|
محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا سيرة سيد البشر بكل لغات العالم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
المنهج النبوي في تصحيح المفاهيم
دعا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لهذه الأمة فقالا: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]، فكان النبي المختار والرسول المصطفى محمد بن عبدالله مَنْ تحقَّقتْ فيه هذه الاستجابة؛ فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]. وقال تعالى: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]، وانظر التأكيد على دور المصطفى صلى الله عليه وسلم في التزكية والتعليم، لما في الكتاب والسنة؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: ((...إن الله لم يبعثني مُعَنِّتًا ولا مُتَعَنِّتًا؛ ولكن بعثني مُعلِّمًا مُيسِّرًا))[1]. فمن الجوانب التي ينبغي النظر والتأمُّل فيها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لاستلهام الأفكار والأساليب والنظريَّات - الجانب التعليمي، وهو متعدد المجالات والأبواب، لو تضافرت الدراسات الجزئية وأُبرِزت بشكلها الحقيقي [لا المتكلف لموافقة نظرية تربوية هنا أو هناك]، لاستطعنا في النهاية الخروج بنظرية متكاملة يُعرَف فيها قدر وحجم كل جزء تمَّ دراسته سابقًا بالنسبة للنظرية الكلية؛ ولهذا فهذه تأملات في إحدى هذه الجوانب، وهي: منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تصحيح المفاهيم والتصورات لدى المتلقين. قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: «لما نزلت هذه الآية: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ [البقرة: 187] - عَمَدْتُ إلى عِقالَينِ: أحدُهما أسود، والآخَرُ أبيض، فجعلتُهما تحت وِسادي، قال: ثم جعلْتُ أنظُرُ إليهما فلا تَبيَّنَ لي الأسودُ من الأبيضِ، ولا الأبيضُ من الأسودِ، فلمَّا أصبحْتُ غَدَوْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبَرْتُه بالذي صنعتُ، فقال: ((إنْ كانَ وِسادُكَ إذًا لعريضًا [2]؛ إنما ذلك بَياضُ النهار من سَوادِ الليل))» [3]. فهذا الموقف على لطافته إلا أنه بيَّن أن التصوُّرات والمفاهيم التي في الذهن هي التي يَبني عليها الفرد أحكامَه وتصرُّفاتِه، وهي التي تُؤثِّر في علاقاته بما حوله: أشخاصًا كانوا، أو أدوات، أو بيئة... فعلى هذا تظهر لنا خطورة المفهوم، وضرورة أن تبدأ المعالجات من خلال تصحيحه، وها هنا مثال جزئي صحَّح فيه النبي صلى الله عليه وسلم مفهومًا لدى شخص، ولو تخيَّلنا أثناء القراءة: ما الذي كان سيقع لو استمرَّت ردودُ الأفعال دون تصحيح المفهوم. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَهْ، مَهْ!))، قال: قال رسول الله: ((لا تُزْرِمُوه، دَعُوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَعاهُ، فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلُح لشيء من هذا البول، ولا القَذر؛ إنما هي لذِكْر الله عز وجل والصلاة، وقراءة القُرآن))... فأمر رجلًا من القوم، فجاء بِدَلْوٍ من ماء فَشَنَّهُ عليه» [4]. وفي رواية «جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجَرَهُ الناس فنهاهم النبي، فلما قضى بولَه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذَنُوبٍ من ماء فأُهريقَ عليه» [5]. فهذا السلوك من الأعرابي جرى على ما اعتاده في البادية من قضاء حاجته في أي مكان لتَساوي الأمكنة، فكُلُّها فضاء وخلاء، فلم يكن السلوك منه عِنادًا؛ ليكون عِلاجُه بالوَعْظ أو الرَّدْع، بل أخطأ في مفهوم المكان فاحتاج إلى معالجة هذا المفهوم. ومن الممارسات النبوية المتعلقة بالمفهوم موقفٌ كان المفهوم فيه غائبًا لا للجهل به؛ بل لطُغيان وسُلْطان مفهوم أو رغبة أخرى، فيأتي هنا التذكير بالمفهوم المعروف لدى الشخص، وتتجلَّى هذه الصورة في حادثة الشابِّ الذي طلب الإذن بالزنا؛ فعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: «إن فتًى شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ائذَنْ لي بالزنا، فأقبل القومُ عليه فزَجَرُوه، وقالوا: مَهْ مَهْ، فقال: ((ادْنُهْ))، فَدَنا منه قريبًا، قال: فجلس قال: ((أتحبُّه لأُمِّكَ؟)) قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبُّونَه لأُمَّهاتهم))، قال: ((أفتحبُّه لابنتك؟)) قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبُّونه لبناتهم))، قال: ((أفتُحِبُّه لأختِكَ؟))