اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > رمضان كريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #16  
قديم 06-07-2015, 11:00 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي


أسرار القرآن في شهر رمضان



خميس النقيب

نعيش مع كتاب الله - عزَّ وجلَّ - نعيش مع هذا القرآن، عطاءِ الله للأمَّة في شهر رمضان؛ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، كتاب مبارك: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ [الأنعام: 92]، أُنزل في ليلة مباركة: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3] ليلة السلام، ليلة الأمن، ليلة القدر؛ ﴿ إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 1- 5].

نعيش مع كتاب الله الذي ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].
لو أن أمَّة من الأمم أُعْطِيت آية واحدة صحيحة من هذا الكتاب لاتَّخذَتْ ذلك اليوم عِيدًا، ولعَضَّتْ عليها بالنواجذ.
إنَّ الله - تعالى - اختارها لِهَذا الكتاب، واختار هذا الكتاب لها، رُزِقت القيادة، ورُزقت الرِّيادة، وجعَلها الله - عزَّ وجلَّ - الأمة الوارثة؛ ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105]، وجعَلَها أمَّة الخيريَّة: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ [آل عمران:110]، وجعَلَها الله الأُمَّة الشاهدة على الأمم يوم القيامة؛ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].
لِتَكونوا شهداء على الناس بهذا الكتاب، ويكون الرسول عليكم شهيدًا أيضًا في هذا الكتاب، بلْ ذِكْر الأمَّة مرتبط بالقرآن؛ ﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]، فيه مجْدُكم، وفيه عِزُّكم، وفيه علُوُّكم؛ ﴿ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].
حياة أفضل بالقرآن، وطريقة أفْضَل بالقرآن، وشريعة أفْضل بالقرآن، وإنَّ هذا الكتاب ليَشْكو إلى الله - عزَّ وجلَّ - هذه الأمَّة، لماذا اخْتارت الجهل وأمَامَها العلم؟! وهي أمَّة اقرأ؛ ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، اختارت الذِّلَّة وأمَامها العزَّة؛ ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 139] اختارت الضَّلاَلة وقد هداهَا الله ربُّ العالَمين، ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 39] ﴿ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 178].
الأمم السابقة آثروا العمَى على الهدى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [فصلت: 17].
إذًا؛ كتاب ربِّكم بين أيديكم، أيْن أنْتَ من حَلاله وحرامه؟ أين أنت من ذِكْره وشُكْره؟ أين أنت من تلاوته وترتيله؟ أين أنت من حروفه وحدُوده؟ أين أنت من أمْرِه ونَهْيه؟! هل تعلَّمْتَ تلاوته وترتيله؟ هل تدبَّرْت آياتِه ومعانِيَه؟ هل علَّمْتَه أولادك؟ إنَّه حبْل الله المتين، ونورُه المبين، وصراطه المستقيم، ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43] نعَم، سوف تُسألون عن آياته، وعن حرُوفه وعن حدوده، وعن أمره ونَهْيه، كتاب الله - عزَّ وجلَّ - مَن ترَكَه مِن جبَّار قصَمه الله، ومَن جعلَه خلْفَ ظهْرِه أضلَّه الله، ومن صَدَّ الناس عنه أذَلَّه الله!
كتاب يستقيم مع الفطرة: هل يَحْيا السمك بلا ماء؟! هل يَعيش البشر بلا هواء؟! كلاَّ! كذلك الكون يَحتاج إلى منهج لِيَنتظم مع فطرة الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30] منهج الإصلاح ومنهج التصحيح، منهج الذِّكْر: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ [الأنبياء: 10] ومنهج العلو ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139] دستور القوامة والبشر في الأرض؛ ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9] المنهج الحاجز من التدَنِّي، والمانع من الجهالة والعاصم من الضلالة؛ ((ترَكْتُ فيكم شيئين لَن تضلُّوا بعدَهما: كتاب الله وسنَّتِي، ولن يتفرَّقا حتَّى يَرِدا عليَّ الحوض))؛ تخريج السيوطي، عن أبي هريرة، تحقيق الألباني: "صحيح" انظر حديث رقم: 2937 في "صحيح الجامع".
ويقول الله - تعالى -: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
إن الإسلام منهج حياة بالقائد القرآني، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم المنهج الربَّاني وهو الكتاب والسُّنَّة، ثم بالجِيل الذي يَقتدي بالرسول القرآني، ويطبِّق المنهج الرباني.
الله - تعالى - يقول: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23] أحسن الحديث تلين له الجلود وتخشع له القلوب، والله - عزَّ وجلَّ - قد وصَف عباده عندما يقرؤون كتاب الله: ﴿ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73] كيف؟ لا يَسمعونه سَماع الصُّم، لا يقرؤونه قراءة المنافقين، كيف؟ ((رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه))؛ يقْرَأ آيات الصدق ويكْذِب، ويقرأ آيات الإخلاص ويُشْرِك، ويقرأ آيات العدل ويظلم، رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه.
أمَّا عباد الرحمن عندما يَجلسون مع القرآن فلَهُم آذان مصْغِية، ولهم قلوب واعية، ولهم أعْين راعية، ترعَى حدود الله - عزَّ وجلَّ - فلا تتعدَّاها.
كتاب الله - عزَّ وجلَّ - أنزله على قلب رسوله؛ ليقرأه على الناس على مكث لتخشع قلوبهم، وتتطهَّر صدورهم، وتتزكَّى نفوسهم، وتتألَّق عقولهم؛ ليتعرَّفوا على ربهم وخالقهم ورازقهم - سبحانه وتعالى.
كتاب ربَّاني شامل:
القرآن فيه آيات الله وأسماؤه وصفاته، فيه صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين، ومصاير هؤلاء، فيه الجنة والنار، فيه الوعد والوَعِيد، فيه الترغيب والترْهيب، فيه الأمر والنَّهْي، قال - تعالى -: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89].
كيف لا، وهو رُوحٌ تسْري في الأمَّة؟! ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].
كيف لا، وهو حياة تَنْعم بها الأمَّة؟! ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122].
كيف لا، وهو شفاء؟! ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82].
كيف لا، وهو سبيل الهداية لِمَا يُصْلِح البلاد والعباد؟! ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9].
كيف لا، وهو حَبْل الله المَتِين، ونُورُه المبين، وصراطه المستقيم، مَن قال به صدَق، ومن حَكَم به عدَل، ومن عَمل به أُجِر، ومن دَعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم؟!
لكل مؤلِّف كتاب، ولكلِّ شاعر ديوان، ولكل فيْلسوف منْطِق، وكلٌّ يقدِّم لِعَملهقائلاً: "إنْ كان هناك تقصير فمن نفسي وان كان غير ذلك فمن الله"، أمَّا كتاب الله فالأمْر فيه يَختلف؛ إنه - سبحانه - يقدِّم له بقوله: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [البقرة: 2].
أين نحن من هذا المنْهج الربَّاني؟ أين نحن من دسْتور الأمَّة؟ أيْن نَحْن من حبل الله المتين؟ ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103] أين نحن من حلاله وحرامه؟ مِن دوائه وشفائه؟ من أمْرِه ونهيه؟ من وعْده ووعيده؟ من ترغيبه وترهيبه؟! بل أين نَحن من تلاوته وتدَبُّره والتأثُّر به ذِكْرًا ووجَلاً وقربًا من الله - عزَّ وجلَّ؟!


أمَّة بغير قرآن كيف سيكون حالُها؟! أمَّة بغير منْهج كهذا: كيف سيكون مصيرها؟! أمَّة عطَّلَت آياتِه وأحكامَه وحدودَه وهي جريمة شنيعة كيف سيكون مآلُها.
كتاب للتدبر والتذكر:
جاء القرآن كتابًا مبارَكًا من عند الله؛ لِتَتَّبِعه الأمَّة؛ ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]؛ لتتدبره الأمة؛ ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، ولا تُنْكِرَه؛ ﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [الأنبياء:50]، يَصُونوا حدوده، ويَرْعوا عهوده، يحفظوا كلماته ويدَّبَّرُوا آياته؛ ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]! كتاب تأثَّر به كلُّ شيء في الحياة:
تأثَّر المشْرِك حين سمع القرآن فقال: إنَّ له لَحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعْلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يَعْلو ولا يُعْلَى عليه.
سَمعه أهل الكتاب فخشعت قلوبُهم، ودمعت أعينهم، وآمنوا بالله ورسوله؛ ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83].
سمِعَتْه الجن ﴿ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن:1،2] ﴿ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 29] وتحوَّلوا إلى دُعاة لهذا المنهج؛ ﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 31].
سَمِعه الجماد، فخشَع من خشية الله؛ ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].
هل بَعد ذلك يتأثَّر المؤمن عند سَماعه للقرآن؟ نعَم، المؤْمن الحقُّ يتأثَّر ويزداد إيمانًا؛ ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
كتاب يطمْئِنُ النفوس، ويُسكن الأرواح، ويُفْرِح القلوب:
ظنَّ البعض بأنَّ مرور الزمان يقلِّل من صلاحية القرآن في الهداية، وهذا خطأ على الإطْلاق؛ فالقرآن هو كتابُ هداية مطْلَق متَى فَهِمه الإنسان فهْمًا صحيحًا، وأنَّ هداية القرآن ليست مُرتبطة بظرف أو زمان؛ ففي كلِّ الظروف هناك هداية ربَّانية، القرآن الكريم له صفة الإطلاق والقطعيَّة والَّتي لا يتَّصِف بها غيره من الكتب السَّماوية، كما أنَّ القرآن يُعْنَى بالكلِّيات والأمور العامة والأصول الثابتة الَّتي لا علاقة لها بالمتغيِّرات.
كما أنَّ إعجاز القرآن هو إعجاز عِلْمي يَصْلح في كلِّ زمان ومكان، كما أنَّ القرآن نزل للناس جميعًا على كافَّة مسْتوياتهم، لكنَّ الكثير من المسلمين غاب عنهم "تفعيل القرآن في الحياة".
وإنَّ القرآن أصْبح يُقرأ في المآتم أو على الأمْوات، ويَستأجرون مَن يَقرأ عليهم؛ ممَّا طبَع في أذهان الكثير من العوامِّ أنَّ القرآن يُقْرَأ في الأحزان فقط، في حين أنَّ القرْآن جاء للطمأنينة والسَّكِينة والفرح والغِبْطة والسرور، بل إنَّ القرآن جاء أيضًا لإِحْياء القلوب والعقول.
فالقرآن الكريم ربَّى الأمَّة المسلمة على كيفية التعامل والتعايش مع الأُمَم الأخرى؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، وقال - تعالى -: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [البقرة: 83].
يُرْوَى أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يَسِير في طرقات المدينة، وإذا به يرى طفلاً صغيرًا ذاهبًا إلى المسجد؛ ليحْفظ كتاب الله، وكان هذا الفتى يمشِي كعادة الفِتْية لاهيًا ولاعبًا في طريقه، لكنَّه كان يردِّد آيات الله التي سيَقوم بتسميعها لمعلِّمه في المسجد، وإذا بأذُنِ عمر بن الخطاب تَسمع هذه الآية من هذا الصبي الصغير: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7 8] فسقط عمر بن الخطاب من سماعها علي الأرض مغشيًّا عليه، وكلما كلَّمَه أحد قال: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7 8] يا ربِّ ارْحم عمر بن الخطاب، يا رب ارحم عمرَ بن الخطاب، وظل مريضًا في فراشه لمدَّة شهْر!.
صلاح الدِّين يتفَقَّد خِيَام الجند ليلاً قُبيل حطِّين، فيَسمع أزيز صدور جنودٍ يَقُومون الليل ويَقرؤون القرآنَ فيشير للخيمة محدِّثًا مساعده، قائلاً: من هنا يَأتي النَّصْر، ثم يمرُّ على خيمةٍ أخرى فيَسمع جنودًا يَلْهُون ويلعبون، فيقول: ومن هنا تأتي الهزيمة.
قال عبد الله بن مسعود: إنَّ أحَدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته، لا يُسْقِط منه حرفًا واحدًا، وقد أسقَط العمل به.
هل تتأثَّر لتلاوة القرآن أو لسماعه؟
يقول صاحب "الظِّلال": "الحياة في ظلال القرآن نعْمة، نعمةٌ لا يعرفها إلاَّ مَن ذاقها، نعمة تَرفع العمر وتباركه وتزكِّيه".
وهذا بطل العالَم في الملاكمة "محمد علي كلاي" عام 1960 لما بلَغ العشرين من عمره حصَل على لقب بطل العالَم في الملاكمة في أقْصَر المباريات، وأمام ضَجِيج المعْجَبين، وفلاشات آلات التصوير أَعْلَن إسْلامه قائلاً: "أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله"، ولمَّا سُئِل عن سبب إسلامه قال: "بدَأْتُ أعيش مع القرآن، وخاصَّةً مع الفاتحة أوَّلِ سورة حَفِظتها منه، وبدأتُ رحلةَ الإسلام رحلةَ طُمَأنينة، ورحلة إيمان يَعِيشها صاحبُها بتعاليم خالِقه" وقال: "إننا لو قُمْنا بهذه الدعوة سنَجِد حشودًا كبيرة تَدخل إلي الإسلام، الَّذي عنْدما تقارنه بغيره مِن الأديان تعرف أنَّه الدِّين الذي يهدي القلوب إلى دين الحق والنقاء".
جاء القرآن لتأسيس أصُول الحياة وبناء الحياة ونشْر العدالة والمساواة بين الناس، قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70].
كما أنَّ القرآن دعا إلى الحرِّية، فمِن نُظُمِ القرآن في الهداية والإصلاح "الإعداد للمستقبل"، مثلما جاء في قصة سيدنا يوسف: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ﴾ [يوسف: 47]، فالقصَّة ليست استثناءً، ولكنها دعوة للمسلمين جميعًا إلى التخطيط والإعداد للمستقبل.
ولقد استوعبَ القرآنُ الحضاراتِ السابقة؛ فالقرآن الَّذي هو منهاج الإسلام لم يأت للقضاء على الحضارات السابقة، ولكنْ لتقويمها وتصليحها وتعديلها، والاستفادة من تَجارِبها، ولقد رَحَّب الإسلام بكل منْجَزات البشرية، والتي لا تتعارَضُ وإنسانيةَ الإسلام، نزَل مفرَّقًا على ثلاثة وعشرين عامًا على مُكْث؛ لِتُعْلِمَ الناس بما فيه.
وعلى هذا؛ فإنَّ جَميع المسلمين مدْعوُّون كلٌّ على قدْر استطاعته إلى العمل بما يخْدم الإسلام والمسلمين، وبالوسائل الممْكِنة والنافعة، فإنَّ الفلاح كلَّ الفلاح في الأخْذ بهذا المنهج القويم، وصدَق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّي تارِكٌ فيكم ما إنْ تمَسَّكتم به لن تَضِلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنَّتِي))؛ صحيح مسلم.
والأمَّة التي تَستمسك بِهذا القرآن قادمة، نَرى بشائرها في الجهاد المقدَّس، وفي امْتلاء المساجد، وفي الأمْر بالمعروف، وفي النهي عن المنكر، وفي المواقف القويَّة التي تَقُول للفاجر: قِفْ، وللظالِم: توقَّف، وللناسي: تذكَّر، وللجاهل: تعلَّم، وللمقصِّر: عُد، وللمذْنِب: استغْفِر، وللضالِّ: اهْتَدِ.
نريد الصَّحْوة التي تنبعث من أعماق البيوت، وتَخرج من أعماق المساجد، وتَدخل في أعماق القلوب؛ لتحرِّكها بالله، وتَجمعها على الله، وتذكِّرها بالله؛ ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45] وتؤثِّر فيها بكتاب الله؛ ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10].
اللَّهم اهْدِنا إلى العمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك، وارْزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تَجْعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبْلغ عِلْمنا، وصلَّى الله على محمد، وعلى آله وصحْبه وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 07-07-2015, 07:52 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (35)
بخاري أحمد عبده





قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].



تذكير وتبرير:

رمضان كان قاعدةَ العمل الإسلامي الأوَّل؛ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾، وهو - باعتباره مهْدَ الدِّين، ومنطلق أوَّل إشعاعاته - لا يزال المثابة والمحفِّز، ومصدر الإلهام لكلِّ الغَيورين العاملين في حقْل الدعوة؛ يصنعون الصحوة، ويَرجون الانتفاضة.



وعلى أضواء هذا الشهر الكريم، تستبين الشوائب والعِلل، والعوائق التي تعوق استمرار الشَّحْذ، أو تشوِّه جلال العمل الإسلامي.



فلا عجب إذ ذهبْنا كلَّ مذهب في استيحاء آيات الصيام، وإذا مضَيْنا نقدح ونقدح[1] زَنْد الفكر المسلم؛ عسى أن نَخرج مما نعاني من صلودٍ وخمود، عسى أن نقدَح فنُوري.



لا عجب إذا أطلْنا الوقوف أمام الظاهرة المرضية المتمثِّلة في إهدار بعض الذين يَحْبون - بفتح الباء وسكون الحاء - أو يَجثمون على الساحة الإسلامية قيمة الظروف في تشكيل الناس، وتكييف الدُّعاة، وتحديد الأسلوب.



فنحن إذ نُصدِّر المقالات بآيات الصيام، ثم نتجاوزها إلى منعطفات واهتمامات قد تخال بعيدة عن نطاق الآيات لا نشطحُ، أو نستطرد فنوغِل في البُعد، والحق أن مثلَنا كمثل مَن يرْقُب السماء بليلٍ، فيرى - فيما يرى - زُحَل وعَطارد والثُّريا، وسهيلاً، والزهرة... إلخ.



أو كمثل مَن يُشعِل عود الثِّقاب يبحث عن شيٍء بعينه، فيرى - مع الشيء - أشياءَ وأشياءَ.



لياقة مدعومة:

لقد عَلِمنا أنَّ الإسلام بكلِّ روافده فضاءٌ مَهِيب يعجُّ بالأنوار، وأنَّ هذه الأنوار تتعامل مع زمان بركاني يثور ثورةً عارمة، ويعتدل ويَسْكن، إلاَّ أنه حين يسكن يستجمع جأْشه، ويعبِّئ حِمَمه وقذائفه، أو قُلْ: مع زمان كالبحر المحيط يُصاب بالمدِّ والجَزْر، والسيولة والتجمُّد، والبرودة والدِّفء، والهياج والهدوء؛ تبعًا لتغاير الأزمنة واختلاف الأمكنة.



والتعامل مع أضواء الإسلام في هذا الخِضَم الهادر محفوفٌ بالمكاره، والاستعانة بها: ﴿ لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45]، واستقبالها يتطلَّب لياقة سامية، وقُدرات عالية؛ ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35].



وقُدرات الإنسان - مهما علَتْ - محدودة قاصرة، وفضْلُ الله وحْده هو الذي يَدْعم القصور ويَجبر كسْرَ الإنسان؛ ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 21]، ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [النساء: 83].



وجبة توحيد:

والأنوار التي ننشدها تتكامل متضافرة متلاحمة؛ لتغدو أطواقَ النجاة، بل فلك السلامة الذي نعتصم به في خِضَمِّ الحياة بين الأعاصير والأنواء، وجبال الجليد؛ لتكون الصوارف التي تقذفُ بالشرور والشَّرَر بعيدًا، حوالَيْنا ولا علينا.



ونسارع فنقول: إن كلَّ تلك الأغراض الهادرة الصاخبة التي تنتاب الوجودَ ليستْ تلقائيَّة، ولا وليدة قوى الطبيعة العمياء، ولا نتيجة التفاعل العشوائي بين عناصر الكون، بل وراءها - كما أسلفنا - قَدَرُ الله وقُدرته، وتصاريفه وإرادته الحاكمة القاهرة؛ ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 163 - 165].



هو وَحْده الذي يُثير ويُزْجي، ويؤجِّج ويُخْمِد، ويصيب بالصواعق، ويَصْرف ويُقلِّب الأزمنة والأمكنة، والمحسوس والمعنوي، والأفئدة والأبصار؛ ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور 42 - 44].



إنه - سبحانه - لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام؛ ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ ﴾ [البقرة: 255].



ومخافة مَكْرهِ ورجاء عطائه عَلَّمنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن نكون دائمًا في مقدمة السائلين، وأن نستعيذَ به من التقليب؛ عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُكْثر أن يقول: ((يا مُقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، فقلتُ: يا نبيَّ الله، آمنَّا بك وبما جئتَ به، فهل تخاف علينا؟ قال: ((نعم، إن القلوب بين أُصبعين من أصابع الله، يقلِّبها كيف يشاء))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، وهو على شرْط مسلم.



إن الكون كلَّه - بتُخومه الوَعْرة، وأجوائه المتقلِّبة، وأحواله المتغايرة - مُسْتَبَق الكائنات، فمَن اتَّخذ العُدة، ونظَر في طبائع الأشياء، ورصَدَ المزالق والمهاوي، مستهديًا بالأنوار الربَّانيَّة، مستشفيًا بالأَشْفِيَة الرحمانيَّة، جَبَر الله قصورَه، وأحاطَه بأفضاله.



عود إلى فاعلية الظروف:

إن الدهر قلوب[2]، والزمان في تقلُّبه ودورانه يطوي، وينشر، ويدمغ، كآلة الطباعة تترك طابعها على ما تضم من شيء، كذلك الزمان؛ يسم بميسمه، ويدمغ بنقوشه، فيُحدِث في الأجيال تغييرات مباشرة، وغير مباشرة في النفس، والمزاج، والفكر، وكما تتعدَّد آلة الطباعة وتتغيَّر، كذلك تتعدَّد نقوش الزمن وتتغيَّر، وتبعًا لهذا تتغاير الأجيال، وتتميَّز بالرغم من السمات المشتركة التي تجمع بينها - بالرغم من العِرق المشترك، ومقتضى هذا أن الإنسان الذي انفعَل بزمان غابر له ملامحه وقسماته غير الإنسان الذي انفعَل بزمان حاضر تطوَّر وتحضَّر، والإنسان الذي تأثَّر ببيئة مزدهرة خضراء غير الذي انفعَل ببيئة مُقفرة جرْداء، والذي تأثَّر بأجواء الضباب غير الذي تأثَّر بالدوِّ[3]، والكُثبان، والسراب.



والنتيجة أن لكلِّ فوجٍ من تلك الأفواج رؤيته المتأثرة بظروفه النابعة من موقفه على السُّلَّم الزمني، وله كذلك طريقته في الإرسال والاستقبال، والتحليل والتمثيل والاستنباط، والإقناع والتأثير.



ووعي هذه الملابسات التي تُعرض للناس هو في ظني من الحِكمة التي نوَّه المولَى بها، وهو يضع للناس أصول الدعوة إلى سبيله؛ ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].



إدراك الأوَّلين ومعارفهم مستمدَّة من تُراثهم المحدود، ومن زادهم المتاح، وإدراك الآخرين رهْنٌ بتراثهم الممدود، وزادهم المتزايد، وصدق الله إذ يقول: ﴿ فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾ [الرعد: 17].



الحق أن الإنسان مرتبط بدهْره وعصره، وأي انفصال عن عصْره يطرحه أرضًا نهبَ الحوافر والأظلاف، والأقدام والعجلات.




إن الفصول الأربعة - وهي تتعاقب في حيِّز محدود - لها تأثيرها البالغ على النفس، فكيف إذا طال المدَى؟!



عصمة الدين وأدب الدعوة:

الإسلام دين كل الأزمنة والأمكنة، فهل يتعرَّض كالإنسان لعوامل التعرية والتربية، للتغيُّر والنقْص والزيادة؟

إن الله الذي أنزَل هذا الدين للأوَّلين والآخرين، وللبادِين والحاضرين[4]، كتَب على نفسه أن يحفظ الذِّكر، وإنْ هان الذاكرون؛ ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].



وكفَلَ رِفْعة الدِّين، واستمرار المسيرة، وإنْ تهاوى الدُّعاة، وذَلَّ المسلمون؛ ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ [التوبة: 33، الصف:9].



وتعهَّد - سبحانه - أن تظلَّ نفحات القرآن نَدِيَّة، سحَّاء، مُشرقة، تُتيح وضوحَ الرؤية، وترشد حَمَلَة المشاعل؛ حتى يواصلوا السَّيْر متتابِعين، ويَبلغوا بالإسلام مغربَ الشمس، وإن طال المدى، وتضاءَلت الفُرص؛ ((إنما بقاؤكم فيما سلَف قبلكم من الأُمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أُوتي أهل التوراة التوراةَ، فعملوا حتى إذا انتصَف النهار، عجزوا فأُعطوا قيراطًا، قيراطًا، ثم أُوتي أهل الإنجيل الإنجيلَ، فعَمِلوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا فأُعطوا قيراطًا، قيراطًا، ثم أُوتينا القرآن، فعَمِلنا إلى غروب الشمس، فأُعطينا قيراطين، قيراطين... إلخ))؛ البخاري.



والمولى تحقيقًا لكلِّ هذا، وعِصمةً لدينه من تقلُّبات الأجواء والأهواء، ثبَّت أصول هذا الدين، وحصَّن جذورَه من أن تمسَّها آفاتٌ، أو يصيبها نحرٌ أو وخرٌ، فألْزَمَ بالاتِّباع، وأنْكَر الابتداع، وحرَّم تعدِّي الحدود، والحوم حوْلَ الحِمَى؛ عن النعمان بن بشير عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الحلال بيِّنٌ، والحرام بيِّنٌ، وبينهما مُشَبَّهات لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمَن اتَّقى الشُّبهات، فقد استبرأَ لعِرْضه ودينه، ومَن وقَع في الشُّبهات، كراعٍ يرعى حول الحِمَى يُوشِك أن يواقِعَه، ألاَ وإنَّ لكلِّ ملك حِمًى، ألاَ وإنَّ حِمَى الله في أرضه مَحارمه...))؛ البخاري.



