اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > علوم القرآن الكريم

علوم القرآن الكريم هنا أن شاء الله كل حاجة عن القرآن الكريم من مسموع ومرئي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #16  
قديم 28-06-2008, 11:14 AM
الصورة الرمزية صوت الحق
صوت الحق صوت الحق غير متواجد حالياً

رئيس مجلس الادارة ( سابقا )

 
تاريخ التسجيل: Dec 2006
المشاركات: 8,414
معدل تقييم المستوى: 0
صوت الحق is an unknown quantity at this point
افتراضي النبي موسى كليم الله


النبي موسى كليم الله

بنو اسرائيل في مصر :

هاجر ابناء يعقوب واحفاده ـ كما يقص علينا القران الكريم في سورة يوسف ـ من بلاد كنعان الى مصر ، حيث نزلوا على يوسف مكرمين . كيف لا ، ويوسف ايام ذاك ؛ كان امين فرعون على مصر كلها ؟ … وهكذا شاء الله تعالى ان يسكن ارض مصر قوماً يعبدونه ، ولا يشركون به احدا . انهم ذرية يعقوب بن اسحق بن ابراهيم ، وكلهم انبياء ، ورسل ، وهداة ! …

والى جانب هؤلاء كان اتباع ابراهيم ولوط ، يؤمنون بالله الهاً واحداً لا شريك له ، وبنبوة ابنائه ، الذين يدعون الى الهدى ، ودين الحق ، وسبيل السلام ! … وعندما شعر النبي يوسف ، ( عليه السلام ) ، بدنو اجله ، جمع حوله اهل بيته ، وقومه الاقربين ، وقال لهم بصوت متهدج ، ونبرة مفعمة بعميق الايمان : " يا ال يعقوب … انتم بقية الله على ارضه . وصفوته من صالحي المؤمنين" !… لقد ارسل الله تعالى ابوكم يعقوب ، ومن قبله اسحق وابراهيم ، دعاة لعبادة الله وحده . واتباع سبيل الحق والخير ، والهدى والرشاد ، …فكان جدكم ابراهيم ، خليل الله ، وصفيه ، واباً للانبياء جميعاً ، من بعده !…

وها انتم اولاء تعيشون في ارض مصر ، مكرمين ما زلت بين ظهرانيكم ( أي بينكم ومعكم ) وانبي موشك على لقاء ربي ، والالتحاق بآبائي وآبائكم الصالحين . فاذا كان ذلك ، وانه لكائن لا محالة ، فسوف تتعرضون من بعدي للظلم و الطغيان ، والاذى والعذاب ، فما عليكم ، والله ، الا الاعتصام بالصبر ، والتمسك بدينكم الذي انتم عليه الان ،… وبعد زمن ، ليس بالطويل ، سياتي من بعدي نبي يخلص بني اسرائيل من جبروت فراعنة مصر ، وطغيانهم ، وعتوهم ، به ينصر الله الحق ، ويقيم الدين ، ويذل الطغاة المتجبرين ، فاصبروا صبراً جميلاً ، وانتظروا فرجاً من الله ، ومخرجاً مما ستؤولون اليه ، ولاتنهوا ، ولاتحزنوا ، ولاتياسوا، واعلموا ان الله مع الصابرين !… واغمض النبي يوسف " عليه السلام " عينيه الكريمتين ، وشهق شهقة لطيفة ، فاضت بها روحه الشريفة ، ملتحقاً بجوار ربه الاعلى ، حيث ابائه الانبياء والاولياء ، والاوصياء ، والشهداء ، في جنان الخلد ، ونعيم لا يفنى !…

جبروت فرعون :

وتهضي اربعة قرون : ويتكاثر ابناء يعقوب ، فيصيرون آلافاً قد توزعوا على اقاليم مصر يعملون ويكدحون ، ويلاقون ـ كما عهد اليهم ، من قبل ، يوسف ـ من العذاب والتنكيل ، صنوفاً والواناً !… ويشتد الاذى عليهم ، ويتضاعف ، ايام رمسيس ،طاغية فراعنة مصر ، الذي ادعى ، دون وجه حق ، انه اله ، .. متخذا الشمس شعاراً!.. فكما ان الحياة لاتستقيم بدون الشمس ، كذلك ، لاتكون مصر ، وشعبها ، الابه !.. ويامر الطاغية ببناء هرم له ،لا يضاهى ، فيعمل شعب مصر كله في تشييد الهرم ، سنين طوالاً ، وليل نهار ، وتزهق في هذا العمل المضني آلاف الانفس ، في سبيل عزة فرعون وجبروته . وعندما ينتهون ، يأمر ببناء معبد له في اسوان ، محاذياً مجرى النيل الذي يهب ارض مصر الخصب والحياة . وعندما ينتهبي العمل من بناء المعبد ، يامر بنصب التماثيل ، فتنصب التماثيل نحتاً في صخور الجبال !.. ويأتي يوم الافتتاح !.. فيخرج فرعون على قومه في زينته ، وفي منتهى الابهة والجلال ، يحف به عظماء مملكته ، ويحيط به سادة الكهنة ، والاشراف !.. فتتعالى صرخات الاف المصريين ، وهتافاتهم ، وقد اصطفوا لتحية مليكهم العظيم وما ان اطل عليهم حتى خروا له سجداً !.. فتمتلئ نفس فرعون غروراً وشمخ بانفه عاليا استكبارا في الارض ، وعتوا، .. وينظر ناحية ،.. فيرى جماعة من الناس لم يكونوا من الساجدين . فيسأل عن شانهم ، فيقال له : " انهم بنو اسرائيل ، لا يدينون بما يدين شعب مصر ، ويعبدون إلهاً غيرك ، يا مولاي !.."

فيمتقع لونه ، ويدمدم غاضباً :" متى كان في مصر قوم يعبدون غيري ؟ .. " ويتابع الموكب المهيب طريقه ، وقد امتلأت نفسه عليهم حقدا !… وما ان وصل فرعون الى قصره ، حتى استدعى رئيس الكهنه ، مستوضحاً منه امر بني اسرائيل ، هؤلاء . فانباه حقيقة امرهم : فهم يؤمنون باله واحدا ، هو رب السموات و الارض ، الناس جميعاً عباده ، انه خالقهم ، ورازقهم ، ومميتهم ، ومحييهم !.. فيصرخ فرعون غضباً : يعيشون في مملكتي ، ويعبدون غيري ؟.. الويل لهم مما يصنعون !… ويتابع رئيس الكهنة : عفوا يا مولاي ، فهنالك ما هو اخطراً !… وهل هناك اخطر من هذا يا كاهن فرعون ؟ …نعم يا سيدي !. وما هو ؟ .. قل !.. وعزة فرعون سينالهم عذاب اليم !.. انهم ، مولاي ، ينتظرون نبي ينقذهم ، وينقذ اهل مصر ، كما يزعمون ، من حكامهم ، وسيكون مخلصهم مما هم فيه من اضطهاد .. وهل تعتقد ان هذا النبي الذي لم يظهر امره ، وقد ولد ، فدعوته قريبة ، ام ان امره لايزال بعيداً ؟.. لا، يا مولاي !. فولادته ، على ما يظهر ، وشيكة الوقوع ، كما تقول بذلك النجوم . وهل عندكم انتم معشر الكهنة والمنجمين ، علم بذلك ؟ أجل يا سيدي ، فسيولد عما قريب في ارض مصر غلام ، ليس بمصري ، وما اظنه الا من بني اسرائيل ، وسيكون له شان كبير ، وخطر عظيم على حاكم مصر ، وعلى ملكه ، معاً ، هكذا انباتنا مواقع النجوم . الويل لهم !.. يعيشون بيننا ، وينتظرون يوما يدمرون فيه ملكنا ؟ ..وعزة فرعون لن يصلوا الى ذلك ابداً . ويصرخ فرعون ، وقد انتفخت اوداجه غيظا وحنقا ، : اين رئيس الشرطة ؟.. وبطرفة عين ، يمثل رئيس الشرطة امامه ، وينحني ، حتى ليكاد يصل رأسه الى قدميه ، امر مولاي !.. لقد شرفناكم بتسليمكم امن هذه البلاد ، وانتم عما يحصل غافلون ؟ الا ترى الا بني اسرائيل ، هؤلاء ، يدبرون لنا كل شر ، ينتظرون الفرصة السانحة ليدمروا ملكنا تدميرا !.. ولكننا يا مولاي ، لا ندعهم يرتاحون . فسياستنا العامة بشانهم تقضي بوضعهم تحت السياط، كالماشية ، فهم في قهر دائم ، وذلة وامتهان !.. آمرك ان تتشدد في مراقبتهم ، وتحول بين الرجال منهم والنساء ، فتحتفظ بالنسوة بعيدات عن ازواجهم! ، امر مولاي ، فانا عبده المطيع !. لاتقاطعني ، وهناك امراً آخر : عليك بمراقبة الحوامل من نساء بني اسرائيل ، ومن سيحمل من هن . امر مولاي ، وطاعة . وعليك ان يكون رجالك حاضرين عند ولادة كل مولود صبي منهم ، افهمت ؟.. كل مولود صبي ، فت***ون المولود فور ولادته واياكم ان يفوتكم مولود واحد مهما كانت الظروف ، فتستحقون اذ ذاك عذابي ، نفذ ما امرك به فورا ؟…انني ، ورجالي ، عبيد مولاي ، وسننفذ امرك على الفور يا سيدي ؟..

وينحني رئيس الشرطة انحناءة شديدة ، ثم ينصرف ويتبعه رئيس الكهنة منصرفاً ، بعد الاستئذان …ويتنفس فرعون الصعداء ، وهو يسأل نفسه : ماهذا الهم الجديد ؟… احقا ما ينتظره بنو اسرائيل ، ويفقهم عليه كهان واد النيل ؟...ويجيب صوت من السماء : { ان فرعون على في الارض ، وجعل اهلها شيعاً ، يستضعف طائفة منهم ، ي*** ابناءهم ، ويستحيي نساءهم ، انه كان من المفسدين * ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ، ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون }

ولادة موسى "ع" وتربيته :

" يوكابد " في احدى زوايا منزلها تعاني المخاض وتستدعي قابلة ، وسرعان ما تضع غلاماً ، يلتمع جبينه بنور ساحر اخاذ فتسميه " موسى " …وتخاف عليه عيون فرعون وجواسيسه ، وقد بثهم فرعون في كل مكان يترصدون كل صغيرة وكبيرة في بني اسرائيل ...وتتامل " يوكابد " وجه الغلام ، وكانه قطعة من نور ، وتتمتم بحزن غامر : اليس حراماً ان تنتهي الى ال*** ، يا هذا الوجه الكريم ؟

وبقيت ام موسى الى جانب وليدها لا تفارقه ، ملتزمة بيتها لاتغادره، فهي بطفلها مشغولة . وظلت كذلك ثلاثة شهور ، ترعاه بحذر ، وتحفظه من كل سوء …ولكن اعين رقباء فرعون ، وجواسيسه مفتوحة على كل حدث جديد ، مهما صغر شانه…وتشعر ام موسى بالخطر يزحف على وليدها الوسيم الطلعة ، فترتاع لذلك وتضطرب . وترفع وجهها الى السماء متضرعة : ربي ورب اسرائيل وابراهيم ، واسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، اليك اتوجه بهذا الغلام وعليك اتكل في حفظه فكن له حفيظاً ، يا ارحم الرحمين !..

ويلقي في روعها شئ كالالهام :{ ان ارضعيه ، فاذا خفت عليه فالقيه في اليم ، ولا تخافي ولا تحزني …} وتلتفت الى ناحية في منزلها ، فاذا بصندوق .. وبيدين مرتعشتين تحمل وليدها ، فتضعه فيه ، وتخرج به ، ترافقها ابنتها ، على حذر وخشية من ال فرعون ورجاله متجهة الى شاطئ النيل ، وما هو عنها ببعيد ، ويصلون ، وقد صرف الله عنهم عين كل رقيب يترصد !..

وبرفق وحذر .. تضع الام الصندوق ، وفيه موسى على صفحة مياه النيل الهادئ الرقراق ، وتطفر من عينها دمعة حرى ، ومن صدرها اهة حزن وشجن ، وتكاد الابنة ان تصرخ خوف على اخيها الصغير ، فتمنعها الام ، فتشهق بهلع مكتوم . وتشيع الام وابنتها الصندوق بنظراتهما الولهى ، وقد حملته مياه النهر ، متنقلاً من موجة رقيقة الى ثانية والى ثالثة ، متهادياً بين طياتها ، وكانه على راحات ايد حانيات !… ويقترب الصندوق من بعض البساتين المحيطة بقصر فرعون ، حيث كانت اسية زوجة فرعون ، تتنزه ، وبعض جواريها . ويلاحظن النهر يحمل على صفحته الهادئة صندوقاً ، وتامر سيدة القصر من ياتيها بالصندوق ، وعندما فتحته ، فوجئت بما فيه فشهقت دهشة . وتتناول السيدة الغلام بين يديها فخيل اليها انها تحمل فلقة قمر !.. والقي في قلبها حبه وكأنه ابنها حقاً . يجري ذلك بمرأى من ام موسى وابنتها ، اللتين كانتا تراقبان ما يحدث من مكان بعيد !… وتحمل اسية الطفل في حضنها ، وتشده الى صدرها بحنان غامر ..

وعندما بدا لها زوجها بعد آن قصير ، توجهت اليه باستعطاف رقيق ، قائلة له : اظن بان هذا الغلام الجميل احد ابناء بني اسرائيل ، ارجوا ان تكرمني بالابقاء عليه ،{ عسى ان ينفعنا ، او نتخذه ولدا }…وكيف تطلبين مني الابقاء على حياة من امرت ب***ه ؟

انه غلام صغير جميل ، ولم يتمكن من الحاق اذى بك ، خاصة ، اذا اقمنا على تربيته عندنا في القصر بعيداً عن العامة والدهماء ( اوباش الناس ) ، فيشب بيننا وكأنه احد ال فرعون طبعاً وتطبعاً …وينظر فرعون الى وجه الغلام الطفح بالنور ، فيبتسم ، ويومئ براسه موافقا فليست اسية ممن يرد لهن طلبا … وتسلم امرأة فرعون الغلام الى المراضع ، فيابى الرضاعة ، وقد حرم الله عليه ذلك !.. ويعلوا صوته بالبكاء فتحتار اسية ، ما العمل ؟… واصبح الجميع حائرين في امر هذا الغلام ، الذي لا ينقطع عن الصراخ …وتحين من اسية نظرة من احدى نوافذ القصر ، فتقع عينها على فتاة غريبة متجهة نحو القصر ، وهي تتعثر باطراف ثوبها ، فماذا تريد ؟…وتنزل السيدة الى حديقة القصر ، حيث فرعون ، والجواري ، والغلام الذي عكر هدوء القصر بصراخه المتواصل ، … وتصل الفتاة فتحيي سيدة القصر ومن حولها ، وتنظر ، من طرف خفي ، الى اخيها ، وقد علا صراخه ، والى السيدة وقد احتارت في امر هذا الغلام البكاء ، وتقول لها ، بتودد ورقة : سيدتي ، {هل ادلكم على اهل بيت يكفلونه وهم له ناصحون ؟ .. } وتسرع اسية في جوابها دون ابطاء : أجل ، ايتها الفتاة ، هل لديكم من يرضع هذا الغلام ويكفله ؟ وتجيب الفتاة بفرح : اجل سيدتي ، أجل ! .. هنالك امرأة بوسعها ان تقوم بهذا العمل خير قيام !.. وتنطلق الفتاة الى امها ، فتأتي بها الى القصر ، وما ان ترى ( يوكابد ) الغلام بين يدي فرعون الذي كان يهدهده ، حتى خفق صدرها ، .. وبلهفة تتناول الطفل منه ، وتضمه الى صدرها ، وتنتحي به جانباً ، وتلقمه ثديها فيلتقمه بفرط نهمة ، وعندما انتهى من الرضاعة ، علت ثغره الطيف ابتسامة ، ونشوة فرح وأخذ يناغي امه ، وقد طفحت على وجهها السعادة ، كالكنار تغريداً ... ويعجب فرعون من ذلك ، وتعتري الدهشة وجه آسية وجواريها . فالجميع واجم مأخوذ بما يرى ويتساءلون من تكون هذه المرأة التي ارتاح اليها الغلام ، وسكن سكوناً مطمئناً ؟... فتجيب : انني امرأة طيبة الريح ، طيبة اللبن ، يرتاح الي كل رضيع !... فيسلمها فرعون الغلام ترضعه وترعاه ، وتأتي به الى القصر كل يوم ، ان استطاعت ، ويجري لها رزقاً وعطاءً . ويرد الله الى ( يوكابد ) ابنها لتنشرح به صدراً ، وتقر به عيناً ، وتطيب به نفساً ! فتعود به ، وبالمال الوفير !...

وهكذا يشب الغلام بين يدي امه ، وفي قصر فرعون ، حيث الحياة اسطورة ، لا كبقية الاساطير . وينشأ في كنف فرعون ، ويبلغ مبلغ الرجال ، وقد آتاه الله ما لم يؤت مثله احداً من الرجال : صلابة جسم ، وسداد فهم ، وغزارة علم …فمن كموسى فتى ، من الفتيان اودع الله فيه فتوةً وحكمةً ، على ايمان و تقىً ، { فتبارك الله احسن الخالقين!..} .

موسى والمجتمع المصري :

وكان لموسى ان يتعرف على طبقات المجتمع المصري ، وهي يومئذ : طبقة فرعون وحاشيته ، تليها طبقة الكهنة والاشراف ، فطبقة المقدمين من مدنيين وعسكريين ، ثم طبقة عامة الشعب : عمالاً وفلاحين ، وفي النهاية طبقة العبيد و الارقاء ، وهي ادنى الطبقات درجة . وكان قلبه يعتصره الالم لما تلاقيه هذه الطبقة الكادحة من عمال مصر ، وفلاحيها من مذلة وهوان ، وكان لا يغمض له جفن وهو يفكر بهذه الطبقة الدنيا من المجتمع المصري ، وطبقة العبيد والارقاء ، والتي كانت تحيا كما الحيوان ، و تعامل كما يعامل ، ويقول في نفسه : أو ليس هؤلاء بشراً ، فلم كل هذا الاذلال والتعسف والاحتقار ، يحيط بهم ، فيطحنهم طحناً ؟ .. وفرعون هذا المدعي الالوهية كفراناً ، وطغياناً ، وبهتاناً ، اليس انساناً عادياً ، يولد ويعيش ويموت ، كما الناس ، كل الناس ، يولدون ، ويعيشون ويموتون؟ … ويتأمل موسى واقع مصر ، فهو فاسد برمته ، ولن يتم اصلاحه الا با***اع كل هذه المفاسد والاوهام التي علقت بأذهان الناس ، فتاصلت في نفوسهم ، فأحلوها محل التقديس ، اما وقد بلغ رشده فلن يكون الا للمظلومين نصيراً !..

موسى والرجلان يقتتلان :

وبينما كان موسى متوجهاً الى عاصمة الفراعنة ، لبعض شؤونه ، { وجد رجلين يقتتلان ، هذا من شيعته ، وهذا من عدوه ، فاستغاذه الذي من شيعته على الذي من عدوه } فتصدى موسى له ، وضربه ضربة قضت عليه ، وما كان موسى ، يشهد الله ، يريد ***ه ، ولكن ، هكذا جرت مشيئة الله ، فندم على ما جنته يداه ، واستغفر الله ، فغفر الله له ذلك ، وعاهد موسى الله على الا يكون ، بعد للظالمين ظهيرا !..

واصبح موسى بالمدينة خائفا ، يترقب ، خشية افتضاح امره ، بانكشاف فعلته ، واذا هو في اليوم الثاني امام المشهد نفسه ، يتكرر مرة ثانية ، كما في الامس : فهذا اليعقوبي ، الذي من شيعته ، في عراك جديد ممع رجل فرعوني ، عدو لهما ، ويشاهد اليعقوبي موسى من بعيد ، فيناديه مستنصراً اياه ، .. وينطلق موسى ، بعفوية صادقة لينصر اليعقوبي ، فهو نصير المظلومين ، وظن هذا الاخير انه يريد ***ه ، كما *** خصمه بالامس ، فتضرع اليه مسترحما ، يا موسى { اتريد ان ت***ني كما ***ت نفس بالامس ؟..}

ويسمع خصمهما هذا القول ، فيسرع الى قومه الحائرين في امر قتيل الامس ، وقاتله ، .. فاخبرهم انها فعلة موسى ، فتعجبوا ، متى كان يقوم موسى بمثل هذه الفعلة الشنعاء ؟ واجمعوا على النيل من موسى ، وقد *** منهم ، ظلما ، رجلاً ! .

ويتصل بموسى واحداً من جماعته المؤمنين ، فيحذره قائلاً : {.. ان الملأ ياتمرون بك ل***وك ، فاخرج اني لك من الناصحين } فيتوارى موسى عن الانظار !.ويطلب فرعون موسى ، فلا يعثر له على اثر .

ويتساءل في قرارة نفسه : اتراه يكون نبي بني إسرائيل الموعود ؟ فيعض على اصابعه ندما ! ..

ويتسلل موسى من ارض مصر ، خائفاً يترقب ، وقد اتخذ الليل له جملاً (أي : متستراً بظلمة الليل في مسيره ) متجهاً نحو بلاد قدامي الاجداد ، وقد اسلم وجهه لله ، فعلى الله قصد السبيل ، وهو الاخذ بيد الحياري المساكين في مدلهملت النوازل والخطوب ( أي : عند اشتداد المصائب ) .

وتقوده قدماه شمالاً ، في متاهات صحراء سيناء ، فيجتازها ، وهو الجلد ، الصبور ، … مبتعداً ، وما امكن ، عن المدن ، وعن الناس ، فالبراري مأواه !..

وتمضي على ذلك ثمانية ايام ، لامعين له ، ولا نصير ، ولادليل ، سوى رحمة الله ، ونوره وهداه ، وكان يقطع الفيافي حافياً ،بعد ان تقطعت نعلاه ، فشققت قدماه ، يقتاب بعشب الارض وبقلها ، حتى كان يبدو صفاق بطنه ( عضلة الحجاب الحاجز ) لشدة ضعفه ، وضموره ، وهزاله ، وكان طيف فرعون ورجاله يلاحقه ، فيجد السير ، ويحث الخطى ، حتى وصل اخـيراً الى الارض " مدين " في الجه الشمالية الغربية من ارض كنعان ، فيتنفس الصعداء ! ..

لقد اصبح بمامن من فرعون ، ومنجاة من كيده ، وضلاله ، وجبروته .

اتصال موسى بشعيب :

ويشاهد موسى من بعيد ازدحام ناس وقطعان اغنام ، فيقصد هذا الجمع ؛ واذا به امام رعاة انهمكوا بسقيا قطعانهم ، وقد علا ضجيجهم ولغطهم ، وكان الاشداء منهم يتقدمون لسقاية اول الناس ثم بعد ذلك ، ينصرفون .

وتلفت نظر فتاتان تذودان غنمهما ، كي لا يختلط بغيره من اغنام القوم ، وقد وقفتا بذلة ومسكنة ، تنتظران صدور الرعاء ( انصراف الرعيان ومواشيهم بعد السقاية ) وتتحرك فيه طبيعة نصره المظلوم ، المقهور ، فيتقدم منهما مستفسراً : ما شانكما ؟ . فقالتا :{.. لانسقي حتى يصدر الرعاء ، وابونا شيخ كبير .. }

وتثور نفسه لمساعدتهما ، فتقدم من البئر ليسقي لهما ، متخطياً اليه الرجال ، حتى وصل الى فوهته ، فوجد صخرة تحول دون تدفق الماء غزيراً ، فا***عها زندين قويين ، وكانهما اصول سنديانة عتيقة فانبهر الجميع لقوة هذا الغريب واندفاعه ، رغم ما يبدو عليه منمظاهر الاعياء ، وعلائم الهزال ؛ فتركوه ، والبئر ، وشانه ، فسقى للفتاتين {.. ثم تولى الى الظل ، وقال : رب اني لما انزلت الي من خير فقير }

فالجوع ، الى جانب ما كابد من اعياء ، يكادان يهدان عزيمته هدا ؟ وما هي الا ساعة ، .. واذا باحدى الفتاتين تتجه مقبلة نحوه استحياء وخفر ، وتقول له : { .. ان ابي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا .. }

فيقبل الدعوة موسى ؟ .. ويتبع الفتاة الى دار ابيها . وفي الطريق يطلب موسى من الفتاة ان يتقدمها وتسير هي خلفه ، فهكذا تقضي العفة ، وواجب الوفاة ! .

وعندما وصل موسى الى البيت نزل على ترحاب واطمئنان ، بعد ان استقبله الشيخ بالحفاوة والاكرام . وبعد ان اخذ حظهمن الراحة ، وتناول نصيبه من الطعام ، قص على مضيفه قصته ، فتعجب الشيخ ايما تعجب ، وربت على كتف الفتى قائلاً له بصوت يشيع فيه الوقار ، وهو يهز رأسه : { لا تخف . نجوت من القوم الظالمين }

ويسأل موسى الشيخ الجليل عن اسمه ، فيقول له الشيخ وهو يعبث بلحيته الكثة : " انني شعيب ! .. ارسلني الله تعالى الى اهل هذه القرية المجاورة واسمها " الايكة " ولكنهم قوم يجهلون ، وسفهاء لا يعقلون ، يطفطفون ( أي : ينقصون ) الكيل والميزان ، ويبخسون الناس اشيائهم ! … "

ويصمد الشيخ قليلاً وقد سرح نظره بالافق المتـرامي البعيد . ويصـمت موسى . فالله الحكمة البالـغة ، ان امره كان حتماً مقضيا !.

وتحدثنا بعض الرويات بان"الايكه"هذه،هي،قريه"بليدا" في جنوبي لبنان ،وان البئر التي سقي منها موسى،هي " بئر بليدا " القريبه منها، جنوبا شرقا …وتتقدم احدى الفتاتين من ابيها ،لتهمس في اذنه ، عاى حين غفله من موسى : {..يا ابت ،استاجره، ان خير من استاجرت القوي الامين !}.

وتقص الفتاه على مسامع ابيها كيف ا***ع موسى الصخره من على فوهه البئر ،على هزاله وضعفه فتفجر الماء غزيرا ،..وكيف اطرق الى الارض وهى تدعوه الى منزل ابيها ، وكيف طلب اليها في الطريق ، ان يتقدمها ، وتتبعه ،كي لاتقع عينه على مالا يجوز لها ان تقع عليه ..ويطرق الاب الى حديث ابنته ، فيا لهذا العف، الشهم ،الكريم !.

