#1
|
||||
|
||||
الأفاعي والثعابين دلالات على إبداع الخالق
الأفاعي والثعابين دلالات على إبداع الخالق
د. إبراهيم سليمان لا شك أنَّ الأفاعي تعتبر مِن أكثر الزَّواحف رشاقةً وإثارةً، وأنواعُها غيرُ المضرَّة تستحِقُّ منا كلَّ رِعاية ووِقاية؛ نظرًا لانتشار الأعداد الهائلة من الفِئْران والجرْذَان، وغيرها من الآفات الزراعية التي تتغذَّى عليها، وتشمل الزواحف بالإضافة إلى الأفاعي. وعلى عكس ما يَعتقده الكثيرون أنَّ الأفاعي مخلوقات قذرة، فإنَّها في الواقع مظلومة، وفي أغلب الأحيان نَجِدها حيواناتٍ رشيقةً، وذاتَ خطوط أو شرائط أو بُقَع زَاهية الألوان، وأجسامها تتميز بانسيابها الدقيق، والمتأمِّل في هذه المخلوقات يَرَى قدرةَ الله واضحةً جليَّةً. وهي مخلوقات الله - سبحانه وتعالى - ظلَمْناها وأضفَيْنا عليها كلَّ ما نَملك من ازْدِراء ونُفور، فليست كلُّها شرًّا أو أذًى، بل معظمها حيوانات وَدِيعة وأَنِيسة وغير مؤْذِية، ما لم يتهدَّدْها الخطر ويُحِط بها العُدوان. وتتعدَّد أسماؤها، فنجد أنَّ الثعبان والحيَّة والأَفْعي والأفْعُوَان والحنَش - كلَّها أسماءٌ لِمُسمًّى واحد، وتعيش في الغابات والأحراش والصَّحاري والبِرَك، وغيرها من البيئات المختَلِفة مع ملاحَظة أنَّ ثعبان الماء نوع من أنواع السَّمك، وليس محلاًّ لهذه الدِّراسة، والأفاعي مخلوقات ميسَّرة لِمَا خُلِقت له. فقد حبَاها الله حَواسَّ وقُدراتٍ جِسميَّة متعددة؛ لكي تعيش وتنتشر وتنمو وتُجابِه الأعداء، وتُدَافع عن نفسها ضد كل خطر يتهدَّدها أو ينال منها. في القرآن الكريم ورد ذِكْر الأفاعي صريحًا باثنين من أسمائها؛ فقد وردَتْ باسم "ثعبان" في سُورتَي الأعراف الآية "107" والشعراء الآية "32" في قوله - تعالى -: ﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 107]، كذلك وردت باسم "حية" في سورة طه الآية "20" في قوله - تعالى -: ﴿ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴾ [طه: 19 - 20]. وقد أشار القرآن الكريم إلى الحية أو الثعبان ضِمنًا في ثلاث آيات، ففي سورة الأعراف في الآية "117": ﴿ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ [الأعراف: 117]، ﴿ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ﴾ [طه: 69]، ﴿ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ [الشعراء: 45]. وتعدَّد أسماء الثعبان كما سبق الإشارة إلى ذلك. والمتأمِّل في حياة الثعابين وسُلوكِها لا بدَّ أن تستوقِفَه إحدى النقاط التالية: لا توجد أطراف لها مع أنَّ سرعة بعضها تتجاوَز أربعةَ أميال في الساعة. لونُها تكَيُّفي مع البيئة؛ للاختباء والحماية والوقاية، وأحيانًا للإنذار. لا يُحاول الأفعُوان (ذَكَر الأفعى) أنْ يَغتصب