عرفت الحضارة الإسلامية أنواعًا متعددة من المكتبات لم تعرفها أي حضارة أخرى، ولقد انتشرت هذه المكتبات في جميع أرجاء الدولة الإسلامية، فوُجدت المكتبات في قصور الخلفاء، وفي المدارس والكتاتيب والجوامع، وكما وُجدت في عواصم الإمارات وُجدت كذلك في القرى النائية، والأماكن البعيدة؛ مما يؤكد على تأصُّل حُبِّ العلم لدى أبناء هذه الحضارة.
أنواع المكتبات
وكان من جملة ما عرفته الحضارة الإسلامية من مكتبات:
المكتبات الأكاديمية: وهي من أشهر المكتبات في الحضارة الإسلامية، ومن أهمِّها مكتبة بغداد (بيت الحكمة).
المكتبات الخاصَّة: وقد انتشر هذا النوع من المكتبات في جميع أنحاء العالم الإسلامي بشكل واسع وجيِّدٍ؛ ومن أمثلتها مكتبة الخليفة المستنصر[1]، ومكتبة الفتح بن خاقان، الذي "كان يمشي والكتاب في كُمِّه ينظر فيه"[2]. ومكتبة ابن العميد وزير آل بويه الشهير، وقد ذكر ابن مسكويه المؤرخ الشهير أنه كان خازنًا لمكتبة ابن العميد، فذكر واقعة سرقة تعرَّض لها بيته، وكانت فيه مكتبته، وقد حزن ابن العميد أكثر الحزن على مكتبته؛ ظنًّا منه أنها سُرِقَتْ مع باقي المسروقات، وفي معرض حديثه عن هذه الواقعة نرى أن هذه المكتبة كانت كثيرة الكتب، عظيمة القدر، فقد قال ابن مسكويه: "اشتغل قلب الوزير ابن العميد بدفاتره، ولم يكن شيء أعزَّ عليه منها، وكانت كثيرة، فيها كل علم وكل نوع من أنواع الحكم والآداب، يُحمل على مائة وِقْر[3]، فلما رآني سألني عنها فقلتُ: هي بحالها لم تمسسها يد. فسُرِّي عنه، وقال: أشهد أنك ميمون النقيبة، أما سائر الخزائن فيوجد منها عوض، وهذه الخزانة هي التي لا عوض منها. ورأيته قد أسفر وجهه، وقال: باكر بها غدًا إلى الموضع الفلاني. ففعلتُ، وسلِمت بأجمعها من بين جميع ماله"[4]. ومكتبة القاضي أبي المطرف، الذي "جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس"[5].
المكتبات العامَّة: وهي مؤسسات ثقافية يُحْفَظُ فيها تراث الإنسانية الثقافي وخبراتها؛ ليكون في متناول المواطنين من كافَّة الطبقات، والأجناس، والأعمار، والمهن، والثقافات؛ وكان من أمثلتها: مكتبة قرطبة التي أسَّسَهَا الخليفة الأموي الحكم المستنصر سنة (350هـ/ 961م) في قرطبة، وقد أقام لها موظَّفِين مخصَّصِين للعناية بشئونها، وجمع فيها النسَّاخ، وعيَّن لها عددًا كبيرًا من المجلِّدِين، وقد ظلَّتْ محطَّ أنظار العلماء وطلاب العلم في الأندلس، وقد وفد إليها الأوربيون للنهل من مَعِينِهَا، والتزوُّد من علومها، وقد كانت عدة الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعًا وأربعين فهرسة، في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر الدواوين فقط[6]. وأيضًا مكتبة بني عمار في طرابلس الشام، وكان لهم وكلاء يجوبون العالم الإسلامي؛ بحثًا عن الروائع لضمِّها إلى المكتبة، وكان بها خمسة وثمانون ناسخًا، يشتغلون بها ليل نهار في نسخ الكتب.
المكتبات المدرسية: حيث أَوْلَتِ الحضارة الإسلامية اهتمامها لإنشاء المدارس من أَجْلِ تعليم الناس جميعًا، وقد أُلْـحِقَت المكتبات بهذه المدارس، وهو الشيء الطبيعي المكمِّل لهذا الرقي والازدهار، وبشكل عامٍّ فقد انتشرت المدارس في الإسلام انتشارًا واسعًا في مدن العراق وسوريا ومصر وغيرها، وقد أُلحقت بمعظم المدارس الإسلامية مكتبات، فنور الدين محمود بنى مدرسة في دمشق وألحق بها مكتبة، وكذلك فعل صلاح الدين، أما القاضي الفاضِل وزير صلاح الدين فقد أسس مدرسة في القاهرة سماها الفاضلية، وأودع فيها حوالي مائتي ألف مجلد مما أخذه من خزائن العبيديين، ويذكر ياقوت الحموي عدة مدارس كانت في مرو، كانت تحوي في زمانه مكتبات ضخمة، وكانت أبوابها مفتوحة للجميع[7].
مكتبات المساجد والجوامع: ويُعْتَبَرُ هذا النوع من المكتبات الأوَّل في الإسلام؛ حيث نشأت المكتبات في الإسلام مع نشأة المساجد، ومن أمثلتها: مكتبة الجامع الأزهر، ومكتبة الجامع الكبير في القيروان[8]. هذا، وكان "الإنفاق على المكتبات بصفة عامَّة من ريع الأوقاف التي تُوقَف عليها؛ حيث كانت الدولة تُخَصِّصُ لها أوقافًا مُعَيَّنَة، ويُقَدِّمُ لها بعض الأغنياء وأهل الخير أوقافًا تساعد في الإنفاق عليها"[9].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ابن كثير: البداية والنهاية 13/186.
[2] الذهبي: تاريخ الإسلام 18/375.
[3] الوِقْر: الثِّقْلُ يُحمل على ظهر أَو على رأس. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة وقر 5/289.
[4] ابن مسكويه: تجارب الأمم 6/286.
[5] الذهبي: تاريخ الإسلام 28/61.
[6] ابن الأبار: التكملة لكتاب الصلة 1/190.
[7] ربحي مصطفى عليان: المكتبات في الحضارة العربية الإسلامية ص134.
[8] انظر: سعيد أحمد حسن: أنواع المكتبات في العالمين العربي والإسلامي ص18-78 بتصرف.
[9] محمد حسين محاسنة: أضواء على تاريخ العلوم عند المسلمين ص161.