ويدعو موسى ، ويجلشه على جانبه ، ثم يتوجه اليه بوجهه ، وطيف ابتسامه ياتمع على ثغره الوضئ ، ويقترح الشيخ على فتاه اقتراحاً مفاجئاً :

ما تقول يا موسى في ان ازوجك احدى ابنتي هاتين ، على ان تقوم بمناصرتي وعوني ورعاية اغنامي ثمانية اعوام ، وان اتممتها عشراً اكن لك من الشاكرين .. ، وما اريد ان اشق عليك !…وذلك بمثابة مهر العروس ، كما تعارف على ذلك الناس ؟

فيشرق وجه موسى . وتؤوب اليه نفسه مطمئنة ، اسعد واهنا ما تطمئن اليه نفس انسان !.. لقد وجد في هذا المنزل الكريم ضالته المنشودة ، وفي هذا الشيخ الوقور اسمي درجات الوقار والايمان ، فانجذب اليه ،وشبه الشئ منجذب اليه !..

ولم يطل تفكير موسى ، اذ ما لبث ان وافق ، فتعاهد الرجلان علىذلك ، وكان الله على تعاهدهما شهيداً !..

ويتزوج موسى احدى الفتاتين ، ويبقى عند سيده عشر سنين ، موفياً بما عاهد ، ومتماً اوفى الاجلين ، يناصره ويعينه ، ويرعى له اغنامه التي تكاثرت بشكل مطرد !… ورد في احدى الروايات ، على هذا الصعيد ـ ، نادرة تقول :

بينما كان موسى يرعى قطيع سيده ، اذ فر تيس ماعز في ارض وعرة ، مصعداً في هضاب عالية ، واكام ، وتلال .. ولحق به موسى ، متتبعاً اياه ، لاهثاً ، حتى ادركه بعد عناء شديد ،وجهد جهيد . فاوقفه ، وجلس موسى يستريح ، وقد كادت تنقطع انفاسه الاهثة ، ثم جذبه اليه من قرنيه برفق ، وقبله بين عينيه ، واخذ يمسح جبهته بحنان ، مخاطبا اياه ، وقد تحدرت دمعة على خديه الكريمين :
  1. والله لم الحق بك هذه المسافة الطويلة خوفا من احد ، ولا طمعا بك ، ولكن ، حرصاً عليك من ان يفترسك الذئب !.
  2. وكانت اطلاعة له تعالى على قلب موسى ، فاذا كالذهب الخالص صافياً ، او اشد صفاء ونقاء .. فيقضى ساعتئذ لموسى بالنبوة احسانا لقلبه السليم ، ونفسه الطهور ، وتكريماً !…
    تحرك الحنين في نفس موسى بالعودة الى الديار التي درج فيها ايم طفولته وصباه . فما1ا حدث لها بعد هذه السنين العشر الطـوال ، وكانها دهر مديد ؟ .. ويحدث زوجه بالامر ، فلا تمانع ، وويرضى بذلك شعيب .. ويتحول الحنين الى عزم ، وتصميم ، فقرار !.
    فيجمع موسى امتعته البسيطة ، ويزوده شعيب بقطيع من الاغنام ، صغير ، ويدعو لهما برحلة سعيدة ، فيودعانه وداعاً حسنا ، ويتجهان في رحلتهما جنوباً ، والله الهدي سواء السبيل !.
    ويقطعان ارض كنعان وفلسطين من شمال الى جنوب ، ولايجدان في اجتيازها مشقة تذكر ، او كبير عناء ، .. ففيها الـماء ، والكلا ، والخصب الوفير ..
    واليها انشداد روحي عميق عميق ، ففي زايتها الشمالية الغريبة ، عاش اباء له واجداد ، صلحاء واتقياء ً.. وتطوى لموسى وزوجه الارض طياً !.
    فاذا بهما بعد بضعة ايام في سيناء ، الارض التي سيكون لـها في تاريخ بني اسرائيل ، بعد حين ، شان جد خطير !.. ويهبط الظلام ، فتمحي الحدود والمسافات ، والابعاد ، والجهات ، .. وتهب ريح باردة .. وياتي زوجه الحامل المخاض ..
    فيتلفت موسى الى عل ، والى امام ، وذات اليمين وذات الشمال ، تلفت الحيران في امره ، المضطرب في مسيره ، وقد ضل السبيل ، والتوت عليه الطريق ، فما يدري ماذا يفعل . فيصفق كفاً بكف ، قائلاً : رباه ، ما العمل ؟ ويتلفت موسى الى طور سيناء ، وقد عميت عليه الجهات ، فلا يدري شرقاً من غرب ، ولا يميز شمالاً من جنوب … فلعله يجد في هذا الجبل ، المتواضع بعلوه ، بعض دليل ، واذ به يرى ناراً من الجهة التي تليه .
    انها لمفاجأة سعيدة حقاً ، ويفرك عينيه ، وكانه لا يكاد يصدق ما تشاهدان ، احقيقة ما يراه ام طيف منام ؟ ولكن النار ما زالت تظطرم . وما زال لهيبها يسطع في الاجواء بنور ابيض ، لطيف ..
    ويقول موسى لزجه التي تعاني ، وقد اخذ يفرك يديه ، بانفعال :
  3. { امكثوا اني انست نارا ، لعلي اتيكم منها بخبر ، او جذوة من النار لعلكم تضطلون .. }
ويحث موسى خطوه الى النار الملتهبة ، بسرعة الولهان ، وسرعان ما يصل الى { شاطئ الواد الايـمن في البقعة المباركة من الشجرة } وينظر الى النار . انها لنار عجيبة حقاً ، فيغفر فاه دهشاً !..

ويكرر موسى الى النار النظر ، ويعيد ، .. انها تلتهم من العوسجة الاغصان والاوراق ، اما الجذع فمخضوضر يانع ، وكأن بينه وبين النار المشعشعة حائلاً !. ويتأملها برهة ، كالمصعوق ، .. فهي ، بالاضافة الى ذلك لا تتغير ابداً ، فلا لهيبها يخبو ، ولا اضطرامها يزداد . انها على حال واحد لا يتغير ، .. فهي اشبه ما يكون بالنور بال هي نور لا نار !..

وتتعلق بهذا النور الشفاف ، عينا موسى ، مأخوذ !.. ويقطع دهشته صوت ، لا كالاصوات ، ينبعث من قلب هذ العوسجة الغريبة ، بناديه باسمه : { اني ربك فاخلع نعليك ، انك بالواد المقدس طوى } فيتمثل للامر موسى ، وقد ارتعدت فرائصه لهول المفاجأة

التحدي العظيم، وتفوّق موسى :

ونزل فرعون بعظيم أبّهته وجلاله، يحيط به سادة المملكة وأشرافها، ويتبعه السحرة أفواجاً، وهم يحملون عصيّاً لهم، وحبالاً!.. وتتجه بهم العربات الموشاة بالذهب إلى الساحة الكبرى في المدينة التي أعدّت لاستقبال فرعون مصر، فرفرفت حولها رايات كثيرةٌ، وزينة ذات ألوان... واحتشد حولها خلقٌ من المصريّين، عظيمٌ. توافدوا من كل أقاليم مصر، وأطرافها.. إنّها لمناسبة يضن (أي:يبخل) بمثلها الزمان. فهي حدث العصر الضخم، وحديث الدنيا كلها!..

ويصل فرعون ورهطه..

وكان موسى وهرون لهم بالانتظار!. إنّ لهذا اليوم ما بعده!..

وانتهى إلى مسامع موسى وأخيه تهامس السحرة فيما بينهم، كالنجوى:

- مالهذين الساحرين العالمين، يريدان إخراجنا من أرضنا بسحرهما، والذهاب بطريقتنا التي تعارفنا عليها أسلوب حياة، ونظام عيش. والتي هي بالنسبة لنا، الفُضلى والمثلى؟!..

فيحذّرهم موسى: {.. ويلكم، لاتفتروا على الله كذباً، فيُسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى!}.

ويلتفت كبيرهم إليه، قائلاً: مالهذا جئناك ياموسى، أنلقي نحن، أم تكون أول من ألقى؟

فأجابهم: {بل ألقُوا!..}.

وتقدم كبير السحرة فألقى عصاً كانت بيمناه، فإذا هي {يخيّلُ إليه من سحرهم أنها تسعى،..} وأتبع ذلك بحبل كان على كاهله، فألقاه، فإذا هو حيةٌ أعظم من الأولى، وأدهى!.

ثم أشار كبير السحرة إليهم، أن ألقوا!.. فألقوا حبالهم وعصيهم، فإذا بالساحة تموج بالحياة، من كل شكل، وبالثعابين، تتحوى، وتتلوّى!...

فتهلّل وجه فرعون، وقد ترنّح عطفاه، فاهتز طرباً، وصفق بيديه مستبشراً!.. وصاحت الجماهير المحتشدة، وهتفت لفرعون، ومادت الارض بالجموع النسوى (أي السكرانة).

شاهد ذلك كلّه موسى،.. فأوجس خيفة مما رأى!.

وأوحى الله الى نبيِّه في غمرة المفاجأة:

{.. لاتخف انك أنت الاعلى!. وألق مافي يمينك...}

فانتفض، كمن أفاق من سهوته، وألقى عصاه،.. فاذا هي حيّة، لاكالحيّات، وقد أخذ جسمُها ينتفخ ويتعاظم، حتى صارت ثعباناً مهولاً، تقدح عيناه بعظيم الشرر، ولفحيحه صوت هادر، وقد تدلّى لسانه من بين شدقيه الهائلين، متحرّكاً يمنةً ويَسرة، وكأنه يتوعّد بالخطب الجلل. وانبرى إلى الحيّات الساعيات أمامه، وهي مئات، فبدت أمامه، لضخامة هيكله، وكأنها الديدان الحقيرة... وأخذ بالتقامها الواحدة تلوَ الأخرى!..

وكان الثعبان يتلفَّتُ، هائجاً، إلى المتحلّقين حوله، فتمتلئ قلوبهم رعباً.

ويدمدمُ فرعون، وقد أخذ الخوف منه مأخذاً عظيماً، يالهذه الداهية النكراء!..

ويلتفت كبير السحرة، وكان أعمى، إلى ساحرٍ آخر بجانبه قائلاً:

- ويحك!.. ماالخطب في ماترى؟..

فوصف له مايحدث، وقد بان الخزي على وجوه السحرة، فهم لما يشاهدون منكرون، وقد ظهر موسى وأخوه عليهم ظهوراً بيّناً!..

- ثكلتك أمُك لما أسمع!.. تأمّل جيداً هذا الثعبان، فهل يكبر جسمه ويعظم حجمه عند التقامه الحيات، أم أنه يبقى على حاله، لايتغير أبداً؟.

- بل يبقى على حاله، أبداً!.

إيمان السحرة وآخرين :

فأطرق كبير السحرة برأسه قليلاً، ثم رفع رأسه، متوجّهاً الى السحرة، صارخاً بهم:

- ويحكم ياسحرة مصر!.. إن ماترون، ليس بسحر كسحركم، ولكنّه الحق أتاكم من ربكم،.. فتوبوا إلى بارئكم، وأقلعوا عمّا انتم عليه من الضلالة والغواية، وعبادة فرعون، وآمنوا بالحق الذي أتاكم به موسى.

{فألقى السحرة سُجّداً، قالوا: آمنّا بربّ هارون وموسى!}.

وكان الثعبانُ قد أتى على الحيّات جميعاً!.

ومد موسى يده إليه، فتناوله، فإذا هو، كما كان، عصا!.

ونظر القوم بعضهم الى بعض محملقين، وكأنهم كانوا تحت وطأة كابو رهيب!.. فثارت، عند ذلك ثائرة فرعون، وتغيّرت سحنته (اي: هيئته) فبدت دكناء،.. وعلا صوته، كالعاصفة المجلجلة، متهدّداً السحرة، ومتوعّداً أياهم، فهم، بزعمه، قد تواطأوا عليه، وعلى حكمه، مع موسى،..

وأمر بالقاء القبض عليهم، وخاطبهم، فأسمعوه من القول مالايرضى!.. ثم امر بهم، فصلبوا، بعد أن عذّبوا عذاباً نكراً!..

وانصرف موسى.. وتبعه خلق كثير ممن آمن به واهتدى.. ولم يهنوا، ولم يضعفوا، بل صبروا على ماأصابهم من فرعون من عظيم الكيد والأذى!..

وبدأ موسى يسُنّ لجماعته سنن الدين القويم،.. وكان أول ماقام به التوجه لعبادة الله وحده، والإيمان به خالق كل شئ، بيده الملكُ، وهو على كل شئٍ قدير...

وأمر جماعته بالصلاة!.. فبالصلاة يعرف مؤمن من غوي!.. على أن يتوجه المؤمن منهم لجهة منزل أخيه المؤمن، يتخذه قبلة له، يصلي اليها. وكان قصر فرعون قبل ذلك كعبة المصلين، وقبلتهم، إليه يتجهون في صلواتهم، فحرم ذلك عليهم موسى!.. وازداد أذى فرعون، وعظم كيده، وعمت بلواه المؤمنين، فلا طاقة، بعد، ولااحتمال. وأقبل إلى موسى رهط من بني اسرائيل يتذمرون، - فإلى متى هذه المحنة السوداء؟.. - وأسمعوه من القول مالايحب، عندما {قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ماجئتنا. قال: عيسى ربكم أن يُهلك عدوّكم، ويستخلفكم في الارض..}.

ويأمركم أن يستعينوا بالصبر، وبالصلاة، وبالتوجه الى الله تعالى دائماً!..

ويبقى المؤمنون من بني إسرائيل وبعض المصريين المستضعفين، يحتملون من العذاب والأذى مالايطاق! ويبقى فرعون سادراً في غيّه، وعلى ضلاله القديم، عتوّاً وطغياناً..

ويصل به الأمر أن يأمر هامان -وكان له وزيراً- ببناء صرح، له، عظيم، يناطح أعالي الأجواء، لعلّه يطلع إلى إله موسى، ونادى في جمع كبير من انصاره المصريين: {ياقوم:.. أليس لي ملك مصر، وهذه الانهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم انا خير من هذا الذي هو مهين ولايكاد يبين!.}.

واتبع فرعون من أساليب ال***** وفنونه، والتنكيل وضروبه، مالم يخطر ببال!.. وصبر جماعة موسى على ذلك كله صبراً عجيباً، ابتغاء رضوان الله ومثوبته، واحتساباً!. فما ازدادوا إلاّ إيماناً وتسليماً!..

بطش فرعون بخصومه :

ويطفح الكيل بالنسبة لفرعون، أخيراً.. بعد أن لم تجد كل أساليبه نفعاً!. فيعزم على أمر خطير، يحسم الأمور، ويضع لها حداً نهائياً!.. فيقرر *** موسى!...

ويشيع الخبر بين الخاصة من رجالات البلاط، فيتكتّمون. ويسمع بذلك أحدُهم، فيقبل عليهم وهم مجتمعون صارخاً فيهم بلاذع التأنيب.

{.. أت***ون رجلاً أن يقول ربي الله؟..}.

ويحذرهم مغبّة ماهم عليه مقدمون، ويخوّفهم عذاب الله، وأخذه الشديد. مذكراً إياهم بأيام الله الماضيات، وبأقوام قبلهم، كقوم نوح وعاد وثمود، وأصحاب الرّس، وطسم، من قبل، وجديس، عتوا عن آيات ربهم، واستكبروا، فأخذهم الله بذنوبهم، ودمّرهم تدميراً، فتلك ديارهم خالية منهم، فهي قفر بلاقع!. (ج، بلقع: لاحياة فيه).

ويدعوهم إلى نبذ ما هم عليه من عبادة فرعون، الذي أضلّهم، فما اهتدى، ولاهدى، والايمان بالله وحده الذي {له مافي السموات ومافي الارض ومابينهما وما تحت الثّرى!..}.

فترتفع أصوات المجتمعين ثائرة بوجهه، ويامر به فرعون، في***ه شر ***ة!.

إنّه مؤمن آل فرعون، على رأس قافلة الشهداء أيّامذاك!..

وتعلم آسية بالأمر، فتثور، معلنة براءتها من ظلم زوجها، وطغيانه وعتوه، وإسرافه على نفسه وعلى الناس الذين حوله أجمعين، وتتوب إلى الله خالقها، كي يغفر لها خطاياها، كما تاب قبلها سحرة فرعون فغفر الله لهم خطاياهم، وما أكرههم عليه فرعون من السحر. وجعلهم من عباده المكرمين. ويمسك بها فرعون، ويأمر بها الى أشد العذاب.. ويتلوى جسدها الغض تحت سياط ال***** المبرّح. فتتمتم: {.. رب ابن لي عندك بيتاً في الجنّة، ونجّني من فرعون وعمله..}.

وتُغمض عينيها، وقد أغمي عليها، ثم تفتحهما، وتنظر إلى السماء، فتبتسم سعيدة بما ترى: لقد استجاب الله لها دعاءها، فأراها قبل انطفاء أنفاسها، قصراً يتلألأ في العُلى.

ويجن فرعون، مما يرى، جنوناً.. ويقول لأصحابه:

- أترون؟.. إنّها مجنونة، فهي تبتسم تحت العذاب الشديد!.

ثم لاتلبث أن تلتحق بركب أمراء أهل الجنة، الشهداء السُعداء، الأبرار الأخيار!..

ويزداد فرعون تصميماً!.. فبقطع الرأس، يتلاشى الجسد.

وموسى رأس هذه الحركة، وهو المخطط والمدبّر والمنفّذ معاً!.

فب***ه، ينتهي كل ماقام به وكأنه عاصفة في فنجان. وتعود بعد ذلك الأمور الى سابق عهدها القديم. ولكن،.. هيهات، هيهات، {.. إنّ أجل الله لآت} و{إنّه لايُفلح الظالمون!}.

آيات وإنذارات :

ولايترك نبي الله موسى مناسبة تمرُّ دون أن يدعوَ فرعون وملأه إلى الإيمان بالله، بالحسنى، والقول الطيِّب، ويرغب موسى فرعون، كالمكافئ له إن آمن، فهو يضمن له، على الله، دوام ملكه لاينقُصُ منه شئ، وصحته، لايصيبها شئ، وأن ينسأ بأجله (أي يطيل عمره) إلى الضعفين، ولامن مجيب!.. بل لجاجة في الطغيان، وفي العمى.. {فإنّها لاتعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} فيحذرهم موسى سوء المصير، ووخيم العواقب، فلايرعوون، بل يزدادون عتواً ونفوراً.

وتكرّ سبحة العذاب :

وكان أول إنذار من الله لهم، نقص في الاموال، والانفس، والثمرات.. فلم يعُد نهر النيل، كما كان يفيض خيراً عميماً، وبركة وعطاء جمّاً، بل شحّ ماؤه، ونضب عطاؤه. فعمّ القحط والجدب البلاد. ثم لاتلبث السماء أن تفيض عليهم بالمطر الغزير يهطل مدراراً دون انقطاعٍ، فيأتي الطوفان، ويعمُّ ضررهُ البلاد والعباد..

ويرتفع إذ ذاك صوت آل فرعون، والمصريين، ويُقبلون على موسى مستصرخين، مستنجدين، مولولين، يجأرون مستغيثين:

- {.. ياموسى.. ادعُ لنا ربُّك بما عهد عندك، لئن كشفت عنّا الرجز (أي: العذاب). لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل}.

- أحقاً ذلك، وعهداً؟..

- إي وربِّ بني إسرائيل!

فيرفع موسى يديه الكريمتين إلى السماء داعياً، فيستجيبُ له الله الدعاء.

وتمضي أيام، وتكُرُّ أعوامٌ،.. فيتدفَّقُ نهرُ النيل، كما كان، يحملُ الخِصبَ لأرض مصر، ويهب لها الحياة فمصر هبة النيل!. وتخضوضرُ الأرض، وتزهو بيانع النبت والثمر، وتضحك الجنائن عن متألّق الزهر، وكأنَّ شيئاً لم يكن!.

ويُطالب موسى القوم بالوفاء بوعودهم، فيستهزئون به، وهم ناكثون!.

{فلما كشفنا عنهم الرجز الى أجل، هم بالغوه، إذا هم ينكُثون}. ويزدادون كفراً.

ويغضب موسى. ويغضب لغضبهِ اللهُ!..

فأرسل الجراد عليهم، يأتي على الأخضر واليابس. فإذا بأرضهم يباب موات!. ثم سلط عليهم القمل، فلم يهنأوا في رُقاد، وقد أقضَّ مضاجعهم، وهو ينهش بجلودهم نهشاً. ثم نغَّص الله عليهم حياتهم بالضفادع، فكانت تمتلئ بها بيوتهم، وأماكن تواجدهم، وأواني طعامهم وشرابهم، حتى أنها كانت تتغلغل بين ملابسهم..

وكانوا في كل مرة، كما في الأولى، يستصرخون موسى فيصرخهم (أي: يلبّي نداءهم وينجدهم) فيعدونه ويعاهدونه، وكانوا، عندما يرفع الله عنهم الرجز بدعوة موسى، ويبعد عنهم العذاب، يعودون لغيّهم، وضلالهم وقد نكثوا عهودهم وأخلفوا وعودهم!. ويُختم هذا البلاء بالدم الرعاف من أنوفهم، فاصفرت ألوانهم وبهتت هيئاتهم..

ثم، بالدم يلاحقهم عند كل مشرب هم واردوه!..

يكون الماء في الكأس، أو غيره، أمام أحدهم صافياً زلالاً، كالفضّة السائلة، وما أن يرفعه ويقدمه إلى فيه ليشرب، حتى يتحول الماء دماً عبيطاً!.. فيعافه، ويبقى على ظمئه عطشاناً..

حتى أن المرأة من بني اسرائيل، كانت تتناول الماء بفيها، وتزقّه فم المرأة الفرعونية، كالطير يزق فرخه، فيتحول في الفم الآخر دماً،...

ومرة أخيرة يستصرخون، مظهرين الندم، قاطعين الوعود، مشهدين إله موسى وبني إسرائيل على صدق دعواهم، هذه المرة، فيصرخهم موسى، ويرفع الله عنهم هذا الرجز المرير، وهو الذي يُمهل ولايهملُ!.. ولكنّ نزعة الشرِّ كانت قد تمكنت في نفوسهم، وتأصّلت، وتجذرت حتى عميق الأعماق. فلم يحاولوا الإقلاع عمّا أدمنوا عليه من السجايا القباح!. بل عادوا لما كانوا عليه من نكثٍ ونُكرانٍ، وجحودٍ، وتكذيب بآيات الله واستهزاءٍ برسله وبالمؤمنين...

{وقالوا: مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين!}

ويعود موسى فينذرهم إنذاراً نهائياً، لاعودة منه، فذهبت صرختُهُ أدراج الرياح. فييأس منهم موسى، ويقطع من إصلاحهم كل أمل ورجاء.

ولشدة مالاقى منهم من عنت ومن قهر، يدعو الله أن يطمس على اعينهم ويشد على قلوبهم، {فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم}.

فيستجيب الله لنبيّه دعوته!...

- {أفبعذابنا يستعجلون؟}.

خروج موسى وجماعته من مصر وغرق فرعون وقومه :

ويهبط الوحي على موسى، يأمره وقومه، أن يتأهبّوا لمغادرة ارض مصر، فليس لهم بعد اليوم فيها مقام. فخرج معه نفر من المؤمنين، وتخلّف آخرون!...

وسخّر الله على مدينة فرعون ريحاً عاتية، ألزمتهم منازلهم ثلاثة أيام لم يستطيعوا الخروج منها. وفي اليوم الرابع تفقّد جند فرعون بني إسرائيل، فوجدوهم قد غادروا المدينة، لم يتخلف منهم إلاّ القليل. وعلم فرعون بالأمر فاستشاط غضباً وحنقاً، مقسماً على الانتقام منهم، فستنالهم يداه، مهما بعدوا عنه، هرباً!.

- فأرسل فرعون في المدائن حاشرين. إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون. وإنّهم لنا لغائظون. وإنّا لجميعٌ حاذرون}..

واتّبع بني إسرائيل، فأنّي لهم أن يُعجزوه طلباً!... وأمر الله موسى أن يتبع اتّجاه الرياح، ففعل!.. وعجب بنو إسرائيل من هذه الطريق الغريبة يسلكها بهم موسى، وهي بمنأى عن دُروب القوافل والمسافرين.

وماهي إلاّ ساعات، حتى كانوا أمام البحر وجهاً لوجهٍ. فعلا صراخهُم، واحتجاجهُم، وتذمُّرُهُم، وقد دخل الشكُّ قلوبهم، فلم يغادرها، ولن!.. فاستمهلهم موسى، داعياً إياهم -كما في كل مرة- إلى الصبر والأناة. فإلى الله الرجعى!..

وتراءَت لهم جيوش فرعون من بعيد، يملأون الأفق عدّة وعدداً.. فأيقنوا بالهلاك، وساد صفوفهم هرج ومرج، وذعُر وصخب. وأحاطوا بموسى، يلومون:..

- أإلى الهلاك تقودُنا ياموسى، هانحنُ أولاء بين البحر وفرعون، فأين سدادُ رأيك،؟.. بل أين ماوعدّك ربُّك يا موسى؟..

ويعود يدعوهم إلى مزيد من الصبر والتوكُّل على الله، فهو منجيهم، ولن يروا، بعد اليوم، من فرعون وجنده أحداً!..

ويرتفع صوت ظريف منهم، بخبثٍ: الحقَّ تقول ياموسى. فبعد هلاكنا على أيديهم لن نرى منهم أحداً أبداً

ويجيبه موسى: بل الله مهلِكهُم جميعاً!..

{ فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون. قال كلاّ إنّ معي ربي سيهدين}.

وعندما غربت الشمس، أرسل الله مايشبه السحابة المضيئة، وكأنها تلتهب. فانتصبت في الجو كعمود من نار ونور آضاء كل شئٍ. فبدّد غياهب الظلام، وموسى وقومُه واقفون أمام البحر حيارى. بوجومٍ وذهول!..

{ فأوحينا إلى موسى ان اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم}.

وكانت المعجزة.. وقد انشق البحر عن اثني عشر طريقاً!..

وعلت مياه البحر المتجمّدة فكانت كالجبال الثوابت، وتقدّم موسى قومه يسلُكُ بهم هذه السبل العجيبة، عابرين إلى الضّفّة الثانية، وقد جعل الله في هذه المياه المتجمدة العالية مايشبه الكوى (جمع. كوّة). فكانوا يشاهدون بعضهم بعضاً، وهم يعبرون، وكانوا يتحادثون مستأنسين!..

وتبعهم فرعون بجنوده مقتفياً آثارهم في البحر المنشقّ لهم، وقد علت أهازيج جنده وصيحاتهم. ظناً منهم بأنّ البحر انشق لفرعون بقدرته!. وكان بنو إسرائيل قد اتمّوا عبورهم إلى الضفة الثانية. وإذا بصوت كالرعد القاصف، فالتفتوا خلفهم، فإذا بالبحر قد أطبق على فرعون وجنوده، فكانوا من المغرقين! ولما أيقن فرعون بالغرق، قال {.. آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي لآمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}. ويجيبه صوت: آلان؟.. بعدما فات الأوان، فلا إيمان لمن فاته- في ماسلف من عمره- الإيمان!.. واتجه موسى ببني إسرائيل، وجهه الديار المقدسة، مشرقين، مخلِّفاً وراءه جيش أعدائه في اليم غرقى. وقد قاء البحر جثة فرعون إلى الشاطئ. فهذه نهاية كل متكبر جبار لا يؤمن بيوم الحساب!.