وهكذا تظلُّ أصول الدين منيعة، وتظلُّ ساحته مقدَّسة، لا يقتحمها فكرٌ بشري غير معصوم.



وصفحة الدِّين قد يشوب صفوها غُبارٌ يُثيره ركضُ الشيطان، أو كيْد الأعداء، أو سقوط الأنصار، إلاَّ أنَّ المولى - جل وعلا - قيَّض - بتشديد الياء المفتوحة - للدِّين مَن يُجليه، ويُجَدِّد رُواءَه؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يحمل هذا الدِّين من كلِّ خلفٍ عُدولُه، يَنفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين))[5].



ومثل هذا ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله يبعث لهذه الأُمَّة على رأس كلِّ مائة عام مَن يُجدِّد لها دينها))؛ رواه أبو داود، والحاكم في المستدرك، وصحَّحه الذهبي.



شيخوخة الحياة:

وكلَّما تراكَم الغبار، أو تكاتَف الزَّبَدُ، هيَّأ الله لدينه مَن ينفض ويَجلو صفحته.



وكلَّما ظهرت البِدَع، وتفشَّى التحريف والتخريف، قيَّض الله مَن يصدُّ ويَحمي.



وكلَّما عَظُم الكيْدُ، وبُرِيَت السِّهام، وكِيلتْ للدِّين الضَّربات، يبعث الله مَن يذود ويردُّ.



هكذا تظلُّ طائفة من الأُمَّة ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خالفهم؛ مصداقَ حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.



وهكذا حتى إذا قُبِض العلم، وقُضِي الأمر، شاخَت الدنيا، وتهيَّأت لشِرار الناس.



ويومئذ فقط يُعْفَى - بالبناء للمجهول - المجاهد، وتُرْفَع فريضة الجهاد؛ مصداقَ ما أخرجه أبو داود عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((... والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتِلَ آخرُ أُمَّتي الدَّجال...))[6]، ومصداق ما جاء في صحيح مسلم[7] مِن أنه إذا قُتِل الدَّجال، وظهَر يأْجوج ومأجوج، لجأ عيسى - عليه السلام - بِمَن معه إلى الجبال - لعدم قُدرته عليهم، فلا يجب عليه قتالُهم - حتى إذا أهلَكهم الله بأمْرٍ من عنده، وطهَّر الأرض منهم، بعَث ريحًا طيِّبة، تَقبض رُوح كلِّ مؤمنٍ ومسلم ممن عصَمهم الله من فتنة الدَّجال، ولا يبْقى بعدهم إلاَّ شِرَارُ الناس، حتى تقوم الساعة؛ ا. هـ.



والساعة توافِق شيخوخة الحياة، فالحياة بكلِّ معنويَّاتها يجري عليها ما يجري على الأحياء؛ ﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ [الحج: 5].



فالأيَّام مركب الإنسان إلى أرْذَل العُمر، وهي أيضًا مركب الأجيال، ومركب الحياة نفسها، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ﴾ [يس: 68].



وشيخوخة الحياة بما تُخَبِّئ من مخاطر، وبما تدَّخِر من ويلات، كان يتمثَّلها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيَرَاع، ويَقلق؛ خوفًا على أُمَّته أن تُضام، أو تُفتن، وتُسْعر[8] - بالبناء للمجهول - وطالما حذَّر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من آخر الزمان تحذيرًا يكشف المخاطر، ويصوِّر المخالِبَ والأنياب، من ذلك:

1- ((يأتي على أُمَّتي زمان، الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمْر))؛ رواه الترمذي عن أنس، وقال: غريب الإسناد.



2- وما رواه أحمد عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يكون في آخر الزمان أقوامٌ إخوان العلانية، أعداء السَّريرة))، قيل: وكيف يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: ((ذلك برغبة بعضهم في بعض، ورَهْبة بعضهم من بعض)).



هذا ولعلَّ العلانية هنا تشي بالمادية التي لا تؤمن إلاَّ بالمشاهَد المحسوس وليدِ التجربة.



3- وما رواه البيهقي في "شُعَب الإيمان" عن عمر بن الخطاب عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنه يُصيب أُمَّتي في آخر الزمان من سُلْطانهم شدائدُ، لا ينجو منها إلاَّ رجل عرَف دينَ الله، فجاهَد عليه بلسانه ويده وقلبه، فذلك الذي سبَقت له السوابقُ، ورجل عرَف دين الله، فصدَّق به، ورجل عرَف دين الله، فسكَت عليه، فإن رأى مَن يعمل الخير أحبَّه، وإن رأى مَن يعمل بباطلٍ أبغَضه، فذلك ينجو على إبطائه كلِّه))[9].



4- وما رواه الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يخرج في آخر الزمان رجالٌ يَخْتلون الدنيا بالدِّين، يَلْبَسون للناس جلودَ الضأْن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذِّئاب؛ يقول الله: أبِي يغترون؟ أم عليّ يَجْترئون؟ فِبي حَلَفتُ لأبعثنَّ على أولئك منهم فتنةً تدَعُ الحليم فيهم حيرانَ))[10].



والمؤثرات الأخرى:

وهؤلاء وغيرهم ممن أشارتْ إليهم الأحاديث هم صنائع الزمان، شُكِّلوا في بَوْتقته، وصِيغوا بضواغطه، وعُرِضوا - بالبناء للمجهول - ليبقوا براهينَ على فعْل الزمان، ووشْم الزمان، ووصْم الزمان.



والإنسان يتفاعل تفاعُلاً يكاد يكون كيميائيًّا مع الظروف الواقعية التي تَعتريه أو تلابِسُه، فهو يطغى أن رآه استغنى، وهو يضطرب بين النقائض حين يُبْلَى؛ ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 19 - 21].



وهو يغيب عن رُشده إذا مسَّته سرَّاء، ويثوب إذا مسَّته ضرَّاء؛ ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ [فصلت: 51].



وهو - في جملته - أسيرُ حالتيْن رهيبتَيْن، تتأرْجَحان به - إن لَم يَعتصم بالله؛ ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [هود: 9 - 11].



وهو إن لَم يُوغِل في هذه الحالات إيغالاً، مسَّته نفحة منها، فالثروة مثلاً إذا هَبَطت على امرئ ما، تغيَّر حاله فجَدَّت له أشواق، واستحْدَثت اهتمامات، وظهَرت تَطلُّعات، واجْتَذَبتْه ساحات، وتولَّدت فيه طاقات، حتى إن العين لتكاد تُنكره، وتُنكر أمرَه.



وكذلك الجاه والشهرة، وكذلك كلُّ ارتقاءٍ مِن حالٍ إلى حال، وليس شرطًا أن يكون التغيير إلى أسوأ، ولكنَّه على أيَّة حالٍ تغيُّر غريب، كثيرًا ما يؤثِّر على أفكاره، وتصوُّراته، وعطائه... إلخ.



ولقد رَوى تاريخ الأدب قصة ذلك الشاعر البدوي[11] الذي اختزنَ مناظر البادية، فراح ينضحُ بما فيه، وقصَد الخليفة مادحًا، فقال:



أَنْتَ كَالْكَلْبِ فِي حِفَاظِكِ للْوُدْ

دِ وَكاَلتَّيْسِ فِي قِرَاعِ الخُطُوبِ




أَنتَ كَالدَّلْوِ لاَ عَدِمْنَاكَ دَلْوًا

مِنْ كِبَارِ الدِّلاَ كَثِيرَ الذَّنُوبِ







فثارَ عليه في مجلس الخليفة مَن ثار، وزَجَره مَن زَجَر، وسبَّه مَن سبَّ، ولكنَّ الخليفة أدْرَك أنه شاعرٌ يعكس ما رأى، ويُشبِّه بما عرَف، فنقله إلى حيث النَّضارة، والرِّقة، والماء، والخُضرة، فلَبِث هناك ما لَبِث، ثم عاوَد الخليفة ينشد في مجلسه القصيدة العذبة المشهورة التي مَطلعها.





عُيُونُ المَهَا بَيْنَ الرُّصَافَةِ وَالجِسْرِ

جَلَبْنَ الهَوَى مِنْ حَيثُ أَدْرِي وَلاَ أَدْرِي







ذلك تأثير الظروف، وطابع البيئة، والداعية الذي يُشَقْشق دون أن يحسبَ حساب هذه النوازع، ودون أن يَفطِنَ إلى طابع الزمان، ومُتطلبات العصر، يتعاطى ما لا يُحسِن، ويتحمَّل من البلاء ما لا يُطيق، والسلف الصالح راعوا النوازع البشرية بقدْر ما أُتيح لهم؛ فقد رَوى البخاري عن عِكْرمة عن ابن عباس، قال: "حَدِّث الناسَ كلَّ جمعة مرَّة، فإن أبيتَ، فمرَّتين، فإن أكثرتَ، فثلاث مِرَارٍ، ولا تُمِلَّ الناس هذا القرآن، ولا أُلْفِيَنَّك تأتي القوم وهم في حديثٍ من حديثهم، فتقص عليهم، فتقطع حديثَهم، فتُمِلهم، ولكن أنْصِتْ، فإذا أمَرُوك، فحَدِّثهم وهم يشتهون، فانظر السجْعَ من الدعاء، فاجْتَنِبْهُ، فإني عَهِدتُ أصحاب رسول الله لا يفعلون ذلك[12].

يتبع







[1] الزَّنْد: عود يُقْدَح به النار، أو جسم صُلب يُحَكُّ بجسم مماثل؛ لتتَّقِدَ النار، تقول: قدحتُ بالزَّنْد إذا حككْته في زَنْدة سُفلى؛ طلبًا للنار، وتقول لِمَن أنجدك فأعانك: "وَرَتْ بك زَنْدي"، وصلَد الزَّنْد صلودًا إذا لَم يُورِ، وصَلُد - بضم اللام - بَخِل، وتقول: قدَح فأوْرَى إذا أشعَل، وقدَح فأصْلَد إذا فَشِل في الإيقاد.




[2] القلوب: المتقلِّب الكثير التقلُّب، والمراد بالدهر هنا حقيقته؛ أي: جماع الأزمنة كلها، أمَّا إطلاق الدهر على الله في الحديث: ((لا تسبُّوا الدهرَ؛ فإنَّ الدهر هو الله))، فمَن باب المجاز المرسل، إلا أن البعض عدَّ كلمة "الدهر" في الأسماء الحُسنى، متمسِّكًا بهذا الحديث، ورأى أهل اللغة أنه الأمد، أو الأبد، والحُوَّل القُلَّب - بضم الحاء، والقاف... وفتح الواو واللام مشددتين - البصير بتقلُّب الأمور.




[3] الدوُّ بالواو المشددة: الصحراء، والكثبان: جمع كثيب؛ أي: الرمال.




[4] البادون: هم أهل البادية، والحاضرون: هم أهل الحضَر.




[5] الحديث رواه إبراهيم بن عبدالرحمن مرسلاً، ولكنَّه رُوِي موصولاً عن طريق جماعة من الصحابة، وصحَّحه الإمام أحمد.




[6] الحديث في سنده مجهول، هو: يزيد بن أبي نُشْبَة الراوي عن أنس، لكن معنى الحديث صحيح.




[7] كتاب الفتن وأشراط الساعة، ج4، 2240، باب 18، وانظر: كنوز السُّنة، الحديث 13، "حقيقة الإيمان والإسلام".




[8] السُّعَار: الجنون والجوع والحَرُّ، والمسعور: الحريص على الأكْل - وإنْ مُلِئ بطنُه.




[9] في سنده ضَعف؛ كما في السلسلة الضعيفة.




[10] ضعيف؛ كما في ضعيف الجامع الصغير.




[11] هو كما قيل: علي بن الجهم، الشاعر العباسي المتوفَّى سنة 249هـ - 863م.




[12] أي: لا يتعمَّدونه.
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 07-07-2015, 07:56 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي


(نفحات قرأنية رمضانية)

في رحاب القرآن



أحمد مختار





﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأنعام: 34- 35]. صدق الله العظيم








يكادُ يكون محتوى هاتَين الآيتيْن واضحًا من القِراءة الأولى:


فالآية الأولى تتحدَّث عن النَّتيجة الحتميَّة للجولة التي يَخوضُها الرُّسل مع البشر، وهدفها تخليص هؤلاء من براثن الشِّرْك، وتبصِرتهم بأنَّ مصدر القوَّة كلها - على مختلف صُوَرِها ودرجاتِها - واحد، ومع أنَّ هذه النتيجة تَهدي إليْها الفطرة السليمة؛ إلاَّ أنَّ رحلة الإنسان إليْها رحلةٌ شاقَّة مَحفوفة بالضَّلال، الَّذي يعمي بصيرته عن الرؤْية النَّافذة لهذه الحقيقة.




