اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > قصر الثقافة > الأدب العربي

الأدب العربي قسم يختص بنشر ما يكتبه كبار الشعراء والأدباء قديمًا وحديثًا

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-06-2017, 01:41 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
Impp الشيب والموت في الشعر


يَحُلُّ المشيبُ، فَيَدِبُّ الوهنُ، ويَسْري العجزُ - غالبًا - في الجسم، عندئذ يكون التفكير في الموت، وكثرة التفكير فيه تؤدِّي إلى الخوف منه، وترقُّبِه وانتظارِه، "فالإنسانُ يموت منه كلَّ يوم شيءٌ، وشجرتُه لا تزال تتساقط ورقاتها وزهراتها واحدة في إثْرِ أخرى حتى تصوَّح وتَعْطَب. "[1].
*
قال قيس بن عاصم: "الشيب حطام المنيَّة." وقال المعتمر بن سليمان: "الشيب موتُ الشعر، وموت الشعر علة لموت البشَر"[2].
*
و"عندما يَضعُف جسمُ الفرد في منتصف العمر[3]، وتبدأ علامات الشيخوخة، تسيطر على الإنسان ألوانٌ جديدة من الخوف، لم يألفها من قبل؛ فيخاف من الشيخوخة نفسِها وما تحمله من مرارة، وخوفُه من الشيخوخة هو خوفُه من اقتراب النهاية، ويؤدي به هذا الخوف إلى الهروب من كل حديث، أو حوار، أو تفكير، يدُور حول هذا الموضوع، ويذكِّر به.
*
يخاف الفردُ من المرض لخوفه من الموت؛ فلم تعد صحته من القوة بحيث تقاوم الأمراضَ المختلفة، التي قد تصيبه في شيخوخته، وهو في مرضه كثيرُ الهواجس والأوهام، جَهْمُ الوجه، عابس المحيَّا، يستغلق عليه الأمر، ويقوده إلى الظنون، وينتابُه خوف يهتك حجُب القلوب.
*
ينظر الإنسان حوله، فيرى رفقاءَ صِباهُ يذهبون إلى غير ما رجعة، فيدرك أن جِيلَه قد بدأ ينقضي بموت أفراده؛ ولذا فهو يخاف الوحدة الرهيبة، أو العزلة القاسية، التي لم يتعوَّدها من قبل، وتزداد مرارة هذه الوحدة كلما انفضَّ مِن حوله أولادُه وأهله، وذلك عندما تشغلهم وتلهيهم معارك الكفاح الشديد في سبيل تحقيق مطالب الحياة، وقد يخامره شعور غريب بأنه إنسان غير مرغوب فيه، لا في الدار، ولا في العمل."[4]

فهذا "أبو الأصبغ"[5]، يرى أن المشيبَ نذيرُ موتِه، بعد أن ارتآه سالبَه الشباب، ومبليًّا ثوبَه القشيب، وآتيا على عيشه الرطيب؛ لذلك كان هاجرَه، ومسيئًا إليه، وطاردَه، وهذا حال الكثير - إن لم يكن جميعهم.
".. جرى ذكْر المشيب، وذمُّه في مجلس للأمير عبد الله، وكان يكره الشيب، فسأل عن أحسن ما يُروى في هذا الباب؟ فقال له أبو الأصبغ: أحسن ما قيل فيه عندي... قول الأول؛ أي: قول شاعر قديم:[6] [ من الطويل]
أقولُ لضِيفِ الشَّيَبِ، إِذْ حَلَّ مَفْرِقي
نصيبُكَ مِنِّي جَفْوَةٌ وقُطُوبُ
حرامٌ علينا أن تنالَك عِنَدَنا
كرامةُ بِرِّ أو يمَسَّكَ طِيبُ
*
فاستحسَن الأميرُ عبدُ الله البيتين، وأمَر أبا الأصبغ أن يزيد فيهما، فزاد عليهما أبو الأصبغ في المجلس نفسِه أبياتًا هي:
فيا شَرَّ ضَيْفٍ حَلَّ بي وحُلُولُه
يُخَبِّرُنِي أَنَّ المماتَ قَريبُ
وأنَّ جديدي كُلَّ يَوْمٍ إِلى بِلًى
وأنِّيَ مِن ثوبِ الشَّباب سَليبُ
فما طِيبُ عَيْشِ المرْءِ إلا شَبَابُه
وليس إذا ما بان عنه يَطيبُ
سأَقْرِيكَ، يا ضيفَ المشيبِ قِرَى القِلَى
فما لك عندي في سِواهُ نَصيبُ
وأَبْكِي عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِن شَبيبَتِي
بُكاءَ مُحبٍّ قَدْ جَفَاهُ حَبِيبُ
مَضَى - مُسْلِمًا - لَهْفِي عليه! مَدَى المدَى
فليس إلى يوم التَّنَادِ يَؤوب
*
فهذه الأبيات وقصَّتُها، توضِّح مدى بُغض البشَر للمشيب؛ لأمور منها: سلبُه ثوبَ الحبيب - الشباب -، وإنذارُه بِقُرْب الممات. وفوق هذا، فهي ناطقة بمقدرة الشاعر على قرْض الشِّعر" رَوِيَّةً وبديهةً، وأنه كان حَسَنَ التحديث في الجدِّ والهزل، وشِعرُه كثيرُ المعاني، سهل، عذب، وأبرز فنونه الأدبُ والوصف"[7].
