#3
|
||||
|
||||
![]() أحمد بن حنبل، العالم القدوة [3/3]
الإسلام اليوم عاشراً: ثباته على الحق، وصبره على الأذى فيه -رحمه الله-: لقد ابتلي الإمام أحمد بعدة محن، فصبر، وأشهر هذه المحن هو امتحانه بالقول بخلق القرآن، مع عدد من خلفاء بني العباس فكان مثالاً للرجل الموفق في حمل النائبات، الجلد في الاصطبار للنوازل، الثابت على الحق، لم يتزعزع عنه قِيد أنملة، قال ابن المديني: (أعز الله هذا الدين برجلين؛ ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة) (1) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإمام أحمد صار مثلاً سائراً يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق، وأنه لم تكن تأخذه في الله لومة لائم؛ حتى صار اسم الإمام مقروناً باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام أحمد، هذا مذهب الإمام أحمد؛ لقوله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ". [السجدة:24]. فإنه أعطى من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين، وقد تداوله ثلاثة خلفاء مسلطون من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين، والقضاة، والوزراء، والسعاة، والأمراء، والولاة، من لا يحصيهم إلا الله، فبعضهم بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد بال***، وبغيره، وبالترغيب في الرئاسة والمال ما شاء الله، وبالضرب، وبعضهم بالتشريد والنفي، وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون، والأبرار وهو مع ذلك لم يعطهم كلمةً واحدةً مما طلبوه منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية؛ بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره، ودفع من البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم من نظرائه، وإخوانه المتقدمين والمتأخرين؛ ولهذا قال بعض شيوخ الشام:لم يُظهرْ أحدٌ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما أظهره أحمد بن حنبل) (2). اهـ كلامه -رحمه الله- وملخص هذه الفتنة(3) أن الناس كانوا على منهج السلف، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، حتى تولى الخليفة العباسي المأمون الخلافة سنة193هـ، فصار من أمره ما صار من تعريب كتب اليونان، وداخله أهل الكلام، منهم: ثمامة بن الأشرس، وأحمد بن أبي دؤاد، فكان الأخير يحسن له هذه المقولة، ويدعوه إليها، حتى استجاب المأمون لها، وفي عام 212هـ فتح باب القول فيها، وأعلن المناظرة عليها، وأمر إسحاق بن إبراهيم، وهو صاحب شرطة بغداد، أن يمتحن سبعة من كبار العلماء في بغداد، فأجاب هؤلاء تقية؛ إلا أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، فأمر المأمون بإحضارهما، وكان الإمام أحمد في الطريق يسأل الله أن لا يرى وجه المأمون، فمات المأمون وهما في الطريق سنة218هـ، فرُدَّا إلى بغداد، ومات محمد بن نوح في الطريق، وبقي الإمام أحمد وحيداً، ثم تولى المعتصم الخلافة سنة 218هـ، وكان قد أوصاه أخوه المأمون أن يواصل أمر المحنة على القول بخلق القرآن، وقد بلغ البلاء أشده في عصره، فأمر بحبس الإمام أحمد وجلده، وكان يبعث له من يناظره بأدلة عقلية، وهو رابط الجأش يقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقول به، لم يتغير رأيه، وفي عام 220هـ أطلقه المعتصم، ورفع عنه المحنة وعن غيره، فعاش بقية خلافة المعتصم طليقاً يحضر الجمعة والجماعة، ويباشر التدريس، والفتوى، والتحديث، وذلك لمدة سبع سنين حتى مات المعتصم سنة227هـ، ثم تولى بعده الواثق، وكان على دين الخليفتين قبله من القول بخلق القرآن، فامتحن الناس بذلك؛ وكتب إلى الإمام أحمد ينهاه عن مساكنته، وينهاه أن يجتمع إليه أحد، فاختفى في داره ودور أصحابه، وما زال كذلك حتى مات الواثق سنة 232هـ، ثم ولي بعده المتوكل، فرفع الله به المحنة، ونصر السنة، وفرج عن الناس. وفي هذه المحنة عدة فوائد، منها: 1- أن العالم إذا صدق مع الله أبان له الحق، وأظهر له الحجة، ونصره ومكنه، قال أبوزرعة: (قلت لأحمد بن حنبل: كيف تخلصت من سيف المعتصم وسوط الواثق؟ فقال: لو وضع الصدق على جرح لبرأ) (4). 