|
أرشيف المنتدى هنا نقل الموضوعات المكررة والروابط التى لا تعمل |
|
أدوات الموضوع | ابحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() أهمية التَّعاون
لقد جعل الله سبحانه وتعالى التَّعاون فطرة جبلِّيَّة، جبلها في جميع مخلوقاته: صغيرها وكبيرها، ذكرها وأنثاها، إنسها وجنِّها، فلا يمكن لأيِّ مخلوق أن يواجه كلَّ أعباء الحياة ومتاعبها منفردًا، بل لابدَّ أن يحتاج إلى مَن يعاونه ويساعده؛ لذلك فالتَّعاون ضرورة مِن ضروريَّات الحياة، التي لا يمكن الاستغناء عنها، فبالتَّعاون يُنْجز العمل بأقصر وقت وأقلِّ جهد، ويصل إلى الغرض بسرعة وإتقان. والملاحظ أنَّ نصوص الشَّريعة جاءت بالخطاب الجماعي، فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ وردت (89) مرَّة، وقوله: أَيُّهَا النَّاسُ عشرين مرَّة، وقوله: بَنِي آدَمَ خمس مرَّات، دلالة على أهمية الاجتماع والتَّعاون والتَّكامل. وقد حثَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على التَّعاون ودعا إليه، فقال: ((مَن كان معه فضل ظهر، فليعد به على مَن لا ظهر له، ومَن كان له فضلٌ مِن زاد فليعد به على مَن لا زاد له)) . وشبَّه المؤمنين في اتِّحادهم وتعاونهم بالجسد الواحد، فقال: ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى)) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا)) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((يد الله مع الجماعة)) . وحثَّ على معونة الخدم ومساعدتهم، فقال: ((ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلَّفتموهم فأعينوهم)) . |
#2
|
||||
|
||||
![]() أقوال السَّلف والعلماء في التَّواضُع
- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (إنَّكم لتغفلون أفضل العبادة: التَّواضُع) . - وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (لا يبلغ عبدٌ ذُرَى الإيمان حتى يكون التَّواضُع أحبَّ إليه مِن الشَّرف، وما قلَّ مِن الدُّنْيا أحبَّ إليه ممَّا كَثُر، ويكون مَن أحبَّ وأبغض في الحقِّ سواء، يحكم للنَّاس كما يحكم لنفسه وأهل بيته) . - و(سُئِل الفضيل بن عياض عن التَّواضُع، فقال: يخضع للحقِّ، وينقاد له، ويقبله ممَّن قاله) . - وقال ابن المبارك: (رأس التَّواضُع أن تضع نفسك عند مَن هو دونك في نعمة الدُّنْيا حتى تُعْلِمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمَّن هو فوقك في نعمة الدُّنْيا، حتى تُعْلِمه أنَّه ليس له بدنياه عليك فضل) . - وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال: (رأيت أمَّ الدَّرداء مع نساء المساكين جالسة ببيت المقدس) . - وقال قتادة: (مَن أُعْطِي مالًا أو جمالًا وثيابًا وعلمًا، ثمَّ لم يتواضع، كان عليه وبالًا يوم القيامة) . - وقال يحيى بن الحكم بن أبي العاص لعبد الملك: (أيُّ الرِّجال أفضل؟ قال: مَن تواضع عن رفعة، وزهد على قُدْرَة، وترك النُّصرة على قومه) . - وقال إبراهيم بن شيبان: (الشَّرف في التَّواضُع، والعزُّ في التَّقوى، والحرِّية في القناعة) . - وقال علوان بن داود البجلي: حدَّثني شيخٌ مِن همدان عن أبيه قال: (بعثني قومي في الجاهليَّة بخيلٍ أهدوها لذي الكَلَاع، فأقمت ببابه سنةً لا أصِلُ إليه، ثمَّ أشرف إشرافةً على النَّاس مِن غُرْفَة له، فخرُّوا له سجودًا، ثمَّ جلس فلقيته بالخيل، فقبلها، ثمَّ لقد رأيته بحمص وقد أسلم، يحمل بالدِّرهم اللَّحم، فيبتدره قومه ومواليه فيأخذونه منه فيأبى تواضعًا، وقال: أفٍّ لذي الدُّنْيا إذا كانت كذا***أنا منها كلَّ يوم في أذى ولقد كنت إذا ما قيل مَن***أنعم النَّاس معاشًا قيل ذا ثمَّ بُدِّلت بعيش شقوة***حبَّذا هذا شقاء حبَّذا - وعن صالح المرِّيِّ قال: (خرج الحسن ويونس وأيوب يتذاكرون التَّواضُع، فقال لهما الحسن: وهل تدرون ما التَّواضُع؟ التَّواضُع: أن تخرج مِن منزلك فلا تلق مسلمًا إلَّا رأيت له عليك فضلًا) . - (وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارةً مرَّةً، فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره، يقول: طرِّقوا للأمير) . - وقال يحيى ابن أبي كثير: (رأس التَّواضُع ثلاث: أن ترضى بالدُّون مِن شرف المجلس، وأن تبدأ مَن لقيته بالسَّلام، وأن تكره مِن المدحة والسُّمعة والرِّياء بالبِرِّ) . |
#3
|
||||
|
||||
![]() فوائد التَّواضُع 1- أنَّ التَّواضُع يرفع المرء قدرًا ويُعْظِم له خطرًا ويزيده نبلًا .
