#1
|
||||
|
||||
علم الأجنّة في القرآن
علم الأجنّة في القرآن
د. عفيفي محمود المصدر: مجلة حضارة الإسلام، العدد 8، السنة 5، ص68-82، 143 "يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً". أشار القرآن الكريم في محكم آياته إلى كثير من فروع العلم، وبخاصة العلوم الفلكية، وعلوم الحياة. وآيات القرآن – وإن كانت لا تدخل في التفاصيل، إلا أنها في إجمالها وإيجازها وشمولها، تتضمن إشارات بارعة إلى أدق الحقائق العلمية في مختلف فروع العلم. فأهم الحقائق الفلكية التي ترجع إليها معظم ظواهر الكون المحيطة بنا، تجمعها آية جامعة شاملة هي قوله تعالى: "وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)". وأدق عمليات الكيمياء الحيوية، يشير إليها قوله تعالى: "وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)". وأسس علم تصنيف الحيوانات يشير إليها قوله تعالى: "وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ". ومن بين العلوم التي تناولها القرآن الكريم: علم الأجنة، وأول ما أشار إليه الذكر الحكيم في قوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)". والآيات الكريمة التي أشارت إلى خلق الإنسان أكثر من أن تحصى، إلا أنها بوجه عام يمكن تقسيمها تقسيماً موضوعياً إلى ثلاث مجاميع: 1- المجموعة الأولى: آيات تتناول خلق الإنسان الأول الذي تنتهي عنده سلسلة الآباء والأجداد، فليس له أب ولا أم، فكان لابد لخلقه من مادة البناء الأولى وهي عناصر الأرض. ومن هذه الآيات قوله تعالى: "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)". وقوله تعالى: "خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)". وقوله تعالى: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)". 2- والمجموعة الثانية: آيات تتناول خلق الفرد من بني الانسان الذي يولد أمامنا كل يوم، وتولد ذريته من بعده نتيجة لعمليات محددة معروفة نحن وسيلتها، هي التزاوج والحمل والولادة. من هذه الآيات قوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)"، وقوله تعالى: "فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)" وقوله تعالى: "أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)". وقوله تعالى: "إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)". وقوله تعالى: "أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى (39)". 3- والمجموعة الثالثة من الآيات: تشير إلى خلق الإنسان الأول من عناصر الأرض الميتة، ثم إلى خلق ذريته من بعده، من نطفة مستقطرة أو مستلة من جسمه الحي، ومن هذه الآيات قوله تعالى: "ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)"، وقوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)"، وقوله تعالى: "هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ". فأما الآيات من المجموعة الأولى، وهي التي تتناول خلق الإنسان الأول من عناصر الأرض، فإنها لا تتصل بعلم الأجنة من قريب أو بعيد، وإنما تتصل أكثر بفرعين آخرين من فروع العلم، أحدهما هو الكيمياء الحيوية والآخر هو أصل الأنواع. وكل منهما يحتاج إلى بحث مستقل. وأما الآيات من المجموعة الثانية، وأواخر الآيات من المجموعة الثالثة، وهي التي تتناول التطور الجنيني لكل فرد من بني الانسان، فهي التي سأتعرض لها. لأنها هي التي يدخل في نطاقها موضوع هذا البحث. ما هو علم الأجنة ؟ وعلم الأجنة: هو ذلك الفرع من علوم الحياة، الذي يتناول بالدراسة تلك التطورات التي تعتري بويضة الأم منذ ساعة اخصابها إلى أن يخرج منها ذلك الكائن الحي المكتمل الأعضاء، المعقد التركيب، والذي يعتبر بحق إحدى آيات الخالق سبحانه وتعالى. حجر الأساس: وأول عملية في التطور الجنيني لأي كائن حي – باستثناء بعض الكائنات الدنيا – هي عملية الاخصاب، وهي تتم في الانسان – كما في كل حيوان متزاوج – باندماج الحيوان المنوي للذكر مع بويضة الأنثى، لتتكون منها نطفة مزوجة هي حجر الأساس في بناء كل فرد منا. وعملية الاخصاب شيء آخر غير عملية التزاوج المعروفة، والتي ليست إلا مجرد عملية نقل للقاح الذكر إلى جسم الأنثى، دون أن يستتبع ذلك بالضرورة حدوث اخصاب فعلي. البويضة: وبويضة الأنثى خلية دقيقة الحجم، لو تجمعت منها الآلاف لما زادت في حجمها مجتمعة على رأس الدبوس، وهي تتكون من نواة تحمل خصائص الأم، تحيط بها كتلة من الزلال تسمى ((السيتوبلازم))، وتتناثر في ((السيتوبلازم)) حبيبات المح التي منها تتغذى البويضة في أول مراحل تطورها، إلى أن يتم التصاقها بجدار الرحم. ومن ثم تستمد من دم الأم غذاءها اللازم لاستمرار نمو الجنين وتطوره. وتخرج البويضة عادة من أحد المبيضين مرة في كل شهر قمري وتسقط في فوهة القناة المبيضية التي تؤدي إلى الرحم. وقبل نضج البويضة وخروجها من المبيض بحوالي أسبوع، تكون قد طرأت على جدار الرحم تغيرات خاصة، تعده لاستقبال الجنين المرتقب إذا تكون، فتتضخم خلايا الغشاء المخاطي المبطن للرحم، وتتسع الشعيرات الدموية التي تغذيه، وتنشط فيه غدد خاصة... وبهذا يتم حرث الأرض وتسميدها قبل بذر البذور فيها. وتعيش البويضة بعد انفصالها من المبيض يومين أو ثلاثة، تكون خلالها متحفزة قابلة للتخلق إذا ما صادفها حيوان منوي، فإذا لم يحدث ذلك – وغالباً مالا يحدث – فإن البويضة تتحلل، كما تتساقط الرقعة المتضخمة من جدار الرحم، وتنمو مكانها رقعة جديدة، ويصحب ذلك تمزق في الشعيرات الدموية يسبب النزيف المعروف. الحيوان المنوي: أما الحيوان المنوي فهو شيء أدق من البويضة إلا أنه أكثر منها تخلقاً، فله رأس وعنق وذنب، إذا جاز التصوير، والرأس وحده هو الجزء الفعال في الحيوان المنوي، فهو الذي يحتوي على النواة التي تحمل خصائص الأب، وهو وحده الذي يندمج مع البويضة ويشترك معها في تكوين بذرة الجنين. وبينما لا تفرز الأنثى إلا بويضة واحدة كل شهر، تحتوي الدفقة المنوية للذكر على أكثر من 200 مليون حيوان منوي، تسبح في سائل خاص تفرزه الغدة الملحقة بالخصية وتسمى ((البروستاتا)). وهذا السائل له درجة معينة من الحرارة والرطوبة واللزوجة والحموضة، تناسب معيشة هذه الكائنات الحية بعد انفصالها عن جسم الأب. الطريق إلى البويضة: وعندما تستقر الدفقة المنوية في مهبل الأنثى، تسعى الحيوانات المنوية في أفواج بواسطة أذنابها الدائمة الحركة، فتمر من عنق الرحم، ثم تجتاز فراغ الرحم، فتدخل في قناة المبيض، حتى تصل إلى فوهتها حيث تنتظرها البويضة. هذا الطريق الوعر الملتوي المظلم، كيف يسلكه الحيوان المنوي وليس له عين يبصر بها، ولا حواس ترشده، ولا حتى عكازة يتوكأ عليها؟!. إن ((عنق)) الحيوان المنوي يحتوي على جسيم صغير اسمه ((السنتروزم)) والمعتقد أن هذا الجسيم هو الذي يوجه حركة الحيوان المنوي إلى إتجاه البويضة، ثم ينفصل عنه بعد وصوله إليها، ويتحلل بعد أن إنتهت مهمته، كما ينفصل الذنب ويتحلل بعد أن انتهت مهمته أيضاً. الإخصاب: ومن بين هذه الملايين من الحيوانات المنوية – أو على الأقل من بين الآلاف التي تصل منها – ينجح واحد فقط في إخصاب البويضة.. واحد فقط لابد أنه أقواها وأسبقها في الوصول. وعندما يخترق هذا الحيوان المنوي الواحد جدار البويضة، فإنها تفرز حول نفسها جليداً مانعاً، يصد باقي الحيوانات المنوية، التي تعود من حيث أتت، وتموت وتندثر في طريق العودة. أما وقد اخترق الجزء الفعال من الحيوان المنوي جدار البويضة، فإنه يندمج معها إندماجاً تاماً، وبهذا تتم عملية الاخصاب، وينقطع الحيض بعد ذلك كأول علامة من علامات الحمل.. النطفة الأمشاج: ونتيجة لعملية الاخصاب تتكون