلى أن هذه العلاقة بين الاثنين أبعد من حدودها الطبيعية مشهد فى مكتبى فى شهر مارس سنة 1974، وكان «حسنى مبارك» قائدا للطيران، و«أشرف مروان» مديرا لمكتب الرئيس للمعلومات، وكان «أشرف مروان» يزورنى مثل آخرين غيره حاولوا تصفية الأجواء، وإعادة العلاقات بين الرئيس «السادات» وبينى، (وكان الخلاف بيننا قد احتدم وابتعدت عن «الأهرام» بعد أن عارضت سياساته «بصراحة» فى مجموعة مقالات نُشرت فى «الأهرام» ثم نشرتها فيما بعد فى كتاب مستقل بعنوان «عند مفترق الطرق».

وأثناء وجوده فى مكتبى ذلك اليوم من مارس سنة 1974 قال لى «أشرف مروان» ضمن ما قال «إنه سوف يذهب غدا إلى ليبيا لمقابلة «القذافى»، وشرح لى داعيه للرحلة، ولم أتحمس لما سمعت، فقد كان ملخصه أن الرئيس «السادات» يرغب أن «يقوم «الأخ العقيد» بشراء طائرة للرئاسة المصرية، لأنه يعتقد أن الوقت قد حان (بعد حرب أكتوبر) لتكون للرئاسة المصرية طائرة تليق بها كما هو الحال مع آخرين من رؤساء الدول العربية» (بالذات ممالك ومشيخات النفط).

وكان اعتماد «أشرف» فى هذه المهمة على علاقة نشأت بينه وبين السيد «عبدالسلام جلود» (رئيس وزراء ليبيا)، وكذلك رأى أن يكون «جلود» مدخله إلى إقناع «القذافى» بتمويل شراء طائرة رئاسية مصرية.

وفى مكتبى ذلك الوقت من سنة 1974 و«أشرف مروان» يحكى عن مهمته فى ليبيا وجدته ينهض فجأة كمن تذكَّر أمرا، ويتصل بقائد الطيران الفريق «حسنى مبارك»، ويخاطبه باسمه الأول: «حسنى».. (هكذا بلا ألقاب) جهز طائرة من عندك للسفر غدا إلى «طرابلس»، وأريدك بنفسك على الطائرة»، ثم عاد إلى استئناف حديثه معى.. وبدت لى تلك الألفة بين الرجلين لافتة!!

(والذى حدث فى شأن موضوع الطائرة الرئاسية أن علاقة «القذافى» بالرئيس «السادات» تدهورت فجأة كالعادة لأسباب يطول شرحها، ورفض «القذافى» أن تقوم ليبيا بشراء طائرة رئاسية لـ«السادات»، وعرف السيد «كمال أدهم» (مدير المخابرات السعودية) من «أشرف مروان» بالرفض الليبى، وقرر الملك «فيصل» (و«كمال أدهم» هو شقيق زوجته الملكة «عفت») أن يكون هو صاحب هدية الطائرة الرئاسية، وقد كان.

وعندما وصل الرئيس «مبارك» إلى رئاسة الجمهورية، وبعد انقضاء مدة الرئاسة الأولى والثانية، كانت الطائرة الرئاسية (هدية السعودية) قد تخلَّفت عما استجد على الطائرات الملكية والرئاسية من مظاهر الأبهة والترف، خصوصا بعد ذلك الفيض المنهمر من ثروات النفط!! وجرت مفاتحة «القذافى» مرة أخرى، وكانت العلاقات قد تحسنت، والظن أن هذا التحسن فى العلاقات يكفى لإقناع «القذافى» أن تشترى «ليبيا» طائرة جديدة للرئاسة المصرية، وكذلك كان!!

وحدث أن «الديكور» الداخلى للطائرة الجديدة وهو من رسم المصمم الفرنسى الشهير «بيير كاردان»، لم تجئ ألوانه متوافقة مع ذوق من يعنيهم الأمر فى القاهرة، وبالفعل تم تغيير الديكور الداخلى للطائرة بألوان مختلفة تَلقى القبول!!).

ـ ويتحدث هيكل أنه فى أواخر السبعينيات، زادت العلاقة بين مبارك وأشرف مروان توطداً، خاصة عندما أصبح مروان ضمن المسئولين عن مشتريات السلاح، فيروى هيكل قائلاً:

وفى تلك السنوات على طول السبعينيات توثقت العلاقة بين الرجلين «حسنى مبارك» و«أشرف مروان» وزادت قربا عندما أصبح «أشرف مروان» ضمن المسئولين عن مشتريات السلاح بعد اعتماد سياسة تنويع مصادره، ويلاحظ حتى من قبل ذلك أن الرجلين معا كانا قريبين بحكم الاختصاص من صفقة «الميراچ» الليبية مع فرنسا (1970 1974)، فقد كان «مبارك» باعتباره قائدا للطيران هو الرجل المسئول عما يجىء لمصر من تلك الصفقة، ثم إن عقد الصفقة قام به أساسا ضباط من سلاحه، قصدوا إلى باريس بجوازات سفر ليبية، (لكن الفرنسيين كانوا يعرفون الحقيقة)، وفى نفس الوقت فإن «أشرف مروان» وبمسئوليته فى ذلك الوقت عن العلاقات مع ليبيا لم يكن بعيدا عن التفاصيل.

ـ ويروى هيكل عن اجتماع دار فى منزل الرئيس السادات وحضره أشرف مروان وهنرى كسينجر وجوزيف سيسكو وعدد من المسئولين المصريين والأمريكيين، لمناقشة قضايا التسليح، فيقول:

ويستوقف النظر فى تلك الفترة أن دخول «أشرف مروان» فى قضايا التسليح، كان ظاهرا على مستوى القمة، فقد حضر اجتماعا رسميا للرئيس «السادات» مع وزير الخارجية الأمريكية «هنرى كيسنجر»، وكان الاجتماع فى بيت الرئيس «السادات» فى الجيزة يوم 10 أكتوبر 1974.د

وتروى وثيقة رسمية من الوثائق السرية لوزارة الخارجية عنوانها «مذكرة عن مناقشة» أن الاجتماع حضره من الجانب المصرى مع الرئيس «السادات» كل من «إسماعيل فهمى» (وزير الخارجية) و«محمود عبدالغفار» (وكيل الوزارة) والدكتور «أشرف مروان» (الذى وصفته الوثيقة الأمريكية ب«مساعد الرئيس للاتصالات الخارجية»).

ومن الجانب الأمريكى الدكتور «هنرى كيسنجر»، و«چوزيف سيسكو»، والسفير «هيرمان إيلتس» (سفير الولايات المتحدة فى القاهرة)، و«بيتر رودمان» (من هيئة الأمن القومى الأمريكى).

