#1
|
||||
|
||||
آل زنكي.. النموذج القدوة في بناء الدولة
آل زنكي.. النموذج القدوة في بناء الدولة العلاقة بين الحاكم أو السلطان ومجتمعه علاقة طردية، ففي صلاح الحاكم صلاح للأمة وفي فساده فسادها.. وإذا أردنا أن ننظر في حال أمة أو مجتمعٍ ما نبدأ من رأس الهرم حيث السلطان، حيث ينعكس حاله على حال رعيته:قوة أو ضعفاً، عز أو ذل، صلاح أو فساد، تماسك أو تفكك.. وغير ذلك من الأحوال..وهذه العلاقة لا تتغير بتغير الزمان أو المكان، وفي التاريخ ما يدل على ذلك، وفي الواقع ما يؤكده. وقد ذكرنا في تقرير سابق نموذجاً من سيرة الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رحمه الله وعلاقته بمجتمعه.. وفي هذا التقرير نموذج آخر ولكن ليس لسلطان أو خليفة بل لأميرين وقائدين عظيمين رفعا رأس الأمة الإسلامية عالياً بين الشعوب والأمم.. وهذان القائدان هما آق سنقر وولده عماد الدين زنكي.. ففي سيرتيهما نجد نماذج عظيمة في كيفية بناء الدولة الصالحة القوية، وكيف يكون حمايتها ورفع شأنها، والتي مهما صغر حجمها ستكون في عيون الآخرين بمثابة الدولة العظمى المهابة. حاكم حلب آق سنقر هو آق سنقر بن عبدالله آل ترغان الملقب بـ(قسيم الدولة) أي الشريك، ينتمي إلى قبائل (الساب يو) أو (السبا يو) التركمانية. كان آق سنقر مملوكاً للسلطان السلجوقي ملكشاه بن ألب أرسلان، وقيل إنه كان لصيقه، ومن أخصَّ أصدقائه؛ فقد نشأ الرجلان وترعرعاً معاً؛ فنال ثقة السلطان السلجوقي؛ فولاه على بعض الإمارات في شمالي العراق. واشترك آق سنقر إلى جانب السلاجقة في معارك عديدة، فقد سيره ملكشاه عام 477هـ مع عميد الدولة بن فخر الدولة في محاولة للاستيلاء على الموصل وطرد العقيليين منها. وقد تمكنا من إنجاز هذه المهمة. وبعد مرور سنتين اشترك مع السلطان ملكشاه في انتزاع حلب من نواب قبائل العقيليين فولاه إياها تقديراً لجهوده. وقد تسلم آق سنقر منصبه في حلب وأعمالها، كـ(منيع) و(اللاذقية) و(كفر طاب). واستطاع أن يوسع نطاق ولايته بالاستيلاء على حمص عام 483هـ ، وحصّن (أفاميه) عام 484هـ. كما فرض طاعته على صاحب شيرز عام 481هـ. وفي عام 485هـ اشترك مع ملكشاه في مهاجمة العقيليين والانتصار عليهم قرب الموصل. وظلت علاقة آق سنقر بالسلطان ملكشاه قائمة على الطاعة والتفاهم المشترك، ولم يسع يوماً إلى الخروج على أوامره. ورفض السلطان بدوره الاستجابة لشكاوى معارضي آق سنقر أو إقرار مساعيهم للتخلص منه. سياسة الأمير سنقر ومع تولي آق سنقر الحكم في حلب، بدأت مرحلة جديدة من حكم السلاجقة المباشر لهذه المدينة؛ حيث انتهى حكم القبائل العربية لهذه الإمارة، وأزيحت عن مسرح الأحداث في شمالي بلاد الشام. ويُعدُّ سُنْقُر أول حاكم سلجوقي لإمارة حلب بعدما عانت سنوات طويلة من التمزق والحروب داخل القبائل العربية، ثم بينها وبين التركمان القادمين من الشرق. ودام حكمه ثماني سنوات تقريباً كانت مرحلة مهمة في تاريخ الإمارة والمنطقة بفعل أنها أحدثت تغييرات أساسية شملت كل جوانب الحياة. وهنا يوضح الدكتور الصلابي – في دراسته حول الدولة الزنكية – أن تسلّم آق سُنقر الحكم جاء في ظل حالة من الفوضى التامة بفعل صراع الحكام، وتدبيرهم المؤامرات، واستعانتهم بالقوى الكبرى في المنطقة كالخلافة العباسية في بغداد، والدولة الفاطمية في مصر، بالإضافة إلى الدولة السلجوقية الجديدة الطامعة في التوسع في المنطقة. وقد شهدت حلب نتيجة ذلك أوضاعاً من عدم الاستقرار السياسي انعكس سلباً على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية فيها في خضم هذه الصراعات. وتغافل الحكام عن الاهتمام بالشؤون الداخلية للسكان، كما أهملوا تطوير الحياة الاقتصادية؛ مما أدَّى إلى تراجع واردات البلاد وعمدوا إلى استنزاف السكان بفرض ضرائب أخرى وأتاوات باهظة، كلما أعوزهم المال، حتى أثقلوا كاهلهم، فتذمروا من سوء الأوضاع، وكثر انتشار اللصوص وقطاع الطرق؛ مما أدَّى إلى انعدام الأمن على الطرق؛ فتعطلت الحركة التجاري، وقلَّت السلع في الأسواق، وتراجعت موارد الزراعة لعدم تمكُّن الفلاحين من القيام بالحرث والزرع وجني المحصول. وضع آق سنقر نصب عينيه هدفاً راح يعمل على تحقيقه، تمثل في إعادة الأمور إلى نصابها؛ ولذلك شرع في: 1- إقامة الحدود الشرعية، وطرد اللصوص وقطاع الطرق، وقضى عليهم. وتخلص من المتطرفين في الفساد. كما قضى على الفوضى التي كانت متفشية في البلاد. وعامل أهل حلب بالحسنى حتى "توارثوا الرحمة عليه إلى آخر الدهر". 2- كتب إلى عمال الأطراف التي خضعت لحكمه أن يحذو حذوه، وتابع أعماله بنفسه. 