*
ويَرى ابن عبد ربه - كذلك - في المشيب شاهدًا على المنيَّة؛ فنجومُه ساطعة لا تغيب، تزداد استحكامًا بمرور الأيام، وتعمل على الفتْك بالأنام؛ فيقول:[8] [ من الوافر]
نُجومٌ في المَفَارقِ مَا تَغُورُ
ولا يَجْري بِها فَلَكٌ يَدُورُ
كأنَّ سوادَ لِمَّتِه ظلامٌ
أَغَارَ مِن المَشِيبِ عَلَيْه نورُ
ألَا إنَّ القَتِيرَ وَعيدُ صِدْقٍ
لنا لو كانَ يَزْجُرُنَا القَتِيرُ
نذيرُ الموتِ أَرسَلهُ إلينا
فكذَّبنا بما جَاءَ النَّذيرُ
وقُلنا للنفوسِ لعلَّ عُمْرًا
يطولُ بنا وأطْولُهُ قَصِيرُ
متى كُذِبتْ مِواعدُها وخانت
فأوَّلُها وآخرُها غُرُور
... الخ الأبيات.
*
فشتَّان بين نجوم المشيب، التي لا فلَك لها، ولا تغيب، وبين نجوم السماء؛ فالأولى تدفع فَتَاءَةَ الشباب ونضارته، والأخرى تقع على ظلام الليل وحُلكَته.
وخصَّ الشاعر المَفارق بالذكْر؛ إذ إنها أول ما يظهر فيه الشيب، نذير الموت، ودليل الفوت، وزاجر النفسِ عن الآمال والأماني.
*
وهذه الأبيات - في مُجمَلها - توحي بجَزَعِ المرء من المشيب، عظيمِ العدْو في عمود البَدَن، وتدعو الشِّيبَ اللاهين إلى عدم الركون إلى الدنيا والاطمئنان بها؛ فهي* خوَّانة، غدَّارة، غرَّارة.
*
وله – أي: ابن عبد ربه - "عندما وَهَتْ شِدَّته، وبليَتْ جِدَّته، وهو آخر شِعر قال، ثم عثَر في أذيال الردى وما استقال، وقد بلغ سنَّ عوف بن محلم، واعترف بذلك اعتراف متألمِّ"، فيقول:[9] [من الطويل]
كِلَاني لِمَا بي، عاذليَّ، كَفَاني
طَوَيْتُ زَمَاني بُرْهةً وطَوَاني
بَليتُ وأبْليْتُ الليالي مُكرهَا
وصِرْفانِ للأيام مُعْتورانِ
وما لِيَ لا أَبْلى لِسَبْعين حِجَّةً
وعشرٍ أَتَتْ مِنْ بَعْدِها سنَتانِ
فلا تسألاني عَنْ تباريحِ عِلَّتي
ودونكما مِنِّي الذي تَرَيانِ
وإني بحول الله راجٍ لفضْله
ولي مِن ضمانِ اللهِ خيرُ ضَمَانِ
ولستُ أُبالي مِن تباريحِ عِلَّتي
إذا كان عقلي باقيًا ولساني
*
نستشعر في هذه الأبيات - خاصة خواتيمها - جمالَ معنى قولِ الرسولِ
- صلى الله عليه وسلم -: ((لا يموتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحْسِن الظنَّ بالله))[10]؛ فهو راجٍ لفضْله، سبحانه وتعالى، ورجاؤه خيرُ ضمان مِن عذابه، جل شأنه.