وتحت عنوان فرعى يقول: «الأسلحة السعودية إلى مصر» يتضح (من المناقشة) أن السعودية عقدت صفقة أسلحة أمريكية لمصر بقيمة 70 مليون دولار، وأن هناك وفدا سعوديا يتعاون حول الصفقة موجود فى واشنطن.

وفى الصفحة الثالثة من محضر المناقشة، تقول المذكرة: «حوار جانبى يدور باللغة العربية بين الرئيس «السادات» و«أشرف مروان».

ثم تستأنف المناقشة مسارها على النحو التالى: «السادات»: نحن نتحدث مع السعوديين عن صفقة السلاح (التى يمولونها)، وأنت قلت لى إننا سوف نتحدث مع الملك فى هذا الموضوع، وأعتقد أن الصفقة يمكن توقيعها قبل شهر ديسمبر، ونحن على استعداد للتوقيع أيضا فى حدود سبعة ملايين دولار هذه السنة.

«كيسنجر»: إننا نجد صعوبة كبيرة مع السعوديين، ولا نستطيع أن ندفعهم إلى عمل شىء، وقد أزعجوا سفيرنا البروتستانتى المتدين، لأن كل ما يطلبونه هو «البنات» و«المال» GIRLS AND MONEY، ولم يسألوا أنفسهم بعد ماذا عليهم هم أن يفعلوا؟!، وهم يغطون على كل شىء، وسوف أثير هذا الموضوع مع الملك.

وهنا تدخَّل الدكتور «أشرف مروان» فى المناقشة قائلا: «مروان»: إن الملك سوف يحيل الموضوع إلى «سلطان» (يقصد الأمير «سلطان» وزير الدفاع)، و«سلطان» ليس سعيدا بمسألة الذخيرة التى يُقال لهم الآن إن تسليمها سوف يكون بعد أربعة عشر شهرا.

«كيسنجر» (موجها الحديث إلى «چوزيف سيسكو»): «چو».. اهتم بهذا الموضوع.
«مروان»: ألا يمكن قصر موضوع السلاح على شركات، دون تدخل للحكومة، (أى يجرى التفاوض بين السعوديين وبين الشركات الأمريكية مباشرة بدون تدخُّل رسمى.

«سيسكو»: تلك مسألة صعبة لأن الأمر يحتاج إلى تصريح من الحكومة الأمريكية ببيع السلاح.

«مروان»: لكن نحن لا نريد أن يكون لوزارة الخارجية دور فى موضوعات السلاح.
«كيسنجر»: عليكم أن تعرفوا أن وزارة الدفاع يتعين عليها فى مسألة السلاح أن تتعامل على أساس أسعار مقررة ثابتة!!

ـ ثم يعود الكاتب الكبير ليتحدث عن الرئيس السابق مبارك، وأول مهمة تم تكليفه بها فور توليه منصب نائب الرئيس سنة 1975، فيتحدث هيكل قائلاً:

وبعد اختيار «مبارك» لمنصب نائب الرئيس سنة 1975، كانت أول مهمة كُلِّف بها أن يقوم بزيارة رسمية ل «باريس» فى يونية من تلك السنة 1975، (أى بعد شهر واحد من توليه منصبه)، والهدف منها الاتفاق على شراء وتصنيع صواريخ فرنسية فى مصر، وكان «أشرف مروان» مصاحبا لـ«مبارك» فى تلك الزيارة (ولم يكن قد تولَّى بعد مسئولية هيئة التصنيع الحربى، ولكن دوره فى قضايا التسليح كان يزداد ظهورا).

(والتفاصيل حول هذه الصفقة منشورة فى المجلة المعتمدة لشئون الطيران فى العالم AVIATION WEEKLY عدد 14 يوليو 1975).

ـ وينتقل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل إلى شكل العلاقة بين مبارك وأشرف مروان، بعد مرور سنوات عديدة، وإقامة الأخير فى لندن مع أوائل الألفية الجديدة، فيستطرد إلى الأخبار التى تتسرب من إسرائيل وتلمِّح إلى أن أشرف مروان كان «عميل إسرائيل» وحتى لقاءه مع مبارك فى 2005، فيقول:

وكرَّت السنين إلى أوائل الألفية الجديدة!!
ومع حلول سنة 2000 و«أشرف مروان» مقيم فى لندن، بدأت الأخبار تتسرب من إسرائيل تلمِّح إلى أنه كان «عميل إسرائيل» الذى أخطر «الموساد» بتوقيت نشوب الحرب فى أكتوبر سنة 1973، وبين المعلومات أن الهجوم سوف يكون على الجبهتين المصرية والسورية فى نفس الوقت، وظلت التسريبات من إسرائيل تظهر وتختفى، لكنها ليست غائبة عن الاهتمام العام لعدة سنوات.

ثم حدث فى ذكرى 6 أكتوبر (سنة 2005)، وهى مناسبة يقوم فيها رئيس الدولة عادة «السادات» أو «مبارك» بعده بزيارة ضريح «جمال عبدالناصر»، وفوجئ الرئيس «مبارك» على ما يبدو بأن «أشرف مروان» يتصدر مستقبليه على باب الضريح، وعند خروجه كان «أشرف مروان» الأقرب إليه بين مودعيه، ولاحظ بعض المحيطين بهما أن الرجلين تبادلا همسات لم تستغرق غير ثوان، وانصرف «مبارك»، لكن بعض من كانوا بالقُرب منهما فى البهو من «الضريح» إلى سيارة «مبارك» التقطوا أو كذلك تصوَّروا من الهمس ما سمح لهم أن يفهموا أن «مبارك» يلوم «أشرف» أنه تعمَّد اليوم أن يظهر ملتصقا به طول وقت الزيارة، ثم إن «مبارك» ينصحه بالسفر فورا، لأن «الناس كلامها كثير»!!

وبالفعل فإن «أشرف مروان» عاد إلى «لندن» مع أول طائرة صباح اليوم التالى.

كانت التسريبات التى خرجت من لجنة الأمن والدفاع فى «الكنيست»، ومن مجالس عسكرية سرية خاصة تشكلت للتحقيق فيها شديدة الحساسية والخطورة، وهى باختصار أثر من آثار الصدمة التى واجهتها إسرائيل فى الأيام العشرة الأولى من حرب أكتوبر 1973 فقد حدث وقتها أن إسرائيل شكَّلت لجنة تحقيق خاصة رأسها القاضى «أجرانات» لكى تبحث أسباب ما وقع وتحدد المسئولية عنه، وكانت النقطة المركزية فى التحقيق هى: هل فوجئت إسرائيل أو لم تفاجأ؟! وهل عرفت أو أنها لم تعرف؟! وإذا كانت قد عرفت من مصدر سرى، وقد عرفت فعلا، فلماذا تأخرت فى الاستعداد ساعات حاسمة؟! ولماذا؟! ومن يتحمل الوِزْر؟!!

وكانت لجنة التحقيق الخاصة (وهى مُشكَّلة بقرار من رئيسة الوزراء «جولدا مائير»، وبطلب وضغط من الرأى العام) قد توصلت إلى نتائج أعلنت ملخصا مقتضبا جرى إعلانه مع إجراءات عقابية طالت عددا من المسئولين، وبين ما اتخذ من إجراءات، توجيه لوم إلى وزير الدفاع «موشى دايان»، وإزاحة رئيس أركان الجيش الإسرائيلى الچنرال «داڤيد بن أليعازار» من منصبه، وإحالة الچنرال «إيلى زائيرا» (مدير المخابرات العسكرية) إلى التقاعد.

ومع أن تحقيقات القضية وتفاصيلها بقيت فى حيز الأسرار المكتومة، إلا أنه وكالعادة فى إسرائيل وفى بلدان كثيرة غيرها فإن لجنة «أجرانات» لم تستطع تكميم كل الأفواه، ولا حبس كل الأوراق، ولا وقف كل التداعيات، والسبب الرئيسى أن الخلاف ظل محتدما بين اثنين من الچنرالات الإسرائيليين الكبار أثناء حرب أكتوبر 1973.

الچنرال «زڤى زامير» (رئيس الموساد أى المخابرات العامة الإسرائيلية).
والچنرال «إيلى زائيرا» (رئيس آمان أى المخابرات العسكرية الإسرائيلية).

ومؤدى الخلاف بين الاثنين أن رئيس الموساد «زائير» يصر على أنه أبلغ عن خطط ومواقيت وصلت إليه من مصدر مصرى موثوق عن هجوم مصرى سورى، لكن رئيس المخابرات العسكرية الچنرال «زائيرا» فى المقابل يصر على التشكيك فى مصدر المعلومات الذى أبلغ الموساد (لم ينف وجود المصدر المصرى ولم ينف دوره فى الإبلاغ مسبقا، ولكنه قدَّر أن يكون عميلا مدسوسا على إسرائيل، أو عميلا مزدوجا، وشاهده الرئيسى أن ذلك المصدر المصرى أبلغ إسرائيل بالساعة الخطأ فى موعد الهجوم، أى أن إبلاغه عن موعد الهجوم فى السادسة مساءً، بينما وقع الهجوم فعلا فى الثانية بعد ظهر السبت 6 أكتوبر).

وكذلك تعطَّل قرار إعلان التعبئة العامة فى إسرائيل، ووقع تقصير فى الاستعداد، وكانت كلمة «التقصير» بالتحديد هى عنوان تقرير لجنة «أجرانات».

وتحول الخلاف بين الرجلين إلى خلاف بين الجهازين: «الموساد» و»آمان»، وشكَّل ذلك نوعا من الشرخ داخل أجهزة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لم يعد فى الإمكان تجاهله، وكذلك جاء تشكيل اللجنة الأمنية العليا بين الرجلين: «زامير» و«زائيرا»، وتوفق بين الجهازين: «الموساد» و«آمان» برئاسة النائب العام «مناحم مازوز»، ومعه عدد من قيادات الجيش ومن خبراء الأمن، وإطلعت اللجنة على جميع الوثائق، بما فيها محاضر تحقيقات لجنة «أجرانات»، واستمعت إلى كل الشهادات، وبالطبع فإن الاسم الحقيقى للعميل المصرى الذى حصل «الموساد» بواسطته على سر الحرب وموعدها جرى تداوله.

ثم توصلت اللجنة إلى قرارات لم تُعلن، لكنه كالعادة مرة أخرى بدأت عمليات التسريب، وضمن ما تسرب أوصاف لهذا العميل المصرى توصل بها أحد الباحثين إلى اسمه، وكذلك ظهر اسم الدكتور «أشرف مروان» بلا لبس أو غموض، وأخذت القضية منحىً جديدا لأن إذاعة الاسم أحدثت رجة وضجة داخل إسرائيل أولا!!

وكانت الضجة تتركز على المسئولية عن كشف السر، لأن فيها إضرار «بصديق لإسرائيل»، وفيها عملية «فضح» سوف تجعل آخرين يترددون، طالما أن ما يفعلونه فى السر يمكن أن يظهر فى العلن!! وكان مدير الموساد الچنرال «زامير» فى حالة هستيرية، يخشى أن كشف المستور سوف يلحق ضررا كبيرا بقدرة إسرائيل على تجنيد عملاء لهم قيمة!!

وفى الوقت نفسه، فإن الچنرال «زائيرا» كان يرد باعتقاده أن العميل الذى أبلغ إسرائيل كان عميلا مزدوجا لمصر أيضا، ولذلك فقد كان فى حِلْ من الإشارة إلى اسمه!!

ووصل الصراع فى حدته وعنفه إلى درجة أصبح معها مسألة حياة أو موت!! ومنذ اللحظة الأولى فإن القضية لأسباب عديدة أثارت اهتمامى!

ووقتها ومنذ بدأت التحقيقات كان الدكتور «عزمى بشارة» السياسى الفلسطينى المعروف، وهو من أقطاب «عرب الداخل»، لا يزال عضوا فى الكنيست، وأرسلت إليه عن طريق صديق فلسطينى مشترك أسأله إذا كان فى مقدوره أن يبعث إلى بما يمكن أن يتوصل إليه من ملفات «الكنيست» فيما يخص الموضوع. وتفضَّل الرجل واستجاب.

ومع أن معظم ما كان يدور حول القضية، كان يجرى فى لجنة الأمن والدفاع فى «الكنيست» (وهذه لا يشترك فيها الأعضاء العرب) إلا أن وجود الدكتور «عزمى» عضوا فى المجلس، كان يعطيه بلاشك إمكانية وصول تتعدى إمكانيات غيره من «عرب الداخل».

والحقيقة أن الدكتور «عزمى بشارة» وصديقين غيره من عرب الداخل (لا يجوز البوح باسمهما، لأنهما ما زالا فى الداخل) استجابا إلى ما طلبت وأكثر، وأضاف الجميع لما أرسلوا من الأوراق الأصلية، وهى باللغة العبرية، ترجمات لها بالعربية أو بالإنجليزية. ولم أكن بأمانة مستعدا لتصديق ما قرأت. لكنى وبأمانة أيضا لم أكن قادرا على تجاهله!!