2- أن أقوى حجة استدل بها الإمام أحمد هي الاحتجاج بالكتاب والسنة، وبها غلب خصومه في مناظراته معهم، ففي هذا إخضاع مدرسة العقل لمدرسة النص، وأن العقل وحده لا يستقل بمعرفة الأحكام والمصالح والمفاسد. 3- عظمة هذا الإمام، فمع ما جاءه من الشدة والعذاب إلا أنه عفا عن كل من فعل به ذلك ما عدا مبتدعاً، مما يدل على أنه لم يكن ينتصر لنفسه، ولم ينتقم لها، وإنما ينتقم للدين، وقد سبق بيان شيءٍ من ذلك عند ذكر حلمه وعفوه. 4- أنه مهما كان وزن العالم وثقله عند الناس؛ فإنه يحتاج إلى من يثبته، والإمام أحمد مع وفور علمه، ورباطة جأشه، وقوة قلبه، تحكى عنه مواقف في محنته تدل على هذا، ومنها: قال عبدالله بن أحمد: (كنت كثيراً أسمع والدي يقول: رحم الله أبا الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم. فقلت: يا أبة، من أبوالهيثم؟ قال: ما تعرفه؟ قلت: لا. قال: أبوالهيثم الحداد؛ اليوم الذي خرجت فيه للسياط، ومدت يداي للعقابين، إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي، ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا. قال: أنا أبوالهيثم العيار، اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان؛ لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين) (5). وقال الإمام أحمد: (ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد، إن ي***ك الحق، مت شهيداً، وإن عشت، عشت حميداً، فقوى قلبي) (6). وقال عبد الله: (جاء رجل إلى أبي فذكر أنه كان عند بشر -يعني بن الحارث-، فذكروه فأثنى عليه بشر، وقال: لا ينسى الله لأحمد صنيعه، ثبت وثبَّتنا، ولولاه لهلكنا قال عبد الله: ووجه أبي يتهلل، فقلت: يا أبت أليس تكره المدح في الوجه؟ فقال: يا بني إنما ذكرت عند رجل من عباد الله الصالحين، وما كان مني فحمد صنيعي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة أخيه")(7). 5- بُعْدُ نظر الإمام أحمد، وفقهه العظيم في الموازنة بين المصالح والمفاسد، فمع هذه المقولة البدعية التي تواطأ عليها الخلفاء الثلاثة، ودعوا الناس إليها، وساموهم سوء العذاب؛ إلا أنه مع ذلك لم يكن يرى الخروج عليهم، بل كان يحذر من ذلك، ويرى السمع والطاعة لهم، وهذه حكاية تبين هذا: يقول حنبل بن إسحاق؛ ابن عم الإمام أحمد: (لما أظهر الواثق هذه المقالة، وضرب عليها وحبس، جاء نفر إلى أبي عبد الله، من فقهاء أهل بغداد، فقالوا له: يا أبا عبد الله: إن الأمر فشا وتفاقم، وهذا الرجل يفعل ويفعل، وقد أظهر ما أظهر، ونحن نخافه على أكثر من هذا، وذكروا له أن ابن أبي دؤاد مضى على أن يأمر بالمعلمين بتعليم الصبيان في الكتاب مع القرآن: القرآن كذا وكذا. فقال لهم أبو عبد الله: وماذا تريدون؟ قالوا: أتيناك نشاورك فيما نريد. قال: فما تريدون؟ قالوا: لا نرضى بإمرته ولا بسلطانه. فناظرهم أبو عبد الله ساعة؛ حتى قال لهم: أرأيتم إن لم يتم لكم هذا الأمر، أليس قد صرتم من ذلك إلى المكروه، عليكم بالنُّكرة في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، ولا تعجلوا، واصبروا حتى يستريح برٌ، ويستراح من فاجر. فقال بعضهم: إنا نخاف على أولادنا، إذا ظهر هذا لم يعرفوا غيره، ويمحى الإسلام ويدرس. فقال أبو عبد الله: كلا؛ إن الله -عز وجل- ناصر دينه، وإن هذا الأمر له رب ينصره. فخرجوا من عند أبي عبد الله، ولم يجبهم إلى شيءٍ مما عزموا عليه أكثر من النهي عن ذلك، والاحتجاج عليهم بالسمع والطاعة، حتى يفرج الله عن هذه الأمة. فلم يقبلوا منه، وخرجوا من عنده، فلما خرجوا قلت: يا أبا عبد الله: وهذا عندك صواب؟ -أي أمر الخروج على السلطان-. قال: لا، هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر، ثم قال أبو عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن وليت أمره فاصبر) قال حنبل: فمضى أولئك القوم، فكان من أمرهم أنهم لم يحمدوا، ولم ينالوا ما أرادوا، اختفوا من السلطان، وهربوا، وأخذ بعضهم فحبس، ومات في الحبس) (8). ففي هذه الحكاية دلالة عظيمة على فقه هذا الإمام؛ لأنه يعلم أنه يترتب على الخروج عليهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم. كما أن فيها حفظ الله وعصمته لهذا الإمام، فإنه -رحمه الله- لم يأبه بكلام من جاءه يريد الخروج، ويحتج بالدين، والنصرة له؛ معرضاً عن عواقب هذا الأمر، فإن النفوس –غالباً- تضعف بمثل هذا الكلام، وتجيش عاطفتها، وتطيش عقولها، فتسارع في الموافقة، فتتصرف بشيءٍ لا يحمد، وكم من مريد للخير لم يبلغه. ونحن في هذا الزمان بحاجة إلى إشاعة مثل هذه المواقف المشرقة المبنية على الكتاب والسنة، وتثقيف الشباب بها؛ فإن ما وقع فيه بعض الشباب في الآونة الأخيرة من أفكار منحرفة، وأفعال غير مرضية شرعاً، إنما هو بسبب الجهل بهذا الجانب. 