2- التَّواضُع يؤدِّي إلى الخضوع للحقِّ والانقياد له . 3- التَّواضُع هو عين العزِّ؛ لأنَّه طاعة لله ورجوع إلى الصَّواب . 4- يكفي المتواضع محبَّة عباد الله له، ورفع الله إيَّاه . 5- التَّواضُع فيه مصلحة الدِّين والدُّنْيا، ويزيل الشَّحناء بين النَّاس، ويريح مِن تعب المباهاة والمفاخرة . 6- التَّواضُع يُكْسِب السَّلامة، ويورث الألفة، ويرفع الحقد، ويُذْهِب الصَّد . 7- ثمرة التَّواضُع المحبَّة، كما أنَّ ثمرة القناعة الرَّاحة، وإنَّ تواضع الشَّريف يزيد في شرفه، كما أنَّ تكبُّر الوضيع يزيد في ضِعَتِه . 8- التَّواضُع يؤلِّف القلوب، ويفتح مغاليقها، ويجعل صاحبه جليل القدر، رفيع المكانة. |
#4
|
||||
|
||||
![]() أقسام التَّواضُع
(التَّواضُع تواضعان: أحدهما محمود، والآخر مذموم. والتَّواضُع المحمود: ترك التَّطاول على عباد الله والإزراء بهم. والتَّواضُع المذموم: هو تواضع المرء لذي الدُّنْيا رغبةً في دنياه، فالعاقل يلزم مفارقة التَّواضُع المذموم على الأحوال كلِّها، ولا يفارق التَّواضُع المحمود على الجهات كلِّها) . التَّواضُع المحمود على نوعين: النَّوع الأوَّل: (تواضع العبد عند أمر الله امتثالًا، وعند نهيه اجتنابًا، فإنَّ النَّفس لطلب الرَّاحة تتلكأ في أمره، فيبدو منها نوع إباء وشِرَاد هربًا مِن العبوديَّة وتثبت عند نهيه طلبًا للظَّفر بما مُنِع منه، فإذا وضع العبد نفسه لأمر الله ونهيه فقد تواضع للعبوديَّة. والنَّوع الثَّاني: تواضعه لعظمة الرَّب وجلاله وخضوعه لعزَّته وكبريائه، فكلَّما شمخت نفسه ذكر عظمة الرَّب تعالى وتفرُّده بذلك، وغضبه الشَّديد على مَن نازعه ذلك، فتواضعت إليه نفسه، وانكسر لعظمة الله قلبه، واطمأنَّ لهيبته وأخبت لسلطانه، فهذا غاية التَّواضُع، وهو يستلزم الأوَّل مِن غير عكس، والمتواضع -حقيقةً- مَن رُزِق الأمرين، والله المستعان) . التَّواضُع المذموم: قال ابن القيِّم: (ومِن التَّواضُع المذموم: المهانة. والفرق بين التَّواضُع والمهانة: أنَّ التَّواضُع يتولَّد مِن بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله، وتعظيمه ومحبَّته وإجلاله، ومِن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها، فيتولَّد مِن بين ذلك كلِّه خُلُقٌ هو التَّواضُع وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذُّل والرَّحمة بعباده، فلا يرى له على أحدٍ فضلًا، ولا يرى له عند أحدٍ حقًّا، بل يرى الفضل للنَّاس عليه، والحقوق لهم قِبَلَه، وهذا خُلُقٌ إنَّما يعطيه الله عزَّ وجلَّ مَن يحبُّه ويكرمه ويقرِّبه. وأمَّا المهانة: فهي الدَّناءة والخِسَّة، وبذل النَّفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضع السِّفَل في نيل شهواتهم، وتواضع المفعول به للفاعل، وتواضع طالب كلِّ حظٍّ لمن يرجو نيل حظِّه منه، فهذا كلُّه ضِعَةٌ لا تواضع، والله سبحانه يحبُّ التَّواضُع، ويبغض الضِّعَة والمهانة، وفي الصَّحيح عنه: وأُوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ ) . |
#5
|
||||
|
||||
![]() درجات التَّواضُع
ذكر أبو إسماعيل الهرويُّ للتواضع ثلاث درجات، فقال: (الدَّرجة الأولى: التَّواضُع للدِّين، وهو أن لا يعارِض بمعقولٍ منقولًا، ولا يتَّهم للدِّين دليلًا، ولا يرى إلى الخلاف سبيلًا) . قال ابن القيِّم: (التَّواضُع للدِّين: هو الانقياد لما جاء به الرَّسول، والاستسلام له والإذعان، وذلك بثلاثة أشياء: الأوَّل: أن لا يعارِض شيئًا ممَّا جاء به بشيء مِن المعارَضَات الأربعة السَّارية في العالم المسمَّاة: بالمعقول والقياس والذَّوق والسِّياسة. فالأولى: للمنحرفين أهل الكِبْر مِن المتكلِّمين، الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة، وقالوا: إذا تعارض العقل والنَّقل: قدَّمنا العقل وعزلنا النقل؛ إمَّا عزل تفويض، وإمَّا عزل تأويل، والثَّاني: للمتكبِّرين مِن المنتسبين إلى الفقه، قالوا: إذا تعارض القياس والرَّأي والنُّصوص: قدَّمنا القياس على النَّص ولم نلتفت إليه، والثَّالث: للمتكبِّرين المنحرفين مِن المنتسبين إلى التَّصوف والزُّهد، فإذا تعارض عندهم الذَّوق والأمر: قدَّموا الذَّوق والحال، ولم يعبؤوا بالأمر، والرَّابع: للمتكبِّرين المنحرفين مِن الولاة والأمراء الجائرين، إذا تعارضت عندهم الشَّريعة والسِّياسة: قدَّموا السِّياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشَّريعة، فهؤلاء الأربعة: هم أهل الكِبْر. والتَّواضُع: التَّخلُّص مِن ذلك كلِّه. الثَّاني: أن لا يتَّهم دليلًا مِن أدلَّة الدِّين، بحيث يظنُّه فاسد الدِّلالة أو ناقص الدِّلالة أو قاصرها، أو أنَّ غيره كان أولى منه، ومتى عَرَض له شيء مِن ذلك فليتَّهم فهمه، وليعلم أن الآفة منه والبليَّة فيه، كما قيل: وكم من عائب قولًا صحيحًا***وآفته مِن الفهم السَّقيم ولكن تأخذ الأذهان منه***على قدر القرائح والفهوم وهكذا الواقع في الواقع حقيقةً: أنَّه ما اتَّهم أحدٌ دليلًا للدِّين إلَّا وكان المتِّهم هو الفاسد الذِّهن، المأفون في عقله وذهنه، فالآفة مِن الذِّهن العليل لا في نفس الدِّليل، وإذا رأيت مِن أدلَّة الدِّين ما يُشْكل عليك وينبو فهمك عنه، فاعلم أنَّه لعظمته وشرفه استعصى عليك، وأنَّ تحته كنزًا مِن كنوز العلم، ولم تؤتَ مفتاحه بَعْدُ، هذا في حق نفسك، وأمَّا بالنِّسبة إلى غيرك: فاتَّهم آراء الرِّجال على نصوص الوحي، وليكن ردُّها أيسر شيء عليك للنصوص، فما لم تفعل ذلك فلست على شيء ولو.. ولو..، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، قال الشَّافعي -قدَّس الله روحه-: أجمع المسلمون على أنَّ مَن استبانت له سنَّة رسول الله: لم يحلَّ له أن يدعها لقول أحد. الثَّالث: أن لا يجد إلى خلاف النَّص سبيلًا البتَّة: لا بباطنه ولا بلسانه ولا بفعله ولا بحاله، بل إذا أحسَّ بشيء مِن الخلاف: فهو كخلاف المقْدِم على الزِّنا وشرب الخمر و*** النَّفس، بل هذا الخلاف أعظم عند الله مِن ذلك، وهو داع إلى النِّفاق، وهو الذي خافه الكبار والأئمة على نفوسهم. واعلم أنَّ المخالف للنَّص لقول متبوعه وشيخه ومقلَّده، أو لرأيه ومعقوله وذوقه وسياسته، إن كان عند الله معذورًا -ولا والله ما هو بمعذور- فالمخالف لقوله -لنصوص الوحي- أولى بالعذر عند الله ورسوله وملائكته والمؤمنين مِن عباده. فوا عجبًا إذا اتَّسع بطلان المخالفين للنُّصوص لعذر مَن خالفها تقليدًا أو تأويلًا أو لغير ذلك، فكيف ضاق عن عذر مَن خالف أقوالهم وأقوال شيوخهم لأجل موافقة النُّصوص؟! وكيف نصبوا له الحبائل وبغوه الغوائل ورموه بالعظائم، وجعلوه أسوأ حالًا مِن أرباب الجرائم؟! فرموه بدائهم وانسلوا منه لواذًا، وقذفوه بمصابهم وجعلوا تعظيم المتبوعين ملاذًا لهم ومعاذًا، والله أعلم) . قال صاحب المنازل: (ولا يصحُّ ذلك إلَّا بأن يعلم: أنَّ النَّجاة في البصيرة والاستقامة بعد الثِّقة وأنَّ البيِّنة وراء الحجَّة) . قال ابن القيِّم: (يقول: إنَّ ما ذكرناه مِن التَّواضُع للدِّين بهذه الأمور الثَّلاثة: الأولى: علمه أنَّ النَّجاة مِن الشَّقاء والضَّلال: إنَّما هي في البصيرة، فمن لا بصيرة له: فهو مِن أهل الضَّلال في الدُّنْيا والشَّقاء في الآخرة، والبصيرة نور يجعله الله في عين القلب، يفرِّق به العبد بين الحقِّ والباطل، ونسبته إلى القلب: كنسبة ضوء العين إلى العين، وهذه البصيرة وهبيَّة وكسبيَّة، فمَن أدار النَّظر في أعلام الحقِّ وأدلَّته، وتجرَّد لله مِن هواه: استنارت بصيرته، ورُزِق فُرْقَانًا يفرِّق به بين الحقِّ والباطل. الثَّاني: أن يعلم أنَّ الاستقامة إنَّما تكون بعد الثِّقة، أي لا يُتصور حصول الاستقامة في القول والعمل والحال إلَّا بعد الثِّقة بصحَّة ما معه مِن العلم، وأنَّه مقتبسٌ مِن مشكاة النُّبوَّة، ومَن لم يكن كذلك فلا ثقة له ولا استقامة. الثَّالث: أن يعلم أنَّ البيِّنة وراء الحجَّة، والبيِّنة مراده بها: استبانة الحقِّ وظهوره، وهذا إنَّما يكون بعد الحجَّة إذا قامت، استبان الحقُّ وظهر واتَّضح، وفيه معنى آخر وهو: أنَّ العبد إذا قَبِل حجَّة الله بمحض الإيمان والتَّسليم والانقياد: كان هذا القبول هو سبب تبيُّنها وظهورها وانكشافها لقلبه، فلا يصبر على بينة ربِّه إلَّا بعد قبول حجَّته. وفيه معنى آخر أيضًا: أنَّه لا يتبيَّن له عيب عمله مِن صحَّته إلَّا بعد العلم الذي هو حجَّة الله على العبد، فإذا عرف الحجَّة اتَّضح له بها ما كان مشكلًا عليه مِن علومه، وما كان معيبًا مِن أعماله. وفيه معنى آخر أيضًا: وهو أن يكون وراء بمعنى: أمام، والمعنى: أنَّ الحجَّة إنَّما تحصل للعبد بعد تبيُّنها، فإذا لم تتبيَّن له لم تكن له حجُّة، يعني: فلا يقنع مِن الحجَّة بمجرَّد حصولها بلا تبيُّن، فإنَّ التَّبيُّن أمام الحجَّة، والله أعلم) . قال صاحب المنازل: (الدَّرجة الثَّانية: أن ترضى بما رضي الحقُّ به لنفسه عبدًا مِن المسلمين أخًا، وأن لا تردَّ على عدوِّك حقًّا، وأن تقبل مِن المعتذر معاذيره) . قال ابن القيِّم: (يقول: - أي: الهروي- إذا كان الله قد رضي أخاك المسلم لنفسه عبدًا، أفلا ترضى أنت به أخًا؟! فعدم رضاك به أخًا -وقد رضيه سيِّدك، الذي أنت عبده، عبدًا لنفسه- عين الكِبْر، وأيُّ قبيح أقبح مِن تكبُّر العبد على عبدٍ مثله، لا يرضى بأخوَّته، وسيِّده راض بعبوديَّته؟! فيجيء مِن هذا: أنَّ المتكبِّر غير راض بعبوديَّة سيِّده؛ إذ عبوديَّته توجب رضاه بأخوَّة عبده، وهذا شأن عبيد الملوك: فإنَّهم يرون بعضهم خشداشية بعض. ومَن ترفَّع منهم عن ذلك: لم يكن مِن عبيد أستاذهم. قوله: (وأن لا تردَّ على عدوِّك حقًّا) أي: لا تصحُّ لك درجة التَّواضُع حتى تقبل الحقَّ ممَّن تحبُّ وممَّن تبغض، فتقبله مِن عدوِّك كما تقبله مِن وليِّك، وإذا لم تردَّ عليه حقَّه، فكيف تمنعه حقًّا له قِبَلَك، بل حقيقة التَّواضُع: أنَّه إذا جاءك قَبِلْتَه منه، وإذا كان له عليك حقٌّ: أدَّيته إليه، فلا تمنعك عداوته مِن قبول حقِّه، ولا مِن إيتائه إيَّاه. وأمَّا (قبولك مِن المعتذر معاذيره) فمعناه: أنَّ مَن أساء إليك، ثمَّ جاء يعتذر مِن إساءته، فإنَّ التَّواضُع يوجب عليك قبول معذرته حقًّا كانت أو باطلًا، وتكل سريرته إلى الله تعالى كما فعل رسول الله في المنافقين الذين تخلَّفوا عنه في الغزو، فلمَّا قدم جاءوا يعتذرون إليه، فقَبِل أعذارهم ووَكَل سرائرهم إلى الله تعالى، وعلامة الكَرَم والتَّواضُع: أنَّك إذا رأيت الخلل في عذره لا توقفه عليه ولا تحاجه، وقُلْ: يمكن أن يكون الأمر كما تقول، ولو قُضِي شيءٌ لكان، والمقدور لا مدفع له. ونحو ذلك) . قال صاحب المنازل أبو إسماعيل الهروي: (الدَّرجة الثَّالثة: أن تتَّضع للحقِّ، فتنزل عن رأيك وعوائدك في الخدمة، ورؤية حقِّك في الصُّحبة، وعن رسمك في المشاهدة) . قال ابن القيِّم: (يقول:-أي: الهروي- التَّواضُع، بأن تخدم الحقَّ سبحانه وتعبده بما أمرك به على مقتضى أمره لا على ما تراه مِن رأيك، ولا يكون الباعث لك داعي العادة، كما هو باعث مَن لا بصيرة له، غير أنَّه اعتاد أمرًا فجرى عليه، ولو اعتاد ضدَّه لكان كذلك) . |
#6
|
||||
|
||||
![]() صور التَّواضُع