فالقضية لم تعد تلميحات أو تسريبات تظهر فى صحف، أو تنشر فى كتب، وإنما القضية أكبر، وإلحاح الوقائع والتفاصيل فيها لا يمكن مقابلته بالصمت فى مصر، وما دار حولها فى إسرائيل ليس تكهنات صحف ولا شائعات تتناقلها الروايات، وإنما فى القضية اثنان من أشهر چنرالات إسرائيل، وهناك قضاة من المحكمة العليا، وهناك نائب عام إسرائيلى، وهناك جلسات سرية للجنة الأمن والدفاع فى «الكنيست»، وهناك ملفات ووثائق، وبعض ما وصل إلىَ من ذلك كله أثار لدىَّ كثيرا جدا من القلق!!

فلقد لمحت من بين الوثائق والملفات مثلا صور لمحاضر اجتماعات بين «أنور السادات» ونظيره السوڤييتى «ليونيد بريچنيڤ» أثناء زيارته السرية لموسكو فى مارس سنة 1971، ومع أنى لم أحضر تلك المحادثات، فإن الرئيس «السادات» بعث إلى كالعادة وقتها بالمحاضر الرسمية لها كما كتبها السفير «مراد غالب».

والآن أمامى ضمن الملفات السرية من داخل «الكنيست» صورة هذا المحضر نسخة من الأصل ثم إن هناك صورا!! لعشرات الوثائق، وكلها صور من الأصل وليس مجرد معلومات تستند إليه (كأن رئاسة المخابرات الإسرائيلية تقرأ «على راحتها» أوراق الرئاسة المصرية)!! ولم أكن فى بعض اللحظات قادرا على تصديق ما أراه أمامى.

ـ ثم يتحدث هيكل عن رأيه الشخصى فى قضية الدكتور أشرف مروان، خاصة عندما سأله أحد أصدقاء مبارك عن رأيه فى هذه المسألة، فيقول:

وفى تلك الفترة سألنى أحد أصدقاء «مبارك» المقربين، (وهو بالمصادفة قريب منى بالسكن) عن رأيى فى هذه القصة والضجة المُثارة حولها، وقلت له رأيى وأضفت أنه يستطيع إذا وجد رأيى مناسبا أن ينقله إلى الرئيس، وهو فى حِلْ من ذكر اسمى.

وكان ملخص رأيى «أن كرامة البلد وسمعة «أشرف مروان» نفسه تتطلب تحقيقا رسميا مصريا فى الموضوع، بواسطة هيئة رفيعة المستوى، تضم عناصر قضائية وبرلمانية على أن تمثل فيها المخابرات العسكرية والمخابرات العامة فى مصر)، وظنى أنه بدون ذلك لا تستقيم الأمور».

وقلت لصديق «مبارك» أيضا أن الموضوع شائك وهو كذلك معقد، لأن من أبلغ إسرائيل بصرف النظر عن شخصيته بموعد الهجوم على أنه الساعة السادسة مساءً لم يقصد تضليلها، لأن هذا الموعد كان هو ساعة الصفر المقررة فعلا فى الخطة حتى يوم الثلاثاء 2 أكتوبر، ثم وقع خلاف بين الفريق «أحمد إسماعيل» (وزير الدفاع المصرى)، وبين اللواء «يوسف شكور» (قائد الجيش السورى).

وموضوع الخلاف أن القيادة المصرية كانت تفضل بدء العمليات فى الساعة السادسة مساء مع آخر ضوء، لكى تستفيد من مجىء الليل يحمى عمليات المهندسين فى بناء الجسور.

وأما القيادة السورية فقد كانت تفضل الساعة السادسة صباحا مع أول ضوء، لكى تستعين بأشعة الشمس فى مواجهة الدبابات الإسرائيلية على هضبة «الجولان».

وقد استحكم الخلاف بين القيادتين المصرية والسورية، وسافر الفريق «أحمد إسماعيل» إلى «دمشق» سرا صباح يوم الثلاثاء 2 أكتوبر لتسوية مباشرة مع القيادة السورية، ولم يتوصل الطرفان إلى حل، وتدخَّل الرئيس «حافظ الأسد» وتوصَّل مع القائدين «أحمد إسماعيل» و«يوسف شكور» إلى حل وسط، وهو اختيار الساعة الثانية بعد الظهر موعدا للهجوم.

والحل الوسط على هذا النحو يعطى القيادة المصرية ست ساعات عمل قبل الظلام الذى تريده لحماية بناء الجسور، كما أنه يعطى القيادة السورية ست ساعات من ضوء الشمس تنجز فيه اندفاعها الرئيسى على الهضبة، والشمس وراءها وفى مواجهة مدرعات الجيش الإسرائيلى.

والمسألة الحساسة أن الدكتور «أشرف مروان» سافر من مصر إلى «ليبيا» عن طريق أوروبا يوم 2 أكتوبر، لكى يخطر «القذافى» بأن المعركة حلت، وساعة الصفر المقررة لها والموعد المعتمد لبدء العمليات هو السادسة مساء، أى أن الدكتور «أشرف مروان» لم يكن فى مصر عندما تغيرت ساعة الصفر من السادسة مساءً إلى الثانية بعد الظهر.

وهذه مسألة قد تثير التباسات لابد من جلائها، وإلا وقعت الإساءة إلى «أشرف مروان»، وهذا ظلم له إلا إذا ثبت شىء آخر!!

وينتقل هيكل الى نهاية اشرف مروان بسقوطه من شرفة شقته فى الدور الرابع على الأرض فى ساحة «كارلتون تيراس» ، ومدى يقين هيكل ان هذه المسالة لم تكن لتنتهى الا بتحقيق شامل ، فيروى قائلاً:

وبعد أن لقى «أشرف مروان» ذلك المصير المأساوى الذى انتهت به حياته بالسقوط من شرفة شقته فى الدور الرابع على الأرض فى ساحة «كارلتون تيراس» وبرغم أية أحزان شخصية وإنسانية فقد كان يقينى أن المشكلة لا يمكن ولا يصح أن تنتهى إلا بتحقيق شامل، لكن الذى حدث أن الرئيس «مبارك» فى جو مزدحم بالتقارير الواردة من إسرائيل وبالأخبار والشائعات أصدر من جانبه إعلانا قرر فيه براءة «أشرف مروان»!!

وفى لقاء آخر مع «صديق مبارك»، قلت له «إننى شخصيا شديد الانزعاج من اتهام «أشرف مروان»، وشديد الحزن للمأساة التى انتهت بها حياته، لكن المسألة برمتها، ولكرامة البلد، ولسمعة الرجل، ولطمأنينة أسرته، تقتضى تصرفا مختلفا، أوله تحقيق كامل فى القضية»، وربما تماديت حين قلت له «إن الرئيس «مبارك» قلد بابوات روما على عهد البابا «أوربان الثانى» وأصدر صك براءة، ومع تقديرى لشهادة الرئيس ولشهادات كل بابوات الڤاتيكان فإن رئيس مصر لا يملك هذا الحق، وسوف تُعتبر القضية معلقة فى السياسة وفى التاريخ، ولا يضع نهاية لها إلا تحقيق شامل ودقيق!!».