أُنثَى أفْعُوان آخَر، سبحان الله! أغلَبُها لا يَبدأ بالهجوم، بل يَلتزم موضع الدِّفاع، ويَحكم الصِّراعَ بينها قواعدُ وأصولٌ وأحكام. مَلمَسُها حرير، وشكلها جَميل ورَشِيق، وألوانُها زاهية متناسِقة، وفي أنيابها العطَب، وأحيانًا الموت الفوري. ولقد اتَّخذها الإنسانُ مثَلاً على الالتواء وعدَمِ الثَّبات على المبدأ، والخديعة والتلَوُّن مع كل موقف، وفي المثَل يقولون: "فلان كالثُّعبان"؛ أيْ: يعَضُّ ويَختفي، أو دلالة على التوائه وعدم صراحته. الصفات الجسمية: أهم ما يميِّز الأفاعي عن غيرها من الزواحف والحيوانات الأخرى: عدمُ وجود أيَّة أطراف للأفاعي، وعيونُها مفتوحة دائمًا ولا تُغطِّيها جفون. هذا، وتوجد الأفاعي في جميع المناطق الاستوائية، ولا يَكاد يَخلو منها مكان في كافَّة أرجاء العالم، فيما عدَا مَنطِقَتَي القطبين الشمالي والجنوبي، وجزُر هاواي، وأيرلندا ونيوزيلندا التي تَخلو من وُجود أنواع مَحلِّية من الأفاعي بها. أمَّا عنْ دِراسة تاريخها، فإنَّ أقْدَم حَفْرية عُثِر عليها لأفعى، تعود إلى العَصْر الطَّباشِيري، منذ حوالي مائة مليون سنَة. وتتميَّز جمجمة الأفعى بمرُونةٍ في التركيب، تُسَاعد على مَنْح فَكَّيْها - السُّفلي والعُلوي - درجةً كبيرةً من حرِّية الحركة؛ ذلك أنَّ الفكَّ السُّفلى ينقسم إلى نصفين غير متَّصِلَين من الأمام، لكنَّهما موصولان برِبَاط مطَّاط مَرِن. أما الأَسنان فهي حادَّة الأطْراف كالإِبرة، ومقوَّسة إلى الوراء، وتنتشر على الفكَّيْن، وجسم الأفعى يتميَّز بطوله الانسيابي؛ ولذلك كانت أعضاؤُها الداخلية طُوليَّةً هي الأخرى، فالقلب - بخلاف شَكْلِه المعروف عند كثير من الحيوانات - طُولِيُّ الشكل، وكذلك الحُوَيصلة الصفراوية (المرَارة) التي لا تلتصق - كالعادة - بالكبد، بل تَرقد بَعيدًا، وراءَه، وللأفعى رِئَة واحدة. وجسم الأفعى تغطِّيه الحراشيف، وهي شَبِيهة بقشور السَّمك، لكنها تَزداد سُمكًا في منطقة الرأس وعلى الجانِبَين، وتختلف ألوانُها باختلاف البيئة التي تَحيا بها الأفعى، كما أنها تَحوِي عددًا من الأصباغ، هي التي تحدِّد لونَها بين الأسود والبني، وقد تَختفي الأصباغ تمامًا من بعض الحراشيف، فتكون الفرصةُ سانِحةً لانكسار أشِعَّة الضوء عليها، مُنتِجةً عددًا من الألوان، كما يَحدث في المنشورات الزجاجية الدَّقيقة. ولونُها تكَيُّفي مع البيئة، فالأفعى تَأخذ لون البيئة التي تَحيا بها؛ فإذا وُجِدت الأفاعي بمناطق الغابات والأدغال، فإنَّها تشاهَدُ ذاتَ بُقَع أو خطوط، تُحَاكِي أوراق الأشجار وأغصانَها. أما الأفاعي فيَختلف لونُها بين الأخضر والبنِّي، وأمَّا ساكنات الصَّحاري فتتميَّز ألوانها بالشحوب. على أن الأفاعي تَبلغ حدًّا كبيرًا في تكَيُّفها مع البيئة