*
وبعد هذا أو ذاك، يصرِّح بعدم مُبالاته مِن تباريح علَّته وآهاتِه، وما دام عقلُه ولسانُه مشغوليْن بذكْر الله – تعالى - ودعائه، ورحمته، وحسْن ثوابه، وصدَق اللهُ العظيم، إذ يقول: ﴿ يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87][11].
*
نُدرك من هذا، تبرُّمَ الكثيرِ - مِن الشعراء خاصة، والناس عامة - بالمشيب، وذمَّه، فهو بمثابة راحلةِ الأوجاع والآلام والأسقام، ونذُر المنَايَا، ورسُلها التي لا ترحم صغيرًا، ولا توقِّر كبيرًا.
*
وقديمًا قالو: "هل بَعد الغايةِ منزلةٌ، أو بَعد الشيب سوى الموتِ مرحلةٌ؟ ما الذي يُرجى ممن كان مثله في تعاجُز الخُطا، وتخاذُل القوى، وتداني المَدى، والتوجُّه إلى الدار الأخرى، أبَعْد دقَّة العظم، ورقَّة الجلد، وضعْف الحسِّ، وتخاذُل الأعضاء، وتفاوُت الاعتدال، والقرْب مِن الزوال..."[12].
*
ولمَّا كان الموتُ هو المصير المحتوم، كان عُزوفُ العقلاء - خاصة الشِّيب منهم - عن الدنيا وشهواتها، وتمسُّكهم بالهدى والفلاح، وإنكار الطلاح.
فهذا الإلبيري يُنكر على نفسه، وعلى مَن هو مثله - التلذُّذ بعيش أو منام، وقد أصبح ممن طوى بهاءَهم الزمانُ، وسَلَّتْ عليهم سيفَ الردَى الأيامُ، واستعدَّ للهجوم الحِمام. فعمَّا قريبٍ سيكون من ساكني الأجداث، في ضيق هناك، أو انفِساح.

فيقول:[13] [ من الوافر]
أفي السِّتين أهْجعُ فِي مَقِيلي
وحَادي الموتِ يُوقظُ للرَّواحِ
وقد نَشَر الزمانُ لِواءَ شَيْبي
ليطويَني ويَسْلبَني وشاحي
ويحملني إلى الأجداث صحْبي
إلى ضيقٍ هُنَاك أو انفِساح
*
يَشِيب قَذَالُه، فيرى وجوبَ ارعِوائِه؛ ففي حُلُوله تيقُّن بالرحيل، فيقول مستصغِرًا زادَه، مستعظِمًا ذُنُوبه، راجيًا رحمة ربه ومغفرتَه:[14] [من الكامل]
شابَ القَذَالُ فآنَ لي أَنْ أرعَوي
لو كنتُ مُتَّعِظًا بِشَيبِ قَذَالِ
ولو أَنَّني مستبصِرٌ إذ حَلَّ بي
لَعلِمْتُ أَنَّ حُلُولَه تَرْحَالي
فَنَظَرْتُ في زَادٍ لِدَارِ إقامتي
وسَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يحلَّ عِقَالي
*
كان المشيبُ - وما زال - شبحًا مفزعًا لكثيرٍ من النساء والرجال، فإذا ما نزل - بنذير الموت - عندئذ ترتعد الفرائصُ، وينتظر الموت الواقع، الذي لا يفارق خياله ذكْراه، ولو كانت الصحَّة في مبيته ومأواه، هذا بخلاف ما كان عليه في الشبيبة، مزدانًا بالصحة والجمال، حتى ولو ألمَّ به المرض، لم يكن ليخطر الموت له ببال. فيقول "ابن يغمور" [15]:[16] [ من الكامل]
قَدْ كُنْتُ أَمْرَضُ في الشَّبيبةِ دائمًّا
والموتُ ليس يَمُرُّ لي في البالِ
والآنَ شِبْتُ وصحَّتي موجودةٌ
وأرَى كأنَّ الموت في أَذْيالي
*
وهذه العبارات تكشف عن تتبُّع شبح الموت المروِّع له دائمًا وأبدًا بَعد المشيب، مع إنه في تمام الصحة والعافية.