نطفة مزدوجة تسمى ((الزيجوت))، وهي عبارة عن كتلة من ((السيتوبلازم))، في داخلها نواة تحمل خصائص الأب والأم معاً.. وهذه الخصائص التي تحملها نواة (الزيجوت))، ليست في الوقائع خصائص الأب والأم وحدهما، فكل منهما قد نشأ أيضاً من نطفة مزدوجة تحمل خصائص أبيه وأمه وهكذا... فالزيجوت إذن هو سلالة مستخلصة من مجموعة أخلاط من كافة خصائص الآباء والأجداد جميعاً.. وكل خليط من هذه الخصائص يتكون من أخلاط وراءها أخلاط. سواء في ذلك الحيوان المنوي وحده، أم البويضة وحدها، أم (الزيجوت) الذي يتألف منهما معاً... ولعل هذا يعنينا على أن نفهم جانباً آخر من جوانب الاعجاز في قوله تعالى: "إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)". بذرة الانسان: ولو جاز التعبير لقلت إن (الزيجوت)، أو النطفة الأمشاج: هو بذرة الإنسان الجديد، تحتوي في قلبها على كل العناصر اللازمة لخلق الإنسان الكامل بكل أعضائه وأحشائه، وأعصابه ودمه وإفرازاته، كما تحتوي على كل العوامل والمقومات التي تشكل خصائصه المميزة بأبعاده وملامحه، بلون بشرته ولون عينيه، ولون شعره، بكل دقائقه وصفاته كما شاء الخالق أن يصوره. التفلج والهجرة إلى الرحم: وبعد عملية الاخصاب مباشرة تبدأ النطفة في الانقسام أو التفلج، فتنقسم إلى نصفين متشابهين، ينمو كل منهما ثم ينقسم.. وتكرر عملية الانقسام هذه حتى تتكون كتلة من الخلايا تسمى التويته – نظراً لشبهها بثمرة التوت مصغرة، ثم تنتظم خلايا التويته على شكل كرة تسمى المفلجة. وفي أثناء مرحلة التفلج تهاجر النطفة من مكانها، متخذة من قناة المبيض طريقاً إلى الرحم، إلى أن تدخل فراغ الرحم بعد حوالي أربعة أيام وهي في دور المفلجة. ويكون الرحم في هذه الأثناء قد تهيأ لاستقبال النطفة، فتستقر في تلك الرقعة المتضخمة من جداره، وتنغرس فيها كما تنغرس البذرة في التربة قبل أن ينفذ رصيدها من الغذاء اللازم لاستمرار تطورها. تكوُّن المشيمة: وفي أحد قطبي المفلجة تظهر ندبة صغيرة من الخلايا هي التي ستكون الجنين كما سيأتي بعد، أما باقي خلايا المفلجة فإنها تنمو وتحيط بهذه الندبة على شكل غلاف يسمى الغلاف الاكِال – إشارة إلى وظيفته، وهي امتصاص الغذاء من الشعيرات الدموية المنتشرة في جدار الرحم. ولكي يتم امتصاص الغذاء على أحسن وجه، تتضخم خلايا الغلاف الأكال في الرقعة الملاصقة لجدار الرحم، وتمتد منها حملات تخترق هذا الجدار وتتشعب بداخله، كما تتشعب جذور البذرة في داخل التربة، وبهذا تتكون المشيمة من طبقتين متماسكتين متعشقتين: طبقة من الغلاف الأكال، وطبقة من جدار الرحم. ومن المشيمة تمتد قنوات إلى الندبة الجنينية.. وهكذا يبدأ صراعنا في سبيل القوت في هذا الطور المبكر من حياتنا. كيف يتغذى الجنين: والطريقة التي نحصل بها على حاجتنا من الغذاء ابتداء من هذا الطور حتى ساعة الولادة طريقة تدعو إلى التأمل، ذلك أن دم الأم لا ينكسب بذاته داخل جسم الجنين، وإنما تتسرب عناصر الغذاء وذرات الأوكسجين اللازمة للتنفس من خلال جدر الشعيرات الدموية المتناهية في الرقة – من الأم إلى المشيمة، ومنها إلى الجنين، وبذلك يحصل الجنين على حاجته دون أن يمتزج دمه بدم الأم، كما يحصل النبات على حاجته من التربة دون أن يختلط طينها بعصارة النبات نفسه. ويتخلص الجنين من فضلاته الضارة بنفس الطريقة.. ولكي يتم التنظيم المحكم لهذه العملية – عملية تبادل العناصر بشقيها بين الأم والجنين – تتكون الأوعية السرية من وعاءين واردين ينقلان الغذاء من الأم إلى الجنين ووعاء صادر يحمل فضلات الجنين في الطريق المضاد.. فلو جاز التعبير، فهذه الأوعية تشبه أنابيب المياه والمجاري: تلك تحمل إلينا الماء النظيف، وهذه تحمل عنا الماء المتسخ، وتمتدان جنباً إلى جنب في باطن الأرض دون أن تختلط محتوياتهما. من نطفة إلى