المحيطة بها، ليس فقط في أنماط الحياة وألوان الحراشيف، ولكنْ أيضًا في مجال التركيب الجسدي. الحفَّارة والأرضية والمائية: بعض أنواع الأفاعي تَقضي جزءًا كبيرًا من عمرها تحت سطح الأرض، وتتميَّز برأسها المدبَّب الذي يُشبِه الوتد؛ الأمر الذي يساعدها على اختراق الأرض والغَوص تحت سطحها، وتُسمَّى هذه الأنواع بالأفاعي "الحفَّارة"، وهي ثَقيلة الوَزْن، ضَخْمة الجسم. والأفاعي الأرضية تستطيع تسَلُّق الشُّجَيرات والأشجار، بل والسِّباحة إذا دعَت الحاجة، في حِينِ تفضِّل الأفاعي المائية "مياهَ البِرَك والمستنقَعات"، ونادرًا ما تتجوَّل في سباحتها بعيدًا عن المياه العذْبة، وهي ماهرة في السباحة. كذلك تحبِّذ "أفاعي الأشجار" سُكْنَى فروع الشجر، والحياة على ثمارها وعلى بَيض الطيور، وقد زوَّدتْها القدرةُ الإلهية بِحَواسَّ دقيقةٍ وحادَّةٍ، تساعدها على المهَارة في صيد الفرائس والإمساك بضحاياها. وأهم حواس الأفاعي البصَر والشَّم: فتتمَتَّع بعضُ أنواع الأفاعي - خصوصًا الحفَّارةَ منها - بحاسَّةٍ بصَريَّة حادَّة؛ إذْ تتركَّز حدَقَة العَين بدِقَّة على الأشياء على اختلاف مسافاتِها، ومِن ثَم تستطيع تحديد الوقت اللازم للانقضاض على الفَرِيسة وبدقَّة متناهِيَة. ومن المعروف أنَّ عيْنَيْها لا يغطِّيهما جَفْنان، بل حَرَاشف شفَّافة، رغم ذلك تكون حدقةُ العين في الأفاعي التي تَقتَنِص فريستَها أثناءَ النهار، مستديرةً، أما صائدات اللَّيل فتكون حدقاتُها مستقيمةً كما في القِطط. وتتميز الثعابين بحاسَّةِ شم عالية، تتعرَّف بها على الفريسة وتحدِّد نوعها، يساعدها على ذلك لسانُها المشقوق، ولسان الثعبان يُعتبر عضْوَ اللَّمْس، ولا يُستَخدم في الذَّوْق، وليس للثعبان خاصَّةٌ للسَّمع. وتستطيع الثعابين التقاط ذبذبات الهواء، والإحساسَ بالموجات الصوتية عن طريق احتكاكِها بالأرض. ومع أنَّ الثعابين ليس لها أطراف، إلاَّ أنَّ الثُّعبان يتحرك بقَذْف جسمه الطويل في موجات أفُقِية، يساعده على ذلك هيكَلُه العظميُّ البالِغُ المرُونة، كما يسهِّل له الانثناء في جميع الاتِّجاهات بسهولة ويُسْر، ومع كل انثناءة يَدفع أمامه كلَّ ما يواجهه من عَقبات، ككومات العشب والأحجار الصغيرة وفروع الأشجار. ومن المقاومة الناتجة عن احتكاكه بهذه الأشياء، وكذلك احتكاك جِسْمه بالأرض خلالَ تموُّجاته الجسدية، يستطيع الاندفاعَ بجسمه إلى الأمام. على أنَّه يمارِس تحرُّكاته هذه للسَّيْر، كما يمارِسُها عند السِّباحة كذلك، وهناك طريقة أخرى للسَّير هي طريقة "يرَقَة الفَراش" أو "الدُّود" وفيها يزحف الثعبان في خط مستقيم عن طريق دَفْع طَرَفي جسمه إلى الأمام، وهو ما يتِمُّ بمساعدة عضلاته القوية. بيد أننا لا نستطيع إغفال أثَرِ الحراشف الَّتي