#1
|
|||
|
|||
نظرية الترف في القرآن وعلاقتها بهلاك الأمم وفنائها
نلتمس من القرآن قواعد سير التاريخ وسننه الحاكمة لبعض الظواهر, لاسيما وأن القرآن نظر إلى التاريخ نظرة إيجابية, وحفز المسلم إلى دراسة هذه السنن, فالتاريخ مُعلِم للإنسان فقط للإنسان،فهو الكائن الوحيد الذي له تاريخ، وهو الكائن الوحيد الذي يصنع تاريخه بنفسه ويتحكم فيه، ومن هنا دعا الوحي من باب: التقرير والحفز والتوجيه إلى قراءة أحوال الأمم في ماضيها وحالها بمناهج وأساليب تقوم على مفاتيح تلك القراءة وهي: السير والنظر والاعتبار، وبالطبع لا يقصد الوحي تلك القراءة العابرة، وهو ما كثفت الحضارة المعاصرة مراكزها الفكرية نحوه بصورة متعددة. والمقالة الحالية في جزأيها هي نظرة سريعة على سنة من سنن التاريخ رصدها الوحي بصورة موضوعية تمامًا يجعل فيها “الترف” متغيرًا مستقلًا، والهلاك متغيرًا تابعًا، نحاول أن نلقي هذه النظرة في ظل الوضع الذي تعيشه الأمة وتحيا فيه، أو بالأحرى تتراجع في ظلاله. منهاجية بناء نظرية الترف نؤكد أولًا أننا لسنا بصدد بناء نظرية رياضية صورية التي هي أحد فروع علم الرياضيات، ولكننا بصدد النظر في نظرية اجتماعية تقوم على الملاحظة والمشاهدة والاستقصاء والاستقراء للوقائع والأحداث التي وقعت بالفعل، مع الإشارة إلى فروضها التي أثبتتها تلك المشاهدات والوقائع. وتتضمن النظرية الاجتماعية هنا: عدة عناصر هي: البعد المفاهيمي لموضوع النظرية وهو “الترف”، ثم أبعاد المفهوم الواقعية، ثم استقراء الوقائع والمشاهدات التي سجلها الوحي، ثم خلاصات معرفية لقواعد كلية لهذه النظرية. الفضاء اللغوي لمفهوم “الترف” يحتوي الفضاء اللغوي للترف على المعاني التالية: -الترف: التوسع في النعمة، يقال أترف فلان فهو مترف[1]. -أَتْرف فلان: أصر على البغي [2]. -تَرِف – تَرفًا : تنعم وأترفه الله نَعَّمَهُ وأعطاه ما يشتهي في الدنيا{وَأَتْرَفْنَاهُمْفِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. -الترف: التنعم… والمترف: الذي قد أبطرته النعمة أي أطغته… وهو – أيضًا – المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها. وفي الحديث :إن إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – فُرَّ به من جبَّارٍ مُترفٍ. وقوله تعالى{إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا}: أي أُولو التُرفةِ. وأراد – هنا – رؤساءها وقادة الشرَّ منها[3].وقال تعالى في ربط الترف بالطغيان والفساد (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) أي جروا وراء شهواتهم وتمادوا في الترف فأبطرهم وأطغاهم[4]. – التُرفَةُ، بالضم، النِّعمَةُ، والطعامُ الطَّيِّبُ، وكفرحَ: تَنَعَّمَ. وأترفته النِّعمَةُ: أطغته، أو نَعَّمَتهُ، كتَرَّفَتهُ تَتريفًا و فلانٌ: أصرَّ على البَغي. والمُترَفُ، كمُكرَم: المَتروكُ يَصنَعُ ما يَشاءُ لا يُمنَعُ، والمُتَنَعِّمُ لا يُمنَعُ من تَنَعُّمِهِ، والجَبَّارُ. وتَتَرَّفَ: تَنَعَّمَ واستَترَفَ: تَغَترَفَ وطَغَى[5]. يُمدنا الفضاء اللغوي بجملة من المعاني حول معنى “الترف” و”المترفين”، وهذه المعاني يمكن النظر فيها فيما يلي: -الترف يرادف: التنعم والتلذذ بالشهوات في غير استقامة. -الترف يرادف: البطر والتنكر والجود. -الترف يرادف الطغيان وتجاوز الحدود. والخلاصة المعرفية التي نراها أن الترف: الغنى المٌطغي أي غير المسؤول أمام الله وأمام الناس وأمام التاريخ. الوحي و”الترف” مبدئية التوجيه والإصلاح تعرض الوحي لمسألة الغنى الواسع والتنعم في صورتين: الأولى صورة توجيهية، يطرح