علقة: ونعود إلى تلك الندبة الصغيرة من الخلايا التي سيتكون منها إنسان المستقبل، فنجدها قد نمت وتحولت إلى قرص يسمى القرص الجنيني، وبانقسام خلايا القرص الجنيني تتكون طبقتان من الخلايا: الخارجية، ستكون الأدمة، والداخلية، ستكون المعي.. ثم تنشأ بينهما طبقة ثالثة، هي التي ستكون الحشا والعظام واللحم والدم. في ظلمات ثلاث: وفي هذه الأثناء يكون الجزء الظاهر من الغلاف الأكال، وأقصد به الجزء الذي لا يسهم في تكوين المشيمة، قد تحول إلى غلاف واق يحيط بالقرص الجنيني ويحميه، ويسمى هذا الغلاف (بالكوريون). وبداخل هذا الغلاف يتطور القرص الجنيني، وتتكون طبقات الجسم التي أشرت إليها ويتخذ الجنين شكل دودة صغيرة طولها مللييمتران، معلقة في جدار الرحم بواسطة الحبل السُّري، ومحاطة (بالكوريون)، وهكذا يدخل الانسان في دور العلقة وعمره عشرون يوماً. وقبل أن يبدأ تخلق العلقة، تتخذ استحكامات جديدة لوقايتها، فيتكون حولها تحت (الكوريون) غشاء آخر يحيط بها إحاطة كاملة، إلا حيث يتصل بها الحبل السري، ويسمى هذا الغشاء (بالأمنيون) أو الرهل. وتحت هذا الغلاف يتجمع سائل مصلي لا يمكنه التسرب، وبذلك تحاط العلقة بغلاف مائي واق تتكسر فيه أية صدمة أو رجة قد تصيب جسم الأم. وبهذا يكون مجموع الأغلفة التي تحيط بالعلقة ثلاثة: جدار الرحم الذي تنغرس فيه النطفة عند دخولها في دور المفلجة، ثم (الكوريون) الذي يتخلق بداخله القرص الجنيني، ثم (الأمنيون) الذي تتخلق بداخله العلقة، وبداخل هذه الأستار والحجب الثلاثة التي لا يخترقها الضوء تشكلنا يد الله!، ولعل هذا المفهوم يتفق مع قوله تعالى: "يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ". وللموضوع تتمة |
#2
|
||||
|
||||
علم الأجنّة في القرآن
د. عفيفي محمود من علقة إلى مضغة: وفي خلال الأسبوع الرابع يبدأ تشكيل أجسامنا، فكان الواحد منا قطعة لينة من الطين في يد صانع ماهر، وتتحدد الجهات الأصلية للعلقة بظهور مقدمة ومؤخرة، وسطح ظهري وسطح بطني، ثم تبدأ العلقة في التخرط، فكأن مهندساً بارعاً يقسم رقعة من الأرض، قبل أن يبني عليها مصنعاً صممت مرفقاته بدقة. أما وقد تحددت أبعاد العلقة، فإن التخلق يجري على قدم وساق في كافة أنحائها، فهذه مجموعة من الخلايا تتجمع وتتكور في مقدمة البطن فتعطي ((مشروع قلب)) وتلك مجموعة أخرى تنتظم في أنبوب بطول الظهر لتعطي ((بروفة العمود الظهري)) وهذا أخدود يتكون في الجلد بطول الظهر ليحدد مكان ((الحبل الشوكي))، وذلك ميزاب يتكون بطول البطن ليعطي باكورة ((القناة الهضمية))... وهكذا تتكون بواكير الأحشاء التي تظهر من خلال أدمة الجنين وكأنها تضاريس غير واضحة المعالم... وبهذا تتحول العلقة إلى مضغة!. تخلق المضغة: وفي أيام قلائل يزداد تخلق الأحشاء داخل المضغة، فليتئم الجلد فوق ميزاب الحبل الشوكي، فيتحول الأخير إلى أنبوبة لا تلبث أن تنتفخ عند مقدمتها فتعطي باكورة المخ، ومن هذه تبرز العينان على شكل كرتين في جانبي الرأس، كما يلتئم الجلد تحت ميزاب القناة الهضمية فيعطي المعي، وينشق الجلد الملاصق لطرفي المعي فتتكون فتحتا الفم والشرج. ويتكون جسمان على جانبي عمود الظهر هما بواكير الجهاز البولي التناسلي. كما ينشط التخلط في داخل المضغة ينشط أيضاً في ظاهرها، فتكون براعم الأطراف، وفي المؤخرة ينمو لنا ذنب صغير، وفي مكان العنق تظهر على كل جانب شقوق أربعة يمكن تشبيهها من ناحية الوظيفة بخياشيم السمك. رعشة القلب: وفي بداية الشهر الثاني تكون قد امتدت داخل جسم الجنين شبكة من الأوعية الدموية، ويكون تجويف القلب قد امتلأ بخلاصة العناصر الغذائية الواردة إليه من المشيمة، فتسري في جداره رعشة خفيفة لا تلبث أن تتلوها رعشة أخرى، ثم تتوالى انقباضات القلب لتدفع الدم إلى الأحشاء وكأنه مضخة ماصة كابسة