ويشاهد الخلقُ جثة فرعون ملقاةً على الشاطئ، سليمةً، وقد بدأ يدب فيها الفساد ويسرع إليها النتن، فيقول قائلهم:

- أين ألوهيتك يافرعون مصر؟ وأين عزتك القعساء؟ وأين سلطانك والكبرياء؟ إنها حكمة الله التي أبت إلاّ أن يظهر الحق جلياً كفلق الصبح.

{فاليوم نُنجِّيك ببدنك لتكون لمن خلّفك آية}.

ويحملون الجُثة عائدين بها إلى عاصمة الفراعنة. ويحنطونها، كي تبقى أبد الدهر شاهدة على وحدانية الله الواحد القهار، وأخذه مدعي الربوبية أخذة رابية!. بالمناسبة. فقد اختلف بعض المؤرخين حول شخصية فرعون مصر، فرآه بعضهم أنه فرعون آخر غير رمسيس، الذي نحن بصدده،... ويأبى الله إلاّ إظهار ساطع برهانه فهاهي ذي جثة الفرعون الآخر هذا، لازالت محفوظة بالتحنيط، ومسجاة إلى جانب جثة رمسيس، آية من الله لأولي النهى، وعبرةً لمن أبصر فوعى.

مما دعا بعض كبار علماء الآثار الغربيين إلى الإسلام انطلاقاً من الآية السالفة.. فأياً كان منهما، صاحب موسى، الذي ادّعى الألوهية... فها هي جثته معروضة لكل ذي عينين، أو ألقى السمع وهو منيب!..

ميقات موسى وردّة بني إسرائيل :

ومر بنو إسرائيل على قوم يعكفون على أصنامهم (يحيطون بها) يعبدونها من دون الله. فانقدح الشك في قلوبهم، وحنّوا إلى قديم وثنيّتهم، وقالوا لنبيّهم موسى:

- {.. ياموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهةٌ. قال: إنّكم قومٌ تجهلون. إن هؤلاء متبّرٌ (أي: مدمّر) ماهم فيه وباطل ماكانوا يعملون}.

والحّوا عليه، فصاح بهم: {أغير الله أبغيكم ربّاً وهو فضّلكم على العالمين؟..}.

وسأل موسى ربّه كتاباً يكون نوراً لبني اسرائيل، وهدى. لهم، لقلقهم، وما فطروا عليه، من العناد والعصيان لايكادون يستقرّون على الرأي الحق، ولمّا يدخل الايمان قلوبهم، بعدُ!.. فيأمره ربُّه بالطهور والصيام، ويواعده أربعين ليلة، يكلّمه بعدها، ويناجيه.

ولكن موسى كان على عجلة من أمره فقبل أن يتم أربعين ليلة كما واعده ربُّه اختار من قومه سبعين رجلاً صالحاً، وسبقهم إلى طور سيناء، بعد أن استخلف أخاه هارون على قومه، موصياً إيّاه بالصلاح فيما بينهم والإصلاح، مشدداً عليه: {اخلفني في قومي، ولاتتبع سبيل المفسدين}.

ويسأل الله نبيّه عن سبب استعجاله دون قومه:

- {وما أعجلك عن قومك ياموسى؟.}

فيجيب: -{هم أولاء على أثري. وعجلت إليك ربِّ، لترضى}.

ويأبى الله إلاّ أن يُتم ميقاته (أي: ميعاده) فعاد موسى، فأتمَّ عشر ليالٍ أخريات، حتى تصرّمت (أي مضت وانقطعت) أربعون ليلةً تماماً، كما قدّر الله لذلك وقضى!. وعاد موسى إلى ميقات ربِّه مسرِعاً، وقدماه تنهبان الأرض نهباً، لفرط حنينه للقاء مولاه، وولهه، وشدة شوقه وشغفه.

ويستبدُّ بموسى الشوق الشغوف، ومبرّح التوقِ، والوجدِ، والانجذاب،.. فيسأل ربّه شيئاً عظيماً، أليس هو أقرب خلقِه إليه، يحادثه، ويكلِّمه، ويناجيه، بصفاءِ محبةٍ، ومحضِ وَدادٍ؟..

لنستمع إليه تعالى يقصُ علينا هذه الطُّرفة:

{ ولما جاء موسى لميقاتنا، وكلّمه ربه، قال: رب أرني أنظر اليك. قال: لن تراني. ولكن انظر الى الجبل فان استقرّ مكانه فسوف تراني، فلمّا تجلّى ربُّهُ للجبل جعلهُ دكّاً، وخرّ موسى صعقاً، فلمّا أفاق قال سبحانك، تبت إليك، وأنا أول المؤمنين}..

ويتوب الله على موسى، وقد تجرأ على طلب ماليس له بحقٍّ، وما لاقُدرة له عليه، ولا احتمال!.. ويُناوله الألواح فيها أحكام كل شئٍ مفصّلاً، وموعظةٌ، وهدىً، ورحمةً لبني إسرائيل. ثم يخبرهُ بأنّ قومه ضلُّوا، وقد فتنهُم "السَّامري"، {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً!}. وإذا بهم متحلِّقون حول عجلٍ من ذهبٍ، يهزجون حوله، طربين، متعبِّدين. فعلم أنهم بالفتنة سقطوا وأقبل عليهم موبخاً ومؤنّباً، وثار غضبه، وفار.. وألقى الألواح المقدَّسة التي كان يحملها إليهم، أرضاً، فتحطَّمت، فاشتعل غضباً، وتميَّز غيظاً،. {فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثاً؟..}.

ووقعت عينُه على أخيهِ هرونَ، فأسرعَ إليه معنِّفاً، ممسكاً بشعره الكثِّ، ولحيتِه الطويلة، يجرّه بها إليه جراً عنيفاً، فصرخ هرون من فرط جزع وفزع:

{.. قال ابنَ أُمَّ، إن القوم استضعفوني وكادوا ي***ونني، فلا تُشمت بي الاعداء ولاتجعلني مع القوم الظالمين}.

فرجع موسى إلى نفسه، {قال: ربّ اغفر لي، ولأخي، وأدخلنا في رحمتك، وأنت أرحمُ الراحمين}.

وأيقن من جليّة الأمر، فقد عصى القومُ هارون الذي حذّرهم من مغبّة الوقوع في الفتنة، وعصيان خالقهم، وماكان بقاؤه فيهم على ماهم عليه من التمرد، والنفاق، والزيغ (أي: الميل إلى الباطل) إلا حفاظاً على وحدتهم، ولمِّ شعثهم.

والتفت موسى إلى "السامريِّ": فما الأمرُ؟..

ويجيب السامري: لقد شاهدتُ مالم يتسنَّ للقوم أن يشاهدوه، فقبضتُ حفنةُ تراب من أثر الملاك جبريل، وجمعتُ ما يحملُ بنو إسرائيل من حليِّ الذهب، وقذفتُ ذلك كلّه في حفرة، أجّجتها ناراً، وصنعت من ذلك {عجلاً جسداً له خوار}، اتّخذه بعضُ بني إسرائيل إلهاً!..

ورمقهم موسى بعين غضبى، فأطرقوا ندماً وخجلاً!..

ويهبُّ موسى لمعالجة الأمر سريعاً. ويأمرُ بالعجل، فتُرسلُ عليه النار، فتحرُقُهُ، وتفتِّتُهُ تفتيتاً، وتهب ريح تذروه في البحر، هباءً منثوراً..

وأمر بالسامري منبوذاً، لايدنو من الناس، ولايقربُه الناس، ولايمسُّه أحدٌ أبداً.

وأمر قومه بالتوبة، و*** أنفسهم، ولعلَّ المقصودُ بذلك كسرَ حدَّتها، وكبتَ شهواتِها، وكبح رغائبها، وتطهيرها وتزيكتها، ففعلوا ماأُمرُوا به، وتاب الله عليهم جميعاً!..

وعاد موسى إلى ميقات ربّه، من جديد، بعد أن اختار من قومه - كما فعل آنفاً- سبعين رجلاً ولما وصلوا الى الجبل، زلزلت الارض بهم زلزالاً شديداً. فصاح عندئذ موسى متضرعاً وجلاً:

- {.. رب، لو شئت أهلكتهم من قبل، وإيّاي. أتُهلكنا بما فعل السفهاء منّا؟..}.

فتشملهم رحمة الله،.. وتستقر الارض تحت أقدامهم، وتهدأ، فيهدأون!..

وعاد موسى يدعو قومه الى اجتماع ليبين لهم ما أنزل الله من أحكام إقامة صلاة وتأدية زكاة، وكانت الدعوة أمام سفح الجبل، فلم يسمعوا له قولاً. فتزلزل الجبل فوقهم، وتناثرت حجارته عليهم، فسمعوا عندئذ قول موسى!..

التيـــه :

ويقود موسى قومه إلى أرض الميعاد في فلسطين، لعلهم يلقون فيها عصا ترحالهم، بعد عنائهم الطويل ويصيبهم في الطريق الظمأ، فيصرخون: ياموسى.. الماء، الماء!..

{وأوحينا الى موسى إذ استسقاه قومه، أن اضرب بعصاك الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم!}. فارتووا!..

وكان هجيرٌ قائظ، فأرسل الله فوقهم الغمام، يظللهم من لفح الشمس، ويكسر حدة الرمضاء. ثم أدركهم الجوع، فصاحوا: ياموسى.. الطعام، الطعام، فأرسل الله لهم المنّ والسلوى، {كلوا من طيبات ما رزقناكم}، دون طغيان، ولا جحود ولاكفران!..

وتابع طريقه موسى، ووجهة سيره "أريحا" لمواجهة من فيها من عتاة الكنعانيّين والحثّيّين. فاستسلم بنو إسرائيل إلى خور العزيمة، ودبّ فيهم الوهن، وقالوا:

- {.. إنّ فيها قوماً جبّارين. وإنّا لن ندخلَ حتّى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون!}.

فهاله ماهم عليه من التقاعس، والجبن. وأخذ يحبب إليهم القتال في سبيل الله ويرغّبهم بالجهاد، فكان كمن ينفخ في رماد، أو، كمن يصرخ في وادٍ!..

ثم صارحوه بجليّ أمرهم، وما انطوت عليه نفوسهم من خبثٍ، ولؤم طباعٍ:

- {.. ياموسى، إنّا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، أنّا ها هنا قاعدون}.

فأيقن عندئذٍ موسى بأن قومه قد غرقوا في بحر الضلالة والخذلان، والعصيان، والغيّ الموفي بأهله على النار، فرفع بصره الى السماء، وقلبه يكاد يتفطّر قائلاً: {ربّ، إنّي لاأملك إلا نفسي وأخي}. نافضاً يديه منهم أجمعين!..

وكان جزاء تقاعسهم، وخور عزيمتهم، أن ظلّوا يتيهون في (أرض التيه)، حيارى، لايهتدون إلى معالم طريق، مدة أربعين سنة، هلك خلالها كل هذا الجيل المتهاوي، المتهالك على نفسه، الذي ما أن يؤمن حتى يعود إلى الكفر من جديد،.. لينهض على أنقاضه جيل منيع عزيز،.. لايسأم الجهاد، وركوب متون (أي: ظهور) الحرب والقتال!..

وفاة موسى، وظهور يوشع بن نون نبيّاً جديد :

ولما شعر موسى(عليه السلام) بدنّو أجله، نظر في أمور قومه، فأحسن تنظيم أوضاعهم، خاتماً فيهم رسالته ناظراً بعين الغيب إلى نبيٍّ جديد، يرسله الله إلى أهل مكة ومن حولها فيخرجهم من الظلمات الى النور!..

ثم غادرهم، وهم عنه غافلون، تجرّهُ قدماه في عمق الصحراء، وخيالهُ يلتهب بذكريات، وما أكثرها.. ومعظمها لاسع كالجمر المتّقد. وفيها كل غريب وطريف، فهي لاتبرح خياله أبداً.

وإن نسي، فلن ينسى منها ثلاثاً:

- الأولى: قصته مع الخضر: وسبب ذلك، أن نفس موسى حدّثته يوماً بأنه أعلم من على وجه الأرض، إنساناً! فصدّقها، وجاراها في دعواها. أليس هو نبيّ الله، وكليمه، ورسوله. فمن أقرب إلى الله من موسى؟. فاوحى الله تعالى إليه: إنّ من عبادي من هو أوسعُ منك إحاطةً، وعلماً!..

ويسأل موسى ربّه مستغرباً، من هو ياسيّداه؟

فيجاب: أنه عبدي الصالح، عند (مجمع البحرين).

فيشدُّ إليه موسى عصا الترحال، يبتغي مقابلته، والتعلُّم منه. وقد اصطحب معه فتاه، ويجتمع موسى بالعبد الصالح هذا،.. ويرى على يديه خوارق ومعجزات لا يستطيع الانسان العاديّ إلاّ إنكارها. وكذلك فعل موسى!..

وفي نهاية المطاف -(كما ورد في سورة الكهف، الآيات: 60-82)- يشرح الخضر لنبي الله موسى حكمة الله من كل ماقام به من تصرفات. إنّه التأويل لبواطن الأمور، لاتفسير ظاهرها!... ويشعر موسى بضآلة علمهن وهو النبي المجتبى، أمام ما أوتيه العبد الصالح حكمةً وعلماً!..

- الثانية: قصة بقرة بني إسرائيل: وكان ذلك عند ماقُتل أحد رجالهم، ولم يعرفوا قاتله. فأمرهم الله أن ي***وا بقرة -(كما ورد في سورة البقرة. الآيات: 77-83)- وأخذ بنو إسرائيل يستقصون من نبيّهم موسى عن ماهيتها، وصفاتها، ولونها.. لجاجاً منهم وعناداً! واهتدوا بعد لأيٍ (أي: جهد ومشقة) إليها، ولم يستطيعوا ابتياعها، إلاّ بعد أن دفعوا مبلغاً من الذهب، كبيراً... يُضاف إلى ذلك جدهم في طلبها، حيرتهم، حتى اهتدوا إليها، بعد شهور طوال، من التفتيش والتنقيب، ولو أنهم آمنوا بالله ورسوله، وسلّموا إليه إمورهم، وتخلّوا عن لجاجهم وعنادهم، لوجدوا في أي بقرة تقع عليها أيديهم، مايفي بالغرض المطلوب!.. ولكنه العناد الحرون، والفطرة على الشقاق والنفاق، وسيّئِ الأخلاق!.

- الثالثة: قصته مع قارون:

وهي الأدهى، والأمرُّ! فقارون، تربطه بنبيّ الله موسى وشائجُ دمٍ، وقربى رحم. وكان قارون أغنى أغنياء بني إسرائيل. فله من كنوز الذهب ماتنوءُ بحمل مفاتيح خزائنه عصبة من الجمال شديدة القوى، فكفر برسالة موسى، وجاهره العداء، وألَّبَ عليه الأعداء، باذلاً في سبيل ذلك الأصفر الرنان!: (كما تقص علينا سورة القصص. الآيات: 76-83) وتمنَّى بنو إسرائيل أن يؤتوا مثل ماأوتي قارون، فكأن الله قد أفاض عليه من الذهب نهراً لاينضب. ونسُوا، وهم دائماً ينسون، أنّ رحمة الله خير من كل ذلك وأبقى!

وانتظر بنو إسرائيل قارون، حتى خرج عليهم، يوماً، في زينته، فانبهرت أبصارهم بها، وانشدهت بصائرهم، {إنّ هذا لشئٌ عُجاب!..}. ونسوا كل شئ، فهم مأخوذون بهذه الفخامة من الزينة، والبهرج، يملآن عليهم الأفئدة، والأبصار، والأسماع!..

وبينما هم كذلك، وإذ بزلزالٍ يضرب دار قارون، وإذ بالأرض وكأنها تثور تحت قدميه، فتسيخ، وتخسف بقارون وبداره الأرض، فهو لاينفك متغلغلاً في باطنها كل يوم قامةً، إلى يوم القيامة، فاعتبروا ياأولي الألباب!.. وما أكثر العبر في بني إسرائيل، وأقلّ الاعتبار!..

وقد حال الله بين قلوبهم، وثابت الايمان واليقين، فهم في ريبهم، أبداً، يترددون!

* * *

وتكلُّ قدما موسى، وقد ضرب (أي: مشى) في عمق الصحراء، بعيداً... ولطالما قطعتا به مفاوز، وأراضي ذات آماد، وأبعاد!، وغرائب الذكريات ماانفك يتلو بعضها بعضاً!.

ويتوسد حفنه من رمل!..

فقد آن لهذا الجسد المنهك أن يستريح، ولهذه الروح الشريفة أن تنطلق في عالمها العلويِّ الرحب، الشريف، اللطيف!..

ويظهر بعد ذلك في بني إسرائيل نبيٌ جديد. إنه يوشع بنُ نون. وكان من مقرَّبي موسى. فيخرجُ بهذا الجيل الجديد منهم، الفتيِّ، المجاهد، من أرض التيهِ، إلى أرض الميعاد في فلسطين، حيث المدنُ، والمزارعُ، والخيراتُ الحسانُ!..

__________________


صوت الحق
عصام على
أول رئيس مجلس إدارة
لهذا المنتدى



رد مع اقتباس
  #17  
قديم 28-06-2008, 11:18 AM
الصورة الرمزية صوت الحق
صوت الحق صوت الحق غير متواجد حالياً

رئيس مجلس الادارة ( سابقا )

 
تاريخ التسجيل: Dec 2006
المشاركات: 8,414
معدل تقييم المستوى: 0
صوت الحق is an unknown quantity at this point
افتراضي النبي صالح (ع) صاحب الناقة

النبي صالح (ع) صاحب الناقة

ثمود وارثة عاد

اندثرت عاد بالريح الصرصر العاتية، ولم ينج منهم إلاّ من أنجاه الله تعالى. وأورث سبحانه الأرض قوم ثمود أخي جديس بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح(ع)، وهم من العرب العاربة، كانوا يسكنون في وادي القرى بين الحجاز وتبوك، قريباً من شواطئ البحر الأحمر، شمالي مكة المكرمة.

وثمود هؤلاء هم أبناء عم عاد، وكانوا ذوي شأن وتأثير في الحياة داخل الجزيرة العربية، ولاتزال آثارهم أو بعضها إلى اليوم في مايعرف بديار ثمود، أو مدائن صالح، غربي المدينة المنوّرة وجنوبيها حيث توجد البئر المعروفة ببئر الناقة.

عبدت ثمود الأصنام كعادٍ، وكان لهم مايقارب الأربعين صنماً، جعلوا لها بيوتاً يدفعون الناس إليها، ليقدّموا لها القرابين التي كانت تؤمِّن لهم زيادة أموالهم وتنمية ثرواتهم، وكان أكبر تلك الأصنام هو الصنم "ود"، يليه "هبل" و"اللات".

وعمرت ثمود وادي القرى تماماً كما فعلت عاد قبلهم، وقد هبهم الله بسطة في الأجسام وطول الأعمار، ولكنهم كانوا شرسي الطباع، قساة القلوب، خصوصاً بعدما كثرت أموالهم واتسع سلطانهم. إذ أصابهم البطر والغرور، كما أصاب قبلهم قوم عاد، فأفسدوا في الأرض، وبطشوا بالناس، وجحدوا نعم الله التي أنعم بها عليهم.

وكان لثمود ملك ظالم اسمه جندع بن عمرو، سيِّئ الطباع، قاسي القلب مثلهم جباراً، فجاء إليه جماعة ممن أنجاهم الله من بقايا عاد، وراحوا يعظونه، ويذكرون له ماحلَّ بقومهم إثر كفرهم وطغيانهم، وتجبرهم، وراحوا يصفون له غضب الله الذي حلَّ عليهم، بعد دعوة نبيهم هود(ع) لأنهم رفضوا عبادة الله، كل ذلك وهم يظنون أن جندع سيتعظ بمن سبقه، ويرعوي، ويرتدع عن غيِّه وبطشه، ولكن جندع قال لهم بصلف وغرور أكبر: إنما هلك قوم عاد لإنَّهم لم يكونوا يحسنون بناء البيوت، كما نفعل نحن، فقد كانوا يجعلونها على الرمال، ونحن نبني بيوتنا في الجبال وننحتها في الصخور، وكانوا لايحسنون عبادة أصنامهم والاهتمام بها، وها نحن نعبد أصنامنا كما يجب ونبني لها البيوت ونعيّن لها الخدم، كما أننا نحن أشدّ من عادٍ قوة، ولذلك لايمكن أن تُهلكنا الريح مهما كانت صرصراً عاتية.

رسول الله صالح(ع)

واستخف الملك جندع بن عمرو وقومه ثمود فتابعوه في غيِّه وغروره، ولم يتعظوا بما حلّ بأبناء عمومتهم من عاد، وأصروا على فسادهم وكفرهم، فبعث الله فيهم نبياً منهم هو صالح(ع): {وإلى ثمود أخاهم صالحاً}، فراح(ع) ينهاهم ويعظهم ويجادلهم، ويعدهم ويتوعدهم للرجوع عن ضلالتهم ويدعوهم إلى عبادة الله الخالق المنعم {قال: يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب}.

وصالح(ع) هو ابن ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح(ع) نشأ وترعرع بينهم في بيت شريف من بيوتات ثمود، وكان أبوه خادماً للصنم "ود" كبير أصنام القبيلة، وتعلَّم(ع) حتى وصل إلى درجة عالية فنمت شخصيته ووهبه الله تعالى من الذكاء والفطنة والحكمة والشجاعة، ماجعله محترماً بينهم مسموع الكلمة سديد الرأي، وهيَّأه ليكون مرجعاً لثمود في الملمات يستشيرونه ويطيعونه فيما يشير به عليهم في معظم أمورهم.

رأى صالح(ع) ماكانت عليه ثمود من الضلال والكفر والطغيان، وفساد التصرف وسوء الأخلاق والمعاملة، والإنحراف في العبادة، فراح يفكر في طريقة لتخليصهم مما هم فيه، فهداه الله سبحانه وأوحى إليه وبعثه رسولاً إليهم: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} وراح يذكِّرهم بنعم الله عليهم إبتداءً من نعمة الخالق حتى ماهم فيه من النعيم: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوَّأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون فاذكروا آلاء الله ولاتعثوا في الأرض مفسدين}.

بعد هذه الدعوة التذكيرية، آمن جماعة من قوم ثمود برسالة صالح(ع) لأنهم عرفوا أنه إنما كان رسولاً نبياً يتمتع بكل صفات النبوة، فهم يعرفون أنه لايكذب، وقد خبروه وهو يعيش بين ظهرانيهم، وهو الحكيم العالم الحصيف، صاحب الرأي السديد الرشيد، الذي كانوا يرجعون إليه في الملمات، ولكن جماعة منهم وهم الكثرة الغالبة، لم يؤمنوا بل غيّروا رأيهم في صالح (ع) ومقتوه بعد أن كانوا يحبونه، واحتقروه وكذبوه بعدما كانوا يصدقونه ويحترمونه، وقالوا: {ياصالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا} أي قبل أن تأمرنا بعبادة الله، وترك عبادة الأصنام، وقبل أن تنهانا عمّا نحن فيه من الإفساد في الأرض والتجبر أما وقد أمرتنا اليوم بترك عبادة الأصنام، ودعوتنا إلى عبادة إلهٍ واحد فإننا أصبحنا نشك في مكانتك التي كانت لك عندنا: {أتنهانا أن نعبد مايعبد آباؤنا وإننا لفي شكٍ مما تدعونا إليه مريب}.

وأخذ صالح (ع) يسرد لهم الأدلة والبراهين على وحدانية الله الخالق ويسوق الحجج على أنه نبي مرسل إليهم من ربهم وأنه لايطلب منهم أجراً على مايقوم به من التعليم وتبليغ الرسالة لهم: {إذ قال أخوهم صالح ألا تتقون. إني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وماأسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين}.

ورغم ماكانوا يعرفونه من أن صالحاً صادق في دعوته وأنه كان ذا مكانة مرموقة فيهم نظراً لاستقامته، قبل أن يصبح رسولاً إليهم ورغم إصرار صالح(ع) وجهده في تبليغهم رسالة ربه، رغم كل ذلك، فإن ثمود استكبروا واتهموه بالكذب، ورفضوا اتّباعه وتصديقه: {فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر. أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر}.

ولم يكتفِ المفسدون المستكبرون من ثمود بذلك، بل تمادوا في طغيانهم وغرورهم، وكما اتّهمت عاد نبيها هوداً(ع) بأنه كاذب وساحر، كذلك اتّهم الثموديون نبيهم صالحاً(ع) بأنه كاذب وساحر: {قالوا إنما أنت من المسحَّرين. ما أنت إلاّ بشر مثلنا} فلماذا تكون نبياً ويختارك الله ليبعثك رسولاً إلينا، هذا محض افتراء وكذب.

أما الطيبون العاقلون من ثمود فقد عرفوا صدق صالح(ع) ونبوته، فآمنوا به ودعوا الآخرين إلى الإيمان برسالته. وهكذا انقسم الثموديين فريقين فريق يدعو إلى اتباع صالح(ع) وعبادة الله الخالق، وفريق دعا إلى محاربته و***ه، وأخذ يدبِّر له المكائد، ويحاول تعجيزه وتهزيئه وتعزيره هو ومن آمن معه ويقولون: {اطّيّرنا بك وبمن معك... وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولايصلحون. قالوا تقاسموا بالله لنبيّتنّه وأهله ثم لنقولنّ لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون}.

وألهم الله نبيّه صالحاً الجواب المنطقي المقنع لو كانوا يعقلون: {قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون}، وتابع المفسدون المستكبرون من ثمود محاولاتهم لصدّ الناس عن الإيمان بدعوة صالح(ع)، فحاولوا تطويقه إعلامياً ومحاصرته إجتماعياً، فلجأوا إلى الإستهزاء به وبمن آمن برسالته وقد استضعفوهم وقالوا لهم: {أتعلمون أن صالحاً مرسلٌ من ربه!؟ قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون. قال الذين استكبروا إنّا بالذي آمنتم به كافرون}.

وباءت هذه المحاولات كلها بالفشل الذريع، إذ أنجاه الله وحفظه من كيد المفسدين {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لايشعرون}، فتابعوا مكرهم وكيدهم، والله سبحانه يهيئ لهم العذاب، حتى إذا حق عليهم نزل بهم وهم عنه لاهون.