3- أقرّ مبدأ المسؤولية الجماعية، فإذا تعرض أحد التجار للسرقة في قرية ما، أو إذا هوجمت قافلة أو نهبت، فإن أهل القرية التي جرت الحادثة فيها يكونون مسؤولين جماعياً عن دفع قيمة الضرر اللاحق بهؤلاء؛ ونتيجة لهذا المبدأ، هبَّ سكان القرى لمساعدة الحكام في فرض الأمن، فإذا وصل تاجر إلى قرية أو مدينة، وضع أمتعته وبضاعته إلى جانبه ونام وهو مطمئن، بحراسة أهلها. وهكذا شارك السكان بتحمل المسؤولية في حفظ الأمن حتى أمنت الطرق، وتحدث التجار والمسافرون بحسن تدابيره وسيرته. ونتيجة لاستتباب الأمن في كافة أرجاء إمارة حلب؛ نشط التجار، وامتلأت الأسواق بالبضائع الواردة إليها من كل الجهات، واستقر الوضع الاقتصادي. وتداعى الناس إليها للكسب فيها والعيش برغد. عادت سياسة آق سنقر الحازمة بنتائج مهمة على المنطقة؛ فساد الاطمئنان، وأمنت الطرق وانتشر العمران، فانتعشت التجارة. وقد بلغ من سيطرة آق سنقر على الأمن في قرى حلب وضياعها أن أرسل من ينادي فيها أن لا يغلق أحدٌ بابه، وأن يتركوا آلاتهم الزراعية في أماكنها ليلاً ونهاراً. ومن ثم جاءت شهرته بناء على ما أنجزه في هذا المجال. وقد أجمع المؤرخون على حسن سياسة آق سُنقُر الداخلية، والأمنية، حسب ما نقله الدكتور الصلابي. - قال ابن القلانسي: وأحسن فيهم السيرة، وبسط العدل في أهليها، وحمى السابلة للمترددين فيها، وأقام الهيبة، وأنصف الرعية، وتتبع المفسدين، فأبادهم، وقصد أهل الشر فأبعدهم، وحصل له بذلك من الصيت، وحسن الذكر، وتضاعف الثناء والشكر.. فعمرت السابلة للمترددين من السفار، وزاد ارتفاع البلد بالواردين بالبضائع من جميع الجهات والأقطار. - وقال ابن واصل: .. ورخصت الأسعار في أيام الأمير قسيم الدولة وأقيمت الحدود الشرعية، وعمرت الطرقات وأمنت السبل، و*** المفسدون بكل فج، وكان كلما سمع بمفسد أو بقاطع طريق أمر بصلبه على أبواب المدينة. - وقال ابن الأثير: .. وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسة لرعيته، وحفظاً لهم، وكانت بلاده بين رخص عام، وعدل شامل وأمن واسع. وقال عنه ابن كثير: .. إنه كان من أحسن الملوك سيرة، وأجودهم سريرة، وكان الرعية في أمن وعدل ورخص. حاكم الموصلعماد الدين زنكي ولد عماد الدين زنكي سنة 477هـ.. وعندما تولى والده آق سنقر ولاية حلب سنة 479هـ كان عماد الدين في السنة الثانية من عمره.. فكانت حلب مهد طفولته وقضى بها أيامه الأولى. وقد دربه والده على الفروسية منُذ نعومة أظفاره؛ ليكون نعم الوارث لمركزه. ودربه على ركوب الخيل ورمي السهام. وعوده على الصبر من المشاق في الحرب وممارستها. وقد أثبتت الأحداث اللاحقة حسن تربية والده له، فقد تميز بالشجاعة التي تبلغ حد الذروة، وورث عن أبيه آق سنقر القوة التي لا تبقي على عدو خطر. وورث عنه التخطيط وحسن التدبير. وكان له من الأولاد: سيف الدين غازي - وهو الأكبر -، ونور الدين محمود، وقطب الدين مودود، ونصرة الدين أمير أفيران. وجميع أولاده ظهرت عليهم النجابة مما ورثوه من والدهم، وكانوا ذوي أخلاق حميدة، وشجاعة فائقة، وخاصة نور الدين محمود، وسيف الدين غازي، وقطب الدين مودود. أظهر عماد الدين مقدرة عسكرية كبيرة في جهاده ضد الصليبيين؛ فنال ثقة السلطان محمود السلجوقي الذي جعله أتابكاً أي (مربياً) لابنيه ألب أرسلان والخفاجي، وولاه إمارة الجزيرة والموصل وما يتبعهما. بعض صفاته كانت سيرته من أحسن سير الملوك وأكثرها حزما وضبطاً للأمور، وكانت رعيته في أمن شامل يعجز القوي عن التعدي على الضعيف. قال ابن الأثير: حدثني والدي قال: قدم الشهيد أتابك زنكي إلينا بجزيرة ابن عمر، في بعض السنين، وكان زمن الشتاء، ونزل بالقلعة، ونزل العسكر في الخيام. وكان في جملة أمرائه الأمير عز الدين أبو بكر الدبيسي، وهو من أكابر أمرائه ومن ذوي الرأي عنده، فدخل الدبيسي البلد ونزل بدار فيها يهودي وأخرجه منها؛ فاستغاث اليهودي إلى الشهيد وهو راكب فسأل عن حاله، فأخبر به، وكان الشهيد واقفاً والدبيسي إلى جانبه ليس فوقه أحد، فلما سمع أتابك الخبر نظر إلى الدبيسي نظر مغضب ولم يكلمه كلمة واحدة، فتأخر القهقرى، ودخل البلد فأخرج خيامه وأمر بنصبها خارج البلد، ولم تكن الأرض تحتمل وضع الخيام عليها لكثرة الوحل والطين. قال: ولقد رأيت الفراشين وهم ينقلون الطين لينصبوا خيمته، فلما رأوا كثرته جعلوا على الأرض تبناً ليقيموها، ونصبوا الخيام، وخرج إليها من ساعته. قال: وكان ينهى أصحابه عن اقتناء الأملاك، ويقول: مهما كانت البلاد لنا فأي حاجة لكم إلى الأملاك، فإن الاقطاعات تغنى عنها، وإن خرجت البلاد عن أيدينا فإن الأملاك تذهب معها، ومتى سارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية وتعدوا عليهم وغصبوهم أملاكهم. ولما طلب الناس منه أملاكهم استفتى عمادُ الدين الفقهاءَ، فأفتوه بما يقتضيه مذهبهم، وهو أن الأملاك لبيت المال، ولاحظَّ لأصحابها فيها فقال : رحمه الله : إذا كان الفرنج يأخذون أملاكهم ونحن نأخذ أملاكهم فأي فرق بيننا وبين الفرنج؟ كل من أتى بكتاب يدل على أنه مالك لأرض فليأخذها، فرد إلى الناس جميع أملاكهم، ولم يعترض لشيء منها. و كان شديد العناية بأخبار الأطراف وما يجرى لأصحابها حتى في خلواتهم، ولاسيما دركاة السلطان، وكان يغرم على ذلك المال الجزيل، فكان يطالع ويكتب إليه بكل ما يفعله السلطان في ليله ونهاره من حرب وسلم، وهزل وجد، وغير ذلك. فكان يصل إليه كل يوم من عيونه عدة كتب. وكان مع اشتغاله بالأمور الكبار من أمور الدولة لا يهمل الاطلاع على الصغير، وكان يقول: إذا لم يُعرف ليمنع صار كبيراً. ومن صفاته أيضاً شجاعته: ورث الشجاعة عن أبيه، وظهرت شجاعته في القتال في زمن مبكر، فقد سار مع مودود في غزوته ضد الإفرنج، وخرج إفرنج طبرية للدفاع عنها، فحمل عليهم، وانهزم الإفرنج من أمامه. وقال أبو شامة في شجاعته: وأما شجاعته وإقدامه فإليه النَّهاية فيهما، وبه كان تضرب الأمثال، ويكفي في معرفة ذلك جملةً أن ولايته أحدق بها الأعداء والمنازعون من كل جانب: الخليفة المسترشد، والسلطان مسعود، وأصحاب أرمينية وأعمالها، وبيت سُكْمان، وركن الدولة داود صاحب صحن كيفا، وابن عمه صاحب ماردين، ثم الفرنج ثم صاحب دمشق. وكان ينتصف منهم ويغزو كُلاً منهم في عقر داره ويفتح بلادهم، ما عدا السلطان مسعود فإنه كان لا يباشر قصده، بل كان يحمل أصحاب الأطراف على الخروج عليه، فإذا فعلوا عاد السلطان محتاجاً إليه وطلب منه أن يجمعهم على طاعته، فيصير كالحاكم على الجميع وكلٌ يداريه ويخضع له، ويطلب منه ما تستقر القواعد على يده. وحمل على قلعة عقر الحميدية في جبال الموصل، وأهلها أكراد وهي على جبال عال، فوصلت طعنته إلى سورها. وفي حصار الرها، جمع أمراءه عنده، ومد السماط، وقال لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن معي غداً في باب الرها، فلم يتقدم إليه غير أمير واحد، وصبي واحد لا يعرفه، لما يعرفون من أقدامه وشجاعته، وأن أحداً لا يقدر على مساواته في الحرب. فقال الأمير لذلك الصبي: ما أنت وهذا المقام؟. فقال عماد الدين: دعه، فإني أرى - والله - وجهاً لا يتخلف عني.. وكان يقدر الشجعان وكان لا يضطرب أمام أي خطر. هيبته: كان عماد الدين ذا هيبة شديدة في نفوس أصحابه لا يجرؤون على الجلوس بين يديه، واشترك معه في الحروب أجناس مختلفة، ويحتاج ضبطها من الدراية والمهارة والهيئة، فاستطاع بشخصيته القوية، فرض النظام على جميع جنده، وكان ذا هيبة وسطوة، وكان إذا مشي يسير العسكر خلفه في صفين، كأنهم الخيط خوفاً أن يدوس أحدهم الزرع، ولا يجسر أحد أن يدوس عرقاً منه، ولا يمشي فرسه فيه، ولا يجسر أن يأخذ من فلاح تبناً إلا بثمنها، أو بخط من الديوان إلى رئيس القرية، وأن تعدَّ أحدٌ صلبه. وهيبته كانت في نفوس قادته، قال علي كوجك نائبه بالموصل: لما فتحنا الرها مع الشهيد، وقع بيدي من النهب جارية رائعة أعجبني حسنها، ومال قلبي إليها فلم يكن بأسرع من أن أمر الشهيد برد السبي والمال المنهوب، وكان مهيباً مخيفاً، فرددتها وقلبي معلق بها. وخرج يوماً من باب السر في قلعة الجزيرة خطوة، وملاحٌ له نائم فأيقظه بعض الجاندرية من مماليك السلطان، فحين رأى الشهيدَ سقط على الأرض فحركه فوجده ميتاً. وركب يوماً فعثرت دابته، وكاد يسقط عنها فأستدعى أميراً، وكان معه، فقال له كلاماً لم يفهمه، ولم يتجاسر على أن يستفهمه منه، فعاد إلى بيته وودع أهله عازماً على الهرب. فقالت له زوجته: ما ذنبك وما حملك على الهرب؟، فذكر لها الحال، فقالت له: إن نصير الدين له بك عناية، فأذكر له قصتك، وافعل ما يأمرك به. فقال: أخاف أن يمنعني من الهرب وأهلك. فلم تزل به زوجته تراجعه وتقوي عزمه إلى أن عرّف نصير الدين حاله، فضحك منه وقال له: خذ هذه الصرة الدنانير واحملها إليه، فهي التي أراد. فقال: الله الله في دمي ونفسي. فقال لا بأس عليك، فإنه ما أراد غير هذه الصرة. فحملها إليه، فحين رآه قال: أمعك شيء؟، قال: نعم، فأمره أن يتصدق به. فلما فرغ من الصدقة قصد نصير الدين وشكره وقال: من أين علمت أنه أراد الصُرة؟، فقال: إنه يتصدق بمثل هذا القدر كل يوم، يرسل إليّ يأخذه من الليل، وفي يومنا هذا لم يأخذه، ثم بلغني أن دابته عثرت به حتى كان يسقط إلى الأرض، فأرسلك إليّ فعلمت أنه ذكر الصدقة. واجتمع حوله العرب والترك والتركمان والأكراد والبدو، وكان يجتهد أن تضبط أمور هذه الجموع بحكمة القائد الماهر، ويضبطهم في أحرج الأوقات. فعندما اقتحم جنده الرها، وكادوا يأتون على ما فيها، كف أيديهم وحافظ على البلد؛ لأن تخريب مثله لا يجوز في السياسة كما قال، وخاف خصومه قصد ولايته لعلمهم أنهم لا ينالون منها عرضاً. وبلغ من خوف الفرنجة منه أنه رفع الحصار عن قلعة البيرة ل*** نائبه في الموصل، فسلمها أهلها إلى حسام الدين تمرتاش خوفاً من عودة الشهيد إليهم. وكان يخشاه