1- تواضع الإنسان في نفسه: ويكون ذلك بألَّا يظنَّ أنَّه أعلم مِن غيره، أو أتقى مِن غيره، أو أكثر ورعًا مِن غيره، أو أكثر خشية لله مِن غيره، أو يظنُّ أنَّ هناك مَن هو شرٌّ منه، ولا يظنُّ أنَّه قد أخذ صكًّا بالغفران!! وآخر بدخول الجنَّة!! لأنَّ القلوب بين إصبعين مِن أصابع الرَّحمن، يقلِّبها كيف يشاء، يقول الله تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24]. وقال أبو زيد: ما دام العبد يظنُّ أنَّ في الخَلْق مَن هو شرٌّ منه فهو متكبِّر، فقيل له: فمتى يكون متواضعًا؟ قال: إذا لم ير لنفسه مقامًا ولا حالًا. ومِن التَّواضُع ألَّا يَعْظُم في عينك عملك، إن عملت خيرًا، أو تقرَّبت إلى الله تعالى بطاعة، فإنَّ العمل قد لا يُقْبَل، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] ولهذا قال بعض السَّلف: لو أعلم أنَّ الله قبل منِّي تسبيحة لتمنَّيت أن أموت الآن! ومِن ذلك: التَّواضُع عندما تسمع نصيحة، فإنَّ الشَّيطان يدعوك إلى ردِّها، وسوء الظَّنِّ بالنَّاصح؛ لأنَّ معنى النَّصيحة أنَّ أخاك يقول لك: إنَّ فيك مِن العيوب كيت وكيت. وكم مرَّة أتعبتكم بنصيحتي***وقد يستفيد البُغْضَةَ المتَنَصِّحُ أمَّا مَن عصمه الله تعالى فإنَّه إذا وجد مَن ينصحه ويدلُّه على عيوبه، قهر نفسه وقبل منه، ودعا له وشكره، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم، في تعريف الكِبْر: ((الكِبْر: بَطَر الحقِّ، وغمط النَّاس)) . يعني: ردُّ الحقِّ، وبخس النَّاس أشياءهم. فالمستكبر صاحب نفسيَّة متعاظمة لا يكاد يمدح أحدًا أو يذكره بخير، وإن احتاج إلى ذلك شفعه بذكر بعض عيوبه. أمَّا إن سمع مَن يذكره ببعض عيوبه فهيهات أن ينصاع أو يلين، وما ذاك إلَّا لمركَّب النَّقص في نفسه، ولهذا كان مِن كمال الإنسان أن يقبل النَّقد والملاحظة بدون حساسيَّة أو انزعاج أو شعور بالخَجَل والضَّعف، وها هو أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحمل الرَّاية، ويرفع الشِّعار: رحم الله امرءًا أهدى إلينا عيوبنا . 2- التَّواضُع في التعلُّم: قال الشَّافعي: لا يطلب هذا العلم أحدٌ بالملْك وعزَّة النَّفس فيفلح، لكن مَن طلبه بذلَّة النَّفس، وضيق العيش، وخدمة العلم، وتواضع النَّفس أفلح. وعن الأصمعي قال: مَن لم يتحمَّل ذلَّ التَّعلُّم ساعة، بقي في ذلِّ الجهل أبدًا. قال عبد الله بن المعتز: المتواضع في طلب العلم أكثرهم علمًا، كما أنَّ المكان المنخفض أكثر البقاع ماء. وقد نَظَم أبو عامر النَّسويُّ فقال: العلم يأتي كلَّ ذي***خفض، ويأبى كلَّ آبي كالماء ينزل في الوِهَا***د، وليس يصعد في الرَّوابي وكذلك ينبغي أن يتحمَّل الطَّالب ما يكون مِن الشَّيخ أو مِن بقيَّة الطَّلبة لئلَّا يفوته العلم، فتفوته الدُّنْيا والآخرة، مع حصول العدو وطلبه، وشماتة الأعداء مِن الأربعة الأمور بالاستعاذة منهنَّ في الصَّحيحين في قوله عليه السَّلام: ((تعوَّذوا بالله مِن جهد البلاء، ودَرَك الشَّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)) . وقد قيل: لمحبرة تجالسني نهاري***أحبُّ إليَّ مِن أنس الصَّديق ورزمة كاغد في البيت عندي***أعزُّ إليَّ مِن عدل الرَّقيق ولطمة عالم في الخدِّ منِّي***ألذُّ إليَّ مِن شرب الرَّحيق وقال الشَّافعي: غضب الأعمش يومًا على رجل مِن الطَّلبة، فقال آخر: لو غضب عليَّ مثلك لم أعد إليه. فقال له الأعمش: إذًا هو أحمق مثلك، يترك ما ينفعه لسوء خلقي. ذكره البيهقي . أحيانًا تسمع من بعض المبتدئين في العلم -ممن لا يقدر للعلماء السابقين قدرهم، ولا يعرف منزلتهم وفضلهم- ربما تسمع منه متطاولًا: هم رجال، ونحن رجال. فأولى بهذا المسكين أن يعرف قدر نفسه، وأن يقرأ سير هؤلاء العلماء؛ ليعرف من هو ومن هم؛ في الحفظ والقراءة والعلم والتعليم والعمل والعبادة، ففرق بين الثرى والثريا. فإذا كان هذا القول لا يقبل من العلماء أو من طلبة العلم الكبار في هذا الزمان فكيف بطلاب العلم الصغار والمبتدئين؟! يقولون: هذا عندنا غير جائز!!***ومَن أنتم حتى يكون لكم (عندُ)!! جلس الشَّافعي ذات يوم مع تلميذه أحمد بن حنبل، فنظر إليه وقال: أحبُّ الصَّالحين ولست منهم***لعلِّي أن أنال بهم شفاعه وأكره مَن تجارتهم معاصي***وإن كنَّا سويًّا في البضاعه فنظر إليه تلميذه أحمد، ثمَّ قال: تحبُّ الصَّالحين وأنت منهم***ومنكم سوف يلقون الشَّفاعة وتكره مَن تجارتهم معاصي***وقاك الله مِن شرِّ البضاعة 3- التَّواضُع مع النَّاس: فالمسلم يخالط النَّاس ويدعوهم إلى الخير، وإلى الأخلاق الإسلاميَّة، ومِن طبيعة النَّاس أنَّهم لا يقبلون قول مَن يعظِّم نفسه ويحقرهم، ويرفع نفسه ويضعهم، وإن كان ما يقوله حقًّا، بل عليه أن يعرف أنَّ جميع ما عنده هو فضلٌ مِن الله، فالمسلم المتواضع هو الذي لا يعطي لنفسه حظًّا في كلامه مع الآخرين، ومِن تواضع المسلم مع النَّاس: أن يجالس كلَّ طبقات المجتمع، ويكلِّم كلًّا بما يفهمه، ويجالس الفقراء والأغنياء. قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28]. 4- التَّواضُع مع الأقران: ومِن التَّواضُع: تواضع المسلم مع قرينه؛ وذلك لأنه كثيرًا ما تشتعل المنافسة ويقع التَّحاسد بينهم، وربَّما يؤدي ذلك إلى نوع من استعلاء بعضهم على بعض، ثم محاولة الحط من قدر قرينه، والتنقص منه بأي صورة من الصور، أو السعي في النيل منه، وقد يلبس عليه الشيطان ذلك ويلبسه لبوس النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5- تواضع الإنسان مع مَن هو دونه: مِن التَّواضُع: التواضع مع من هو أقل منك، بل لا يُتصوَّر التواضع إلا مع من هو دونك، سواء في العلم أو الفهم أو المال أو الجاه ومن هو أصغر منك سنا وغير ذلك، بل إذا رأيت من وقع في معصية فلا تتعالى عليه وتعجب بنفسك وعملك، فربما كانت معصيته سببًا في توبة وإنابة، وذل وانكسار، وربما كان إعجاب الإنسان بعمله سببًا في حبوط عمله. عن جندب رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّث: ((أنَّ رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان. وأنَّ الله تعالى قال: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟! فإنِّي قد غفرت لفلان وأحبطت عملك)) . 6- تواضع صاحب المال: فإنَّ مَن مَنَّ الله عليهم بالمال، والجاه، والقوَّة، والنُّفوذ، أحوج الخَلْق إلى خُلُق التَّواضُع؛ لأنَّ هذه النِّعم مدعاة إلى الكِبْر والفخر. وما ابتليت الأمَّة بمصيبة الكِبْر إلَّا مِن هؤلاء، ولو نظر صاحب المال -مثلًا- إلى سالف أمره، لكان أجدر به إذا ما رُزِق مالًا أن يشكر ربَّه الذي أغناه بعد فقر، وأعطاه بعد حرمان، وأشبعه بعد جوع، وأمَّنه بعد خوف، وأن يجعل التَّواضُع فراشه، ودثاره، وزينته، هذا هو الشُّكر العملي الحقيقي. أمَّا أن يتكبَّر وهذا حاله، فلا أدري بم يوصف هذا الإنسان، وقد بدِّلت لديه المفاهيم والموازين. وكذلك يقال لصاحب كلِّ نعمة: عليك بالتَّواضُع، فلربَّما دارت عليك الأيام، وبُدِّل الحال. 