الناقة المعجزة

لم يكترث نبي الله صالح(ع) بأساليب المستكبرين ولم تؤثر فيه أساليبهم الخبيثة الملتوية، وراح يتهددهم ويتوعدهم بعذاب الله الأليم، إن هم أصروا على استكبارهم وكفرهم، وأن الله لن يتركهم هكذا وإن طال بهم الزمن، ومدَّ لهم في الوقت، فإن الله يمهل ولايهمل، وراح ينصح الجماعة إن هم أطاعوا المفسدين منهم اتقاءً لعذاب الله، مذكِّراً إياهم بأنّهم لن يتركوا ليفسدوا في الأرض وهم مطمئنون مرتاحون: {أتتركون في ماها هنا آمنين. في جنّات وعيون. وزروعٍ ونخلٍ طلعها هضيم. وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين. فاتّقوا الله وأطيعون. ولاتطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الأرض ولايصلحون}.

وأبى قسمٌ كبير من ثمود طاعة نبي الله صالح(ع)، وأصروا على فسادهم وعبادتهم للأصنام، ولم يقفوا عند هذا الحد بل وصلت بهم الوقاحة إلى أن دعوا صالحاً(ع) إلى ترك عبادة الله الخالق، ليعبد الأصنام مثلهم فينزل على رأي الجماعة، ورفض(ع)، دعوتهم قائلاً لهم: {ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير}.

ولما رأى المفسدون المستكبرون إصرار صالح(ع)، وعناده في دعوته الحق، راحوا يسألونه المعجزات قائلين: {ما أنت إلاّ بشر مثلنا فأتِ بآية إن كنت من الصادقين}. فقال لهم(ع): وماذا تطلبون حتى تؤمنوا وتعودوا إلى رشدكم؟...

واجتمع الثموديون في ناديهم وصالح بينهم ثم إنهم أشاروا إلى صخرة قريبة وقالوا: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء حمراء وبراء، لاتشبه النوق، ولها ضرع أكبر من القلال يشخب منه اللبن غزيراً صافياً، ويخرج منها إبن لها مثلها ويصوت أمامنا كما تصوت، إن أنت أتيت بتلك الناقة صدقناك وآمنا بأنك رسول الله.

وراحوا يحدّدون ويدققون في الوصف ظناً منهم أن صالحاً(ع) سيعجز عن الإتيان بهذه الناقة التي يصفون، وبذلك يظهرونه بأنه كاذب فيتفرّق الناس عنه، وتبطل رسالته.

وأدرك صالح (ع) بوحيٍ من الله، أدرك سوء نواياهم، فما كان منه إلاّ أن رجع إلى ربه يسأله، فانتحى ناحية فصلّى ودعا ربه وهو الصادق المخلص، فأوحى الله تعالى إليه، أن سأعطيهم ماسألوا: {إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر}.

عندها وقف صالح(ع) وقال لهم: وهل ستؤمنون إن جئتكم بالناقة؟ قالوا نؤمن إذا كان لبنها ألذّ من الخمر وأحلى من العسل، فقال لهم: سخرجها ربي أفتؤمنون... فأخذوا في كل مرة يزيدون صفة أصعب من الصفات التي ذكروها، وهم يخافون أن تخرج فيظهر صدق صالح(ع) ويبين كذبهم هم وفسادهم، تماماً كما فعل اليهود عندما سألهم موسى(ع) أن ي***وا بقرة، وصفها لهم، فتغابوا عنها فراح (ع) يحدد في الصفات وفي كل مرة يأتي بصفة أصعب من الأول حتى ***وها وماكادوا يفعلون.

ظن الثموديون أن صالحاً(ع) لايمكن أن يأتي بالناقة التي وصفوا لأنه لس بمقدور مخلوق أن يأتي بمثلها، ومن الصخرة التي أشاروا إليها، فقالوا لصالح(ع): نؤمن إذا جئت بالناقة كما وصفنا، فقال(ع) شرط ألا يركبها أحد منكم، ولا ترمونها بالحجارة ولابالسهام، ولاتمنعوها من الشرب من بئركم هي وفصيلها، فقالوا لك ذلك..

وماهي إلاّ لحظات حتى كان أمر الله مفعولاً، فاضطربت الصخرة واهتزت، فإذا هي تنشق عن ناقة عظيمة فيها كل الصفات التي وصفوا.. ثم يخرج منها فصيل كأنّه هي، فقال صالح(ع): {هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم}.. {هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولاتمسوها بسوءٍ فيأخذكم عذاب أليم}.

ونظر الثموديون إلى الناقة العظيمة، فبهتوا وأخذتهم الدهشة.. بأي قدرة استطاع صالح أن يأتي بهذه الناقة التي تتحرك، من الصخرة الجامدة التي لاحياة فيها!! هذا ليس سحراً ولاكذباً.. ولاشك أن هناك قوة قادرة هي التي خلقت من الصخرة الميتة ناقة حية حقيقية.. وهذه القوة قادرة، بلا شك، على الإفناء كقدرتها على الإحياء.

عقر الناقة وعذاب ثمود

بعد معجزة الناقة، انفسهم الثموديون ثلاثة فرقاء: فريق آمن وأيقن أن صالحاً(ع) نبي مرسل من الله سبحانه وتعالى وفريق أحب الإيمان، أو قُل أراد أن يؤمن لمّا رأى ذلك، ولكنهم خافوا على أنفسهم بطش المفسدين المستكبرين، فآمنوا سراً وكتموا إيمانهم، أما الفريق الثالث، فأصروا على كفرهم، ولم يستطيعوا إدراك كنه المعجزة... وهؤلاء راحوا يتحينون الفرص ليضربوا ضربتهم، بعد أن أسقط في أيديهم وأخرستهم الحقيقة، وشلتهم قدرة الله الخارقة.

وانقضت أيام وأيام، وثمود تشرب من الناقة لبنها الصافي.. فيما تشرب الناقة يوماً من البئر التي كانوا يستقون منها، فتأتي على كل مافيها من ماء، لكنها لم تكن لتقرب البئر في اليوم التالي إذ تترك الماء لهم ليشربوا ويغتسلوا آنيتهم وثيابهم.

ولما كان فريق منهم لم يؤمنوا، وسكتوا على مضض، فقد ظلوا يتحينون الفرص للتخلص من صالح ومعجزته ودينه، وهؤلاء أخذوا يظهرون امتعاضهم وسخطهم، ولم يكن أمامهم إلاّ الناقة، فراحوا يحتجون بحجج واهية وهم يكيدون ويمكرون: فمرة يقولون إن الناقة تشرب البئر كلها ولاتترك لنا ماءً، ومرة يقولون إنها ضخمة تنفر أغنامهم وأبقارهم، وثالثة يقولون إنها ترعى الوادي فلا تترك لمواشيهم ماترتعيه ولذلك ضعفت ماشيتهم وضمرت، كل ذلك في محاولة منهم للتخلص من الناقة، ففي التخلص منها كما يظنون تخلصاً من المعجزة التي ظهر بها صدق نبوة صالح(ع)، فإذا غابت المعجزة كان بمقدورهم تكذيب صالح من جديد والقضاء على الرسالة التي بعثه الله بها.

وقرر المستكبرون من ثمود عقر الناقة سراً، فأوحى الله إلى نبيِّه بقرار ثمود، فجاءهم ووعظهم، وحذّرهم وبيَّن لهم أن الناقة رحمة من الله لهم، فهم يشربون لبنها حتى يرتوون، ولكنهم أنكروا ذلك وجحدوا وراحوا ينظرون بعضهم إلى البعض الآخر باستغراب ودهشة.. كيف عرف صالح بما يبيِّتون.. خصوصاً وأن صالحاً(ع) قد وصف لهم الشخص الذي سيعقر الناقة.

ولم يرتدع المفسدون، بل شكّلوا فرقة منهم ل*** الناقة، وكانوا تسعة هم قدار بن سالف، ومصدع، وأخاه، وحراباً، ورعيناً، وداود خادم الأصنام، والمصرد ومفرج وكثير: {.. تسعة رهط يفسدون في الأرض ولايصلحون}.

رصد هؤلاء التسعة الناقة وكمنوا لها في مكان قريبٍ من البئر، حتى إذا جاءت لتشرب تقدم قدار منها، بعد أن فشل الآخرون في ***ها، وأهوى بسيفه على قائمتيها الأماميتين قسقطت إلى الأرض وهي تصوّت بصوت تجاوبت به أطراف الوادي، ثم وضع مصدع سهماً في قوسه ورماها به في نحرها، فتخبطت بدمائها، وتقدم الباقون فأجهزوا عليها: {كذبت ثمود بطغواها. إذ انبعث أشقاها. فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها، فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها. ولايخاف عقباها}.

واجتمع الثموديون فرحين بما آتوا، وكان بينهم رجل مؤمن، فانسلَّ من بينهم، وتوجَّه إلى صالح(ع) وأخبره بالأمر، فتوجّه(ع) إلى مكان الحادث والثموديون مجتمعون هناك، فقال لهم: سيصيبكم عذاب عظيم بما فعلتم إلاّ أن تتداركوا ولد الناقة عسى أن يرحمكم الله، وتراكضوا نحو قمة الجبل، وهناك وجدوا الفصيل مقتولاً.. فما كان منهم إلاّ أن سحبوه إلى جانب أمّه وأشعلوا ناراً وراحوا يشتوون من لحيمهما، فقال لهم صالح(ع): {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} يحل عليكم بعدها غضب الله...

ولم يصدقوا وعيد صالح(ع) لهم بل قالوا: {ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين}.

ليس هذا فحسب، بل راحوا يأتمرون ل*** صالح(ع) وقرروا أن يتخلصوا منه، بأن يضربوه ضربة واحدة حتى لايعرف قاتله ويطلب بثأره، وكمن له جماعة منهم فيهم: قدار بن سالف ومصدع، قريباً من مسجده واستعدوا جميعاً لضرب صالح(ع) ولكن الله كان لهم بالمرصاد فزلزل بهم المكان الذي كمنوا فيه، فانهارت عليه الصخور ف***تهم جميعاً: {فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين}.

بعد هذا أمضى الثموديون ليلتهم في خوف وقلق، خصوصاً وأنهم رأوا ماحلَّ بأصحابهم، وكيف نجا صالح(ع) من كيدهم، وأصبحوا ووجوههم مصفرة، فزاد خوفهم وقلقهم، وباتوا ليلتهم الثانية فأصبحوا ووجوههم محمّرة، فأيقنوا أن تهديد صالح لهم سيتحقق وأن العذاب واقع لامحالة، فاحتفروا الحفر ي دورهم ليموتوا فيها وباتوا ليلتهم الثالثة فأصبحوا ووجوههم مسودة، فراحوا يعولون ويصيحون، وصفرت الريح، وتزلزلت الأرض فدمرت البيوت على من فيها وصدرت أصوات تصم الآذان: {فأخذتهم الصيحة مصبحين} {صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتضر}.. إنّها الصيحة التي قضت على الكافرين المستكبرين من ثمود: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إنَّ في ذلك لآية لقوم يعلمون. وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}.

وفاة صالح (عليه السلام)

يقول المسعودي في مروج الذهب: "ورممهم باقية، وآثارهم بادية في طريق من ورد الشام، وحجر ثمود في الجنوب الشرقي في أرض مدين، وهي مصاقبة لخليج العقبة".

أما صالح والجماعة الذين اتبعوه فقد توجهوا إلى مسجد صالح (ع) فانجاهم الله جميعاً من الصيحة التي قضت على المستكبرين الكافرين من ثمود، وماكان من نبي الله صالح(ع) إلاّ أن رحل من الأرض التي حلَّ عليها غضب الله مصطحباً معه جماعته، وتوجهوا شمالاً باتجاه فلسطين، وحطوا رحالهم في مدينة الرملة...

ويذكر أن نبي الله صالحاً(ع) حجَّ بيت الله ملبيّاً وقد مرَّ بوادي عسفان، الذي مرَّ فيه قبله النبي هود(ع).

ويروى أنه (ع) ترك بلاد فلسطين ماراً بأرض الشام قاصداً إلى مكة المكرمة، فوصلها، وظلَّ فيها يعبد الله حتى وافاه الأجل.

ويقال: إنه ذهب إلى حضرموت من أرض اليمن إذ إنَّ أصله من هناك، وتوفي فيها عن عمر يناهز الثامنة والخمسين، وفيها دفن، فسلام الله على صالح إنه كان من المرسلين.

والحمد لله رب العالمين
__________________


صوت الحق
عصام على
أول رئيس مجلس إدارة
لهذا المنتدى



رد مع اقتباس
  #18  
قديم 28-06-2008, 11:23 AM
الصورة الرمزية صوت الحق
صوت الحق صوت الحق غير متواجد حالياً

رئيس مجلس الادارة ( سابقا )

 
تاريخ التسجيل: Dec 2006
المشاركات: 8,414
معدل تقييم المستوى: 0
صوت الحق is an unknown quantity at this point
افتراضي النبي شعيب (ع) خطيب الانبياء

النبي شعيب (ع) خطيب الانبياء

شعيب في قومه

قلَّما اختلف المؤرخون والمفسِّرون في شخصيَّة نبيٍّ ونسبه، اختلافهم في النبي شعيب.

فهو شعيب ابنُ توبَةَ، عند بعض المفسرين...

وشعيب ابنُ أيوبَ، عند بعض المؤرِّخين...

وشعيب ابن ميكيلَ، عند قومٍ آخرين...

قيل: أُرسِل مرَّةَ،... وقيلَ: بل مرَّتين: إلى أهلِ مَدْينَ، وإلى إصحاب الأيكة.. وأهلُ مدين عربٌ، كانوا يقيمون في أرضِ معانَ من أطرافِ الشَّام.

أما الأيكة، ففيها اختلاف أيضاً، ويرجَّحُ بأن تكون بلدةَ (بليدا) في جنوبي لبنان،- كما مرَّ معنا، آنِفاً، في قصة النبيِّ موسى(عليه السلامُ)-.

وكان أهلُ مدينَ يعتمدونَ التِّجارة موردَ رزقٍ لهم، وسبيلَ عيش وحياةٍ، فكانت تدر عليهم خيراً وفيراً ولكنَّهم، لم يُراعوا حقوقَ الله في تجارتِهم، هذه، إذ كانوا لايوفون كيلاً ولا ميزاناً، وكانوا يبخَسونَ الناسَ أشياءَهم، ويعيثون في الأرضَ فساداً..

فتبرَّأ شُعيب من هؤلاءِ المفسدين.. فما هَكذا أمَرَ الله الناسَ به في معاملاتٍ فيما بينهم، وفي عباداتٍ!..

إنْ هؤلاءِ القومُ إلاَّ في ضَلاَلٍ مبين!..

واعتزَلَ شعيبُ قومَه متأمِّلاً خلق السموات والأرضِ، فهدتْه الفِطرَةُ إلى إلهٍ واحدٍ فآمنَ به، وأسلم إليه وجهَهُ، بعيداً عن قومِهِ الذينَ يَظْلمون الناس، وأنفسَهم، معاً...

وقذفَ الله النورَ في قلبِهِ فملأهُ إيماناً ويقيناً.. ثم، ما لبثَ أن أرسلَه إلى قومِهِ، نبيّاً، يدعوهم إلى صراطِ العزيز الحميد!..

ويروي بعضُ كبارِ المفسرينَ بأن شعيباً كان كثيرَ الصَّلاةِ، فهي السَّبيلُ إلى الله، وهي حبلُه المتين، وهي الصِّلة الوثقى بين أرضٍ وسماءٍ!.. وكثيراً ماكان يقول:

- "إن الصَّلاةَ رادعةٌ عن الشرِّ، ناهيةٌ عن الفحشاءِ والمنكَرِ، والصَّلاة هي الدين!.."

وبهذا المعنى ذاتِه، حتى الألفاظ نفسها، تَتَالَتْ آياتُ جَمَّةٌ من القرآنِ الكريمِ..

يضافُ إلى ذلك، أنَّ شعيباً كان في عزٍّ من قومِهِ وعشيرته،... فما من نبيٍّ، بعدّ لوطٍ، إلاَّ وهوَ عزيزٌ في قومِهِ، منيعٌ في عشيرتِهِ...

شعيب النبي

ابتدأ شعيب دعوته بالتقرُّب إلى قومه، محاولاً استمالةَ قلوبِهم، مذكِّراً إيَّاهم بما تربطه بهم من أواصرِ قربى، وروابطِ دمٍ!. فتلطَّف إليهم بالقول الجميلِ، والحوارِ اللَّطيف،... ولمَّا أنِسَ منهم ميلاً إليه، أعلنَ فيهم نبوَّتَه، وشَهَرَ بينهم دعوتَه،...

أما عنوان هذه الحركة المباركة، فكان: الإصلاح!. فهو لايبتغي عن الإصلاحِ بدلاً، ولايرضىَ عنه حِولاً!..

وأخذ يذكِّرهم بأنْعُمِ الله عليهم:

فهم في غنىً بعد فقر، وفي كثرةٍ بعد قلَّةٍ، وفي قوَّةٍ بعد ضعفٍ، وفي عزٍّ بعد وهنٍ، وفي أمنٍ بعد خوفٍ، كما كان يخوِّفُهم عذابَ الله وانتقامَه، وبطشَه الشَّديد.. فلم يجد أذناً- لِمَا يقولُ- صاغيةً، ولاعقولاً- لما يعرضُ عليهم- واعيةً.. بل أنكروا عليه دعوتَه، وامتلأت قلوبهم حسداً له، وَوَجْداً (أي: حقداً) عليه..

فما لهذا النبي ينهاهم عن الرِّبح السريع، لايكاد يحسُّ به أحدٌ، في تطفيف مكيالٍ وميزانٍ.. ويدعوهم إلى عبادة إلهٍ، لاعهدَ لهم، ولا لآبائِهم، بهِ، من قبل؟.. إنْ يقولُ إلاَّ افتراءً وبُهتاناً.. وما هو -بزعمِهم- إلاَّ ساحرٌ كذَّابٌ!..

وهذه -كما نرى- مقولةُ من سبقَهم، ومن تلاهم، من الكفرةِ الملحدين، الَّذين أعمى الله أبصارهم، وجعل في آذانهم وقراً (أي: ثقلاً في السمع، كالصمم)، وعلى قلوبهم أكنَّةً (أي: أغشيةً، ج. غشاء)، فهم لايفقهون!..

شعيب يُحَاجُّ قومهُ، وينذرهم

ولجأ شعيبٌ إلى الحجَّةِ يقارع قومه بها. ويدحضُ افتراءاتِهم، ويُبطِلُ دعاواهم..

وكان نبيُّ الله شعيبُ خطيباً بارعاً، ومُفَوَّها بليغاً، يتفجَّرُ لسانُه بالحكمِة، تصدُرُ عن قلبٍ يفيضُ بها، كالينبوع الدافق، لاينضبُ له معينٌ، ولاينقطعُ عن عطاءٍ!.

فقد "كان شعيبٌ خطيبَ الأنبياءِ" كما ينعتُهُ بذلك خاتمُ الرسل والأنبياء، محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ولنتأمَّل هذا الحوار الطَّويل، يدورُ بينَ شعيبٍ وقومِهِ، على امتداد ساعاتٍ طوالٍ.، في نادي مدين، وقد ازدحم فيه خلقٌ كثيرٌ..

ولَعمري، إنه لَحوارٌ يجعلنا نُلمُّ بدعوة شعيبٍ جملةً وتفصيلاً،.. ويلقي الضوءَ على فكرٍ له نيِّرٍ، وقلبٍ، له، كبيرٍ، فهو مسدَّد في قوله، مصيب دائماً، وهو محاورٌ بارعٌ، ومناقشٌ لَبِقٌ، له في الحوارِ، أخذاً وعطاءً، باعٌ طويلٌ!..

- ياقومُ!.. لقد أرسلني الله تعالى إليكم، داعياً إياكم إلى عبادتهِ.. فهو الذي خلَقَكم وخَلَق آباءَكم الأوَّلين، وهو المُحيي والمميت، والمبدئُ والمعيد. ربُّ العرشِ العظيم.. فآمنوا به، ودعوا ما أنتم فيه من ضلالٍ مبين!..

أنظروا إلى خلق السّموات والأرض،.. وانظروا إلى خلقِ أنفسكم،.. تجدوا أنّ وراء ذلك خالقاً قديراً، ومدبِّراً عليماً.. فإيّاه اعبدوا، وعليه توكّلوا، ولاتدعو إلاّ إيّاه إن كنتم مؤمنين!..

- وبم جئتنا به، غيرَ ذلك، في شريعتك، ياشعيبُ؟.

- ياقومُ!.. إني أراكم بخيرٍ: مالٌ وفيرٌ، وزينةُ دنيا، ورخص أسعار!. فأوفوا الكيل والميزان، وأدّوا حقوق الناس على التّمام، في المعاملات، ولاتبخسوهم أشياءهم،..

ألا ترون أنكم أذ تطفّفون (أي: تنقصون) الكيل والميزانَ، على النّاس كأنّكم تسرقون ماليس يحلُّ لكم.. وتخونون ما أنتم عليه مؤتمنون؟ أو ترضون لأنفسكم، من تطفيف كيلٍ وميزانٍ، مارتضيتموه لغيركم؟..

- لا، ياشعيب!..

- فلم الظلم إذاً، وأكلُ حقوق النّاس بالباطل؟

- إنّها التجارة، ياشعيب، والرّبح- أو ليست التجارة باباً من أبواب الرِّبح الوفير؟

- بلى، إنها لكذلك،.. ولكن، ضمن مبدأين: صدقِ المعاملةِ، والأمانةِ.. فإن كذبتم، في تجارتكم، وخنتم في معاملاتكم، تحوَّلَت تجارتكم إلى لصوصيَّة وغدرٍ.

- أو لاترى ياشعيب، بأنّنا إن تحوّلنا عمّا نحن فيه، في معاملاتنا التجاريّة، مع الآخرين، إلى ماتدعونا إليه، قلَّ حظُّنا من الرّبح، وشحَّ رزقُنا؟..

- هذا ظن الذين كفروا بربَّهم، واستحبُّوا الحياة الدُّنيا على الآخرة.. فالله هو الرزَّاقُ ذو القوّة المتينُ، وهو الكفيل - وأنا بذلك زعيم (أي: ضامن)- بأن يمدَّكم، إن اتّبعتم سبيله، بخير الدنيا ونعيم الآخرة... بقيَّةُ الله خيرٌ لكم، إن كنتم تعلمون!.

- لانفهمُ ياشعيب ماتقول!.

- أقول: اتَّقوا الله يؤتكم من لدنْهُ رزقاً حسناً، وابتغوا عند الله الرِّزقَ، ولاتكونوا من المطفِّفين.

ثم، إنّ التجارة بابٌ من أبواب المعاملات، عريضٌ، كما تعلمون،.. والمعاملةُ أخلاقٌ قبل أي شئٍ آخر!.

ويقطع الحوارَ صوتُ شيخٍ مهيبٍ، أجشُّ، وقد ضاق بهذا الحوار ذرعاً:

- أصلاتُك تأمرك بذلك ياشعيب؟ أو تريدُنا أن نترك ما كان يعبدُ آباؤنا من قبلُ، وما نشأ عليه، من بعدِهم، صغارُنا،.. ونَغُلَّ أيدينا عن حرِّيَّة التصرُّف بأموالنا، نفعلُ بها مانشاء؟..

الصلاةُ: هي الدين، وهي عبادةُ ربِّ العالمين.. وما أعبدُ إلاَّ الله فاطِرَ السَّموات والأرضٍ والخلقٍ أجمعين.. وما عدا ذلك فكفرٌ وبهتان.. وضلالٌ وخسران..

أما المال، الحق فهو مانالته أيديكم من وجهٍ طيّبٍ، ورزقٍ حلال.. أمّا ماطالته أيديكم بالمكر والخديعة، والكذب والخيانة، فهو سحتٌ وحرام.. فاتّقوا الله، واعلموا أن الحياة لاتدوم، وكلنا إلى الموت صائرون!..

والمالُ ظلٌ زائلٌ، وبهرجٌ حائلٌ..

فكم من غني ممسٍ أصبح مفتقراً!..

وكم من فقير مصبحٍ أمسى ثرياً!..

- كنَّا نَعُدُّك بيننا الحليمَ الرَّشيد، ومانراك الآن كذلك يا شعيب!..

- ياقوم!.. أرأيتم إن آتاني الله النبوَّةَ، والهدايَة، ووسّع عليّ من لدنه رزقاً كثيراً،.. فهذا من عميم فضله، وواسع رحمته.

وأنا - كما ترون- أطلب من نفسي ما أطلبه منكم.. آمراً إيّاها بما آمركم به، وناهياً إياها عمّا أنهاكم عنه...

فمن جرّب عليَّ، منكم، قولاً لم أفعله، أو دعوةً لم ألزم بها نفسي، أوّلاً،..؟

{إن أُريدُ إلاّ الإصلاحَ ماستطعتُ وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلتُ وإليهِ أنيبُ}

وإنّ أخوفَ ماأخافُ عليكم، أن تُمعنوا في شقاقكم، وتسدُروا في غيِّكم وضلالكم، وتحملكم عداوتي على مخالفة ربّكم، فيصيبكم مثل ما أصابَ الّذين من قبلكم:

فهؤلاء قومُ نوحٍ- كما تواترت عنهم الأنباء والأخبارُ- قد أخذهم الطوفانُ فأصبحوا غرقى..

وقومُ هودٍ، وقد أرسلَ الله عليهم الرّيح العقيم فأصبحوا في ديارهم جاثمين..

وقوم صالحٍ، زلزل الله الأرض بهم، فأصبحوا أثراً بعد عين..

وما لي أذهبُ بعيداً في التّاريخ السحيق.. فهؤلاء قوم لوطٍ، أقربُ الأمم إليكم داراً ومكاناً، وأحدثهم بكم عهداً وزماناً، وقد جعل الله عالي أرضهم سافلها، فلا تُرى لهم أوطانٌ!..

ويتدخَّلُ في الحوار بعضُ الفتيان، وقد بانت سواعدُ لهم مفتولة..

{قالوا: ياشيعبُ مانفقهُ كثيراً ممّا تقول، وإنّا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز}

وينتفضُ شعيب في وجوه هؤلاء الفتيان الحَمقى..

لقد انقطعت حجَّة الشيوخ المحنَّكين، فقطع هؤلاء الأغرار. الجهّالُ بعنجهيّتهم، وغرورهم نقاشاً مفيداً، وحواراً يوضح الحقائق، ويجلو الشُّبُهات..

- ويحكم.. أعشيرتي وقومي، أعظمُ حرمةً لديكم من الله الذي {اتَّخذتموه وراءكم ظهريَّا}؟ أو لأجل عشيرتي تمتنعون عن أذاي؟ فهلاَّ كان ذلك ابتعاءَ وجه الله؟ فانتظروا أمر الله، {وارتقبوا إني معكُم رقيبٌ}.

[قال علي بن موسى الرضا(عليه السلام): "ماأحسن الصبر وانتظار الفرج!.. أما سمعتَ قولَ العبدِ الصالح: "وارتقبوا إني معكم رقيب"؟]

وتعلو أصوات كالهدير:

- {قالوا إنّما أنت من المسحّرين. وما أنت إلاّ بشرٌ مثلنا وإن نظنُّك لمن الكاذبين. فأسقط علينا كسفاً من السّماءِ إن كنتَ من الصّادقين}

{قال ربّي أعلمُ بما تعملون}.