تدفع المياه إلى مرافق منزل جديد!. القوة الخفية: وتعتبر عملية تخلق المضغة عملية تحير العقول وتدعو إلى التساؤل، أية قوة منظمة تلك التي توجد هذه المجموعة من الخلايا لتصبح قلباً، وتلك لتصير مخاً؟!. هل مجرد وجود هذه الخلايا في مكان القلب يحتم تطورها إلى قلب؟... أم أنها بطبيعتها ((خلايا قلبية)) أينما كان موضعها؟. والعلم الذي يبحث في هذا هو علم ((الأونتوجينيا)) وترجمتها: ((كينونة الحياة)) وهو يبحث في زرع الأنسجة – وهي بعد في دور تكوينها – في أماكن أخرى من الجنين أو في محاليل وأفران خاصة خارج جسم الجنين، وقد أجريت تجارب على بعض أنواع الضفادع. وخلاصة النتائج التي حصل عليها علماء هذا الفرع: هي أن الأنسجة في دور مبكر جداً لا يتعدى دور المفلجة، يمكن أن تحل محل بعضها البعض، حسب المكان الذي تزرع فيه، وبعد هذا الدور تتقرر طبيعة الأنسجة فلا تحيد عنها أينما زرعت. وبالطبع لم تجر تجارب من هذا القبيل على الإنسان، وإن كان الإعتقاد السائد هو أن أنسجة حيوان راق كالإنسان تكون قد تقررت طبيعتها منذ بداية التفلج، والوقت لا يتسع لمناقشة هذا الموضوع الآن، وأرجو أن تتاح لي فرصة التحدث في هذا الموضوع الشيق في مناسبة أخرى إن شاء الله. الإنسان الضفدع: والجنين في بداية الشهر الثاني – وإن كان مخلوقاً له أعضاء خارجية وأحشاء داخلية – إلا أنه لا يزال بعيد الشبه جداً بالانسان، فإن له عينين بارزتين على جانبي الرأس، وله خياشيم وذنب وأطراف مفلطحة كالزعانف، وأذناه غشاءان من الجلد بغير صيوان، وطوله في مجموعه لا يزيد على نصف سنتيمتر. فهو أقرب في شكله وتشريحه إلى ضفدعة في دور التكوين. وفي خلال الشهر الثاني تطرأ على الجنين تغيرات تشريحية تنقله من طبقة الحيوانات المائية إلى طبقة الحيوانات البرية، فتظهر فتحتا الأنف، وتنسد الشقوق الخيشومية، وتتكون أخاديد الرئتين، وهي تغيرات مشابهة لتلك التي تطرأ على ((أبي ذنيبة)) لتحوله إلى ضفدعة. على أعتاب البشرية: وقبل نهاية الشهر الثاني تمر بالجنين تطورات متلاحقة تبتعد به عن هيئة الضفدعة وتقترب به من أعتاب البشرية، فينكمش الذنب، ويتحدد العنق، ويتخلق الوجه. كما تظهر على الأطراف تغيرات تقلبها من هيئة زعانف السمك إلى هيئة الأكف والأقدام، فتستطيل وتتخرط، وتتفلطح نهايتها، ويظهر في نهاية كل طرف أخاديد لا تلبث أن تنشق وتنحسر عن خمسة أصابع جلية في كل كف وقدم. تخلق الوجه: وتخلق الوجه من أهم الظواهر التي تقرب الجنين من سحنة الإنسان في نهاية الشهر الثاني، فالعينان اللتان كانتا على جانبي الرأس قد تحولتا إلى مقدمته، وأنسدلت عليهما الجفون، كما تقاربت فتحتا الأنف، وبدأ صيوان الأذن في الظهور، وتكونت الأصداغ، وبتكوين الأصداغ يتناقص شق الفم الذي كان مثل فم الضفدعة، ثم يتكون اللسان والشفتان. تكوين الهيكل العظمي وكسوته: أما وقد حدث للمضغة ما حدث فلابد لها من هيكل يدعمها فتتكون العظام بين الجلد والحشا، وأول ما يتكون من العظام هو علبة حول المخ، وقضيب بطول الظهر، فأما علبة المخ فتكون عظام الجمجمة، وتترك بينها فجوة تحت النافوخ لتسمح للعظام بالنمو بعد الولادة، وأما قضيب الظهر فيتخرط ويعطي الفقرات، ومنها تمتد أقواس غضروفية إلى أعلى تحيط بالحبل الشوكي لتحميه، وأقواس أخرى إلى أسفل في المنطقة الصدرية لتحمي القلب والرئتين، ومنها يتكون القفص الصدري، وتتكون هياكل الأطراف وتتخرط في أماكن المفاصل المعروفة. وكما يصوغ المثال تمثاله أولاً من الجبس أو الطين، حتى إذا انتهى من تشكيله صب عليه البرونز أو النحاس، كذلك ينشأ الهيكل العظمي أولاً على طراز بدائي من مادة رخوة هي الغضروف، وفي هذا الهيكل الغضروفي وحوله تترسب مادة العظم الصلب. وإذ تنشأ العظام تبدأ العضلات في التخلق، وهي تتكون من الخلايا المتبقية بين الجلد