7- تواضع القائد مع الأفراد: القائد النَّاجح هو الذي يخفض جناحه للأفراد الذين تحت إمرته؛ لأنَّه كلَّما تواضع لهم وخفض لهم جناحه كان أقرب إلى نفوسهم، وكان أمره لهم محببًّا إليهم، فهم يطيعونه عن حبٍّ وإخلاص، يقول تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعراء: 215]. ومِن مظاهر هذا التَّواضُع، عدم الاستبداد بالرَّأي والانفراد باتخاذ القرار، وذلك أنَّ استفراغ ما عند الأفراد مِن آراء وأفكار لا شكَّ أنَّ ذلك يفتح أبوابًا كانت مغلقة على القادة، والاستماع إليها والنُّزول عن الرَّأي إليها – إذا كانت صحيحة – تقلِّل مِن نسبة الخطأ في القرار، وببركة الشُّورى قد يجبر الله ما بها مِن قصور، ولله درُّ القائل: رأي الجماعة لا تشقى البلاد به***رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها وألَّا يجد القادة في نفوسهم شيئًا إذا تحوَّلوا إلى جنود أو أفراد في الصَّفِّ بعد أن كانوا قادة؛ وذلك لأنَّ الأجر والثَّواب يكون بالإخلاص والتجرُّد، والصِّدق مع الله. وكما يقول الفضيل بن عياض: (مَن أحبَّ الرِّياسة لم يفلح أبدًا)، ولا شكَّ أنَّ المؤمن كلَّما ازداد تواضعًا ازداد إيمانًا بالله وقربًا منه، وكلَّما ازداد عتوًّا وترفُّعًا على النَّاس، ازداد مقتًا وبعدًا منه سبحانه. |
#7
|
||||
|
||||
![]() الأسباب التي تعين على التَّواضُع 1- تقوى الله:
وهذا مِن أوَّل الأمور والأسباب التي تعين المرء على التَّواضُع، وتردعه عن أخلاق أهل السَّفه والكِبْر؛ لأنَّ التَّقوى وقاية مِن كلِّ ما يغضب الله تعالى، وفعل جميع الطَّاعات التي أمر الله تعالى بها، فالكِبْر كبيرة مِن الكبائر، ولا يتَّصف بها أهل التَّقوى، والتَّواضُع مِن محاسن الأخلاق، ولابدَّ أنَّه يكون في أهل التَّقوى. وهذا شيء يجب أن يكون مركوزًا في فطرة كلِّ إنسان، وخاصَّة إذا كان بالمرء تيه وعجب، عليه أن يعلم أنَّ الأيَّام دُوَل، يوم لك ويوم عليك، فلا ينبغي للعاقل أن يفرح بدنيا أقبلت عليه، ومِن ثَمَّ يشمخ بها، ويتعالى بنعم الله على عباد الله، والله يقول: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، فمَن تذكَّر دائمًا هذه السُّنَّة الكونيَّة خضع لإخوانه ولعامَّة النَّاس، وخفض جناحه لهم، لأنَّه ربَّما تقلَّبت به الدُّنْيا، فيذلُّ بعد أن كان عزيزًا، ويفتقر بعد أن كان غنيًّا، ويعلو عنه مَن كان يترفَّع عليه، فلِمَ الكِبْر والتِّيه والعجب؟! قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83]. 2- عامل النَّاس بما تحبُّ أن يعاملوك به: ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المرء يحبُّ أن يتواضع له النَّاس، ويخفضوا جناحهم له، ويعاملوه برفق ولين، ويبغض -مِن ناحيةٍ أخرى- مَن يُغْلِظ له، ومَن يتكبَّر عليه بأي صورة مِن الصُّور. ولو كان المرء جرابًا حُشِي كِبْرًا لتألَّم وتأفَّف -أيضًا- ممَّن يتكبَّر عليه، فلِمَ الكيل بمكيالين؟!! 3- التَّفكُّر في أصل الإنسان : إذا عرف الإنسان نفسه، علم أنَّه أذلُّ مِن كلِّ ذليل، ويكفيه نظرة في أصل وجوده بعد العدم مِن تراب، ثمَّ مِن نطفة خرجت مِن مخرج البول، ثمَّ مِن علقة، ثمَّ مِن مضغة، فقد صار شيئًا مذكورًا، بعد أن كان لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني شيئًا، فقد ابتدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوَّته، وبفقره قبل غناه. وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذا بقوله: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس: 18-19]. ثمَّ امتنَّ عليه بقوله: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس: 20]. وبقوله: فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرً [الإنسان: 2]. لقد أحياه الله بعد موت، وأحسن تصويره، وأخرجه إلى الدُّنْيا، فأشبعه وأرواه، وكساه وهداه، وقوَّاه. فمِن هذا بدايته، فأي وجه لتكبُّره وفخره وخيلائه؟! قال ابن حبَّان: (وكيف لا يتواضع مَن خُلِق مِن نطفة مَذِرَة، وآخره يعود إلى جيفة قذرة، وهو بينهما يحمل العذرة؟). 4- معرفة الإنسان قَدْرَه: قال تعالى: وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء: 37]. (أي: أنت أيُّها المتكَبِّر المختال ضعيف حقير عاجز محصور بين جمادين أنت عاجز عن التَّأثير فيها، فالأرض التي تحتك لا تقدر أن تؤثِّر فيها بشدَّة وطئك عليها، والجبال الشَّامخة فوقك لا يبلغ طولك طولها، فاعرف قَدْرَك، ولا تتكبَّر، ولا تمش في الأرض مرحًا). 5- تذكُّر الأمراض والأوجاع والمصائب: (ما أجمل التَّواضُع واللِّين!! فلو رأيت أهل البلاء بشتَّى صنوفهم للمست التَّواضُع يعلو وجوههم وأبدانهم! انظر إلى مَن غلَّه المرض، واستوثق منه الوجع، وهدَّه الألم، انظر إليه إذا جاء الزَّائر يزوره! وطالع محيَّاه، فسترى فاقة وكسرة وحاجة إلى كلِّ إنسان! فهو يأنس بهذا! ويشدُّ على يد هذا! ويطلب الدُّعاء مِن آخر! ويتشوَّف إلى رنين الهاتف، فلربَّما سمع كلمة تشدُّ مِن أزره، أو ربَّما سعد بدعوة مجابة أو... أليس في هذا الحال درس لكلِّ مَن اختال يومًا، أو تطاول حينًا، أو تكبَّر زمنًا؟! بلى والله. وما قيل هنا، يقال في أهل المصائب كافَّة، فلماذا التَّجمُّل بالتَّواضُع عند الضُّرِّ، والافتخار والمباهاة والأشر والكِبْر عند الرَّخاء والنِّعمة في العلن والسِّرِّ؟! 6- تطهير القلب: القلب إذا صَلحَ صَلحَ العمل كلُّه بإذن الله تعالى، فعلى مَن أراد اكتساب خُلُق التَّواضُع أن يطهِّر قلبه مِن الأمراض التي عصفت به مِن حقدٍ وحسدٍ وعجبٍ وغرورٍ؛ لأنَّ القلب هو موطن هذه الأمراض كلِّها) . |
#8
|
||||
|
||||
