#1
|
||||
|
||||
آثارهم وآثارنا
آثارهم وآثارنا
منيب الدردري من المعلوم أن الغربيين وخاصة من له صلة بالدين منهم ولِعون بدراسة فن البناء القديم، أعني هندسة المعابد والكنائس. فالكنيسة التي يرجع عهدها إلى ماض بعيد (وإن لم تكن من حيث جمال البناء شيئاً مذكوراً) فإنها تدرج في قائمة الأبنية التاريخية، وتعهد الحكومة بحراستها والاعتناء بها إلى دائرة خاصة، تدعى دائرة (حفظ الآثار والأبنية)، وينفق في سبيل هذا ملايين الفرنكات، وهي لعمري عناية جديرة بأن تذكر. والحق أن آثار البلاد تدل على ماضيها وسالف عهدها أضف إلى هذا رغبة الزائرين والسائحين في مشاهدتها ودراستها، مما يعود على البلاد بالنفع من الوجهتين الاقتصادية والأدبية. وإليك هذا الحادث الذي يدلنا على شدة تمسكهم واهتمامهم بالمحافظة على ما تركه لهم الأقدمون من الآثار، فقد جرى منذ مدة حينما اعتزمت مدينة استراسبورغ (عاصمة مقاطعة الألزاس) بوضع مصمم حديث لاختراق حي من أحيائها وهذا يتطلب هدم بيوت عديدة وإقامة جسر عريض لتسهيل المواصلات وتزيين الشوارع، وكان عليها أن تخترق كنيسة غوطية مظهرها الخارجي لا يدل على أنها شيء يذكر من حيث جمال الهندسة، سوى أنها ترجع إلى عهد قديم، فترددت دائرة الهندسة بالأمر ولم تشأ أن تنفرد وحدها في إبرام هذه الفكرة، بل أقامت مسابقة عامة بين المهندسين عينت لها جوائز متعددة للفائز في أحسن فكرة لتنظيم الشوارع مع المحافظة على البناء (أي الكنيسة) وعلاوة على ذلك أظهرت رغبتها في أن يكون البناء الحديث ممتزجاً من حيث الهندسة مع هذه الكنيسة بصورة ما، وقد عرضت المخططات في ردهة كبرى من بناية المعرض، وأقبل القوم لمشاهدتها بعد أن اختارت الهيئة المنوط بها فحصها ثلاث مخططات أدت دائرة البلدية ثمنها غالياً، وهي في دورها قد اختارت واحدة من ثلاث، ولم يمض أسبوع إلا وعملية اختراق الشوارع بدئ بها بعد دفع قيمة الدور حسب العرف والقانون وبقيت الكنيسة قائمة على أساسها. حدا بي لكتابة هذه المقدمة ما أعلمه من إهمال آثارنا وتطرق الخلل إلى أكثرها، فبلادنا محرومة من هيئة ذات خبرة ناضجة تقوم بواجبها فتحرس مساجدنا العديدة ودورنا الأثرية من العطب والانهيار. ولا يغرب عن بالي ما جرى عندما قامت دائرة البلدية بتوسيع جسر باب توما في دمشق وإرجاع الجامع حسب التخطيط الجديد وكيف شوهت تلك الواجهة الأثرية ولم يرتفع صوت في ذاك الحين، وها إن أكثر جوامعنا عرضة لكل افتئات فيما إذا نفذت دائرة الهندسة إحدى المصممات الموضوعة باسم تحسين المدينة لها، من الآثار الغالية ما لا يقدر بثمن، فضلاً عن حرمتها. وعندما كنت طالباً في المدرسة الوطنية الفنية للهندسة في استراسبورغ، قال لي أستاذ دراسة الفنون القديمة: إن الفن العربي الإسلامي من أروع ما جادت به قريحة فنان، وإن الشرق له الحق بأن يفاخر في تراث أجداده وآثارهم إذ هو درة غالية في تاريخ مجد الإسلام. وهذا صحيح لأن من يدرس تاريخ القرن الثالث عشر، عندما كانت الحملات التي قامت بها فرنسا لمساعدة الأسبانيين وإخراج العرب، كانت الفرصة سانحة لفنانيهم حينئذ لكي يشاهدوا في قرطبة وغرناطة أجمل فن من حيث دقة العمل والمهارة في التركيب والتنسيق، وأن يقتبسوا من الزخرفة العربية ما يسمونه (Arabesque) وأن يقتبسوا كثيراً من أصول البناء الشرقي الإسلامي وتركيبه. ويجد الزائر لأكثر كنائس فرنسا آثار الفن الإسلامي ماثلة للعيان، ككتدرائية (cluny)،(puy) مثلاً. أما الآن فقد انقلبت الحال وأصبحت جوامعنا ومدارسنا الفنية بآثارها التاريخية والفنية عرضة للتصدع، بل عرضة لنهب الناهبين، كا***اع الحجارة الضخمة واستبدالها بغيرها، أو تبديل صورة البناء، مما ينقص من قيمته الأثرية، كأن دائرتي الأوقاف والآثار لا يهمهما من الأمر شيء، وما أسطري هذه إلا تذكرة ﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ [الأعلى: 9]. |
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|