والحشا، وتظل هذه الخلايا تنقسم وتتكاثر وتتجمع حول العظام هنا وهناك حيث تتشكل الألياف، وتتجمع الألياف إلى حزم، والحزم إلى عضلات.. حتى يكسو اللحم كل عظمة وحرقفة. كل هذه التطورات الجنينية منذ ساعة الاخصاب إلى تخلق العظام والعضلات، تشير إليها جميعاً آية واحدة جامعة في سورة (المؤمنون) هي قوله تعالى: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)". تكوين المناسل: وقرب نهاية الشهر الثاني تنشأ المناسل، وأقصد بها أعضاء التناسل الداخلية. وفي أول نشأتها تكون المناسل متشابهة في الذكر والأنثى، ولا توجد أية دلالة خارجية تميز *** الجنين قبل نهاية الشهر الثالث عندما يتم تكوين أعضاء التزاوج الخارجية. ويستغرق تطور المناسل أربعة شهور قبل أن تتميز مناسل الذكر عن مناسل الأنثى، وفي هذه الفترة تهاجر المناسل من مكانها بالتدريج، وتقف مبايض الأنثى عند مكان يقابل عظام الحوض، بينما تنزل خصيتا الذكر في الشهر السابع، وتبرزان خارج الجسم، وتستقران في كيس الصفن في مكانهما المعروف. وفي هذه الأثناء أيضاً تكون أعضاء التزاوج الخارجية قد تم تكوينها، وهي تنشأ في بادئ الأمر على طراز واحد أيضاً، تقف عنده في حالة الأنثى ثم تتطور في حالة الذكر فيتكون كيس الخصي أو الصفن، وينمو البظر الذي تصب في نهايته القناة البولية التناسلية حتى يتحول إلى العضو المعروف. وإذا كان الذكر قد أكد سبقه في تطوير مناسله تطويراً ظاهراً، فإن الأنثى لها كذلك ما يميزها في هذا المجال، ففي داخل جسمها يحدث تغير في المجاري التناسلية، فتتسع فوهة قناة المبيض، ويتكون الرحم، وتنفصل فتحة التناسل عن فتحة البول، بما تستلزمه طبيعة الأنثى التي تحمل وتلد. أما في الذكر فتظل قناة المني متصلة بقناة البول طول حياته، ولعل من الانصاف أن نعترف بدون مكابرة، أن مناسلنا تنشأ مع أعضاء البول من عناصر واحدة، ثم يتكون لنا جهاز بولي على طراز جديد، وتتطور المناسل من أنقاض الجهاز البولي القديم، وتظل أجهزة التناسل متصلة بأجهزة التبول في الذكور طول حياتهم، كشاهد على نشأتهما المشتركة. والله سبحانه وتعالى يذكرنا بهذا الأصل، حتى يحد المكابرون من كبريائهم، إذ يقول تعالى: "أَلَمْ نَخْلُقْكُّمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)". بين الصلب والترائب: والطريقة التي تنشأ بها المناسل وتتطور، قد تلقي بعض الضوء على مشكلة أتعبت كثيراً من المفسرين، فتساعدهم على فهم قوله تعالى: "فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)". ويكاد القارئ يجد إجماعاً من المفسرين على أن الصلب هو العمود الفقري للرجل، والترائب هي عظام الصدر، أو موضع القلادة من المرأة.. وذهب بعضهم إلى أن الصلب كناية عن الرجل، والترائب كناية عن المرأة. ولا أدري لماذا نلجأ إلى الكناية ونترك المعنى الصريح ؟ كما لا أدري لماذا يختص الرجل وحده بالصلب، والمرأة وحدها بالترائب، ولكل منهما صلب وترائب؟ ولقد ظل هذا الرأي متداولاً إلى أن جاء المرحوم الشيخ المراغي، فخطا خطوة جريئة بأن عرض هذه الآية على طبيب مسلم هو الدكتور عبدالحميد العرابي، وخلاصة رأي الدكتور العرابي مع شيء من الايضاح هي: أن المناسل تنشأ من أنقاض الكليتين القديمتين، على جانبي عمود الظهر بحذاء الفقرة التي تغطي آخر قوس من أقواس القفص الصدري، وبالرغم من أن المناسل تنحدر أثناء تطورها إلى أسفل الجسم، بل وتبرز خارجة في حالة الذكر، إلا أن الشريان الذي يغذيها بالدم طول حياتها يتفرع من الشريان الأورطي عند نقطة منشأ الكليتين، كما أن الأعصاب التي تنقل الإحساس إلى المناسل، وتحفزها على الإفراز متفرعة من العصب الصدري العاشر الذي يغادر النخاع بين الضلعين العاشر والحادي عشر.. وكل هذه تأخذ موضعها من الجسم فيما بين الصلب والترائب.. وبهذا أزيح الستار عن