فتنة المال تؤدي إلى الشِّرك
د. محمد منير الجنباز
إن المالَ فتنةٌ، وقد قال الله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7]، والمَثَلُ الذي سنورده حول الرَّجُلين الصاحبين، المؤمن المُنفِق، والجاحد المُمسِك، وقد وردت قصتُهما في سورة الكهف؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 32، 33]، فهذا الغنيُّ كان يمتلك جنَّتين مثمرتين، فيهما الأعنابُ والنخيل، يجري خلالهما نَهَرٌ، فأيُّ شيء أحسن من هذا؟ ثمر وخُضرة وماء، فماذا كان من صاحبِ هاتين الجنَّتين، ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ [الكهف: 34]، وهكذا جعَله هذا المالُ يتعالى على صاحبه بكثرةِ المال والولد، فكانت بداية الطريق في الإغواء التكبُّر والتعالي على الفقراء والضعاف، فلو كان صاحبه ذا مالٍ وولَدٍ، لَمَا قال له هذا، بل استغلَّ فقره، وضَعْفَ نسلِه، فتعالى عليه في هذا الشأن، ثم امتد به التعالي والكبُّر إلى أن يدخُلَ جنتيه بهذه النفسية المتكبرة: ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾ [الكهف: 35]، وظُلم النفس في مطاوعتها على الجحود والنكران، وفي إطلاق العِنان لوساوسها، وعدم رَدْعها وقمعها، ثم امتد به الغرورُ والكِبْر ليقول: ما أظن أن تبيدَ هذه أبدًا، كأنه أخذ مِن الله عهدًا بذلك، أو أنه هو الذي نماها وجعلها بهذا الشكل بذَكائه ومقدرته حتى اطمأنَّ إلى أنَّ هذه لن تبيد، وبهذا يكون قد نسب ما بها من نماءٍ إلى نفسه وصُنْعه، وكأنه شابَهَ في هذا الأمر قارونَ الذي نسَب كثرةَ المال إلى عِلمه: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ﴾ [القصص: 78]، وعلى هذا يكون قد مشى قُدمًا في طريق الجحود، وأن شيطانه ينقُلُه من ذنبٍ إلى ذنب أكبرَ، فقال: ﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: 36]، فانتقل حالُه من الفخر بالمال والتكبُّر على صاحبه إلى الغرور بأن هذه لن تبيدَ أبدًا، كأنه مُنشِئها، ثم أظهَر بعد ذلك الكفرَ والجحود، فأنكَر قيام الساعة، أو أنه سينقلب إلى ربِّه بعد ذلك، فمعنى كلامه أنه غيرُ موقِن بالحساب، ثم قال: إنْ كان هناك آخرة، فإنه سيُعطَى خيرًا من جنتيه، فطالما أنه استحقَّ هاتين الجنَّتين في الدنيا، فإنه بالتأكيد سينال أفضلَ في الآخرة، وهذا قياس باطلٌ؛ فإن اللهَ يُملي للظالمِ في الدنيا ثم يأخُذُه، فإذا أخَذه لم يُفلِتْه؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [آل عمران: 178]، ولقد أحسَّ صاحبُه الفقير أنه قد اشتط في غيِّه، وخرَج عن حدِّ الإيمان، ودخَل في الكفر؛ ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 37، 38]، وقال له: لكني أنا أقول: إن اللهَ ربي، ولا أشركُ بربي أحدًا، ثم إن اللهَ قد أحاط بجنَّتيه، فأصبحتا خاويتينِ على عروشها، فأخَذ يضرب كفًّا بكف؛ ألَمًا وأسَفًا وحسرة، ﴿ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 42][1]، وهكذا فإن المالَ قد فَتَنَه وأضلَّه، فاضطرب تفكيرُه، فضَلَّ، فكان مالُه وبالاً عليه؛ فالمال له سَكْرة في النَّفس مثل سَكْرة الخَمر أو أشد، وسَكرته تبطر الإنسانَ، وتُذهِب تفكيرَه في حاله ومآله.
ومَثَله هذا كمَثَل العاص بن وائل السهمي الذي كان يظُنُّ - حسب ضلاله - أنه سيؤتى المالَ والولد إذا كان في الآخرة كالذي له في الدنيا، فزجَره الله، وكذَّب قوله؛ قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ﴾ [مريم: 77 - 80]، وكان عليه دَيْن لخبَّاب بن الأرتِّ، فطالبه به فقال: لا أعطيك حتى تكفرَ بمحمد، فقال: والله لا أكفُرُ حتى تموت، ثم تبعث، فقال له: إذا متُّ ثم بُعِثْتُ، جِئتَني ولي مال وولد، فأعطيك؛ تفسير فتح القدير، رواية عن البخاري.
[1] الآيات المُستشهَدُ بها من سورةِ الكهف 32 - 42.