#1
|
||||
|
||||
قيام الليل
قيام الليل
خالد حسن محمد البعداني الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أقرت بالربوبية جميع مخلوقاته، وشهدت له بالإلوهية جميع مصنوعاته، وسبحت له جميع السموات والأرض ومن فيهن، جعل السجود والركوع إذعان وتعظيماً له، يلهج اللسان بتوحيده وذكره، وتذعن المخلوقات له بالملك والعظمة والسلطان، له الإفضال والإنعام، العزيز الكبير المتعال سبحانه الواحد القهار. وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين البشير النذير، إمام القائمين والمتهجدين وسيدهم خير الخلق أجمعين وعلى آله وصحبه وسلم ومن أتبع هداه إلى يوم الدين. من المعلوم أن من أفضل الأعمال وأهمها الصلاة فهي الركن الثاني من أركان الدين القويم، وهي من أعظم ما يتقرب به العبد إلى المولى -عز وجل- من الأعمال الصالحات فكثرة الصلاة والسجود من أحب الأعمال إلى الحق تبارك وتعالى بها ينال العبد الرضا من ربه، أمر بها المولى جل وعلا فقال: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45], وقال سبحانه: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)[طه: 132]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((جعلت قرة عيني في الصلاة))(1)، وقد سأل -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الأعمال فقال: «الصلاة لأول وقتها»(2)، فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وهي صلة بين العبد وربه، فيها يناجي الإنسان ربه ويسأله حوائجه من خير الدنيا والآخرة. وعن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال لقيت ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، أو قال قلت بأحب الأعمال إلى الله فسكت ثم سألته فسكت ثم سألته الثالثة فقال سألت عن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة»(3)، وقال صلى الله عليه وسلم لربيعة بن كعب الأسلمي-رضي الله عنه- عندما سأله المرافقة في الجنة: «أعني على نفسك بكثرة السجود»(4)، وكان حذيفة إذا أحزنه أمر صلى(5). والأعمال التي تزيد الإيمان كثيرة منها عمل القلب كالمحبة لله تعالى، والتوكل عليه، والإنابة إليه والخوف منه والرجاء، وإخلاص الدين له، والصبر على أوامره، وعن نواهيه وعلى أقداره، والرضى به وعنه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والذل له والخضوع والإخبات إليه والطمأنينة به... ومنها عمل الجوارح كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق وغيرها(6). فالصلاة من أهم الأعمال-أعمال الجوارح- التي تزيد الإيمان في القلوب وهي فرائض ونوافل وأفضل النوافل بعد الفرائض قيام الليل والتهجد فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل»(7). فقيام الليل والتهجد من الأعمال التي تزيد الإيمان وتقويه فهو دأب الصالحين من قبلنا وهو النور لمن أراد أن يضيء الطريق ويستنير في السير فالقيام في الظلمات والأسحار ينير الطريق على الصراط، يجعل القلب يستنير بنور الإيمان، فيصبح الوجه وقد فاض عليه من هذا النور الذي استنار به القلب فيصبح وضاءً ويشع هذا النور ليصل إلى كل الجوارح فتجدها تنطق الخير، وتعمل الصالح، وتبتعد عن المنكر والرذائل فيعيش يومه في سعادة وآمان، وراحة واطمئنان. ففي هذا البحث نتحدث إن شاء الله تعالى عن فضل قيام الليل، وأهمية هذه العبادة العظيمة، وعن هدي إمام القائمين والمتهجدين محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونماذج عملية حفظها لنا التاريخ عن سلف هذه الأمة في قيام الليل، وعن الثمار والفوائد التي يجنيها المسلم من التهجد في الأسحار والوقوف بين يدي الواحد القهار، والله نسأل التوفيق والرشاد. وقبل الخوض في الحديث عن قيام الليل والتهجد فيه نعرج على معنى التهجد في لغة العرب فالتهجد في اللغة: النوم بالليل والصلاة فيه بعد نوم فهو من ألفاظ الأضداد. ويقال: هَجَدَ يَهْجُدُ هُجوداً وأَهْجَدَ نام، وهَجَد القوم هُجُوداً نامُوا والهاجِدِ النائِمُ والهاجِد والهَجُود المُصَلي بالليل والجمع هُجودٌ وهُجّد، وتَهَجَّدَ القوم استيقظوا للصلاة أَو غيرها. قال ابنُ الأَعرابي: هَجَّدَ الرجُلُ إِذا صَلَّى بالليلِ، وهَجَّدَ إِذَا نَامَ بالليلِ وقال غيرُه: وهَجَّد إِذا نَامَ وذلك كُلُّه في آخِرِ الليْلِ. قال الأَزهريّ: والمعروف في كلامِ العَربِ أَن الهاجِدَ هو النائم وَهَجَدَ هُجُوداً إِذا نَامَ، وأَما المُتَهجِّد فهو القائمُ إِلى الصلاةِ من النَّومِ.