#1
|
|||
|
|||
عبقرية الجاحظ
كانت وفاتُه تحتَ رُكام الكتب التي تهدَّمت عليه، إنَّه شهيدُ الكتب والقراءة، لقد كان قارئًا بمستوى حضاريٍّ إنسانيٍّ عالميٍّ، ولكتبه طعمٌ وذوق خاصٌّ؛ وذلك لعالميَّته في القراءة، ولإنسانيته في الثَّقافة. * والجاحظ له مقام في الحضارة الإسلامية، يتألَّقُ نجمُه على مرِّ الزَّمن، كان يتذوَّق مع آيات الكتاب: آيات الآفاق والنَّفس... وهو وإن كان إمامًا في الأدب، فإنَّه صاحب مذهبٍ فاسد في العقيدة. * وكانت البصرة مسقطُ رأسه أكبرَ حواضر العلم والأدب بعد بغداد في ذلك العصر، يجتمع في مسجدها طائفةٌ حسنةٌ من العلماء وأرباب الأدب والنَّحو واللُّغة، عُرِفُوا بـ (المسجديِّين)، فأقبَلَ إليهم الجاحظ يجالسهم، ويأخذ عنهم الكثيرَ بفضل ذكائه المتوقِّد وحافظته القوية، بعد أن تعلَّمَ القراءة والخطَّ في أحد الكتاتيب، وما أن أيفع حتى تلقَّى الفصاحةَ وأساليب التعبير شفاهًا عن خطباء العرب في المِرْبَد، وقد ألِفَ التردُّدَ إليه منذ حداثته، وكان إلى ذلك يكتري حوانيتَ الورَّاقين (باعة الكتب) ويبيتُ فيها للمُطالعة. * أُغرمَ بالمُطالعة غرامًا شديدًا... قضى أكثرَ عمره في مسقط رأسه عاكفًا على التأليف مرعيَّ الجانب، مكفيَّ الحاجة، أثيرًا لدى الولاة، مكرَّمًا عند الوجوه، بما يُؤلِّف من رسائلَ، ويُصنِّف من كتب. وبسبب هذا الغرام والهُيام بالمعرفة والثقافة نسي كُنيته ثلاثةَ أيام، فذهب إلى أهله قائلًا: بمن أُكْنى؟! فقيل له: بأبي عُثمان! * فهو أحد أكبر كتَّابنا ونوابغنا العرب المسلمين، أدرَكَ هذه الحقيقة وطبَّقها تطبيقًا صحيحًا في حياته، كان يكتري دكاكين الورَّاقين كما أسلفنا، ويبيت فيها للنظر في ما حوَتْه من الكتب، وقد ثابر على ذلك طيلةَ حياته، حتى كان أحد شهدائها الأمجاد؛ فقد انهارت عليه رفوفُها وأكداسها وهو مُقعَد، فذهب في موكب الظمأ إلى المعرفة الذي لا يرتوي. * بيد أن الجاحظ، وهذه حالُه مع الكتب، لم يكن يسمح لها أن تحجب الناسَ عنه، كان يعيش ليلًا مع الكتب ونهارًا مع الناس، يشاكل طبقاتهم، ويسألهم عمَّا يُهمُّه ويريد أن يتفهَّمه، ويأخذ من كلِّ من يعتقد أن عنده مِن المعارف ما ليس عند سواه، فهو (يسترشد بآراء الحراس، ويتحدَّث إلى الحُواة والجزارين والعطارين والنجَّارين والصيادين والأكارين والقابلات، ويسأل الحشوة وأرباب البطانة، وقد يأخذ بآراء البحريين إذا رووا له غرائب قبِلها عقلُه، أو يردها إذا كانت حديث خرافة، ويتحدَّث إلى كل مَن عنده طرائف من الكلام، وعجائب من الأقسام). * يقول أحمد أمين: لستُ أعلمُ أحدًا في عصر الجاحظ بلغ مبلغَه في سَعة ثقافته وعمقها؛ فلقد شملت كلَّ معارف زمانه تقريبًا، على اختلاف ألوانها، وتعدُّد منابعها، حتى ليخيَّل إليَّ أنَّنا لو جمعنا كلَّ كتبه ورسائله، ووزَّعنا ما فيها، ورتَّبناها على الحروف الأبجدية، لخرج لنا من ذلك دائرة معارف تمثِّل أصدق التمثيل معارف العصر العباسيِّ الأول. * إنَّ الجاحظ استطاعَ أن يجعل من كلِّ شيء موضوعًا لأدبه؛ فالحشائشُ، والأشجار، والحيوانات، والمعلِّمون، واللُّصوص، والجواري، والنجار يستدعيه في البيت، والدِّيك يصيح، والطِّفل يناغي النُّور... كلُّ هذه وأمثالها كَتَب فيها، وجعلها موضوعَ أدبه، فزاد العقلَ ثقافة من ثقافته، ووسَّعه، وفتح بابًا أمام الأدباء يقلِّدونه فيه؛ ولذلك قالوا: إنَّ كتبه تغذِّي العقلَ أولًا. * ولهذا ترى في كتبه شيئًا ملموسًا عن الحياة؛ فكأنَّك تراها وتتذوقها مِن وصفه، وهذا لا تراه إلَّا في كتبه، فكامل المُبرِّد، وأمالي القالي، وعيون ابن قُتيبة، لا تريك شيئًا مما يُريك؛ مما يجعل كتبَه أغزرَ مصدر لدرس الحياة الاجتماعية في هذا العصر. * أمَّا أسلوبه فقد مزجَ كلَّ هذه الأشياء بعضها ببعض والقارئ يقبلها منه لخلطه الجدَّ بالهزل، ومزج اللُّقمة بكثير من الحلوى، حتَّى إذا أعدَّك للبكاء، رماك بنادرة تمعن منها في الضحك؛ واضح البرهان، جزل اللَّفظ، سريع التَّنقُّل مِن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة، غلبت عليه النَّزعةُ الأدبية في كلِّ ما كتب، حتَّى في كتاب "الحيوان" يتخيَّرُ خيرَ الألفاظ وأحسن التعبيرات، ويفرُّ سريعًا من الأسلوب العلمي إلى مناحي الأدب؛ من شعر، أو حكمة، أو نادرة. * ولقد كان الزَّمانُ أكبرَ مُثَقِّف للجاحظ؛ فوُلِد في خلافة المهدي، ونشأ في خلافة الهادي، وشبَّ في عهد الرَّشيد، وشهِد صراعَ الأمين والمأمون، ونضج في عهد ازدهار المُعتزلة، واشترك في جميع الأبحاث العلمية والفلسفية، رأى المعتزلة، والفرسَ وغلَبتهم، والتُّرك وسطوتهم وحلولهم محلَّ الفُرس، كما عاينَ دولة الواثق تنهج نهج المُعتصم، والمأمون يناصرُ المعتزلة، والمتوكل يشرِّد أصحابها، ومرَّت عليه دولة المنتصر والمستعين والمعتز، وهو يعاني الفالج والنقرس، حتى مات في عهد المهتدي بالله. * وكان الأديبُ في أيام الجاحظ لا يقتصرُ على الثَّقافة الفنية وحدَها؛ وإنَّما كان يتوسَّعُ في بعض العلوم؛ كالهندسة وعلم الفلك والحساب، فضلًا عن الفقه والاجتماع والتَّاريخ وما إلى ذلك، فأراد الجاحظ أن يكون من أكابر الأدباء، فسعى ونال بسعيه فوقَ ما أراد. * فحياة الجاحظ تاريخُ قَرْنٍ بكامله، وهو زهرة القرون العباسية، وقد مرَّ في كلِّ أطوار الحياة من ولدٍ يبيع خُبزًا وسمكًا بسيحان، إلى رجل يخالطُ العلماء، إلى كاتب مثقَّف يعتني بما ألَّفَ، ويمتلك ضيعة تُنسب إليه، ويبني قصرًا، ويقتني عبيدًا خدموا في قصور الملوك. رحل إلى بغداد زمنًا، ثمَّ إلى دمشقَ وأنطاكية، وهذه ثقافة جديدة اكتسبها من غير الكتب؛ بدرس طبائع الناس وأخلاقهم، ومعرفة دخائلهم. * كان الجاحظُ مطبوعًا على الظَّرْفِ والفُكاهة، مَيَّالًا إلى التَّفاؤل، وكان واقعيًّا، حريصًا على الوقت، حلو الحديث، سريع الجواب والنُّكتة، ساخرًا، يحبُّ اللَّهو. وكان لقوة ابتكاره ونباهته وعلمه وهجائه أثرٌ كبير في شهرته، غير أنَّ قبح منظره حمل المتوكِّل على صرفه بعد أن كان قد دعاه لتأديب بعض ولده. * وقد أسرفَ أحدُهم فقال عنه: لو يُمسَخُ الخِنزيرُ مَسخًا ثانيًا ما كان إلَّا دون قبحِ الجاحظِ رجلٌ ينوبُ عن الجَحيم بنفسِه وهو القذى في كلِّ طرْفٍ لاحِظِ نعوذ بالله من قِلَّة الإنصاف. * يقول الطَّناحيُّ في مقالاته: والشيخ محمود شاكر لم يكن يتحمَّس للجاحظ كثيرًا، مع إجلاله له وحفاوته به؛ لأنَّه يرى أن الجاحظ يستطيل على النَّاس بذكائه، ويخدعهم بتصرُّفه في القول والبيان، ولعلَّ الذي زهَّد شيخَنا في الجاحظ هو ميوله الاعتزالية، والشيخ كما هو معروف من أهل السنَّة والأثر. * إلى أن يقول رحمه الله: وأحسبُ أنِّي لو تركتُ القلم يسترسلُ في وصف علم الجاحظ وأدبه لما انتهيتُ إلى غاية، فحسبي هنا أن أنقلَ كلام ذلك العالمِ الجليل المجهول القدر الدكتور طه