اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > قصر الثقافة > المواضيع و المعلومات العامة

المواضيع و المعلومات العامة قسم يختص بعرض المقالات والمعلومات المتنوعة في شتّى المجالات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-03-2015, 05:17 PM
هريسي هريسي غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Mar 2015
العمر: 26
المشاركات: 1
معدل تقييم المستوى: 0
هريسي is on a distinguished road
افتراضي التوابع و الزوابع


المدخل زهير بن نمير
لله أبا بكر ظنٌّ رميته فأصميتَ، وحَدسٌ أملته فما أشويت أبدَيتَ بهما وجه الجليّة، وكشفت إن غُرَّةِ الحقيقة، حين لمحت صاحبك الذي تكسّبته ورأيته قد أخذ بأطراف السّماء، فألف بين قمريها، ونظم فرقديها، فكلما رأى ثغراً سدَّه بسُهاها، أو لمَح خرقاً رمَّه بزُباناها، إلى غير ذلك. فقلت: كيف أوني الحُكم صبياً، وهز بجدعِ نخلة الكلام فاساقط عليه رُطباً؛ أما إن به شيطاناً يهديه، وشيصباناَ يأتيه وأقسم أنَّ له تابعة تُنجدُه، وزابعة تؤيدّه، ليس هذا في قدرة الإنس، ولا هذا النفس لهذه النفس. فأما وقد قُلتها، أبا بكرٍ، فأصِخ أسمعك العجب العُجاب: كنت أيّام كُتاب الهجاء، أحِنُّ إلى الأدباء، وأصبُو إلى تأليف الكلام؛ فاتبعتُ الدَّواوين، وجلستُ إلى الأساتيذ، فنبض لي عِرقُ الفهم، ودرَّ لي شريانٌ العلم، بموادَّ روحانية، وقليلُ الالتماح من النظر يزيدني، ويَسييرُ المطالعةِ من الكتب يُفيدُني، إذ صادف شنٌّ العلم طبقة. ولم أكُن كالثلجِ تقتبس منه ناراً، ولا كالحمار يحملُ أسفاراً. فطعنت ثُغرة البيان دراكاً، وأعلقتُ رجل طيره أشراكاً، فانثالث لي العجائب، وانهالت عليَّ الرغائب. وكان لي أوائِل صبوتي هوى اشتدَّ به كلفي، ثم لحقني بعد مَلَلٌ في أثناء ذلك المَيل. فاتفق أن مات من كنتُ أهواه مدَّة ذلك المَلَل، فجَزِعتُ وأخذتُ في رثائه يوماً في الحائرِ، وقد أُبهمت علي أبوابُه، وانفردتُ فقلت:
تولى الحِمامُ بظبيِ الخُدُورِ، ... وفازَ الرَّدى بالغزالِ الغريرِ
إلى أن انتهيتُ إلى الاعتذارِ من المَلَل الذي كان، فقلت:
وكنتُ مَلِتُكَ لا عن قِلىً، ... ولا عن فسادٍ جرى في ضميري
فأُرتجَ عليَّ القولُ وأُفحمتُ،فإذا أنا بفارسٍ ببابِ المجلِس على فرسٍ أدهم كما بَقَل وجهُه، قد اتكأ على رُمحه، وصاح بي: أعجزاً يا فتى الإنس؟ قلتُ: لا وأبيك، للكلامِ أحيان، وهذا شأنُ الإنسان! قال لي: قُل بعده:
كمِثلِ مَلالِ الفتى للنعيم، ... إذا دامَ فيه، وحالِ السُّرورِ
فأثبتُّ إجازته، وقلت له: بأبي أنت! من أنت؟ قال: أنا زُهيرُ ابن نُمير من أشجعِ الجنِ. فقلتُ: وما الذي حداكَ إلى التصوُّرِ لي؟ فقال: هوى فيك، ورغبةٌ في اصطفائك. قلت: أهلاً بك أيها الوجهُ الوضاح، صادفن قلباً إليك مقلوباً، وهوى نحوك مجنوباً. وتحادثنا حيناً ثم قال: متى شِئتَ استِحضاري فأنشد هذه الأبيات:
والي زُهيرَ الحُبَّ، يا عز، إنه ... إذا ذكرته الذَّاكراتُ أتاها
إذا جرتِ الأفواهُ يوماً يذكرها ... يُخيَّلُ لي أني أقبَّلُ فاها
فأغشى ديار الذَّاكرين، وإن نأتُ ... أجارعُ مِنْ داري، هوى لهواها
وأوثب الأدهم جدار الحائط ثم غاب عني. وكنتُ، أبا بكرٍ، متى أُرتِجَ عليَّ، أو انقطع بي مسلك، أو خانني أُسلوبٌ أنشدُ الأبيات فيمثَّل لي صاحبي، فأسيرُ إلى ما أرغب، وأدركُ بقريحتي ما أطلُب. وتأكدت صًحبتنا، وجرت قصص لولا أن يطول الكتابُ لذكرتُ أكثرها، لكني ذاكرٌ بعضها.