وهكذا لم تغن بلاغةُ شعيب، وفصاحةُ منطقِه، وبيانُ حُجَّتِهِ، عنهُ، شيئاً!.. فقد انتهى وقومّهُ إلى ما ابتدأوا به من حوار.. فكلٌّ على موقفه ثابت لايتزحزحُ عنه قيد أنملة.. وليت الأمرَ توقف عند هذا الحد.. وليتَ السِّتارَ أُسدل على هذا المشهد!..

شعيب يُخرجه قومه

لقد تأكّد لقوم شعيب مايمثّله عليهم نبيُّهم المرسَلُ إليهم، من خطرٍ.. فدعوته تقلبُ في حياتهم الموازين والمقاييس كلّها!..

يضافُ إلى ذلك، نفرٌ من بينهم، مالوا إلى شعيبَ، مؤمنين برسالته، مصدِّقين دعوتَه فأحاطوا به، ونصروه، ومنعوه..

والأدهى من ذلك مايمكنُ إن يستميلَ شعيبُ من أناسٍ، فيتعاظمُ شأنُهم، فيما بعدُ، ويتفاقَمُ خَطرُهم،.. وفي ذلك زوالُ سلطانِهم وجبروتِهم، واستكبارهم في الأرض، بغير الحقِّ!.. فليضايقوه، والّذين معه، إذاّ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً...

- {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنُخرجنَّك يا شعيبُ والّذين آمنوا معك من قريتِنا أو لتَعودُنَّ في ملَّتنا}

إنّه الأسلوب الذي يلجأ الكافرون إليه دائماً عندما ينهزمون أمام نور الحقِّ، ودعوة الإيمان..

القوّةُ!.. القوَّةُ!.. فالقوهُ معقِلُهم الأخيرُ، ونهايةُ المطاف، عندما يبطل عمل العقل، وتبيان المنطق، والحجّة المشرقة، على الحوار السليم!..

وهكذا، فالحلُّ كما ارتآه قومُ شعيب، أحّدُ اثنين:

- إمّا أن يخرج شعيبٌ من بين أظهرهم، فيستريحون من هذا الدَّاعية الذي لايَفترُ له لسانٌ، ولاينقطعُ له برهان..

- وإمّا أن يعود شعيب، والذين آمنوا، معه، في ملّتهم، ودين آبائهم وأجدادهم...

ولكن، هيهات.. هيهات...

فهم يعلمون جيداً بأن شعيباً لايمكن له أن يعود إلى حظيرة الكفر، بعد أن أُترع قلبُه إيماناً، وبصيرتُهُ نوراً.. فمتى كان الّذي يحيا في لُجج الضياء يرضى بالانقلاب إلى غياهب الظّلماء؟..

- أتُكرهوننا على العودة إلى ماأنتم في حمأته، من زور وضلال، وبهتانٍ وكفرانٍ؟.. فمتى كان أنبياءُ الله، ورسلُه، ينصاعون لمطالب السُّفهاء الفاسقين، والعُتاة المتجبِّرين؟ أو سمعتم بنبيٍّ أرسله الله إلى قومه مبشراً ونذيراً، ثم انكفأ، مُنقلباً على عقبيه، نابذاً رسالة السَّماء، متنكراً لما أوحى الله تعالى به، إليه؟..

- ياشعيب، لقد جادلْتَنا فأطَلتَ جدالنا، ومالك علينا من سبيلٍ.. فاختر أحد ما عرضناه عليك، ولاتطلبنّ منا سواهما شيئاً:

فإما أن تخرج، ومن اتّبعك، من قريتنا، أو أن تبقى بيننا، على ملّة آباءٍ لنا وأجدادٍ..، وبذلكَ نحافظ على وحدةِ كلمتِنا، ولمِّ شعثِنا، بعد أن فرَّقتَ جماعتَنا، وبلبَلْتَ مُجتمعَنا، بما بثَثْتَ فيه من آراء فاسدة، وفكر غريب!..

- ياقوم، اتّقوا الله، ولاتأخذكم العزَّة بالإثم، والإصرار على الضَّلال.. ولايكن ضعفي، وقلَّةُ أنصاري سبباً لتجبُّركم، وبغيكم، واجتماعكم على باطلكم.. إنّ الرسول لايفتري على الله كذباً، بعد أن نجّاه الله، خاصة، من مهاوي الضَّلال، ومزالق الفساد، والغيِّ الأثيم!..

- ياشعيبُ، إنّك لتقول ذلك، على ما أنتَ فيهِ من ضعفٍ، وقلّة حيلةٍ، وأنصارٍ،.. فكيف يكون شأنُك لو كنت فينا عزيزاً مُهاباً، مُؤيّداً، منصوراً؟..

{وإنّا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز. قال ياقوم أرَهطي أعَزُّ عليكم من الله واتّخذتموه وراءكم ظهريَّاً إنّ ربّي بما تعملون محيطٌ}

ويتابعُ شعيب:

أو ماكان الأجدر بكم أن تراقبوا الله في ما تعملون وما تقولون؟

فلله العزة جميعاً.. وله الكبرياءُ في السَّموات والأرض،.. ولكنّكم قومٌ لاتفقهون!..

وينفضُّ المجلسُ عن شعيبَ ومن اتَّبعه، وهم قليل... وأهل مدينَ الّذين جمعوا كيدّهم، وأتوا به شعيباً... وأتمروا فيما بينهم:

ما العملُ حتى يخرجَ شعيبُ من بيننا، بهدوء...؟..

قالوا: ضيّقوا عليه، وحولوا بينه وبين قاصديه من أنصار وأتباع، واقطعوا عليهم كلّ سبيلٍ!..

وهكذا ضيّقوا على شعيبٍ كلَّ مجالٍ، وأخافوا أنصاره، وتهدّدوا أتباعه، فلم يثبت على الحقِّ، منهم، إلاّ القلّةُ، ممّن امتحنَ الله قلوبهم للإيمان، فصبروا، وقاوموا باصرار المستميت، فلم يهنوا، ولم يتخاذلوا.. وهم يقولون: حسبُنا الله، هو مولانا، نعم المولى، ونعم النَّصير!..

ورأى شعيبُ أنَّ من واجبِه أن ينهى قومه عمّا أزمعوا عليه من كيدٍ وأذىً، معذرة إلى الله، لعلّهم ينتهون...

فوقف فيهم- كعادته- خطيباً، فليس بعد اليوم لمعتذرٍ عذرٌ:

- ياقوم.. لاتغرَّنّكم كثرة عددكم، فإنّها لن تغني عنكم من الله شيئاً... وتفرُّقَ الناسِ عني، فالنَّاسُ أعداءُ ما جهلوا..

ولاتصرُّوا على ماأنتم عليه من اعوِجاجٍ، تبغون إفسادَ من أراد الله إصلاحه، فتحولوا بيني وبين المؤمنين، وتقطعوا عليهم الطريق إلى الله،... تبغون السبيل عوجاً عن الحقِّ، وزيغاً عن الهدى،.. فلا تستقيمون.. ولاتدعون لغيركم أن يختار لنفسه أن يستقيم!.. فاتّقوا الله، ولاتصُدُّوا عن سبيله من آمن... واعلموا أن كيد الله متينٌ، وأخذه شديدٌ... فهو الذي أهلك من قبلكم، وكانوا أشدَّ منكم قوةً، وأكثر أموالاً، وأطول آجالاً.. فهل أنتم منتهون؟..

وانهالَ قومُ شعيبٍ على نبيِّهم تكذيباً.. وهبُّوا في وجهه يسفِّهون رأيه، وينعتونه بكل إفك وبهتانٍ..

فانصرف عنهم وهو يقول:

- { على الله توكّلنا، ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقِّ وأنت خيرُ الفاتحين}

ونفض نبيُّ الله شعيب، كلتا يديه، من إصلاح هؤلاء القوم الفاسقين، الّذين ركبوا هواهم، فكان أمرُهم شططاً..

ودعا عليهم بالعذاب الأليم، بعد أن كذَّبوا بآيات الله، واستحلّوا ماحرّم الله، وصدّوا عن سبيله، وقد زيّن الشيطان لهم أعمالهم، فتنكبُوا عن السبيل الأقوم والتمسوا لأنفسهم الزّيغ، واستحبُّوا العمى على الهدى!.

وأوحى الله تعالى إلى نبيِّه، أن قد سمع الله دعاءك.. فاخرُج بمن اتّبعك من ديار الفاسقين، إنّه آتيهم غداً، عذابٌ غيرُ مردود!..

وخرجَ شعيبُ والذين آمنوا، معه،..

وخُيِّلَ للقوم المفسدين بأن شعيباً اختارَ لنفسه السَّلامة، فأزمعَ على الهجرةِ بمن اتَّبعه، وظنوا - واهمين- بأنهم قد استراحوا، وإلى الأبد، من هذا الدّاعية الملحاح، والخطيب المفوَّه الّذي لايُشقُّ له في مضمار البلاغة، غبارٌ... فتنفّسوا الصُّعداء!..

العـــذاب

وماهي إلاّ ليلة حتى دهمهم العذابُ..

فابتلاهم الله بالحرِّ الشديد، فكادت تزهق منه أنفاسهم.. فدخلوا، يُهرعون، إلى أجواف بيوتهم، وسراديبِ منازلهم، فلاحقهم الحرُّ إلى بيوتهم، والسّراديب..

وظمئوا ظمأً شديداً... فخرجوا إلى ظلال الأشجار، وضفاف الأنهار.. فلم يمنعهم الحرّ ظلٌّ وارفٌ.. ولم يرو ظمأهم ماءٌ دافقٌ.. فللشمس أشعّة كسهامٍ من لهب.. وكأنّها فوق رؤوسهم قدرُ باع.. فيتململون تململاً شديداً ويضطربون كلَّ اضطرابٍ، فأينَ المفرّ؟.. وقد برَّحت بهم الرمضاءُ تبريحاً..

ويذكرون نبيَّهم شعيباً،.. ويستعيدون صورته، وصوتَه، بينهم خطيباً مرشداً،.. فها قد أتاهم، من العذاب، ماكانوا به يستهزئون!. فيندمون، ولات ساعة مندم!..

ويطلبون شعيباً، لعلَّه ينجّيهم مما هم فيه من *****.. فلا يقعون له على أثر.. ويهرولون مذعورين في كلّ اتجاه.. يطلبون لأنفسهم النّجاة.. فكأنّ السّماء تصبُّ فوقَ رؤوسهم حِمَماً، أو ترجمهم بشواظٍ من نارٍ، وسعيرٍ ليشوي جلودَهم، والوجوه...

وبينما هم كذلك، في العذاب، لايستقرّون،.. وإذا بسحابةٍ بعثها الله إليهم، فيها ريح طيِّبة،.. وقد أخذت تنبسطُ في الجوِّ، وتمتدُّ طولاً وعرضاً..

فوجدوا فيها ضالّتهم المنشودة، فلعلّها تنجّيهم ممّا وقع بهم.. وتنادُوا فيما بينهم: هلمُّوا إلى البرَّيَّة، حيث السَّحابة، فاستفيئوا ظلّها.. فتداعوا إلى ظل الغمامة، لاهثين، من كلّ صوبٍ يُهرعون..

ولمّا اجتمع شملُهم في البرِّيَّة،.. وتكاملَ عددُهم تحت الغمامة،.. الهبّها الله عليهم ناراً.. وأتتهم صيحةٌ من السَّماء انخلعت لها أفئدتهُم.. وزُلزلت الأرض تحت أقدامهم زلزالاً عظيماً.. فأصبحوا على وجه الثرى خامدين!..

وكان شعيبُ والّذين آمنوا معه، يشاهدون ماحلَّ بقومهم، من بعيد.. فحمدوا الله، إذ لم يكونوا معهم، في العذاب، مشتركين!.

وعاد شعيب، إلى قومه، بعد حين، مثقلاً بالحزن المبرّح، والأسى المُمضِّ، الشديد،.. فإذا بهم صرعى، خامدون!..

{فتولِّى عنهم، وقال: ياقومِ لقد أبلغتُكُم رسالات ربّي، ونصحتُ لكم فكيف آسى على قومٍ كافرين}

صدق الله العلي العظيم
__________________


صوت الحق
عصام على
أول رئيس مجلس إدارة
لهذا المنتدى



رد مع اقتباس
  #19  
قديم 28-06-2008, 11:27 AM
الصورة الرمزية صوت الحق
صوت الحق صوت الحق غير متواجد حالياً

رئيس مجلس الادارة ( سابقا )

 
تاريخ التسجيل: Dec 2006
المشاركات: 8,414
معدل تقييم المستوى: 0
صوت الحق is an unknown quantity at this point
افتراضي النبيان: يحيى البكّاء وزكريا الكفيل (عليهما السلام)

النبيان: يحيى البكّاء وزكريا الكفيل (عليهما السلام)

إنه زكريّا، كبيرُ أحبار بني إسرائيل، وأحدُ أنبيائهم العظام...

يرجعُ نَسَبهُ إلى هرون، أخي موسى بن عمران.

فهو، إذاً، من دوحة نبوّاتٍ، وسلالة رسالات..

كان الهيكلُ يستأثر بجُلِّ اهتمامه، حيث يقضي فيه سحابةَ نهاره، واعظاً، مرشداً داعياً إلى الله، آمراً بالمعروف وناهياص؟ عن المنكر، مفصِّلاً لقومه آيَ التوراة، شارحاً لهم ماخفيَ منها، مبيِّنا ما دقَّ من مسائلها.. ثمّ ينصرفُ عنهم، إلى الله، يتعبَّده، ويتبتَّلُ إليه تبتيلاً!..

وكان يعود، عندما يتصرَّم النَّهارُ، إلى بيته، حيث زوجُه العجوزُ، يقضي فيه ليله، حتّى يأذن اللهُ له بصباحٍ جديدٍ!...

ومازال على هذا النّهج حتّى خارت قواه، واضمحلَّت همّتهُ، فأضحى شيخاً عجوزاً، فانياً..

وكان قد بنى في الهيكل الّذي لايُبارحه إلا لماماً(أي: قليلاً)، غرفةً لمريم، هذه الفتاة القدِّيسة، الربَّانيّة، التي بذّت كبار الأحبار في تبتُّلها، وتعبُّدها، وتسُّكها... وكان زكريَّا، وحده يصعد إلى غرفتِها بِسُلَّمٍ.. فهو المشرفُ على شؤون هذه الفتاة الّتي كانت تصومُ النّهار، وتقومُ اللّيل، وتعبد الله، عبادةً، ينقطع دونها الأحبارُ الربّانيّون، ولمّا تتجاوز من سنيها التِّسعُ سنواتٍ!..

وكان زكريّا راضياً عن هذا كلّه تمام الرضا، طيِّب النَّفس به، مثلوج الفؤاد، فالإشرافُ على هذه الفتاة المبكّرةِ النموِّ، في مأكلٍ لها، ومشربٍ، جزءٌ من العبادة، والتقرُّب إلى الله بخالص الأعمال!..

وإنّ زكريّا ليعلمُ حقَّ العلم بأنَّ الله تعالى، جلَّت قدرتُه، وعَظُمت مشيئتُه، شاء أن يكون هو لاغيره، لمريم كفيلاً..

أو لم يأتِكم حديثُ كفالةِ زكريَّا مريم؟..

في صباح يومٍ، دخلت الهيكلَ امرأةٌ متَّشحةٌ بالسّواد، بسكينةٍ ووقارٍ، وفي حضنها طفلةٌ رضيعةٌ ملفوفةٌ بخرقةٍ... واتّجهت إلى أحبار الهيكل، - وكان بينهم زكريَّا-، وقائلةً لهم:

- دونكم النَّذيرة!..

إنّها حنَّة، زوجُ عمران، رأسِ الأحبارِ في زمانه، والكهَّانِ!..

وكان لعمران في قلوب عارفيه جميعاً، منزلةٌ عظيمةٌ، وشأنٌ رفيعٌ، لما آتاه الله تعالى من فضلٍ، وحباهُ من كرامةٍ، وأودع صدرَه من دين..

وكانت حنّة قد نذرت، في حملها، إن آتاها الله ولداً ذكراً ،أن تودعه الهيكل، يقومُ على شؤونه، وخدمةِ الأحبار فيه، والرُّهبانِ، تقرُّباً إلى الله تعالى، واحتِساباً..

فوضعت مريمَ... وهاي هي ذي زوج عمران تتعجَّلُ الوفاء بنذرها، على حياءٍ، ولكم تمّنَّت حنه ان يؤتيها الله ولداً ذكراً، يكونُ به تمامُ نذرها،.. وشاء الله أن تكون أنثى.. {وليسَ الذَّكرُ كالأنثى}..

فليس لها - والحالة هذه- إلاّ أن تقدِّمُ مريمَ الرَّضيعةَ إلى الهيكل، لتستنشق، منذ نعومةِ أظفارِها، هواء رحابهِ العابقةِ بأريج السَّماء... ففي هذا الهيكل القدسيّ، ستقضي الفتاةُ الطريَّةُ العودِ، النديَّةُ البراعم، من عمرِها المباركِ، ماشاء الله لها ذلك!...

وتنافس الكهَّان كلٌ يبغي أن يضم إليه مريم... أو ليست هذه الرَّضيعةُ بنت عمران الذي كان لهم إماماً، وكان بينهم صاحب القربان؟

وانبرى زكريَّا قائلاً:

- أنا أحقُّ بها لأن خالتَها عندي...

فقد كانت اليصابات زوجُ زكريَّا أختَ حنَّة زوجِ عمران..

ورفع الأحبارُ أيديهم عن كفالةِ مريم... فزكريَّا أحقُّ الناسِ أن يتكفَّلَها، من دونهم، أجمعين!..

والتفت الى زكريَّا حبر كهل، تقوَّس ظهره، واحدودبَ، كالقوس المشدود، وارتخت جفونه على عينيه حتى أطبقتهما، فلا يستطيع فتحهما إلاَّ بعناءٍ، وقال لزكريا:

- يازكريا، لو تُركَتْ مريمُ لأحقِّ النَّاسِ بها. لكانت من نصيب أُمّها الّتي ولدتها.. وصاح الأحبار والرهبان:

- وأيْمَ الله، أنَّه لحقٌّ ماتقول.. فأمّها أحقُّ الناس، إن شاءت، بتربيتها، وتنشِئتها..

وفُتَّ في عضد زكريَّا. (كنايةً عن التراجع مغلوباً).

فأيّهم يكفلُ مريم؟.. وضربوا أخماساً بأسداسٍ... وفكَّروا ملياً..

وقال الشيخ المرتعش الأطراف: ولكن، نَقتَرعُ عليها، فتكونُ عند من خرجَ سهمهُ... وانطلقوا، وكانوا تسعةً وعشرين، إلى النهر- ولعلَّه نهرُ الأردنِّ- ليُلقوا فيه أقلامهم...

فأيُّهم طفا قلمهُ، يكون لمريمُ كفيلاً!...

وألقوا في الماء أقلامهم... فحملت المياه بعضاً، وأغرقت بعضاً... وتقدَّم زكريا، بقلمه، وألقاه في النهر، وهو يذكر الله... فطفا قلمه، واستقرَّ على صفحةِ الماء، ثابتاً، كأنه عالقٌ في الطين..

فهتفوا بصوتٍ واحد: أنت كفيلُ مريمُ يازكريَّا.. بارك الله عليك، هذه الكفالة الطيِّبة، والمكفولة الطاهرة، معاً!...

فضمَّ زكريَّا مريم إلى نفسه، وإلى خالتِها اليصابات... وتعهَّداها خير ما يتعهَّدُ أبوان، ولداً،... حتى انتهى بها الأمرُ، إلى اعتكافِها في غرفةٍ مفردةٍ، في الهيكل، وكان يقوم على أمُورِها كلِّها، زكريَّا!..

آية معجزة

زكريَّا يدلُفُ (أي: يدخل) إلى غرفة مريم، كعادَتِهِ، وبين يديه شئٌ من طعامٍ وبعضُ ماء... ويَدخلُ عليها، بعد استئذان... فيجدها في محرابها تصلِّي.. ويضع إلى جانبها رزقَها لِيومها هذا. ويهمُّ الإنصراف...

ولشدِّ ما كانت دهشتُه عندما وجد إلى جانبها الآخر طعاماً طيِّباً، وفاكهة شتاء والوقت صيفٌ قائظٌ...

ولايُلقي زكريَّا إلى ذلك، كبيرَ بال...

ويتكرَّرُ المشهدُ أمام زكريَّا في ما تعاقب من أيَّام وشهور..

وتتبدَّلُ أمامَ ناظريه، الفاكهةُ، وقد تقدَّم من عمر الزمان فصلٌ...

فالفاكهةُ اليومُ فاكهةُ صيف، والأيام تُرعدُ برداً، وتجتاحُها عواصف أمطارٍ، هوجٌ..

إنّ رزق مريم ماله من نفاد... والفاكهة لاتنقطع من حجرتها، تأتيها في غير مواسمها.. فمن أين لها كلُ هذا الرِّزق الطيب، والفاكهةِ النضِرةِ، الريَّانة؟...

ويسأل زكريَّا مريم:

{قال: أنّى لكِ هذا يامريم؟}.

- {قالت: هوَ من عند الله}.

أستيقظُ ياعمُّ، في الصباح، بعد تهجُّدٍ، وتعبُّدٍ، ونومٍ يسيرٍ، فأرى طعامي أمامي، فآكلُ منه نصيباً...

وأعود لعبادة ربي، أصوم له نهاري، واستغرقُ في تنسُّكي، وتَّبتُّلي، وأنظر، وقد غربت الشّمس،.. وإذا بطعامي يُبسَطُ أمامي، عشيِّاً، فآكل منه، ماشاء الله لي أن آكُلَ...

ولم أطلب من أحدٍ طعاماً... ولم أدعُ ربي أن يرزقني منه، ولكنّه أكرمني برزق منه وفير، وخيرٍ كثيرٍ!... وما أراه إلاّ من طعام الجنَّة، ويانع ثمارها...

ويحملق زكريَّا، في وجهِ مريم، مدهوشاً لما يسمع...

وتتابع مريم: إني اراكَ، ياعمُّ، تعجبُ من قولي، ألم تعلم بأنَّ الله يرزقُ من يشاءُ بغير حسابٍ؟

ويهزُّ زكريَّا برأسه، متمتماً: بلى!...

ويُلقى في روعه بأنّه أمام قدّيسةٍ، جسدها على الأرض، يتحرك أمّا روحها فتجوب أعالي السماء... وإنّ لها لشأناًعند الله، عظيماً..

زكريَّا يدعو ربَّه

ويشطحُ الخيالُ بزكريا...

فالله قد رزق مريم. من الغيب، طعاماً لذيذاً طيِّباً،.. وفاكهةً يانعةً، شتّى،... وشراباً عذباً سلسبيلاً،.. وما كان رزقهُ إيَّاها، ذلك كلَّه، إلاّ آيةً من آياته البيِّنات، ومعجزةً من معجزاتهِ، الظَّاهرات!...

وتحدِّثه نفسه، فيصرفها عمّا ليس لها، ولكن حديث نفسه كان يملأ أحناءه كالصُّراخ.

- لو أن الله تعالى حباني (أي منحني) منه آيةً. وآتاني من لدنه معجزةً، تُدخلان على قلبي الفرحَ، وتعيدان إلى نفسي إشراقهُ الأمل، وبسمةَ الرَّجاء، فيرزقني غلاماً زكيَّاً، يملأ عليَّ حياتي الخاويةَ، إلاّ من الإيمان، ويحفظ الله به النبوَّة، وآثارها، من بعدي..

آيةٌ بآيةٍ!...وأعجوبةٌ

بأعجوبةٍ..</B>

أو ما قالت مريم آنفاً: إن الله يرزق من يشاءُ بغير حساب!...

وهكذا أنارت مريمُ في قلب زكريَّا جانباً كانت تلفُّه الظَّلماء...

وأثارت في نفس هذا النبيِّ الكريم، حنيناً وشوقاً إلى ولدٍ، يخلُفُه، ويرثُه، ويتابعُ سيرتَه، يرثُ الكتاب، فتُحفظ في عقب زكريا النبوةُ والكتاب وبقيَّةٌ من آثار أنبياء بني إسرائيل،... وما أكثر الأنبياء في بني إسرائيل؟...

عند ذلك، توجَّه زكريا إلى محرابه، للإعتكاف فيه، والتنسُّك، وعبادة ربّه والإفضاء اليه، في هذا المسجد الطَّهور، بما يجيشُ في حناياه من خواطر، وما تضطرب به نفسه من مشاعر... خاصةً وأن لزكريَّا أولاد عمٍّ، كانوا من شرار بني أسرائيل،... وهم، دون غيرهم، المؤهّلون لوراثة مايخلفه زكريا من مال، ومن آثار نبوَّةٍ عريقةٍ، تجمّعت في آل يعقوب، فتوارثوها نبيّا عن نبيِّ، ووصيّاً عن وصيٍّ، ووليَّاً عن وليٍّ!... فدعا ربه بصوتٍ خافت متهدِّج، ولسان متلجج، وجنان مضطرب:

-{ربِّ لاتذرُني فرداً وأنتَ خيرُ الوارثين}.

فأوحى الله تعالى بصوت جبريل. أو رهطٍ من الملائكة:

- {يازكريّا إنّا نُبشِّرُكَ بغُلامٍ اسمُه يحيى لم نجعل له من قبلُ سميّاً}.

وكان عمرُ زكريَّا اذ ذاك فوق التِّسعين.

ويذهبُ عبد الله بن عباس إلى أنّ زكريَّا كان يومٍ بُشّر بيحيى إبن مائةِ وعشرين سنةٍ وكانت امرأتُه بنتَ ثمان وتسعين سنةً.

وينتصبُ شعرُ زكريّا، وقد اشتعل شيباً، وتلألأ بياضاً...

فيا للبشارة تزُفُّها إليه الملائكة، وهو قائم يصلِّي، في المحراب!..

{قال ربّ أنى يكون لي غُلامٌ وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغتُ من الكبر عتيّاً}.

ويأتيه النداء، وكأنه يدعوه لمزيدٍ من التأدُّب أمام أمرِ الله، والتسليم لمشيئته تعالى:

{قال كذلك قال ربُّك هو عليَّ هيِّن وقد خلقتُك من قبلُ ولم تكُ شيّئاً}.

ويهد قلب زكريّا، بعد اضطراب، ووجيف، وقد رانت عليه رهبة الله، فامتلأ خشوعاً، وطفح يقيناً...

ألم يبشر الله نبيّه إبراهيم من قبله بإسحق ولداً، ومن وراء إسحق يعقوب، حفيداً؟.. فلا عجب، إذاً، أن يبشّرَه اللهُ بغلامٍ تبتسم به كهولتُه المضناةُ... وتطيب به زوجُهُ، اليصابات اليائسةُ، نفساً!...

فلله في خلقه شؤون!..

