|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
الدنيا في عيون الحكماء والفضلاء
من أشد الغبن وأجهل الجهل أن يهتم المرء بالفاني على حساب الباقي، وبالترحال عن الحل، وبالزوال عن الخلد .. والدنيا جبلت على الفناء، وخلطت بالكادورات، فما حلوها صاف، وما نعيمها خال، بل لابد من المنغصات، ولا مفر من العقبات والكبوات. هذا وليس المقصود من أحاديث ذم الدنيا أن نُعقّد على الناس أمورهم ومعايشهم، حتى ترى الرجل الذي منّ الله عليه بشيء من متاع الدنيا وبسطة الرزق يجلس في مثل هذه المحاضرات مكسوف البال، مطأطئ الرأس، وكأنه المقصود بالكلام، أو كأنه ارتكب جرما يستحي منه .. وهذا تقدير فاحش وفهم قاصر، فما ذكر أهل الفضل مناقص الدنيا إلا للاعتبار، وتذكرة لمن كان بها منهمكا، وفي هواها منغمسا، ولحبها شغوفا ولآخرته عبوسا، وكأن له مع الخلد في حطامها موعدا ولفراقها مجانبا. وما زال النجباء يزرعون ويتاجرون ويعمرون، وفي كل مضمار خير لهم سبق، وفي كل بر لهم يد، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، لكن معقد القضية وملخص الأمر أن أهل الصلاح جعلوا الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم وشتان بين الفريقين. وحول هذا المعنى يقول يونس بن ميسرة الجيلاني: "ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد اللّه تعالى أوثق منك بما في يديك، وأن يكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون ذامّك ومادحك في الحقّ سواء". هذه هي حقيقة الدنيا .. إقبال وإدبار، فرح وحزن, شدة ورخاء, سقم وعافية، إلا أن الله تعالى لطيف بعباده، رحيم بخلقه، فتح لهم باباً يتنفسون منه الرحمة، وتنزل منه على قلوبهم السكينة والطمأنينة، ألا وهو: الأنس به والتعلق بجنابه جل وعلا .. فلا يزال المؤمن بخير ما تعلق قلبه بربه ومولاه.. {وَإِن الدارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ} [العنكبوت/64] أما هذه الدنيا فنكد وتعب وهمٌّ: {لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ} [البلد/4]. قال بعض السلف: "الدنيا دنيئة، وأدنى منها قلب من يحبّها". وروي عن عليّ رضي اللّه عنه: "الدنيا جيفة، فمن أرادها فليصبر على مزاحمة الكلاب". ويقول أبو العلاء المعري: "الدنيا إذا أقبلت بلت، وإذا أدبرت برت، وإذا حلت أوحلت، وإذا جلت أوجلت، وكم من ملك رفعت له علامات، فلما علا مات". وإنما تهلك الدنيا صاحبها كمدا وغما لأنها إذا أقبلت عليه خلعوا عليه مِن صفات الكمال ما ليس فِيه أصلا، فإذا أدبرت عنه الدنيا لا يسأل عنه سائل. يقول الأديب إبراهيم عبد القادر المازني: "قد أعرف لماذا أقرأ، وما يستهويني من الكتب ويُغريني بالاطلاع، فإنَّ أقلَّ ما في ذلك أنه نقلة إلى عالم غير دنيانا الحافلة بالمنغِّصات المائجة بالمتعبات، ولكني والله لا أدري لماذا أكتب؟ ولست أراني أفدت شيئًا، ولا لي أملٌ في شيء، وأحسبَنِي بين الكتَّاب الوحيد الذي يعيش بلا أمل جاد أو طمع مستحث؛ بل لعلِّي الكاتب الوحيد الذي يعتقد أنَّ الدنيا لا تخسر شيئًا - وقد تكسب - إذا خلتْ رقعتها من الأدباء والشعراء، واعتقادي هذا فرع من أصل أعمَّ وأشْمل، هو أنَّ الدنيا لا تنقص إذا قضت الحياة نفسُها نَحبها، فلا إنسان، ولا حياة، ولا نبات، وقد تغير زمن كنت فيه مجنونًا كشيللي [تأتي بمعنى سخرية لعدم فهم الشيء أو عدم الاستطاعة على فعله]، فالآن صار جنوني بهوان الحياة وغرور الإنسان، وعبث العيش كله، وما لقيتُ نعماءَ أو أصابَنِي ضرَّاء إلا قلت كما قال سليمان بن داود: (باطل الأباطيل، الكل باطل)؛ حتَّى لقد هممت أن أسمِّي كتابًا لي: (باطل الأباطيل)، كما سميت آخر (قبض الريح)، وثالثًا (حصاد الهشيم)، فليس إيثاري لهذه الأسماء عن تواضع كما توهم البعض، بل عن نُزُوع إلى الاستخفاف حتى بالنفس، وعن شعور قوي بمرارة الهوان الذي أجده لهذه الحياة وكل مظاهرها". يقول الشيخ عائض القرني: "إذا كانت الحياة في البساط والسياط والسلطة والسطوة، فأين أصحابها بعد موتهم {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم:98]؟ .. عاصر الشافعي خمسة ملوك، عاشوا أغنياء وهو فقير، هم في حشمٍ وخدم وهو في غربة وعزلة، بقي وذهبوا، ذكر ونسوا، عاش وماتوا؛ لأنه أمات الدنيا في حياته، وأحيا الآخرة قبل وفاته، وهم أشربوا في قلوبهم عجل العاجلة، وأخروا في بطاقة أعمالهم الآخرة، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف". وفي مقدمة كتاب ذم الدنيا من (إحياء علوم) الدين كتب أبو حامد الغزالي يقول: "الحمد لله الذي عرف أولياءه غوائل الدنيا وآفاتها، وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها، حتى نظروا في شواهدها وآياتها، ووزنوا بحسناتها سيئاتها، فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها، ولا يفي مرجوها بمخوفها، ولا يسلم طلوعها من كسوفها، ولكنها في صورة امرأة مليحة تستميل الناس بجمالها، ولها أسرار سوء قبائح تهلك الراغبين في وصالها، ثم هي فرارة عن طلابها شحيحة بإقبالها، وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها، إن أحسنت ساعة أساءت سنة، وإن أساءت مرة جعلتها سُنّة، فدوائر إقبالها على التقارب دائرة، وتجارة بنيها خاسرة بائرة، وآفاتها على التوالي لصدور طلابها راشقة، ومجاري أحوالها بذل طالبيها ناطقة، فكل مغرور بها إلى الذل مصيره، وكل متكبر بها إلى التحسر مسيره، شأنها الهرب من طالبها، والطلب لهاربها، ومن خدمها فاتته، ومن أعرض عنها واتته، لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات، ولا ينفك سرورها عن المنغصات، سلامتها تعقب السقم، وشبابها يسوق إلى الهرم، ونعيمها لا يثمر إلا الحسرة والندم، فهي خداعة مكارة طيارة فرارة، لا تزال تتزين لطلابها حتى إذا صاروا من أحبابها كشرت لهم عن أنيابها، وشوشت عليهم مناظم أسبابها، وكشفت لهم عن مكنون عجائبها، فأذاقتهم قواتل سمامها، ورشقتهم بصوائب سهامها، بينما أصحابها منها في سرور وإنعام، إذ ولت عنهم كأنها أضغاث أحلام، ثم عكرت عليهم بدواهيها فطحنتهم طحن الحصيد، ووارتهم في أكفانهم تحت الصعيد، إن ملكت واحدا منهم جميع ما طلعت عليه الشمس جعلته حصيدا كأن لم يغن بالأمس، تُمنى أصحابها سرورا، وتعدهم غرورا، حتى يأملون كثيرا ويبنون قصورا، فتصبح قصورهم قبورا، وجمعهم بورا، وسعيهم هباء منثورا، ودعاؤهم ثبورا، هذه صفتها، وكان أمر الله قدرا مقدورا". ويقول أيضا: "إن الفائزين المقربين هم علماء الآخرة ولهم علامات: فمنها أن لا يطلب الدنيا بعلمه، فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها، وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها، ويعلم أنهما متضادتان، وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وأنهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى، وأنهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر، وأنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ، فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلئ يفرغ الآخر". وقال بعض الحكماء: "انظر إلى الدنيا نظر الزاهد المفارق لها، ولا تتأملها تأمل العاشق الْوَامِقِ بها". وسئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن الدنيا فقال: "تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ". وسأل بعض خلفاء بني العباس جليسا له عن الدنيا فقال: "إذا أقبلت أدبرت". وقال عمرو بن عبيد: "الدنيا أمد والآخرة أبد". وقال أَنُوشِرْوَانَ: "إن أحببت أن لا تغتم فلا تقتن ما به تهتم". ولما *** بَزَرْجَمْهَرُ وجد في جيب قميصه رقعة فيها مكتوب: "إذا لم يكن جد ففيم الكد، وإن لم يكن للأمر دوام ففيم السرور، وإذا لم يرد الله دوام ملك ففيم الحيلة". وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قراركم، دار كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها الظعن عنها، فكم من عامر موثق عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، إنما الدنيا كفيء ظلال، قلص فذهب، بينا ابن آدم في الدنيا ينافس وهو قرير العين إذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه فسلبه آثاره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه .. إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، إنها تسر قليلا وتحزن طويلا".
__________________
|
#2
|
|||
|
|||
الله موضوع رائع ومدعم بأسانيد وعلامات وأعلام
فى ميزان حسناتك الراقى المحترم الأستاذ/ abomokhtar |
#3
|
|||
|
|||
يعطيك العافيه على الطرح القيم والرائع
جزاك الله كل خير وجعله فى ميزان حسناتك يوم القيمه تسلم الايادى وبارك الله فيك دمت بحفظ الرحمن .... |
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|