سلاطين السلاجقة، ولا يقدرون على قصد بلاده. ويقول ابن الأثير: أراد السلطان مسعود زنكي لإثارته الأطراف عليه، ومنع السلطان مسعود قصده حصانة بلاده وكثرة عساكره وأمواله. والخليفة المسترشد نفسه حاصر الموصل فلم ينل منها شيئاً مدة ثلاثة شهور. الدهاء والحيلة: كان ذا دهاء ومكر وحيلة وذكاء نافذ في مجابهة المشاكل الحربية والسياسية؛ وقد مكنه ذلك من اجتياز كثير من الصعوبات، وتحقيق مزيد من الانتصارات. فمن مناورته البارعة ضد تحالف الفرنجة عام 532هـ ، وقد مر ذكره أعلاه. ومن ذكائه أنه لم يظهر أنه مستقل عن السلاطين السلاجقة، بل أظهر أنه يحكم بأمرهم، فقد كان معه ولدان من أولاد السلطان محمود بن محمد السلجوقي وهما ألب أرسلان وفرخشاه ويعرف بالخفاجي. وكان يظهر أن الحكم له في بلاده، وأنه نائب عنه. وكان إذا أرسل رسولاً أو أجاب على رسالة يقول: قال الملك كذا وكذا. وكان ينتظر موت السلطان مسعود؛ ليجمع العساكر باسم ألب أرسلان، ويخرج الأموال ويطلب السلطنة، فعاجلته المنية قبل ذلك. اختيار الأكفاء من الرجال: وكان يختار الرجال الأكفاء، الذين أخلصوا له، وكانوا دعائم دولته، ودولة أبنائه من بعده، فقد كانت له همة عالية، ورغبة في الرجال وذوي الرأي والعقل، ويرغبهم ويخطبهم من البلاد، ويوفر لهم العطاء. قليل التلون والتنقل: وكان عماد الدين زنكي رحمه الله قليل التلون والتنقل، بطيء الملل والتغير، شديد العزم، لم يتغيّر على أحد من أصحابه مُذْ مَلَك إلى أن *** إلا بذنب يوجب التغير. غيرته: أتصف عماد الدين زنكي بالغيرة الشديدة ولاسيما على نساء الأجناد، فإن التعرض إليهنَّ كان من الذنوب التي لا يغفرها، وكان يقول: إن جندي لا يفارقوني في أسفاري، وقلَّما يقيمون عند أهليهم، فإن نحن لم نمنع من التعُرض إلى حُرمهم هلكن وفَسَدْن. وكان قد أقام بقلعة الجزيرة دُزْداراً اسمه نور الدين حسن البربطي، وكان من خواصه وأقرب الناس إليه، وكان غير مرضي السيرة، فبلغه عنه أنه يتعرض للحُرم، فأمر حاجبه صلاح الدين الياغسيساني أن يسير مُجداً ويدخل الجزيرة، فإذا دخلها أخذ البربطي وقطع ذكره، وقلع عينيه؛ عقوبة لنظره بهما إلى الحرم، ثم يصلبه. سياسته الداخلية اهتم عماد الدين زنكي بضبط إمارته، حيث أقام زنكي تنظيماته الإدارية على أكتاف مجموعة الموظفين منحهم نوعاً من الاستقلال الذاتي في ممارسة شؤونهم الإدارية، ولكن تحت إشرافه التام ومراقبته الدقيقة. واهتم عماد الدين زنكي بأمر الوظائف والموظفين اهتماماً كبيراً كي يستطيع أن يسيّر أمور دولته بشكل منظم، وكي يجنب جهازه الإداري الهزات التي كثيراً ما تعرقل سير الأمور وقد طبق زنكي مبادئ إدارية، منها: - مبدأ تكافؤ الفرص في المجال الإداري: كي يحقق هدفه آنف الذكر ويضع يديه على الموظفين الأكفاء كان يتعهد أصحابه ويمتحنهم فلا يرفع أحداً فوق قدره الذي يستحقه ولا يضعه دونه، كما كان يجعل كفاءة الشخص أساساً لتقدير راتبه. - الثقة على قدر المعرفة: فكان يولي موظفيه ثقته على قدر ما يعلم منهم؛ كي يشعرهم بالأمن والاستقرار، وهو أمر ضروري لتقديم خدماتهم الإدارية على أحسن وجه. الأمن الداخلي والإعمار: استطاع زنكي - بإدارته الحازمة وضبطه للأمور وعدالته - أن يحقق نتائج مهمة في إمارته في مجال إقرار الأمن والقضاء على المفسدين ونشر العمران في البلاد. فقد عمرت في أيام زنكي بعد خرابها وسادها الأمن بعد الخوف، وكان زنكي لا يبقي على مفسد. وقد كان الأمن مضطرباً في الموصل نفسها خلال الفترة التي سبقت حكم زنكي. وكان لانتشار الأمن في المنطقة أثر واضح في زيادة عدد السكان في إمارة زنكي، كما غدت الموصل ملجأً للمهاجرين من بغداد؛ بسبب فقدان الأمن هناك واشتداد الضوائق الاقتصادية. وبالإمكان معرفة الدور الذي لعبه زنكي في مجال الأمن بتتبع ذلك في الأيام التي أعقبت اغتياله حيث اضطربت الأعمال، واختلت المسالك، وانطلقت أيدي المفسدين في إفساد الأطراف والعبث في سائر النواحي. وعندما كان زنكي يسيطر على المدن، لم يكن يترك جنوده يتحكمون بمقدراتها ويسيئون إلى أهاليها وينشرون الرعب والفوضى في ربوعها، بل كان سرعان ما يعين عليها والياً من قبله، كي تكون الكلمة والسلطة بأيدي رجال مدنيين، من أجل إحلال الأمن في المدينة وإعمارها. النظام العسكري عند عماد الدين زنكي كانت مؤسسة الجيش هي القوة الضاربة التي استخدمها زنكي للقضاء على الإمارات المحلية لكي يوحدها في جبهة إسلامية متماسكة ليستطيع مجابهة الصليبيين، وقد اعتنى بجيشه بحيث أصبح قوياً متماسكاً. ومن الأمور المتعلقة بالجيش التي اهتم بها زنكي: - ديوان الجيش: نظم زنكي ديوان الجيش، ليقوم بالإشراف على أمور الجند وتنظيمهم وتوزيع رواتبهم وأعطياتهم بانتظام، وجعل على رأس هذا الديوان موظفاً أعلى يطلق عليه "أمير حاجب". وكان عمله