*
ويصوِّر الأعمى التطيليُّ أطوارَ حياةِ الإنسان، مبيِّنًا فَزَعَ المرءِ من الموت، مُخْتَرم الجسمِ قبْل قضائه ما يرغب فيه، ونوالِه ما يحبُّه ويشتهيه، ولكنه القضاء الذي لا يبدَّل أو يردُّ، وصُروفُ الدهر، التي لا تُحول عنه أو تُصدُّ، فيقول زاجرًا واعظًا، ومؤدِّبًا معلِّمًا[17]: [ من الطويل]
ونُبِّئْتُ أنَّ الموتَ يَخْتَرِمُ الفتَى
ولَمْ يَقْضِ مِن لذَّاته ما يُؤمِّلُ
فإنْ كانَ ما نُبِّئْتُ حَقًّا فإنَّ ذا
لَمُنْتَهزٌ، وإنَّ ذا لَمُغَفَّلُ
خليليَّ مِن قيسِ ابْشِرَا فلقد قَضَتْ
صروفُ الليالي بالتي لا تُبَدَّلُ
إذا جاوز المرءُ الثلاثين حِجَّةً
فقد جاوز العمْرَ الذي هُو أفْضَلُ
فَإنْ بَلَغ الخمسين فهو على شَفًا
فما بالُهُ يَعْتَلُّ أو يَتَعَلَلُ
ولاَ تَبْلُهُ بَعْد الثمانين إنّه
يقول على حُكْم الزَّمانِ ويفعلُ
وكُلُّ حياةٍ فالمنيَّةُ بَعْدَها
وللمرءِ آمالٌ تجور وتَعْدِلُ
وما كلُّ مَن نَسِيَ الممات مُخَلَّدٌ
ولكنَّه مَنْ لَمْ يَمُتْ فَسيُقْتلُ
ومِن دونِ أن يَغْتَرَّ بالعيشِ حازمٌ
حِمامٌ بإحصاءِ النُّفُوس مُوَكَّلُ
*
يبيِّن الرجل أنَّ ما قبل الثلاثين أفضلُ عمرٍ على مَرِّ السنين، فإذا ما تخطَّى الخمسين، فالأَوْلى به التأهُّب للرحيل، أما بعد الثمانين فليس أهلًا لاختبارٍ في فعلٍ أو قيل (قول)، وليس هناك ميزان للآمال؛ فمرةً تعدِل، وأخرى تجُور، وينبغي عدمُ نسيانِ الكلِّ الرحيلَ موتًا أو ***ًا. بسيف الردَى، وقوس السنين.
وهذا ابن حمد يس ينظر في قول سيد المرسلين - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم -: ((أعْمار أمَّتي ما بين الستين والسبعين))[18]، فيَنْتَصِح، وينصح.

فيقول:[19] [من الوافر]
كتبتُ إليك في سِتِّين عامًا
فِساحًا في خُطايَ بهِنَّ ضِيقُ
وَمَنْ يَرْحَلْ إلى السَّبْعين عامًا
فَمُعْتَركُ المَنُونِ لَهُ طريقُ
*
أما ابن عبدون (ت 529 ه)، فقد جاء واعظًا، وموقظًا مُسْتنْفِرًا مَن نام فِكْرُهُ في ليلِ الشباب، وسرابِ الزمان، وزبدِ الليالي والأيام، وقد شاب رأسُه، وظهر عيبُه؛ ليحترِسَ ويحترِزَ مِن كيد الدهر ومكره، مذكِّرا بمن عُمِّر مِن جَدِيس، وطَسْم، وعاد، وآل مسلمة، وآل عباد، ثم صاروا رُفَاتًا، وقصورهم يَبَابًا، وناهيك عن رُسُومهم مِن جماد قبل الحيوان والنبات، إنها الليالي والأيام، التي ت*** وتصرع الأضداد بالأضداد، فيقول:[20] [ من البسيط]
يا نَائمَ الفكرِ في لَيْلِ الشَّباب أَفِقْ
فَصُبْحُ شَيْبِك في أُفْقِ النُّهَى بَادِي
سَلْني عن الدَّهْر تسألْ غيرَ إمَّعة
فَأَلقْ سَمْعكَ واستَجْمِعْ لإيرادي
نَعَمْ هُوَ الدَّهْرُ ما أَبْقَتْ غَوائِلُه
على جَدِيس ولا طَسْمٍ ولا عادِ[21]
أَلْقَتْ عَصَاها بنادي مأربِ ورَمَتْ
بآل مَامَةَ من بيضاءَ سِنْدادِ[22]
وأَسْلمتْ للمَنَايا آلَ مسلمة
وعَبَّدتْ للرَّزَايا آلَ عَبَّادِ
ما لليالي أَقالَ اللهُ عَثْرَتَنَا
منها تُصَرِّعُ أضدادًا بأضْدَادِ
*
افتتح الشاعر فنَّه، واعظًا وزاجرًا ومتَّهِمًا، بجناسٍ بين أَفِقْ وأُفْقٍ؛ تطريةً للأسماع والأبصار، وجذبًا للانتباه.