فيغْشى بصرَه ما يغشاه من اعتزازٍ وكِبْر بقدرتِه العقليَّة، وظنّه أنَّها تستطيع أن تجعله مستقِلاًّ عن الكون الَّذي هو جزءٌ منه، ويظن أنَّ المكتشفات العلميَّة التي من المفروض أن تؤدِّي به إلى التَّسليم بعظمة الخالق، ستؤدِّي به إلى عكس ذلك، فيكون هو المتحكِّم في الكون، والمسيْطِر على نواميسِه، وصدق الله العظيم في وصْف هذه النَّظرة المتعالية عندما قال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [غافر: 56- 57].




ويغْشى قلبَه ما يغشاه من عجزٍ في تصوُّر القدرة الإلهيَّة الواحدة، وتعجز نفسُه عن التخلُّص من كل الأدْران، ويظل مشدودًا إلى قوى أدْنى منها، يتَّخذها للقوَّة العليا زلفى أو ندًّا، إلى غير ذلك من وسائل الشِّرْك، الَّتي ما أُرسل الرسل كلُّهم إلاَّ لتخْليص البشر من إسارِها، على اعتِبار أنَّ الشرك استعباد وحدٌّ من حريَّة الإنسان لحسابِ قوى لا تملك له نفعًا ولا ضرًّا، وأنَّ الإنسان الَّذي يسكُن التَّوحيد قلبَه ينظُر إلى كلِّ ما هو كائن في الحياة، على أنَّه مجرَّد علاقات لا تملك أيَّة واحدة منها قدرة عليْه، ويعالجها ويعاملها بالأُسْلوب المناسب لها: حلاًّ واستِفادة من التيقُّن الكامل أنَّ القوَّة لله جميعًا.




هذه النتيجة التي لا بدَّ أن يهتدي إليْها الإنسان بفطرتِه المجرَّدة، إن خلصت نظرته، هي التي عناها الله - تعالى - بأنَّها مضمونة النَّتيجة: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾ [المجادلة: 21]؛ أي: إنَّ رسالة التَّوحيد لا بدَّ منتصِرة، مهْما بعدت الشقَّة، ومهْما كثُرت التَّضْحِيات.




والَّذي نبغيه من الحديث عن الآيتَين الكريمتَين: هو أن نستمِرَّ فيما قصدْنا إليْه من إشعار كلِّ مسلم - إزاءَ الغزْو العَقَدي، وكثْرة ما يُقال عن وجوب استِقْلال المنهاج العِلْمي عن الدِّين - أنَّ هاتين الآيتَين الكريمتَين فيهما مثلٌ واضِح لكذِب هذا القول، وأنَّ الدِّين الإسلامي قائمٌ في جوهره على عدم انفِصام التَّفكير العلمي عن العقيدة؛ بل إنَّ هذا النَّوع من التَّفكير هو من مكوِّنات العقيدة الصَّحيحة.




وآية ذلك: أنَّ هاتين الآيتَين الكريمتَين تتكلَّمان عن كلِمات الله؛ أي: سُنَنه ونواميسه الكونيَّة، ومن بينها: أنَّ دعوات الرُّسُل الإصلاحيَّة تقتضي منهم التصدِّي لعناد النَّاس وتكْذيبهم وإيذائهم، شأنهم دائمًا شأْن كلِّ مَن يتصدَّى للإصْلاح، وأنَّ الصَّبر في مثل هذه المواقِف أمر لازم، وأمَّا ضيق الصَّدر والتعلُّق بعمل حاسم من الله، فإنَّه وإن كان ذلك في مقْدوره تعالى، إلاَّ أنَّه خارج عن نطاق السُّنَن الكونيَّة، وأنَّ التَّعلُّق بأنَّ الله قد يغيِّر هذه السُّنَن لأمر يعرض هو الجهْل وعدم الفهم.




والمهمَّة الصَّحيحة أن يؤمنوا أنَّ الحياة البشريَّة يَجب أن ينظر لها ككُل، لا كحلول فرديَّة، وأنَّ دَوْرَهم في هذه الحياة غيرُ مشروط بانتصار الحقِّ على أيديهم؛ بل قد يكون هذا الدَّور مجرَّد مساهمة، معها الآلاف بل ملايين من المساهَمات الخفيَّة أو غير الخفيَّة عن أعين الأفْراد، في تكْوين التيَّار الَّذي ينتهي إلى الهدَف العام، وهو التَّسْخير الكامل لما سخَّره الله لنا في هذا الكوْن، في ظلِّ اعتقادٍ راسخ في أنَّه لا إله إلا هو، والإيمان الكامِل بالله وملائكته وكتُبه ورسله.




ويوضِّح ذلك أنَّ الآيتين تقرِّران أنَّ رسالة الأنبِياء وإن كانوا مكلَّفين بها من الله - تعالى - إلاَّ أنَّها تخضع للنواميس الكونيَّة، وأنَّ الرَّسول لا يجوز له أن يتَّكل على ما يعتَقِدُه في قُدْرة الله على جَميع النَّاس على الإيمان، وإلاَّ لم تكن هناك حاجة إذًا لرسالتِه؛ بل إنَّ إرسال الرُّسل مبشِّرين ومنذِرين هو في حدِّ ذاتِه إفهامٌ لنا بأنَّ كلَّ شيء، حتَّى رسالاته - تعالى - تَخضع في انتِصارها لنفس النَّواميس والسُّنَن الموضوعة للعالم.




كيف يقال بعد ذلك: إن للعلم مجالاً وللدِّين مجالاً؟!






أيُّها المسلِم، إنَّ عقيدتَك لا تسمح لك فقط بالانطِلاق الفِكْري؛ بل تصِف تعلُّقك بغير التَّفكير المحلَّل والدَّارس لنَواميس الكوْن بأنَّه من عمل الجاهِلِين غير الفاهمين.




وحيثُ يطمئنُّ الإنسان إلى عقيدتِه، تزول البلْبلة، وتحلُّ السَّكينة محلَّ الارتِياب.









رد مع اقتباس
  #19  
قديم 09-07-2015, 12:16 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (36)
بخاري أحمد عبده



بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].



هو البَرُّ الرحيم:

﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64].



والبَرِيَّة قاطبة لن تحصي ثناء عليه، وهو كما أثنى على نفسه، ولو ذهبت البريَّة تنظم كَلِم الحمد؛ تعبيرًا عن العرفان، وانفعالاً بالنِّعم التي لا تُحصى، والبِرِّ الذي فاض فغمر الدارين، ووَسِعَ الحياتين ما وُجِدَت كلماتٌ أرحب، وأوجز وأغنَى من كلمتين اثنتين ردَّدَتْهما - في الجنَّة - ألسنةُ المؤمنين، وباركَهما ربُّ العالَمين؛ ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28].



فأقدار العباد المنفَعِلين بفضلِ الله الغامر، وقفَتْ خاشعة عند وُسْعِها، مكتفيةً بهاتين الكلمتين اللتين جاءتا صدًى لإحساس المتَّقين العميق بما اكتنفَهم من نعيم الإيجاب والسَّلب، والتكريم بالمحسوس وبالمعنويِّ، على النَّحو الذي عرض في آيات "الطُّور"، حتَّى كان القارئُ يلمس المشاهد "جمع مَشْهَد"، ويجد المذاقَ، ويشمُّ العبير: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 17 - 28].



كلمتان - كما ترى - ذَواتا سعةٍ، وفيهما كناية؛ لأنَّهما مشمولَتان برِضا المولى، ولأنَّه سبحانه أثنى بهما على نفسه، وارتضى بهما شُكرانًا، برغم أنَّ نعمه لا تحصى، وأنَّ يده سبحانه سحَّاء الليل والنهار.



وهو - تبارك وتعالى - إذا دخل رمضانُ كان أجزلَ مثوبةً، وأبسطَ يدًا، وأوسعَ رحمةً؛ مصداقَ ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل رمضان فُتحت أبواب السماء))، وفي رواية: ((فتحت أبواب الرحمة))؛ متفق عليه.



أو مصداقَ ما رواه الترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان أوَّل ليلة من شهر رمضان صُفِّدت - بالبناء للمجهول - الشياطينُ، ومرَدَةُ الجنِّ، وغلقت أبواب النار، فلم يُفْتَح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرِّ أقصر، ولله عُتَقاء من النار، وذلك كل ليلة)).



كذلك الملأ الأعلى، تلهَجُ - مستجيبةً لفطرتها، منفَعِلة بما حولها - بالدُّعاء لأهل الأرض، وتستغفر للأنام - كلِّ الأنام - مصداق ما ذَكَر القرآنُ: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشورى: 4 - 5].



والملأ الأعلى في شهر الصيام يُرَوْن - بالبناء للمجهول - أكثرَ اهتمامًا، ورأفةً واحتفاءً بالذَّاكرين الصائمين؛ مصداقَ ما روى البيهقي في "الشُّعَب" عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان ليلة القدر نزل جبريلُ في كبكبةٍ من الملائكة، يصلُّون على كلِّ عبد قائم، أو قاعد يذكر الله)).



كذلك رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كما رُوِي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في الصِّحاح -: "أجود الناس بالخير، وكان أجودَ ما يكون في رمضان".



وكذلك المسلمون؛ تميَّزوا في هذا الشهر بمزيدِ عبادة، وطُهْر، وبِرٍّ، وأُمِروا (بالبناء للمجهول) - وفق ما رُوِي في الصِّحاح عن ابن عباس - بزكاة الفِطْر على العبد والحُرِّ، والذَّكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة؛ متفق عليه.



وأخرج أبو داود بإسناد جيِّد عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - قال: "فرَض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطر؛ طهرة للصِّيام من الَّلغو، والرفث، وطُعْمة للمساكين".



إذًا فلا عجب إذا أطَلْنا المقام مع نفحات آيات الصِّيام، ولا غرابة إذا ازدحمَت المعاني، وتواردت سخيَّة سحَّاء، محيطة بمجتمع المسلمين، قانصةً من الشَّوارد، نافذةً إلى الأغوار، فيَّاضة بالخيرات كشهر الصيام.



سلفيُّون وأيضًا عصريون:

ولقد أفضنا - وسنُفيض - في الحديث عن فاعليَّة الظُّروف، وقابليَّة الإنسان.



وهذا الإنسان الذي ندعوه إلى أن يتفاعل مع روح هذا الدِّين، وأن يُنسِّق بفطنة بين الدعوة وبين الظُّروف المتجدِّدة المتغيِّرة غير باغٍ، ولا عادٍ، هذا الإنسان - كما تبيَّن - عجيبٌ، تتأثَّرُ "كيميائيَّتُه" بالأعراض التي تنتابُه، أو تعتريه.



يتغيَّر إذا امتلأ، ويتغيَّر إذا علم، وإذا ارتفع أو أمسى وجيهًا، وإذا حقَّق شهرة، أو نَعِمَ بصحة، أو ابتُلِي بقوة... إلخ.



ويتأثر كذلك بكلِّ ضُمورٍ يطرأ عليه؛ في عِلمه، أو جسمه، أو جاهه، أو ماله، أو... أو... والتفاعل الأوَّل خطير؛ لأنَّه إيجابي، وخطورته تَكْمُن في أنه قد يورث عُتوًّا وتطاولاً، أو انحرافًا وتسيبًا، أو ترَفًا وإخلادًا إلى الأرض.



أما الثاني فسلبيٌّ قد يحدُّ من القدرة، وقد يرجعه القَهْقَرى، وينحدر به، ويُسلمُه إلى الفتور والخمول، والعجز شيئًا فشيئًا.



كذلك الأجيال؛ تتقلَّب بين الزيادة والنقص، وتتأثَّر بعوامل التَّعرية.




والإسلام - بحكم عالَمِيَّتِه، وشموله، وخلودِه - ينشد الحياة المهذَّبة، ويحدو نحو الأساليب التي تكفل التفاعل المبارك بين الدِّين وقيمه وهداياته - من جهةٍ - وبين قُوَى الواقع، ومشكلات الحياة بكلِّ عُقَدِها، ومنحنياتها - من جهةٍ أخرى.



فالحقُّ أن الإسلام قديرٌ على أن يفتح الآفاقَ، ويستوعِبَ مشاكل الدُّنيا؛ لأنَّه - برغم مثاليَّتِه - رَحْب، مَرِن، بعيدٌ مدى الرُّؤية.