(8) والتهجد إصطلاحاً: هي نافلة الليل, ولا تكون إلا بعد نوم(9). فضل قيام الليل والتهجد: قد وردت كثير من الأدلة التي تدل على فضيلة هذه العبادة العظيمة فقد قال سبحانه وتعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) [الإسراء: 79]. والتهجد: الصلاة في أثناء الليل، وهو اسم مشتق من الهجود، وهو النوم، فمادة التفعل فيه للإزالة مثل التحَرج والتأثم، والنافلة: الزيادة من الأمر المحبوب، وفي هذا دليل على أن الأمر بالتهجد خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فالأمر للوجوب، وفي هذا الإيجاب عليه زيادة تشريف له، ولهذا أعقب بوعد أن يبعثه الله مقاماً محموداً.(10) وقد اختلف أهل العلم في قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- هل كان واجبً أم لا؟ ليس هذا محله. وهي من صفات أهل الإيمان الذين أعد الله لهم الجزاء العظيم قال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16-17]. وما أجمل تعليق الإمام ابن القيم -رحمه الله- على هذه الآية حيث قال: "وتأمل كيف قابل ما أخفوه من قيام الليل بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس، وكيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقوموا إلى صلاة الليل بقرة الأعين في الجنة" (11). وقال تعالى: (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذاريات: 17]. ومن الأحاديث التي تبين فضل قيام الليل: عن عائشة -رضي الله عنها-: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقالت عائشة لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا»(12). وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- من أبلغ أحوال التواضع والتذلل إلى الحق تبارك وتعالى يقول ابن بطال -رحمه الله- وأما طول سجوده في قيام الليل فذلك لاجتهاده فيه بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى فإن ذلك أبلغ أحوال التواضع والتذلل إليه، وكان ذلك شكراً على ما أنعم الله به عليه وقد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر(13). من أفضل العبادات بعد الفرائض: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل»(14). وفي رواية: سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: «أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم»(15). وعن عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية(16). وقال العلامة الطيبي -رحمه الله-: "ولعمري إن صلاة التهجد لو لم يكن فيها فضل سوى قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) [الإسراء: 79], وقوله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً...) الآية وغيرهما من الآيات لكفاه مزية."(17). فيها إتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ووصاياه: فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يترك قيام الليل في الحضر أو السفر، وكان يوصي به فعن علي-رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طرقه وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: «ألا تصليان»(18). وعن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل» فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا.(19) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل»(20). والمقصود أنه كان يقوم أغلب الليل أو كله فترك قيام الليل أصلاً حين يقل عليه فلا تزد أنت في القيام أيضا فإنه يؤدي إلى الترك أصلاً(21). وعن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- أن أول شيء تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة أن قال: «أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلون الجنة بسلام»(22). الحرز من الشيطان: فالانتباه لصلاة الليل يحل عقد الشيطان التي يعقدها على قافية المرء المسلم: مصداق ذلك ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان»(23). قال الإمام النووي -رحمه الله-: "واختلف العلماء في هذه العقد فقيل هو عقد حقيقي بمعنى عقد السحر للإنسان ومنعه من القيام قال الله تعالى: (وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) [الفلق: 4] فعلى هذا هو قول يقوله يؤثر في تثبيط النائم كتأثير السحر، وقيل: يحتمل أن يكون فعلا يفعله كفعل النفاثات في العقد، وقيل: هو من عقد القلب وتصميمه فكأنه يوسوس في نفسه ويحدثه بأن عليك ليلا طويلا فتأخر عن القيام، وقيل هو مجاز كنى به عن تثبيط الشيطان عن قيام الليل"(24), والشاهد أن الشيطان يحرص على تثبيط الإنسان عن قيام الليل وعمل الصالحات. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال ذكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل نام ليلة حتى أصبح قال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه أو قال في أذنه»(25). وفي هذه الحديث إشارة إلى أن من يتكاسل عن الصلاة ينقاد للشيطان، ويتحكم فيه، وفيه معنى الإذلال والاستخفاف به واحتقاره ببوله في أذنه، وخص الأذن لأنها حاسة الانتباه.(26) أهمية قيام الليل: ولا شك أن هذه العبادة العظيمة لها أهمية كبيرة فقيام الليل والتهجد فيه: - يزيد الإيمان في القلوب: كما هو المعلوم من مذهب أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والسيئات، والإيمان قول وعمل، فالقول قول القلب واللسان، والعمل كما سبق وذكرنا عمل القلب، وعمل الجوارح. وقيام الليل من أفضل القربات والأعمال الصالحات بعد الفرائض فهو لاشك من الأسباب التي تزيد الإيمان في القلوب. - يساعد على ترك المحظورات: فالصلاة ومن جملتها صلاة الليل تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45], وعن أبي هريرة قال قيل يا رسول الله إن فلانا يصلي الليل كله فإذا أصبح سرق قال: «سينهاه ما تقول»(27), قال أبو حاتم: "قوله سينهاه ما تقول مما نقول في كتبنا إن العرب تضيف الفعل إلى الفعل نفسه كما تضيف إلى الفاعل أراد صلى الله عليه وسلم أن الصلاة إذا كانت على الحقيقة في الابتداء والانتهاء يكون المصلي مجانبا للمحظورات معها"(28). فصلاة الليل قربة إلى الله -عز وجل- وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الإثم والمنكرات, فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة للإثم»(29). قوله: عليكم بقيام الليل أي التهجد فيه فإنه دأب الصالحين بسكون الهمزة ويبدل ويحرك أي عادتهم وشأنهم، وقوله منهاة للإثم: أي ناهية عن الإثم أي عن ارتكابه وقد قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].(30) وقال القاضي: معناه أن قيام الليل قربة تقربكم إلى ربكم وخصلة تكفر سيئاتكم وتنهاكم عن المحرمات.(31) - الإكثار من صلاة الليل يساعد على موافقة ساعة الإجابة التي يستجاب فيها دعاء المرء: فعن جابر -رضي الله عنه- قال سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة»(32). - من أسباب غفران الذنوب: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»(33). قال في الفتح: وقوله قام رمضان أي قام لياليه مصليا والمراد من قيام الليل ما يحصل به مطلق القيام كما قدمناه في التهجد سواء وذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها.(34) - من الأسباب الجالبة للرزق: يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله- وأربعة تجلب الرزق: قيام الليل وكثرة الاستغفار بالأسحار وتعاهد الصدقة والذكر أول النهار وآخره(35). ويؤيد هذا ما جاء عن أبي هريرة-رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر»(36), وكذلك حديث جابر-رضي الله عنه- قال سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة»(37). من هدي إمام القائمين والمتهجدين محمد صلى الله عليه وسلم: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع قيام الليل حضرا ولا سفرا، وكان إذا غلبه نوم أو وجع صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة»(38). وعن يزيد بن خمير قال سمعت عبد الله بن أبي موسى يقول قالت لي عائشة لا تدع قيام الليل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان لا يذره وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعدا»(39). - ومن هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلى أحد عشر ركعة يطيل فيها: فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يصلي إحدى عشرة ركعة تعني في الليل يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المنادي للصلاة»(40). يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله-: وكان قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة كما قال ابن عباس وعائشة فإنه ثبت عنهما هذا، ويدل على هذا ما ورد في الصحيحين «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة»(41). وما ورد من الزيادة على ذلك حملها ابن القيم-رحمه الله- على ركعتي الفجر.