فهو يعِظ ويزجُر الأشْيَبَ اللاهِيَ، ويتَّهم الدهر، والموتَ أو نُذُرَهُ، بالاعتداء، وقولُه: "تسألْ غيرَ إمَّعةٍ"؛ زَهْوٌ بخبرته، وفطْنته، وثقافته، واعتدادٌ بتجاربه العلمية والعملية.
*
وهذا "محمد بن أبي العافية"[23]، يتشاءم، ويتأفف مِن بياض المشيب، وما شابَهَهُ، مِن مثل الحَمام وسَجْعه - وقد كان يتعشَّقُه - فسجْعُه نذيرٌ بقُرب الحِمام – الموت -. فيقول[24]: [ من الوافر]
لأمرٍ مَا أُكابِدُ كُلَّ شَجْوٍ
إذا سَجَعَتْ على الأيْك الحَمَامُ
لأنَّ بَيَاضَها كبَيَاضِ شَيْبي
فمعنى سَجْعِهِا: قُرُبَ الحِمامُ
*
يتعجَّب الشعراء مِن سكْر لُبِّ الأشيَبِ، واختلالِ فكْره، وقسوةِ قلبه، راتعًا في أودية اللهو والمجون، متناسيًا أن المشيب أمارة المَنُون، متجاهلًا أنَّ عَوِيله وبكاءه، لا ينجي مِن شدائد الموت وهجماته، وفي هذا استبطاءٌ لتوبته وصحوِه من ضلاله وغوايته.
*
وهذا "أبو الربيع بن سالم الكلاعي الأندلسي"[25] (565 - 634 ه) يقرِض القولَ الحسَن الجميل، لمَّا أن أزمع شبابُه على الرحيل، وتولَّت ليالي الغواية والمُجُون، واستعدَّ صباح الرشاد المبين للهجوم، وجهَّز جيشَ المشيبِ المنونُ، فيقول[26]: [من الطويل ]
تولَّت ليالٍ للغَواية جُونُ
ووافَي صباحٌ للرَّشَادِ مُبينُ
رِكَابُ شبابٍ أزمعتْ عنك رحلةً
وجَيْشُ مَشيبٍ جَهَّزَتْه مَنُونُ
ولا أَكْذِبُ الرَّحْمنَ فيما أجنُّهُ
وَكَيْف؟ ولا يخفَى عليه جَنينُ
وآلمَنِي وَخْطُ المَشيبِ بِلِمَّتي
فَخَطَّتْ بقلبي للشجونِ فُنُونُ
وليلُ شَبَابي كان أَنْضَرَ مَنْظَرًا
وآنَقَ مَهْمَا لاحظَتْه عُيُونُ
فآهٍ على عيشٍ تَكَدَّر صَفْوُهُ
وأُنْسٍ خلا منه صَفًا وحَجُون[27]
ويا وَيْحَ فَوْدِي أَفُؤَادِي كُلَّما
تَزَيَّدَ شَيْبي، كَيْف بَعْدُ يَكُونُ
حرامٌ على قلبي سكونٌ بِغرَّةٍ
وكيْف مع الشَّيْب المُمِضِّ سُكونُ
وقالوا شبابُ المرءِ شُعْبُة جِنِّةٍ
فما لي عَرانِي للمَشِيب جُنُونُ
وقالوا شَجَاكَ الشَّيْبُ حِدْثان ما أتى
ولم يَعْلَمُوا أنَّ الحديثَ شُجُونُ
*
مع أن المشيب دليلُ الرشاد، وصباحُ الثبات، فهو كتيبةُ الفَناء والدمار؛ ولهذا تنوَّعتِ الحسراتُ على الشباب، الذي جنَى فيه ابن آدم الغواية والمجونَ، وتعددتِ الأشجانُ لمشيبٍ آلمَ بنوازله، وأرَّق بتوابعه، فتكدَّر صَفْوُ العيش، وحلَّ الأرق والهمُّ، وظَعنَ البهاءُ، والحُسن، والأنس.
*
فقوله: "تولَّت ليالي للغواية جُونُ" يصوِّر مدى الآثام التي جناها في الشباب، وفيه ثناء على المشيب - ولو مؤقَّتًا - لتحسُّره بَعْدُ على أطايب شبابه، بقوله: "فآهٍ على عيشٍ تكدَّر صفوُه، وأُنسٍ..." إلى آخر صورته، التي تنمُّ عن حُبِّه للشباب، وضجره مِن المشيب.
*
ندرك إذًا: أن الرجل مرة يسير مع عقله؛ فيمدح المشيب، وأخرى يركَنُ إلى عاطفته، وذكرى الشباب؛ فيتملَّكه الأسَى، ونار الجوى.
*
يزهو المرء بنفسه في شبابه، فإذا اعتراه المشيبُ، وقلاهُ الشباب انتابَهُ اليأسُ، مِن عَوْدِ لذَّاتِ الماضي، والأنس، والهدوء، والعافية، وراحة النفس، وطمأنينة القلب، فيظل متقلِّبًا بين الأرق والقلق، والخوف من الموت والوهن، متجاهلًا أن هذا سُنَّةُ الله في خَلقه، على مدى الدهر، يقول أبو حيان الأندلسي (ت. 753 ه )[28]: [ من الطويل]
وَيُزْهَى الفَتَى بالمالِ والجاهِ في الدُّنَى
ولذَّةِ مَطْعُومٍ وناعمِ مَلْبُوسِ
وغايتُه ضَعْفٌ وشَيْبٌ وَمِيتَةٌ
وقبرٌ وبَعْثٌ لِلنَّعيم أو البُوسِ
*
وهذا المنتشاقري، يصوِّر صنيعَ المشيب بسواد الرأس، وغُصْن المرء، موضحًا أثره على القلب، متمنِّيًا أن لو كان هذا المشيب - بيَّض بالتُّقَى الصحيفة المسودَّةَ بأوزار الشباب وآثامِه، بدلًا مِن تبييضِه سوادَ الرأس؛ فهو إذًا ثوبُ الموت، وحادي الفوتِ. فيقول[29]: [ من الكامل]
وَرَدَ المَشيبُ مُبيِّضًا بوُرُودِهِ
ما كانَ مِن شَعَرِ الشَّبيبةِ حَالِكا
يا ليته لو كَان بَيَّضَ بالتُّقَى
ما سوَّدَتْهُ مآثمٌ مِن حَالِكا
إنَّ المشيبَ غَدَا رِدَاءً للرَّدَى
فإذا عَلَاكَ أَجَدَّ في تَرْحَالِكا
*
ولابن الخطيب[30] عبارات تُصَوِّر عُزُوفَه - على يد المشيب - عن الآمال، ويأسَه مِن تحقيق مآربه وأمانيه، ومن نواله ما يرغب فيه ويشتهيه.
*
يتضح لنا مِن تصوير الشعراء في هذا الموضوع - المشيب والمنون - أنه عندما تتسلَّل بوادرُ الشيب إلى الرأس، إذْ به يُسْرع الانتشار، في عمود البدن بجنودٍ لا تقاوَم، عندئذٍ يدبُّ اليأسُ في نفسِ المرء وفؤاده مِن ملذَّات الحياة ومباهجِها، وينمو بل يستفحل خوفُه مِن الموت؛ لذلك كثُر مُبْغِضُوه، خاصة مَن تضمَّخ بخَلُوق الغواية والمجون، وتسربل بسربال الشهوات والملذَّات أيام الشباب.