وكان حرصى شديدا على براءة «أشرف مروان»، مع تأكيدى بأن نتائج التحقيق وحدها هى صك البراءة الضرورى الذى يزيحها إلى النسيان!!

وقلت أيضاً: «إن «مبارك» يتصرف بما لا يملك عندما يستعمل سلطته للفصل فى القضية»، وإذا كان فى استطاعته من موقع الرئاسة أن يغلق الباب هذه اللحظة بقوة السلطة، فإن التاريخ له أبواب كثيرة إلى قرار الحقيقة أيا كان موقعه، مع الرجل أو عليه، رغم أننى واحد من الذين يدعون الله لأكثر من سبب أن تكون الحقيقة لصالح «أشرف مروان»!!

فالرجل إنسان ودود إلى آخر الحدود، ثم هو إدارى تنفيذى أثبت كفاءة مشهودة أثناء إدارته لمكتب الرئيس «السادات» للمعلومات، ثم هو رجل أؤتمن على خزانة أسرار مكتظة بما فيها، ولقد قام فى حياته بأدوار حساسة متعددة: مديرا لمكتب الرئيس للمعلومات، ورئيسا للهيئة العربية للتصنيع العسكرى، وهو أيضا رجل يملك شبكة علاقات إنسانية وسياسية وعسكرية ومالية شديدة الاتساع، وكل ذلك يفرض أن تكون السجلات واضحة احتراما للمعنى العام، وإنصافا للمعنى الإنسانى الخاص.

ـ وفى هذه الفقرة يتحدث الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عن لقائه مع أشرف مروان فى لندن عام 2006، أثناء مأدبة غداء دعى إليها من السفير اللبنانى فى لندن جهاد مرتضى، فيروى:

تظل فى مسألة «أشرف مروان» واقعة أكتبها بحق التاريخ وحده، وهى واقعة جرت فى لندن فى شهر سبتمبر 2006.

فى الصباح الباكر من أحد الأيام فى ذلك الشهر، وكنت فى العاصمة البريطانية، اتصل بى الصديق والمفكر العربى الدكتور «كلوفيس مقصود» يقول لى «إن السفير اللبنانى فى لندن «جهاد مرتضى» دعاه اليوم على الغداء، واللقاء مع عدد من الدبلوماسيين العرب، وقد عرف السفير «مرتضى» منه (الدكتور «كلوفيس مقصود») أننى فى لندن، وهو يرجو أن يدعونى إلى الغداء إذا لم يكن لدى ارتباط آخر، وأضاف «كلوفيس مقصود» أنه يتمنى لو قبلت دعوة السفير اللبنانى ويومها كان لدىََّ على الغداء موعدا أستطيع أن أتصرف فيه، وهكذا نزلت على ما طلب «كلوفيس»، واتصل بى بعد دقائق السفير «جهاد مرتضى»، يوجِّه لى الدعوة رسميا.

وعندما دخلت إلى بيت السفير اللبنانى فى حدائق «كينسجتون»، كان السفير «جهاد مرتضى» ومعه ضيفه الدكتور «كلوفيس مقصود» فى انتظارى، ودخلنا مباشرة إلى قاعة الطعام، وهناك وجدت ستة من السفراء العرب بينهم السفير المصرى فى لندن وهو السفير «جهاد ماضى»، ووسط جمع السفراء العرب وجدت «أشرف مروان» واقفا وفاتحا يديه مرحبا، وقلت همسا: «أشرف».. لدينا كلام كثير!!».

وكان الغداء «دبلوماسيا عربيا» فى كل تفاصيله، واستغرق أكثر قليلا من ساعة، ثم استأذنت من الجميع: «بأننى سأترك لهم الدكتور «كلوفيس مقصود» يتحدث معهم فيما يريدون، وقام معى السفير اللبنانى يودعنى إلى باب سفارته، ولمحت «أشرف مروان» يسير وراءنا، وعلى باب السفارة اللبنانية فى لندن وقفنا، وقد جاءت سيارتى ولحقتها سيارته، وسألنى «أشرف» إذا كان يستطيع أن يجىء معى، وقلت له بصراحة:

«أنه لا أنا ولا هو يستطيع أن يتصرف كما لو أنه لم يحدث شىء، فقد حدث شىء، وشىء كبير لا أستطيع أن أتجاهله معك، ولا تستطيع أن تتجاهله معى». وقال مبتسما: أعرف.
وسألته والسفير اللبنانى «جهاد مرتضى» لا يزال واقفا معنا يتابع حوارنا:
- إلى أين نذهب؟! بصراحة فأنا لا أريد اليوم أن أذهب إلى بيتك، ولا إلى فندق «الكلاريدچ» وإذن..
وقاطعنى يقترح أن نذهب إلى فندق «الدورشستر».
وطلبت من سائق سيارتى أن يذهب إلى فندق «الدورشستر».
ولدقيقة ساد فى السيارة صمت، قطعه بأن قال:
«لم نلتق منذ سنة ونصف، مرات عرفت أنك فى لندن وترددت فى الاتصال بك، وحين غالبت ترددى مرة سألت وإذا بك سافرت، لكن هذه المرة عندما عرفت من «جهاد» أنك قبلت دعوته على الغداء، طلبت منه أن يدعونى!!».

ـ ويواصل هيكل حديثه مع أشرف مروان، وأسباب عدم مجيئه إلى القاهرة طوال عام ونصف، وهل هذا كان بأمر من مبارك أم لا؟.. إلا أن المفاجأة التى تلقاها هيكل على حد قوله إن مروان قال إنه يستطيع تدمير مبارك وغيره قاصداً عمر سليمان، فيروى هيكل قائلاً:

وقلت: «أنت لم تأت إلى القاهرة طوال هذه السنة والنصف، ولا أعرف إذا كنت ممنوعا من المجىء لها بطلب من الرئيس «مبارك» الذى نصحك بالسفر منها أثناء لقاءك معه فى ضريح الرئيس «عبدالناصر»!!
وفوجئت بردة فعل «أشرف مروان» وبانفعاله فى الرد، فقد قال:
هم لم يطلب منى أن أسافر كما يشيعون فى القاهرة، وهو لا يستطيع أن يمنعنى.
وحين سألت:
ولماذا لا يستطيع؟! ألا يملك سلطة...
ولم ينتظر أن أكمل كلامى، بل قال بحدة:
هو لا يملك أى سلطة، وهو لا يستطيع، وبدورى قاطعته قائلا:
«أشرف».. أليس هذا كلاما كبيرا؟!!
وكان رده هو موضع المفاجأة الحقيقية:
هو لا يستطيع.. أقولها لك، أننى أستطيع تدميره.