(42) يقول -رحمه الله-: وأما ابن عباس -رضي الله عنه- فقد اختلف عليه ففي الصحيحين عن أبي جمرة عنه: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة يعني بالليل لكن قد جاء عنه هذا مفسرا أنها بركعتي الفجر قال الشعبي: سألت عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل فقالا: ثلاث عشرة ركعة منها ثمان ويوتر بثلاث وركعتين قبل صلاة الفجر.(43) والحاصل أن الاتفاق قد حصل على إحدى عشرة ركعة، واختلفوا في الزيادة، فكل واحد أخبر بما رآه واختلفت باختلاف الأحوال والأوقات قال القاضي: "قال العلماء في هذه الأحاديث -الأحاديث الواردة في عدد ركعات صلاته في الليل- إخبار كل واحد من ابن عباس وزيد وعائشة بما شاهد وأما الاختلاف في حديث عائشة فقيل هو منها، وقيل من الرواة عنها فيحتمل أن أخبارها بأحد عشرة هو الأغلب وباقي رواياتها إخبار منها بما كان يقع نادرا في بعض الأوقات فأكثره خمس عشرة بركعتي الفجر وأقله سبع وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه بطول قراءة "(44). وقد أجمع العلماء على أن صلاة الليل نافلة لا حد ولا شيء مقدر فيها قال ابن عبد البر: "وقد أجمع العلماء على أن لا حد ولا شيء مقدراً في صلاة الليل، وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلت ركعاته، ومن شاء أكثر الركوع والسجود"(45). - كان يصلي ركعتين خفيفتين: فمن هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين ففي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها-قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين»(46). قال في الفتح: ذكر شيخنا الحافظ أبو الفضل بن الحسين في شرح الترمذي أن السر في استفتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين المبادرة إلى حل عقد الشيطان وبناه على أن الحل لا يتم إلا بتمام الصلاة وهو واضح لأنه لو شرع في صلاة ثم أفسدها لم يساو من أتمها، ويرد عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم منزه عن عقد الشيطان، ويجاب عنه بأن فعله صلى الله عليه وسلم محمول على تعليم أمته وإرشادهم إلى ما يحفظهم من الشيطان.(47) وقال النووي -رحمه الله-: "هذا دليل على استحبابه لينشط بهما لما بعدهما "وهذا هو الظاهر والله أعلم.(48) وقد أمر صلى الله عليه وسلم بذلك فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين»(49). - تنويعه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل: منها: الذي ذكرته عائشة أنه كان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين ثم يتمم ورده إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بركعة. ومنها: ما ذكره ابن عباس-رضي الله عنه-: «أنه رقد عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستيقظ فتسوك وتوضأ وهو يقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) [آل عمران: 190], فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات ثم أوتر بثلاث»(50). والنوع الثالث: ثلاث عشرة ركعة كذلك فقد روى أبو جمرة قال سمعت ابن عباس- رضي الله عنه- يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة»(51), وعن زيد بن خالد الجهني-رضي الله عنه- قال: «لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة»(52). النوع الرابع: يصلي ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بخمس سردا متوالية لا يجلس في شيء إلا في آخرهن. النوع الخامس: تسع ركعات يسرد منهن ثمانيا لا يجلس في شيء منهن إلا في الثامنة يجلس يذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يصلي التاسعة ثم يقعد ويتشهد ويسلم ثم يصلي ركعتين جالسا بعدما يسلم. النوع السادس: يصلي سبعا كالتسع المذكورة ثم يصلي بعدها ركعتين