*
ومع هذا كان منهم دعاة إلى التُّقَى، وتبييض ما بقِيَ في الصحيفة بالصلاح والهدى، بوعظ وزجر - للنفس أو الغير - دائم غير منقطع.
*
ومع بغضهم للمشيب، نلحظ فَضْلَهُ في كفِّهم عن المجون، والتصابي وفي إقلاعهم عن المعايب والمخازي.

[1] انظر: الشباب والشيب، د/ عبد الرحمن هيبة: ح 1 / 128.
[2] العقد الفريد: ح 3 / 41.
[3] "منتصف العمر"؛ لمن تقدَّم به السِّنُّ، وبلغ فيه مبلغًا، وليس المراد به منتصف العمر عامة، فقد يموت المرء وهو في طَور الشبيبة كابن هانئ الأندلسي مثلًا.
[4] انظر: الأسس النفسية للنمو. - بتصرُّف - ص 426، 427.
[5] هو: "أبو الأصبغ موسى بن محمد بن سعيد بن موسى، لعل مولده كان نحو سنة 250 ه = 864 م، تولى أبو الأصبغ خطة القطع"؛ جباية الأموال من المقاطعات" للأمير عبد الله بن محمد ( 275 – 300 ه )، ثم تقلَّب في عدد من المناصب، ولما جاء الأمير عبد الرحمن بن محمد إلى العرش جعل أبا الأصبغ وزيرًا له، وكانت وفاته في منتصف صفر سنة 310 ه = 921 م". انظر: تاريخ الأدب العربي د/ عمر فروخ ح 4 / ص 162، 163. ط 1 دار العلم للملايين. بيروت 1981 م.
[6] انظر الحلة السيراء لابن الأبار (595 – 658 ه) ح 1 / 232: 236، تاريخ الأدب العربي د/ عمر فروخ ح 4 / 162، 163، قضايا أندلسية د/ بدير متولي حميد ص 349. ط 1 دار المعرفة. القاهرة 1964 م، والبيتان الأولان للخريمي ( ت 214 ه ). انظر: الشباب والشيب د/ عبد الرحمن هيبة ح 2 / 484.
[7] انظر: تاريخ الأدب العربي د/ عمر فروخ ح 4 / 162.
[8] ديوانه ص 158، العقد الفريد ح 3 / 44، 45، قضية الزمن في الشعر العربي. د/ فاطمة محجوب ص 52، 53، وفي مطمح الأنفس. ص 78، 79. منسوبة للرمادي، وله في المعنى نفسه في ديوانه ص 311، العقد ح 3 / 44، قضية الزمن في الشعر العربي د/ فاطمة محجوب ص 52، 53 – أبيات منها: [ من البسيط ]
أطْلالُ لهْوك قد أقوَتْ مغانيها
لم يَبْق مِن عهدها إلا أثافيها
هذي المفارق قد قامت شواهدها
على فنائك والدنيا تُزَكّيها
أقوَت الأرضُ، وأقوَت الدارُ: إذا خلَتْ مِن أهلها. اللسان: ق. و. ا. المغاني: المنازل، التي كان بها أهلوها. اللسان: غ. ن. ا. وله في هذا المعنى – أيضًا – أبيات في ديوانه ص 211: [ من الكامل ]
أما الشباب فَوُدِّعَتْ أيَّامُه***ووداعُهُن مُوَكَّلُ بوداعي
[9] ديوان ابن عبد ربه ص 297، انظر: جذوة المقتبس ص 103، 104، بغية الملتمس ص 150، المطرب ص 145، نفح الطيب ح 7 / 52، 53، قصة الأدب في الأندلس د/ محمد عبد المنعم خفاجي ح 3 / 71، المطبعة المنيرية ط 1 سنة 1955، بروايات مختلفة، من تقديم وتأخير، وزيادة ونقصان.
[10] مسلم برقم 2877، شرح السنة برقم 1455 ط 1 المكتب الإسلامى – بيروت، ابن ماجة عن جابر برقم 4167.
[11] سورة يوسف: 87.
[12] انظر: زهر الآداب. ح 2 / 900.
[13] ديوان الإلبيري ص 49، وله في مثل هذا المعنى في ديوانه ص 24: 31، 105، 106.
[14] انظر: ديوان الإلبيري ص 45، وله في هذا المعنى – في ديوانه ص 117 – أبيات منها: [ من السريع ]
يا عجبًا مِنْ غفلتي بعد أَنْ *** ناداني الشيبُ ألا فارحلن!