الفصل الأول
توابع الشعراء
شيطان امرئ القيس
تذاكرتُ يوماً مع زُهير بن نُميرٍ أخبار الخُطباء والشعُّراء، وما كان يألفُهُم من توابع والزوابع، وقلتُ: هل حيلةٌ في لقاء من اتفق منهم؟ قال: حتى أستأذن شيخنا. وطار عني ثم انصرف كلمحٍ بالبَصَر، وقد أُذن له، فقال: حُلَّ على متن الجَوادِ. فصرنا عليه؛ وسار بنا كالطائر يجتابُ الجوَّ فالجوَّ، ويقطعُ الدَّوَّ فالدَّوَّ، حتى التمحتُ أرضاً لا كأرضنا، وشارفتُ جواً لا كجوّنا، متفرع الشجر، عطر الزَّهر؛ فقال لي: حللتَ أرض الجن أبا عامر، فبمن تُريدُ أن نبدأ؟ قلتُ: الخطباء أولى بالتقديم، لكني إلى الشعراء أشواق. قال: فمن تُريدُ منهم؟ قلت: صاحب امرئ القيس. فأما العنان إلى وادٍ من الأدوية ذي دَوحٍ تتكسرُ أشجارُه، وتترنمُ أطياره، فصاح: يا عُتيبةُ بن نوفل، بسقط اللّوى فحومل، ويمِ دارةِ جُلجُل، إلاَّ ما عرضتَ علينا وجهك، وأنشدتنا من شعرك، وسمعت من الإنسي، وعرَّفتنا كيف إجازتُك له! فظهر لنا فارسٌ على فرسٍ شقراء كأنها تلتهب، فقال: حياك الله يا زُهير، وحيّا صاحبك أهذا فتاهُم؟
قلتُ: هو هذا، وأيُّ جمرةٍ يا عتُيبة! فقال لي: أنشد؛ فقلتُ: السيدُ أولى بالإنشاد. فتطامح طرفُه، واهتزَّ عطفه، وقبض عنانَ الشقراء وضربها بالسّوط، فسمت تُحضر طُولاً عنّا، وكرَّ فاستقبلنا بالصَّعدةِ هازاً لها، ثم ركزها وجعل يُنشد:
سما لك شوقٌ بعدما كان أقصرا ...
حتى أكمَلها ثم قال: لي: أنشِد؛ فهمتُ بالحيصة، ثم اشتدَّت قُوى نفسي وأنشدت:
شَجَتْهُ مَعانٍ من سُليمى وأدْؤرُ ...
