#1
|
||||
|
||||
لماذا حرمت الخمرة؟
لماذا حرمت الخمرة؟
د. حذيفة أحمد الخراط ما أنْ تعرَّف الإنسانُ القديم على سائِل الخمرة، حتى أخَذَ بين حينٍ وحين يُدرك خطرَها، ويكتشف جانبًا جديدًا من مضارِّها، سواء كان ذلك على المستوى الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو الطِّبي. ومِن مُسلَّمات الأمور: أنَّ الشارع الحكيم لم يأتِ بتحريم أمرٍ ما، إلا وقد ثبتَ بالإجماع ضررُه، وسُوءُ شأنه، وتأتي الخمرة في رأس قائمةٍ من المحرَّمات، التي وصفَها القرآن - لخُبثِها وسوءِ أمرها - بالرِّجْس المقرون بعمل الشيطان. وما تزال الخمرة محورًا للدِّراسات، وموضعًا للكتابات، وليس المقام هنا لذِكْر ما يترتَّب على تناولها مِن أضرار اجتماعيَّة أو اقتصاديَّة على صعيدِ الفرْد والأُسْرة والمجتمع، وسنعمد إلى سبْر الأمر، مِن منظور طبِّي صِرْف، فالموضوع أكبرُ من أن يُحاط به من كافةَّ نواحيه في صفحات محدودات. تتبع الخمرة كيميائيًّا عائلة الكحوليات Alcohols، وهي مركَّبات عُضويَّة، تنشأ عن اتِّحاد مادة الهيدروكسيل Hydroxyl group، مع ذرَّات الكربون بنِسب متفاوتة. وتضمُّ تلك الكحوليات الكثيرَ من الأصناف وأشهرها: 1- الكحول الإيثيلي (الإيثانول)، الذي يتمُّ تحضيرُه بتخمير القمْح أو الحبوب الأخرى، أو العسل أو الخضروات. 2- الكحول الميثيلي (الميثانول)، الذي يُستخدمُ مذيبًا كيميائيًّا لبعض موادِّ المختبرات العلمية. 3- الكحول المتغيِّر Denatured alcohol، وهو كحول خاص يتمُّ إضافة بعض المواد إليه؛ لاستخدامه في تبريد الأدوات وتعقيمِ الجِلْد، وهو كسابقيه شديدُ السُّمِّية والخطورة. يظهر تأثير سائل الخمرة في صحَّة جسم شاربها، في غالب أجهزته، ومِن النادر أن يَسلمَ من تأثيراتها الصحية المدمِّرة عضوٌ مِن الأعضاء. وسنعمد إلى دراسة تأثيرِ الخمرة في أجهزة الجِسم كل على حِدَة، ومِن المناسب أن نذكُرَ هنا أنَّ مليارات الدولارات تُنفِقها حكوماتُ الغرب سنويًّا؛ لعلاج حالات الإدْمان الكحوليِّ، وما تُخلِّفه الخمرة مِن تأثيرات في صحَّة شعوبها، وهذا يعكس عظمَ حجم المشكلة الصِّحيَّة، وما ينتج عنها مِن أمراض واضطرابات. ما أنْ يشرب المرءُ الخمرةَ حتى تستقرَّ في مَعِدَته، وسرعان ما تبدأ عمليةُ امتصاص الجهاز الهضميِّ لها، ويتمُّ ذلك من المَعِدَة والأمعاء الدقيقة، لتصل إلى مجرى الدَّم بعدَ دقائقَ من تناولها، وينقل الدمُ تلك السُّموم، فتدخل إلى أعضاء الجِسم المختلفة، ويماثِل تركيزُ الكحول في الأنسجة تركيزَه في الدم، وهذا يعني استمرارَ الأثر التخريبيِّ لجزيئات الخمرة، وعدم تراجُع ذلك الأثر أثناءَ انتقالها مِن نسيج لآخر. ينقل جريانُ الدَّمِ جزيئاتِ الخمرة من المعدة والأمعاء باتِّجاه الكبد والقلْب، والرِّئة والدِّماغ، وأعضاء الجسم الأخرى، ويظهر الأثر المدمِّر للخمرة في جميع ما تصل إليه مِن خلايا، وتخرج لاحقًا مِن الجسم، مع هواء الزَّفير أثناءَ عملية التنفُّس، ويَخرج جزءٌ آخرُ مع البول، وآخرُ مع العَرق. تأثيرات الخمرة في القلب ودوران الدم: تُوضِّح الدِّراساتُ الطِّبية أنَّ للخمرة تأثيرًا سلبيًّا في صحَّة قلْب