#1
|
|||
|
|||
من صفات أصحاب الإخلاص
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: قال ربنا في كتابه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (غافر: 14). ومن الخلاصات القرآنية: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الكهف: 28) كلمتان. {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الإخلاص {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ابتغاء الأجر والثواب {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أعمالهم من أجل الآخرة {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} لا يشركون معه أحدًا غيره {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} لا ينتظرون من الناس جزاءً ولا شكورًا. كم كانت هذه الآية ومثلها من الآيات محطًا لأنظار الصالحين، يصححون بها أعمالهم، وعندهم نوع من الفقه، يسمى: "فقه النية"؟ ويقول أحدهم: "أشد ما علي نيتي، فإنها تتقلب عليّ" يستجمعون الإخلاص. من هم أصحاب الإخلاص؟ أصحاب الإخلاص لهم صفات، حري بنا -يا إخواني- أن نتتبعها، ونعرف أخبار أصحابها، لنتصف بها؛ لأن النجاة لا تكون إلا بها، ومن أهم صفاتهم: إخفاء الأعمال كان الواحد يحفظ القرآن، ولا يُدرى أنه حفظ، يقوم الليل ولا يُدرى أنه قام، داود بن أبي هند يأخذ طعام إفطاره من الصباح يذهب إلى عمله، يتصدق به في الطريق، ويرجع إلى أهله قريبًا من المغرب، يظن أهل السوق أنه أفطر عند أهله، ويظن أهله أنه أفطر في السوق، ويكون صائمًا. كان الواحد يضطجع على وسادة امرأته، فربما بلت دموعه ما تحت خده، وهي لا تشعر به. الله -عز وجل- يجعل في ظله رجلاً أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في السبعة: "ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه" (رواه البخاري: 1423، ومسلم: 2427). قال بعض الناس: إن كان عبد الله بن المبارك يصلي فنحن نصلي، وإن كان يصوم فنحن نصوم، وإن كان يحج فنحن نحج، قالوا: فكنا مرة معه فانطفأ المصباح بالليل فخرج به رجل يلتمس شعلة، فلما رجع بالمصباح موقدًا، فإذا بوجه عبد الله قد تبلل من الدموع، ذكر ظلمة القبر، قلنا بهذا فاقنا! كانوا يرفضون مسألة التماس البركة منهم، والتمسح بهم، وإذا جاء رجل إلى الإمام أحمد يقول: "أتيتك من بلد كذا يدعون الله لك؟ قال: هذا استدراج". جاءه رجل، قال: "أمي مقعدة ترجو أن تدعو لها؟ قال: أنا أحوج إلى دعائها من حاجتها إلى دعائي". هؤلاء القوم -يا عباد الله- من إخلاصهم لا يشتري الواحد منهم بدينه، ذهب ابن محيريز إلى السوق رجاء أن يشتري ولا يعرف، فعرفه شخص، فقال لصاحب الدكان: "هذا ابن محيريز"، فانظر كيف تبيعه، خفض له، فغضب ابن محيريز، وقال: "يا أخي إنما أشتري بمالي لا بديني"، وغضب وقام وما اشترى منه. إبراهيم بن أدهم -رحمه الله- كان معروفًا بالإخلاص، اشتهر، وتعدت شهرته بلده، فخرج مرة إلى بلدة أخرى، ودخل بستانًا في طرفها، فتسامع أهل البلدة الثانية أن الإمام في الزهد إبراهيم خرج إليهم، وأنه دخل البستان، وما كانوا قد رأوه من قبل، فدخلوا يقول: أين إبراهيم بن أدهم؟ ويدورون وهو يدور معهم، ويقول: أين إبراهيم بن أدهم؟ كان رفض وضع الاسم على العمل واضحًا، تخفى الأعمال ابتغاء وجه الله، بعض الناس اليوم يقولون له: شارك في المسجد؟ يقول: إما مسجد كامل وإما لا أريد، ثم لا هو بنى المسجد كاملاً ولا هو شارك. قد تكون المشاركة في إخلاصها أفضل من مسجد يراءى به. وبعض الناس ربما يُستدرج بكلمة: أظهر عملك حتى يقتدي بك الناس؟ وهذا ليس في كل الحالات، نعم في بعض الحالات صحيح، لكن الله قال: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} (البقرة: 271). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في السبعة الذين يظلهم الله "حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" (رواه البخاري: 1423، ومسلم: 2427). عباد الله: كان هضم النفس لديهم واضحًا، لا يرى الواحد نفسه شيئًا، بالرغم من أنه عالم من كبار العلماء، وفقيه من كبار الفقهاء، وعابد من كبار العباد، لكن إذا أثني عليه يقول: "المغرور من غررتموه". وعبد الله بن مسعود لما لحقوه في الطريق، قال: "ارجعوا -لا تمشوا ورائي-، فإنها فتنة للمتبوع، وذل للتابع". وكان إذا جلسوا إليه، وتكاثروا عنده، يقول: "لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما جلس إليّ منكم أحد". وقال الآخر من السلف لمن حوله: "لو كان للذنوب ريح ما أطاق أحد منكم الجلوس إليّ". كان الإخلاص على فقه، يعني يخفي الإنسان عمله، نعم، لكن أن يترك العمل مخافة الرياء، لا، ولذلك قال إبراهيم النخعي: "إذا قمت في الصلاة، وأتاك الشيطان يقول: اختصرها، حتى لا ترائي، فزدها طولاً. نعم، كانوا يخفون ما يمكن إخفاؤه، والواحد إذا حضر في المجلس ووعظ، أو سمع موعظة، فتأثر، فدمعت عيناه، يأخذ المنديل، يقول: الزكام شديد. هؤلاء ما كان الواحد منهم يأنف أن يكمل عمل غيره، هذا تفسير الجلالين شرع فيه جلال الدين المحلي، من الإسراء إلى آخر القرآن، وجاء جلال الدين السيوطي، من أول القرآن، وأتم الكهف وأتم المصحف، وخرج، وسمي بتفسير الجلالين. إكمال الواحد عمل الآخر، إكمال عمل أخيه في الله، ولا يشترط أن يكون الاسم فقط لفلان. كان هذا الإخفاء، وهذا الإخلاص واضحًا، حتى في أشد المواقف، في المعارك في سبيل الله، عبد الله بن المبارك خرج معهم، ووضع اللثام، وخاض غمار الحرب، فلما اصطفوا مع الروم، خرج رجل من الروم يتحدى للقتال، فخرج إليه رجل من المسلمين فبارزه ف***ه، ودخل في الصف، وعليه اللثام، فاجتمع المسلمون على هذا، أحاطوا به، فوضع يده على وجهه، فجاء أحد المسلمين فمد يده، فخرج وجهه عبد الله بن المبارك، فقال عبد الله بن المبارك للذي مد يده: وأنت يا أبا فلان ممن يشنع علينا؟ واحد من السلف قام يصلي، فأطال الصلاة، فلحظ أن رجلاً يلحظ إليه، بعد الصلاة ناداه، قال: لا تعجب من عملي، فإن إبليس عبد الله دهرًا ثم صار إلى ما صار إليه. عائشة لما سألها ابن صهبان عن تفسير قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} (فاطر: 32)، من هم؟ قالت: الذين سبقوا بالخيرات: النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، الذين مضوا، ثم قالت: المقتصد الذين ماتوا بعده على عهده، وذهبوا، والظالم لنفسه، مثلي ومثلكم. ومن هي عائشة؟ أفقه نساء العالم على الإطلاق، قال الزهري: "لو جمع علم نساء العالم إلى علم عائشة لرجح علم عائشة -رضي الله عنها-". عباد الله: أويس القرني خير التابعين حسب نص الحديث، كان له أم هو بها بر، وكان فيه برص، فدعا الله أن يذهبه عنه، وأن يبقي له ما يذكر به نعمة ربه عليه في الشفاء من البرص، فشفاه الله منه إلا موضع درهم عند سرته، الرجل هذا خير التابعين قلبًا وقالبًا، عمر كان يعرف الحديث في فضله، وكان يتلمس أمداد أهل اليمن الذاهبين إلى فتوحات الشام، حتى وقع على أويس، وعمر كان ملهمًا متفرسًا، لا يكاد يقول لشيء: هذا كذا، إلا كان كما قال، عرفه، وسأل عن اسمه، فأخبره، أراد عمر إكرام أويس، قال: ألا أكتب لك إلى أمير البلد؟ الذي ستذهب إليه قال: لا، أكون في غبراء الناس أحب إليّ، وذهب، ولما فطن له الناس هناك اختفى فلم يدر أين ذهب، بعد ذلك، وانقطعت أخباره. يجيدون الاختفاء من عيون المداحين، مسلمة بن عبد الملك قاد جيشًا للمسلمين ضد الروم، وحاصروا حصنًا، وأتعبهم الحصن، وكثر بالمسلمين الجراحات والإصابات ، حتى هدى الله رجلاً من المسلمين مجهولاً لا يعرف، إلى نقطة ضعف عند جدار الحصن، فحفر نقبًا تحته، حتى بلغ بعده من الداخل، وخرج عليهم، وفاجأهم، وقاتلهم، وفتح الباب، ودخل المسلمون، وفي الزحمة ما عرف الرجل، وتم الفتح وحصل النصر. بعد المعركة يشتهي مسلمة أن يعرف من هو صاحب النقب، ناداه ليخرج، يسأل، لم يخرج أحد، قال: سألتك بالله؟ وسألتك بحق الأمير على الجند؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ومن يطع الأمير فقد أطاعنى" (رواه البخاري: 4852) إلا ما خرجت إليّ، في الهزيع الأخير من الليل في الظلام، واحد يأتي للحارس، ويقول له: إن صاحب النقب بالباب، يشترط ألا تسأله عن اسمه، ولا.. ولا.. لا مكافأة، ولا مقابل، ولا تعرف من هو، وتدعه يذهب، ويرحل في سلام، مسلمة يريد أن يعرف بأي طريقة؟ قال له: شرطه، دخل عليه، قال: اتق الله يا مسلمة، أحرجتني فأخرجتني، وذهب. كان مسلمة إذا دعا يقول: اللهم احشرني مع صاحب النقب. لا يردون الحق من صفات أهل الإخلاص: أنهم لا يمكن أن يردوا الحق، وإذا ذكر الواحد منهم بالحق رجع إليه، ألف الحافظ عبد الغني من حفاظ الحديث كتابًا في أوهام الحاكم، والحاكم رتبة عظيمة في علماء الحديث، ولكن جل من لا يخطئ، فأخذ الحاكم كتاب عبد الغني في أوهام الحاكم، وجعل يقرأه على الناس، ويدعو لعبد الغني. الجوهري كان يلقي درسًا في المسجد، وهو من كبار أهل العلم، وأمامه الناس، اجتمعوا، فقال في عرض الكلام: وقد طلق النبي -صلى الله عليه وسلم- وظاهر، وآلى. الطلاق حصل لمصلحة رآها عليه الصلاة والسلام، كالتي قالت: أعوذ بالله منك، لما دخل عليها قال: "لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك" (رواه البخاري: 5254). والإيلاء حصل لما ما حصل من زوجاته آلى منهن شهرًا، واعتكف في مشربة، عُلية، وصادف ذلك اعتكاف رمضان لعله، أو قضاء اعتكاف رمضان في شوال، فحصل الإيلاء، ونزل قول الله: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (البقرة: 226)، فمن حلف أن لا يقرب زوجته يمهل أربعة أشهر، والنبي -عليه الصلاة والسلام- آلى منهن شهرًا، تأديبا لهن، في قصة العسل، وقصة مارية، وما حصل من بعض الإكثار من السؤال للنفقة. سمع الكلام واحد من الحاضرين، كان شابًا، غريبًا عن البلد، جاء يحضر درس العلم، فلحق بالشيخ، فلما فرغ الطلاب من حوله وصار وحده في الدهليز، قال: يا إمام أنت قلت طلق النبي -صلى الله عليه وسلم- وظاهر وآلى، أما الطلاق والإيلاء نعم، وأما الظهار لا، كيف يفعله، وقد قال الله عنه: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (المجادلة: 2)؟ فقال: أتوب إلى الله، وأرجع إلى الحق وأنا صاغر، وأثنى عليه، ودعا له، وواعده بالدرس من اليوم التالي، فجاء الشاب، وكان الناس قد ازدحموا، فلما دخل الشاب قال الجوهري: مرحبًا بمعلمي، فاشرأبت الأعناق، من الداخل؟ حملوه حملاً، قال: قلت كذا وكذا في الدرس الماضي فما منكم من أحد وعى كلامي، ولا رد عليّ، وقال: هذا كذا وكذا، فصوبني، ودعا له أمام الناس. هذه مسألة الاعتراف بالخطأ، والرجوع إلى الحق، من الذي يستطيع أن يفعلها بهذه الطريقة؟ اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك يا رب العالمين.وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ بتصرف * د/ محمد صالح المنجد
__________________
|
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|