حقيقة علمية هامة اكتشفها علم الأجنة اليوم، بينما أشار إليها القرآن منذ أكثر من ألف وثلاثمائة عام، بل وأمرنا الله سبحانه وتعالى أمراً صريحاً أن نسبق غيرنا إلى استجلائها، إذا يقول جل وعلا: "فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)". *** الجنين: والمناسل – وإن كانت لا تقوم بوظائفها إلا عند البلوغ – حين تحيض الأنثى ويمني الذكر – إلا أنها تحمل في داخلها منذ نشأتها بواكير نوع بعينه من الخلايا ال***ية.. فإن صفة الذكورة والأنوثة شأنها شأن جميع صفات الكائن الحي، تتقرر في النطفة الأمشاج بعد الاخصاب مباشرة، ذلك أن الحيوانات المنوية للإنسان نوعان: نوع يحمل في داخله العوامل الوراثية المؤدية إلى الذكورة، ونوع لا يحمل هذه العوامل. فإذا تم إخصاب البويضة بحيوان منوي من النوع الأول، كانت صفة ال*** المتكونة في النطفة هي الذكورة، وأما إذا تم الاخصاب بواسطة حيوان منوي من النوع الثاني، فإن صفة الأنوثة هي التي تتكون في النطفة، وهذه حقيقة قد أثبتها علم الوراثة منذ أكثر من قرن وندركها لو تدبرنا جيداً قوله تعالى: "أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى (39)". ف*** الجنين إذن، ذكراً كان أم أنثى، مقرر منذ ساعة الاخصاب، وهو متوقف على نوع الحيوان المنوي، ولا صحة مطلقاً لدعاوى المدعين، بإمكان التحكم في *** الجنين، فمن ذا الذي في إمكانه أن يتحكم في هذه الملايين من الحيوانات المنوية الدقيقة، لينتخب من بينها واحداً بعينه، يخصب به البويضة ؟ سبحان الله وتعالى عما يمترون!! "إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ". "يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا". الطفل الخنثى: وقد يسأل سائل ولكننا نسمع عن عمليات جراحية تقلب النساء رجالاً والرجال نساء، فما قول علم الأجنة في هذا ؟. الجواب: إنه قد تحدث اضطرابات في نمو المناسل قبل الولادة، تنحرف بأحد ال***ين عن طريق اكتماله، وقتربه من ال*** الآخر، وعندئذ يخرج إلى الحياة مخلوق بين بين: لا هو بالذكر ولا هو بالأنثى – وإن كنا نسميه تجاوزاً بالخنثى – وعندئذ يتدخل مبضع الجراح لإصلاح هذه الاضطرابات، بأن يجتث جزءاً من العضو النامي نمواً شاذاً، فيحد من نشاطه الشاذ، ويتيح للمناسل أن تفصح عن طبيعتها أكثر... ولكن هذه العمليات الجراحية ليست بحال من الأحوال تحويلاً لأحد ال***ين إلى ال*** الآخر كما يفهم، وإنما هي عملية رد لل*** إلى صفته المقررة له منذ البداية. *** الجنين إذن يتقرر ساعة الاخصاب، ويفصح عن نفسه بعد نزول الخصيتين في الشهر السابع، ونراه بأعيننا بعد الولادة، ولكن في الحالات الشاذة قد يتأخر وضوح ال*** إلى دور البلوغ، وعندئذ يتدخل مبضع الجراح ليعين المناسل على الافصاح عن طبيعتها لا أكثر ولا أقل. وظاهرة تقرير ال*** منذ البداية، ثم تميزه بعد ذلك، ليسا في نظري ظاهرتين مختلفتين، وإنما هما شقان متكاملان لظاهرة واحدة، وشأنها في ذلك شأن كثير من الظواهر التي تمر بنا ونردها إلى القضاء والقدر، فلو جاز التشبيه لقلت إن تقرير ال*** ساعة الاخصاب هو القدر الذي يكتبه الله سبحانه وتعالى على الجنين في عالم الغيب، وظهور هذا ال*** فيما بعد هو القضاء، هو تنفيذ مشيئة الله في الجنين بعد تهيئة الأسباب لذلك. الجنين يحمل ذريته: وعملية تكوين المناسل تعتبر نقطة تحول في كل تطور جنيني: ذلك أنها لا تعني فقط إظهار *** الجنين فحسب، بل تعني أبعد من هذا، تعني أن هذا الجنين قد بدأ يحمل في داخله البذور اللازمة لاستمرار النوع، والتي بدونها ينقرض نوعه بعد وفاته... ومعنى ذلك أن ذرية الانسان تنشأ في جسمه وهو ما زال – يعد – جنيناً في بطن أمه... ولو جاز التعبير لقلت: إن الواحد منا يخلق في بطن أمه خلقين: يخلق مرتين، مرة يخلق بذاته هو، ومرة يخلق على