{إنّما أمرُهُ إذا أراد شيئاً أن يقولَ لهُ: كن!... فيكون!..}.

ويطلب زكريَّا من ربِّه آيةً تطمئنُّ إليها نفسه، ويصدّقه، بها، قومُه..

{قال: آيتُك ألاّ تُكلّم النّاس ثلاث ليالٍ سويّا...}.

عند ذلك شعر زكريّا بالبرد يدبُّ في قلبه، فيملأه اطمئناناً، ونوراً يشعشع في أحنائه كلّها.. فسجد لله شاكراً!..

ثمّ خرج زكريّا على قومه، من المحراب، يحمل إليهم بُشرى السماء...

وأراد أن يخاطبَهم، فما استطاع أن يحرِّك لسانه، أو أن ينبس ببنت شفةٍ، لقد أخذت المعجزة طريقِها إلى التنفيذ!.. فاعتُقل لسانه، كما أوحى الله إليه بذلك، منذ لحظاتٍ قِصارٍ، إنه ليس خرَساً، ولكن حصرَ لسانٍ وعجزاً عن الكلام..

وخاطب زكريّا قومه بالإشارة والرّمز، أن إدأبوا على ذكر الله، وتمجيده، وتسبيحه، وتقديسه، بُكرةً، وعشِيّاً!..

وأدرك قومه جليَّة الأمر،...

فهذه معجزةً أُخرى، تُضافُ إلى المعجزات الكُثُر، الّتي تمّت على أيدي أنبياء بني إسرائيل!..

وزيادةً في الإعجاز، فقد كان زكريَّا يقرأ الزبور، ويرتِّل التوراة، ويسبِّح الله، ويقدِّسه، بطلاقة لسان..

مكالمةُ الناس وحدَها كانت محظورةً على لسانه. فكان يشير إليهم بيديه ويُومئ إليهم برأسِه، من بعيد...

وظلَّ على ماكان عليه، يؤمُّ قومه في صلواتهم، في العشيِّ والإبكار... وظل لسانُه محصوراً، لايستطيع أن يكلِّم أحداً ثلاثة أيَّام متتالياتٍ... فلا يَفُكُّ له عقالٌ إلاّ عندما يتوجَّه إلى ربِّه في صلاةٍ، أو دعاءٍ ومناجاةٍ...

وبعد خمسِ سنين من بشارة زكريَّا، ولِدَ يحيى...

وهكذا أنعم الله على نبيِّه زكريَّا بهذا الغلامِ النَّجيب، وحباه هذا الأسم الذي لم يكن لأحدٍ من قبله...

[عن الصادق عليه السلام: وكذلك الحسينُ لم يكن له من قبلُ سميُّ.. ولم تبك السَّماء إلا عليهما، أربعين صباحاً..

قيل له: وما كان بكاؤها؟...

يحيى خذ الكتاب بقوّةٍ وآتيناه الحكم صبياً وحناناً من لدنّا وزكاةً وكان تقياً وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً}. ويروى أنه مرّ بصبيان يلعبون، فدعوه ليلعب معهم، فقال لهم ماللّعب خلقت.

كذلك يروي عن يحيى عليه السلام أنه أتى ذات يوم إلى بيت المقدس، فرأى جماعة من العبّاد وقد لبسوا مدارع الشعر وبرانس الصوف، وهم يتعبدون ربهم، فعاد إلى أمه وطلب منها أن تنسج له مدرعة من شعر وبرنساً من صوف، حتى يعبد الله كما يعبد، أولئك الذين رآهم في بيت المقدس، فاستأذنت أمه أباه زكريا(ع) فاستدعاه وسأله لماذا تريد مدرعة الشعر وبرنس الصوف، وأنت ما زلت صبياً صغيراً؟ فأجابه بقوله: ياأبت، أما رأيت من هو أصغر مني سناً وقد مات وذاق مرارة الموت؟ عندها أذن زكريا(ع) لأمّ يحيى أن تصنع له ماطلب، فقامت بنسج المدرعة والبرنس.

وتدرع يحيى(ع) المدرعة ووضع البرنس على رأسه وتوجّه إلى بيت المقدس وراح يعبد الله مع العابدين، وظلَّ كذلك حتى أكلت المدرعة لحم بدنه، فنظر يوماً إلى جسمه الناحل، فبكى، فأوحى الله تعالى إليه أن يايحيى أتبكي من نحول جسمك، وعزّتي وجلالي لو ألقيت نظرة واحدة إلى النار للَبِستَ مدرعة من الحديد لامن الشعر، فازداد بكاء يحيى(ع) حتى أنّ الدموع حفرت في خديه مجاري وبانت أضراسه للناظرين.

وعرفت أُمّ يحيى بما جرى عليه، فجاءت إليه، وكذلك زكريا(ع) والأحبار والرهبان، وراحوا يطلبون منه أ، يخفف من عبادته ويرحم نفسه، وقال له والده زكريا(ع): يابني لماذا فعلت هذا بنفسك وأنا إنما دعوت ربي أن يهبني إياك لتقرّ بك عيني وترثني؟ فقال يحيى(ع) أما أمرتني أنت بذلك ياأبت يوم قلت لي: إنّ بين الجنة والنار لعقبة لايجتازها إلا البكّاؤون من خشية الله.

سكت زكريا(ع) ثم قام وقال له: إذا كان كذلك فجِد واجتهِد وشأنك وماتفعله، فقامت أم يحيى وصنعت لابنها ماينشف دموعه ويستر أضراسه.

وكيف لايفعل يحيى(ع) ذلك، وقد تعطّف الله تعالى عليه، وتلطّف به، وآتاه النبوة وهو ابن ثلاث سنين، فكان للناس آية، شأنه في ذلك شأن ابن خالته المسيح ابن مريم(ع) وقد ولد وإيّاه في عام واحد، وإن كان يحيى يكبر عيسى بستة أشهر.

اليهود ي***ون زكريا(ع)

ويحكى أنّ زكريا(ع) وكان يكفل مريم، قد اتهم من قِبَل السفلة بأنه وراء حمل مريم(ع)، فلما بان حملها تمكّن هذا الإتهام وثبت في نفوسهم، وأشاعوا بين الناس، أنّه لايعقل أن تحمل امرأة دون زواج من رجل، فاضطرّ زكريا(ع) إلى الخروج من القدس، وراح السفلة من اليهود يلاحقونه، والشيطان يزيِّن لهم ذلك.

وعمّت الفوضى، وتفاقم الشر بعد خروج زكريّا(ع) من المدينة المقدسة، وشاعت الفاحشة بحق زكريا(ع) فلحقه شرار اليهود يريدون ***ه.

ويُروى أنه(ع) هرب منهم، حتى إذا وصل إلى وادٍ رأى شجرة فقصدها ليختبئ فيها، فانفجرت له من جذعها فدخل في جوفها ثم عادت كما كانت، فتحيّر اليهود ولم يعرفوا مكانه، حتى جاءهم إبليس اللعين بصورة واحدٍ منهم ودلّهم على مكانه، وأمرهم أن ينشروا الشجرة بالمناشير، وهكذا كان، فنشروها حتى قطعوها وقطعوا معها زكريا(ع) من وسطه، ثم تركوه وقفلوا راجعين، فبعث الله سبحانه ملائكة غسّلوا زكريا(ع) وصلّوا عليه ثلاثة أيام حتى إذا جاء خيار بني إسرائيل أخذوه ودفنوه -سلام الله عليه- فكان على رأس الأنبياء الشهداء الذين ***هم اليهود بغير حق.

يحيى(ع) يرث زكريا

كان م*** زكريا(ع) من أشد المحن وأقساها على قلب نبي الله يحيى(ع) فعظم الأمر عليه، خصوصاً وأنّ أباه ناله ما ناله من السفهاء، بتلك التهمة المنزّه عنها يقيناً.

وقام بالأمر بعد أبيه، فكان يخطب الناس معلناً أنّ مايصيب الصالحين من المِحَن والرزايا، إنّما يكون من جانب السفهاء والفسقة الذين لادين لهم ولايقين ولاورع، ثمّ يبشرهم بقيام المسيح عيسى ابن مريم(ع) من بعده ويعدهم الفرج على يديه.

ويروي أنّ يحيى(ع) كان بارعاً من الشريعة الموسوية، وكان مرجعاً معروفاً يرجع إليه كل من أراد أن يستفتي في أحكام تلك الشريعة، خصوصاص وأنه نُبِّئَ وهو صبي صغير، فراح يدعو الناس إلى عبادة الله وتوحيده والتوبة من ذنوبهم وخطيئاتهم، ويأمرهم بالإغتسال في نهر الأردن قبل التوبة، فكان (ع) ظاهر الزهد والنسك منذ الصبا، على أكمل أوصاف الصلاح والورع متعلقاً بالعبادة كما ذكرنا.

وقد ورد عن الإمام الرضا(ع) أنه قال: إنّ أوحش مايكون على هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيخرج من بطن أمه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها،ويوم يُبعَثُ (للحساب) فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا، وقد سلّم الله عزّوجل على يحيى (ع) في هذه المواضع الثلاثة وآمن روعته، فقال عزّ من قائل: {وسلامٌ عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعثُ حيّا}.

لقد كان يحيى(ع) كعيسى ابن خالته آية من آيات الله البينات ومعجزة من معجزاته الباهرات، وهبه لأبيه زكريا ليرثه، بعد أن خاف زكريا(ع) الموالي أن يغيّروا ويبدّلوا في دين الله، وهبه إياه على كبر، وبعد أن غزا الشيب مفرقه، ويئست زوجته من اإنجاب، وفي وقت لايعقل فيه أن ينجب زكريا أو امرأته، تماماً كما وهب سبحانه عيسى لمريم(ع) بطريقة لايعقلها الناس العاديون.

ثورة يحيى على هيرودوس وهيروديا

في زمن يحيى(ع) كان هيرودوس حاكماً على فلسطين، من قبل قيصر بيزنطية... وكان فاجراً فاسقاً دنيئاً زانياً، حيث كانت إحدى بغايا بني إسرائيل تأتيه دائماً فيرتكبا الزنى المحرم...

وكبرت تلك البغي وأصبحت عجوزاً شمطاء، فلم يعد هيرودوس يرغب بها، وكانت لها إبنة رائعة الجمال، فابتغاها هيرودوس زوجة له..

وعلم يحيى(ع) بالأمر، فأنكر ذلك عليه وعلى ابنة البغي، فثار وراح يحرّض الناس ويؤلبهم على هيرودوس، جاهراً بالحق، صادعاً بالصدق، فلا يجوز لهيرودوس أن يتزوج من فتاة كانت أمها تحته، وإن في علاقة غير مشروعة.

وشاع أمر يحيى(ع) بين الناس وذاع.. وماكان نبي الله إلاّ مجاهراً برأيه على رؤوس الأشهاد، وفي كل محفل وناد، لأنّ الدين لايبيح ذلك ولايسمح به، إضافة إلى أنّ العقلاء يستنكرون ذلك وأنفس الشرفاء تمجه، وتعافه أذواق الصلحاء.. وهكذا وصل رأي يحيى إلى كل مكان.. إلى محاريب العباد والعلماء، وإلى أماكن الفجور والفسق، حيث الفجار والفسقة...

وعرفت تلك البغي بأمر يحيى ورأيه، فغضبت وحقدت عليه، وراحت تمكر به، وإن مكرهن لعظيم..

لقد خافت أن يغير هيرودوس رأيه، متأثراً بموقف يحيى(ع) وهو رأس العبّاد والربّانيين المتألّهين، نبي الله وابن نبيّه.. فلجأت إلى الغواية، والخديعة.

هيّأت ابنتها وزيّنَتها وقالت لها: إني أريد أن آخذك إلى هيرودوس، فإذا واقعك، فسيسألك ماذا تطلبين، فإياك أن تطلبي منه شيئاً سوى الزواج منه على أن يكون المهر رأس يحيى بن زكريا.

م*** يحيى(ع)

دخلت ابنة البغي على هيرودوس، وهي تتلوى بغنج وتختال بدلال، وقد تزيّنَت بأجمل زينة، وأبهى بهرج ولألاء..

إنبهر هيرودوس بجمالها الغوي، فراحت تتثنى أمامه، بأناقتها الفائقة، فظنّ أنه في مهرجان حسن وضّاء وعرس جمالٍ وبهاء، فاستجاب لداعي الفتّان، ونزع عن مفرقه التاج، وكلّل به رأس من تمثّل الحسن بها والجمال، وهتف أمامها صاغراً متذللاً، قد أخذته الشهوة، وأعمت بصيرته الفتنة:

-سيدتي.. مُرِي بما تشائين، يطع ما تأمرين.. فإنما أنت لي ولن يفرق بيننا إلاّ الموت..

وتلوّت الأفعى ثانية، وتثنّت، وقالت بصوتٍ مغناج يشبه الفحيح:

- أنا لك شرط أن تأتيني برأس يحيى بن زكريا، فإنّه يعكر علينا صفو الحياة إن بقي على قيد الحياة، وينغّص علينا هناءة العيش، ويؤلّب الناس علينا وينفرهم عنّا.

قالت ذلك وانصرفت ولم يطل الوقت: ساعة أو بعض ساعة، حتى أتي بيحيى(ع) وجئَ بطشت من ذهب ف*** ووضع رأسه في الطشت وأرسل به إلى تلك البغي..

وإنّه لمن هوان الدنيا على الله سبحانه، أن يهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.. وهو النبي الذي لم يكن له من قبل سمي.. وكذلك الحسين(ع) فيما بعد، لم يكن له سمي.. وكان حقاً على الله أن تهون عليه الدنيا..

فعن الصادق(ع) قال: لم تبكِ السماء إلا عليهما (الحسين وزكريا(ع)) أربعين صباحاً.

قيل له: وماكان بكاؤها؟

قال عليه السلام: كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء!...

وما أشبه اليوم بالأمس..

وما أشبه الباغي بالبغي..

فبعد أجيال كان رأس الإمام الحسين(ع) ريحانة رسول الله(ص) وسبطه وسيد شباب أهل الجنة، موضوعاً في طشت أمام الباغي يزيد بن معاوية، طاغية عصره، ينكث ثناياه الشريفة بقضيب كان في يده، تشفيّاً كما تشفّت البغي برأس يحيى(ع).

إنهما، وحق الله، مناسبتان متشابهتان متماثلتان، بكت فيهما السماء دماً عبيطاً، فكان حقاً على الله أن تهون عليه الدنيا، في هاتين المناسبتين، هواناً مابعده هوان... وها نحن نرى نتائج ذلك في واقع الأمة الإسلامية...

فسلام الله على الحسين(رضى الله عنه) وسلام الله علىيحيى وإنّا لله وإنّا إليه لراجعون
__________________


صوت الحق
عصام على
أول رئيس مجلس إدارة
لهذا المنتدى




آخر تعديل بواسطة صوت الحق ، 28-06-2008 الساعة 11:32 AM
رد مع اقتباس
  #20  
قديم 28-06-2008, 11:30 AM
الصورة الرمزية صوت الحق
صوت الحق صوت الحق غير متواجد حالياً

رئيس مجلس الادارة ( سابقا )

 
تاريخ التسجيل: Dec 2006
المشاركات: 8,414
معدل تقييم المستوى: 0
صوت الحق is an unknown quantity at this point
افتراضي النبي يونس (ع) ذو النون

النبي يونس (ع) ذو النون

يونس يدعو قومه:

قامت دولةُ الأشوريِّين في بلاد "مابين النَّهرين"، وكانت عاصمتُها "نينوى" بأرضِ الموصلِ.

وكانوا يهتمُّونَ بزراعةِ الأرضِ، اهتمامَهم بالعزوِ والتوسُّعِ، شأنهم في ذلك شأنُ جميعِ شعوب تلك الحقبةِ من التَّاريخ.

وإلى جانب ذلك، فقد كانوا وثنيِّيين، يعبدونَ الأصنامَ. وارتفعت الأصنامُ في بيوتِ عبادّتِهم، وفي مدينة نينوى بشكلٍ خاصٍّ وتقرّبوا إليها بالعبادة والطّاعة، متّخذين منها آلهةً من دون الله تعالى.

وأباحوا لأنفسهم كلَّ حرامِ.. فكانوا لايتورعون عن ارتكاب المعاصي والموبقات، ولايتناهون عن كبائر الفواحش، والآثام!.

فأرسل الله تعالى إليهم نبيَّهم "يونس" يدعوهم إلى عبادةِ الله وحدِهِ:

- ياقومُ!.. ماهذه الأصنامُ التي أنتم عليها عاكفون؟..

إنَّ ربَّكم الله خالقُ كلِّ شئٍ، فتوبوا إليه، واعبدوهُ، يمتِّعكم متاعاً حسَناً..

- ماهذا الهذرُ يايونس، وما هذا البهتانُ الذي تأتينا به؟

أنعبدُ إلهاً لانعرفُه، ولانراهُ، ونذرُ آلهتنا التي نشأنا على عبادتها نحنُ وآباؤنا الأقدمون؟

فمن ينجِّينا إذاً من سخط "أشور"، عظيم آلهتنا، إن آمنّا بك واتّبعناك؟

- إنني ياقومُ إليكم بشيرٌ ونذيرٌ.. أرسلني الله إليكم كي أدعوكم إلى ما أوحيَ إليَّ به من الله العزيز الحكيم، أن اعبدوه وحده لاشريك له، ولاتُعرضوا عن هذا الدّين الّذي أتيتكم به.

فإن آمنتم وصدَّقتم برسالةِ ربكم كنتم من الفائزين.. وإلاّ، فانتظروا سخط الله عليكم، وعذابه، فلا تُقبلُ عندئذٍ توبةُ التَّائبين، ولاينفعُ ندمُ النّادمين. إنّ أجلَ الله لآتٍ لو كنتم تعلمون!..

- مانراك يايونس على شئٍ مما تدعوننا إليه، ولسنا لدعوتك بمستجيبين، {فائتنا بما تعدنا غن كنت من الصّادقين}.

ويكرّر يونس دعوته قومه إلى دين الحقِّ، فلعلَّهم يؤمنون.. فلا يزدادون إلاّ غيّا، وإصراراً على ما هم سادرون فيه من ضلال.. فيضيق بهم ذرعاً.. إنهم قومٌ عمون!..

وأخيراً، يُنذرُهم: إنّكم مُنظرون (أي: مُمهَلون) ثلاثة أيّامٍ كي تتوبوا، وتُقلعوا عمَّا أنتم عليه من الكفر، وتعودوا إلى الله؛ ربَّكم، وإن لم تفعلوا، فائذنوا بالعذاب الأليم!..

وينصرف يونسُ عن محاجَّتهم ومحاولة إقناعهم...

ونيظر قومُ يونسُ، بعضُهم إلى بعضٍ، متسائلين:

- أحقاً ماينذرُنا به يونس؟

ويُردفُ أحدّهم:

- أو عهدتم عليه، قبلَ ذلك، كذباً؟...

- لا، إنه بيننا الصَّدوقُ الأمينُ!..

- الرأيُ أن تأخذوا قوله على أنه الصدق، ولمزيدٍ من التأكيد، علينا أن نراقب مبيته، فإن بات فليس بشئٍ، وإن لم يبت، فاعلموا أنَّ العذابَ مُصبِحُكم..

فلمّا كان في جوف الليل خرجَ يونسُ من بين أظهرهم، وانطلق في أرض الله... مرتحلاً عن قومِهِ، مغاضباً، يائساً من هؤلاء القوم الفاسقين..

وهكذا لم تكن لنبيِّ الله يونسُ أناةُ نوحٍ، ولاصبرُ أيوبَ، ولاعزمُ موسى وإبراهيم!

نُذُرُ العذاب

وما أن ابتعدَ يونسُ عن نينوى حتّى لاحَتْ نُذُرُ العذاب...

فقد غشيَ المدينة غيمٌ أسودُ ينبعثُ منه دخانٌ عظيمٌ،.. فاسودت سطوح منازلهم، وخيَّم العذابُ فوقَ رؤوسهم أجمعين!.. وتغيَّرت هيئاتُ قومِ يونس، واكفهرَّتْ وجوههُم، واربدَّت!..

ونظر بعضُهم إلى بعضٍ، فإذا بهم مكفهرُّون!..

ونظروا إلى علٍ فإذا بالجو أسود قاتمٌ.. فداخلَهم خوفٌ ورعبٌ شديدان، وامتلأتْ قلوبهم هلعاً.. فأيقنوا بالهلاك، ووشيك العذاب الأليم!..

وتوجَّهوا بجموعهم إلى "مليخا" كبير زهّادهم،.. وإلى "روبيل" عظيم علمائهم،.. يستفتونهما:

ماالعملُ؟.. وقد غشيَنا العذابُ.. فالأمرُ عصيبٌ، شديدٌ..

فأشار عليهم بأن يلبسوا المسوح (وهو لباسُ الزهَّاد من الرهبان)، وأن يتفرّقوا بين قمم الجبال، وبطون الأودية، ومنبسطات السُّهول.. وأن يُفرِّقوا بين الأمّهات وأولادها، من بشرٍ وحيوانٍ.. وأن يتوبوا إلى الله..

ففعلوا ذلك:

وفزعوا إلى الله، يجأرون بالاستغاثة والدعاء:

- ياحيَّ،.. ياقيُّوم، يامحييَ الموتى،.. لاإله إلا أنت!..

وعلا بكاء الأطفال الرُّضَّع، وحنينُ البُهم الصِّغار الرُّتَّع، ودعاءُ الشيوخ الرُّكَّع.. وتابوا إلى الله توبةً نصوحاً!..

قال ابن مسعود:

"بلغ من توبة أهل نينوى أن ترادُّوا المظالم بينهم،... حتّى أن الرّجل كان ليأتي بالحجر، وقد وضع عليه أساسُ بنيانه، في***عُه، ويردُّه!.."

فما زالوا على ذلك،... حتّى نظر الله تعالى إليهم، وهم على هذا الحال، فبسط عليهم رحمته، وقد تقبَّل منهم توبتهم.. فلم يؤاخذ الصغيرَ بظلمِ الكبير، ولاالضعيفَ بجريرةِ القويِّ، ولاالحييَّ بفسوق الفاجر الكفّار.. بل شملهم جميعاً برحمةٍ منه. ورفع عنه العذاب، وقد كاد يحيطُ بهم جميعاً!..

يونسُ يذهب مغاضباً

أمّا يونسُ فقد تابع انطلاقه، مغاضباً، دون أن يأمره الله بذلك. أو يوحي به، إليه، بل، تأوّلاً منه، وترخُّصاً، وصدوراً عن رأيه هو.. وهو فعل ذلك،... فيتحمّل إذاً التّبعات!...

وكان يظنُّ ظناً شديداً بأنْ لن يقدرَ الله عليه...

سواء كان معنى هذا "القدر" تقتيراً في الرِّزقِ، كما يراه بعضُ أجِلاَّئنا المحقِّقين، أو، تقديراً من الله تعالى، كما يراه بعضهُم الآخرُ.

وأمعن يونسُ يضربُ في طولِ الفضاءِ، وعرضِه، (كنايةً عن الجدِّ في السير) حتى حطَّت به عصا التَّسيار أمام شاطئ البحر،... فتوقَّف مُضنىً، تعباً!..

يونس في السفينة

وشاهد سفينةً شُحِنت بحّارةً ومسافرين، ومتاعاً كثيراً.. وقد أخذت أشرعتُها ترتفعُ، مؤذنةً بالإبحار!..

فاقتربَ يونسُ من الرُّبَّان، وبعضِ النوتيَّة، يسألهم أن يصطحبوه معهم، في رحلتهم هذه، فقبلوه بينهم،.. وأنزلوه كواحدٍ منهم، عزيزاً، مكرَّماً،.. وقد أُخذوا بسيماء هذا العبد الصّالح الوقور، الكريم خلقاً وخُلُقاً!..

وأقلعت السَّفينةُ متهاديةً على صفحة اليِّم،.. فالبحرُ ساجٍ (أي: هادئ ممتد) والريحُ طيِّبةٌ، رُخاءُ!..

وفي قلب البحر هبَّ على السَّفينةِ إعصارٌ عاصفٌ، فتلاعب بها ذات اليمين وذات الشمال.. وأخذها الموج من كلّ جانبٍ، حتى أشرفت على الغرق.. فدعو الله مخلصين، أن يُنجّيهم من هذا الكرب الشديد..

وبينما هم كذلك، يغالبون الأمواج العاتية،.. وإذا بحوتٍ يشقُّ طريقه إلى السَّفينة، وكأنه قطعةُ جبلٍ،.. ويأخذُ بالدّوران حولها، والإلتفاف عليها،.. يبتغي رزقاً يطعمه!.. فاحتار الربّان في أمره، لايدري ماذا يفعلُ.. ووجمَ النوتيّة، مضطربين.. وعلت الأصواتُ بالاستغاثة والدُّعاء.. فهم بين بحر هائجٍ. تتعالى أمواجُه كالجبال، وحوتٍ ضخمٍ لايبرُح جانبي السّفينة، شاخصاً بعنقه إلى من فيها من ركّاب!..

جزاي العبد الآبق

وتشاور ركّابُ السّفينة فيما بينهم،.. ماالعمل؟

واستقرّ رأيُهم على أنّ بينهم عبداً آبقاً من مولاه (أي: هارباً من سيده) ولذلك كانت هذه العاصفةُ المجنونةُ،.. وهذا الحوتُ المنكر، الذي يأخذُ على سفينتِهم كلَّ طريقٍ!. وأجمعَ رأيَهم على إلقاءِ رجلٍ منهم في البحر.. فلعلّهم يتخلّصون من هذا النَّحسِ الذي يصاحبُهم، فيصفو الجوُّ.. ولعلَّ الحوتَ يقنعُ به، فيدعُ السَّفينةَ، وشأنها.. وتعاهدوا على ذلك.. ولجأوا إلى القُرعة: أيُّهم يكونُ نصيبَ الحوت؟.. وأجالوا القرعة فيما بينهم، فوقعت على يونس..

فاستعظموا أن يقذفوا بهذا العبد الصّالحِ في لجَّةِ البحر، لقمةً شائغةً لهذا الحوت الشرس، العنيد..

وأجالوا القرعةَ ثانيةً، فوقعت على يونس..

فأبوا..

وأجالوها ثالثةً، فأصابت يونسَ أيضاً!..

فعلم الجميعُ أن في الأمر سراًّ..

ونظروا إلى يونس كالمعتذرين، فمشيئة الله تأبى غيرَه.. فما كان من يونس إلاَّ أن رضي، قانعاً بما قسم الله له،.. وقد أوحيَ إليه:

- "عبدي... إن إردتَ أن تهربَ من قضائي، فاخرج من أرضي وسمائي!.."

وأسلم نبيُّ الله أمرَه ووجهَه لجبّار السّموات والأرض، وتوجَّه إلى حافّة السّفينة، واضعاً كلتا يديه على رأسه، وألقى بنفسه في لجّة الماء المزبد، وهو يصرخ: ياالله!..

