#1
|
|||
|
|||
من فقه أهل الهداية
من فقه أهل الهداية لم يَزَلْ أصحابُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم، ورضي الله عنهم - قُدوةَ المهتَدِين الهادِين عبر كلِّ زمان ومكان، وليست تلك القُدوة خاصَّة ببابٍ من أبواب الدِّين دون غيرِه، بل شاملة لكلِّ شؤون الأمَّة العلميَّة أو العمليَّة أو الدعويَّة. ونحن كثيرًا ما نغفل جَوانِب من مناهج الصَّحابة - رضِي الله عنهم - في خِضَمِّ الصِّراعات وكثْرة الشَّتات، فنظنُّ أنَّ الاقتِداء بتلك الثُّلَّة المُبارَكة - رضي الله عنهم - يكون في الاعتِقاد فحسب، أو في العمل إلى جانب الاعتِقاد وكفى، أو في كذا، أو كذا، فنُجانِب شموليَّتهم الربانيَّة من حيث لا نَدرِي، أو من حيث يَقودُنا الهوى. وقد كان لصحابة رسولِنا - صلى الله عليه وسلم - منهجٌ مُتكامِل اقتبَسُوه من عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تلقَّوه من فِيه تمامًا، هذا المنهج الدَّقيق في العِلم والعمَل، وفي التصوُّر والسُّلوك هو الذي أهَّلهم ليكونوا نُجُومًا تهتَدِي بهم الأمَّة في كلِّ زمان. وكان من هذا المنهج الرَّباني ما يُمكِن أنْ نُسمِّيه اليوم "منهج الدعوة الداخلي"؛ أي: منهج الدَّعوة للحقِّ بين أهل الإسلام على اختِلاف طُرقِهم العقديَّة والمنهجيَّة، ففضُّ الصِّراعات بين الاتِّجاهات الإسلاميَّة مَنهَجٌ حقَّقه الصَّحابة - رضي الله عنهم - على أفضل وُجوهِه المُمكِنة والمُتاحَة، كما أرجع ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - ألفَيْن من الخوارج عن مُحارَبة عليٍّ - رضي الله عنه - [النسائي، وصحَّحه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي]، وغير ذلك من الأمثلة التي نستَلهِم منها مَناهِج القوم القَوِيمة في هِدايَة الخَلْقِ للحقِّ. ومن هذا: ما روَى الإمام مسلمٌ - رحمه الله - في "صحيحه" عن يزيد الفقير قال: "كنتُ قد شغفَنِي رأيٌ من رأيِ الخوارج، فخرَجنا في عِصابَة ذوي عددٍ نريد أنْ نحجَّ ثم نخرُج على الناس، قال: فمرَرْنا على المدينة فإذا جابر بن عبدالله يُحدِّث القوم - جالس إلى سارية - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإذا هو قد ذكَر الجهنَّميين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تُحدِّثون والله يقول: ﴿ إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾ [آل عمران: 192]، و ﴿ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا ﴾ [الحج: 22]؟! فما هذا الذي تقولون؟! قال: فقال - أي: جابر -: أتَقرَأ القُرآن؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعتَ بمقام محمدٍ - عليه السلام - يعنى: الذي يبعثه الله فيه؟ قلت: نعم، قال: فإنَّه مقامُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - المحمود الذي يخرج الله به مَن يخرج، قال: ثم نعَت - أي: جابر - وضْع الصراط ومرَّ النَّاسِ عليه، قال - أي: يزيد الفقير -: وأخاف ألاَّ أكون أحفَظ ذاك، قال: غير أنَّه قد زعَم أنَّ قومًا يَخرُجون من النار بعد أنْ يكونوا فيها، قال: يعنى: فيَخرُجون كأنهم عِيدان السَّماسم، قال: فيَدخُلون نهرًا من أنهار الجنَّة فيغتَسِلون فيه فيخرجون كأنهم القَراطِيس، فرجعنا قلنا: وَيْحَكم! أترَوْن الشيخ يَكذِب على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟! فرجعنا، فلا والله ما خرَج منَّا غيرُ رجلٍ واحدٍ. وفي هذا الأثَر فوائدُ منهجيَّة دعويَّة كثيرة، ككلِّ ما يرد عن صَحابة نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم، ورضي الله عنهم. الحاجة لأهل العلم: ففيه الحاجَة إلى أهل العِلم الذين يهدون الضُّلاَّل والمُنحَرِفين عن الحقِّ بكتاب الله - تعالى - وسُنَّة رسولِه - صلى الله عليه وسلم - وكم من الناس يَضِلُّ الطريق؛ لعجز أهل الحقِّ عن البَيان والهُدَى، وكم من الناس يَنجُو بأهْل العلم والحقِّ، كما رجَع هؤلاء الذين كانوا مع يزيد الفقير بحديثٍ حدَّثهم به جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولولا أنْ سخَّرَه الله لهم لضَلُّوا وأضَلُّوا. أهمية تصَدُّر أهل الحقِّ: كما فيه وجوب تصدُّر أهل الحقِّ للناس، وإلاَّ استَعاضوا عنهم بغَيرِهم ممَّن قد لا يُرتَضى علميًّا أو منهجيًّا؛ ولهذا تفرَّق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأمصار بعد مَوتِه؛ يُعلِّمون الناسَ ويهدونهم الطريق، ولم تقع الفِتَنُ بعدَه - صلى الله عليه وسلم - حتى كثُر الناس وتصدَّر مَن ليس بأهل. فالناس إنْ لم يسمَعُوا من أهْل العلم والتمكُّن، سمعوا ولا بُدَّ من غيرهم، فتَقَع الفِتَنُ، وتقَع الانحِرافات عن الحقِّ، ومَجالات الدَّعوة اليومَ كثيرة، والحاجة لأهل الحقِّ عظيمة، وتصدُّر مَن ليس بأهْل حاضر وبكَثْرَة! المناصحة الصحيحة: وهي المتضمِّنة لعرض النصِّ الشرعي بحكمة، فكلُّ مسلمٍ يرجو ما عند الله - تعالى - لا يسَعُه غير قَبُولِ قول الله - تعالى - وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يَحِيد كثيرون عن الحقِّ؛ لضَعْفِ بَيان أهل المناصحة. وهنا جابر - رضي الله عنه - سمع من يزيد وأصحابه وناقشَهُم فيما يستدلُّون به، وردَّهم عن المُتَشابِه بالنص المحكم البيِّن. وكثيرٌ مِنَّا اليوم يكتَفِي بالبَيانات العامَّة والخِطابات الشعاريَّة في مُواجَهة الفرق والاتِّجاهات المنحرفة، وكأنَّ مُخالِفينا ليس لهم في حَدِيثنا نصيبٌ، وإنما أردنا فقط التشويشَ على المُخالِف، والتَّشنِيع عليه، وفَضَّ الناس عنه، وهذا في الحقيقة فتنةٌ للمخالف؛ إذ سيقول: لو كان هؤلاء على حَقٍّ لناقَشُوا، كما هو فتنةٌ للناس الذين ينتَظِرون رُدودًا علميَّة على ما سمعوا من المُخالِف وركز في خلدهم. وقد كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُناقِشون مُخالِفيهم من أهل البِدَع المستحدَثة بالدليل، وهم - رضي الله عنهم - أعلى مَقامًا وقَدرًا وعِلمًا، ونحن الآن نستَعلِي بخِطابنا على إخواننا الذين ربما لم ترتَقِ مُخالَفاتهم لتكون بِدَعًا، فضلاً عن تَساوِي مَراتِبنا العلميَّة والعمليَّة والدعويَّة تقريبًا، فقط يكتَفِي كثيرون منَّا بالشعارات بدل المُناقَشات العلميَّة والمُناصَحات الدعويَّة، وهذا ممَّا يزيد الفتنة اشتِعالاً في الساحة الإسلاميَّة. قراءة ما انطَوَتْ عليه النُّفوس: فهؤلاء الذين خرَجُوا مع يزيد يُرِيدون الحجَّ ثم الخروج على جماعة المسلمين، لو لم يكونوا صادَفُوا داعيةً يخاطب ما انطَوَتْ عليه نفوسُهم، لكان مَصِيرُهم مُتابَعة الخوارج ومُجانَبة منهج الصحابة - رضِي الله عنهم. وقد كان عُلَماء الأمَّة قديمًا يُحدِّثون الناسَ بما يَحتاجون، فيُحدِّثونهم عن فَضائل عليٍّ - رضي الله عنه - في الشام، وفضائل مُخالِفيه في العراق، ولعلَّه من هذا الباب حدَّث جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - الناس بحديث الجهنَّميين، فقد كانت فتنة الخوارج قد عمَّت. وإنما يتصدَّى الدُّعاة الهُداة للفِتَن في القلوب قبل نَشأتها، ولا ينتَظِرون حتى إذا تغَلغَلت الفِتَن في النُّفوس يتصدَّون لها؛ فإنَّ مُنابَذة البِدَع والضَّلالات بعد أنْ ترسخ في القُلوب وتتشرَّبها النُّفوس، لا يُجدِي شيئًا! ما خرَج منَّا غير رجلٍ واحد: فيه أثَر صِدق وإخْلاص الداعِيَة إلى الله - تعالى - وفيه أنَّ من أهل البِدَع مَن غلَبَه هَواه على الحقِّ، فصُدَّ عن السَّبيل، وفيه ما دفَع الله عن هذه الأمَّة بصَحابة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الشُّرور والفِتَن. والحمد لله ربِّ العالمين
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|