جالسا. النوع السابع (53): ما ذكره حذيفة -رضي الله عنه-: «أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فركع فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم مثل ما كان قائما ثم جلس يقول رب اغفر لي رب اغفر لي مثل ما كان قائما ثم سجد فقال سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما فما صلى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال إلى الغداة»(54). - ومن هديه في الاستفتاح في صلاة الليل: ما أخبر به أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: «كان إذا قام من الليل افتتح صلاته اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»(55). - صفة صلاته صلى الله عليه وسلم: يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله-: فقد كانت صلاته في الليل على ثلاثة أنواع: أحدها: وهو أكثرها: صلاته قائما. الثاني: أنه كان يصلي قاعدا ويركع قاعدا. الثالث: أنه كان يقرأ قاعدا فإذا بقي يسير من قراءته قام فركع قائما.(56) - الاعتدال في العمل مخافة الانقطاع والملل: ومن هديه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل ما رواه لنا أنس -رضي الله عنه-قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته»(57), والذي يستفاد من هذا الحديث أن صلاته ونومه -صلى الله عليه وسلم- كان يختلف بالليل ولا يترتب وقتا معينا بل بحسب ما تيسر له القيام.(58) - ومن هديه صلى الله عليه وسلم إيقاظ المرء لصلاة الليل: فقد بوب البخاري- رحمه الله- باب تحريض النبي -صلى الله عليه وسلم- على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب فعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «طرقه وفاطمة فقال: ألا تصلون؟ فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا »(59), وقال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء»(60). - السواك: ومن هديه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل استعمال السواك قبل الصلاة ويدل على ذلك ما رواه حذيفة -رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك»(61). - الأدعية المأثورة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قيام الليل: ومن هديه -صلى الله عليه وسلم- ما ورد عنه من الأدعية التي كان يقولها في صلاة الليل أو بعدها من ذلك ما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا تهجد من الليل قال: «اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن أنت الحق ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت، وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت»(62). وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها- بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: «كان إذا قام من الليل افتتح صلاته اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»(63). نماذج من السلف الصالح: النماذج العملية التي حكاها لنا التاريخ عن سلف هذه الأمة في قيام الليل كثيرة نتعرف من خلالها على ما كانوا عليه من المجاهدة والمصابرة على هذه العبادة العظيمة التي تزيد الإيمان في القلوب وتجعلها عامرةً بنور الإيمان لتظهر بعدها الآثار على الجوارح، وقد سبق وذكرنا نماذج من إمام القائمين والمتهجدين صلى الله عليه وسلم فمما حكاه التاريخ لنا ما رواه صاحب السير عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- كان إذا هدأت العيون، قام فسمعت له دويا كدوي النحل.(64) وروى أن عمر -رضي الله عنه- كان يمر بالآية من ورده بالليل فيسقط حتى يعاد منها أياما كثيرة كما يعاد المريض.(65) وكان ابن عمر -رضي الله عنه- له مهراس فيه ماء فيصلي ما قدر له ثم يصير إلى الفراش فيغفي إغفاء الطائر ثم يقوم فيتوضأ ثم يصلي فيرجع إلى فراشه فيغفي إغفاء الطائر ثم يثب فيتوضأ ثم يصلي يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمسا.(66) وكان -رضي الله عنه- يحي الليل صلاة ثم يقول يا نافع أسحرنا فأقول لا فيعاود الصلاة ثم يقول يا نافع أسحرنا فأقول نعم فيقعد ويستغفر ويدعو حتى يصبح.(67) وعن ابن أبي مليكة: صحبت ابن عباس -رضي الله عنه- من مكة إلى المدينة، فكان يصلي ركعتين، فإذا نزل، قام شطر الليل، ويرتل القرآن حرفا حرفا، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب.(68) وقسم ابن الزبير الدهر على ثلاث ليال، فليلة هو قائم حتى الصباح، وليلة هو راكع حتى الصباح، وليلة هو ساجد حتى الصباح.(69) وقال أبو عثمان: تضيفت أبا هريرة سبعا فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثا يصلي هذا ثم يوقظ هذا.(70) وقال مالك بن أنس: كان صفوان يصلي في الشتاء في السطح، وفي الصيف في بطن البيت، يتيقظ بالحر والبرد حتى يصبح، ثم يقول: هذا الجهد من صفوان، وأنت أعلم، وإنه لَتِرمُ رجلاهُ حتى يعود مثل السِّقْط من قيام الليل. ويظهر فيهما عروق خضر.(71) وكان طاوس -رحمه الله- إذا اضطجع على فراشه يتقلى عليه كما تتقلى الحبة على المقلاة ثم يثب ويصلي إلى الصباح ثم يقول طيَّر ذكر جهنم نوم العابدين.(72), وعن أبو عاصم النبيل قال: كان أبو حنيفة يسمى الوتد لكثرة صلاته.(73) وقال القاضي أبو يوسف: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة، إذ سمعت رجلا يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة: والله لا يتحدث عني بما لم أفعل، فكان يحيى الليل صلاة وتضرعا ودعاء.(74) وقال الحسن الكرابيسي: بتّ مع الشافعي غير ليلة فكان يصلي نحواً من ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة آية، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه ولجميع المسلمين والمؤمنين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ فيها وسأل النجاة لنفسه وللمؤمنين، وكأنما جمع له الرجاء والخوف معاً.(75) وكان منهم رحمهم الله تعالى من يقسم ليله أقسام قسم يكتب فيه، ويقسم يصلى، وقسم ينام فيه فقد كان عمرو بن دينار يجزأ الليل ثلاثة أجزاء: يتحدث ثلثه أي يراجع الحديث، وينام ثلثه، ويصلي ثلثه.(76) وكان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثاً: فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويضع الكتب ثلثه(77)، وكذلك الشافعي وغيرهم من السلف الصالح. وكان للحسن بن صالح جارية فباعها من قوم فلما كان في جوف الليل قامت الجارية فقالت يا أهل الدار الصلاة الصلاة فقالوا: أصبحنا؟ أطلع الفجر؟ فقالت: وما تصلون إلا المكتوبة؟ قالوا: نعم، فرجعت إلى الحسن فقالت: يا مولاي بعتني من قوم لا يصلون إلا المكتوبة، ردني، فردها.(78) ومنهم من كان يقرأ القرآن الكريم في ركعة، ومنهم من كان يصلى الفجر بوضوء العشاء، وقد مات بعضهم وهم يتلون بعض آيات القرآن الكريم عليهم رحمة الله جميعاً، والأمثلة في ذلك كثيرة والمقصود الإشارة لبعض ما كان عليه سلف الأمة من الاهتمام والحرص بهذه العبادة العظيمة، ولنعلم مقدار القصور الذي نعاني منه في هذه العبادة نسأل من المولى -عز وجل- التوفيق والرشاد. فوائد وثمار هذه العبادة: - وفوائد هذه العبادة كثيرة فوائد في الدنيا والآخرة، ولعل من أهم هذه الفوائد والثمار وأعظمها في الآخرة أن قيام الليل من أسباب دخول الجنة. - ومن ثمار قيام الليل وفوائده موضوع هذا البحث وهو زيادة الإيمان في القلوب؛ لأنه من أفضل القربات والأعمال الصالحات بعد الفرائض كما سبق الحديث عنه. - ومن الفوائد حط الذنوب والخطايا قال ابن الحاج: "وفي قيام الليل من الفوائد أنه يحط الذنوب كما يحط الريح العاصف الورق الجاف من الشجر"(79). وقد سبق في حديث ثوبان قوله صلى الله عليه وسلم: «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة»(80). - وقيام الليل ينور القبر ويحسن الوجه ويذهب الكسل وينشط البدن(81)، كما سبق في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان»(82), فهديه -صلى الله عليه وسلم- أكمل الهدي فهو حافظ للبدن والصحة، نافع في الدنيا والآخرة. - وهناك فوائد صحية لقيام الليل نذكر بعضها على سبيل الإجمال: 1- يؤدي قيام الليل إلى تقليل إفراز هرمون الكورتيزون وخاصة قبل الاستيقاظ بساعات، وهذا يتوافق مع وقت السحر، مما يقي من الزيادة المفاجئة في مستوى سكر الدم، والذي يشكل خطرا على مرضى السكر، ويقي كذلك من السكتة المميتة والأزمات القلبية في المرضى المعرضين لذلك. 2- قيام الليل علاج ناجح لما يعرف باسم مرض الإجهاد الزمني بسبب ما يوفره قيام الليل من انتظام في الحركة ما بين الجهد البسيط والمتوسط الذي ثبتت فاعليته في علاج هذا المرض. 