فيها قاعدة إلهية ثابتة وقائمة إلى آخر الحياة الدنيا وهي أن (المنح أي الغنى الموسع) أو المنع من هذا الغنى الموسع(أو حتى الفقر) ليس دليلًا على شيء عند الله تعالى. فالأول لا يعني قبولًا من الله أو قُربًا في درجة الناعم المُتنعم، والثاني أي الفقير وحاله ليس دليلًا على رفض الله أو ابتعاد العبد في درجته عند الله، وهنا يقرر الوحي هذه القاعدة ويسجلها للإنسان عبر التاريخ [فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ،وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[الفجر: 14 – 15]. والواقع الذي يتحرك فيه الإنسان -كما يقرره الوحي ويرصده رصدًا تاريخيًا- هو بالطبع مجال الابتلاء أي الاختبار الإنساني ، الذي هو المجال التطبيقي لأداء التكليفات الإلهية في الأرض.ومن ناحية أخرى يُذَكِّر الوحي الإنسان من باب التوجيه المعياري أن المال الذي يحصل عليه (والذي يُعد رمزًا للنعم والتنعم) هو في هذا المنظور الإلهي “مستخلف فيه” أي أنه واسطة بين الله وبين مصادر إنفاق المال المشروعة والمباحة،ولذلك يحدد له أبواب التحريم [وهي محدودة بحدها وبعددها]التي يمكن أن يقع فيها وهذه الأبواب هي: -الإمساك و الاكتناز. -التصرف فيه بسفه. -التعامل فيه “بالربا”. -استخدامه وسيلة لإفساد المجتمعات والأمم. -الإسراف والتبذير فيه والإنفاق في غير وجهه وقصده. إن هذه الحدود القليلة التي يُمنع فيها التعامل مع المال، أو استخدام المال في أحد وجوهها، يؤدي إلى بناء طرق ومناهج اجتماعية سوية للفرد والجماعة والأمة في عصب حركتها وهو المال، ومن هذه المناهج والطرق التي نلتمسها في ضوء المنظور التوحيدي لمعالجة وإصلاح النظرة إلى المال: -التأكيد على قيمة التداول {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} [الحشر:7]. -الزكاة والصدقات لبناء -نظم اجتماعية قوية {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} [المعارج: 24]، {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم} [الذاريات: 19]. -مقصد المحافظة على المال وإصلاحه كلما أصابه مرض في التوظيف والاستخدام من قبل الجماعة الاجتماعية المؤتمنة على مال الجماعة كلها. إن هذه المحظورات وهذه الطرق والمناهج الناتجة عن مراعاتها، والتي تحافظ على موضع المال وموضوعه في الجماعة الاجتماعية، يجنب الأمم الانحراف الأخلاقي الذي قد يمارسه البعض في حق المال، ومن ثم في حق النظام الاجتماعي كله القائم على عصب هذا المكوِّن المهم في التاريخ الإنساني للمجتمعات، والتاريخ المعاصر بصفة أكثر خصوصية. إن هذا الانحراف لا شك حال حدوثه لا يعود على صاحب المال وحده (بهذا المنظور الضيق) ولكنه يعود على المجتمع كله وذلك لأن المال وحركته أحد الروابط الرئيسة – كما ذكرنا وكما يؤكد علم الاجتماع- للبناء الاجتماعي كله لحمته الإنسانية والمادية كذلك. ومن ثم جاءت الدلالات اللغوية في معنى الترف تؤكد أن سوء التوظيف الاجتماعي للمال هو توصيف تمامًا لحالة الطغيان، أي مجاوزة الحد أي حد البناء الاجتماعي وسلامته وصحته، ولعل ذلك ما جعل النبوة تلفت النظر إلى ضرورة العمل الدائم على الإصلاح في النظام الاجتماعي، وأن يكون فعل الإصلاح فعلًا دائمًا أي يتصل بحيوية المجتمع وحركته ولا يتوقف خوفًا على سلامة البنيان، وكانت إحدى مخاوف النبوة على المجتمع “..