[15] هو: "أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن أبي يغمور قاضٍ زاهد. شاعر. نَدَبَهُ أهلُ الأمر لولاية القضاء بمدينة فاس". انظر: النفح ح 3 / 230، 231، ح 7 / 276.
[16] نفح الطيب ح 3 / 231، ونفس المعنى نراه عند ابن حمديس – في ديوانه ص 67 – فيقول: [ من الوافر ]
وكُنُتُ إذا مَرِضْتُ رجوتُ عيشًا
لياليَ كُنْتُ في شَرْخِ الشَّبابِ
فَصِرُت إذا مَرِضْتُ خَشِيتُ مَوْتًا
وَقُلْتُ: قَدِ انْقَضَى عَدَدُ الحِسَابِ
فَنَفْسُ الشَّيْخِ تَضْعُفُ كُلَّ حِينٍ
وَقُوَّتُهُ عَلَى طَرَفِ الذَّهَابِ
[17] انظر: ديوان الأعمى التطيلي ص 126.
[18] ابن ماجه برقم 1415. ص. ح. 1073.
[19] انظر: ديوان ابن حمديس ص 333، 334.
[20] الذخيرة ق 1 ح 2 / 313، 314، نفح الطيب ح 4 / 225.
[21] "جَدِيسٌ" حَيٌّ مِن عاد، وهم إخوة طَسْمٍ، وقيل: قبيلة كانت في الدهر الأول، فانقرضتْ. انظر: اللسان "ج. د. س".
[22] مامَةُ: اسمٌ. انظر: اللسان: "م. و. م".
[23] هو: الوزير الأجلُّ، أبو بكر محمد بن أبي العافية الأزدي القتندي الأصل الأغرناطي المنشأ. كان من بقايا الأدباء، وفحُول الشعراء، ورواة الحديث عن العلماء. سمع كتاب الملخص، وصحيح مسلم. عاش ما بين ( 513 – 584 ه ). انظر: المطرب لابن دحية ص 85، 86، ولابن الجنان أبيات – هي والترجمة في تحفة القادم ص 93 – في المعنى نفسه، وانظر أيضا: القصائد العشريات ص81، ص 56، 57، ص 85، 86، ص 143.
[24] انظر: المرجع السابق.
[25] "أندلسي، يُنسب إلى ذي الكلاع، أحد ملوك اليمن القدماء، ولد في خارج بلنسية، ثم حمل إليها سنة 565 ه، وتجول في الأندلس والمغرب، حارب الأسبان المحاصرين بلنسية على رأس جيش في معركة أنيجة، وكان يصيح إذا رأى تراخيًا خلفه: أمِن الجَنَّة تفرُّون! حتى سقط شهيدًا في ذي الحجة سنة 634 ه". انظر: نفح الطيب ح 4 / 473، 474، تاريخ الأدب العربي د/ عمر فروخ ح 5 / 693.
[26] نفح الطيب ح 4 / 473، 474، تاريخ الأدب العربي د/ عمر فروخ ح 5 / 695، 696.
[27] الحَجُون: جبل بمكة. وهي مقبرة. قال عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمر يتأسف على البيت، وقيل: هو للحارث الجرهمي: [ من الطويل ].
كأنْ لم يكُن بَيْنَ الحَجُون إلى الصفا *** أنيسٌ، ولم يَسْمَرْ بمكةَ سامرُ
انظر: لسان العرب "ح. ج. ن".
[28] انظر: ديوان أبي حيان ص 224، 225، وانظر – له – في المعنى نفسه: ص 88، 127، من الديوان، وهو ما يبيِّن عظيمَ يأسِه مِن الحياة، بعد هجوم المشيب.
[29] انظر: نفح الطيب ح 6 / 144.
[30] انظر: نفح الطيب ح 6 / 423، ولم أجدها في الصيب والجهام، ومثل هذا المعنى وسابقه لدى محمد بن محمد بن إبراهيم بن سعد الخير عياش (ابن عيشون ت. بعد 725 ه) – الترجمة في الإحاطة ح 2 / 143: 149 في أبيات في المرجع السابق ص 154.


محمد حمادة إمام
__________________
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 12:35 PM.