حتى انتهيتُ فيها إلى قول:
ومِن قُبّةٍ لا يُدركُ الطَّرفُ رأسها ... تَزِلُّ بها ريحُ الصَّبا فتحدَّرُ
تكلّفتُها والليلُ قد جاش بحرهُ، وقد جعلت أمواجهُ تتكسرُ
ومن تحت حضني أبيضٌ ذو سفاسقٍ، ... وفي الكفّ من عسّالةِ الخطّ أسمرُ
هُما صاحباي من لدُن كنتُ يافعاً، ... مُقِيلانِ من جدّ الفتى حين يعثُرُ
فذا جدولٌ في الغمدِ تُسقى به المنى، وذا غُصُنٌ في الكفّ يُجنى فيثُمرُ
فلما انتهيتُ تأملني عُتيبةُ ثم قال: اذهب أجزتُك. وغاب عنّا.
الفصل الثاني
توابع الكتاب
صاحبا الجاحظ وعبد الحميد
فقال لي زهير: من تريد بعده؟ فقلت: ملْ بي إلى الخُطباء، فقد قضيتُ وَطَراً من الشعراء. فركضنا حيناً طاعنين في مطلع الشمس، ولقينا فارساً أسرّ إلى زهير، وانجزع عنا، فقال لي زهير: جُمعتْ لك خُطباء الجنّ بمَرْج دُهمان، وبيننا وبينهم فرسخان، فقد كُفيتُ العناء إليهم على انفرادهم. قلت: لم ذاك؟ قال: للفَرْق بين كلامين اختلف فيه فتيان الجن.
وانتهينا إلى المَرْج فإذا بنادٍ عظيم، قد جمع كل زعيم، فصاح زهير: السلام على فُرسان الكلام. فردّوا وأشاروا بالنزول. فأفرجوا حتى صرنا مركز هالةِ مجلسهم، والكل منهم ناظرٌ إلى شيخٍ أصلع، جاحظ العين اليُمنى، على رأسه قلَنسوةٌ بيضاء طويلة. فقلت سرّاً لزهير: من ذلك؟ قال: عُتْبةُ بن أرقم صاحب الجاحظ، وكُنيتُه أبو عُيينة. قلت: بأبي هو! ليس رغبتي سواه، وغير صاحب عبد الحميد. فقال لي: إنه ذلك الشيخ الذي إلى جنبه. وعرّفه صَغوي إليه وقولي فيه. فاستدناني وأخذ في الكلام معي، فصمت أهل المجلس، فقال: إنك لخطيب، وحائكٌ للكلام مُجيد، لولا أنك مُغْزىً بالسجع، فكلامك نظمٌ لا نثر.
فقلتُ في نفسي: قرعَكَ، بالله، بقارعته، وجاءك بمُماثَلته. ثم قلت له: ليس هذا، أعزّك الله، منّي جَهلاً بأمر السجع، وما في المماثَلة والمقابلة من فضْل، ولكني عدمتُ فرسان الكلام، ودُهيتُ بغباوة أهل الزمان، وبالحَرا أن أحرِّكهم بالازدواج. ولو فرشتُ للكلام فيهم طَولقاً، وتحركت لهم حركة مَشُوْلم، لكان أرفع لي عندهم، وأولج في نفوسهم.
فقال: أهذا على تلك المناظر، وكبَر تلك المحابر، وكمال تلك الطيالس؟ قلت: نعم، إنها لِحاء الشجر، وليش ثمّ ثمرٌ ولا عَبَق. قال لي: صدقتَ، إني أراك قد ماثلْتَ معي. قلت: كما سمعت. قال: فكيف كلامهم بينهم؟ قلت: ليس لسيبويه فيه عمل، ولا للفَراهيدي إليه طريق، ولا للبَيان عليه سمة. إنما هي لُكنةٌ أعجميةٌ يُؤدّون بها المعاني تأدية المَجوس والنَّبَط. فصاح: إنا لله، ذهبت العربُ وكلامُها! ارمهم يا هذا بسَجع الكُهّان، فعسى أن ينفعك عندهم، ويُطير لك ذِكراً فيهم. وما أُراك، مع ذلك، إلا ثقيل الوطأة عليهم، كَريهَ المجيء إليهم.