والداعية الحَصِيف يضع نُصْبَ ناظرَيْه كلَّ هذه الحقائق، ويصل الماضي بالحاضر على هُدًى وبصيرة كلَّما قاد وخطط، أو جال ونفَّذ، أو كرَّ وفر - وإلا اضطربَتْ رؤيته، واختلَّت خُطاه - لا يلهث لهاثَ الكلاب وراء أي جديد، نابذًا كلَّ قديم؛ حتى لا يفقد الأصالة، ويضحي بالمقومات، ولا يرتبط ارتباطًا أعمى بكل قديم، فيفقد الانسجام، وتلفظه الحياة وراءها ظِهْريًّا.



وهذا الفقه الواعي للحياة في كنف الدِّين - أو قُلْ إن شئتَ: للدين في كنف الحياة - هو السِّياسة الشرعيَّة، أو السلفيَّة الحقة؛ لأنَّ السلف كانوا على وعيٍ عالٍ بحياتهم، وبمشاكل عصرهم، وكانوا يطلُّون - من خلال الإسلام - على عالمهم، وما يدور فيه.



ربَّانيون لا رهبانيُّون:

بل ذلك الفقه هو الربَّانية التي أُغْرِينا بها في قول الله سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79].



1- والربَّانيُّ قد يكون منسوبًا إلى الربِّ، فالكلمة - حينئذ - توحي بالثَّراء، والعطاء، والاقتداء بالربِّ سبحانه في التيسير، وسداد التدبير[1]، كما تنمُّ عن الحكمةِ والالتزام.



2- وهي تَحْمل في تضاعيفها معانِيَ "التربية"، القائمة على التدرُّج، والتوصُّل إلى المقصود بصغار العلم قبل كباره؛ الأمر الذي يتطلَّب فقهًا، وسياسة[2].



3- وربما كانت الكلمة - كما أُثِرَ عن المبرِّد - جمعًا واحِدُها "ربَّان" من قولهم: رب يربُّ، فهو ربان، إذا دبَّر وأصلح، وبُنِيَ على علمٍ؛ فهي - إذًا - توحي بالإصلاح، وتدبير أمور الناس، الأمر الذي يتطلَّب بصَرًا وحذقًا، ومعرفةً بمشاكل التطبيق، مع العلم بالحلال والحرام، والوقوف على أنباء الأمم، وما كان، وما يكون[3].



4- وجِمَاعُ كلِّ هذا ما قيل من أنَّ الربانيَّ هو الذي يجمع إلى العِلمِ البصرَ بالسياسة، ويربط الحاضرَ بالماضي، مستعينًا بالفَراسة، وحُسْن القياس، والألمعيَّة.



5 - ومراعاة لأبعاد الكلمة قالوا: الربانيُّون فوق الأحبار[4]؛ لأنَّ الحَبْر قد لا يتجاوز العِلم إلى البصر بالسِّياسة، وحُسْن تناول الأمور، ومعرفة المداخل والمخارج.



هذا، ومن النماذج العليا للربانيَّة: حَبْرُ الأمة "عبدالله بن عباس" - رضي الله عنهما - فقد تميَّز بفقه النظريَّة، وسداد التأويل، واستيعاب مشاكل التطبيق، قال "محمد بن الحنفيَّة" يوم مات ابن عباس: "اليوم مات ربانيُّ هذه الأمة".



كلُّ تلك المعاني تستشعرها إذا استرجعْتَ الآيات الكريمة التي وردت فيها الكلمة.

أ- وردَتْ في قول الله: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79].



والآية تَنْزيه للأنبياء من الإسفاف والميل، والإنصاتِ لصوت الطِّين، ونزعاته الدُّنيا التي تغرُّ، وتُغْري بالتعالي، وتَنْزيهٌ كذلك للدُّعاة "ورثة الأنبياء" عن أن يَحِيدوا عن دروب العلم، والحكمة، وأخلاق الأنبياء، وعلَّة ذلك التَّنْزيه أنَّهم أُوتوا أسباب السَّداد والنَّزاهة، وهُدوا إلى الصِّراط: "الكتاب والحكم والنبوَّة"، والأنبياء - بِما عندهم من ذخائر - على قمَّة شامخةٍ، فلا يتهافَتون ولا يسفون، بل يحصرون على إيجاد الصفِّ الثاني، والعروج بهم إلى قمَّة تالية تُتيح لهم وضوح الرُّؤية، والحركة الرَّشيدة السديدة على ضوء الكتاب والحكمة وتُراث النبوَّة، والصفُّ الثاني الذي يسلك درب الأنبياء هم الربانيُّون المُتَحلون بكل معاني هذه الكلمة، إن كلمة ﴿ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾ [آل عمران: 79] تنهض بالدُّعاة كي يرتفعوا إلى الذروة التي تليق بورثة الأنبياء.



ب- ووردَتْ في قول الله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة: 44].



والآية رتَّبت العاملين في ساحات الدعوة ترتيبًا تنازليًّا؛ "النبيُّون، الربَّانيون، الأحبار"، وذكرت - كذلك - من أسباب السَّكينة، والطُّمأنينة، والسداد: الحُكم والهُدى والنُّور، وذكرت تمكُّنهم من الكتاب تمكُّنًا يتيح لهم وضوح الرُّؤية وصدق الشهادة، والحفاظَ على الوديعة، والاعتزاز بالمولى اعتزازًا تهون معه المخاطر، وتتضاءل معه الأقدار؛ أقدار المتربصين، ﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [المائدة: 44]، إنَّ الرَّبانيين في الآية هم الصف الثاني.



جـ- ووردَتْ في قول الله: ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة: 63].



والآية جاءت بين آيات تُعالِج أمراضًا عقديَّة، وأخلاقية اجتماعيَّة، تفشَّت في مجتمعات أهل الكتاب في غيبة الأنبياء، وتستحِثُّ الصفَّ الثاني "الربَّانيين"، والصف الثالث "الأحبار"؛ كي ينهضوا ضدَّ هذه المنكرات، ويحملوا رسالة الأنبياء.



ومواجهة الأمراض الاجتماعيَّة تتطلب احتكاكًا بالمجتمع، وعِلمًا بالنفسيَّات، وإحاطةً بالدَّوافع والظواهر... إلخ، تتطلب خبرة، وبصَرًا، وسياسة، تتطلب ربانيَّة، إن الربَّاني[5] يضيف إلى العلم اليقظة والفطنةَ، والحكمة والحركة، والبصيرةَ التي تملأ أنحاء المجتمع.



والرهبانيَّة؟

الكلمة مأخوذة من "رهب" بمعني خاف، فهي نسبةٌ إلى الرَّهْبان "بفتح الراء المشدَّدة"، وهو الخائف، والخوف إذا طوى في تلافيفه، والتقَمَ بأضراسه وفكَّيْه، وتمكن حتَّى أمسى سِمَة ونسبة، طحن، وأذاب.



والرهبانيَّة - في أحسن معانيها - لا تَعْدو المبالغة في الرِّياضة، والإفراطَ في العبادة والانقطاع - جسميًّا أو فكريًّا - عن الناس؛ إيثارًا للعزلة، وعجزًا عن مُجاراة الحياة، فهي إذًا هروبٌ من الساحة، وانطواءٌ في مفاهيم معتمة ضيِّقة، وإيثارٌ للشلل على الحركة، وحملٌ للنَّفس - على غير سجيَّتِها - على العزوف عن زينة الله التي أخرج لعباده بالامتناع عن المَطْعَم، والمشرَب، والنِّكاح، وبالتعلُّق بالصوامع، والكهوف، وأكنان الجبال، ولا نزاع في أنَّ هذا تزمُّتٌ يأباه الإسلام، وتقوقعٌ يُفْضي إلى الجمود، والتبتُّل المودي[6].



وبقدر ما تجد في الربَّانية من انتشارٍ وتحليق، واتِّزان، وسعَةِ أفُق، تجد في الرَّهبانية انطواءً وإسفافًا، وإخلالاً، وضيقَ أفق، هي إذًا عقديَّة، وفكرية، وحضارية، والإسلام يرفض كلَّ أنواع الرِّدة، ويرى أن الارتداد الحضاريَّ أو السُّلوكي كمن يمشي القهقرى، والصحابة كانوا يتحرَّجون من أن يأتوا عملاً فيه شبهة الارتداد الحضاري؛ مصداقَ ما روي عن سلمة بن الأكوع أنَّه دخل على الحجَّاج، فقال له: "يا ابن الأكوع، ارتددتَ على عقبيك؟ تعرَّبْتَ؟ قال: لا، ولكن رسول الله أذِنَ لي في البدو".



وكانون يرون مَن رجع بعد هجرته أعرابيًّا مرتدًّا؛ أخْذًا من حديث رسول الله: ((لعن الله آكلَ الرِّبا، وموكِلَه، ومن رجع بعد هجرته أعرابيًّا)).



ورهبانيَّة ابتدعوها:

والرهبانيَّة - وإنْ صاحبَها حسْنُ النيَّة - بِدْعة مذمومةٌ، وهروبٌ من معمَّة الحياة المكتوبة على الناس؛ ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].



والآية الكريمة: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ [الحديد: 27] تقصُّ قصَّة مؤمنين جَبُنوا عن مواجهة الشرِّ، ومقاومة الطُّغيان فآثروا السَّلامة واعتزلوا، نقل الضحَّاك من رواية عن ابن عبَّاس أنَّ ملوكًا من بعد عيسى فجروا وأجرموا، وعصفوا بالآمرين بالمعروف النَّاهين عن المنكر، وداخلَت الرَّهبةُ بقيَّةً باقية من الملتزمين ففرُّوا، واتَّخذوا الصوامع، وتخلَّوْا عن الدعوة، وجَمدوا في قواقعهم، فلم ينتشروا، وكانوا يحسبون أنَّهم يُحْسنون صنعًا، ويبتغون بما ابتدعوا رضوانَ الله، وهؤلاء بصنيعهم هذا ارتكبوا عدَّة جرائر: جريرة التخلِّي عن الموقع والرِّسالة، وجريرة الابتِداع، وجريرة المظهريَّة، والتنازع على الرِّياسة، وليتهم حين عزموا أظهروا رجولةً وصلابة! بل سرعان ما أخَلُّوا وأهمَلوا.



روى أحمد عن أبي أمامة الباهليِّ - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سريَّة من سراياه، فقال: مرَّ رجل بغارٍ فيه شيءٌ من ماء، فحدَّث نفسه بأن يُقِيم في ذلك الغار، فيقتات بما فيه من ماءٍ، ويصيب مِمَّا حوله من البقل، ويتخلَّى عن الُّدنيا، قال: لو أنِّي أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ له ذلك فإن أَذِن لي فعلتُ، وإن لم يأذن لم أفعل، فأتاه فذكر له الأمر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّي لم أُبْعَث باليهوديَّة، ولا بالنصرانية، ولكني بُعِثت بالحنيفيَّة السَّمحة، والذي نفس محمَّد بيده، لغدوة أو روحة في سبيل الله خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ولَمُقام أحدكم في الصفِّ الأول خيرٌ من صلاته ستِّين سنَة))، إنَّ المسلم لا ينبغي له أن يتبتَّل بِجِسمه، كيف والإسلام في مَسِيس الحاجة إلى قُوَاه وطاقاته، وغدوه ورواحه؟



ولا يَنبغي له أن يتبتَّل بفِكْره؛ لأنَّ مُعترك الحياة هو الرَّافد الذي يمدُّ، ويَرْوي الأفكار، واحتكاكُ الأفكار بالأفكار يجلوها، ويغذوها، ويكسبها المَضاء، والتفتُّحَ على آيات الآفاق، وصفحاتِ الكون التي تنشر يجدِّد الدم، ويكفل حُسْنَ التجاوب مع عالَمٍ يتطوَّر كل يوم.



والرهبانيَّة لا يوجد سندٌ لها في الكُتُب المقدَّسة الأولى، ولا في سُنة الأنبياء - عليهم السَّلام - بل إنَّ الناظر في سيرة المسيح وأصحابه ليجد ما يضادُّ هذه النَّزعة التبتليَّة، وهذه الرُّوح الانعزاليَّة لم تظهر في الكنائس إلاَّ في أواخر الجيل الثاني، وأوائل الجيل الثالث؛ منتقلةً إليها من الهنود الوثنيِّين[7].



ولا يهمُّني - هنا - أن أتعرَّض لتفاصيل الرهبانيَّة والاعتزال، والتقشُّف، والتبتُّل.. إلخ؛ فكلُّنا يعرف أنه لا رهبانيَّة في الإسلام، وأن قدر المسلمين الجهاد الجهير؛ مصداقَ ما أخرجه أبو داود عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((... والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخِرُ أمَّتِي الدجَّال، لا يبطله جَوْرُ جائرٍ، ولا عَدْلُ عادل…))[8].



ولكن الذي يهمُّني - هنا - أن أحذِّر من تبتُّلٍ جديد، طوى بعض الناس في أَسْمالٍ بالية، فبدَوْا جامدين مشتَمِلين بأسمالهم اشتمالَ الصمَّاء، وفقدوا القدرةَ على المُواءمة بين أسمالِهم وبين مطالب الحياة العصريَّة.