![]() نماذج مِن تواضع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمَّ التَّواضُع، لا يعتريه كِبرٌ ولا بَطَرٌ على رِفْعَة قَدْرِه وعلوِّ منزلته، يخفض جناحه للمؤمنين ولا يتعاظم عليهم، ويجلس بينهم كواحد منهم، ولا يُعْرَف مجلسه مِن مجلس أصحابه؛ لأنَّه كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويجلس بين ظهرانيهم فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل عنه، روى أبو داود في سننه عن أبي ذرٍّ وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه...)) . وقال له رجل: يا محمَّد، أيا سيِّدنا وابن سيِّدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيُّها النَّاس، عليكم بتقواكم، ولا يستهوينَّكم الشَّيطان، أنا محمَّد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله)) . - وكان صلى الله عليه وسلم مِن تواضعه، يتفقَّد أحوال أصحابه ويقوم بزيارتهم، فقد روى البخاريُّ في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: ((إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكِر له صومي، فدخل علي فألقيت له وسادة مِن أَدَم حشوها ليف فجلس على الأرض، وصارت الوسادة بيني وبينه، فقال أما يكفيك مِن كلِّ شهرٍ ثلاثة أيَّام. قال: قلت: يا رسول الله! قال: خمسًا. قلت: يا رسول الله! قال: سبعًا. قلت: يا رسول الله! قال: تسعًا. قلت: يا رسول الله! قال: إحدى عشرة. ثمَّ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا صوم فوق صوم داود -عليه السَّلام - شطر الدَّهر: صم يومًا وأفطر يومًا)) . وكان يتفقَّدهم حتى في الغزوات والمعارك، ومِن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه مِن حديث أبي برزة: ((أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان في مغزى له، فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون مِن أحدٍ. قالوا: نعم فلانًا وفلانًا وفلانًا. ثمَّ قال: هل تفقدون مِن أحدٍ. قالوا: نعم فلانًا وفلانًا وفلانًا. ثمَّ قال: هل تفقدون مِن أحدٍ؟ قالوا: لا. قال: لكنِّي أفقد جليبيبًا، فاطلبوه. فطُلِب في ال***ى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد ***هم ثمَّ ***وه، فأتى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال: *** سبعة ثمَّ ***وه، هذا منِّي وأنا منه، هذا منِّي وأنا منه. قال: فوضعه على ساعديه ليس له إلَّا ساعدا النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: فحفر له ووضع في قبره)) . - وكان مِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، القيام بخدمة أصحابه، روى مسلم في صحيحه مِن حديث أبي قتادة، وفيه -في قصَّة نومهم عن صلاة الفجر-: ((...قال ودعا بالميضأة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُّ وأبو قتادة يسقيهم -أي أصحابه- فلم يَعْدُ أن رأى النَّاس ماءً في الميضأة تكابُّوا عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنوا الْمَلَأَ كلُّكم سيَرْوى. قال: ففعلوا. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُّ وأسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثمَّ صبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لي اشرب. فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله. قال: إنَّ ساقي القوم آخرهم شربًا. قال: فشربت، وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتى النَّاس الماء جامِّين رِوَاء )) . - ومِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنَّه إذا مرَّ على الصِّبيان، سلَّم عليهم، فقد روى البخاريُّ ومسلم عن أنس رضي الله عنه: ((أنَّه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم، وقال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يفعله)) . ((وكان صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، ويسلِّم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم)) . وعن أنس رضي الله عنه قال: ((إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخٍ لي صغير: يا أبا عُمَيْر، ما فعل النُّغَير؟)) . - ومِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنَّه كان يشارك في خدمة أهله في البيت، فقد روى البخاريُّ عن الأسود، قال: ((سألت عائشة: ما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مِهْنَةِ أهله - تعني خدمة أهله -، فإذا حضرت الصَّلاة خرج إلى الصَّلاة)) . - وكان مِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنه يركب الحمار ويستردف فيه، يحكي لنا أنس رضي الله عنه عن حال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيقول: ((كان صلى الله عليه وسلم يُرْدِف خلفه، ويضع طعامه على الأرض، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار)) . وعن عبيد بن حنين أنَّه سمع ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- يحدِّث أنَّه قال: ((مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطَّاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجًّا فخرجت معه...)) . الحديث. وفيه: ((وإنَّه – أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم - لَعَلَى حصيرٍ ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة مِنَ أَدَم حشوها ليف، وإنَّ عند رجليه قَرَظًا مصبوبًا، وعند رأسه أَهَبٌ معلَّقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيتُ، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله، إنَّ كِسْرَى وقيصر فيما هُمَا فيه وأنت رسول الله! فقال: أَمَا ترضى أن تكون لهم الدُّنْيا ولنا الآخرة)) . - ومِن تواضعه صلى الله عليه وسلم: استجابته للدَّعوة، وقبوله الهديَّة مهما قلَّت قيمتها، روى البخاريُّ مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لو دُعِيت إلى ذراع أو كُرَاع لأجبت، ولو أُهْدِي إليَّ ذراع أو كراع لقَبِلت)) . قال الشَّاعر: يا جاعلًا سنن النَّبيِّ***شعاره ودثاره متمسِّكًا بحديثه***متتبِّعًا أخباره سنن الشَّريعة خذ بها***متوسِّمًا آثاره وكذا الطَّريقة فاقتبس***في سبلها أنواره قد كان يقري ضيفه***كرمًا ويحفظ جاره ويجالس المسكين يؤ***ثر قربه وجواره الفقر كان رداءه***والجوع كان شعاره يلقى بغرَّة ضاحك***مـسـتـبشرًا زوَّاره بسط الرِّداء كرامةً***لكريم قوم زاره ما كان مختالًا ولا***مرحًا يجرُّ إزاره قد كان يركب بالرَّديـ***ـف مِن الخضوع حماره مِن مِهْنَة هو أو صلا***ةٍ ليله ونهاره فتراه يحلب شاة مَنْـ***ـزِلِه ويوقد ناره ما زال كهف مهاجريـ***ـه ومكرمًا أنصاره برًّا بمحسنهم مقيـ***ـلًا للمسيء عثاره يهب الذي تحوي يدا***ه لطالبٍ إيثاره زكَّى عن الدُّنْيا الدنـ***ـيَّة ربُّه مقداره جعل الإله صلاته***أبدًا عليه نثاره فاختر مِن الأخلاق ما***كان الرَّسول اختاره لتعد سنيًّا وتو***شك أن تبوَّأ داره |