غنى مطغيًا” لأن يؤهل الفرد لبعث نجد الشر والعبث من طبيعته الإنسانية {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6]. مواضع الترف في القرآن وأشكالها جاء “الترف” في القرآن في ثمانية مواضع هي: – {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]. -{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116]. -{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34]. -وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. -وقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: 33]. -قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ، لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 12، 13]. -وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ، لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: 64، 65]. -وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45] ونخلص من هذه المواضع الثمانية إلى جملة من المعاني التالية لمفهوم الترف في القرآن وارتباطاته وعلاقاته بمعانٍ وخصائص أخرى. وهي: -ربط “الترف” بالفسق وضد الهداية. [الإسراء : 16]. -ربط الترف بالظلم والسكوت عن الفساد في الأرض [هود : 16]. -ربط الترف بمواجهة الهداية، والدعوة إلى كل ما هو ضد الاستقامة [سبأ : 34]، [الزخرف:23] -ارتباط الترف بمناهضة الرسل والتكذيب، ودعوة الناس إلى تكذيب رسل إليه والتكليفات الأخلاقية الواردة في رسالاتهم. [المؤمنون : 33]. -علاقة الترف باستحقاق العذاب من الله لعدم الاتعاظ بالهدى/ واستحقاق الهلاك [الأنبياء : 12، 13]، [المؤمنون / 64 – 65] [الواقعة : 45]. -يأتي الترف “دائمًا” جماعي وليس فرديًا “أترفتم” “أُتْرِفُوا””مُتْرَفُوهَا””مُتْرَفِيهَا””أَتْرَفْن َاهُمْ””مُتْرَفِينَ”، وهو ما يشير إلى دلالته الاجتماعية وتأثيره في مكونات البناء الاجتماعي ومخاطر تلك الحالة على سلامة ذلك البناء وصحته. ونورد فيما يلي أهم ما جاء في بعض التفاسير القرآنية لمعنى”المترفون”: -المنعمون – الملأ الذين أطغتهم الدنيا وغرتهم الأموال واستكبروا على الحق[6]. -الذين عاشوا حياتهم في اللهو واللعب والتقلب في ألوان الملذات والتمرغ فيها[7]. -أولو النعمة والثروة والرياسة[8]. -الجبابرة والقادة ورؤوس الشر[9]. -الشرار الرؤساء[10]. -المؤثرون للدنيا عن الآخرة[11]. -المتنعمون بالحرام[12]. -المشركون[13]. -الذين ألهتهم ملذات الدنيا، وألهاهم الأمل عن إحسان العمل[14]. -متبعو الهوى، وسالكو خطوات الشيطان[15]. -الذي ينقلب في نعم الله – تعالى – ولكنه يستعملها في المعاصي لا في الطاعات وفي الشرور لا الخيرات[16]. [1] الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص166. [2] المعجم الوسيط ص84. [3] ابن منظور: لسان العرب، ج2، ص30. [4] إبراهيم عبد الفتاح: القاموس القويم للقرآن الكريم، ج1، ص98. [5] القاموس المحيط. [6] تفسير السعدي. [7] الوسيط – طنطاوي. [8] ابن كثير. [9] ابن كثير. [10] المراغي. [11] الطبري. [12] القرطبي. [13] القرطبي. [14] السعدي. [15] الوسيط. [16]تفسير الوسيط. حسان عبد الله
__________________
|
#2
|
|||
|
|||
نظرية الترف في القرآن وعلاقتها بهلاك الأمم وفنائها (2-2)
تناولنا في الجزء الأول من هذه المقالة مسارات مفهوم الترف في القرآن الكريم ومآلاته المعرفية والاجتماعية في ضوء نظرة الوحي الكلية لهذه السنة الجارية في التاريخ البشري، ومواضع هذه السنة ومكانتها في حركة الأمم, ومبدئية التوجيه والإصلاح القرآني للترف، وانتهينا إلى تحديد عام للترف يتوافق مع نظرة الوحي وهو: الغنى غير المسؤول أمام الله وأمام الناس, أو الذي تضيع فيه حقوق الله وحقوق الناس، ونستكمل فيما يلي مكونات مدخل نظرية الترف في القرآن وعلاقتها بهلاك الأمم وفنائها.