وشاهد الحوتُ جسماً يتحرَّكُ في الماء، يغالبُ الأمواجَ العاتيةَ.. فاتَّجَهَ إليه، والتقمَه ابتلاعاً، دون أن يمزِّق منه لحماً، أو يهشم له عظماً.. وقد أوحى الله تعالى إليه:

"إني لم أجعل عبدي لك رزقاً، ولكني جعلت بطنكَ له مسجداً،.. فلا تكسرنَّ له عظماً ولاتخدشنَّ له جلداً.."

ومضى الحوتُ في طريقِهِ، لايلوي على شئ..

وتابعت السفينة طريقها.. وقد ساد رُكّابها حزنٌ طفح على وجوههم جميعاً، وقد كان صاحبُهم بينهم منذ لحظات..

ثم لبثوا أن أخذهم العجبُ الشّديدُ: إذ سرعان ما عادت الريح طيِّبة، رخاءً،.. وعادَ الجو إلى صحوهِ وإشراقِهِ،

بينما انصرف الحوتُ وشأنَه.. وكأنَّ شيئاً لم يكن!.

واستقرّ يونس في جوف الحوت،.. وكأنّه في جوف قبرٍ مظلمٍ، تتحرك فيه مياهٌ جيئةً وذهاباً..

وعصفت به وحشةٌ رهيبةٌ قاسيةٌ، كادت تقطع أنفاسَه..

فذكر الله، مسبِّحاً له، مقدِّساً إياه، وهو سجين ظلماتٍ ثلاثٍ: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة جوف الحوت.

أما المدَّة التي بقيها يونسُ في جوف الحوت، فقد اختلف العلماء والمفسِّرون فيها: فمن قائلٍ: ثلاثة أيام،.. إلى قائلٍ: بل، سبعة. وقيل: عشرون يوماً. وقيل: أربعون.

ويلقي القرآن الكريم على ذلك ضوءاً، بقوله، عزّوجلَّ: {وذا النّون (أي: صاحب الحوت، والمقصود به يونس)، إذ ذهب مغاضباً فظنَّ أن لنْ نقدِرَ عليه، فنادى في الظُّلُماتِ أن لا إله إلاّ أنتَ سُبحانكِ إنّي كنتُ من الظّالمين. فاستجبنا لهُ ونجّيناهُ من الغمِّ وكذلك نُنجي المؤمنين}.

[ونحنُ نعلم بأنّ لهاتين الأيتين الكريمتين، قدراً عند الله تعال، خاصّاً.. بحيث أُثبتت قراءتُهما في الرّكعة الأولى من صلاة الغُفيلة، بين فرضي المغرب والعشاء].

ويشاء الله تعالى أن يشمل عبده اللاّهج باسمه، برحمته.. وهو حيثُ هو.. في هذا القبر الحيِّ.. المتنقِّلِ به في قيعان بحار الدُّنيا!. فأوحى إلى الحوت: أن الفِظ عبديَ على الشاطئ الأمين.. ففعل!.

وخرج يونسُ - وقد قاءه الحوتُيتلمَّس طريقَه على الشاطئ، كالفرخِ الأزغب.. وقد رقَّ جلدُه بسبب ملوحةِ مياه البحر التي كان يقبع فيها، وهو في جوف الحوتِ.. ووَهنت قواه لفَرطِ ماعاناه، حتّى لكاد يُشرِف على الهلاك.

واقتعد ناحيةًمن الشَّاطئ، مفترشاً الرَّملَ.. فآذته حرارةُ الشَّمسِ.. فأنبتَ الله عليه شجرةً من يقطينٍ، فاستظَلَّ فَيْأها، وتناول منها ما اقتات به بعض الشئ..

وأخذت تسري الحياةُ في أوصاله شيئاً فشيئاً.. حتى تماسك على نفسهِ واستعادَ بعض قواه الخائِرةَ.

يونس يعود إلى قومِهِ

أمّا قومُ يونسَ، فقد علموا بما أصابَ صاحبَهم النبي، الذي غادرهم وهو يتفجَّر غضباً، لِماهم سادرون فيه من غيِّ، وضلال.. وأيقنوا أنّه تحوَّل طُعمةً لحيتان البحار، ووحوش قيعانها النَّواهشِ.. فصرفوا النظرَ عنه.. وقطعوا الأملَ من عودته، ثانيةً، إليهم.. وكانوا ياسفون لموقفِهم السَّابق منه، أسفاً شديداً.. ويندمون ندماً مريراً..

وكانوا، فيما بينَهم، يقولون:

- ياليت يونسَ يعودُ إلينا،.. لوجدنا، إذاً، من المؤمنين، وبرسالته من المصدِّقين، بعد أن منَّ الله علينا، فهدانا إلى صراطه المستقيم، واتَّبعنا دينَه القويمَ!..

ولشدَّ ما كانت دهشةُ قوم يونس، عندما رأوا نبيَّهم عائداً إليهم وفي مدينتهم نينوى ذاتها.. حيث كثُرَ أتباعه، وغمَّ أشياعهُ، فهم مئة ألفٍ أو يزيدون...

ووجدوا في عودته إليهم معجزةً سماويَّةً كبرى!..

ولشَدَّ ماكانت دهشةُ يونسَ عندما وجد قومَه مسلمين مؤمنين، بعد أن تركهم، في أمسهم القريب، كافرين فاسقين!..

وأحاطت نينوى بنبيِّها العائدِ إليها، مكرِّمةً إياه، رسولاً كريماً، ونبيَّاً أميناً.. وأدرك يونسُ أنَّهُ قد استعجلَ أمر ربِّه..

وليس للنبي المصطفى أن يستعجل أمر مولاه، فلله الحكمة البالغةُ،.. وهكذا كان ليونس ماكان!..

ولوطالت أناتُه قليلاً لتوصَّل إلى حمدي العُقبى، وجميلِ المال، ولوفَّر على نفسه عناءً كثيراً، وابتلاءً عظيماً..

{إنّ الله بالِغُ أمرِهِ قد جعل الله لِكُلِّ شئٍ قدراً}

ولنُصغ خاشعين إلى الله تعالى يوجز لنا قصة يونسَ، هذه، بالكلم المعجز، المتجلِّي في هذه الآية من الذّكر الحكيم:

بسم الله الرحمن الرحيم

{ وإنّ يونُسَ لمن المُرسلين. إذ أبق الى الفُلكِ المشحون. فساهم فكان من المدحضين. فالتقمهُ الحوتُ وهو مُليمٌ. فلولا أنّهُ كان من المسبِّحين. للَبِثَ في بطنهِ إلى يومِ يُبعثُون. فنبذناهُ بالعراءِ وهو سقيمٌ. وأنبتنا عليه شجرةً من يقطينٍ. وأرسلناه إلى مئة ألفٍ أو يزيدون. فآمنوا به فمتّعناهُم إلى حينٍ}.

صدق الله العلي العظيم
__________________


صوت الحق
عصام على
أول رئيس مجلس إدارة
لهذا المنتدى



رد مع اقتباس
  #21  
قديم 28-06-2008, 11:34 AM
الصورة الرمزية صوت الحق
صوت الحق صوت الحق غير متواجد حالياً

رئيس مجلس الادارة ( سابقا )

 
تاريخ التسجيل: Dec 2006
المشاركات: 8,414
معدل تقييم المستوى: 0
صوت الحق is an unknown quantity at this point
افتراضي وفاة موسى، وظهور يوشع بن نون نبيّاً جديد

وفاة موسى، وظهور يوشع بن نون نبيّاً جديد

ولما شعر موسى(عليه السلام) بدنّو أجله، نظر في أمور قومه، فأحسن تنظيم أوضاعهم، خاتماً فيهم رسالته ناظراً بعين الغيب إلى نبيٍّ جديد، يرسله الله إلى أهل مكة ومن حولها فيخرجهم من الظلمات الى النور!..

ثم غادرهم، وهم عنه غافلون، تجرّهُ قدماه في عمق الصحراء، وخيالهُ يلتهب بذكريات، وما أكثرها.. ومعظمها لاسع كالجمر المتّقد. وفيها كل غريب وطريف، فهي لاتبرح خياله أبداً.

وإن نسي، فلن ينسى منها ثلاثاً:

- الأولى: قصته مع الخضر: وسبب ذلك، أن نفس موسى حدّثته يوماً بأنه أعلم من على وجه الأرض، إنساناً! فصدّقها، وجاراها في دعواها. أليس هو نبيّ الله، وكليمه، ورسوله. فمن أقرب إلى الله من موسى؟. فاوحى الله تعالى إليه: إنّ من عبادي من هو أوسعُ منك إحاطةً، وعلماً!..

ويسأل موسى ربّه مستغرباً، من هو ياسيّداه؟

فيجاب: أنه عبدي الصالح، عند (مجمع البحرين).

فيشدُّ إليه موسى عصا الترحال، يبتغي مقابلته، والتعلُّم منه. وقد اصطحب معه فتاه، ويجتمع موسى بالعبد الصالح هذا،.. ويرى على يديه خوارق ومعجزات لا يستطيع الانسان العاديّ إلاّ إنكارها. وكذلك فعل موسى!..

وفي نهاية المطاف -(كما ورد في سورة الكهف، الآيات: 60-82)- يشرح الخضر لنبي الله موسى حكمة الله من كل ماقام به من تصرفات. إنّه التأويل لبواطن الأمور، لاتفسير ظاهرها!... ويشعر موسى بضآلة علمهن وهو النبي المجتبى، أمام ما أوتيه العبد الصالح حكمةً وعلماً!..

- الثانية: قصة بقرة بني إسرائيل: وكان ذلك عند ماقُتل أحد رجالهم، ولم يعرفوا قاتله. فأمرهم الله أن ي***وا بقرة -(كما ورد في سورة البقرة. الآيات: 77-83)- وأخذ بنو إسرائيل يستقصون من نبيّهم موسى عن ماهيتها، وصفاتها، ولونها.. لجاجاً منهم وعناداً! واهتدوا بعد لأيٍ (أي: جهد ومشقة) إليها، ولم يستطيعوا ابتياعها، إلاّ بعد أن دفعوا مبلغاً من الذهب، كبيراً... يُضاف إلى ذلك جدهم في طلبها، حيرتهم، حتى اهتدوا إليها، بعد شهور طوال، من التفتيش والتنقيب، ولو أنهم آمنوا بالله ورسوله، وسلّموا إليه إمورهم، وتخلّوا عن لجاجهم وعنادهم، لوجدوا في أي بقرة تقع عليها أيديهم، مايفي بالغرض المطلوب!.. ولكنه العناد الحرون، والفطرة على الشقاق والنفاق، وسيّئِ الأخلاق!.

- الثالثة: قصته مع قارون:

وهي الأدهى، والأمرُّ! فقارون، تربطه بنبيّ الله موسى وشائجُ دمٍ، وقربى رحم. وكان قارون أغنى أغنياء بني إسرائيل. فله من كنوز الذهب ماتنوءُ بحمل مفاتيح خزائنه عصبة من الجمال شديدة القوى، فكفر برسالة موسى، وجاهره العداء، وألَّبَ عليه الأعداء، باذلاً في سبيل ذلك الأصفر الرنان!: (كما تقص علينا سورة القصص. الآيات: 76-83) وتمنَّى بنو إسرائيل أن يؤتوا مثل ماأوتي قارون، فكأن الله قد أفاض عليه من الذهب نهراً لاينضب. ونسُوا، وهم دائماً ينسون، أنّ رحمة الله خير من كل ذلك وأبقى!

وانتظر بنو إسرائيل قارون، حتى خرج عليهم، يوماً، في زينته، فانبهرت أبصارهم بها، وانشدهت بصائرهم، {إنّ هذا لشئٌ عُجاب!..}. ونسوا كل شئ، فهم مأخوذون بهذه الفخامة من الزينة، والبهرج، يملآن عليهم الأفئدة، والأبصار، والأسماع!..

وبينما هم كذلك، وإذ بزلزالٍ يضرب دار قارون، وإذ بالأرض وكأنها تثور تحت قدميه، فتسيخ، وتخسف بقارون وبداره الأرض، فهو لاينفك متغلغلاً في باطنها كل يوم قامةً، إلى يوم القيامة، فاعتبروا ياأولي الألباب!.. وما أكثر العبر في بني إسرائيل، وأقلّ الاعتبار!..

وقد حال الله بين قلوبهم، وثابت الايمان واليقين، فهم في ريبهم، أبداً، يترددون!

* * *

وتكلُّ قدما موسى، وقد ضرب (أي: مشى) في عمق الصحراء، بعيداً... ولطالما قطعتا به مفاوز، وأراضي ذات آماد، وأبعاد!، وغرائب الذكريات ماانفك يتلو بعضها بعضاً!.

ويتوسد حفنه من رمل!..

فقد آن لهذا الجسد المنهك أن يستريح، ولهذه الروح الشريفة أن تنطلق في عالمها العلويِّ الرحب، الشريف، اللطيف!..

ويظهر بعد ذلك في بني إسرائيل نبيٌ جديد. إنه يوشع بنُ نون. وكان من مقرَّبي موسى. فيخرجُ بهذا الجيل الجديد منهم، الفتيِّ، المجاهد، من أرض التيهِ، إلى أرض الميعاد في فلسطين، حيث المدنُ، والمزارعُ، والخيراتُ الحسانُ!..
__________________


صوت الحق
عصام على
أول رئيس مجلس إدارة
لهذا المنتدى



رد مع اقتباس
  #22  
قديم 28-06-2008, 11:36 AM
الصورة الرمزية صوت الحق
صوت الحق صوت الحق غير متواجد حالياً

رئيس مجلس الادارة ( سابقا )

 
تاريخ التسجيل: Dec 2006
المشاركات: 8,414
معدل تقييم المستوى: 0
صوت الحق is an unknown quantity at this point
افتراضي النبي إدريس (ع) الخيــاط

النبي إدريس (ع) الخيــاط

إسمه وصفاته:

{واذكر في الكتاب إدريس إنّه كان صدِّيقاً نبيّا} سورة مريم: الآية56.

توفي نبي الله آدم(ع) أبو البشر، فأوصى لولده شيث الذي قام بأعباء النبوة من بعده حتى وافاه الأجل فأوصى لإبنه أنوش بسياسة المملكة.. وولد لأنوش كثير من الأبناء، من بينهم إبنه قينان الذي خلف أباه.

ولد لقينان إبنه مهلائيل الذي صار إليه الملك بعد قينان، ولمهلائيل هذا إبن إسمه يارد حكم بعد أبيه ورزقه الله بإدريس النبي(ع).

في بابل من أرض العراق ولد إدريس بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر(ع)، وفي بابل نشأ وترعرع، في أسرةٍ كريمة الحسب والنسب، فتعلّم علم جدِّ جدِّ أبيه، شيث بن آدم (ع)، وأقام في السَّهلة.

ومن أرض العراق إنطلق إدريس يجوب البلاد مبشّراً برسالة آدم وشيث، فوصل إلى مصر، وبقي فيها، حيث كان اليونانيون أهل علم وفلسفة، فعرفوه، وقدّروا علمه وتعرفوا إلى رسالته فسموه هرمس الهرامسة، أي حكيم الحكماء.

ويذكر بعض المؤرخين، أنّ إدريس هو إلياس الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، ويذكر آخرون أنّ إدريس(ع) مذكورٌ في التوراة العبرية وإسمه أخنوخ، وفي التوراة العربية وإسمه خنوخ.

ويُروي أنّ إدريس(ع) كان رجلاً مديد القامة، حسن الوجه، براق العينين أكحلهما، كثّ اللحية، عريض الصدر والمنكبين، ضخم البطن، متقارب الخطو، يمشي ونظره إلى الأرض، كثير الصمت قليل الكلام بطيئهُ إذا تكلم، كثير التفكير، عبوساً يحتدّ إذا ما غضب، ولكنه كان محتسباً صبوراً: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلُ من الصابرين} سورة الانبياء: الآية 85.

ويُذكر أنّه (ع) كان يسبّح النهار ويصومه، ويبيت حيثما جنّه الليل، وأنّه كان يصعد له من العمل الصالح إلى السماء، مثلما يصعد لأهل الأرض كلهم. وقد سمي إدريس بهذا الإسم، لكثرة مدارسته الكتب السماوية وما فيها من الحكم والأحكام.

علم إدريس وعمله:

يذكر المؤرخون أنّ إدريس(ع) كان أوّل من خطّ بالقلم، وأنّ الله سبحانه علّمه الكثير من العلوم، ذلك أنّ الناس كانوا في زمانه يتحدثون باثنتين وسبعين لغة، علّمه الله إياها، ليعلِّم كلّ أناس بلغتهم.

وكان(ع) عالماً بالنجوم والحساب وعلم الهيئة، وكانت هذه معجزته(ع) وقد بالغ بعضهم، فذكر أنّ جميع العلوم التي كانت قبل طوفان نوح(ع) كانت من تعليم إدريس(ع).

ويحكى أنّ إدريس(ع) كان يعمل خياطاً، ويذكر إنّه أول من خاط الثياب بالإبرة ودرزها، وقد كان الناس قبله يلبسون جلود الحيوانات التي يصطادونها أو ي***ونها.

وقد ولد له(ع) على مايذكر المؤرخون إبنه متوشالح أبو لامك، ولامك هذا هو أبو نبي الله نوح(ع). فيكون إدريس جداً لأبي نوحٍ(ع).

نبوة إدريس(ع):

يحكى أنه كان في زمن إدريس(ع) ملك ظالم جبار، وكانت له زوجة من الأزارقة. وذات يوم خرج ذلك الملك للتنزه في الحقول والبراري، فمرَّ بأرضٍ خضرة نضرة، فأعجبته خضرتها ونضرتها، فسأل عن صاحبها فقيل له: إنها لفلانٍ من الناس.

وأرسل الملك الجبار إلى صاحب الأرض، فجاءهُ، وهو على خير دينه. قال له الملك الجبار: أترك لي أرضك أتمتع بها؛ قال صاحب الأرض: إنّ عيالي أحوج إليها منك. فقال له: بعني إياها. فأبى الرجل ورفض أن يبيع أرضه.

وعاد الملك الجبار إلى قصره غاضباً مقهوراً، وراح يفكر كيف يأخذ الأرض من صاحبها، فأصابه همٌّ وغمٌّ كبيران. فلما رأته زوجته على تلك الحال، سألته عن السبب، فحكى لها قصته مع الرجل صاحب الأرض، وما كان من أمره.

قالت زوجة الملك الجبار: لماذا لات***ه وتأخذ أرضه؟ فإن كنت تكره أن ت***ه بغير سبب، فاترك الأمر إليّ وأنا أتدبره، وأصيِّر أرضه لك..

وبعثت زوجة الملك إلى جماعة من الأزارقة فجاؤوها، فأمرتهم أن يشهدوا على صاحب الأرض أنّه على غير دين الملك، فشهدوا عليه بذلك، ف***ه الملك وأخذ أرضه.

وغضب الله سبحانه لذلك الرجل، فأوحى إلى إدريس، فكان بدء نبوته(ع): أن إذا لقيت عبدي ذلك الملك الجبار، فقل له: أما رضيت أن ***ت عبدي المؤمن، حتى أخذت أرضه وأحوجت عياله من بعده.. أما وعزتي وجلالي لأنتقمنَّ له منك في الآجل، ولأسلبنّك ملكك في الحياة الدنيا، ولأخربنَّ مدينتك، ولأطعمنّ الكلام لحم امرأتك، فقد غرّك حلمي عنك وأناتي.

ذهب إدريس (ع) إلى ذلك الملك، بأمر ربه، وأبلغه رسالته إليه، فما كان من الملك الجبار إلاّ أن طرد إدريس، وهدّده بال***، بعد ما زينت له امرأته ذلك، وهوَّنت عليه أمر إدريس ورسالته قائله له: لايهولنّك رسالة إله إدريس... أنا أرسل إليه من ي***ه فتبطل رسالة إلهه.

وكان لإدريس(ع) أصحاب مؤمنون يأنس بهم، فأخبرهم بخبر رسالة الله إلى الملك الجبار، وبردّه عليها. فأشفقوا على إدريس، وخافوا عليه ال***، وحذروه من الملك وزوجته.

وفعلاً، بعثت امرأة الملك الجبار جماعة من قومها الأزارقة، لي***وا إدريس(ع)، فتفرقوا يبحثون عنه فلم يجدوه، وعرف أصحاب إدريس(ع) بالأمر، فقالوا له: خذ حذرك يا إدريس، واخرج من هذه المدينة، فإن الملك قاتلك إن لم تفعل.

جمع إدريس(ع) في المدينة رهطاً من أصحابه، ولما كان السحر ناجي ربه قائلاً: يارب، إنّ الملك الجبار توعدني بال***، فماذا أفعل؟ فأوحى الله إليه: أن أخرج من مدينته، وخلني وإياه، فوعزتي لأنفذنَّ فيه أمري.

فقال إدريس(ع): إنّ لي إليك ياربّ حاجة؟ فقال الله جل وعلا: سلها، تُعطها يا إدريس. قال إدريس(ع): أسألك ياربّ أن تمسك السماء على أهل هذه المدينة وماحولها، فلا تمطرهم حتى أسألك ذلك. قال الله سبحانه وتعالى: إذن تخرب المدينة ويجوعَ أهلها. فقال إدريس(ع): وإن خربت، وإن جاعوا.. قال تعالى: إني أعطيتك ياإدريس ماسألت..

وأخبر إدريس إصحابه بحبس المطر عن المدينة، وخرج وخرجوا معه وهم عشرون رجلاً، ثم تفرقوا في القرى، وآوى إدريس(ع) إلى كهفٍ في الجبل، وقد وكّل الله به ملكاً يأتيه بطعامه وشرابه عند كل مساء.

وخربت المدينة، وأنهار مُلكُ الملك الجبار، إذ سلّط الله عليه جباراً آخر، سلبه مُلكه و*** زوجته وأطعم الكلاب لحمها.

وظلّت السماء محبوسة القطر عشرين سنة لاتمطر، حتى صار أهل تلك المدينة يجمعون الطعام من القرى المجاورة، ويتمنون أن يرجع إدريس إليهم، ليدعو ربه أن يبعث المطر. ثم إنهم أجمعوا أمرهم على أن يتوبوا إلى الله، ويسألوه أن يُرسل السماء عليهم مدرارا...

وهكذا كان، فقاموا على الرماد، ولبسوا المسوح، وحثوا التراب على رؤوسهم... فتاب الله عليهم، وهو التواب الرحيم.

وأوحى الله إلى إدريس(ع)، أن قد تاب قومك، وقبلت أنا توبتهم، وكنت أنت قد سألتني أن أمنع المطر عنهم، وألا أرسله إلاّ إذا سألتني ذلك، فسلني ياإدريس... فقال إدريس(ع): أللهم إني لاأسألك. فأوحى الله عزوجل إلى الملك الذي كان يأتيه بطعامه وشرابه، أن يمتنع عن ذلك. فلما أمسى إدريس لم يؤت بطعام ولاشراب، فجاع وحزن.. وكذلك في اليوم التالي، فلما اشتد جوعه ناجى ربّه قائلاً: يارب، حبست عني رزقي من قبل أن تقبض روحي... فأوحى الله إليه: ياإدريس، جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيام ولياليها، ولم تجزع ولم تنكر جوع أهل مدينتك وجهدهم عشرين عاماً، وقد سألتك لجهدهم ورحمتي إياهم، أن تسألني أن أمر السماء عليهم، فلم تسألني وبخلت عليهم بمسألتك إياي، فأذقتك الجوع فقلَّ اصطبارك، وظهر جزعك، فاهبط من موضعك، واطلب لنفسك المعاش، فإني قد وكلتك في طلبه إلى حيلك.

وهبط إدريس(ع) من كهفه، وراح يطلب أكلة من جوع، فرآى الدخان يتصاعد من احد منازل المدينة، فقصده فإذا فيه امرأة عجوز تقلي قرصين على مقلاة. فقال لها: أطعميني أيتها العجوز، فإنني جائع مجهود. قالت العجوز: ياعبد الله، ماتركت لنا دعوة إدريس فضلاً نطعمه أحدا... وحلفت له أنها لاتملك شيئاً غير القرصين، ثم قالت له: إذهب واطلب المعاش من غير أهل هذه المدينة.

وكان إدريس(ع) لايقوى على المشي من شدة الجوع، فقال لها: ياأمة الله.. أطعميني ماأُمسك به روحي، وتحملني به رجلاي حتى أطلب... قالت: إنما هما قرصان: واحد لي والآخر لابني، فإن أطعمتك قرصي مِتُّ من الجوع، وإن أعطيتك قوت ابني مات هو الآخر. فقال لها: إنّ ابنك صغير يكفيه نصف قرص فيحيا به، وأنا يكفيني النصف الآخر فأحيا به.. فأكلت العجوز قرصها، وقسمت الآخر نصفين، فأعطت إدريس نصفاً وابنها النصف الآخر.

وما أن رأى ابن العجوز إدريس يأكل من قرصه، حتى اضطرب ومات.. فقامت أمه: ياعبد الله، ***ت ولدي جزعاً على قوته... قال إدريس(ع): فأنا أحييه لك بإذن الله، فلاتجزعي.

وأخذ إدريس بعضدي الصبي ثم قال: أيتها الروح الخارجة من جسم هذا الغلام، بإذن الله تعالى، إرجعي إلى بدنه بإذن الله.. أنا إدريس النبي. فرجعت الروح إلى بدن الصبي بإذن الله..

سمعت المرأة كلام إدريس، ورأت ابنها وقد عادت إليه الحياة بعد موته، فقالت: أشهد إنك لأنت إدريس... وخرجت من بيتها تصرخ بأعلى صوتها: أبشروا بالفرج، فقد عاد إدريس إلى مدينتكم.

ومضى إدريس(ع) حتى وصل إلى موضع مدينة الملك الجبار الأول، فتهافت الناس عليه، من أطراف المدينة، تهافت الفراش على النور، وراحوا يرجونه أن يرحمهم، ويدعو الله لهم، حتى يأتيه الملك الجبار الثاني، الذي سلب ملك الجبار الأوّل، ماشياً حافياً مع أهل مدينته، ليتأكد أنهم تابوا إلى الله، ولن يؤذوه من جديد.

وعرف الجبار بأمر إدريس(ع)، فبعث أربعين رجلاً ليأتوه به، فلما وصلوا إليه، أخبروه أنهم بمعوقون ليأخذوه إلى الملك، فدعا إدريس عليهم، فماتوا جميعهم.

وأرسل الملك الجبار بعدهم خمسمئة رجل، عسى أن يأتوه بإدريس(ع). فلما وصلوا إليه، وعلم أنهم جاؤوا ليأخذوه إلى الملك، قال لهم: أما ترون مصارع أصحابكم، فإياكم أن تفعلوا ما أمركم به الملك الجبار، فيكون مصيركم كمصيرهم.

فقالوا: ياإدريس، أما عندك من رحمة... أهلكتنا بالجوع والعطش عشرين عاماً، وتريد أن تدعو علينا بالموت؟ أفلا تدعو الله أن يمطر السماء؟ قال إدريس(ع): لن أفعل حتى يأتيني ملككم، وأهل مدينتكم مشاة حفاة.