تغطِّي جسم الثعبان في مساعدته على دفْع جسمه إلى الأمام في طريقة السَّير "الدُّودية" هذه؛ إذْ هي تعتبر بمثابة نقطةِ ارتكاز تَنطلق منها الحركة، كما أنَّها تساعده على تسَلُّق الأشجار وغيرها. وقد يَتَحَرَّك الثعبان بطريقة النخع، وذلك بأن يدفع طَرَفه الأماميَّ إلى الأمام في حين يَنطَلِق بطرَفِه الخلفي اتِّجاهَ الخلف، وبذلك يَندفع جسمه إلى الأمام. على أنَّ الأصناف الصحراوية - مثل الأفاعي الإفريقية ذات الأجراس، أو أفاعي "الصُّوندر" الأمريكية - تتحرَّك بطريقة الاندفاع الجانبي، وذلك بأنْ تمرَّ الأفاعي بسهولة ويُسْر فَوق أرض رَمْلية مسطَّحة في اتِّجاهٍ جانبي. ومع تحرُّكِها يحتَكُّ جسمها بالأرض من عدَّة أماكن في وقت واحد، وكلُّ جزء من أجزائها يتَّخذ شكل حرف (s)، وهكذا تنتقل حركة الجسم من كل انثناءة على هيئة حرف (s) هذه إلى غيرها، إذْ يتَّخذ الجسم كلُّه شكل عدة حروف (s). والثعبان حيوان ثدْيِيٌّ، يستطيع قضاء فَترة كبيرة نسبيًّا، بالمقارنة بغيره من الثَّدْيِيَّات، دُون تناول أيِّ طعام، كما يمْكِنه الاستغناء عن الماء أطولَ فترة ممكِنة أيضًا. والجدير بالذِّكْر أنَّ حجم فريسة الأفعى (الثعبان) تكون أضعافَ حجْمِ الثعبان نفْسِه، وللثعابين وسائلُ خاصَّة في اقتناص ضحاياها، منها اقتناص الفريسة بالأنياب، ثم ابْتِلاعها فوْرًا، وبهذه الطريقة تَقتنص الثعابين الحشرات ويرَقاتِها، والديدانَ والقواقِعَ، والأسماكَ، والثعابين الأسماك، والضَّفادع، وقد يَلجأ الثعبان إلى كَبْس فريسَتِه إلى الأرض حتى تَنتهي مقاومَتُها. وبعض الأفاعي تُمسِك بالفريسة بتقليص عضلاتِها عليها حتى تَختنق، وفي أغلب الأحيان يكوِّر الثعبانُ عدَّة لفَّات من جسمه حولَ الفريسة، ثم يَبدأ في سَحْقها داخل تلك اللفَّات. وأكثرُ طرُقِ ال*** إثارةً تكُون بالسُّم؛ حيث يَدخل السمُّ إلى جسم الضَّحية عن طريق جرْحٍ تسبِّبه أسنان الحية السامة (أو أنيابها). بيئة الحرارة: كلَّما طال عُمرُ الثُّعبان زاد طُوله، وصِغار الثعابين يتضاعف طولُها خلال السَّنة الأولى من عمرها، ثم يَنخفض معدَّلُ النمُوِّ مع وصولها إلى سنِّ البلوغ، ويتأثَّر نموُّ الثعبان بكمية الطعام وحرارة البيئة؛ ولذلك يكون النمو بطيئًا أثناء البيَات الشِّتوي. وجدير بالذِّكر أنَّ درجة حرارة جسم الثعبان لا تتعدَّى درجةً واحدةً فقط، ارتفاعًا أو انخفاضًا عن معدَّلها الطبيعي، مَهما اختلفت حرارة البيئة حولَها؛ ولذلك لا يَستطيع الثعبان الحياةَ مدةً طويلةً تحت أشعة الشمس المباشرة، أو عندما تصل الحرارة إلى درجة التجمُّد شتاءً. ولذلك نجد الثعابين تتحَاشى البَرْد في المناطق المعتدلة بالدُّخول في البيات الشتوي. وفي أوائل فصل الخَرِيف تَبحث الأفاعي عن أيِّ مكان تختفي