6- رفعة الإمام أحمد بنصر السنة؛ وذلك بكونه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: (صار مثلاً سائراً يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق، حتى صار اسم الإمام مقروناً باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام أحمد، هذا مذهب الإمام أحمد؛ لقوله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ" . [السجدة:24] فإنه أعطي من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين) (9). وكذا رفعة الله للخليفة المتوكل؛ لكونه نصر السنة، ودحض البدعة، فلا تخلو ترجمة له من ذكر نصره للسنة، قال قاضي البصرة إبراهيم بن محمد التيمي: (الخلفاء ثلاثة: أبو بكر يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم من بني أمية، والمتوكل في محو البدع، وإظهار السنة) (10). بل بركة النُّصرة، نالت ذرية المتوكل، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (جعل الله عامَّة خلفاء بني العباس من ذرية المتوكل، دون ذرية الذين أقاموا المحنة لأهل السنة) (11) . حادي عشر: ورعه في الفتوى: الناظر إلى صنيع العلماء في الفتوى يجد أن عندهم تورعاً كبيراً في إجابة السائل؛ ويجد أنهم يبادرون بقول: ( لا أدري ) التي هي كما قال الشعبي: نصف العلم(12)، وقد سئل الإمام مالك عن مسألة، فقال: لا أدري، فقال له السائل: إنها مسألةٌ خفيفةٌ سهلةٌ، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير -وكان السائل ذا قدر- فغضب مالك، وقال: مسألة خفيفة سهلة! ليس في العلم شيءٌ خفيفٌ، أما سمعت قول الله تعالى: "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا".(13) [المزمل:5] وعلى هذا سار الإمام أحمد -رحمه الله- ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره المَرُّوذي في كتاب الورع(14) قال: وذكر أبو عبد الله مسائل ابن المبارك، قال: كان فيها مسألة دقيقة؛ في رجل رمى طيراً، فوقع في أرض قوم، لمن الصيد؟ قال ابن المبارك: لا أدري! قلت لأبي عبد الله: ما تقول فيها؟ قال: هذه دقيقة، ما أدري ما أقول فيها، وأبى أن يجيب. ثاني عشر: نظافته وعنايته بلباسه: يقول عبد الملك بن عبد الحميد الميموني -وهو أحد أصحاب الإمام أحمد-: ( ما أعلم أني رأيت أحدا أنظف بدناً، ولا أشد تعاهداً لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوباً بشدة بياض، من أحمد بن حنبل) (15) . وهذا الذي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمظهره من غير إسراف ولا مخيلة، وأن يتعاهد خصال الفطرة؛ فإن ذلك مما أمر به الإسلام، أما أن يرى بعض طلبة العلم متنكباً عن ذلك؛ فهذا مما لا ينبغي، وقد يعتذر بعضهم عن هذه الأمور بأنه عنها في شغل؛ فهذا لا يعفيه، فالإسلام دين الطهارة للمخبر والمظهر. ثالث عشر: من عيون أقواله: لهذا الإمام أقوال محكمة نفيسة منها: 1- قال -رحمه الله-: (لا أ*** من قال شيئاً له وجه وإن خالفناه) (16). وهذه كلمة عظيمة تصلح أن تكون قاعدة في فقه الخلاف، في أنه لا ينبغي التعنيف في المسائل التي يسع فيها الاجتهاد، وتتجاذبها الأدلة، وليس هناك نص قاطعٌ فيها ولا إجماع. أما أن تجد بعض الناس اليوم يوالي ويعادي، ويشتد ويحتد؛ لأجل مسألة تحتملها الأدلة، فهذا من ضيق العطن، وعدم التشبع بروح العلم؛ إذ الخلاف حتمٌ واقعٌ في كثير من مسائل الفروع . 2- وقال الميموني: (قال لي أحمد: يا أبا الحسن، إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام) (17). وهذه كلمة قيِّمة من هذا الإمام تعطي طالب العلم درساً في ألا يتسرع في الأخذ بشيءٍ تديناً، ويكون لم يسبق بهذا الشيء، بل عليه أن يتروى ويلزم سَنن الأئمة. 