والتفت إليه أدقق فى ملامح وجهه، وكرر العبارة بالإنجليزية تلك المرة قائلا: I CAN DESTROY HIM، زاد قائلا: أستطيع تدميره وتدمير غيره معه وذكر اسم اللواء عمر سليمان.

قالها وكررها وهو يمد سبابته إلى الأمام فى تأكيد إضافى!!
وقلت: إننى أفضل أن نكمل حديثنا فى «الدورشستر».
وعندما دخلنا إلى الفندق، قصدنا مائدة على الطرف، ولم نكد نجلس حتى سألته مباشرة: إنه لا داعى ليضيع وقته، فهو يعرف ما أريد أن أسأل فيه، وأنتظر الإجابة عنه!!
وسألنى «أشرف»:
هل تصدق أننى «جاسوس»؟!!

وقلت: إن هذا سؤال فى غير محله، على الأقل ما نحن بصدده ليس مسألة تقييم شخصى، وإنما مسألة وقائع مذكورة فى وثائق، وكلها يحتاج إلى كلام لا يحتمل اللبس، وليس مسموحا لأحد بتداخل المشاعر فى تكييف القضايا.

وأنا أريد أن أسمعك بقلب مفتوح، وعقل مفتوح أيضا، ومقدما فإنى أريد أن أصدق ما سوف تقوله لى.

ما الذى تريد أن تسألنى فيه بالضبط؟!

وقلت: «إننى أريده أن يعرف أن ما نُشر فى الصحف الإسرائيلية لا يهمنى كثيرا، وإنما تركيزى كله على ما هو فى الوثائق الإسرائيلية، وما جرى تداوله فى التحقيقات، سواء فى لجان «الكنيست»، أو لجان التحقيق الخاصة، وبالذات تلك اللجنة التى رأسها «مناحم مازوز» النائب العام الإسرائيلى، فذلك محقق مدقق، قرأت الكثير عن كفاءته، وقد كان معه جمع من أبرز رجال القانون فى إسرائيل.


وباختصار فإن مجمل المعلومات التى لا أشك فيها، ومن كل ما اطلعت عليه تؤكد أمامى عدة حقائق:
1 أنه كان لإسرائيل فى مصر «شخص» على مستوى يسمح له بأن يعرف.
2 أن هذا «الشخص» لم يقدم لها المعلومات فحسب، وإنما قدَّم لها صورا من أسرار البلد فى لحظة شديدة الحرج من تاريخه.
3 أن هذا «الشخص» أخطرها مسبقا ضمن ما أخطرها به بموعد قيام حرب أكتوبر، وساعة الصفر المقررة لعملياتها.
4 أن هذا «الشخص» قدَّم نفسه لإسرائيل فى لندن سنة 1972، وقد رتب له بعض من يعرفهم ويتصل بهم زيارة إلى عيادة الدكتور «إيمانويل هربرت»، وهى نفس العيادة ونفس الطبيب الذى قام بدور صلة الوصل بين الملك «حسين» (ملك الأردن) الراحل، وبين الإسرائيليين، وفى عيادة هذا الرجل وبمساعدة من سلطات إنجليزية نافذة، تمت لقاءات وجرت لقاءات ووقعت تفاهمات.
وإذن فإن هذا الطبيب وهذه العيادة لهما تاريخ سرى راسخ.
5 أن هذا «الشخص» عندما ذهب أول مرة إلى عيادة الدكتور «هربرت»، ورغم اتصالات مسبقة طلب موعده لطلب استشارة، وقد وصل معه ملف دخل به إلى سكرتيرة «هربرت»، وحمله معه حين دخل إلى حجرة الكشف الخاصة، وقدمه إلى الطبيب الذى فتحه ووجد بالفعل ورقة طبية على السطح، لكن الورقة التالية فى الملف كانت محضر اجتماع سرى بين الرئيس «السادات» وبين القادة السوڤييت، وهو اجتماع مارس 1976، والذى اختلف فيه الطرفان حول طائرة الردع التى كان «السادات» يطلبها من السوڤييت وهم يترددون.

وحين توقف الدكتور «هربرت» أمام هذه الورقة، وقال لزائره «هذه الورقة وُضعت خطأ فى الملف، وهى لا تتصل به».

فإن هذا «الشخص» قال للطبيب: إن الورقة لم توضع خطأ، وإنما هى صميم الموضوع!!
وكانت تلك هى البداية، وبعدها جاء مدير الموساد الچنرال «زامير» بنفسه إلى لندن، و...
وقاطعنى «أشرف مروان»: إذا كنت أقول إنه هو هذا «الشخص».

وقلت: إننى لم أقل، ولكنهم فى إسرائيل قالوا، ولو كنت صدقتهم لما كان هناك داع أن ألقاك، وأن أجىء معك إلى هنا، وأن أسألك ثم أن أنتظر لأسمع منك جوابا؟!!

ومد «أشرف مروان» يده إلى الجيب الداخلى ل: چاكتته، وأخرج منها ورقة ناولها لى، وكانت قُصاصة من جريدة «الأهرام»، نشرت نص ما قاله الرئيس «السادات» فى تكريم «أشرف مروان» عندما ترك منصبه فى رئاسة الجمهورية، والتحق بالهيئة العامة للصناعات العسكرية، (وهى هيئة أنشأتها مصر والسعودية والإمارات العربية لتصنيع السلاح)، ونظرت فى القصاصة ثم طويتها وناولتها لأشرف، وسألنى: «ألا تكفيك شهادة «أنور السادات» حين يقول إننى قدمت خدمات كبيرة لمصر؟!!».

وقلت لأشرف صراحة: «أن ما قرأته منسوبا ل «أنور السادات» لا يجيب عن سؤالى»، وأضفت «أنه قبلى يعرف قيمة أى كلام مرسل مما يُقال فى المناسبات، وعلى أى حال فإنه إذا رأى أن يكتفى به فهذا حقه، وأما بالنسبة لى فإنه ببساطة لا يكفى»، وأضفت: «إن ما نحن بصدده لا يمكن الرد عليه إلا بما هو واضح ومحدد وقابل للإقناع!».

ـ ويتحدث هيكل عن سؤال طرحه عليه اشرف مروان أثناء حديثهما حول قضية الجاسوسية، وكيف كان رد هيكل عليه فى هذه اللحظة ، فيستطرد:

وبدا عليه الحرج وسألنى:
هل تتصور أن صهر «جمال عبدالناصر» جاسوس؟! وأنت كنت أقرب الأصدقاء إليه وتعرفه؟!!
وقلت بصراحة: «دعنى أكون واضحا معك، لا شهادة حُسن سير وسلوك من «أنور السادات»، ولا صلة مصاهرة مع «جمال عبدالناصر» تعطيان عصمة لأحد.. نحن أمام مشكلة حقيقية تقتضى وضوحا مقنعا حقيقيا».