فقال الشيخ الذي إلى جانبه، وقد علمتُ أنه صاحب عبد الحميد، ونفسي مرتقِبةٌ إلى ما يكون منه: لا يَغُرَّنْك منه، أبا عُيينة، ما تكلّف لك من المماثلة، إن السجع لطبعه، وإن ما أسمّعك كُلْفة. ولو امتدّ به طَلَقُ الكلام، وجرت أفراسه في مَيْدان البَيان، لصلى كَودَنُه وكل بُرثُنُه. وما أُراه إلاّ من اللُّكْن الذين ذّكَر، وإلاّ فما للفصاحة لا تهدِر، ولا للأعْرابية لا تومِض؟ فقلتُ في نفسي: طبع عبد الحميد ومساقُه، وربِّ الكعبة! فقلت له: لقد عجِلْتَ، أبا هُبيرة، - وقد كان زهيرٌ عرّفني بكُنيته - إنّ قوسَكَ لنبع، وإن سهمك لسُمّ، أحِماراً رميتَ أن إنساناً، وقعقعةً طلبْتَ أم بَياناً؟ وأبيك، إن البَيان لصعْب، وإنك منه لفي عباءةٍ تتكشّف عنها أسْتاه معانيك، تكشُّف اسْتِ العَنْز عم ذنبها. الزمان دفءٌ لا قُرّ، والكلام، عراقي لا شامي. إني لأرى من دم اليَربوع بكفّيك، وألمح من كُشى الضبّ على ماضِغيك. فتبسّم إليّ وقال: أهكذا أنت يا أُطَيلِسْ، تركَب لكلٍّ نهجه، وتعجّ إليه عجّه؟ فقلت: الذئب أطلس، وإنّ التيْس ما علمْت! فصاح به أبو عُيينة: لا تعرِض له، وبالحَرا أن تخْلُص منه. فقلت: الحمد لله خالق الأنام في بطون الأنعام! فقال: إنها كافيةٌ لو كان له جِحْر. فبَسَطاني وسألاني أن أقرأ عليهما من رسائلي، فقرأتُ رسالتي في صفة البَرْد والنار والحطب فاستحسناها.
الفصل الثالث نقاد الجن
مجلس أدب

وحضرتُ أنا أيضاً وزهيرٌ مجلساً من مجالسِ الجن، فتذاكرنا ما تعاورته الشعراْ من المعاني، ومن زاد فأحسن الأخذ، ومن قصر. فأنشد قول الأفوه
الفصل الرابع حيوان الجن
لغة الحمير

ومشيتُ يوماً وزهير بأرض الجن أيضاً نتقرَّى الفوائد ونعتمدُ أندية أهل الآداب منهم، إذ أشرفنا على قرارةٍ غناء، تفنرُّ عن بركة ماء، وفيها عانةٌ من حُمُر الجن وبغالهم، قد أصابها أولق فهي تصطكُّ بالحوافر، وتنفُخ من المناخر، وقد اشتدَّ ضُراطُها، وعلا شحيجها وهاقها. فلما بصرت بنا أجفلت إلينا وهي تقول: جاءكم على رجليه! فارتعتُ لذلك، فتبسَّم زهيرٌ وقد عرف القصد، وقال لي: تهيأ للحكم. فلما لحقت بنا بد أني بالتفدية، وحيتني بالتكنية. فقلت: ما الخطبُ، حُمي حماك أيتها العانة، وأخصب مرعاك؟ قالت: شعران لحمارٍ وبغل من عشَّاقنا اختلفنا فيها، وقد رضيناك حكماً قلت: حتى أسمع. فقدَّمت إليَّ بغلةٌ شهباء، عليها جلُّها وبرقُعها، لم تدخل فيما دخلت فيه العانةُ من سوء العجلة وسُخفِ الحركة، فقالت: أحدُ الشِّعرين لبغلٍ من بغالنا وهو:
على كل صب من هواهُ دليلُ: ... سقامٌ على حر الجوى، ونُحُولُ
وما زال هذا الحبُّ داءً مُبرحاً، إذا ما اعترى بغلاً فليس يزولُ
بنفسي التي أما ملاحظُ طرفها ... فسحرٌ، وأما خدُّها فأسيلُ