يرصد الوحي تاريخًا من واقع الأمم وعلاقتها بالترف، أو على الوجه الصحيح علاقة الترف بهلاك تلك الأمم،ويعلق الوحي على ارتباط “هلاك الأمم” بحالة “الترف” بالمفهوم الذي توصلنا إليه وهو: الغني غير المسؤول أمام الناس وأمام الله أو ما عبرت عنه النبوة “غنًى مُطغيًا” أي مجاوزًا لحدود رعاية الخلق وأصول العمران وطريق الهداية. بعض تعليقات الوحي على علاقة الترف بهلاك الأمم: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} في هذه الآية [الإسراء : 16] يرصد الوحي نموذج هلاك الأمم في التاريخ تلك التي تجاوزت في حق الإنسان وحق الله على الأرض، والحقيقة أنها لم تكن كل “الأمة” متجاوزة. ولكن كانت هناك فئة أسماها الوحي هنا “مُتْرَفِيهَا” أي رؤساء وكبار هذه الأمة، فغالبًا ما يرتبط الغني الفاحش بسياسة وقيادة الأمم(السلطة الحاكمة) وهو من أمراض المجتمعات والحضارات وسقمها. وأمر الله هنا لهؤلاء “المترفين” لأنهم يمثلون قمة السلطة في أقوامهم وأنه بهدايتهم وامتثالهم طريق العمران والعمل بالتكاليف الإلهية للاستخلاف.وبالانضباط بضوابط القانون الأخلاقي الإلهي سوف ينضبط باقي أفراد الأمة والعكس كذلك صحيح “فالناس على دين ملوكهم” كقاعدة عامة في حالة البشرية على مر التاريخ. كذلك فإن غياب قوة القانون في تلك الأمم التي تمنع من تجاوز المترفين، ومن غياب الجماعة الاجتماعية وشبكة علاقات قوية يكون في مقدورها الردع بهذا القانون، فإن ذلك يؤهل لهلاك الجميع. وجاء في معنى “أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا”: أي أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش، فاستحقوا العقاب والهلاك. يقول المراغي في تفسيره[1]: أي إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك أي قرية بعذاب الاستئصال- لما ظهر منها من المعاصي ودنست به نفسها من الآثام – لم نعاجلها بالعقوبة. بل نأمر مترفيها [سادة الأقوام وكبرائهم] بالطاعة…فإذا فسقوا عن أمرنا وتمردوا حق عليهم العذاب جزاءً وفاقًا لاجتراحهم السيئات وارتكابهم كبائر الإثم والفواحش.. وخص المترفين بالذكر : وذلك لأنهم في عادة الأمم يكونون هم السادة، ويكون العامة تبعًا لهم. وقد يكون: أن الله يفيض عليهم نعمه التي يختبرهم بها…فتبطرهم ويقعون في المعاصي. و(أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) – أيضًا – أي أمرناهم بالطاعة: إعذارًا وإنذارًا وتخويفًا ووعيدًا “ففسقوا” أي فخرجوا عن الطاعة عاصين لنا (فحق عليها القول) فوجب عليها الوعيد. {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} يرادف الوحي في آية هود (116) بين الترف والظلم والفساد، فشكل الترف هنا اقترانه بالظلم، والظلم في أقل درجاته، السكوت عن الفساد وفي أعلاها فعل الفساد ومحاربة الصلاح والصالحين. لذلك يحكي الوحي، أن هذه القرون (الأمم) إنما هلكت بأمرين: – فساد مترفيها وظلمهم. – وغياب “أُولُو بَقِيَّةٍ” ينهون عن هذا الفساد والظلم: أي ذو بقية من الفهم والعقل