وفجأة وقع ما لم أكن أنتظره، فقد أقبل «خالد عبدالناصر» ومعه ثلاثة من أصدقائه اللبنانيين، وهو يقول لأشرف ضاحكا: «كلفناك كثيرا يا دكتور.. دعوتنا على الغداء ولم تظهر، وانتظرناك وطلبنا على حسابك كل ما أردنا».

وبدأ أشرف يشرح لى: الحقيقة أننى كنت دعوتهم على الغداء هنا، وعندما عرفت أنك سوف تكون فى السفارة اللبنانية آثرت أن أطلب من السفير «جهاد مرتضى» (السفير اللبنانى) أن يدعونى معك لألقاك، وحاولت الاتصال ب«خالد» أعتذر له، ولم أستطع العثور عليه، واتصلت بمطعم «الدوشستر» أبلغهم أن «خالد» وأصدقاءه ضيوفى، وعليهم أن يضموا حسابهم إلى حسابى!!

وقلت، والشبان الأربعة وأولهم «خالد عبدالناصر» يجلسون معنا: «إذن فقد كنت تعرف حين اقترحت أن تجىء إلى «الدوشستر» أن هناك من ينتظرك فيه».

وقال: «إن ذلك لم يكن ترتيبا مقصودا أو مدبرا، لكنه على أى حال يهمه استكمال حديثنا على مهل، ويقترح أن يمر علىَّ صباح غد فى الساعة العاشرة صباحا، ثم نذهب معا للمشى فى حديقة «هايد بارك»، ونتحدث بالتفاصيل فيما أريده، وفى جو مفتوح نضمن أن لا أحد يتسمَّع علينا فيه».

ـ وفى هذه الفقرة يتحدث هيكل عن لقاء كان سيتم بينه وبين أشرف مروان فى اليوم التالى، ولكن مرض مروان الغى اللقاء حتى سمع هيكل بالنهاية المؤلمة لمروان، فيقول:

وصباح اليوم التالى وقبل الساعة العاشرة صباحا بخمس دقائق خرجت من باب فندق «الكلاريدچ» إلى الرصيف شارع «بروك»، أنتظر «أشرف مروان» لكى نذهب معا إلى حديقة «هايد بارك»، وهى قريبة منى عبر شارع «سوث أودلى»، وفى العاشرة بالضبط وصلت سيارة «أشرف»، ونزل سائقها يقدم نفسه على أنه «أحمد» السائق الخاص للدكتور «أشرف مروان»، ولديه رسالة شفوية:

«إن الدكتور أصيب صباح اليوم بنزيف اضطره للذهاب إلى المستشفى، على أنه سوف يتصل به مساء اليوم فى الساعة الخامسة لكى نحدد موعدا آخر».
ولم يتصل بى «أشرف مروان».
ولم أتصل به.
حتى سمعت بالنهاية المأساوية والحزينة التى انتهت بها حياته!!

وفى كل الأحوال فقد أصبح الآن مؤكدا أن إسرائيل كان لها فى مصر جاسوس على مستوى عال، وأن هذا الجاسوس أبلغها بما كان محظورا إبلاغها به، حتى ولو كان الإبلاغ عن يوم الهجوم، (وحتى لو اختلفت الساعة).

وهذا الجاسوس أيا كان لم يكن عميلا مزدوجا، فليست هناك ورقة واحدة فى رئاسة الجمهورية ولا فى المخابرات العامة تحتوى إشارة عن نشاطه، وهذه نقطة حرجة.

وكان وجود مثل هذا الجاسوس ظاهرا حتى فى أول رسالة بعثت بها رئيسة وزراء إسرائيل «جولدا مائير» إلى الرئيس الأمريكى «ريتشارد نيكسون» وذلك قبل أن تنشب العمليات بعشر ساعات على الأقل، ولذلك فإنه من الحيوى أن يعرف كل مصرى من هو؟! ولماذا؟! وكيف؟!! فى الحلقة القادمة رجل تقدم الصفوف فجأة إلى قمة السلطة.. ماذا نعرف عنه؟ كانت علاقة الرئيس حسنى مبارك وجيهان السادات ظاهرة تستحق الدراسة.
__________________
رد مع اقتباس
  #29  
قديم 12-02-2012, 07:59 AM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
المدير التنفيذي
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,982
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

رد مع اقتباس
  #30  
قديم 13-02-2012, 05:21 AM
الصورة الرمزية راغب السيد رويه
راغب السيد رويه راغب السيد رويه غير متواجد حالياً
معلم لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 9,278
معدل تقييم المستوى: 24
راغب السيد رويه is a jewel in the rough
افتراضي

هيكل يُكمل كشف الاسرار : " مبارك قُدم للمحاكمة بسببي "

شاهد المحتوى الأصلي علي بوابة الفجر الاليكترونية - هيكل يُكمل كشف الاسرار : " مبارك قُدم للمحاكمة بسببي "

