#1
|
||||
|
||||
الماضي الذي نسيناه
الماضي الذي نسيناه خالد سعد النجار يحكم التاريخ مجموعة من القوانين أو السنن الإلهية كالقوانين والسنن التي تحكم الطبيعة والكون، والأمة التي تتقن فقه هذه القوانين وتطبيقها تكون أجدر الأمم بقيادة العالم وبناء صرح الحضارة، حتى إذا تسرب إليها الفشل في الفهم والتطبيق، تراجع دورها القيادي والحضاري، وتسلمته أمة أخرى أكثر فقها وعملا. ولقد برزت الحضارة الإسلامية في ساحة التاريخ عندما علت همم أصحابها وأتقنت فقه التعامل مع قوانين التاريخ، فأخذت تشع النور وتبعث الحياة في القرون الوسطى، بل إنها تفردت عن باقي حضارات التاريخ بطهارتها وإنسانيتها بشكل منقطع النظير، كما قدمت لأبناء هذا الجيل الذي ينشد النهضة تجربة عملية كاملة الروعة في فن بناء الحضارة، أولى بنا أن نتبع خطاها، فلا حاضر لأمة تجهل ماضيها ولا مستقبل لأمة تنكر خصائصها وفضائلها وهى مما تتصل بالحضارة بأوفى سبب وأقوى نسب. وإذا كان الوقوف على الماضي للبكاء عليه والنحيب هو شغل الكسالى العاطلين، فإن تجاهله وازدراءه مع ما يفيض به من خير واسع ونور رحيب هو شأن الحاقدين أو الجاهلين، ومن الخير أن نستفيد من كنوزنا في بناء نهضتنا العتيدة لتكون النهضة مأمونة العواقب، غنية بما يمد لها من أسباب النجاح والبقاء، واضحة الملامح فيما تهدف إليه من كرامة وهناء، متصلة أمجادها بأمجاد الماضي، لتتصل أمجاد المستقبل بأمجادها فيستمر الموكب وتنسجم الحلقة ويكتمل البناء. بالعدل تقوم الحضارات هذا هو القانون الأول من قوانين التاريخ والسنن الإلهية التي لا تتبدل ولا تتغير عبر الزمان، ولما كان للعدل هذا الدور الهام في قيام الحضارات وضمان استمرارها وازدهارها، أولى الإسلام له اهتماما بالغا، وتنوعت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بين الترغيب والترهيب مما كان له بالغ الأثر في تربية قادة وأجيال امتزجت حياتهم بالعدل بشكل فريد، وقدموا للبشرية نماذج نادرة في حسن السيرة، وزينوا وجه التاريخ بالعديد من المواقف العادلة التي تتضاءل أمامها مواقف العدل في أي حضارة أخرى، فلا يسع المطالع لماضيهم إلا أن يقول سبحانك يا من خلقت هؤلاء. ولقد تبوء العدل هذه المنزلة السامية في الحضارة الإسلامية نتيجة تربية إيمانية حكيمة واعية غرست معالمه في نفوس المؤمنين وجعلته أحد دعامات مركب النجاة لحياة راشدة في الدنيا والآخرة، قال - تعالى -يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) [النساء: 135] وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - عز وجل - - وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)) [مسلم] وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من ولى من أمور المسلمين شيئا، فاحتجب دون خلتهم وحاجتهم وفقرهم وفاقتهم، احتجب الله عنه يوم القيامة دون خلته وحاجته وفاقته وفقره)) [أبو داود] فأفرزت هذه التربية قافلة العدل في حضارة الإسلام الذين بذكرهم تطيب المجالس، ولا يسعنا إلا أن نقطتف بعضا من مواقفهم الجليلة نقدم بها لأبناء الأمة خير قدوة، ونتذكر بعضا من الماضي الذي نسيناه. فها هو الصديق الأكبر أبو بكر -رضي الله عنه- الذي يقول عنه ابن عمر: كان يحلب للحى أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا منائحنا. فسمعها أبو بكر، فقال: بل لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجوا أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه. فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية أتحبين أن أرغى لك أو أن أصرح، فربما قالت: أرغ، وربما قالت: أصرح. فأي ذلك قالت فعل. وقال -رضي الله عنه- لعائشة أم المؤمنين حين حضرته الوفاة: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فئ المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضح وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهنّ إلى عمر وأبرئ منهن، ففعلت. فلما جاء الرسول عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل على الأرض، وقال: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده. ثم ها هو الفاروق عمر - الذي يشبه عدله الأساطير - ذات يوم يتلقى هدية من الحلوى، ولا تكاد توضع بين يديه حتى يسأل الرسول الذي جاء يحملها: ما هذا؟ قال: حلوى يصنعها أهل أذربيجان، وقد أرسلني بها إليك عتبة بن فرقد وكان واليا على أذربيجان فذاقها عمر فوجد لها مذاقا شهيا، فعاد يسأل الرسول: أكل المسلمين هناك يطعمون هذا؟ قال الرجل: لا، وإنما هو طعام الخاصة. فقال عمر للرجل: أين بعيرك؟ خذ جملك هذا وارجع بها لعتبة، وقل له: عمر يقول لك: أتق الله واشبع المسلمين مما تشبع منه. وذو النورين عثمان الرحيم العادل، يغضب على خادم له يوما فيعرك أذنه حتى يوجعه ثم سرعان ما يدعو خادمه ويأمره أن يقتص منه فيعرك أذنه، ويأبى الخادم ويأمره في حزم فيطيع ويقول له: اشدد يا غلام، فإن قصاص الدنيا أرحم من قصاص الآخرة. وعلى ابن أبى طالب -رضي الله عنه- الذي ما زانته الخلافة بل زانها بعدله، فيروى عنترة بن عبد الرحمن الشيبانى قال: دخلت على علي بن أبى طالب بالخورنق وعليه قطيفة، وهو يرعد من البرد. فقلت يا أمير المؤمنين: إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيبا من هذا المال، وأنت ترعد من البرد؟! فقال: "إني والله لا أزرأ من مالكم شيئا، وهذه القطيفة هي التي خرجت بها من بيتي أو قال من المدينة". وعن على بن الأرقم عن أبيه قال: رأيت عليا وهو يبيع سيفا له في السوق، ويقول: من يشترى منى هذا السيف، فوالذي فلق الحبة لطالما كشفت به عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته. ويعقد سليمان بن عبد الملك عقدا ليس للشيطان فيه نصيب ويولى أشج بني أمية عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- فلما تولى قالت رعاة الشاة في ذروة الجبال: من هذا الخليفة الصالح الذي قد قام على الناس؟ فقيل لهم: وما علمكم بذلك؟ قالوا: إنا إذا قام على الناس خليفة صالح كفت الذئاب والأسد عن شأننا. وكتبت إليه سوداء مسكينة تسمى (فرتونة السوداء) من الجيزة بمصر أن لها حائطا متهدما لدارها يتسوره اللصوص ويسرقون دجاجها، وليس معها مال تنفقه في هذا السبيل. فيكتب عمر إلى واليه على مصر (أيوب بن شرحبيل) من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أيوب بن شرحبيل، سلام الله عليكم. أم بعد، فإن فرتونة السوداء كتبت إلى تشكو إلى قصر حائطها وأن دجاجها يسرق منها وتسأل تحصينه لها فإذا جاءك كتابي هذا فاركب بنفسك وحصنه لها. وكان الخليفة المهتدى - رحمه الله - يحب الاقتداء بما سلكه عمر بن عبد العزيز في خلافته من الورع والتقشف وكثرة العبادة..يروى عنه جعفر بن عبد الواحد قال: ذاكرت المهتدى بشيء، فقلت له: كان أحمد بن حنبل يقول به ولكنه كان يخالف، كأني أشرت إلى آبائه.فقال: رحم الله أحمد بن حنبل لو جاز لي لتبرأت من أبى، تكلم بالحق وقل به، فإن الرجل ليتكلم بالحق فينبل في عيني. والسلطان العادل جلال الدولة ملك شاه بن ألب أرسلان كان آية في حبه للعدل والإنصاف، جاء إليه يوما رجلان قد ظلما فاستغاثا إليه، فقال: خذا بيدي واحملاني إلى الوزير. فامتنعا، فقال: لابد. فأخذ كل واحد منهما بيد ومشى معهما، فبلغ ذلك الوزير (نظام الملك) فقام حافيا وتلقاه، وقال: ما هذا؟ قال: أنت الذي أحوجتني إلى هذا؟ أنا أنصبتك لتدفع عنى الظلم فإذا لم تدفع عنى أخذاني يوم القيامة هكذا. ونور الدين محمود زنكي، مثل سامق في العدل، فكان - رحمه الله - يقعد في الأسبوع أربع أيام أو خمسة أيام في دار العدل للنظر في أمور الرعية وكشف الظلامة، لا يطلب بذلك درهما ولا دينار ولا زيادة ترجع إلى خزائنه، وإنما يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله وطلبا للثواب والزلفى في الآخرة، ويأمر بحضور العلماء والفقهاء ويأمر بإزالة الحاجب والبواب حتى يصل إليه الضعيف والقوى والفقير والغنى، ويكلمهم بأحسن الكلام ويستفهم منهم بأبلغ النظام حتى لا يطمع الغنى في دفع الفقير بالمال ولا القوى في دفع الضعيف بالقال، ويحضر في مجلسه المرأة العجوز الضعيفة التي لا تقدر على الوصول إلى خصمها ولا المكالمة معه فيأمر بمساواته لها فتغلب خصمها طمعا في عدله ويعجز الخصم عن دفعها خوفا من عدله. والملك العظيم الراشد (أورانك زيب عالمكير) الذي حكم الهند وهو في الأربعين من عمره ففتح البلاد ونشر الأمن والعدل وأمتدت دولة الإسلام من سفوح ((الهملايا)) في الشمال حتى شواطئ البحر في أقصى الجنوب، ومع هذه الفتوحات العظيمة كان ينظر في كل شئون الملك وقضايا الرعية بمثل عين العقاب فأزال كل آثار زندقة الملك (جلال الدين أكبر) وعدل الضرائب ومد الطرق العظيمة وأسس دورا للعجزة ومارستانات للمعتوهين ومستشفيات للمرضى، وبنى المساجد في جميع أنحاء الهند، وكان يكتب المصاحف بخطه ويبيعها ليعيش بثمنها بعد أن زهدت نفسه في أموال المسلمين، مع أن مفاتيح كنوز الهند كلها كانت بيده، وكان يمر عليه رمضان كله فلا يأكل إلا أرغفة من خبز الشعير من كسب يمينه لا من أموال الدولة. وغيرهم وغيرهم كثير من أفراد قافلة العدل التي رباها الإسلام على عينه، وعلى قدر ما تطالع من تاريخ العظماء في كافة الحضارات لن تجد أروع ولا أنبل ولا أعدل من هؤلاء.. ولقد ذكروا في تاريخ ((جورج واشنطن)) محرر أمريكا أنه كان مارا ذات يوم في بعض شوارع المدينة التي سميت باسمه، فرأى بعض الجنود يحاولون رفع حجر ويعجزون عن ذلك، والضابط واقف لا يحاول إعانتهم، فقال له واشنطن: ساعدهم على حمله. فأبى الضابط، وقال: إني لا أتنازل إلى هذا. فألقى واشنطن رداءه وساعدهم حتى حملوا الحجر ثم قال لهم: كلما احتجتم إلى مساعدة فاسألوا عن دار واشنطن. ورغم أنها نادرة تدل على خلق عظيم ولكن أين هي مما فعل أبو بكر أو عمر أو عثمان أو غيرهم ممن صنعتهم حضارة الإسلام. الحضارة والنزعة الإنسانية وجهان لعملة واحدة هذا هو القانون الثاني من قوانين التاريخ.. فالنزعة الإنسانية شريان الحضارة الذي يمدها بالحياة، وأي أمة قامت على البطش والظلم سرعان ما تذوب وتذهب إلى مزبلة التاريخ، ولقد تميزت هذه النزعة الإنسانية في الحضارة الإسلامية بشكل واضح، فنقلت الإنسانية من أجواء الحقد والكراهية والتفرقة العنصرية والعصبية الجاهلية إلى أجواء الحب والتسامح والتعاون والتساوي أمام الله - تعالى - ولدى القانون وفي كيان المجتمع، تساويا لا أثر فيه لاستعلاء عرق على عرق أو فئة على فئة أو أمة على أمة. قال - تعالى -: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) [النساء: 1] (إن أكرمكم عن الله أتقاكم) [الحجرات: 13] ووقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ليعلن في خطابه الخالد: ((الناس من آدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى)) كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر)) [رواه مسلم] هذه هي معالم النزعة الإنسانية في مبادئ حضارتنا وتشريعها حين أعلنت للناس فكيف كان واقعها حين حكمت وانتصرت؟ هل ظلت تلك المبادئ ميثاقا كميثاق حقوق الإنسان في شرعة الأمم تحتفل الدول بذكرى إعلانه يوما في كل عام بينما تمتهنه الدول الكبرى في كل يوم؟ هل ظلت تلك المبادئ حبيسة في البلد الذي أعلنت فيه كما احتبست مبادئ الثورة الفرنسية في فرنسا وحرمت على مستعمراتها؟ هل نصبت تماثيل جديدة كما نصب تمثال الحرية في نيويورك أول ما يراه القادم إلى تلك الديار، بينما تنطلق أعمال أمريكا في خارجها نطقا يلعن الحرية ويهزأ بها ويضطهد عشاقها الأحرار؟ لنقتطف بعضا من روائع النزعة الإنسانية في حضارتنا، وكيف أعلنتها حقائق ناطقة في تصرفات أفرادها وحكامها. جاء عدى بن حاتم الطائي إلى المدينة يوما، وهو لم يسلم بعد، وحضر مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحوله أصحابه بعد منصرفهم من إحدى الغزوات، يلبسون الدروع السابغات، فراعه هيبة الصحابة لنبيهم واحترامهم له، وبينما هو كذلك إذ جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة فقيرة من إماء المدينة، وقالت له: أريد يا رسول الله أن أسر إليك شيئا. فقال لها: ((انظري في أي سكك المدينة أخلو لك)) ثم نهض معها ووقف طويلا يستمع إليها ثم عاد. فلما رأى عدى هذا الموقف تملكته روعة هذه النزعة الإنسانية في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم. ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه- مرة في السوق شيخا كبيرا يسأل الصدقة. فقال له: ما أنت يا شيخ؟ قال أنا شيخ كبير أسأل الجزية والنفقة. وكان يهوديا من سكان المدينة، فإذا بعمر الإنسان العظيم يقول له ما أنصفناك يا شيخ أخذنا منك الجزية شابا ثم ضيعناك شيخا، وأخذ بيده إلى بيته، فرضخ له ما كان من طعامه ثم أرسل إلى خازن بيت المال، يقول له: افرض لهذا وأمثاله ما يكفيه ويغنى عياله. وانظر إلى حضارة معيارها نور القلوب لا نور الوجوه، لما جاء المسلمون لفتح مصر توغلوا فيها حتى وقفوا أمام ((حصن بابليون)) فرغب (المقوس) في المفاوضة مع المسلمين، فأرسل إليهم وفدا ليعلم ما يريدون ثم طلب منهم أن يرسلوا إليه وفدا، فأرسل إليه عمرو بن العاص عشرة نفر فيهم عبادة بن الصامت، وكان عبادة أسود شديد السواد طويلا حتى قالوا إن طوله عشرة أشبار، وأمره عمرو أن يكون هو الذي يتولى الكلام، فلما دخلوا على المقوقس تقدمهم عبادة بن صامت فهابه المقوقس لسواده، وقال لهم: نحوا عنى هذا الأسود، وقدموا غيره ليكلمني. فقال رجال الوفد جميعا: إن هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا، والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله. فقال لهم: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم؟ قالوا: كلا، إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعا وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السواد فينا. فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود، وكلمني برفق، فإني أهاب سوادك، وإن اشتد كلامك علي ازددت لك هيبة. فقال عبادة، وقد رأى فزع المقوقس من السواد: إن في جيشنا ألف أسود هم أشد سوادا منى. وكان عبد الملك بن مروان يأمر المنادى أن ينادى في موسم الحج أن لا يفتى الناس إلا عطاء بن أبى رباح إمام أهل مكة وعالمها وفقيهها.. أتدرون كيف كان عطاء هذا؟ لقد كان أسود أعور أفطس أشل أعرج مفلفل الشعر لا يتأمل المرء منه طائلا، وكان إذا جلس في حلقته العلمية بين الآلاف من تلاميذه بدا كأنه غراب أسود في حقل من القطن.. هذا الرجل على دمامته جعلته حضارتنا إماما يرجع الناس إليه في الفتوى ومحل إكبارهم وتقديرهم. وجاء يوما سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم ثم قال سليمان لابنيه: قوما، فقاما فقال: يا بنيا لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود. وليس من أبناء العربية من يجهل كافورا الإخشيدى العبد الأسود وقد حكم مصر في القرن الرابع الهجري وهو الذي خلده المتنبى في مدحه وهجائه. بل إن مبادئ النزعة الإنسانية لم ننساها حتى في الحروب، وانظر إلى وصية أبو بكر الصديق إلى أسامة بن زيد: (لا تمثلوا ولا ت***وا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا ت***وا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا إليه أنفسهم). ولما ولى الخلافة عمر بن عبد العزيز، وفد إليه قوم من أهل سمرقند، فرفعوا إليه أن قتيبة قائد الجيش الإسلامي فيها دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين غدرا بغير حق، فكتب عمر إلى عامله هناك أن ينصب لهم قاضيا ينظر فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين من سمرقند أخرجوا، فنصب لهم الوالي (جميع بن حاضر الباجى) قاضيا ينظر في شكواهم، فحكم القاضي -وهو مسلم- بإخراج المسلمين على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامي وينابذهم وفقا لمبادئ الحرب الإسلامية حتى يكون أهل سمرقند على استعداد لقتال المسلمين فلا يؤخذوا بغتة، فلما رأى ذلك أهل سمرقند مما لا مثيل له في التاريخ من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها، قالوا: هذه أمة لا تحارب وإنما حكمها رحمة ونعمة، فرضوا ببقاء الجيش الإسلامي وأقروا أن يقيم المسلمون بين أظهرهم. ما أجل هذا التاريخ الذي ظفر بهؤلاء الأفذاذ من روائع الرجال، وما أكرمها حضارة أنجبت هؤلاء الأطهار، وفي عصر اهتزت معايير القدوة هل لنا أن نقتدي بهؤلاء لكل يعود لنا المجد الغابر. المصادر: - من يظلهم الله، د/ سيد العنانى. - من روائع حضارتنا، د/ مصطفي السباعى. - البحر الرائق، د/ أحمد فريد. |
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|