فيه مُؤْثِرةً عدمَ التعرُّض للأجواء المتجمِّدة في الشتاء، وقد يكون ذلك المكانُ جُحْرًا على جانب أحد الجبال، أو تَحت كوْمَة من الصُّخور أو شُجَيرة، أو في قاعدة مُفْرَغة لإحدى الأشجار. وقد تجتمع عدةُ أنواع من الأفاعي في مكان واحد؛ لقضاء بياتها الشِّتوي، كالحال عند اجتماع الأفعى النُّحاسيَّةُ الرأس، وذات الأجراس، والأفعى السوداء. وعندما يحِلُّ فصل الربيع بجوِّه الدافئ، تَبدأ الأفاعي في الخروج من بياتها الشِّتوي، لكنَّها لا تتجاوزه - أوَّلَ الأمر - إلى أماكِنَ نائية؛ ولعلَّ ذريعَتَها في ذلك هو حساسيتها المفْرِطة بالاحتمالات الجويَّة. ذلك أنَّ بعض ليالي الرَّبيع الأُولى تكون قارِسَةَ البرد أحيانًا، فإذا وصَل الأمر إلى هذا الحدِّ تكون الفرصةُ أمامها سانحةً للمبادَرَة بالعودة إلى مَخبَئِها قبْلَ أن يُهلِكها البرد والصَّقيع. فإذا اطمأنت الأفاعي إلى انحسار مَوجات البرد القارس، خرجَتْ من جُحورها، ولكنْ لا يمكنها الابتعاد قبل أن تطمئِنَّ إلى وجود الإناث؛ لإتمام عملية التَّزاوُج. وهناك ظاهرةٌ تستحِقُّ الوقوف عندها، والإشارة إليها وتأمُّلَها وهي: "أنَّ الأفعوان (ذكَر الأفعى) لا يُحَاول ******َ أنثى أفعوان غيره"، وهي قاعدة سُلوكيَّة مستقِرَّة لدَى جميع أنواع الأفاعي في شتَّى بِقَاع المعمورة! قواعد الصِّراع والمداعَبة: قد يتقاتَل ذَكَران من الأفاعي الأوربية على أُنثَى واحدة، عندئِذٍ يُواجِه الذَّكَران بعضَهما، وقد نَصَب كلٌّ منهما الجزءَ الأمامي من جِسمه، مع رَأسه، ثم يَندفعان بشدَّةٍ؛ كلٌّ منهما في اتِّجاه الآخَر، فيصطدمان، ولدَى كلٍّ منهما الأمَلُ في طرح خَصْمه أرْضًا. وقد يحدث خِلالَ هذه المعركة أن يَثْنِي أحَدُ الخَصْمَين جسمَ الآخَر، ويتمَكَّن من فَرْكه في الأرض عدَّةَ مرات، إلاَّ أنَّ الشيء الذي يستحيل حدُوثُه هو أن يعَضَّ أحدُهما الآخَر، وكأنَّها أحكام رِياضيَّة لا تُبِيح لأحَدِ المتصارعين أنْ يسبِّب للآخَر أيَّة أضرار جسَدية. فمِنَ الممكن التَّقاتُلُ والتَّصارع من أجل الفَوز بالأنثى، لكنْ ليسَ من حقِّ أيٍّ منهما أن يَعض الآخر أو يسبِّب له أيَّ أذًى، تِلك سُنَّة الله في خَلْقه، ولن تَجِد لسُنَّة الله تبديلاً، وفي نهاية المعركة يَخضع أحد المتصارِعين، ويترك السَّاحة لِخَصمه. وقبل التَّزاوُج تَصدر عن الأنثى رائحةٌ معيَّنةٌ، يَكتشفها الأفعُوان (ذكَرُ الأفعى) بحاسَّة الشمِّ لدَيْه، فيبادر إلى اقتفاء أثَرِها. ونَمَط المداعبة ووسيلتُها تختَلِف من نوعٍ إلى آخَر؛ فالثعبان السوطِيُّ يطارد أُنثاه التي تُمعِن في التدَلُّلِ، فتَقفز فوق الصُّخور وفي مياه المستنقَعات وعلى أغصان الأشجار، والثُّعبان من خلفِها لا يمَلُّ ولا يكِلُّ، فإذا أدركَها تعانَقَ الاثنان بلَفِّ جِسمَيْهما معًا، ثم يَرفع كِلاهُما الجزءَ الأماميَّ من جسمه مُقترِبًا برأْسِه من رأس خَلِيله، وبذلك يُصبِح شكلُهما معًا كالقيثارة، ويظَلاَّن على هذا الوَضْع يتحرَّكان ويَرْقصان مدَّةً تَزيد على الساعة، ثم تَتِم علمية التَّزاوُج. وعمومًا فإنَّ سلوك المداعبة عند الثَّعابين ومراحل توَالُدِها وتكاثُرها، لا تَزال تحتاج إلى دراسة مستفِيضة، تُمِيط اللِّثام عن أسرارها وغوامضها. ويتمُّ التكاثُر بطريقتين؛ إحداهما بِوَضع البيض، وبعد فترةِ حضانة غير محدَّدة بدِقَّة يَفقس البيض، والأخرى تَلِد صِغارَها مباشَرةً دُون مُرورٍ بمرحلة البيض، وفي هذه الحالة تَخرج الصِّغارُ من أجسام الأمَّهات ملفوفةً في كيس رقيق، وتحتفظ بهذا الكيس، وعند خروجها منه تَكون لديها القدرةُ على الاعتماد على نفسها. ولا تنال الصغار أيَّة رعاية من أمِّها، والإناث واضعاتُ البيض تَختار أماكنَ معيَّنةً، مثل: أكوام السباخ أو الثُّقوب بِكُتَل الأشجار لِوَضعه، ومعظم الإناث تَهجر البَيض بمجرَّد وضْعه، وبعضها يتكوَّر حول البيض؛ لحضَانته. التكاثر والانسلاخ: من الجدير بالذِّكْر أنَّه تُوجَد صُعوبةٌ في تحديد عُمر الأفاعي بالضَّبْط، غير أنَّ سِجِلاَّت اقتناص الأفاعي تُورِد إشاراتٍ لأعمار الأفاعي، تختلف حسَبَ أنواعِها، فأفاعي الأناكندة – والتي تعيش في جَنُوب أمريكا - عمرها "28 سنة"، والأفعى الأوربية الخَبِيثة "22 سنةً" والكوبرا والأفعى ذات الأجراس "13 سنةً"، والفيرتر (أفعى أمريكية سامَّة) "11 سنةً". ويختلف أيضًا عدد الصغار الناتجةباختلاف الأنواع؛ فأفاعي (دي كاي) تنتِج "14 صغيرًا"، والأفاعي ذات الخطوط الحمراء تنتج "7 صغار"، والأفاعي الدُّودية تَضَع من "2 إلى 5 بيضات"، وأفعى (فيرتر) تَلِد "28 صغيرًا"، والأفعى المائية "76 صغيرًا". تنسلخ الثَّعابين - على الرغم من أنَّها حيوانات ثديِيَّة - بتغْيِير جِلدها، وخَلْعُه يَحدث بأنْ يَزحف الثعبان خارجًا من الجلد الذي يَنسلخ عنه تارِكًا إيَّاه مِن ورَائه، وقَبْل أن يغيِّر الثعبان جلدَه بعشرة أيام تَتَّخِذ عيناه شكْلاً ضبابيًّا، ويتحول لون جِسمه إلى اللون الداكن، ثم يَعود للعينَيْن صفاؤُهُما مرَّةً أخرى، عندئذٍ يَبدأ تحَرُّر الجسم من جلده مبتَدِئًا بمنطقة الشفتين، ثم يَحكُّ الثعبان رأسه في الأحجار المجاوِرة له، أو في غيرها من الأجسام الخشنَة، كجِذْعِ شجرة أو ما شابَهَه؛ ممَّا يساعده على سَحْب الجلد إلى ما خَلْف الرأس. ومع استمرار التقَلُّصات العضلية، والمزيد من فَرْك الجسم بالأشياء الخشنة المحيطة به، يتمكَّن الثعبان من تَحرير باقي جسمه من الجِلد بعد علمية المعاناة المُرهِقة هذه، والَّتي يُعانِي الثُّعبان خلالَها علميةَ التغيُّر من القديم إلى