والإيمان: يعتبرون مواعظ الله ويتدبرون حججه، فيعرفون مالهم في الإيمان بالله، وما عليهم في الكفر به… وينهون أهل المعاصي عن معاصيهم. وأهل الكفر بالله عن كفرهم به في أرضه[2]. {الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} يربط الوحي هنا بين حالة هذه الأمم(المؤمنون : 33) (سبأ: 34) والتي ظهر فيها ذلك المرض الاجتماعي “الترف” وبين التكذيب:ولأنهم (أي المترفين – الذين ألهتهم الدنيا بشهواتها وملذاتها) يشعرون في قرارة أنفسهم أنهم فوق البشر، فلا يصدقون نبيًا أو رسولًا جاء بوحي أو نبوة من عند الله، ولهذا كانت دعوة تكذيبهم {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} وهم يعلنون منذ المبدأ حتى دون سماع للنبي أنهم بما جاء به يكذبون {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}. جاء في تفسير الوسيط[3] (المؤمنون : 33) ما معناه: أي وقال الأغنياء والزعماء من قوم هذا النبي الذين أبطرتهم النعمة التي أنعم الله بها عليهم في الدنيا…ما هذا الذي يدعي النبوة إلا بشر مثلكم والمتأمل هنا: يرى أن الله تعالى : وصف هؤلاء الجاحدين بالغنى والجاه… بيد أنهم أُصلاء في التكذيب باليوم الآخر، وأنهم – فوق ذلك – من المترفين الذين عاشوا حياتهم في اللهو واللعب والتقلب في ألوان الملذات …. ولا شيء يُفسد الفطرة، ويطمس القلوب، ويعمي النفوس والمشاعر عن سماع كلمة الحق…. كالترف والتمرغ في شهوات الحياة. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} وفي نفس المسار (القصص:58)يسجل الوحي عددًا من القرى في التاريخ بطرت معيشتها. والبطر هو الطغيان والجحود والنكران والخسران، يقول البغوي: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام. *****وهذا يعني أن النعم التي وهبها الله للإنسان, لها قانونها الأخلاقي والاجتماعي الذي إن تم الحيد عنه واختراقه من قِبَل فئة أو جماعة من الناس فإن ذلك إيذانًا بهلاك اجتماعي وفقًا لما يقتضيه اختراق أي قانون أو تجاوزه، ومن ثم ارتكاب محرماته ومحظوراته. وما وضع البشر القوانين إلا للمحافظة على البناء الاجتماعي وضمان سلامته. {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وهذا سؤال إلى الله فيه طلب تذوق المشقة (سبأ:18-19) وهو انحراف عن القانون الاجتماعي الذي يوجب أن توظف حالة الرخاء المادي إلى تحسين العمران، وزيادته، وتحقيق مقاصد الله في الخلق، وليس التلاعب بتلك النعمة أو العبث بها أو حتى الجهل بقيمة ما هم فيه.. فإن كل ذلك مُؤدٍّ حتمًا إلى انهيار القانون والبناء الاجتماعي. يقول الطبري: “وهذا من الدلالة على بطر القوم نعمة الله عليهم وإحسانه إليهم، وجهلهم بمقدار العافية، ولقد عجل لهم ربهم الإجابة، كما عجل للقائلين {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}فأعطاهم الله ما رغبوا إليه فيه وطلبوا من المسألة”[4]. كانت هذه القرية في رغد من العيش ومن العمل ومن التجارة ومن الأمن حيث كانوا يسيرون إلى الشام في أمان وأمن يتجاورون