الحاجري رحمه الله، يقول في مقدِّمة تحقيقه لكتاب "البخلاء": كان الجاحظ إمامًا من أئمَّة الكلام، وزعيمًا من زعماء المعتزلة، وصاحب نِحلة من نِحَلهم، وكان عالمًا محيطًا بمعارف عصره، لا يكاد يفوته شيءٌ منها؛ سواء في ذلك أصيلها ودخيلها، وسواء منها ما كان إلى العلم والتحقيق، وما كان إلى الأخبار والأساطير، وكان راوية من رُواة اللغة وآدابها وأخبارها، غابرها ومعاصرها، واسعَ الرواية، دقيق المعرفة، قويَّ الملَكة في نقد الآثار وتمييزها، ولكنَّه كان فوق ذلك كله كاتبًا أديبًا بكل ما تتضمنه هذه الصِّفة من رهافة في الحسِّ، وخصوبة في الخيال، وقوَّةٍ في الملاحظة، ودقَّةٍ في الإدراك، وقدرة على التغلغل في دقائق الموجودات، واستشفاف الحركات النفسيَّة المختلفة، وتمكن مِن العبارة الحيَّة النابضة، والتصوير الكاشِف البارع الذي يُبرز الصورةَ بشتى ملامحها وظلالها، في بساطة ودقة وجمال؛ اهـ. * ولما ثقُلت على الجاحظ وطأة السِّنين، ووهنت قُواه، أُصيب بفالج نصفي، فعاد إلى البصرة حيث لزم بيته سجينَ الهَرَم، فهُرع العلماء والأدباء إلى زيارته، مِن البصرة وبغداد وسواهما من البلدان، وكان المُبرِّدُ صاحب كتاب "الكامل" مِن جملة مَن زاره، فقال: زرتُ الجاحظَ في آخر أيامه، فقلتُ: كيفَ أنتَ؟ فأجاب: كيف يكون مَن نصفه مفلوج لو نُشر بالمناشير لما أحسَّ به، ونصفه الآخرُ منقرس لو طار الذبابُ بقربه لآلمه؟! والأمر في ذلك أنَّني قد جُزت التِّسعين: أترجو أن تكونَ وأنتَ شيخٌ كما قد كنتَ أيامَ الشَّبابِ لقذ كَذَبَتْكَ نفسُك ليس ثوبٌ خليقٌ كالجديد مِن الثيابِ * توفِّي سنة 255هـ، وقد انهالت عليه الكتب يومًا وهو مُقعَد يحمل في يده كتابًا. عاشَ أكثر من تسعين سنة، ملأها بالقراءة والنَّظر والتأليف، ولم يُشغل عن ذلك كلِّه بزوجة ولا ولد، وقد ساعدته على ذلك - كما يقول الطناحي - نفسٌ طُلعة، راغبة في المزيد، لا تقنع بما حصَّلت، ولا تقف عند ما قاله الأوائل، روي عنه أنَّه قال: (إذا سمعت الرَّجل يقول: ما ترك الأولُ للآخر شيئًا، فاعلم أنَّه ما يريدُ أن يُفلح). * يتساءلُ أحمد أمين في آخر مقالته التي بعنوان (الجاحظ البطل): ألا ترى معي أنَّه بذلك يُعدُّ بطلًا من أكبر الأبطال؟ أليسَ ظُلمًا أن يُعدَّ مَن يميت النُّفوسَ ويُزهقُ الأرواح ويُخرب البلاد بَطلًا، وأن نقدِّر بطولتَه كلَّما أمعن في ال*** والسَّلب والنَّهب والتخريب، ثمَّ لا نعد بطلًا مَن أَحيا النَّفوسَ الميتة بدل أن يميت النفوس الحيَّة، ويغذِّي العقول بدل إتلافها؟ ما أظلمَ النَّاسَ للنَّاس! * وفي الأخير نذكِّر القارئ الكريم أنَّ مقالتنا هذه اهتمَّتْ بالجانب المشرِق من حياة هذا الأديب العبقري الذي لا ينبغي تجاوزه بغير دراسة واستقراء، وتتبُّع لكتبه وأدبه، وآرائه وأفكاره، أمَّا الجانب المظلم، فلا شأن لنا به هنا، ولكلِّ مقام مقال. ودامت لكم المسرَّات. * المراجع التي اعتمدت عليها في كتابة هذه المقالة: • وفَيَات الأعيان. • تاريخ الأدب العربي؛ حنا فاخوري. • أدب العرب؛ لمارون عبود. • تاريخ العرب؛ لفيليب حتي. • تاريخ الأدب العربي؛ للزيات. • كيف حملتُ القلم؛ لحنا مينا. • فيض الخاطر؛ لأحمد أمين. • الأعلام؛ للزركلي. • مقالات الطناحي. • اقرأ وربك الأكرم؛ لجودت سعيد. ربيع بن المدني السملالي
__________________
|
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|