وهذه الرهبانية الجديدة تختلف عن رهبانيَّة الصوامع، وتبتُّلِ الكهنة، ودعاوى المتصوِّفين، ولكنها تتَّفِق معها في النتائج؛ فكلاهما إغماضٌ عن الواقع، وإيغالٌ في الغفلة، وعجْزٌ عن التكيُّف بالأجواء، والانسجامِ مع موكب الحياة الحافل بكلِّ بديع.





[1] نقل هذا عن ابن عبَّاس.




[2] روي معنى هذا عن عبدالله بن مسعود.




[3] روي هذا عن أبي عُبَيدة.




[4] روي هذا عن مجاهد، وحسَّنه النحَّاس.




[5] إذا اتَّفقنا على أن الكلمة نسبة إلى الربِّ، فأصلها: ربِّيٌّ، وزِيدَت الألف والنُّون؛ للمبالغة، كما يقال: روحاني وعلماني، وماداني، ولحياني لعظيم اللِّحية.




[6] التبتُّل: الانقِطاع.




[7] انظر "محاسن التأويل" ص 5698 من الجزء السادس عشر؛ ففيه تناوُلٌ شافٍ لقضية الرهبانيَّة؛ نقلاً عن مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين.




[8] في سنده «يزيد بن أبي نشبة» وهو مجهولٌ، لكن معنى الحديث صحيح.








رد مع اقتباس
  #20  
قديم 09-07-2015, 12:27 AM
الصورة الرمزية العشرى1020
العشرى1020 العشرى1020 غير متواجد حالياً
مسئول الأقسام العامة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 18,483
معدل تقييم المستوى: 34
العشرى1020 has a spectacular aura about
افتراضي

جزاكالله خيرا وبارك الله فيك
رد مع اقتباس
  #21  
قديم 10-07-2015, 08:04 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

وفيكم بارك
عفا الله عنكم
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 10-07-2015, 08:07 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

رمضان والقرآن[1]





عبدالله بن عبده نعمان العواضي






الحمد لله الذي جعل القرآن مناراً للمهتدين، وضياءً للسالكين، ومعجزة باقية إلى يوم الدين؛ لا يعتريه النقص والتبديل، ولا التحريف والتغيير، محفوظ بحفظ الله الذي أنزله ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].






لا يَخلق مع كثرة ترداده، ولا ينضب مَعينُه باستقاء ورّاده، ولا تفنى جواهره بازدياد غائصيه؛ فما زال البحرَ الذي لا ساحل له، والغيثَ الذي لا تحصى قطراته، والنور الذي لا أمَد لهداياته، فمن سأل عن الشفاء فيه وجده، ومن استرشد به أرشده، ومن تدبره وعقلَه فما نسي حلاوته، ولا هجر تلاوته، ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 16].





وما ذاك إلا لأنه تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على سيد المرسلين؛ ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].





والصلاة والسلام على النعمة المسداة، والقدوة المهداة الذي بعثه الله تعالى على فترة من الرسل، وانقطاع من السبل، فكان فجراً ظهر في الآفاق بعد الليل الدامس، ليكسو البسيطة بضيائه وسنائه، ويتلو على الكون الحائر هدى ربه عز وجل؛ ليتضح للوجود الصراط المستقيم ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9]، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته الأكرمين، وزوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين، وسلم تسليماً.





أما بعد:


أيها الصائمون الأخيار، حديثنا في هذا اليوم المبارك عن خير الحديث، وكلامنا فيه عن خير الكلام الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.





﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23].





إنه الكلام الذي أعيا الفصحاء، وأعجز البلغاء، وأخرس الخطباء، ولم يكن بنظم شاعر، ولا سجع كاهن، ولا بقول إنس ولا جن.





له حلاوة وعليه طلاوة، أسفله مغدق وأعلاه مثمر. إنه القرآن الكريم، كلام رب العالمين، وحبل الله المتين، و النور المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، والشفاء الناجع، والعصمة لمن تمسك به، والنجاة لمن اتبعه.





أيها المسلمون، إن هذا القرآن حياة الأرواح من موت الكفر والعصيان والقسوة، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]. وهو نافع لقارئه في الدنيا والآخرة، شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار.






قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة) [2].





فيه الأجر والثواب، والتجارة التي لا تبور، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29].





قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)[3].





عباد الله، إن حفاظ القرآن العاملين به هم أصفياء الله من خلقه، وخيرته من عباده، ومن أعلى الناس درجات في الجنة يوم القيامة.





قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إن لله أهلين من خلقه)، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قالأهل القرآن هم أهل الله وخاصته)[4].





وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية تقرأها)[5].





أحبتي الفضلاء، نحن في شهر رمضان في روضة فواحة بالفضائل والعبادات المتنوعة، وعلى رأس هذه العبادات: قراءة القرآن الكريم.





فللقرآن ارتباط وثيق بالصيام عموماً وبرمضان خصوصاً، فكلاهما يصفي الروح ويجلو القلب والعقل، والقيام بهما معاً له شأن من الحلاوة والراحة، وقد جمع رسول الله بين الصيام والقرآن فقال الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)[6].





وفي رمضان أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].





وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1].





أيها الصائمون، ما أحسن قراءة القرآن للصائم في رمضان، وما ألذ حروفه في اللسان، وألطف وقعها على القلوب. حينما يفرغ البطن ويصفو العقل من كدر المأكولات والشهوات يكون للقرآن طعم آخر؛ فالطعام والشراب والشهوة تكسب القلب قسوة، والنفس غفلة، والجوارح ثقلاً وكسلا، فيأتي الصيام ليقدح الفكر، ويذهب الغفلة، وينقل القارئ الصائم إلى التفهم والتدبر، والمعرفة ورقة القلب. وهذه الحال التي يمكن للقارئ الاستفادة منها.





فالعين ترى في تلك الصفحات المشرقة نوراً يهديها إلى الطريق المستقيم، والأذن تسمع أحلى كلام يصل الأسماع، والقلب يتنعم بتلك المعاني المؤثرة التي تزرع فيه حب هذا الكتاب وحب منزله العظيم، فيعظم رجاؤه لما عند الله من الخير، ويشتد خوفه أن يصل إليه غضبه أو تناله عقوبته، والعقل يتدبر ذلك الكلام البديع الذي لا يدرك من أسراره إلا الشيء اليسير، وكلما زادت قراءته وتأمله انكشفت له حقائق ودقائق لم تكن مرت عليه من قبل.






أيها الأحبة، إن القرآن الكريم لا ينفع قارئه إلا إذا تدبره، والصوم زمان خصب لتحقيق هذه الغاية الحميدة، ومن الخطأ الكبير أن يكون الهم الأكبر للقارئ في رمضان وفي غير رمضان الوصول إلى نهاية السورة أو نهاية المصحف بإسراع القراءة وأكل الحروف والكلمات.





قال بعض السلف: "لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ"إذا زلزلت" " والقارعة"، لا أزيد عليهما أتردد فيهما، وأتفكر أحب إلي من أهذ القرآن ليلتي كلها".





والقرآن إنما أُنزل للتدبر الذي يعقبه العمل به، قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].





معشر المسلمين، تدبر القرآن يفتح لصاحبه آفاقاً رحبة من الخير العاجل والآجل، فهو يُريه طرق الخير وأهلها، وسبل الشر وأصحابها، فيدعوه إلى الطريق الأولى وصحبة سالكيها، ويحذره من الطريق الأخرى والهالكين فيها.





ويريه حكمة المشرع المعبود سبحانه في نهيه وأمره، وعظمتَه في خلقه، وفضلَه في إكرامه، وعدله في عقابه، وقوته في مؤاخذته، ورحمته بعباده، وسعةَ علمه في مخلوقاته، وجبروته في قهر أعدائه، ونصرته لأنبيائه وأوليائه، وعزته ومنعته أن يناله أذى المؤذين، وقدرتَه أن يفوته أحد المخلوقين، وسمعه الواسع في إدراك نطق الناطقين، وبصره النافذ العظيم أن تخفى عليه حركة أو سكون من خلقه أجمعين.





أيها الصائمون، ما ملَّ القرآنَ من تدبر ألفاظه ومعانيه، وما نسي لذة القرآن من تدبر أحكامه وحكمه، وما هجر القرآن من ذاق طعمه وخالطت بشاشته قلبه.





إن القرآن - متدبَراً - ما تلاه لسان إلا طاب وحلا، ولا وصل أثره قلباً إلا صلح وصفا، ولا حل صدراً إلا انبسط وانشرح، ولا تأمل فيه عقل راجح إلا اتسع وانفسح.





وهل هملت الدموع الصادقة عند تلاوته أو سماعه إلا بتدبره، وخشعت القلوب بعد أن كانت قاسية كالحجارة إلا بتعقله، وهل عرفت علوم الشريعة إلا بالنظر فيه، والتفكر فيما يحويه. ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].





ألا إن الصديقين والشهداء والصالحين أوصلهم تدبر القرآن إلى ما هم فيه من المراتب العالية والمناقب السامية، وإن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين.





لقد كان لأهل الإيمان مع تدبر القرآن حديث مؤثر، خشعت له قلوبهم، ودمعت منه عيونهم، وسارعت به إلى الأعمال الصالحة جوارحهم.





عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي القرآن). قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: (إني أشتهي أن أسمعه من غيرى ). فقرأت النساء حتى إذا بلغت: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]،رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل[7].





فما الذي أبكاه عليه الصلاة والسلام إلا التدبر والتفكر فيما سمع.





وكان خليفته أبوبكر الصديق رضي الله عنه رجلاً أسيفاً أي: حزيناً لا يفتتح الصلاة قارئاً إلا هملت عيناه.





وعمر الفاروق رضي الله عنه في ليلة من ليالي عدله وإحساسه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه يخرج ليتفقد رعيته، إذ مر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائماً يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ الطور حتى بلغ: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7، 8]، فقال عمر: قسم ورب الكعبة، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث ملياً ثم رجع إلى بيته فمكث شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه، وما مرضه إلا تأثره بما سمع.





وهذا الصحابي الكريم أبو طلحة رضي الله عنه يقرأ سورة التوبة، فلما بلغ قوله تعالى: ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 41]. قال: أرى ربنا يستنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني يا بَني. فركب البحر غازياً في سبيل الله فمات فلم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام فنزلوا فدفنوه، ولم يكن قد تغير جسده خلال تلك الأيام التسعة فوق السفينة رضي الله عنه ورحمه.





وجبير بن مطعم صحابي آخر رضي الله عنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور حتى بلغ قوله تعالى: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ [الطور: 35]. قال: فكاد قلبي يطير، فكان ذلك من أسباب إسلامه، نعم لقد تأثر حتى طار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.





والفضيل بن عياض رحمه الله كان قبل توبته من لصوص الليل فبينا هو في ليلة من تلك الليالي المظلمة أشرقت في قلبه آية فبددت تلك الظلمات، إذ رقي تلك الليلة بيتاً فسمع قارئاً يقرأ: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].





فقال: بلى، والله قد آن، فنزل وتاب وصار يضرب بعبادته وصلاحه المثل بعد ذلك، رحمه الله.





أمة الإسلام، هذا كتاب ربنا الذي أنزله إلينا لنقرأه ونتدبره ونعمل بما فيه، فلو تدبرت الأمة هذا الكتاب ورجعت إليه لعزت وسادت، وتخلصت من مشكلاتها وأزماتها، ولكن ما حال أمتنا مع القرآن؟!





أين القراءة، وأين التدبر، وأين التحاكم، وأين العمل بهذا الدستور العظيم.





هناك هجر كبير وإعراض كثير، فهلا من رجعة وأوبة إلى هذا الكتاب تلاوة وتأملاً وتحكيماً واسترشاداً.





فالقرآنَ القرآن يا أمة القرآن، والتدبر التدبر؛ فإنه نعم المحبب والمقرب للأنس بهذا الكتاب الكريم.





بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.





الخطبة الثانية


الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المرسل بالقرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.





أما بعد:


أيها الصائمون، إن قراءة القرآن الكريم عبادة عظيمة، لها آداب حسنة يستحب للقارئ أن يتمسك بها لكي يكمل أجره ويتم انتفاعه. ومن تلك الآداب:


إخلاص النية في القراءة والتمهلُ فيها؛ طلباً لرضوان الله لا طلباً لحظوظ الدنيا. عن جابر بن عبد الله قال: دخل النبي صلى الله عليه و سلم المسجد فإذا فيه قوم يقرؤون القرآن قال: (اقرؤوا القرآن، وابتغوا به الله عز و جل، من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القِدْح يتعجلونه ولا يتأجلونه)[8]. والمعنى: اقرأوا القرآن لله تعالى قبل أن يأتي قوم يسرعون في تلاوته كإسراع السهم إذا خرج من القوس، يطلبون بقراءته عرض الدنيا وأعراضها ولا يريدون به جزاء الآخرة.