أن ينصف بين الأمراء والجند، تارة بنفسه وتارة بمشاورة السلطان وتارة بمراجعة النائب. كما كان ينظر في مخاصمة الأجناد واختلافهم في أمور الإقطاعات ونحو ذلك. - تنظيم الجيش وعناصره: يعتبر نظام عماد الدين زنكي امتداداً لنظام السلاجقة من جهة، وأساساً للنظم الأيوبية والمملوكية من جهة أخرى. ومن العناصر التي كانت تشكل جيش زنكي، الخراسانيون والتركمان، الذين كانوا يشكلون أعداداً كبيرة. استخدام الخيل في جيش عماد الدين: وردت إشارات عديدة عن اهتمام قوات عماد الدين زنكي بالخيل واستخدامها في مختلف الحروب، وفي الهجمات السريعة. - استدعاء الجيوش: قبيل إعلان الحرب كان زنكي يستدعي قوات من المتطوعين لتنضم إلى جيوشه النظامية المجهزة، فعندما عزم على فتح الرها عام 539هـ كاتب طوائف التركمان بالاستدعاء لهم للمعونة عليها، وأداء فريضة الجهاد فوصل إليه منهم الخلق الكثير. كما كان يمر في طريقه إلى الحرب ببعض مدن إمارته ويجمع منها الجند ليضيفهم إلى قواته كما فعل مع أهالي حلب وحماة. وكان الجهاد ضد الصليبيين أحد الدوافع المهمة في اشتراك المتطوعين في حروب زنكي. - الأسلحة المستخدمة: ورد ذكرٌ منها كالدبوس وهو آلة من حديد ذات أضلاع، والرماح، والسيوف، والقوس، والسهم، والنشاب، والمنجنيقات والدبابة، والكبش، والقلعة المتحركة التي كانت تستخدم لنقل الجند والمعدات الحربية إلى الأسوار لكي تحميهم من سهام الأعداء ونيرانهم. كما استعمل جند زنكي النار العادية لحرق الأسوار بعد نقبها وملئها بالخشب، وبلغت أسلحت زنكي من الكثرة في إحدى المعارك بحيث قال عنها شاعر: ظننا البر بحراً من سلاح. - علاقة عماد الدين زنكي بجنوده: قامت علاقة عماد الدين زنكي بجنده على النظام والطاعة والانضباط من جهة، وعلى الود والتعاطف والرأفة من جهة أخرى، بسبب ما قدمه للجند من رواتب حسنة، وما شمل به أهليهم من رعاية واهتمام.. وكان عقابه صارماً للمخالفين من جنده سيما إذا كانت مخالفتهم على حساب الرعية. جهاده وخدمته للإسلام كان عماد الدين زنكي يشعر بمسؤوليته كمسلم سواء في سياسته وعلاقاته العامة أم في سلوكه الشخصي. فقد كرس حياته وطاقاته في سبيل الجهاد ضد الصليبيين. واعتبر نفسه قائد المسلمين الأول في الوقوف بوجه الخطر الصليبي معتقداً أن مركزه - كأقوى أمير في المنطقة - يحتم عليه ذلك، ولعل موقفه من التحالف البيزنطي الصليبي ضد المسلمين عام 532هـ يوضح طبيعة نظرته في هذا المجال، فعندما قرر الاستنجاد بالسلطان السلجوقي، واعترض قاضيه بأن ذلك ربما أدى إلى تمهيد الطريق أمام سيطرة السلاجقة على بلاده ردّ قائلاً: إن هذا العدو قد طمع في البلاد، وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام، وعلى كل حال فالمسلمون أولى بها من الكفار. وكان كلما قرر التوجه لقتال الصليبيين استثار في المسلمين تعشقهم للجهاد، ففي عام 524هـ - على سبيل المثال - اتجه إلى الشام وصمم العزم على الجهاد، وإعلاء كلمة الله. وفي عام 532هـ سار إلى بعرين الخاضعة للصليبيين، وجمع عساكره وحثهم على الجهاد. وعندما عزم على فتح الرها عام 539هـ تبعته العساكر عازمين على أن يؤدوا فريضة الجهاد. وقد لاقى فتحه للرها استبشاراً عاماً لدى المسلمين في كل مكان، فأمتلأت به المحافل في الآفاق، واعتبروه نصراً حاسماً للإسلام ضد الصليبية؛ ومن ثم فإن مفهوم الجهاد خلع على عماد الدين زنكي صفة إسلامية في نظر المسلمين إلى الحد الذي دفع العماد الأصفهاني إلى القول بأنه كان قطباً يدور عليه فلك الإسلام. كما ذكر رنسيمان أن زنكي اعتبر نفسه حامي الإسلام ضد الصليبيين. وروى أبو شامة المقدسي بعض ملامح جهاد زنكي ضد الفرنجة (الصليبيين)، ومن ذلك: لما كان في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة خرج ملك الروم من القسطنطينية ومعه خلق عظيم لا يحصون كثرة من الروم والفرنج وغيرهم من أنواع النصارى، فقصد الشام، فخافه الناس خوفاً عظيماً، وكان زنكي مشغولاً في الموصل. فحاصر ملك الروم مدينة بزاعة، وهي على مرحلة من حلب، وفتحها عنوة، و*** المقاتلة وسبى الذرية في شعبان. ثم سار عنها إلى شيزر، وهي حصن منيع على مرحلة من حماة، فحاصرها منتصف شعبان ونصب عليها ثمانية عشر منجنيقا. وأرسل صاحبها أبو العساكر سلطان بن منقذ إلى زنكي يستنجده، فنزل على حماة، وكان يركب كل يوم في عساكره ويسير إلى شيزر بحيث يراه ملك الروم، ويرسل السرايا يتخطف من يخرج من عساكرهم للميرة والنهب، ثم يعود آخر النهار. وكان الروم والإفرنج قد نزلوا على شرقي شيزر، فأرسل إليهم زنكي يقول لهم: إنكم قد تحصنتم بهذه الجبال فاخرجوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرتم أخذتم شيزر وغيرها، وإن ظفرت بكم أرحت المسلمين من شركم. ولم يكن له بهم قوة لكثرتهم، وإنما كان يفعل هذا