شاربِها وأوعيته الدمويَّة، فشُرْبها يؤدِّي إلى زيادة سرعة ضربات القلْب Palpitation، ولشُرْبها أيضًا دَور في رفْع ضغط الدم، وتوسيع الأوعية الدمويَّة، وهذا يؤدِّي إلى زيادة تدفُّق الدم نحوَ الجِلد؛ ممَّا يعني احتقانه بالدم الراكد، وفي الوقت نفسِه تتقلَّص أوعيةُ الأمعاء وأحشاء البطن، فيقلُّ لذلك جريانُ الدم باتجاهها، وهذا ينعكس سلبًا على صحَّتها، وسلامة أدائها الفسيولوجي. من ناحية أخرى، فإنَّ شُرْب الخمرة يُصيب أليافَ عضلة القلْب - كما هو الحال مع باقي عضلات الجِسم - بالتنكُّس Degeneration، وانخفاض نشاط إنزيماتها، كما يَكْثُر لدى شاربي الخمرة حدوثُ ما يُعرف باعتلال عضلة القلْب Cardiomyopathy، وهو داءٌ مزمِن يصيب عضلةَ القلْب بالتضخُّم والفشل، وخَلَل نِظام الضربات. وللخمرة تأثيرٌ معلوم في خلايا المناعة التي تجول في الدَّم، فتضعُف بذلك قوَّة تلك الخلايا، وتنخفِض مناعةُ الجسم، ويصبح شارب الخمرة أكثرَ عُرْضة لأمراض نقص المناعة، وتكثُر إصابته بالالْتهابات، مثل "السُّل" و"التهاب الرئة". الخمرة والجهاز الهضمي: يُنبِّه الكحولُ غُددَ مَعِدة شاربِه، وبالتالي يَزيد من إفرازها الحمضي؛ ممَّا يُصيب المَعِدة والجهاز الهضمي بالقُرْحة Peptic ulcer، كما يؤدِّي الإفراط في تناول الكحول إلى زيادة إفْراز الطبقة المخاطية للمَعِدة، واحتقان أغشيتها، وهذا يقود إلى الْتهاب المَعِدة الحاد Acute gastritis. يَكثُر مع شُرْب الخمرة إصابةُ صاحبها بالغثيان والقيء، وهذه رِدَّة فعْل أوجدها الخالِق لتنظِّفَ المعدة ما فَسَد من محتوياتها مِن شراب أو طعام، ولجزيئات الخمرة تأثيرٌ مخرش في خلايا المعدة، وهذا يَزيد مِن إثارة عملية القيء والغثيان. ومِن الشَّكاوى الأخرى في هذا الجانب: فَقْد الشهية، وعسْر الهَضْم، والإسهال وآلام البطن، والتجشؤ، واستفراغ الدم، وينتج ذلك كلُّه عنِ الالْتهابات المتكرِّرة التي تصيب الجهازَ الهضميَّ. وشاربُ الخمرة أكثرُ عرضةً للإصابة بسوء التغذية، وأمراض نقص الفيتامينات في الجِسم؛ وذلك لفَقْده الشهيةَ نحوَ الطعام، ولخلوِّ الخمرة من عناصر الغِذاء التي تُفيد الجسم كالبروتين والمعادن والفيتامينات. أخيرًا: فإنَّ للخمرة ارتباطَها الوثيقَ مع ظهور داء السرطان في أعضاء الجِهاز الهضميِّ المختلفة، وذلك مثل سرطانات الفم والبلعوم، والحنجرة والمرِّيء والمعدة. تأثيرات الخمرة في الكبد وغدد الجسم: يأتي شُرْب الخمرة على رأس أسباب أمراض الكبد المختلفة، فشُرْبها يَزيد مِن مستوى دهون الدم، وهذا يعني تراكمَ تلك الدُّهون في نسيج الكبد، ويظهر حينها ما يُعرَف بداء تشحُّم الكبد Fatty liver disease، الذي يؤدِّي إلى تضخُّم حجم الكبد، وإصابتها لاحقًا بالتشمُّع Cirrhosis والتليُّف Fibrosis. وللخمرة تأثيرٌ في نِظام سُكَّر الدم في الجسم، إذ ينقص شربُها سُكَّرَ الدم، وذلك بالتأثير المباشِر في مخازن السُّكَّر بالكبد، ومن الممكن أن يظهرَ عكس ذلك، فقد يُصاب شارِب الخمرة بارتفاع سُكَّر الدم، وظهور الداء السكريّ، كما يُعدُّ تناول الكحول أحدَ أهم أسباب الْتهاب غُدَّة البنكرياس Pancreatitis. وللخمرة