3- وقال أحمد بن محمد بن يزيد الوراق: (سمعت أحمد بن حنبل، يقول: ما شبهت الشباب إلا بشيئ كان في كمي فسقط) (18). فهذا الإمام أحمد يحكي سرعة مرور الشباب وانقضائه، فيشبهه بالشيء كان في كمه فسقط، مع أنه -رحمه الله- قد اغتنم أوقات شبابه، وأفناها بالخير، وهو الذي قال فيه إبراهيم الحربي: (لقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً، وحراً وبرداً، وليلاً ونهاراً، فما لقيته لقاةً في يوم إلا وهو زائدٌ عليه بالأمس) (19)، وهذا يعطي الشباب درساً بأن يغتنموا شبابهم الذي فيه قوتهم على العطاء والأخذ؛ فإنه ما يلبث الإنسان إلا ويندم على فراقه، والموفق من وفقه الله. 4 ـ وقال عثمان بن زائدة: (قلت لأحمد: العافية عشرة أجزاء؛ تسعة منها في التغافل) فقال: (العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل) (20). وهذه قاعدة حسنة من الإمام أحمد في التعامل مع الناس؛ فلن تجد زوجة، أو ولداً، أو أخاً، أو قريباً، أو معلماً، أو صديقاً، أو نحوهم، إلا وفيه ما يصفو وما يتكدر، فلا ترج شيئاً خالصاً نفعه، فتغافل عن خطأ أمثال هؤلاء، كأنك ما سمعتَ ولا رأيت، وبذلك تعيش سالماً، والقول فيك جميل، أما إذا وقفت عند كل خطأ، وحاسبت عند كل هفوة؛ فإنك تتعب نفسك، ونفسَ من تعاشر. 5- قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، أو نحو ذلك فقال: (دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب) (21). مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (22). وهذا من فقه الإمام أحمد الدقيق في الموازنة بين المصالح والمفاسد، وقد أوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: (قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضاً مفسدة كره لأجلها، فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور: من كتب الأسمار أو الأشعار، أو حكمة فارس والروم. فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية، والمفاسد، بحيث تعرف ما مراتب المعروف، ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل) (23). 6- قال أبو جعفر القطيعي: دخلت على أبي عبد الله فقلت: أتوضأ بماء النورة؟ فقال: ما أحب ذلك. قلت: أتوضأ بماء الباقلاء؟ قال: ما أحب ذلك. قلت: أتوضأ بماء الورد؟ قال: ما أحب ذلك. قال: فقمت فتعلق بثوبي، ثم قال: أيش تقول إذا دخلت المسجد؟ فسكت. فقال: وأيش تقول إذا خرجت من المسجد؟ فسكت، فقال: اذهب فتعلم هذا(24). فانظر كيف أجاب الإمام أحمد هذا السائل عن مسائله حتى انتهى، وقد أجابه بحلم وسعة صدر، ثم أرشده لما هو الأولى له بدون تعنيف، وبهذا يُقَّرب العلمُ للناس، ويُحَبُّ أصحابه. وفي ختام هذه الرسالة نسأل الله أن يغفر للإمام أحمد، وأن يجزيه عن الإسلام خيراً، كما نسأله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وألا يحرمنا فضله؛ إنه يرزق من يشاء بغير حساب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. |1|2|3| (1) طبقات الحنابلة1/13.(2) مجموع الفتاوى21/121. (3) ينظر في ذلك : المدخل المفصل للشيخ : بكر أبو زيد ـ رحمه الله ـ 1/377ـ289وكتاب فوائد وشواهد من محنة الإمام أحمد لإبراهيم الغامدي ص15ـ20. (4) محنة الإمام أحمد لعبد الغني المقدسي ص143. (5) محنة الإمام أحمد لعبد الغني المقدسي ص148. (6) سير أعلام النبلاء 11 / 241. (7) الآداب الشرعية لابن مفلح 5/ 254. (8) ذكر محنة الإمام أحمد لحنبل بن إسحاق بن حنبل ص72. (9) مجموع الفتاوى21/121. (10) سير أعلام النبلاء12 / 32. (11) مجموع الفتاوى 11/479. (12) سير أعلام النبلاء 4 / 318. (13) الموافقات 4/ 289. (14) ص102. (15) سير أعلام النبلاء 11/208. (16) الفروع 1/150. (17) سير أعلام النبلاء 11/ 296. (18) سير أعلام النبلاء 11/ 305. (19) طبقات الحنابلة 1/ 92. (20) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 162. (21) اقتضاء الصراط المستقيم 2/126. (22) المرجع السابق. (23) المرجع السابق. (24) طبقات الحنابلة 1/ 39. |
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|