#9
|
||||
|
||||
![]() نماذج مِن تواضع السَّلف
تواضع عمر بن عبد العزيز: - (كان عند عمر بن عبد العزيز قوم ذات ليلة في بعض ما يحتاج إليه، فغشي سراجه، فقام إليه فأصلحه، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ألا نكفيك؟ قال: وما ضرَّني؟ قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز) . - (ونادى رجلٌ أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: يا خليفة الله في الأرض! فقال له عمر: مه، إنِّي لما وُلِدت اختار لي أهلي اسمًا، فسمَّوْني عمر، فلو ناديتني: يا عمر، أجبتك. فلمَّا كَبِرْتُ اخترت لنفسي الكُنَى، فكُنِّيت بأبي حفص، فلو ناديتني: يا أبا حفص، أجبتك. فلمَّا ولَّيتموني أموركم سمَّيتموني أمير المؤمنين، فلو ناديتني: يا أمير المؤمنين؛ أجبتك. وأمَّا خليفة الله في الأرض، فلست كذلك، ولكن خلفاء الله في الأرض داود النَّبيُّ عليه السَّلام وشبهه، قال الله تبارك وتعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ [ص: 26]) . - وقال سعيد بن سويد: (صلَّى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة، ثمَّ جلس وعليه قميص مرقوع الجيب مِن بين يديه ومِن خلفه، فقال له رجلٌ: يا أمير المؤمنين، إنَّ الله قد أعطاك فلو لبست؟ فنكَّس رأسه مليًّا ، ثمَّ رفع رأسه، فقال: إنَّ أفضل القصد عند الجِدَة، وإنَّ أفضل العفو عند القُدْرة، وقال صلى الله عليه وسلم: مَن ترك زينةً لله ووضع ثيابًا حسنة تواضعًا لله وابتغاء لمرضاته، كان حقًّا على الله أن يدَّخر له عبقري الجنَّة ) . تواضع الإمام أحمد بن حنبل: قال المروزيُّ: (لم أر الفقير في مجلس أعزَّ منه في مجلس أبي عبد الله؛ كان مائلًا إليهم مُقْصِرًا عن أهل الدُّنْيا، وكان فيه حِلْمٌ، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التَّواضُع، تعلوه السَّكينة والوَقَار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلَّم حتى يُسْأَل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدَّر) . (وكان ربَّما خرج إلى البقَّال، فيشتري الجرزة الحطب والشَّيء فيحمله بيده، ويتنوَّر في البيت) . وقال يحيى بن معين: (ما رأيت مثل أحمد بن حنبل!! صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء ممَّا كان فيه مِن الخير) . وقال إسماعيل بن إسحاق الثَّقفي: (قلت لأبي عبد الله أوَّل ما رأيته: يا أبا عبد الله، ائذن لي أن أقبِّل رأسك. فقال: لم أبلغ أنا ذاك) . |
#10
|
||||
|
||||
![]() نماذج مِن تواضع العلماء المتقدِّمين
تواضع ابن تيمية: قال البزَّار -وهو يذكر تواضع ابن تيمية-: (وأمَّا تواضعه: فما رأيت ولا سمعت بأحدٍ مِن أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير والصَّغير والجليل والحقير والغني الصَّالح والفقير، وكان يدني الفقير الصَّالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه بحديثه المستحلى زيادة على مثله مِن الأغنياء، حتى أنَّه ربَّما خدمه بنفسه وأعانه بحمل حاجته جبرًا لقلبه وتقرُّبًا بذلك إلى ربِّه. وكان لا يسأم ممَّن يستفتيه أو يسأله، بل يقبل عليه ببشاشة وجه، ولين عَرِيكة ، ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه: كبيًرا كان أو صغيرًا، رجلًا أو امرأةً، حرًّا أو عبدًا، عالـمًا أو عامِّيًّا، حاضرًا أو باديًا، ولا يجبهه ولا يحرجه ولا ينفِّره بكلام يوحشه، بل يجيبه ويفهمه ويعرِّفه الخطأ مِن الصَّواب بلطف وانبساط، وكان يلزم التَّواضُع في حضوره مِن النَّاس، ومغيبه عنهم في قيامه وقعوده، ومشيه ومجلسه ومجلس غيره. وحكى البزَّار عن بعض أصحابه قال: ولقد بالغ معي في حال إقامتي بحضرته في التَّواضُع والإكرام -يعني ابن تيمية- حتى إنه لا يذكرني باسمي، بل يلقِّبني بأحسن الألقاب، وأظهر لي مِن الأخلاق والمبالغة في التَّواضُع بحيث إنَّه كان إذا خرجنا مِن منزله بقصد القراءة، يحمل هو بنفسه النُّسخة، ولا يدع أحدًا منَّا يحملها عنه، وكنت أعتذر إليه مِن ذلك خوفًا مِن سوء الأدب، فيقول: لو حملته على رأسي لكان ينبغي، ألَا أحمل ما فيه كلام رسول الله صلَّى الله وعليه وسلَّم؟ وكان يجلس تحت الكرسي ويدع صدر المجلس، حتى إنِّي لأستحي مِن مجلسه هناك، وأعجب مِن شدَّة تواضعه، وكان هذا حاله في التَّواضُع والتَّنازل والإكرام لكلِّ مَن يَرِدُ عليه أو يصحبه أو يلقاه، حتى أنَّ كلَّ مَن لقيه يحكي عنه مِن المبالغة في التَّواضُع نحوًا ممَّا حكيته وأكثر مِن ذلك، فسبحان مَن وفَّقه وأعطاه وأجراه على خِلَال الخير وحباه) . |
#11
|
||||
|
||||
![]() نماذج مِن تواضع العلماء المعاصرين