تعبتُ بما حُملتُ من ثقل حُبها، ... وإني لبغلٌ للثقالِ حمُولُ
وما نلتُ منها نائلاً غير أنني ... إذا هي بالت بُلتُ حيثُ تبُولُ
والشِّعر الآخرُ لدُكينٍ الحمار:
دُهيتُ بهذا الحب منذُ هويثُ، ... وراثت إراداتي فلستُ أريثُ
كّلفتُ بإلفي منذ عشرين حجةً، ... يجُولُ هواها في الحشا ويعيثُ
ومالي من برحِ الصَّبابة مخلصٌ، ... ولا لي من فيضِ السّقامِ مُغيثُ
وغير منها قلبها لي نميـــــــــــــــــــمةٌ، ... نماها أحــــــــــمُّ الخُصيتينِ خبيثُ
وما نلتُ منها نائلـــــــاً، غير أنّنــــي ... إذا هي راثتُ حيـــــــــــــــثُ تروثُ
فضحك زهيرٌ، وتماسكتُ، وقلتُ للمنشدة: ما هويتُ؟ قالت: هو هويبُ، بلغة الحمير. فقلت: والله، إن للرَّوثِ رائحة كريهةً، وقد كان أنف الناقة أجدر أن يحكم في الشعر! فقالت: فهمت عنك وأشارت إلى العانة أنَّ دُكيناً مغلوباً؛ ثم انصرفت قانعة راضية.
وقالت لي البغلة: أما تعرفني أبا عامر؟ قلت: لو كانت ثمَّ علامة! فأماطت لثامها، فإذا هي بغلةُ أبي عيسى، والخالُ على خدها، فتباكينا طويلاً، وأخذنا في ذكر أيامنا، فقالت: ما أبقيت منك؟ قلت: ما ترين. قالت: شبَّ عمرٌو عن الطوق! فما فعل الأحبة بعدي، أهم على العهد؟ قلتُ: شبَّ الغِلمان، وشاخ الفتيان، وتنكرتِ الخلاَّن؛ ومن إخوانك من بلغ الإمارة، وانتهى إلى الوزارة. فتنفستِ الصُّعداء، وقالت: سقاهم الله سبل العهد، وإن حالوا عن العهد، ونسُوا أيام الود. بحرمة الأدب، إلاَّ ما أقرأتهم مني السلام؛ قلت: كما تأمرين وأكثر.
الإوزة الأدبية
وكانت في البركة بقُربنا إوزَّةٌ بيضاء شهلاء، في مثل جُثمانِ النّعامة، كأنما ذُرَّ عليها الكافور، أو لبست غلالةً من دمقس الحرير، لم أر أخفَّ من رأسها حركة، ولا أحسن للماء في ظهرها صباً، تثني سالفتها، وتكسر حدقتها، وتُلولبُ قمحدوتها، فترى الحُسن مستعاراً منها، والشكل مأخوذاً عنها، فصاحت بالبغلة: لقد حكمتُهم بالهور، ورضيتم من حاكمكم بغير الرّضا.
فقلتُ لزهير: ما شأنها؟ قال: هي تابعةُ شيخٍ من مشيختكم، تسمى العاقلة، وتُكنى أمَّ خفيف، وهي ذات حظٍ من الأدب، فاستعدَّ لها. فقلتُ: أيتها الإوزةُ الجميلة، العريضةُ الطويلة، أيحسنُ بجمال حدفتيك، واعتدال منكبيك، واستقامة جناحيك، وطول جيدك، وصغر رأسك، مقابلةُ الضَّيف بمثل هذا الكلام، وتلقي الطارئ الغريب بشبه هذا المقال؟ وأنا الذي همت بالإوزة صبابةً، واحتملت في الكلف بها عضَّ كل مقالة؛ وأنا الذي استرجعتها إلى الوطن المألوف، وحببتُها إلى كل غطريف، فاتخذتها السادة بأرضنا واستهلك عليها الظُّرفاء منا، ورضيت بدلاً من العصافير، ومُتكلمّات الزرازير، ونُسيت لذَّةُ الحمام، ونقارُ الدُّيوك، ونطاحُ الكباش.