تأثيرُها الواضِح في زيادة إدرار البول، وهذا يُفقِد الجسم كمياتٍ كبيرةً من مائه، ومعادنه الذائبة فيه؛ ممَّا يقود إلى جفاف بيئة الجِسم الداخلية، والإصابة بأعْراض نقْص المعادن الهامَّة. يُضِعف شُرْب الخمرة أيضًا سلامةَ أداء الغُدد الجِنسيَّة؛ ممَّا يقود إلى ضعْف الصحَّة الجِنسيَّة عمومًا، والإصابة بالعُقم. تأثيرات الخمرة في الجهاز العصبي والعضلات: تُضعِف الخمرة أداءَ الجهاز العصبيِّ والحركيِّ، ومِن الظاهر ما يُصيب شاربَها من خَلَل في التوازن، وعدم مقدرته على الوقوف وضبْط الكلام والأفعال، وفقْده للهدوء والاتِّزان اللَّذَيْن يمتاز بهما جسمُ الإنسان السليم. وعلى المستوى الذهنيِّ والفِكريِّ، تُقلِّل الخمرة من كفاءة الأداء العقليِّ، كما تقلِّل مِن فاعلية التعلُّم والتعليم، وتحدُّ من قوة الانتباه، وتُضعِف الذاكرةَ والتركيزَ، ومهارةَ التنسيق Coordination التي تعمل في تنظيم أداء أعْصاب الجِسم وعضلاته في صورة تخدُم وظائف الجسم. وتكثُر لدى شارب الخمرة أعراضُ الاكتئاب والقلق، والشعور بتأنيب الضمير، وينشأ ذلك عن الأعراض النفْسيَّة التي تُصاحِب عمليةَ إدمان الكحول، وتوضِّح الدِّراساتُ الاجتماعيَّة المقارنة ارتفاعَ معدَّل الانتحار بيْن صفوف الكحوليِّين، مقارنةً مع غيرهم مِن الأسوياء. وتنعدِم مع شُرْب الخمرة القدرةُ على التفكير، ويفقد الإنسانُ ما خصَّه الله به من رَجاحة العقل، ويغدو أقربَ إلى حيوان يعيش دون قيْد أو رادع، ويعود ذلك كلُّه إلى إصابة قِشْرة المخ Cerebral cortex، التي تُنظِّم مهامَّ التفكير، والتحكُّم في عضلات الجِسم، كما يُصاب شاربُ الكحول بالارتعاش والهلوسة، وما يُعرف باعتلال الأعْصاب Neuropathy. ومع تناول الكحول المستمرِّ، فإنَّ الدِّماغ يميل نحوَ الضمور، ويكثر حدوثُ التنكُّس المخيخي Cerebellar degeneration، الذي تتدهور به وظائفُ المخيخ، كما يكثُر أن تتنكَّس الخلايا والألْياف العصبيَّة، وتلاحظ حالات نزيف الدِّماغ التلقائيِّ، وهذا قاتلٌ في بعض الأحيان. وتُسبِّب الخمرة آلامًا حادَّةً في عضلات الجِسم المختلفة، ويكثُر مع شُرْبها ضمورُ تلك العضلات، وموت أجزاء منها، كما يظهر داءُ النقرس Gout في مفاصِل شاربها، وهذا يقود لاحقًا إلى الْتهاب تلك المفاصِل وتآكلها. تأثيرات الخمرة في صحة الجنين: إنَّ جنين شارِبةِ الخمرة أكثرُ عُرضةً لتأخُّر النمو أثناءَ حياته داخلَ الرَّحِم، كما يكثُر هنا ظهور التشوُّهات الولادية، والأمراض العصبية، والتخلُّف العقلي، وشذوذات السُّلوك، وتظهر أعراضُ ذلك كلِّه بعدَ الولادة بفترة وجيزة. ختامًا: فإنَّ ما ذُكِر عن مضارِّ الخمرة قليلٌ من كثير، ولا شكَّ أنَّ ما خَفِي مِن ذلك أعظمُ ممَّا كُشِف حتى الآن، وما أعظمَ الإسلامَ حين أحلَّ لنا الطِّيبات، وحرَّم علينا الخبائث! وما أعظمَه من حديث قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اجتنبوا الخمر، فإنَّها أُمُّ الخبائث))؛ أخرجه النسائي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه – من قوله موقوفًا عليه، ولم يرفعه. |
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|