نشرت جريدة الاخبار في أول حوار لها على 3 حلقات مع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل ، والذي وصفته بأنه أخطر حوار عن ثورة 25 يناير، في الحلقة الأولى من الحوار كشف هيكل أنه رفض عرض من المجلس العسكري للظهور على شاشة التليفزيون المصري مبررا ذلك بأن رأيه سيصطدم مع المجلس العسكري، وهو لا يريد إحراجه، موضحا أن المجلس العسكري لم يكن يفكر في تقديم مبارك للمحاكمة إلا بعدما أثار هو الموضوع، حينما أشار إلى أن مبارك يعيش في شرم الشيخ لمدة شهور بعد الثورة وكأن شيئا لم يحدث. وأضاف هيكل في الحوار الذي أجراه معه رئيس تحرير الأخبار ياسر رزق، ، أنه حتى هذه اللحظة يفضل اللجوء إلى انضباط الحرف بالحبر على الورق، أي أنه يفضل الكلمة المطبوعة، وأنه يعرف بالطبع أن التليفزيون هو أداة الإعلام الأوسع وصولا للناس في هذا العصر، ولكن المشهد بالنسبة له يبدو صاخبا بأكثر مما هو ضروري.
وقال هيكل: "أنا أرى نجوم هذا المشهد، وأعجب بالكثيرين منهم، ومعظمهم أصدقاء، وكلهم تفضل ودعاني إلى برامجه، لكني حتى هذه اللحظة أجد نفسي مترددا، فلا يكفي أن نرى الصورة على الشاشة، ونشعر بالألفة مع الملامح والأصوات، ولكن المهم أيضا ما وراء الصور والشاشات، لذلك خطر لي أن احتمي بانضباط الكلمة المطبوعة بالحبر على الورق".
واستطرد حول هذه النقطة قائلا : "أنا لا أتصور أن أبادر أحد بشك في نوايا أو مقاصد، لكن الوضع أمامي ملتبس كما هو مزدحم، وأحاول جاهدا التأقلم معه، ثم إن تليفزيون الدولة تفضل ودعاني بكل لسان، سواء بلسان المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو بلسان وزراء الإعلام المختلفين بعد الثورة، وقد اعتذرت أيضا، على الأقل في هذه اللحظة، وقلت لمن تفضلوا بدعوتي للكلام في تليفزيون الدولة : لن أقول غير رأيي، وقد أجد نفسي مختلفا مع أصحاب الدعوة، ولا أريد أن أسبب حرجا لأحد، لا لغيري ولا لنفسي".
وعن أسباب الخلاف الدائرة الآن بين شباب الثورة -على وجه الخصوص- والمجلس العسكري على الرغم من أن القوات المسلحة مثل شباب الثورة كانت ترفض التوريث وتعتبره إهانة للعسكرية المصرية وأن هذا كان أهم أسباب الثورة، فقال هيكل:" يوم 25 يناير كان الكل متفقا على مطلب واحد من مطالب الثورة، وهو مطلب منع التوريث وانتقال السلطة من أب لابنه في مناخ مكفهر وعاصف، لكن الطرق راحت تتباعد بعدها مباشرة، والغريب أن الحوار الذي دار بين الطرفين جاء حوار طرفين لا يفهم كلاهما الآخر، لا يستوعب مقاصده لأنه لا يفهم لغته، فهدف الثورة لم يكن فقط منع التوريث ، لكن المجلس الأعلى كان يتحرك في هذه الحدود".
وعن نفس النقطة قال هيكل أيضا: "المجلس الأعلى للقوات المسلحة تصرف في حدود الاستجابة لما قدر ورأى، وتصور بالفعل أنه فعل ما يستطيع، وهذا صحيح وهو موضع تقدير، فهو في حدود ما تصور، أسقط بالاستفتاء ست مواد من الدستور القديم كانت تمهد للتوريث، وكان الشعب – وفي طليعته الشباب- يقاومها بكل جهده وطاقته، وكان ذلك في تقدير المجلس الأعلى للقوات المسلحة استجابة، ولكنها كانت في تقدير الشباب خطوة أولى خصوصا وأن الدستور القديم أي دستور 1970 جرى إسقاطه في اليوم الثاني بإعلان دستوري مؤقت، وبدأ الكلام عن دستور جديد لابد من كتابته، ثم إن هذا الاستفتاء ربط مسار ما بعد الثورة في حبل غليظ يجر إلى طريق شبه مغلق، وافترقت الطرق وراحت تتباعد كل يوم".
وأوضح هيكل هذا الافتراق بين الشباب والمجلس العسكري قائلا: "إنه من ناحية المجلس العسكري، كان تساؤله ماذا يريدون؟.. لقد حمينا خروجهم ثم إننا منعنا التوريث.. ومن ناحية الشباب، فإن 25 يناير لم يكن فقط لمنع التوريث وإنما كان طلب ثورة كاملة لمطلب الحرية والعدل والتقدم، أي مطلب تغيير شامل لأوضاع قائمة رغم سقوط التوريث، وسقوط رأس النظام ذاته، وكان الشباب في نظر المجلس العسكري متزايدا في طلباته، وكان المجلس العسكري في نظر الشباب غير قادر على المهمة، وبذلك فإنه يتحول إلى عقبة، والحوار المطمئن بين الطرفين تعقد وتعثر، ولم يكن الحوار بين الطرفين مجرد وقوع في سوء فهم، وإنما كان وقوعا فيما هو أخطر، وكانت الحقائق الغاطسة في الحالة المصرية موجودة حتى وإن لم تكن هذه الحقائق ظاهرة أمام الطرفين فإن مفعول هذه الحقائق كان محسوسا في الوعي العام دون تعبير واضح عنه، وحدث أن كل طرف لم يحسن تقدير موقف الطرف الآخر".
وأكد هيكل أن الشباب يرى أن المجلس لو لم يستطع أن يساعد على التغيير، فإنه لا يصح له اعتراض طريقه، وفي حالة أي خلاف فإن استفحاله دعوة إلى التجاوز، خصوصا وأنه بمنطق الشباب فإنه إذا لم تكن هناك حرب أو احتمال حرب أو مواجهة أو تهديد، إذن فمن أين العصمة؟؟..وعلى نحو ما فإن هذا التجاوز زاد أحيانا عن حده في شعارات وحتى أناشيد متحدثة عن "حكم العسكر" وعن "الخروج الآمن للعسكر" وبعض ذلك شرد عن القصد وابتعد عن العدل.
وأكد هيكل أن دواعي الخلاف ظهرت مبكرا جدا، وأوضح ذلك قائلا: "على سبيل المثال فإنني أظن أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم يكن يفكر في تقديم مبارك للمحاكمة، بل حدث عندما قمت بلفت النظر مرة إلى ما يجري في موقع شرم الشيخ، عندما كان مبارك يعيش فيها، وقد أقام فيها شهورا، كما لو أن شيئا لم يحدث في مصر".
وشدد هيكل على أن الأمور تفاقمت بين الشباب والمجلس العسكري عندما استجاب الأخير لطلب محاكمة مبارك، لكن المحاكمة جرت بعيدا عن السياسة تماما، أو بعيدا عن التاريخ، كأننا أمام قضية اختلاس أو نشل، أو سرقة أسلاك كهرباء.
وقال هيكل: "اعترف أنني شخصيا لم أفهم الإصرار أن الاستجابة للمطالب لا تبدأ إلا في مناسبات معينة، وتحسبا لمواقف بالذات يراد تجاوزها، ولم أفهم سياسة تأجيل قضايا ملحة، مرة لأنهم لا يريدون مشاكل، ومرة أخرى بذريعة أن هذه موضوعات تترك للأوضاع الدائمة بعد المرحلة الانتقالية".
وأوضح هيكل مقصده قائلا إن المجلس العسكري مثقل، فالقيود كلها عليه، والمحاذير كلها أمامه، وللأمانة فإن المجلس العسكري وجد نفسه في موقف لم يكن من صنع أعضائه، ولا تم بحضورهم ورضاهم، وإنما وجدوه أمامهم أو وجدوا أنفسهم أمامه، ولعلهم أحسوا أنهم من ضحاياه، وليسوا شركاء فيه.

شاهد المحتوى الأصلي علي بوابة الفجر الاليكترونية - هيكل يُكمل كشف الاسرار : " مبارك قُدم للمحاكمة بسببي "
__________________
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 12:59 PM.