الجديد. ويَظهر الجسمُ في ألوان برَّاقةٍ لامعة، أمَّا الجِلد المخلوع فيظَلُّ مُلقًى على الأرض، يَعْرِض كلَّ صغيرةٍ وكبيرة من جِسم الثُّعبان، بما في ذلك الحراشف التي تغطِّي أعلى العينين، ومِن هذه العلاماتِ الدَّقيقة يمْكِن التعرُّف على نوع الأفعى صاحبة الجلد، وفصيلتها التي تنتمي إليها. عداؤها للإنسان: الأفاعي لا تَبدأ بمهاجمة غيرها إلاَّ إذا أحسَّتْ بالخطر أو واجهَتْه بالفعل، والاستثناء من هذه القاعدة يَكون في حالة أفاعي الكوبرا فقَط. ويختلف أسلوب ونَمَطُ السُّلوك الدِّفاعي لكلِّ ثعبان باختلاف النوع الذي يَنتمي إليه؛ فالأَفْعَى السَّوداء الوَدِيعة لا تُهاجِم إلا نادرًا؛ خاصَّةً إذا أزعجَها متطَفِّلٌ في موسم التَّزاوج، وثعابين الأنهار وثعابين "غبرتر" تبادِرُ بإفراز رائحة كريهة من الخلايا الشَّرجية عند قاعدة الذي كوسيلة لتنفير خصومها. وأفعى قوس قزح، وأفعى الوحل تَقذف بالحراشف المدبَّبة الأطراف، والموجودة في نهاية الذيل، باتِّجاه خَصْمها. وهناك أنواع أخرى تَجعل جسمَها مسطَّحًا، وتفتح فمَها على اتِّساعه، ثم تُصْدِر حَفِيفًا مرعِبًا، وتَضرب الأرض بِذَيلها عدَّةَ مرَّات مهدِّدةً خَصْمها. ومعظم الأنواع لا تلجأ إلى العَضِّ، وحتى إذا تمَّ العَضُّ فإن الجرح الناتج لا يعتبر ضارًّا للإنسان ما لم يتلوَّثْ بالعدوى أو بالسم إذا كانت الحيةُ سامَّةً. يبلغ عدد أنواع الأفاعي حوالي ثلاثة آلاف نوع، مُوزَّعةً على 18 فصيلةً، وبعض هذه الفصائل يضمُّ عددًا محدودًا من الأنواع، في حين تضمُّ بعض الفصائل الأخرى مئاتِ الأنواع. والأفاعي السامة تبلغ حوالي ألف نوع أو أقلَّ قليلاً، وعدد أنواع الأفاعي الخَطِرة على الإنسان يعتبر ضئيلاً جدًّا، وعلى العموم فقد اكتشَف إنسانُ العصر الحديث أمصالاً تُعالِج كلَّ أنواع سموم الأفاعي وتُبطِل أثَرَها. وعمومًا يمكن تَمييز الأفاعي إلى مجموعتين: هناك أفاعٍ غيرُ سامَّة كالأفعَى العمياء، وهي من الأفاعي الحفَّارة الصغيرة المنتَشِرة بالمناطق الاستوائية. وكذلك مِن الأنواع غير السامة "الأَصلة" من أشهر أنواع الأفاعي، وهي مخلوقات رشيقة وجميلة، وتتباين في أحجامها؛ فمِنها الأصناف الضَّخْمة جدًّا ومنها... ، والأَصلة من الأفاعي النادرة ذات الرِّئتين والأسنان الضَّخمة والمقوَّسة، وتنتشر على الفكَّيْن وقوية العضلات، ويصل طول بعض أنواعها إلى 25 قدمًا، وتتغذى على الكائنات المائية والخنازير الأمريكية الصغيرة والقوارض الكبيرة، وهي نوعٌ من الفِئران الأمريكية في حجم الأرنب. وأشهر أصناف الأصلة" الأصلة الأمريكية، طولها 12 قدمًا، ضخْمَة الرَّأس، وضَّاحة العينَيْن، طويلة الرقبة والذيل، تَعيش في أمريكا الجنوبية. وكذلك مِن أشهر الأنواع "أصلة كاليفورنيا"، وتتكوَّر