ترهيباً لهم. فأشار الفرنج على ملك لروم بلقائه وقتاله وهونوا أمره، فقال لهم الملك أتظنون أن معه من العساكر ما ترون وله البلاد الكثيرة، و إنما هو يريكم قلة من معه لتطمعوا وتصحروا له، فحينئذ ترون من كثرة عسكره ما يعجزكم. وكان أتابك زنكي مع هذا يراسل فرنج الشام ويحذرهم ملك الروم ويعلمهم أنه إن ملك بالشام حصناً واحداً أخذ البلاد التي بأيديهم منهم. وكان يراسل ملك لروم يتهدد ويوهمه أن الفرنج معه. فاستشعر كل واحد من الفرنج والروم من صاحبه، فرحل ملك الروم عنها في رمضان، وكان مقامه عليها أربعة وعشرين يوماً، وترك المجانيق وآلات الحصار بحالها فسار زنكي خلفهم فظفر بطائفة منهم في ساقة العسكر فغنم منهم و*** وأسر، وأخذ جميع ما خلفوه ورفعه إلى قلعة حلب.. وفي هذا دلالة على أن مدى الرعب الذي يبثه الجيش المسلم الصالح القوي في نفوس العدو حتى وإن كان قليلاً. وكان المسلمون بالشام قد اشتد خوفهم وعلموا أن الروم إن ملكوا حصن شيزر لا يبق لمسلم معهم مقام، لاسيما حماة لقربها. ولما يسر الله تعاًلى هذا الفتح مدح الشعراء عماد الدين فأكثروا، منهم أبو المجد المسلم ابن الخض بن المسلم بن قسيم الحموي، له قصيدة يقول فيها: عزمـك أيـهـا المـلـك iiالعظـيـم تـزل لـك الصـعـاب وتستقـيـم ألـم تـر أن كلـب الــروم iiلـمـا تبـيـن أنــك الـمـلـك الـرحـيـم فجـاء يطبـق الفـلـوات iiخـيـلاً كــأن الجحـفـل اللـيـل البهـيـم وقد نزل الزمان علـى iiرضـاه فكان لخطبـه الخطـب iiالجسيـم فحين رميتـه بـك فـي خميـس تـيـقــن أن ذلــــك لا iiيــــدوم وأبصر في المفازة منك جيشاً فـأحـزن لا يسـيـر ولا iiيـقـيـم كأنك في العجاج شهـاب iiنـور تـوقـد وهــو شيـطـان iiرجـيـم أراد بـقــاء مهـجـتـه iiفــولــى وليس سوى الحِمام لـه حميـم يؤمـل أن تـجـود بـهـا iiعلـيـه وأنــت بـهـا وبالدنـيـا iiكـريــم أيلتمـس الفرنـج لديـك iiعفـواً وأنـت بقـطـع دابـرهـا زعـيـم وكم جرعتها غصـص iiالمنايـا بـيـوم فـيـه يكـتـهـل iiالفـطـيـم ولابن منير قصيدة في مدح أتابك زنكي رحمه الله، ومنها: وما يوم كلـب الـروم إلا أخـو iiالـذي أزحت به ما فـي الجناجـن مـن نبـل أتـاك بمـثـل الــروم حـشـداً، iiوإنــه ليفضـل أضعافـاً كثيـراً عـن الـرمـل فـقـاتـلـتـه بـــــالله ثـــــم بـعــزمــة تصـك قلـوب العاشقيـن بمـا iiتسلـي توهـم أن الشـام مرعـى، ومـا درى بأنك أمضى منه في الشزر والسجل فـطـار وخـيــر المغنـمـيـن iiدمـــاؤه إذا رد عـنـه مغـنـم الـمـال iiوالأهــل قال ابن الأثير: ومن عجيب ما يحكى في هذه الحادثة أن الخبر لما وصل بقصد الروم شيزر قام الأمير مرشد بن علي، أخو صاحبها، وهو ينسخ مصحفاً، فرفعه بيده وقال: اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بمجيء الروم فاقبضني إليك؛ فتوفى بعد أيام ونزل الروم بعد وفاته. ولما عاد الروم إلى بلادهم نزل أتابك إلى حصن عرقه، وهو من أعمال طرابلس، فحصره وفتحه عنوة وأخذ ما فيه وأسر من به من الفرنج، وأخربه وعاد سالماً غانماً. وتتضح نزعة زنكي الدينية في سياسته الداخلية وفي سلوكه الشخصي كذلك، وهناك العديد من الأمثلة التي تبين إلى أي مدى بلغ الحسّ الديني لدى هذا الأمير المسؤول، فعندما قام عام 534هـ - على سبيل المثال - بتولية هبة الله بن أبي جرادة قضاء حلب قال له: هذا الأمر قد نزعته من عنقي وقلدتك إياه، فينبغي أن تتقي الله. وكان يتصدق كل جمعة بمائة دينار جهراً، ويتصدق بما عداها من الأيام سراً. كما كان يستفتي الفقهاء والقضاة قبل إقدامه على كثير من الأعمال، إلى جانب أنه أقام الحدود الشرعية في أنحاء بلاده. تحرير الرها وردع الصليبيين استطاع عماد الدين بفضل الله ثم بجهوده أن ينتزع من الصليبيين إمارة الرها التي تأسست في الشرق الإسلامي سنة 491هـ /1097م بزعامة بدوين الأول، وكان تحريرها في عام 539هـ. وقد ساعد عماد الدين زنكي عوامل عديدة في فتح الرها من أهمها: تنامي حركة الجهاد الإسلامي حتى عصره، وحصاد تجربة المسلمين في ذلك المجال. فلا ريب في أن التجارب السابقة أثبت أن إمارة الرها مرشحة أكثر من غيرها لكي تكون أولى الإمارات الصليبية المعرضة للسقوط في أيدي قادة الجهاد الإسلامي حينذاك، وقد أجهدها أمر الإغارات المستمرة من جانب أمراء الموصل خلال فترة تزيد على أربعة عقود من الزمان على نحو مثل موتاً بطيئاً لها، إلى أن تم الإجهاز عليها في العام المذكور. ويضاف إلى ذلك براعة عماد الدين العسكرية الذي فاجأ تلك الإمارة الصليبية بالهجوم، بعد أن أطمأن الصليبيون إليه وتصوروا أنه لن يهاجم، فاستغل فرصة غياب أميرها جوسلين الثاني عنها ووجه لها ضربته القاضية التي انتهت بإسقاطها، وهكذا أثبت ذلك القائد الكبير أنه اختار التوقيت الملائم لذلك العمل العسكري العظيم. لقد حقق