تأملات سجين سابق في سجن مبارك

[abomokhtar]

بقلم د/ ناجح إبراهيم
الحكم الذي أصدره المستشار رفعت لم يرض عنه الكثيرون والرافضون له أكثر من غيرهم وقد يكون معهم الحق في ذلك.
ولكن هؤلاء نسوا أن الدنيا ليست هي دار العدل ولا الإنصاف الحقيقي للمظلوم والمقهور .. ولكن العدل الحقيقي والمطلق لن يكون إلا في الآخرة حيث يتولى الحكم فيها الحكم العدل الذي يعلم السر وأخفى.. الذي يقول بعد هلاك الجميع: "لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ " .. ثم يرد على نفسه سبحانه " لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ *الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.. لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ".
أما الدنيا فالظلم والبغي هو الأغلب والأعم.. والعدل والقسطاس هو الاستثناء .. ولو كان في الدنيا عدل ما أقام الله الحساب والميزان يوم القيامة.
ورغم أنني قضيت 24 عاما ًً في السجن في عهد مبارك إلا أنني لم أشمت فيه عندما سجن.. فقد عزمت مع نفسي ألا أشمت في أحد مهما ظلمني .
فقد تعلمت من الإسلام ومن سجني الطويل أيضا ً أن أتعلم العبرة والعظة من كل ما يدور حولي.. وأن أبث هذه العبرة للآخرين ما استطعت إلي ذلك سبيلا.
وقد قلت لنفسي لماذا سجن مبارك دون غيره من حكام مصر حتى الذين ظلموا منهم.. وتأملت فترة حكمه الطويل فوجدت أنه أسرف في سجن معارضيه .. وخاصة الإسلاميين منهم.. وقد وجدت بين المعتقلين مثلا ً من كان مبتور القدمين ويزحف على الأرض.. ورغم ذلك مكث قرابة 11 عاما ً معتقلا ً .. ووجدت معتقلين آخرين حصلوا على 45 حكم قضائي بالإفراج ولم ينفذ.. ووجدت من حصلوا على أحكام بالبراءة يمكثون 13 عاما ً بعد الحكم في المعتقل.. وكنا نمزح معهم قائلين: إنهم يقضون في حكم البراءة.
وكانت هناك أسر كاملة في المعتقل من الرهائن حتى أنني وجدت سبعة من أسرة واحدة.. وكان هناك سبعة من أشقائي غير والدتي ووالدي .. رغم أن المطلوب في الأمر هو العبد لله فقط.. وكان هناك قزم معتقل من إسنا طوله لا يجاوز 35 سم.
لقد كان هناك شطط وإسراف وتطرف في سجن واعتقال عشرات الآلاف رغم أن المتهمين الحقيقيين دوما ً لا يجاوزون العشرات .. وكان يمكن أن يتسامح أو يرحم من لهم ظروف خاصة.. ولكنه أبى أن يرحم أو يحسن إلي أحد .. فجاءته طوائف من الشباب وشرائح مصرية كثيرة لا تريد أن ترحمه أو تتسامح معه أو تعفو عنه ً.
إنها الحكمة الأزلية " الجزاء من *** العمل" .. فمن زرع المعتقلات دخلها .. ومن زرع المعروف لم يعدم جوازيه .. ومن أشاع العفو والرحمة والتسامح وجدها من الآخرين في شدته.. فمن سجن شعبه سجن .. ومن روعه أخافه الله .. ومن حرم الآلاف من أبنائهم أذاقه الله من نفس الكأس .
إنها عبرة وعظة لنا جميعا ً وخاصة أن البعض منا الآن على أعتاب الحكم وبينهم وبين السلطة قاب قوسين أو أدنى .. وهذا يعلمنا ألا نعدل بين الناس فحسب ولكن أن نحسن إليهم.. وأن ننحي الانتقام جانبا ً .. وأن نعفو عمن ظلمنا ونصل من قطعنا.. وألا نظلم من يخالفنا في رأي أو فكر أو حكم .. ولا نقسو على الآخرين .
إنها رسالة لكل من تهفو نفسه إلي كراسي السلطة تناديه " إنها خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها " كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) لأبي ذر .
إنها تعلمنا جميعا ً أن حريات الناس وليس المسلمين فقط ولدوا بها ولم يهبها لهم أحد .. وليس من حق أحد مهما كان سلطانه وتدينه وتقواه أن يسلبهم هذه الحرية إلا بحقها.
يا قوم اهتموا بالعبرة واتركوا التشفي أو الشماتة.. واحذروا من كراسي السلطة فهي التي تخلب عقول الأفذاذ .. وقد تحول الصالحين إلي جبارين.