ومن الآداب: الخشوع عند قراءته، وذلك أثر التدبر، وقد يؤدي ذلك إلى البكاء، وهذه صفة أهل العلم العاملين به، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107 - 109].





ومن الآداب: الطهارة من الحدثين، واستعمال السواك، واستقبال القبلة، وتحسين الصوت ما أمكن من غير تكلف.





ومن الآداب لحفاظ القرآن وقارئيه: أن تظهر آثار القرآن على أخلاق القارئ وسلوكه وأعماله.





قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعهما مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر)[9].





قال ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون". وقال الفضيل بن عياض: "حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو؛ تعظيما لحق القرآن".





فالقرآن القرآن - يا عباد الله - حافظوا على تلاوته وتدبره، وتحكيمه والعمل به، وأكثروا من قراءته هذه الأيام؛ فإنها أيام فاضلة وموسم خير فسيح، فأروا الله من أنفسكم مع كتابه خيرا؛ فالسعيد من كان القرآن حجة له لا عليه.





رزقني الله وإياكم الإقبال على كتابه، والعمل بما فيه، وجعلَه حجة لنا لا علينا.









[1] ألقيت في مسجد ابن تيمية يوم 12/ رمضان/ 1429هـ، 12/9/2008م.




[2] رواه مسلم.




[3] رواه الترمذي، وهو صحيح.




[4] رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وهو صحح.




[5] رواه أحمد وأبو داود وابن حبان، وهو صحيح.




[6] رواه أحمد والطبراني والحاكم، وه حسن صحيح.




[7] متفق عليه.




[8] رواه أحمد وأبو داود والبيهقي، وهو صحيح.




[9] متفق عليه.









رد مع اقتباس
  #23  
قديم 12-07-2015, 10:55 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (37)
بخاري أحمد عبده


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].

خذوا زينتكم:
تتجاذَبُني - وأنا أستهِلُّ المقالَ - نوازِعُ شتَّى؛ كل نازعة منها تشدُّ لمعنى جديد.

والنازعة التي استأثرَتْ بمبادرتي تتمثَّل في أنَّ مخلصين كرامًا تناولوا معي أمر النفحات، فكان مما أخذوا:
1- فخامة الكلم، ورصانة السَّبك، وأناقة الأسلوب، ورأَوْا أن مِثْل هذه الصياغة قد يَجْعل النَّفحات عزيزةَ المنال، منيعةَ المُسْتَقى.

وعذري:
أ) أنَّ قَدْر الوعاء "التعبير" من قدر الموعيِّ "نفحات القرآن"، والقرآن هو ما علمنا إعجازًا، وبلاغة، وقوَّة سَبْك، وعمقًا وجلالَ معنى، ونحن إنما نُدَندن، ونرفرف حول أضواء القرآن، ونحو عطاياه، ومن الأدب - ونحن في محراب القرآن نتعبَّد - أن نترفَّع خاشعين، عن التَّهافُت، والتفاهة، والإسفاف.

ونفحات القرآن أجَلُّ من أن نعرضها في أَسْمالٍ بالية، مطروحة في الطريق.

ثم لمن تُدخر - بالبناء للمجهول - الكلمةُ المختارة، والسَّبْك الرصين إذا ضُنَّ - بالبناء للمجهول - بهما على القرآن العظيم؟

إن الكلمة العابرة - ولا سيَّما في هذا المجال - من الباقيات الصَّالحات، فهي تحمل أصولاً ثرَّة، وتهدي إلى قواعد طيِّبة، وتنشر من أريج القرآن، فالواجب أن ترسل رصينة، فَضْفاضة بلا افتعال، واحتمال بقائها طويلاً قائم، وربما عبَرَت الأزمنة، والأمكنة، وانتقلت إلى أقدارٍ مُتفاوتة، فما أحسن أن تكون مرنةً في دقَّة، موحِيَة، حَمَّالةَ أوجُه!

ب) وقُرَّاؤنا - أكرمهم الله - علِموا من القرآن، ثم علموا من السُّنة، وقرؤوا، وسمعوا، فمِن المخجل أن نقدِّم لأمثالهم الغثَّ الهزيل، ومثل هذه الصِّياغة حريٌّ أن يؤنس الماضين على الطَّريق، وأن يشجع المتردِّدين، ويحفِّز المقيمين على ما أَلِفوا.

ج) ونحن - في كلِّ مُحاولاتنا - نتعبَّد في محراب القرآن على أضواء السُّنة، فما أحرانا أن نأخذ زينتنا في معبدنا المهيب!

د) ولقد أُثِر عن الإمام البخاريِّ أنه قال: "ما وضعتُ في كتاب الصحيح حديثًا إلاَّ اغتسلتُ وصلَّيتُ ركعتين"، وصنيع البخاريِّ - رحمه الله - يُنْبِئ عن إجلاله الشديدِ لِكَلِم من لا ينطق عن الهوى، وهذا الإجلال صدَى عرفانٍ، وانفعالٍ بالغ بالرسول الكريم، وآثارِه الشريفة، وهذا الإحساس الفيَّاض يحمله على أن يتهيَّأ، ويتجمَّل، ويأخذ في معبده زينتَه، ولِمَ لا، والإسلام الحنيفُ قضَى أن نأخذ زينتنا عند كلِّ مسجد، ونبِيُّ الإسلام سنَّ لنا سنة الاحتفاء بأعياد الإسلام، فدعا - فيما رواه أبو داود بسند جيِّد - دعا إلى أن نغتسل ليوم الجمعة، ونلبس من أحسن ثيابنا، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه أبو داود، وابن ماجه بإسنادٍ صحيح عن عبدالله بن سلام: ((ما على أحَدِكم - إنْ وجَد - أن يتَّخِذ ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوبَيْ مهنته))؟!

وظنِّي أن كل هذه الآثار تستقي من قول الله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ... ﴾ [الأعراف: 31].

والآية تمسُّ - بالدرجة الأولي - من كان يطوف بالبيت عريانًا، غير أنَّها لا تقف عند خصوص السَّبب، بل تعمُّ كل مسجد للصلاة، وربما تجاوَزَت المحلَّ إلى العبادة ذاتِها، بل إلى كلِّ العبادات، تتهيَّأ لكل عبادة بما يناسبها من زينة، ومن هنا استحبَّ بعض العلماء أخذ الزينة لكلِّ عبادة، وقالوا: إن الوقوف عند حدِّ الطواف إغضاءٌ عن مفهوم الكليَّة في عبارة ﴿ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾؛ إذ الطَّواف لا يكون إلا في مسجد واحد فقط، وحول بيت واحدٍ، هو بيت الله المحرم.

أما عطاء كلمة ﴿ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ فهو أرحَبُ وأغنى.

استطراد:
هذا.. ويَحْسن هنا أن نذكر - إتمامًا للفائدة - أن السَّلف أخذوا من الآية، ومن قوله تعالى بعد الآية: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾ [الأعراف: 32] مشروعيَّةَ ارتداء الرَّفيع من الثياب؛ تجمُّلاً، وإظهارًا للنِّعمة، واحتفاءً بالجُمَع، والأعياد، وعند مُزَاورة الإخوان؛ فقد ورد أن المسلمين كانوا إذا تزاوروا تجمَّلوا، ويُروى عن تميمٍ الداريِّ أنه اشترى لصلاته حُلَّة بألف درهم!

والسَّلف - في ترفُّعِهم عن الثياب الدُّون، وتخيُّرِهم الأجود للصلوات وللمناسبات - استرشَدوا بِمِثل ما روي عن مكحولٍ أنَّه روى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان نفَرٌ من أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدَّار ركوةٌ فيها ماء، فجعل ينظر في الماء، ويسوِّي لحيته وشعرَه، قالت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: ((نعم، إذا خرج الرجل لإخوانه فليُهَيِّئ من نفسه؛ فإنَّ الله جميل، يحب الجمال)).

ومن هذا ما أخرج مسلم عن ابن مسعود عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقالُ ذرَّة من كِبْر))، فقال رجلٌ: إن الرَّجل يحب ثوبه حَسَنًا، ونعله حسَنة؟ قال: ((إن الله جميل يحبُّ[1] الجمال؛ الكِبْر بطر الحقِّ، وغَمط الناس)).

لا تهويم، ولكن مشاكل تطبيق:
2- وكان مِمَّا أخذوا: أنَّني سرحت، سرحًا كأنه التهويم، وأوغلتُ في الفلسفة بحديثي عن الزَّمان والمكان، والفضاء، والكون، وكيمائيَّة الإنسان... إلخ، ومثل هذا التهويم يحرم كثيرين من المُتابعة والفائدة.

والذي أعرفه أن التَّهويم، ونظائره أمور نسبيَّة؛ فأحلام بعض الناس حقائق واقعةٌ عند آخرين، والمشاركة الوجدانيَّة - وهي مَطْلب إسلام - حساسية تورث الجنون في مذهب الأنويِّين. والنظرة الشموليَّة العميقة التي تبصر الهُوَى - بضم الهاء وفتح الواو؛ جمع هوَّة - وتحيط بالمخاطر، والتي ترصد في الوقت نفسِه آفاقَ الأعداء تعجُّ بالصواريخ، والمراكب، والأقمار، ثُمَّ توازن بعد ذلك بين ثرانا وذراهم؛ تلك النظرة عند المنطوين، المنـزوين في فِتْرٍ[2] صغير من ساحة الإسلام المترامية؛ إفلات زمام، وتهويم، وربما رأَوْها ميوعةً وتسيُّبًا.

والحقُّ أنَّ أبصار بعض الناس لا تتجاوز موضع أقدامهم، والإسلام في نظرهم لا يعدو قواقِعَهم ومحاراتِهم، وهؤلاء وغيرهم من النظريِّين لا يَنْفُذون إلى مشاكل التطبيق، ولا تروعهم العقبات، والنهايات المشؤومة للثَّورات، والثَّروات والصحوات، والسِّياسات، والحركات، والشِّكايات، والاحتجاجات والصرخات التي ترتَفِع من ديار المسلمين كنار الهشيم!

والحقُّ أن سبيلنا هو عين البصر بمشاكل التَّطبيق، وشأن المؤمن أن يتصوَّر أبعاد الميدان، ويخبر طبيعته، وأن يستحضر مشاكل التطبيق؛ لينظر في الحلول، وذلك - كما أسلفتُ - عين الربَّانية التي نُدِبْنا إليها بقوله سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾ [آل عمران: 79].

ويهمُّني - كي تتَّضِح خطورة القضيَّة التي نُعالجها - أن أُشِير إلى أنَّ مجلة "الأمة" القطَرِيَّة شغلها ما شغلنا؛ أدركَتْنا في الطريق، ثم مضت معنا تخوض فيما خُضْنا فيه[3]، وتدور حول عناصر، مِن أهَمِّها:
1- أهميَّة فقه المراحل، وحَتْميَّة التخطيط البصير عند الانتقال بالمبادئ إلى أطوار التنفيذ خلال الظروف المحيطة، والمتاحة.

2- ضرورة الإحاطة بطبيعة الموقع، وجغرافيَّة الميدان، مع البصر بأعراف المُجتمع، وظروف معاشهم.

3- إمكان تغيُّر الأحكام "الفرعيَّة" بتغيُّر الأزمنة.

4- رُوَّاد العمل الإسلاميِّ ينبغي أن يتمتَّعوا بحسٍّ مرهف صادق، ووعيٍ ثاقب، وفطنة تحيط بأبعاد المعركة، ومقتضيات الظُّروف، ووسائل الانفتاح على الناس.

5- وَصْل الواقع ذي البيئة الماديَّة، والمجتمع الواقعي بالمثاليَّة الشرعية أمرٌ شاقٌّ يتطلَّب قدرات عالية، وتدرُّجًا وفقهًا بالأوَّليات، والأولويَّات دقيقًا، وبلا استغراقٍ في المثالية، بل نتعامل مع السُّنن، ولا ننتظر المعجزات.

6- اتِّساع قاعدة الإيمان يكفل فُرَص النَّجاح، فلا بد من جمع الشَّمل، والتغاضي السياسي؛ كي نلتقي ولو على حد أدني.

7- التديُّن تحرُّز، والتوحيد خلاصٌ وانبعاث، أما الجمود فصوفيَّةٌ تُغْري بالاستبداد، وتفضي إلى الاستِعْباد.

8- ما أحوجَ السلبيِّين الجامدين إلى هزَّات توقِظُهم، وتحملهم نحو منهجٍ يقوم على الوعي العميق بطبيعة الأمَّة، وروح العصر، وواقع البيئة، وأخاديد السِّياسة، وألاعيب السَّاسة[4]... إلخ.