صورة الجيل المرتقب من ذريته.. وليس متعذراً أن نفهم هذا ونقره، ونحن نتلوا قول الله تعالى في سرد قصة الجنين: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)". اللمسات النهائية: ويطول بي الشرح لو تتبعت تطور كل عضو من أعضاء الإنسان منذ نشأته إلى لحظة اكتماله... ويكفي أن أقول: إن الجنين وعمره ثلاثة أشهر، يكون قد تم تخلق جميع أحشائه وأعضائه، وطوله عند ذلك لا يزيد على شبر. ومنذ بدء الشهر الرابع إلى ساعة الوضع لا تعتري الجنين تطورات جوهرية غير وضوح ***ه، وكبر حجمه شهراً بشهر، وترسب الشحم تحت جلده المتغضن المترهل مما يكسبه مظهر الامتلاء، بالاضافة إلى بعض اللمسات النهائية مثل: ظهور بصمات الأصابع المميزة لكل جنين فرد في الشهر الرابع، وظهور شعر الرأس والأظافر في الشهر الخامس، وانشقاق الجفون عن عينين مكتملتين في الشهر السادس. حركة الجنين: وبالرغم من اكتمال كافة أحشاء الجنين في هذا الدور المبكر، إلا أنها تظل معطلة إلى ساعة الولادة فيما عدا القلب والعضلات التي تقوم بوظائفها بعد اكتمالها مباشرة. فأما القلب فينبض أولى نبضاته في الشهر الثاني ليدفع الدم إلى باقي الأحشاء، وإن كنا لا نستطيع تسمع نبضاته إلا في الشهر السادس، وأما العضلات فتبدأ في الانقباض في الشهر السادس، وبذلك يمارس الجنين أولى حركاته الإيجابية.. فيتمطى ويحرك يديه ورجليه، وكأنه يقوم بتمارين رياضية خفيفة يدرب بها عضلاته الطوية. وبالرغم من قيام الجنين بهذه الحركات الايجابية إلا أنه يظل إلى نهاية الشهر السابع معلقاً في النخط – وهو السائل المصلي المحيط به – لا يستقر على وضع معين. ومن الصعب التحكم في وضع الجنين قبل هذا الشهر إذ إنه قد يعود فيستقر على وضع مخالف بقوة دفع هذا السائل.. فإذا ما تم اكتمال الجنين وملأ فراغ الرحم وثقل وزنه، فإن رأسه – وهي أثقل جزء فيه – تسقط إلى أسفل بفعل جاذبية الأرض، وبذلك يتخذ الجنين أصلح وضع للولادة الطبيعية.. الخروج من السجن: وقبل الوضع باسبوعين تشتد حركة الجنين وت*** وتتوالى لكماته وركلاته على جدار الرحم، فكأنه ضاق بالسجن الذي عاش فيه تسعة أشهر كاملة، فبدأ يطرق الجدران المطبقة حوله، وكأنه يعلن احتجاجه.. ويبدأ جدار الرحم في الانقباض العنيف المتواصل.. وتنفجر نتيجة لذلك أغشية الجنين، فينبثق النخط، ويتدفق خارج جسم الأم إيذاناً بالولادة... ويبدأ العذاب.. وتتوالى انقباضات الرحم في ***، والجنين متعلق بجداره بمشيمة كالكلابات.. وتتوالى صرخات الأم.. وفي كل صرخة تنسلخ المشيمة رقعة رقعة ويندفع الجنين إلى فوهة الرحم دفعة دفعة.. وسواء أطال العذاب أم قصر، فإن الحياة بإذن الله تنتصر... ويطل الجنين برأسه على العالم الجديد... ويندفع الهواء بقوة من فتحتي الأنف فتنتفخ الرئتان، وتبدأ أول عملية شهيق وفي أقل من ثانية يضغط الحجاب الحاجز على فراغ الصدر، وتتم أول عملية زفير، وتدوي لها أول صرخة للطفل الوليد. وعندما يخرج الطفل إلى الحياة يحمل معه ملحقاته من المشيمة والحبل السري، ونقطع الحبل السري، ولكن تبقى دائماً مكانه ندبة صغيرة لتكون شاهداً على منبت الإنسان. المولود الناقص: وعندما تفيق الأم من آلام الوضع، وتفتح عينيها على طفلها الحبيب وقد أكمل الله خلقه وأحسن صورته، تنسى في لحظات كل ما قاسته من آلام، وما عانته من أهوال.. ألا إن الحياة لا تسير دائماً كما نريد أن تسير، فقد يحدث أن تصيب الأم رجة عنيفة في الشهور الأولى للحمل، أو يضطرب إفراز بعض الغدد الصماء مما يؤدي إلى انفصال الجنين عن الرحم في طور مبكر. وعندئذ يخرج الجنين إلى الحياة كالمسخ المشوه، لنرى فيه كيف كنا، وكيف بدأنا، وليبين لنا الله سبحانه وتعالى عظيم قدرته، وجليل آياته: "يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)". |
العلامات المرجعية |
|
|