تواضع الشَّيخ ابن باز: (كان الشَّيخ ابن باز -رحمه الله- آية في التَّواضُع فلا يكاد يُعْرَف له مثيلٌ في زمانه في هذه الخصلة؛ فهو لا يرى لنفسه فضلًا، ولا يرغب في المديح، ولا في التَّميز على النَّاس، وكان محبًّا للفقراء والمساكين، حريصًا على مجالستهم، والأكل معهم. ومِن صور تواضعه: - لا يحتقر النَّصيحة، أو الفائدة مِن أي أحدٍ، حتى مِن الصَّغير: في يومٍ مِن الأيَّام اتَّصل شاب صغير بسماحة الشَّيخ، وقال: يا سماحة الشَّيخ! النَّاس بأشد حاجة إلى علماء يفتونهم، وأقترح على سماحتكم أن تجعلوا في كلِّ مدينة مفتيًا؛ ليسهل الاتِّصال. فقال له سماحة الشَّيخ: ما شاء الله أصلحك الله، كم عمرك؟ فقال ثلاثة عشر عامًا. - يقول الرَّاوي للقصَّة: فقال لي سماحة الشَّيخ: هذا اقتراح طيِّب، يستحقُّ الدِّراسة، اكتب إلى الأمين العام لهيئة كبار العلماء بهذا، فكتبت ما أملى به، وممَّا جاء في كتابه: أما بعد فقد اتصل بي بعض النَّاصحين، وقال: إنَّه يقترح وضع مفتين في كلِّ بلد، ونرى عرضه على اللَّجنة الدَّائمة؛ لنتبادل الرَّأي في الموضوع) . - (تواضعه للمرأة والمسكين والسَّائل،...قيل له -وهو خارجٌ مِن مسجد الجامع-: هناك امرأة تريد إجابة عن أسئلتها، فما كان منه إلَّا أن اتكأ على عصاه وأصغى لها، وأجاب عن أسئلتها حتى انصرفت!) . تواضع الشَّيخ ابن عثيمين: كان الشَّيخ ابن عثيمين يتحلَّى بالصِّفات والأخلاق النَّبيلة فكان مِن صفاته الصِّدق والإعراض عن الدُّنْيا والتَّواضُع، ومِن صور تواضعه: - طفل صغير يأخذ بيد الشَّيخ ويذهب به إلى والده: (يأتيه طفل صغير لم يبلغ السَّادسة مِن عمره فيمسك يد الشَّيخ مِن وسط طلَّابه مخاطبًا إيَّاه: أبي قدم إلى عنيزة للسَّلام عليك، أرجو أن تسلِّم عليه قبل أن تخرج، والشَّيخ يبتسم له ويلاطفه، والطِّفل آخذٌ بيد الشَّيخ إلى والده، فيتفاجأ والد الطِّفل بالشَّيخ أمامه، فيتعجَّب الوالد مِن هذا الخُلُق النَّبيل الذي يتحلَّى به الشَّيخ) . - (ركب الشَّيخ مع أحد محبِّيه سيَّارة قديمة كثيرة الأعطال، فتتوقف أثناء الطَّريق، فقال الشَّيخ للسَّائق: ابق مكانك وأنزل أنا لأدفع السَّيَّارة، فنزل الشَّيخ ودفع السَّيَّارة بنفسه حتى تحركت، وهذا قمَّة التَّواضُع) . - (في أثناء درسه في المسجد الذي بجوار بيته ذهب أحد الطُّلاب إلى دورة المياه -الحمَّام- فإذا أنبوبة منكسرة يتدفَّق منها الماء، فأخبر الشَّيخ بذلك أثناء الدَّرس، فما كان مِن الشَّيخ -رحمه الله- إلَّا أنَّ قطع الدَّرس وذهب إلى منزله، وأحضر عدَّة الإصلاح، وشارك الطُّلَّاب بنفسه في إصلاح هذا العطل) . |
#12
|
||||
|
||||
![]() التَّواضُع في واحة الشِّعر قال الشاعر: ولا تمشِ فوق الأرضِ إلَّا تواضعًا***فكم تحتها قومٌ هم منك أرفعُ فإن كنتَ في عزٍّ وخيرٍ ومنعةٍ***فكم مات مِن قومٍ هم منك أوضعُ وقال موسى بن علي بن موسى: تواضعْ تكنْ كالنَّجمِ لاح لناظر***على صفحاتِ الماءِ وهو رفيعُ ولا تكُ كالدُّخانِ يعلو بنفسِه***إلى طبقاتِ الجوِّ وهو وضيعُ وقال آخر: تواضعْ إذا ما نلتَ في النَّاسِ رفعةً***فإنَّ رفيعَ القومِ مَن يتواضعُ وقال آخر: وكفى بملتمسِ التَّواضُعِ رفعةً***وكفَى بملتمسِ العلوِّ سفالًا وقال المرادي: وأحسنُ مقرونَيْنِ في عينِ ناظرٍ***جلالةُ قدرٍ في خمولِ تواضعِ وقال آخر: إنَّ التَّواضُعَ مِن خصالِ المتَّقي***وبه التَّقِيُّ إلى المعالي يرتقي آخر تعديل بواسطة محمد رافع 52 ، 03-05-2013 الساعة 11:43 PM |
#13
|
||||
|
||||
![]() التَّودُّد
معنى التَّودُّد لغةً واصطلاحًا معنى التَّودُّد لغةً: التَّودُّد من الوُدِّ، والوُدُّ: مصدر الموَدَّة: الوُدُّ: الحُبُّ يكون في جميع مداخل الخير، والتواد التحاب. وتودَّدَ إليه: تَحَبَّبَ. وتَوَدَّدَه: اجْتَلَبَ وُدَّه . معنى التَّودُّد اصطلاحًا: التَّودُّد هو: (طلب مَوَدَّة الأكفاء بما يوجب ذلك) . وقال ابن حجر: (هو تقرُّب شخصٍ من آخر بما يحب) . وقال ابن أبي جمرة: (التَّوَادُد: التَّواصل الجالب للمحبَّة) . |
#14
|
||||
|
||||
![]() الفرق بين التودد وبعض الصفات
- الفرق بين التَّوَاد والتَّعاطف والتَّراحم: قال ابن أبي جمرة: (الذي يظهر أنَّ التَّراحم والتَّوادُد والتَّعاطف، وإن كانت متقاربة في المعنى، لكن بينها فرق لطيف، فأمَّا التَّراحم، فالمراد به: أن يرحم بعضهم بعضًا بأخوة الإيمان، لا بسبب شيء آخر. وأما التَّوادُد، فالمراد به: التَّواصل الجالب للمحبَّة، كالتَّزاور والتَّهادي. وأما التَّعاطف، فالمراد به: إعانة بعضهم بعضًا، كما يعطف الثَّوب عليه ليقوِّيه) . - الفرق بين الحبِّ والوُدِّ: الحب يكون فيما يوجبه ميل الطباع والحِكْمَة جميعًا، والوُدُّ ميل الطِّباع فقط؛ ألا ترى أنَّك تقول: أحبُّ فلانًا وأودُّه، وتقول: أحبُّ الصَّلاة، ولا تقول: أودُّ الصَّلاة. وتقول: أودُّ أنَّ ذاك كان لي، إذا تمنيت وِدَادَه . |
#15
|
||||
|
||||
![]() أولًا: في القرآن الكريم
- قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34]. قيل لابن عقيل: أسمع وصية الله عزَّ وجلَّ يقول: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وأسمع النَّاس يعدُّون من يُظهر خلاف ما يبطن منافقًا، فكيف لي بطاعة الله تعالى، والتَّخلُّص من النِّفاق؟ فقال: النِّفاق هو: إظهار الجميل وإبطان القبيح، وإضمار الشَّر مع إظهار الخير لإيقاع الشَّر. والذي تضمنته الآية: إظهار الحسن في مقابلة القبيح لاستدعاء الحسن . - وقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21]. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا يعني: المرأة هي من الرَّجل، لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا أي: تستأنسوا بها، وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً محبَّة، وَرَحْمَةً يعني: الولد . وقال الطبري: وقوله: وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً يقول: جعل بينكم بالمصاهرة والخُتُونة، مَوَدَّة تتوادُّون بها، وتتواصلون من أجلها، وَرَحْمَةً رحمكم بها، فعطف بعضكم بذلك على بعض إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . - وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96]. عن مجاهد، في قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا، قال: (يحبُّهم ويحبِّبُهم إلى المؤمنين) . |
العلامات المرجعية |
الكلمات الدلالية (Tags) |
موسوعة, الاخلاق, الاسلامية, الشاملة |
أدوات الموضوع | ابحث في الموضوع |
انواع عرض الموضوع | |
|
|