فدخلها العُجبُ من كلامي، ثم رفعت وقد اعترتها خفةٌ شديدةٌ في مائها، فمرَّةً سابحة، ومرةً طائرة، تتغمسُ هنا وتخرجُ هناك، قد تقبب جناحاها، وانتصبت ذُناباها، وهي تُطرب تطريب السرور؛ وهذا الفعل معروفٌ من الإوز عند الفرح والمرح. ثم سكنت وأقامت عُنقها، وعرَّضت صدرها، وعلمت بمجدافيها، واستقبلتنا جائيةً كصدر المركب، فقالت: أيها الغارُّ المغرور، كيف تحكم في الفروع وأنت لا تُحكمُ الأصول؟ ما الذي تُحسن؟ فقلت: ارتجال شعر، واقتضابٌ خُطبة، على حُكم المقترح والنُّصبة. قالت: ليس عن هذا أسالُك. قلت: ولا بغير هذا أجاوبك. قالت حكم الجواب أن يقع على أصل السؤال، وأنا إنما أردتُ بذلك إحسان النّحو والغريبِ اللذين هما أصلُ الكلام، ومادَّةُ البيان. قلت: لا جوابَ عندي غير ما سمعت. قالت: أُقسم أنَّ هذا منك غير داخلٍ في باب الجدل. فقلت: وبالجدل تطلُبيننا وقد عقدنا سلمه، وكُفينا حربه، وإنَّ ما رميتكِ به منه لأنفذُ سهامه، وأحدُّ حرابه، وهو من تعاليم الله. عزَّ وجلَّ، عندنا في الجدل في مُحكم تنزيله. قالت: أُقسم أنَّ الله ما علمك الجدل في كتابة قلت: محمول عنك أمَّ خفيف، لا يلزمُ الإوزةَّ حفظُ أدب القرآن، قال الله، عزَّ وجلَّ، في مُحكم كتابه حاكياً عن نبيه إبراهيم، عليه السلام: " ربي الذي يُحيي ويُميتُ، قال: أنا أُحيي وأميت " . فكان لهذا الكلام من الكافر جواب، وعلى وجوبه مقال؛ ولكنَّ النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، لما لاحت له الواضحةُ القاطعةُ، رماهُ بها، وأضرب عن الكلام الأول، قال: " فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، فلهت الذي كفر " وأنا لا أُحسنُ غير ارتجال شعر، واقتضاب خُطبة، على حُكم المُقترح والنُّصبة، فاهتزَّت من جانبيها، وحال الماء من عينيها، وهمّت بالطيران. ثم اعتراها ما يعتري الإوزَّ من الألفة وحسن الرَّجعة، فقدَّمت عنُقها ورأسها إلينا نمشي نحونا رويداً، وتنطق نطقاً مُتداركاً خفياً، وهو فعل الإوز إذا أنست واستراضت وتذلَّلت؛ على أني أحبُّ الإوزَّ وأستظرفُ حركاتِها وما يعرِضُ من سخافاتها.
ثم تكلمتُ بها مبسبساً، ولها مؤنساً، حتى خالتتنا وقد عقدنا سلمها وكُفينا حربها، فقلت: يا أم خفيف، بالذي جعل غذاءك ماء، وحشا رأسك هواء، ألا أيما أفضل: الأدبُ أم العقل؟ قالت: بل العقل. قلتُ: فهل تعرفين في الخلائق أحمق من إوزَّة، ودعيني من مثلهم في الحُبارى؟ قالت: لا قلت: فتطلبي عقل التَّجربة، إذ لا سبيل لك إلى عقل الطبيعة، فإذا أحرزت منه نصيباً، وبؤتِ منه بحظ، فحينئذٍ ناظري في الأدب. فانصرفت وانصرفنا.
تمت الرسالة بحمد لله.
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
رحلة في عالم الجن


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 10:13 AM.