3- قيام الليل ينشط الذاكرة، فقيام الليل له دور كبير في تنشيط الذاكرة وتنبيه المخ ووظائفه المختلفة، ويساعد على قوة التركيز والانتباه. 4- يقي قيام الليل من مخاطر الشيخوخة وأمراضها، ويقي من أمراض كثيرة كمرض الزهايمر، والاكتئاب وغيرها. 5- ويقرر مجموعة من الأمريكيين في كتاب الوصفات المنزلية المجربة وأسرار الشفاء الطبيعية أن القيام من الفراش أثناء الليل، والحركة البسيطة داخل المنزل، والقيام ببعض التمرينات الرياضية الخفيفة، وتدليك الأطراف والتنفس بعمق له فوائد صحية عديدة، وهذا يشبه الوضوء وحركات الصلاة (83). يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله-: "ولا ريب أن الصلاة نفسها فيها من حفظ صحة البدن وإذابة أخلاطه وفضلاته ما هو من أنفع شيء له سوى ما فيها من حفظ صحة الإيمان وسعادة الدنيا والآخرة، وكذلك قيام الليل من أنفع أسباب حفظ الصحة ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة ومن أنشط شيء للبدن والروح والقلب" (84). فالتهجد في الأسحار والصلاة والناس نيام، فيها الخير والفلاح، والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة فليحرص عليها المسلم ولا يفوت هذا الخير الكثير فالناس على صنفين صنف القائمين، وصنف الغافلين عن هذا الخير العظيم فكن من القائمين ولا تكن من الغافلين -رحمك الله-، يقول عمر بن ذر: "لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم ونظروا إلى أهل السآمة والغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم من الضجعة والنوم قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عبادة السهر وطول التهجد فاستقبلوا الليل بأبدانهم وباشروا ظلمته بصفاء وجوههم فانقضى عنهم الليل وما انقضت لذتهم من التلاوة ولا ملت أبدانهم من طول العبادة فأصبح الفريقان وقد ولى عنهم الليل بربح وغبن، أصبح هؤلاء قد ملوا النوم والراحة وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعبادة، شتان ما بين الفريقين، فاعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار والمحروم من حرم خيرهما..." (85). ويقول الحسن البصري -رحمه الله-: "لقد صحبت أقواما يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سجدا وقياما يقومون هذا الليل على أطرافهم تسيل دموعهم على خدودهم، فمرة ركعا ومرة سجدا، يناجون ربهم في فكاك رقابهم... فرحم الله امرأ نافسهم في مثل هذه الأعمال، ولم يرض من نفسه لنفسه بالتقصير في أمره واليسير من فعله فإن الدنيا عن أهلها منقطعة، والأعمال على أهلها مردودة"(86). ومن خلال ما سبق بيانه نعلم أن قيام الليل والتهجد فيه من أهم أعمال القلوب التي تزيد الإيمان في القلب وتجعل هذا القلب عامراً بالإيمان وعمل الصالحات والله نسأل أن يجعلنا من القائمين الفائزين في الدنيا والآخرة، وأن يلهمنا الرشد والصواب والتوفيق والسداد أنه على ما يشاء قدير، والحمد لله رب العالمين القائل: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) [الإنسان: 26] والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة، وصلى الله وسلم على إمام القائمين، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. _________________________ (1) سنن النسائي: 7/ 61، برقم: 3940، ومسند أحمد بن حنبل: 3/ 285، برقم: 14069، وقال الألباني: الجامع الصغير وزيادته: 1/ 544، برقم: 5435. (2) مسند أحمد بن حنبل: 6/ 374، برقم: 27148، سنن الدارقطني: 1/ 247، برقم: 10، وقال الألباني: صحيح، أنظر مشكاة المصابيح: 1/ 134، برقم: 607. (3) صحيح مسلم: 1/ 353، برقم: 488. (4) صحيح مسلم: 1/ 353، برقم: 489. (5) بدائع الفوائد: 4/ 922. (6) بتصرف من مدارج السالكين: 1/ 101. (7) صحيح مسلم: 2/ 821، برقم: 1163. (8) تاج العروس: 1/ 2357، وانظر لسان العرب: 3/ 431، والقاموس المحيط: 1/ 418، والتعاريف: 1/ 211. (9) انظر فقه العبادات 1/ 195, ومنار السبيل 1/ 81. (10) التحرير والتنوير: 8/ 287. (11) حادي الأرواح: 1/ 191. (12) صحيح البخاري: 4/ 1830، برقم: 4557، ومسلم: 4/ 2172، برقم: 2820. (13) عمدة القاري: 7/ 170. (14) سبق تخريجه ص: 1. (15) صحيح مسلم: 2/ 821، برقم: 1163. (16) مصنف عبد الرزاق: 3/ 47، برقم: 4735. (17) تحفة الأحوذي: 1/ 