عماد الدين زنكي بفتح الرها أهم إنجازاته التي قام بها ضد الصليبيين طوال مدة حكمه وكان لهذا النصر نتائج مهمة في العالمين الإسلامي والنصراني، ومن أهم تلك النتائج على الإجمال: - تأكد للمسلمين أن حركة الجهاد الإسلامي وصلت سن الرشد وتجاوزت المراهقة السياسية والعسكرية دون أن يكون ذلك إجحاف بإنجازات القادة السابقين على زنكي. - تأكد منطق التاريخ من أن مثل تلك الكيانات الصليبية الغير شرعية لن تستمر على الأرض المسلمة؛ لأن أبناء المنطقة أصحاب الهوية الدينية الموحدة لن يقبلوا بذلك الوضع السياسي والعسكري الدخيل؛ وبالتالي عاد التجانس لمنطقة شمال العراق ولم تعد الرها تمثل دور الفصل والكيان الصليبي الحاجز المانع من الاتصال بين كل من سلاجقة آسيا الصغرى، وسلاجقة الروم، وكذلك بلاد فارس. - وأدى إسقاط الرها بمثل هذه الصورة إلى تحرك الحلف الدفاعي الإستراتيجي القائم بين الكيان الصليبي في الشرق والأمم في الغرب الأوروبي، فلم يكن ذلك الغرب ليسمح لامتداده السياسي والتاريخي في الشرق أن ينهار قطعة قطعة، بل لابد من التدخل من أجل إعادة الأمور إلى نصابها وإجهاز فعاليات إمارة الموصل، ومن ثم كان قيام صليبية 1147 – 1149م/542هـ - 544هـ التي اشتهرت بالصليبية الثانية. وهي من النتائج المباشرة لإسقاط الرها، وهو أمر يوضح لنا بجلاء كيف أن قادة الجهاد الإسلامية حاربوا قوى عالمية، ولم تكن مجرد قوى محلية محدودة التأثير والفعالية، وأنهم بالفعل كانوا جزءاً من صراع قاري أو عالمي على نحو يجعل لهم مكانة بارزة في تاريخ المسلمين – عامة – في عهد الحروب الصليبية. - ومن النتائج العديدة التي نتجت عن ذلك الإنجاز، ارتفاع شأن عماد الدين زنكي إلى حد بعيد، فبعد أن كان مجرد حاكم محلي محدود النطاق والفعالية، تردد اسمه سريعاً في الحوليات اللاتينية والسريانية ليعكس أنه أحدث تأثيراً كبيراً في مجرى أحداث الشرق اللاتيني، وبصورة غير مسبوقة. أما بالنسبة للمسلمين، فقد احتل مكانة بارزة، فقد عزّز فتح الرها مركز عماد الدين تجاه السلطان السلجوقي مسعود والخليفة العباسي المقتفي لأمر الله الذي أنعم عليه بعدد كبير من الألقاب التي حازها عن جدارة، كالأمير المظفر، ركن الإسلام، عمدة السلاطين، زعيم جيوش المسلمين، ملك الأمراء أمير العراقين والشام. وجعل هذا النصر عماد الدين زنكي المدافع الأول عن الدين، والمجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله، ودارت في المحافل الإسلامية، أحاديث تمحورت حول شخصه، تصور لنا مدى التقدير، والإعجاب اللذين نالهما إثر تحقيقه هذا النصر الكبير. ومهد هذا الفتح الطريق أمام عماد الدين زنكي لاستكمال فتح الحصون المجاورة، وفرض سيطرته التامة على أملاك أعدائه في المنطقة. وأدَّى فتح الرها دوراً كبيراً في إنقاذ إمارة عماد الدين زنكي من خطر استمرار الغارات الصليبية عليها، فأصبح أهلها بعد الخوف آمنين. وقد مدح الشعراء الإنجاز الكبير الذي قام به عماد الدين لفتحه إمارة الرها، فقد وصف ابن الأثير جيش عماد الدين في خروجه لفتح الرها فقال: بجيش جاش بالفرسان حتى ظننت البَّر بحراً مـن iiسـلاح وألسنـة مـن العذبـات iiحُمْـر تخاطـبـنـا بـأفــواه iiالـرَّيــاح وأروع جيـشـه لـيـلٌ iiبـهـيـم وغُـرَّتـه عـمــود iiللـصـبـاح صفـوح عنـد قدرتـه iiولـكـن قليل الصفح ما بين iiالصفاح فـكـان ثبـاتـه للـقـلـب iiقـلـبـاً وهيـبـتـه جـنـاحـاً لـلـجـنـاح وكان فتح الرها بداية لما بعدها، إذ لم يكن من الصعب على عماد الدين زنكي أن يستكمل مهمته بفتح باقي المعاقل الصليبية التابعة لهذه الإمارة، فاستغل فرصة تضعضع أحوال الصليبيين في المنطقة. وقد استطاع عماد الدين أن يحقق قسطاً كبيراً من برنامجه، وأن يكوّن لنفسه مكانة خاصة في التاريخ الإسلامي كسياسي بارع وعسكري متمكن ومسلم واعٍ أدرك الخطر الذي حاق بالعالم الإسلامي من قبل الصليبيين؛ فقد استطاع أن يوجه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين وذلك بتجميعه القوى الإسلامية، بعد القضاء على عوامل التجزئة والانقسام وتوحيد المدن والإمارات المنفصلة في نطاق دولة واحدة استطاع بحنكته أن يستغل أقصى ما يمكن أن تقدمه دولته من إمكانات في سبيل تحقيق برنامجه المزدوج أي تشكيل الجبهة الإسلامية وضرب الصليبيين. ويعتبر عماد الدين زنكي أول قائد سلجوقي قام بتجميع القوى الإسلامية وفق برنامج معين ليجابه بها تزايد الخطر الصليبي الذي لم توقفه المحاولات الجدية التي سبقت زنكي. وقد مهد عماد الدين زنكي الطريق لقادة التحرير من بعده فلم تكن جهود ابنه نور الدين محمود ومن بعده صلاح الدين الأيوبي سوى إتمام العمل الذي بدأه عماد الدين زنكي وفي نفس الطريق. اغتيال عماد الدين زنكي تجمع المصادر على أن زنكي اغتيل ليلة الخامس من ربيع