ويبيعون ويشترون وهي في أمن في أنفسهم وفي أسرهم. وذلك بتيسير الله لهم {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} أي قرى متواصلة فلا يشعرون بوحشة الطريق عند سفرهم. يذكر الطبري: كان أحدهم يغدو فيقيل في قرية ويروح فيأوي إلى قرية أخرى. وكانت المرأة تضع زنبيلها[5] على رأسها، ثم تمتهن بمغزلها، فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ من كل الثمار. ولكنهم بطروا هذه النعمة التي وهبهم الله إياها دون عمل منهم أو كد أو عناء ولا وراثة ولا كسب يد، فسألوا الله أن يُباعد بين أسفارهم على سبيل الجهل وبطران نعمة سهولة الترحال والسفر.إن العنوان الرئيس لهذا التعليق القرآني يمكن أن نجعله: الجهل بالنعمة والتغافل عن حقيقتها. وهو أيضًا من موارد الهلاك. {…إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} في هذا التعليق القرآني (الزخرف : 23) يرتبط الترف بغمط الحق، فالمترفون – أيضًا – يغمطون الحق بدعوى الجاهلية والتجهيل بين العوام، كما أنهم يروجون لهذا الباطل الذي يدعونه بدعوى أنه قول قديم يشتركون فيه مع آبائهم وأجدادهم، يقول السعدي: إلا قال مترفوها: أي: مُنعموها، وملأَها الذين أطغتهم الدنيا، وغرتهم الأموال، واستكبروا على الحق… أي فإنهم ليسوا ببدع منهم، وليسوا بأول من قال هذه المقالة… وليس المقصود به اتباع الحق والهدى، وإنما هو تعصب محض يراد به نصرة ما معهم من الباطل[6]. * الدراسات الاستقرائية التاريخية * من المفيد هنا لباحث التاريخ والحضارة أن يلفت نظر الأمة إلى أهم التطبيقات التاريخية التي لم يذكرها القرآن فيما يتعلق بفرضية تلك العلاقة بين الترف وهلاك الأمم أو سقوط الدول كما في حالة الدول والخلافات في الحضارة الإسلامية ومن أشهرها كانت الدولة العباسية ودولة الأندلس، والإفادة هنا تبدو في التعرف على تمظهرات الترف وعلاقته بالانهيار الفكري والصناعي والحضاري لهذه الدول والخلافات الإسلامية مقارنة بنشأتها، وهو ما يفيد في قصدية “الاعتبار” و”المعرفة” و”الوعي” التاريخي للعقل الجمعي المسلم المعاصر. * [1]تفسير المراغي، ج15. [2] تفسير الطبري، سورة هود:116. [3]* تفسير الوسيط للطنطاوي تفسير: المؤمنون / 33. [4] الطبري تفسير: سبأ / الآية 19. [5] الزنبيل: القفه الكبيرة. [6]* تفسير السعدي: الآية 23 الزخرف. حسان عبد الله
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
بارك الله فيكم وجزاكم الله خيراً
__________________
المصحف600صفحة على 30 =اكيد 20 صفحة عندنا 5 صلوات يعنى 20/5=4 صفحات يعنى تخلص القرآن فى الشهر وانت مستريح والدال على الخير كفاعله شارك وشوف كمية الحسنات اللى هاتجيلك |
#4
|
|||
|
|||
بارك الله فيك
|
#5
|
|||
|
|||
بارك الله فيك
|
#6
|
|||
|
|||
جزاكم الله خيرًا وأشكركم على ذكر المراجع.
|
#7
|
|||
|
|||
جازكم الله خيرا
|
#8
|
|||
|
|||
بارك الله فيكم
|
#9
|
|||
|
|||
شكرا جزيلا
|
#10
|
|||
|
|||
جزاك الله خيرا
|
العلامات المرجعية |
|
|