425. (18) صحيح البخاري: 1/ 379، برقم: 1075، وصحيح مسلم: 1/ 537، برقم: 775. (19) صحيح البخاري: 1/ 378، برقم: 3530، وصحيح مسلم: 4/ 1927، برقم: 2479. (20) صحيح البخاري: 1/ 387، برقم: 1101، وصحيح مسلم: 2/ 812، برقم: 1159. (21) حاشية السندي على النسائي: 3/ 253. (22) سنن الترمذي: 4/ 652، برقم: 2485، وسنن ابن ماجة: 2/ 1083، برقم: 3251، وقال الألباني: صحيح، انظر الجامع الصغير وزيادته: 1/ 1383، برقم: 13823. (23) صحيح البخاري: 1/ 383، برقم: 1091، وصحيح مسلم: 1/ 538، برقم: 776. (24) شرح النووي على مسلم: 6/ 65. (25) صحيح البخاري: 3/ 1193، برقم: 3097، وصحيح مسلم: 1/ 537، برقم: 774. (26) شرح النووي على مسلم: 6/ 64. (27) صحيح ابن حبان: 6/ 300، برقم: 2560، وقال الألباني: صحيح، انظر مشكاة المصابيح: 1/ 275، برقم: 1237. (28) صحيح ابن حبان: 6/ 300. (29) سنن الترمذي: 5/ 552، برقم: 3549، صحيح ابن خزيمة: 2/ 176، برقم: 1135، وقال الألباني: صحيح، الجامع الصغير وزيادته: 1/ 753، برقم: 7528. (30) تحفة الأحوذي: 9/ 375. (31) فيض القدير: 4/ 351. (32) صحيح مسلم: 1/ 521، برقم: 757. (33) صحيح البخاري: 1/ 22، برقم: 37، وصحيح مسلم: 1/ 523، برقم: 759. (34) فتح الباري - ابن حجر: 4/ 251. (35) زاد المعاد: 4/ 378. (36) صحيح مسلم: 1/ 521، برقم: 758. (37) تقدم تخريجه قريباً. (38) جزء من حديث طويل رواه مسلم: 1/ 512، برقم: 746. (39) صحيح ابن خزيمة 2/ 176، برقم: 1137، والمستدرك: 1/ 452، برقم: 1158، وقال الألباني: صحيح الترغيب والترهيب: 1/ 153، برقم: 632. (40) صحيح البخاري: 1/ 338، برقم: 949. (41) صحيح البخاري: 1/ 385، برقم: 1096، وصحيح مسلم: 1/ 509، برقم: 738، ولفظه: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أنه سأل عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا. قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال: «يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي». (42) زاد المعاد: 1/ 311. (43) المصدر السابق. (44) شرح النووي على مسلم: 6/ 18. (45) الاستذكار: 2/ 102. (46) صحيح مسلم: 1/ 532، برقم: 767. (47) بتصرف من فتح الباري: 3/ 27. (48) شرح النووي على مسلم: 6/ 54.. (49) صحيح مسلم: 1/ 532، برقم: 768. (50) المصدر السابق: 1/ 525، برقم: 763. (51) المصدر السابق: 1/ 531، برقم: 764. (52) المصدر السابق: 1/ 531، برقم: 765. (53) أنظر هذه الأنواع بتصرف من زاد المعاد: 1/ 317. (54) سنن النسائي: 3/ 226، برقم: 1665. (55) صحيح مسلم: 1/ 534، برقم: 770. (56) زاد المعاد: 1/ 317. (57) صحيح البخاري: 1/ 383، برقم: 1090. (58) عمدة القاري: 7/ 191. (59) صحيح البخاري: 1/ 379، برقم: 1075، وصحيح مسلم: 1/ 537، برقم: 775، واللفظ له. (60) سنن أبي داود: 1/ 418، برقم: 1308، سنن النسائي: 3/ 205، برقم: 1610، وقال الألباني: صحيح، أنظر الجامع الصغير وزيادته: 1/ 581، برقم: 5807. (61) صحيح البخاري: 1/ 96، برقم: 242، وصحيح مسلم: 1/ 220، برقم: 255 واللفظ له، ومعنى الشوص دلك الأسنان بالسواك عرضا. (62) صحيح البخاري: 6/ 2724، برقم: 7060، وصحيح مسلم: 1/ 532، برقم: 679. (63) صحيح مسلم: 1/ 534، برقم: 770. (64) سير أعلام النبلاء: 1/ 494. (65) إحياء علوم الدين: 1/ 355. (66) الإصابة في معرفة الصحابة: 2/ 156. (67) صفة الصفوة: 1/ 577. (68) سير أعلام النبلاء: 3/ 352. (69) المصدر السابق: 3/ 369. (70) صحيح البخاري: 5/ 2073، برقم: 5126. (71) مختصر تاريخ دمشق: 4/ 8. (72) إحياء علوم الدين: 1/ 355. (73) تاريخ الإسلام: 1/ 1098. (74) سير أعلام النبلاء: 6/ 399. (75) تاريخ بغداد: 1/ 220. (76) تاريخ أبي زرعة الدمشقي: 1/ 66. (77) صفة الصفوة: 1/ 436. (78) إحياء علوم الدين: 1/ 355. (79) فيض القدير: 4/ 351. (80) صحيح مسلم: 1/ 353، برقم: 488. (81) فيض القدير: 4/ 351. (82) سبق تخريجه. (83) أنظر هذه الفوائد الصحية باختصار من الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية, ص: 916، وما بعدها. (84) زاد المعاد: 4/ 225. (85) التهجد وقيام الليل: 1/ 339, ابن أبي الدنيا. (86) المصدر السابق: 1/ 291. |
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|