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبُّونه لأخواتهم))، قال: ((أفتحبُّه لعَمَّتِكَ؟))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبُّونه لعَمَّاتهم))، قال: ((أفتحبُّه لخالتك؟))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبُّونه لخالاتهم))، قال: فوضَع يده عليه وقال: ((اللهم اغْفِرْ ذَنْبَه وطهِّرْ قلبَه، وحصِّن فَرْجَه)) فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفِتْ إلى شيء» [6]. فَطَلَبُ الإذن بالزنا دالٌّ على أنه ليس معاندًا ليكون علاجُه بالرَّدْع، وكذا دلَّ على أن مفهوم حُرْمة الزنا متقرَّر في ذهنه، إذًا أين المشكلة؟ المشكلة كانت في حجم المفهوم في تصوُّره وأثر هذا المفهوم، فلم يكن يربط بين مفهوم الحُرْمة، والآثار المترتبة على انتهاك هذه الحُرْمة عليه هو نفسه، فاحتاج إلى تصحيح المفهوم من خلال بيان هذه الآثار عليه، حينها تبيَّن له أن حاجته لتلبية رغبته الجسدية لا تُعادِل حجم الضَّرَر المترتِّب على انتشار الزنا. فلو تخيَّلنا بقاء هذه المفاهيم في أذهان أصحابها، ثم إصرارهم على فعل ما يتصوَّرونه كحقٍّ لهم، فما الذي سيحدث؟ ففي حديث الأعرابي سيحدث الاختلاف والفُرْقة والنِّزاع، وفي حديث الشابِّ ستبقى هذه الرغبات مكبوتةً في النفس، ثم تظهر بأشكال متنوِّعة من النقمة على المجتمع ونظامه[7]. وبعد النظر فيما أمكن من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والتي فيها تصحيح للمفاهيم، اجتهدت في تقسيمها إلى ثلاثة مجالات، وهذا بحسب نوع التغيير الذي أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم في المفهوم السابق وهذه المجالات الثلاثة هي: ♦ تغيير المفهوم السابق: والمراد منه: إلغاء المفهوم السابق لعدة اعتبارات، وإبداله بمفهوم جديد لا يتوافق مع الأول. ♦ توسيع المفهوم السابق: والمراد منه: اعتبار المفهوم السابق وعدم إلغائه، ثم إضافة معنى جديد؛ فيتَّسِع المفهوم السابق ليتضمَّن المعنى الجديد. ♦ تنويع المفهوم السابق: والمراد منه: اعتبار المفهوم السابق، وإضافة معنى جديد لا علاقة له بالمعنى القديم؛ بل يكون على جهة الاستقلال مع دخوله تحت مصطلح المفهوم السابق[8]. المجال الأول: تغيير المفهوم السابق: عن أنس رضي الله عنه، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصُرْ أخاكَ ظالِمًا، أو مظلومًا))، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصُرُه مظلومًا، فكيف ننصُرُه ظالِمًا؟ قال: ((تأخُذْ فوق يديه))» [9]. حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم على نُصْرة الأخ ظالِمًا كان أو مظلومًا، ممَّا أثار تعجُّبَهم وانتباههم لما سيُقدِّم لهم، فلما طرحوا تعُّجبَهم من نُصْرة الأخ ظالِمًا، جاء المفهوم الجديد والمخالف للمفهوم القديم بأن تكون نُصْرتُه أخْذًا على يده وكفًّا له عن الظلم، وفي هذا المفهوم الجديد تغيير جذري للمفهوم السابق، فمن اكتفى بعدم مشاركة الأخ الظالم في ظلمه؛ لا يُعَدُّ سالِمًا؛ بل هو مُقصِّر في عدم نُصْرة أخيه بمنْعِه من الظلم، فانظر لهذا المفهوم الجديد للنُّصْرة، وتأمَّلْ أسلوب التشويق المقدَّم به. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الشديدُ بالصُّرَعة؛ إنما الشديد الذي يملِكُ نفسَه عند الغَضَب)) [10]. الغالب على مفاهيم الناس أن الشديد والقوي هو الذي يصرع الناس ويغلبهم في بدنه، هنا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المفهوم خاطئ؛ لأن عدم قدرة المرء على السيطرة على انفعالاته ضَعْفٌ وليست قوة؛ إنما القوة الحقيقية عندما يُسيطر المرءُ على الانفعالات الغضبيَّة مع قدرته البدنية. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كانت لنا شاةٌ أرادَتْ أن تموتَ، ف***ناها، فقسمناها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا عائشة، ما فَعَلَتْ شاتُكم؟)) قالت: أرادت أن تموت ف***ناها، فَقَسَمْناها، ولم يَبْقَ عندنا منها إلا كَتِفٌ، قال: ((الشاةُ كُلُّها لكم إلا الكَتِف))» [11]. مفهوم البقاء والنفاد مرتبط لدى البشر بالمحسوسات؛ لذا عبَّرت عائشة رضي الله عنها بأن ما بقي عندها هو الكَتِف؛ لغياب بقية الشَّاة عنها، فبدَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم إلَّا معنى آخر للبقاء والنفاد مرتبطًا بالآخرة والأجر المتبقِّي عند الله، وما ينفع الإنسان على الحقيقة، وهذا المفهوم مُعاكس تمامًا للمفهوم السابق. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «مرَّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: حريٌّ إن خَطَبَ أن يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أن يُشَفَّعَ، وإنْ قال: أن يُسْتَمَعَ، قال: ثمَّ سكَتَ، فمرَّ رجلٌ من فقراء المسلمين، فقال: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: حريٌّ إنْ خَطَبَ ألَّا يُنكَحَ، وإنْ شَفَعَ ألَّا يُشَفَّعَ، وإنْ قال ألَّا يُسْتَمَعَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خيرٌ من ملء الأرض مثل هذا))» [12]. هنا بدَّل النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم المعايير التي يُقَدِّمُ ويُعظِّم الناسُ بعضَهم على بعض من خلالها، وبيَّن أن المعيار ليس بالمكانة الاجتماعية، ولا بالمال؛ لا، بل بالخيريَّة عند الله، وهذا المعيار قد لا يكون ظاهرًا في الحكم النهائي؛ لأن هذا في علم الله، ولكن هذا التغيير للمفهوم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم يجعل المسلم يرفُض المعيار الأول، ولا يعتبره معيارًا للحكم، ثم هو يحكُم بما ظَهَرَ له من معايير القُرْب والبُعْد من طاعة الله، وكم في هذا من معالجة للكِبْر وأسبابه، ودَفْع عن خُلُقِ احتقار الضُّعَفاء. وقريب من هذا المفهوم ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بينما امرأة تُرضِعُ ابنَها إذ مَرَّ بها راكبٌ وهي تُرضِعُه، فقالت: اللهمَّ لا تُمِتِ ابْني حتى يكونَ مِثْلَ هذا، فقال: اللهم لا تجعلْني مثلَه، ثم رجع في الثدي، ومُرَّ بامرأة تُجَرَّرُ ويُلْعَبُ بها، فقالت: اللهمَّ لا تجعلْ ابني مِثْلَها، فقال: اللهم اجعلني مِثْلَها، فقال: أما الراكب فإنه كافر، وأما المرأة فإنهم يقولون لها: تزني، وتقول: حسبي الله، ويقولون: تَسْرِقُ، وتقول: حَسْبي الله» [13]. المجال الثاني: توسيع المفهوم السابق: عن مصعب بن سعد قال: رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلًا على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل تُنصَرُون وتُرزَقُون إلَّا بضُعفائكم))[14]. غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم النصر ومعاييره لدى سعد رضي الله عنه من كونها مرتبطةً بالسبب المادي، إلى كونها مرتبطة بالتوفيق من الله، وأن معايير التوفيق ليست جميعها ممَّا لا يملِكُها إلَّا الأقوياء؛ بل هي أيضًا مِلْكٌ للضُّعفاء، والذين قد يَعُدُّهم مَنْ يُقدِّم المعيار المادي عالةً على النَّصْر والمجتمع، بينما جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم سببًا في النصر. وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وفي بُضْعِ أحدِكُم صَدَقةٌ))، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجْرٌ؟ قال: ((أرأيتُم لو وَضَعَها في حرامٍ أكان عليه فيها وِزْرٌ؟ فكذلك إذا وَضَعَها في الحلال كان له أجْرٌ))» [15]. كان مفهوم الأجر يضيق عند الصحابة رضي الله عنهم عن أن يدخُلَ فيه ما كان فيه للإنسان رغبة وشهوة بشرية، فبيَّن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم اتِّساع المفهوم ليشمله، ثمَّ دلَّل بالقياس على ذلك، بأنه لو فَعَلَه بالحرام لأثِمَ، ففعله له بالحلال مع احتساب النيَّة في البُعْد عن الحرام، وإحصان النفس والزوجة كل هذا يكون به أجر، وفي هذا فَتْح لأفق أوْسَع في احتساب الأجر من الله. وقال عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تدرون مَن المسلم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((مَنْ سَلِم المسلمون من لسانه ويده))، قال: ((تدرون