حول نفسها عند إحساسها بالخطَر، ويَبلغ طولُها أحيانًا "33 قدَمًا"، وتعيش في بورما والهند الصينية. هذا بالإضافة إلى أنواع أخرى كثيرة، كبعض الأفاعي الجبَليَّة، وأفاعي الأنهار، والأفاعي آكِلَة البَيض، وغيرها. أخطر الأفاعي: والأفاعي السامة تَحقن ضحاياها بالسُّم الناتج عن الغُدَدِ السامَّة الموجودة في أنسجة الرأس أسْفلَ مؤخِّرةِ العينَيْن، وأحيانًا تُوجَد خلايا السُّم في مؤخِّرة الفم، وأحيانًا في مقدِّمته. ويؤثِّر سمُّ الثعبان على كُرَيَّات الدَّمِ الحمراء فيدمِّرها، ويحطِّم الأوعية الدموية، وينتج عن ذلك النَّزيف، وقد يؤثر السمُّ على المراكز العصبيَّة التي تتحكَّم في التنفُّس، وقد يؤثِّر على الدَّم والأعصاب معًا. ومن أشهر الأنواع السامَّة الكوبرا، خاصَّةً الكوبرا الهندية، وتعتبر أخطرَ أفاعي العالَمِ كلِّه، ليس لأنَّها سامَّة فحسْب، بل لضخامتها ووحْشِيَّتها، ويبلغ طولُها، وتتغذَّى على الأفاعي والقوارض، والطيورِ والضفادع، وإذا أحست الكوبرا الهنديةُ بالخطَر تَنتَصِب بالثُّلث الأمامي من جِسمها، ثم تُصدِر حَفيفًا مرعبًا، وعلى حين غِرَّة تَقذِف بتيَّارَيْن من السم تصوِّبهما تُجَاه عينَي الخَصم. سبق أن ذكَرْنا أنَّ الإنسان في العصر الحديث قد اكتشف كلَّ أنواع المصْل لعلاج سُموم الحيَّات، على أنَّه يجب ألاَّ ندعَ مجالاً للمَخاوف التي قد تنتاب المُصَاب، والتي تؤدِّي إلى مضاعَفات عصَبيَّة لا داعِيَ لها. في المقدِّمة يجب التأكُّد من العَضَّة؛ هي عضة حيَّة سامَّة، وليست عضةَ ثُعبان طيِّب، ولكي نميِّز بين العضتين، يجب أن نَعرف أن عضة الحية تترك أثَرًا (علامةً) ثابتًا لا يتغيَّر، وهو عبارة عن نقطتين، لا ثالثة لهما، حَمراوَيْن، تَبعد الواحدةُ عن الأخرى مسافةَ سنتيمتر واحد، في حينِ أنَّ أثر عضَّة أيِّ ثعبان آخر تترك أثَرًا لعدد كثير من النقط؛ بسبب كثْرَة أسنانِها. وبعد أن نعرف حقيقة العضة، ونتأكَّد أنَّها عضَّة حيَّة سامة، علينا أن نَربِط أعلى الجُزء المُصَاب رِباطًا وثيقًا مُحْكمًا؛ لِنَمنع تسرُّب السُّم وسرَيانَه مع الدورة الدموية، ثم نَعمل على إخراج السمِّ من الدم بفَتْح اللَّحْم - بِمِبْضَعٍ نظيف - فتحةً واسعةً؛ لِنُخرج كلَّ السم الذي اختلط بالدم. بعد ذلك يجب أن نضَع مطهِّرًا فوق الجرح، ولا بدَّ أن يَحْوي هذا المطهِّر محلولاً من بِرْمِنْجَنات البوتاسيوم. وبعد هذه الجولة في بيئات مختَلِفة مع الأفاعي، لا نَملك سِوى الإِقرار بأنَّها مخلوقاتٌ لله - سبحانه وتعالى - ضررها أكبر مِن نفْعها، وأحيانًا العكس، جميلة رشيقة، متعدِّدة الألوان، حريرِيَّة الملْمَس، تتجلَّى فيها قدرةُ الله وحِكمته وإبداعُه. |
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|