ألاَ إن كلَّ الدلائل تشير إلى أهمِّية وضع كلِّ القوى الواقعيَّة في الحسبان كي نُوائم بينها وبين مثاليَّات الإسلام، ومعاييره الدقيقة.

ومن مُنطلق الإيمان بهذه الحقيقة، ومن خلال الرُّؤية المروعة للانفصام الشديد بين العقيدة والسُّلوك؛ مضيتُ أنظر إلى المستقبل، وأتساءل: إنَّ الحياة في عصور الإسلام الأولى كانت محدودة، وكانت رقعة البلاد - رغم اتِّساعها - ضيِّقة، وهي بالنسبة لحياتنا، وبلادنا المترامية - الآن - شيءٌ ضئيل.

والدِّين - الذي غطَّى حياة الأوَّلين، واستجاب لمتطلَّباتها - رحْبٌ فضفاض، نزل صالحًا لتغطية حياتنا الممدودة، كما غطَّى تلك الحياة المحدودة، ولكن كيف؟ إذا رُزِقنا البصيرة المرِنة التي تهدينا إلى أنَّ حقائق الدِّين ثابتة، وأصوله راسخة، أمَّا الفرعيَّات والاجتهاديَّات وكل المسائل التي تتعدَّد فيها الرُّؤى، فيُمْكِن التصرُّف فيها على نحوٍ يَرْبطها بالواقع، ولا يُخْرِجها عن نطاق الإسلام.

وأعودُ فأقول: إنَّني مراعاةً لبعض المستويات؛ حرصتُ - برغم وحدة الموضوع - على أن أرصِّع المقالات بآيات، وأحاديث هي - بلا شكٍّ - تخدم الموضوع، ولكنَّها يمكن أن تنفرد بعطايا سخيَّة تتجمع زادًا لكلِّ الراغبين[5].

فأووا إلى الكهف:
هذا، وقد ذكرت - في مقالي السابق - أننا سلَفِيُّون، وأيضًا عصريُّون، ومضيت أحذِّر من تبتُّل جديدٍ طوى بعض الناس في أكفانٍ بالية، وحشرهم في رهبانيَّة حديثة تتَّفق في النتائج مع رهبانيَّة الصوامع، وتبتُّل الرهبان، فكلاهما غفلة عن السنن، ورحلة مع الظَّلام في سراديب الموت.

ولقد قصَّ الله علينا بالحقِّ نبأ أصحاب الكهف والرقيم؛ ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 9 - 10].

قالوا: فالقصَّة صريحة في مشروعيَّة التعامل مع الكهوف[6] والغِيران، واعتزال الأهل والأوطان؛ فرارًا بالدِّين، واستجابةً للأمر الكريم؛ ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16]

وحالة أهل الكهف - بكلِّ ملابساتها - لا تعدو التبتُّل إلى الله الذي جعل لنا من الجبال أكنانًا[7].

والحقُّ:
1- أن الفتية كانوا يدينون بدينٍ محدودِ الجوانب، يتَّفِق مع حجم الإنسانية يومئذٍ[8]، أما الإسلام فدينٌ عامٌّ شامل، خطَّط للدارين، وربَّى للحياتين، وقعَّد القواعد، وقنَّن ونظَّم، ووضع أسس المعاملات، وحَمَّل أهله مسؤوليَّة الدعوة، والدولة، والسِّياسة، والعلاقات؛ فمسؤوليَّة المسلم جسيمة، وحياته موصولةٌ، تبتدئ بالميلاد، وتصبُّ - إن شاء الله - في الجنَّة.

ولعلَّ هذا هو إيحاء الأثر الذي رواه رزين عن ابن مسعودٍ أنه - رضي الله عنه - سُئِل: ما الصراط المستقيم؟ فقال: "تركَنا محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أدناه، وطرَفه في الجنَّة، وعن يمينه جوادّ[9]، وعن يسارِه جوَادّ، وثَمَّ رجال يَدْعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النَّار، ومن أخذ على الصِّراط المستقيم انتهى به إلى الجنَّة، ثم قرأ ابنُ مسعودٍ: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].

والمسلم مبتلًى بهذه الحياة الموصولة، الحافلة بالمتناقضات، وقدَرُه أن يُجاهد، ويتبصَّر الجوادّ، ويواجه المخاطر، ويقاوم قُوَى الشرِّ، فإذا انطوى في كهف، أو انزوى في غارٍ فقد فرَّ من الميدان، وهو في فراره قد ينجو ببعض دينه، مخلِّفًا وراءه جلَّ دينه، ومعظم مسؤولياته، هو إذًا لم يفِرَّ بدينه، بل فرَّ من دينه.

2- وأهل الكهف لم يعتزلوا مؤمنين، وإنَّما اعتزلوا الشِّرك والمشركين؛ فرُّوا حين حاصرَتْهم الفتنة، وتعقَّبَهم الملك الغَشُوم ليحملهم على الشِّرك أو لي***هم، فكلمة: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ﴾ [الكهف: 16]، تعني هجرانَهم لأولئك الضالِّين المتلبِّسين بالشِّرك؛ ابتغاء سلامة النفس، والنفيس[10].

3- فالآية لا تدلُّ على مشروعيَّة الاعتزال أو التبتُّل مطلقًا، بل توحي باستحباب التأسِّي بأهل الكهف حيث تتنمَّر الفِتَن، ويحمل العبد على الشِّرك، وتخلو الساحة فلا إمام، ولا جماعة، ولا قدرةَ على المناوأة والحركة الفعَّالة، حينئذٍ فقط يحقُّ للمسلم أن يعتزل، ويعضَّ بأصل شجرة؛ مصداقَ حديثِ رسول الله الصحيح.

4- وإضافة إلى ما سبق، فإنَّ سياق الآيات يدلُّ على أن الأمر كان أمر اضطهاد، وطلبًا حثيثًا، وفهم شيء غير هذا افتئات وغلو.

ولعلَّ الفتية تحرَّكوا حركة مرحليَّة - كما لجأ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى غار ثور - ولعلَّهم كانوا قد خطَّطوا لانطلاقٍ وشيك، وخطوة أخرى فعَّالة إذا هدأَت الأجواء، وهيَّأ الله لهم المرفق الذي ينشدون؛ ﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16][11]، والإسلام دين المجاهدة، والمثابرة، والمصابرة، ومن تعاليمه أنَّ "المؤمن الذي يُخالط الناس، ويَصْبِر على أذاهم أفضلُ من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم"[12].

6- ولقد علِمْنا مِمَّا روي عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ قدر المسلم أن يظلَّ آخذًا وضع الاستعداد؛ فالجهاد في حقِّ المسلم ماضٍ حتَّى يقاتِلَ آخِرُ الأمة الدجَّالَ، ووَضْع الاستعداد يتطلَّب يقظة، وحركة، واطِّلاعًا على شؤون الناس، ورصدًا لذبذبات الأعداء، ورباطًا إلى يوم القيامة؛ تحقيقًا لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما أخرجه مسلمٌ عن جابر بن سَمُرة: ((لن يَبْرَح هذا الدِّينُ قائمًا يقاتل عليه عصابةٌ من المسلمين حتَّى تقوم الساعة)).

نعم؛ روي البخاريُّ عن أبي سعيدٍ عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((يوشِكُ أن يكون خيْر مال المسلم غنَمٌ يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القَطْر؛ يفِرُّ بدينه من الفِتَن)).

والحديث - كما ترى - يصوِّر مطاردةً قاهرة، وينبئ عن تكالُبِ الأخطار واستشرائها، وتهديدها الأنفس، والأموال، وهذه حالة خطيرة، لا تستحكم إلاَّ إذا أفلت الزِّمام، وانحلت عُرَى الجماعة.

هي الحالة التي صوَّرها حديثُ مسلمٍ عن أبي بكر قال: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّها ستكون فِتَن، ألا ثُمَّ تكون فِتَن، ألاَ ثم تكون فتنة، القاعد فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خير من السَّاعي إليها، ألاَ فإذا وقعت فمن كان له إبِلٌ فلْيَلحق بإبِلِه، ومن كان له غنم، فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه))، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أرأيتَ من لم يكن له إبل، ولا غنم ولا أرض؟ قال: ((يَعْمد إلى سيفه، فيدقُّ على حدِّه بحجر، ثم لْيَنجُ إن استطاع النَّجاء، اللهم هل بلَّغتُ؟)) ثلاثًا... إلخ؛ فالحديث يشير إلى الفِتَن التي تموج كموج البحر، ويعلمنا كيف نتَّقي العواصف، ونُطَأطئ للزَّوابع حتَّى تمر، فإذا مرَّت أعَدْنا على ضوئها حساباتِنا، وأصلحنا من وضعنا، وغيَّرنا ما بأنفسنا.

والمتبتِّلون الجدد بعيدون - بُعْد المشرقين - عن مقصود الحديث، وهم لم يتبعوا شعف الجبال، ولا أوَوْا إلى غِيران وكهوفٍ، ولا تجرَّدوا من فضول الأموال، ولكنهم أقحموا أنفُسَهم في نقوب[13] بأذهانهم، وفي مساقط ومنحدَرات في عقولهم، ومن خلالها أبصروا الدِّين، فظنُّوه آسنًا ضيقًا! وهو دين الواسع العليم، رحمته واسعة، وأرضه واسعة، ودينه واسع، يستوعب الأوَّلين والآخرين، ويكفل للبشر خير الدَّارين.

والمسلم حمل أمانة الدِّين، بما في الدين من رحابةٍ وسعة، وثقل، راعت السَّماوات والأرض فأبَيْن، وأشفقن، وهو كي يُعان على هذا العبء غذَّاه المولى بِهدايات ونفحات، وقِيَم تنبته، "راداريَّ" البصيرة، "إلكترونيَّ" الفِكْر، مكرًّا، مفرًّا[14]، وتخلِّي المسلمين عن هذا المقام المحمود أصابهم بالصَّمم، والعمى، وتبلُّد الحواسِّ، وأطاح بهم إلى حيث الضَّعةُ والهوان، وكأنَّهم - لضيق الدُّنيا في وجههم، وتدفُّق الذلِّ من فوقهم، وتفجُّره من تحتهم - أضحوا على النحو الذي ذكره الله: ﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾ [التوبة: 57].


[1] فأين هذا من دين الصُّوفية الذين يحرِّمون زينة الله، مُدَّعين أنَّهم مكتفون بلباس التَّقوى، وهم بصنيعهم هذا يرفضون سُنَّة أتقى العالَمِين.

[2] الفِتْرُ ما بين طرَفَي الإبهام والسبَّابة؛ كناية عن الصِّغر والضِّيق.

[3] أُثيرت هذه القضايا في أعداد: ربيع الأول، وربيع الآخر 1405هـ في حوار المجلة مع الدكتور "حسن الترابي"؛ للوقوف على أصداء التجربة الميدانيَّة التي يخوضها السُّودان، وهو يطبِّق الشريعة، وينتقل بالمبادئ إلى طور التنفيذ.

[4] انظر "الأمة" عدد جمادى الأولى 1405هـ "المَنْهج العصري في سلفيَّة الإمام ابن باديس".
هذا، ويجدر أن أشير هنا إلى أنَّ مقالات "التوحيد" هي السابقة.

[5] وشغل بعضَ الناس طولُ الحلقات، فقالوا مداعبين: متى تُكْمِل العِدَّةَ، وتكبِّر الله؟! وأقول لهؤلاء مداعبًا: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 36].

[6] الكهف: النقب المتَّسِع في الجبل، فإن لم يتَّسع فهو غار.

[7] الأكنان جمع كِنّ: وهي الغِيران في الجبال.

[8] تابعَ الله بين الشرائعِ وفق تطوُّر الإنسانية، ونُموِّها الفكري، فكلُّ شريعة تقدِّم الجرعة التي تتناسب مع العمر الفعلي للبشرية، أما الإسلام فقد جاء لبشريَّةٍ بلغَتْ أشُدَّها، واستوَتْ، وراعى ما سيكون من تطوُّر داخل نطاق بلوغ الأَشُدِّ.

[9] الجوادُّ - بتشديد الدال - جمع جادة، والجادَّة الطريق.

[10] المراد العقيدة.

[11] المرفق ما يرتفق به؛ أي: ما يُستعان به على بلوغ الغاية.

[12] رواه البغويُّ عن ابن عمر.

[13] جمع نقب، والنقب الشقّ.

[14] يجيد الأقدام، ويعرف مواضع الأحجام، ويتقن أساليب الكَرِّ، والفر.



رد مع اقتباس
  #24  
قديم 28-07-2015, 11:18 AM
كلية الهندسة كلية الهندسة غير متواجد حالياً
عضو مجتهد
 
تاريخ التسجيل: Jul 2015
المشاركات: 54
معدل تقييم المستوى: 9
كلية الهندسة is on a distinguished road
افتراضي

مشششششششششششششششششكووووووووووووووووووووووور
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 07:56 PM.