ورجع الرجال إلى الملك الجبار، وراحوا يرجونه أن يمشي معهم حافياً إلى إدريس(ع)، وإلا هلكوا جميعاً، فسار الملك الجبار ومن خلفه أهل المدينة إلى إدريس، حتى ركعوا بين يديه، فقال إدريس(ع): أمّا الآن، فسأدعو ربي أن يرسل السماء عليكم مدرارا.

دعا إدريس(ع) ربه أن تمطر السماء عليهم وعلى نواحيهم، فما هي إلا لحظة حتى ظللتهم غمامة من السماء، فأبرقت وأرعدت، ثم هطلت عليهم حتى ظنوا أنه الغرق.

وأقام إدريس(ع) يدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد، كما في شريعة آدم وشيث(عليهما السلام) فكان الناسُ يجيبونه واحداً تلو الآخر، حتى صاروا ألف رجل.

ولم تكن لإدريس(ع) طريقة خاصة في العبادة، فاختار سبعة من أصحابه وقال لهم: تعالوا يدعو بعضنا ويؤمن البعض الآخر. ورفعوا أيديهم إلى السماء بالدعاء، فنبّأ الله سبحانه إدريس، ودلّه على طريقة عبادته، وكانت مكة هي القبلة التي يتوجه إليها في صلاته وعبادته.

وأخذ إدريس(ع) يعلِّم أصحابه وأتباعه كيف يعبدون ربهم سبحانه، فكانوا يطيعونه، ويطبقون تعاليمه، حتى أ، الملائكة كانوا في زمانه (ع) يصافحون الناس، ويسلمون عليهم، ويكلمونهم ويجلسون إليهم، لصلاح ذلك الزمان وأهله.

صحف إدريس(ع):

علّم إدريس(ع) قومه كيف يبنون المدن، فبنوا مئة وثماني وثمانين مدينة. ثم جعل لكل مدينة علماء ومرشدين يعلّمون الناس، ويهدونهم إلى طاعة الله وعبادته، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ثم إنه(ع) وقد أتباعه بأنبياء يأتون من بعده، ووصفهم لهم، وعرّفهم أن النبي يكون معصوماً من الخطأ، خالياً من العيوب الأخلاقية، والأفعال السيئة، كامل الفضائل، لايعجز عن الإجابة على أي سؤال يتعلق بأمر الدنيا والآخرة، وأنّه مستجاب الدعوة في كل مايطلبه من الله.

وعن النبي محمد(ص): أن الله أنزل على إدريس ثلاثين صحيفة. وقد أُثرت عنه(ع) العلوم والحكم والنصائح والأدعية الكثيرة، ويذكر المؤرخون أنه كانت له(ع) مواعظ وآداب تجري مجرى الأمثال. وقد مرّ معنا أن كلّ العلوم التي عرفت قبل طوفان نوحٍ(ع) كانت من تعليم إدريس(ع).

وقد نسبت إلى إدريس أمور وأحداث وأعمال، أقلُّ مايُقال فيها: إنها خرافية، ولايمكن أن تصدر عن نبي من أنبياء الله، ولا يقرّها عقل بشري سويّ.

ومّما جاء في الصحف التي أنزلها الله تعالى على إدريس(ع) قوله: "كأنك بالموت وقد نزل بك، فاشتدّ أنينك، وعرق جبينك، وتقلّصت شفتاك، وانكسر لسانك، ويبس ريقك، وعلا سواد عينيك بياض، وأزبد فوك، واهتزّ جميع بدنك، وعالجت غصص الموت وسكرته ومرارته وزعقته، ونوديت فلم تسمع، ثم خرجت نفسك وصرت جيفة بين أهلك؛ إنّ فيك لعبرة لغيرك، فاعتبر في معاني الموت. إنّ الذي نزل بغيرك نازل بك لامحالة"...

ومن مواعظه وأدبه (ع) قوله: لن يستطيع أحد أن يشكر الله على نعمه، بمثل الإنعام على خلقه.. وقوله(ع): من أراد بلوغ العلم وصالح العمل، فليترك من يده أداة الجهل وسيّئ العمل... فحبّ الدنيا وحبّ الآخرة لايجتمعان في قلبٍ أبداً.

ومن الأدعية المأثورة عن النبي إدريس(ع)، دعاء السحر المشهور، الذي يقرأ في أسحار شهر الله تعالى، شهر الصيام المبارك، وهو يحتوي أربعين إسماً من أسماء الله الحسنى، وأوله: سبحانك لا إله إلاّ أنت يارب كل شئٍ ووارثه.

كما أثر عنه الدعاء المعروف بدعاء التوسل، وفيه توسل إلى الخالق جلّ ذكره، بذكر أربعين إسماً من أسمائه جلّ وعلا، وابتهالٌ إليه، وطلب الأمان من بلاء الدنيا وعقوبات الآخرة.

{ورفعناه مكاناً عليّاً} سورة مريم: الآية57

يروى أنّ ملكاً من الملائكة غضب الله عليه وطرده من السماء الى الأرض، فجاء إلى إدريس(ع) وطلب منه أن يشفع له عند ربه، فصلّى إدريس(ع) ثلاث ليالٍ، لايفتر، وصام أيامها لايفطر، ثم طلب إلى الله في السحر أن يرضى عن ذلك الملك، فرضي الله عنه وسمح له بالعودة إلى السماء.

قال الملك: يانبيّ الله، إنني أريد أن أشكرك فاطلب إليَّ حاجة.. فقال إدريس(ع): أريد أن تريني ملك الموت، لعلني لا أستوحش، بعد ذلك من ذكره. فإنني ما ذكرته إلا فارقني الهناء.

بسط الملك جناحيه وقال لإدريس(ع): إركب، فركب إدريس وصعد به الملك إلى سماء الدنيا، فلم يجدا ملك الموت، فظلَّ يصعد به حتى وجدا ملك الموت بين السماءين: الرابعة والخامسة.

كان ملك الموت متجهما عابساً، فساله الملك الذي يحمل إدريس(ع): مالي أراك مقطباً؟ فردّ ملك الموت قائلاً: إنني كنت تحت ظِل العرش، فأمرت أن أقبض روح نبي الله إدريس، بين السماءين الرابعة والخامسة، فتعجبت لذلك.

وسمع إدريس(ع) كلام ملك الموت، فانتقض من جناح الملك، ولكن ملك الموت قبض روحه حيث هو، وكان عمره(ع) على مايذكر الرواة والمؤرخون مايقارب الثلاثمئة سنة.

ويُروي أن ملك الموت طلب إلى الله سبحانه أن يأذن له بزيارة إدريس(ع) حتى يسلّم عليه ويصحبه، فأذن الله له، فنزل ملك الموت إلى إدريس. وإدريس لايعرفه، فقال له: إني أريد أن أصحبك؛ فوافق إدريس(ع)، فكانا يسيحان النهار ويصومانه، فإذا حلّ الظلام جاء إدريس طعامه فأفطر ودعا ملك الموت للإفطار فيقول: لاحاجة لي فيه، ثم يقومان فيصليان.

واستمرا على هذه الحال أياماً، إلى أن مرّا بكرم عنب قد أينع ثمره، وقطيع غنم قد سمنت خرافه، فقال ملك الموت إدريس(ع): خذ من هذا القطيع حملاً، ومن هذا العنب وافطر عليه. فقال إدريس(ع) سبحان الله! أدعوك إلى مالي فتأبى، ثم تدعوني إلى مالِ غيرك وتريدني أن أقبل به؟.

ثم قال إدريس(ع): ياهذا قد صحبتني وأنا لاأعرفك، فمن أنت؟. قال: أنا ملك الموت. فقال إدريس(ع): لي إليك حاجة. قال ملك الموت: وما حاجتك؟. قال إدريس(ع): تصعد بي إلى السماء.

واستأذن ملك الموت ربّه في ذلك، فأذن له، فحمل إدريس على جناحه وصعد به إلى السماء. فقال إدريس(ع): إنّ لي إليك حاجة أخرى. قال ملك الموت: وماهي؟ قال: بلغني أنّ الموت شديدٌ على الإنسان، فأحبّ أن أجرّبه فأعرف كيف هو.

وعاد ملك الموت إلى استئذان الله في ذلك، فأذن له، فأخذ روح إدريس وأماته ساعةً ثم ردَّ روحه إليه وقال له: كيف رأيت الموت؟ قال إدريس(ع): لهو أشدُّ مما كنت أعتقد... ولكن لي إليك حاجة ثالثة: أريدك أن تريني النار والجنة.

إستأذن ملك الموت ربه للمرة الثالثة، فأذن له، وأمر زبانية جهنم ففتحوها، فلما رآها إدريس أغمي عليه. ولما أفاق حمله ملك الموت إلى الجنة، وقد فتحها خزنتها لأمر الله لهم، فدخل إدريس إليها، ونظر إلى جمالها وبهائها ثم قال: ياملك الموت: إنَّ الله تعالى يقول: {كل نفس ذائقة الموت}سورة آل عمران/آية185 وقد ذقته، ويقول في جهنم: {وإن منكم إلاّ واردها}سورة مريم/آية 71، وقد وردتها، ويقول في الجنة: {وما هم منها بمخرجين}سورة الحجر/آية 48، فما كنت لأخرج منها.

فقال الله لملك الموت: إنّ إدريس إنما حاجّك فحجّك بوحي، وأنا الذي هيأت له تعجيل دخول الجنة، فإنه كان يتعب نفسه وجسده في طاعتي، فكان حقاً عليّ أن أعوِّضه، من تعبه، الراحة والطمأنينة، وأن أجعل له، بتواضعه لي وصالح عمله، مكاناً علياً في جنتي.

{أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم}سورة مريم/آية 58.

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): إنّ الله رفع إدريس مكاناً علياً، وأطعمه من تحف الجنة بعد وفاته؛ ويقول الله عزّ من قائل: {وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين} سورة الأنبياء/آية 86.. فسلام على
__________________


صوت الحق
عصام على
أول رئيس مجلس إدارة
لهذا المنتدى



رد مع اقتباس
  #23  
قديم 28-06-2008, 11:38 AM
الصورة الرمزية صوت الحق
صوت الحق صوت الحق غير متواجد حالياً

رئيس مجلس الادارة ( سابقا )

 
تاريخ التسجيل: Dec 2006
المشاركات: 8,414
معدل تقييم المستوى: 0
صوت الحق is an unknown quantity at this point
افتراضي صموئيل النبي (ع)

<H2 align=center>صموئيل النبي (ع)</H2>وأتى بنو إسرائيل نبياً لهم، وعبداً من عباد الله الصالحين، اسمه "صموئيل" وشكوا إليه، متبرِّمين، مايلاقون من مرارة الهوان، وتمزق الشمل والخذلان، وظهور أعدائهم عليهم ( أي: تفوُّقهم).
وهز "صموئيل" رأسه، فهو على وثيق الايمان بأنّ لعصاة الله سوء الدار، وبئس القرار.. وقومُه عصاةٌ فاسقون، مردُوا على الكفر والنِّفاق، فالله مجازيهم بما كسبت أيديهم وبما كانوا أنفُسهم يظلمون. وقال لهم بصوتٍ عميقٍ، وهو يتطلّع إلى آفاق السماء:
- دعوني استخر لكم الله في ماأنتم فاعلون!
وانصرفَ، كلٌ إلى شأنه!..
وأوحى الله إلى نبيه "صموئيل": إني قد اخترتُ "طالوت" ملكاً على بني إسرائيل، ولعلّ "صموئيل" لم يكن قد سمع بهذا الاسم من قبل.. فمن "طالوت" هذا؟.. وكيف الوصول إليه؟..
فأوحى إليه الله عزّوجلّ: لاعليكَ يا "صموئيل"، فطالوتُ آتٍ إليك عمّا قريب. إنه عبدٌ من عبادي الصالحين، قد آتيتهُ بسطةً من الجسم والعلم.. وبه يتمُّ صلاحُ أمر بني إسرائيل.
<H3 align=center>"طالوت" و"صموئيل"</H3>"طالوت" في قرية من قرى الوادي، يُشرفُ على أغنامٍ وأُتُنٍ (جمع أتان: أنثى الحمار) يرعاها، فتنمو عدداً - ويتعهّد الأرض: رياً، وفلاحةً، وزراعةً، فيجني منها وافرَ المحاصيل.
وبينما كان يرعى قطيعاً، أخذتهُ سنةٌ من الكرى، فغفا ساعةً أو بعض ساعةٍ، ولما استفاق، طلبَ أُتُنهُ فلم يجدها، فسأل غلامه عنها. وإذا به، مثله، لايعلمُ عنها شيئاً، فنهضا، وتوجّها إلى أرض وعرةٍ ذات عشب وكلأ وشجر، فلعل الأُتن قصدتها.. وتوغَّلا عميقاً في الأرض الوعرة، حتى تورّمت منهما الأقدامُ، دون أن يعثُرا لها على أثر. وأرادا العودة خائبين، بعد أ، لقيا مشقةً وعسراً، على أن يعاودا البحث عنها غداً في المقلب الآخر للوادي. فلعلّها قصدت وعور الشِّعاب!..
ويتوقَّفُ الغلامُ لحظةً، وهو يفرُكُ جبهته، ويتوجَّهُ بالكلام مخاطباً سيِّده "طالوت":
- "سيدي، لعلَّنا لن نجوس خلال هذه الأرض مرةً أخرى. فنحن الآن في أرض "صوف" موطن النبي "صموئيل" الذي يهبِطُ عليه الوحيُ، وتتنزَّلُ الأملاكُ. فهيَّا بنا إلى هذا النبي الكريم، نستوضحه أمر ما افتقدنا من أُتُن، فلعلّ السماء تُنبئُنا بواسطته عن ضالّتنا.. وإلى ذلك كلّه، فلعلّنا نتبرّك بدعائه، ونُحرز رضاهُ.
وارتاح "طالوتُ" إلى هذا الرأي. فلا ضيرَ منه على أي حال!..
ويتوجّه "طالوت" يصحبه غلامُه إلى حيثُ يقيم النبي "صموئيل". ويلتقيان، في طريقهما إليه، فتياتٍ، خرجنَ يستقين الماء، فسألاهُنَّ كيف السبيل إلى لقاء "صموئيل"، فأخبرنهما بأنّ الناس يلاقونه خلف ذيَّاك الجبل، ولعلّه موشكٌ على المجئ.
وفيما هُما كذلك، وإذ بصموئيل بطلعُ عليهما، يشعُّ محيّاهُ بنور النبوّة، وتحفُّ به مهابةُ رسولٍ كريم!..
ونظر كلُّ منهما إلى الآخر.. فأوقع الله في قلب "صموئيل" أنه أمام "طالوت" الموعود.
ولم يتردّدْ "طالوت" في الإبانة عن نفسه، والهدف من مجيئه، فقال:
- "لقد أتيتك، يانبيّ الله، مستوضحاً، مسترشداً، لقد ضاعت لنا أُتُنٌ، ومازلتُ أطلبُها، مع غلامي، منذُ ثلاثة أيام، دون جدوى. وقد أتيناك مسترشدين: فهل إلى العثور عليها، من سبيلٍ؟..
فأجابه صموئيل باطمئنان الواثق:
"أمّا الأُتُن التي أنت في طلبها، فهي في طريقها إلى أبيك، فلا تنشغل بها نفساً، ولاتنزعج بها خاطراً..
وإني أدعوك إلى أمرٍ، ندبَكَ الله إليه (أي: كلَّفك به، ودعاك..)، وهو أمرٌ، وايمَ الله (أي: أقسم بالله) جدُّ جسيمٌ، وخطيرٌ!..
ويُحملِق "طالوت" في وجه صموئيل دهشاً، فإلى مَ يدعوه نبي الله "صموئيل"؟..
- ماالأمر يانبيَّ الله؟
- لقد اختارك الله على بني إسرائيل، ملكاً!..
- أنّى يكون لي ذلك، ومن أكون حتى أنهض بهذا الحمل العظيم، والأمر الجلل الخطير؟ إنني من أبناء "بنيامين" أخمل الأسباط ذكراً، وأوضعهم جاهاً، وأدناهم قدراً، وأقلّهم مالاً، وأبعدهم عن مواطن الحكم والسلطان!..
- لاعليك!.. فليس لأغنياء الناس، ووجهائهم، من النبوة، إلاّ الحظُّ الأقلُ، والنصيبُ الأدنى. وإنّ هذه مشيئةُ الله، أنقلُها إليك،.. فاشكُر الله الذي اصطفاك عليهم جميعاً، واجتباك (أي: اختارك)، واحمد نعماءه على تكليفك بما لاينهضُ به إلاّ رجالُ الله الأخيار، فهيَّا، واصدَع بما أُمِرتَ به!..
وأخذ "صموئيل" بيد"طالوت"، وسارا، وتبعهما الغلام الذي، لدهشته، لم ينبس ببنت شفةٍ.
ووصل الثلاثةُ إلى النادي، حيث يجتمع عليّةُ القوم من بني إسرائيل، وأشراف ساداتهم، فوقف عليهم "صموئيل"، وهو ممسكٌ بيد "طالوت"، وأعلنَ فيهم:
- إن الله قد بعثَ "طالوتَ" ملكاً عليكم، فاسمعوا له، وأطيعوا، وأعّدوا العُدّة لجهاد عدوكم، تفلحوا، وتظفروا إن شاء الله!..
فلووا بأعناقهم، منذهلين!..
فمن يكون "طالوتُ" هذا النكرةُ، بينهم، والسيّئ الحال، يؤمّرهُ الله عليهم، وفيهم كلُّ عظيم الشأن، خطير المُقام؟..
فلا ذكر له، وهو الخاملُ بين بني إسرائيل، ولامال له، وبينهم من بيده كنزٌ من الذهب، لايفنى!..
ولاهو من أبناء "لاوي"، فرع دوحةِ النبوّة السامقة في بني إسرائيل...
ولاهو من غصن "يهودا"، معدن الملك والرياسة والسلطان!..
وأدرك "صموئيل" مايدور في خلدِهم، وما تُحدِّثهم به نفوسُهم، فقال لهم:
- على رسلكم، ياقوم!.. فالسيادةُ لاتحتاجُ إلى نسبٍ، وما عساه يجدي النّسبُ إذا كان صاحبُه أخرق أحمق؟. وماذا يفعل المالُ - على كثرته- مع المتخلّف البليد، والجبان الرعديد؟.. وهذا طالوتُ، اختارهُ الله عليكم، وفضّله على من عداه من بني إسرائيل،. {إنّ الله اصطفاه عليكُم وزادهُ بسطةً في العلم والجسم}. وها هوذا، كماترون، أمامكم، سويُّ الخلق، جميلُه.. صلبُ الجسم، متينُه، يبعثُ على المهابةِ والجلال!..
ألا ترونَ، لو كان مهزولاً، ضعيفاً،.. لاقتحمتهُ إذن، عيونُكم، وازدرتهُ انفسكم..؟ وهو، إلى ذلك، محاربٌ عنيدٌ، وعلى الأعداء جسورٌ، شديدٌ، بصيرٌ بعواقب الأمور، وخبيرٌ بأساليب الحروب، وفوق ذلك كله، فليس الأمرُ مني، ولاهو بيدي.. ولكنّهُ أمرُ الله تعالى، ومشيئَتُه، عزوجلَّ، فهو الذي قد ملّكه عليكم،.. فأطيعوا الله، في أمرِه، وسلِّموا إلى مشيئته نفوسكم راضين،.. فإنني، والله، لكم من الناصحين!..
وكأنّه استمال قلوبهم،.. فأظهروا الإذعان!..
ولكنّهم، مالبثوا أن عادوا إليه يطالبونه بآية يعرفون بها صدق قوله، فيكونون بذلك من المصدّقين، المؤمنين،..
فقال لهم: إنني أعرف خبيئة نفوسكم التي جُبلت على اللّجاج، والعناد، والمكابرة، ونبذ الحق،.. واتّباع سبيل الهوى، وطريق الغيِّ، وسوء الظنِّ بالله، وتكذيب رسله،
{إنّ آية مُلكه أن يأتيكم التّابوتُ فيه سكينةٌ من ربّكم وبقيّةٌ ممّا ترك آل موسى وآل هرون تحمِلُهُ الملائكةُ أنّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين}.
فخرجوا إلى ظاهر المدينة، كما واعدهم "صموئيلُ"، فشاهدوا التابوتَ يتهادى إليهم في الفضاءِ، محمولاً على أكفِ الملائكة، فآمنوا، وبايعوا "طالوت"، وأقرُّوا له بالملك!..
وأظهر "طالوتُ" في ملكه، حزماً وعزماً. فأسرع إلى تجهيز جيشٍ لاتشغلُ أفرادهُ عن الحرب شواغلُ الدنيا، والتهالُكُ على حُطامها، وسار بهم لقتال الأعداء. وبينما هم، في طريقهم إلى الحرب، مرّوا على نهرٍ، وقد تلظّت أكبادُهُم عطشاً، فقال لهم طالوتُ:
- {إنّ الله مُبتليكُم بنهرٍ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمهُ فإنّهُ منّي إلا من اغترف غُرفةً بيده}
وشدّد عليهم بألاّ ينهلنَّ منه أحدٌ إلاّ بمقدار رشفات يبرّد بها كبدهُ الحرّى.
ولكنّ معظمهم لم يلتفتوا إلى طلب "طالوت" فأسلموا أنفسهم إلى هواها، فعبُّوا من ماء النهر الجاري حتى الارتواء، بينما ترشّف القليلُ منهم من الماء رشفاتٍ نزيرةٍ (أي:قليلة) برّد بها غليله.
ولمّا أشرفوا على أعدائهم، وجدوا فيهم قوّة عدةٍ وكثرة عدد، وقائدهم "جالوت" يجول بينهم ويصولُ، وقد غطّاهُ الحديد من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، على فرسٍ أدهم كأنّه قطعةٌ من ليلٍ حالكٍ، فانقسمَ أصحابُ "طالوت" عندما شاهدوا ذلك إلى فرقتين:
واحدةٍ: أصابها الوهنُ، ودبَّ فيها الضعفُ، فقالوا: {لاطاقة لنا اليومَ بجالوتَ وجُنودِهِ}.
وثانيةٍ: ثبتت على الإيمان، واستحبَّت الجهاد على النُّكول عن الحرب(أي: الانصراف عنها)، موقنةً بأن النصرَ من عند الله، فحثُّوا إخوانهم على الصدق في القتال، والله يفعلُ - بعد ذلك- مايشاءُ، هاتفين بهم {كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله؛ والله مع الصَّابرين!..}.
وانطلقت شرارةُ المعركة بالمبارزة!.. فبرز "جالوتُ" بين الصَّفين، فما بارزَهُ فارسٌ، إلاّ وجندلَه صريعاً، حتى تحامتهُ الفرسانُ، وأجحمت عن مبارزته الأقرانُ. وهو على جواده المحمحم صائلٌ جائلُ، وسيفُه يرعُفُ دماً، والقومُ واجمون، مطرقون.
__________________


صوت الحق
عصام على
أول رئيس مجلس إدارة
لهذا المنتدى



رد مع اقتباس
  #24  
قديم 28-06-2008, 11:42 AM
الصورة الرمزية صوت الحق
صوت الحق صوت الحق غير متواجد حالياً

رئيس مجلس الادارة ( سابقا )

 
تاريخ التسجيل: Dec 2006
المشاركات: 8,414
معدل تقييم المستوى: 0
صوت الحق is an unknown quantity at this point
افتراضي الحمد لله تمت الموسوعة بفضل من الله

بفضل من الله تمت الموسوعة والحمد لله
تم النقل من شبكة القراءن الكريم لكى تعم الفائدة للجميع ويصبح لدينا موسوعة لمن يحتاج اى معلومة منها
ربنا تقبل هذا العمل خالص لوجهك الكريم
وبارك فى صاحب المجهود الأصلى الذى نفعنا بيه أكبر نفع
شبكة القراءن الكريم
__________________


صوت الحق
عصام على
أول رئيس مجلس إدارة
لهذا المنتدى



رد مع اقتباس
  #25  
قديم 01-07-2008, 04:29 PM
الصورة الرمزية الاسطورة
الاسطورة الاسطورة غير متواجد حالياً
مشرف إدارى سايق
 
تاريخ التسجيل: Dec 2006
المشاركات: 4,627
معدل تقييم المستوى: 0
الاسطورة is an unknown quantity at this point
افتراضي

والله مش عارف نعجز عن الشكر يا استاذ عصام
بارك الله فيك وجعل هذا العمل الاكثر من رائع فى ميزان حسناتك
رد مع اقتباس
  #26  
قديم 01-07-2008, 08:09 PM
الصورة الرمزية مروج البحر
مروج البحر مروج البحر غير متواجد حالياً
عضو قدوة
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
المشاركات: 1,894
معدل تقييم المستوى: 0
مروج البحر is an unknown quantity at this point
افتراضي

جزاكم الله كل الخير وجعله الله في ميزان حسناتك يارب

بجد مجهود رائع سلمت يداك
رد مع اقتباس
  #27  
قديم 16-07-2008, 08:59 AM
الصورة الرمزية صوت الحق
صوت الحق صوت الحق غير متواجد حالياً

رئيس مجلس الادارة ( سابقا )

 
تاريخ التسجيل: Dec 2006
المشاركات: 8,414
معدل تقييم المستوى: 0
صوت الحق is an unknown quantity at this point
افتراضي

ربنا يتقبل من الجميع يارب
وينفعنا بما علمنا
ألف شكر على المرور العطر
__________________


صوت الحق
عصام على
أول رئيس مجلس إدارة
لهذا المنتدى




آخر تعديل بواسطة صوت الحق ، 19-07-2008 الساعة 11:24 AM
رد مع اقتباس
  #28  
قديم 19-07-2008, 10:40 AM
الصورة الرمزية خالد عبده
خالد عبده خالد عبده غير متواجد حالياً
مدرس رياضيات لغات
 
تاريخ التسجيل: May 2008
المشاركات: 303
معدل تقييم المستوى: 17
خالد عبده is on a distinguished road
افتراضي

جزاكم الله خيرا على هذا العمل الرائع و المجهود الكبير وادعو الله ان يكون فى ميزان حسناتك يوم القيامه
رد مع اقتباس
  #30  
قديم 11-06-2009, 12:56 PM
الصورة الرمزية محمد على ابوزياد
محمد على ابوزياد محمد على ابوزياد غير متواجد حالياً
مشرف عام تعليمى
 
تاريخ التسجيل: May 2007
المشاركات: 2,667
معدل تقييم المستوى: 0
محمد على ابوزياد is an unknown quantity at this point
افتراضي

بارك الله فيك اخى الكريم
صوت الحق
وجعلة الله فى ميزان حسناتك
__________________
محمد على (أبو زياد) ..... معلم رياضيات ثانوى
محافظة قنــــــــــــــــا ..... ادارة قنــــــا التعليمية

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 10:23 AM.