مَنِ المؤمن؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((مَنْ أمِنَه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم، والمهاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ فاجْتَنَبَهُ))» [16]. لا شَكَّ في معرفة الصحابة رضي الله عنهم معنى مفارقتهم للكُفْر ودخولهم في الإسلام وإيمانهم بالله سبحانه تعالى ربًّا ومعبودًا، وبأن محمدًا هو رسول الله، وأن هذا مقتضى الشهادتين التي قالوها وقاتلوا عليها؛ ولكنهم لما سألهم عن ماهية المسلم، والمؤمن، علموا أنه سيذكر لهم مفهومًا جديدًا هو من مقتضيات كونهم مسلمين ومؤمنين، فقالوا: الله ورسوله أعلم، عندها قدَّم لهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الإضافة على المفهوم القديم والذي لا يخالفه؛ بل يتوافَقُ معه؛ ألَا وهو مخالطة المسلمين والمؤمنين بالأخلاق الحسنة، وعدم خيانتهم في أنفسهم وأموالهم، فبهذا تعدَّدَتْ شُعَب الإيمان وزاد مفهومه، وأثَّرَ في الحياة الاجتماعية. وعن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تعُدُّون الشهيد فيكم؟))، قالوا: يا رسول الله، من قُتِل في سبيل الله فهو شهيد، قال: ((إن شهداء أُمَّتي إذًا لقليلٌ))، قالوا: فمَنْ هم؟ يا رسول الله؟ قال: ((مَنْ قُتِل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البَطْنِ فهو شهيد... ))» [17]. وفي هذا توسيع لمفهوم الشهيد؛ مما يساعد في الصبر على من وقعت عليه هذه الأمور لما يعلمون ما في الشهادة من أجر. وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: ((استحيوا من الله عز وجل حقَّ الحياء))، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحي، والحمد لله، قال: ((ليس ذلك، ولكن مَنِ استحيا من الله حقَّ الحياء، فليحفَظ الرأس وما حوى، وليحفَظ البَطْن وما وعى، وليذكُر الموت والبِلى، ومن أراد الآخرة، ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله عز وجل حق الحياء))» [18]. في الحديث وسَّع النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم الحياء من الله، ليحافظ على جوارحه من المعاصي وفعلها، ويحافظ على كَسْبِه ورِزْقِه من الحرام. المجال الثالث: تنويع المفهوم السابق: عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تَعُدُّون الرَّقُوبَ فيكم؟))، قال: قلنا الذي لا يُولَد له، قال: ((ليس ذاك بالرَّقُوب، ولكنه الرجل الذي لم يُقَدِّمْ من وَلَدِه شيئًا))»[19]. ذكر الصحابة أن الرَّقُوب: هو من لم يُولَد له ولد، فهو يترقَّب وينتظر، ولا يخفى ما في هذا من معاني الأسى والحزن، فانظر كيف بدَّلَه النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى ينبُض بالحيوية والاحتساب، بأن جعله ذلك الرجل والمرأة التي تحتسب الأجر وتترقَّبُه من الله في مصيبتها بوفاة ولدها الصغير. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون ما المفلِسُ؟))، قالوا: المفلِسُ فينا مَنْ لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقال: ((إن المفلِسَ مِنْ أُمَّتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقذف هذا، وأكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَتْ حَسَناتُه قبل أن يُقْضَى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فَطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار))»[20]. المعروف من مسمى المفلس هو ما يتعلق بالمال في الدنيا، وهذا صحيح؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له معنًى آخَرَ ليس من جنس الأول، ولا يدخُل في معناه؛ بل هو معنى مستقل، تنشأ عنه مراقبة الأفعال والخوف من التعدي على حقوق الآخرين، كما أنه في المفلس الدنيوي يوقف ليأخذ الدائنون حقَّهم ممَّا بقي معه من المال، فكذلك يوقف في الآخرة ويؤخذ منه، لكن من الحسنات، فإن فنيتْ، طُرِح عليه من ذنوبهم، وهذا مالا يقع في الدنيا. وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البخيل الذي من ذُكِرْتُ عنده فلم يُصَلِّ عليَّ))» [21]. وظَّف النبي رضي الله عنه هذا المصطلح الذميم لمعنى جديد، وهو بخل المسلم بأن يدعو لنبيِّه صلى الله عليه وسلم والذي كانت هداية الله له بطريق دعوته، وهذا أشدُّ البخل؛ لأنه لا يُكلِّفه سوى بالنُّطْق. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليسَ الغِنى عن كَثْرةِ العَرَضِ، ولكن الغِنى غِنى النَّفْس)) [22]. عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أسوأ الناس سرقةً الذي يسرق صلاتَه))، قالوا: يا رسول الله وكيف يسرقها؟ قال: ((لا يُتِمُّ ركوعَها ولا سجودَها)) [23]. عادة ما يسرق اللِّصُّ مال غيره؛ ولكنه في هذا الصورة يسرِق من صلاته هو، فأي تبشيع لتحقير تصرُّف هذا الذي يسرِق من نفسه، ويضُرُّها في آخرتها؟! ختامًا: هذه نظرات وتأملات في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما كان فيها من صوابٍ فمن توفيق الله وحده، وما كان من خطأ فمن تقصيري، وتزيين الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وصلى الله وسلم وبارك على الهادي الأمين محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه الغُرِّ الميامين. [1] مسلم برقم 1478. [2] قال النووي: «وأما معنى الحديث فللعلماء فيه شروح أحسنها كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى، قال: إنما أخذ العِقالين وجعلهما تحت رأسه، وتأوَّل الآية به، لكونه سَبَق إلى فهمه أن المراد بها هذا، وكذا وقع لغيره ممَّن فعل فعله، حتى نزل قوله تعالى: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187]، فعلمُوا أن المراد به بَياض النهار وسواد الليل؛ قال القاضي: معناه: أن جعلت تحت وِسادك الخيطَينِ اللذَينِ أرادهما الله تعالى، وهما الليل والنهار، فوِسادك يعلوهما ويُغطِّيهما وحينئذٍ يكون عريضًا». [3] الحديث متفق عليه واللفظ لأحمد في المسند: 4/ 377. [4] مسلم برقم 285. [5] البخاري برقم 221. [6] مسند أحمد 5/256، قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح؛ مجمع الزوائد:1/ 129، قال الأرناؤوط: إسناده صحيح، رجاله ثقات، رجال الصحيح، مسند أحمد، ط الرسالة (36/ 545). [7] ومع الأسف أن مثل هذه الحالات يتمُّ توظيفُها من قِبَل أعداء الأُمَّة، وإبرازها على أنهم ضحايا للتشدُّد والانغلاق، وغرضُ أعداء الأُمَّة تفتيتُ الصَّفِّ وضَرْبُ المجتمع المسلم بعضه ببعض، لا علاج حاجات هذه الفئة؛ ولذا يتمُّ توظيفه للغرض، ثم رَمْيه خارج دائرة اهتماماتهم متى ما وجدوا ما هو أكثر تأثيرًا في إضعاف الأُمَّة. [8] اجتهدت في تسمية هذا النوع دون الرضا التام عن هذا الاسم. [9] صحيح البخاري برقم 2444. [10] صحيح البخاري برقم: 6114. [11] السنن الكبرى للبيهقي: 9/ 250. [12] البخاري برقم 5091. [13] صحيح البخاري برقم: 3466. [14]صحيح البخاري برقم: 2896، وفي رواية عند أحمد في المسند عن سعد بن مالك رضي الله عنه، قال: «قلت: يا رسول الله، الرجل يكون حامية القوم، أيكون سَهْمُه وسَهْمُ غيره سواءً؟ قال: ((ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ يابن أُمِّ سَعْد، وهل تُرْزَقُونَ وتُنْصَرُونَ إلَّا بِضُعَفائكم))»، وفي سندها مقالٌ، وفي سنن النسائي برقم: 3178: ((إنما ينصُرُ اللهُ هذه الأُمَّةَ بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)). [15] صحيح مسلم 1006، وأول الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه: «أنَّ ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثُور بالأجور، يُصلُّون كما نُصلِّي، ويصومُون كما نصُوم، ويَتَصَدَّقُونَ بفُضُولِ أموالهم، قال: ((أو ليس قد جعل الله لكم ما تَصَّدَّقُون؟ إن بكل تسبيحةٍ صَدَقةً، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضْع أحدكم صدقة...». [16] مسند أحمد: 2/ 206. [17] صحيح مسلم برقم 1915. [18] مسند أحمد: 1/ 387. [19] صحيح مسلم برقم: 2608. [20] صحيح مسلم برقم 2581. [21] رواه أحمد مسند:1/ 201، والترمذي برقم: 3546، وقال:حديث حسن صحيح غريب. [22] صحيح مسلم برقم 1051. [23] مسند أحمد: 3/ 56. سليمان بن أحمد السويد
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
جزاك الله خير الجزاء
__________________
إذا دعتك قدرتك علي ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك
|
العلامات المرجعية |
|
|