الآخر سنة 541هـ خلال حصاره لقلعة جعبر في سوريا، عندما انقض عليه – وهو نائم – غلمان ممن مماليكه المقربين اللذين كانوا يقومون على حراسته أثناء نومه.. رحمه الله تعالى. قال أبو شامة المقدسي: وللحكيم أبى الحكم المغربي قصيدة في مرثية الشهيد عماد الدين زنكي رحمه الله، منها:عيـنٌ لا تـدخـري الـدمـوع iiوبَـكَّـي واستلهَّـي دمــاً عـلـى فـقـد زنـكـي لـم يَهَـب شخصـه الـرَّدى بـعـد iiأن كانـت لـه هيبـة عـلـى كــل iiتُـركـي خـيــرُ مَـلْــكٍ ذي هـيـبـة iiوبــهــاء وعـظـيـم بــيــن الأنــــام iiبُــــزُزكِ يَــهَــبُ الــمــال والـجـيــاد iiلــمــن يـمَّـمَــه مــادحــاً بـغــيــر iiتَـلَــكَّــي إنَّ داراً تـــمـــدُّنـــا iiبـــالـــرَّزايـــا هـــي عـنــدي أحـــقُّ دار بــتــرك فاسْكُـبـوا فــوق قـبــره مـــاء iiوَرْدٍ وانـضـحُـوهُ بـزعـفـران iiومــســك أي فتـكٍ جـرى لــه فــي الأعــادي بعـد مـا استفـتـح الـرُّهـا أي iiفـتـكِ كـــل خـطــب أتـــت بــــه iiنُــــوَبُ الدهر يسيرُ في جنب مصرع زنكي بـعــد مـــا كــــاد أن تــديــن iiلــــه الرُّوم ويحوي البلاد من غير iiشـكَّ واضطربت الأمور بعد م*** عماد الدين، واختلت المسالك بعد الهيبة المشهورة، والأمنة المشكورة، وقال أبو يعلى التميمي في صفة هذا الحال أبياتاً: كذلـك عمـاد الديـن زنكـي iiتنـافـرت سعـادتـه عـنـه وخـــرت iiدعـائـمـه وكم بيـت مـال مـن نضـار وجوهـر وأنــواع ديـبـاج حوتـهـا iiمخـاتـمـه وأضحت بأعلى كل حصن iiمصونـة يُحـامـى عليـهـا جـنـده iiوخـوادمــه ومـن صافنـات الخـيـل كــل مطـهـم يـروع الأعــادي حلـيـه iiوَبَرَاجـمـه فلو رامـت الكتـاب وصـف iiشياتهـا بأقلامهـا مـا أدرك الوصـف iiناظمـه كــم مـعـقـل قـــد رامـــه iiبسـيـوفـه وشامـخ حصْـن لـم تَفُـتْـه iiغنائـمـه ودانــت وُلاة الأرض فيـهـا iiلأمــره وقـــد أمنـتـهـم كـتـبـه iiوخـواتـمــه وأمـن مـن فــي كــل قـطـر iiبهيـبـة يـــراع بـهــا أعـرابُــه iiوأعـاجـمـه وظـالـم قــوم حـيـن يـذكــر iiعـدلــه فقـد زال عنـهـم ظُلْـمـه وخصائـمـه وأصـبـح سلـطـان الـبـلاد iiبسـيـفـه ولـيـس لــه فيـهـا نظـيـر iiيزاحـمـه وزاد علـى الأمـلاك بأسـاً iiوسطـوة ولم يبق فـي الأمـلاك ملـك iiيقاومـه فـلـمــا تـنـاهــي مُـلـكُــه iiوجــلالــه وراعـت ولاة الأرض منـه لوائـمـه أتـــاه قــضــاء لا تــــرد سـهـامــه فـلــم تـنـجــه أمــوالــه iiومـغـانـمـه وأدركـــه للـحـيـن فـيـهـا iiحِـمـامــه وحامـت علـيـه بالمـنـون iiحوائـمـه وأضحى على ظهر الفـراش مُجـدّلا صريعـاً تولـى ذبـحـه فـيـه iiخـادمـه وقد كـان فـي الجيـش اللهام iiمبيتـه ومــن حـولـه أبطـالـه iiوصـوارمــه وسـمـر العـوالـي حـولــه iiبأكـفـهـم تـذود الـردى عنـه وقـد نـام iiنائمـه ومـن دون هـذا عصبـة قـد iiترتَّبَـت بأسهمها يُـرْدى مـن الطيـر iiحائمـه وكـم رام فــي الأيــام راحــة ســره وهمـتـه تعـلـو وتـقــوى iiشكـائـمـه وكــم مسـلـك للسـفـر أمــن iiسُبـلـه ومسـرح حــي أن تُــراعَ iiسوائـمـه وكــم ثـغـر إســلام حــواه بسـيـفـه مـن الـروم لـمـا أدركـتـه iiمراحـمـه فمن ذا الذي يأتي بهيبة مثله وتنفذ فـــي أقـصــى الــبــلاد iiمـراسـمــه فلـو رُقِيـتْ فـي كـل مـصـر iiبـذكـره أراقــمــه ذلــــت هــنــك iiأراقــمــه فمن ذا الذي ينجو من الدهر iiسالماً إذا مــا أتــاه الأمـــر والله iiحـاتـمـه ومن رام صفواً في الحياة فما iiيرى لـه صفـو عيـش والحِمـام iiيحاومـه فـإيــاك لا تـغـبـط مـلـيـكـا iiبـمـلـكـه ودعـه فـإن الدهـر لاشــك قاصـمـه وقل للذي يبنـي الحصـون iiلنحفظـه رويـدك مـا تبـنـي فـدهـرك iiهـادمُـه وفـى ضــل هــذا عـبـرة iiومـواعـظ بها يَتَناسى المـرء مـا هـو iiعازمـه الخلاصة وهكذا نرى أن القائدين العظيمين آق سنقر وولده عماد الدين استطاعا أن يحولا مناطق حكمهما إلى أشبه ما يكون بدولة عظمى، لها مقومات القوة والقدرة والنجاح والعز والمنعة، مع أن تلك المناطق كانت جزءاً من العالم الإسلامي.. لم يكن ذلك ليتحقق لولا أن هذين القائدين اهتم كل منهما ببناء كيانه الداخلي النفسي على أسس شرعية صحيحة متكاملة تعطي الروح والعقل والقلب القوة والنور.. وعلى ضوء تلك الأسس كان بناء الدولة ثابتاً راسخاً شامخاً، تهابه الأمم الأخرى. ــــــــــــــــــــــــــــ المصادر - (الروضتين في أخبار النورية والصلاحية)، أبو شامة المقدسي. - (السيرة الزنكية)، الدكتور علي محمد الصلابي. - الموسوعة العربية العالمية. اللهم اغفر لكاتبها وناقلها,وقارئها واهلهم وذريتهم واحشرهم معا سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم |
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|