#1
|
||||
|
||||
امتحان العلماء في خلق القرآن
الحمد لله الذي سلم ميزان العدل إلي أكف ذوي الألباب ، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين بالثواب والعقاب , وأنزل عليهم الكتب مبينة للخطأ والصواب ، وجعل الشرائع كاملة لا نقص فيها ولا معاب ، أحمده حمد من يعلم أنه مسبب الأسباب ، وأشهد بوحدانيته شهادة مخلص غير مرتاب ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله وقد أسدل الكفر وجهه على الإيمان بحجاب ، فنسخ الظلام بنور الهدي وكُشُفَ النقاب ، وبين للناس ما أنزل إليهم وأوضح أحكام الكتاب ، وتركهم على المحجة البيضاء لا سرب فيها ولا سراب ، فصلي الله عليه وعلى جميع الآل والأصحاب ، وعلى التابعين لهم بإحسان إلي يوم الحشر والحساب ، أما بعد . فقد وقفنا في المحاضرة الماضية في موضوع البدعة الكبرى ، بدعة خلق القرآن ، وقفنا عند بيان الرد على رسالة الخليفة المأمون بن هارون الرشيد التي أرسلها إلي واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم يأمره فيها بامتحان العلماء في خلق القرآن ، وإلزامهم بنفي صفة الكلام عن الله ، وقد ذكر المأمون بن هارون بعض الآيات التي يحتج بها على بدعته وكان أو ما ذكره قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) ، فقالوا كل ما جعله الله فقد خلقه جعل بمعني خلق ، وهذا كلام باطل يدل على جهلهم بكتاب الله وإدراك مراد الله ، فهم قد توسعوا في فلسفة اليونان وضيقوا عقولهم في لغة القرآن ، لأن جعل في قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) ، ليست بمعني خلق ، فلفظ جعل قد يضاف إلي الله وقد يضاف إلي الإنسان ، فإذا أضيف إلي الله فاللفظ على معنيين : المعني الأول هو التدبير الكوني ، ومعني جعل هنا الخلق والتقدير والتكوين والتدبير ، الذي تقع عليه الأمور وتصير ، كقوله تعالى : ( أَلمْ نَجْعَل الأَرْضَ مِهَادًا وَالجِبَال أَوْتَادًا وَخَلقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلنَا الليْل لبَاسًا وَجَعَلنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ) (النبأ13) ، وقوله : ( وَجَعلنَا في الأَرْضِ رَوَاسِي أَن تَمِيدَ بِهَمْ وَجَعَلنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لعَلهُمْ يَهْتَدُونَ ) ( الأنبياء: 31) ، وقوله : ( وَجَعَلنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا ) (الأنبياء:32) ، ( وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام: 1) ، وقوله تعالى : ( وَجَعَلنَا مِن َالمَاءِ كُل شيء حَي أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) (الأنبياء:30) المعني الثاني لجعل إذا أضيفت إلي الله ، هو التدبير الشرعي المعني ومعني جعل هنا التشريع ووضع التكليف الديني الذي يحتوي على أحكام المكلفين وشريعة المسلمين ، وهذا الجعل قد يقع وقد لا يقع ، كقوله تعالى : ( فَمَا جَعَل اللهُ لكُمْ عَليْهِمْ سَبِيلا ) أي لم يجعل لكما حكما شرعيا في قتالهم لأن الآيات تقول ( وَدُّوا لوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْليَاءَ حتى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيل اللهِ فَإِنْ تَوَلوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَليًّا وَلا نَصِيرًا ، إِلا الذِينَ يَصِلُونَ إلي قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلوْ شَاءَ اللهُ لسَلطَهُمْ عَليْكُمْ فَلقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلقَوْا إِليْكُمْ السَّلمَ فَمَا جَعَل اللهُ لكُمْ عَليْهِمْ سَبِيلا ، سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُل مَا رُدُّوا إلي الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلقُوا إِليْكُمْ السَّلمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلئِكُمْ جَعَلنَا لكُمْ عَليْهِمْ سُلطَانًا مُبِينًا ) (النساء:91) وكقوله تعالى : ( وَأَنزَلنَا إِليْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَليْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَل اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الحَقِّ لكُلٍّ جَعَلنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلوْ شَاءَ اللهُ لجَعَلكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِنْ ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلي اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلفُونَ ) وكقوله : ( مَا جَعَل اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلةٍ وَلا حَامٍ وَلكِنَّ الذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللهِ الكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون ) وكقوله : ( وَآتَيْنَا مُوسَي الكِتَابَ وَجَعَلنَاهُ هُدًي لبَنِي إِسْرَائِيل أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا ) وكقوله : ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلنَا لهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ليْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلكَ مثل نَ للكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ) وكقوله : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لنْ نُؤْمِنَ حتى نُؤْتَي مِثْل مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالتَهُ سَيُصِيبُ الذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ) ( الحَمْدُ للهِ الذِي أَنزَل على عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلمْ يَجْعَل لهُ عِوَجَا ) ( قَال رَبِّ اجْعَل لي آيَةً قَال آيَتُكَ أَلا تُكَلمَ النَّاسَ ثَلاثَ ليَالٍ سَوِيًّا ) . ( إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل اللهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الذِي جَعَلنَاهُ للنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلحَادٍ بِظُلمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَليمٍ ) ( وَلكُل أُمَّةٍ جَعَلنَا مَنْسَكًا ليَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ على مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ) ( وَالبُدْنَ جَعَلنَاهَا لكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) . ( لكُل أُمَّةٍ جَعَلنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ ) ( وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَل عَليْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) ( ثُمَّ جَعَلنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذِينَ لا يَعْلمُونَ ) . ومن هذا الباب قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لعَلكُمْ تَعْقِلُونَ ) أي أنزل كلامه وشريعته بلغة العرب ، وقد بين الله السبب فقال : ( وَلوْ جَعَلنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لقَالُوا لوْلا فُصِّلتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُل هُوَ للذِينَ آمَنُوا هُدًي وَشِفَاءٌ وَالذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَليْهِمْ عَمًي أُوْلئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) وقال : ( وَكَذَلكَ أَوْحَيْنَا إِليْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمان وَلكِنْ جَعَلنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتَهْدِي إلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) . لكن من جهل الخليفة أنه لبس الأمور وخلط الجعل فجعل الكوني بالمعني الشرعي والشرعي بالمعني الكوني إسمع ماذا يقول في رسالته : ( وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه ، الذي جعله لما في الصدور شفاء ، وللمؤمنين رحمة وهدي : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) ، فكل ما جعله الله فقد خلقه ، وقال : ( الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام:1) ، فجعل الأولي بمعني شرع والثانية بمعني خلق فأراد أن يسوى بينهما . وقد تضاف جعل إلي الله وتشمل المعنيين معا الكوني والشرعي كقوله تعالى : ( وَإِذْ جَعَلنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلي ) وكقوله : ( جَعَل اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا للنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ وَالهَدْيَ وَالقَلائِدَ ذَلكَ لتَعْلمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ ) ( وَإِذْ ابْتَلي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَال إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالمِينَ ) ( إِنَّا جَعَلنَا الشَّيَاطِينَ أَوْليَاءَ للذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) . أما جعل إذا أضيفت لمخلوق فلا تكون بمعني خلق وليست بالمعني الكوني ولا بالمعني الشرعي ، كقوله تعالى : ( أَجَعَلتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيل اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالمِينَ ) فجعل هنا لا يمكن أن تكون بمعني خلق أبدا ، فالإنسان لا يخلق سقاية الحاج ولا يشرع حكمها ولكن يتولها ويتولى أمرها ، وليس كل ما جعله الله فقد خلقه كما زعم المأمون . وكقوله تعالى : ( وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَليم ) ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِين ) ( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلقَهُمْ وَخَرَقُوا لهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلمٍ سُبْحَانَهُ وَتعالي عَمَّا يَصِفُونَ ) . ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيل البَحْرَ فَأَتَوْا على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لهُمْ قَالُوا يَا مُوسَي اجْعَل لنَا إِلهًا كَمَا لهُمْ آلهَةٌ قَال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) ( قُل أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَل اللهُ لكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُل ألله أَذِنَ لكُمْ أَمْ على اللهِ تَفْتَرُونَ ) ( فَلمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِليْهِ لتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( قَال اجْعَلنِي على خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَليمٌ ) ( وَقَال لفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالهِمْ لعَلهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلبُوا إلي أَهْلهِمْ لعَلهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( فَلمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَل السِّقَايَةَ فِي رَحْل أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العِيرُ إِنَّكُمْ لسَارِقُونَ ) ( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ) ( قَالتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلةً وَكَذَلكَ يَفْعَلُونَ ) . وكذلك جعل إذا تعدت إلي مفعول واحد كانت بمعني خلق ( وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) ، وإذا تعدت إلي مفعولين لم تكن بعني خلق كقوله تعالى : ( وَلاَ تَنقُضُوا الإيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلتُمُ اللهَ عَليْكُمْ كَفيِلاً ) ، وقال تعالى : ( وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ) ، وكذلك قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرآنَاً عَرَبِيًّا ) ، فإنها تعدت إلي مفعولين . أما احتجاجه بقوله تعالى : ( الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام:1) فيحتمل أن المأمون يستشهد بأن جعل بمعني خلق فإن كان يقصد ذلك فهذا جهل من الخليفة لأنه لبس الأمور وخلط الجعل فجعل الكوني بالمعني الشرعي والشرعي بالمعني الكوني فأراد أن يسوى بينهما ، ويحتمل أنه يقصد أن القرآن موجود في الأرض والأرض مخلوقة ، فالقرآن مخلوق ، وهذا أيضا من جهله وبهتانه وابتداعه وطغيانه ، لأنه من المعلوم أن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ كما قال تعالى : ( إِنَّهُ لقُرآنٌ كَرِيمٌ في كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ) . فالقلم واللوح مخلوقان لله ، لما روي أبو داود في سننه وصححه الشيخ الألباني من حديث (4692) عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ أنه قال لابْنِهِ : ( يَا بُنَيَّ إنَّكَ لنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإيمان حتى تَعْلمَ أنَّ مَا أصَابَكَ لمْ يَكُنْ ليُخْطِئَك َ، وَما أخْطَأَكَ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَكَ ، سَمِعْتُ رَسُول الله صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : إنَّ أوَّل مَا خَلقَ الله تعالى القَلمَ فقال له : اْكْتُبْ ، فقَال : رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال : اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء حتى تَقُومَ السَّاعَةُ، يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : مَنْ مَاتَ على غَيْرِ هٰذَا فَليْسَ مِنِّي ) . فالقلم واللوح مخلوقان لله ، أما كلام الله المكتوب في اللوح المحفوظ ، فهو مما تكلم الله به ، وكلامه صفة من صفاته ، اتصف الله بها في الأزل ، فكما أن الله أول بذاته قبل كل شي ، فهو أيضا أول بصفاته قبل كل شي ، وكذلك يقال في القرآن الذي بين أيدينا ، الأوراق والحبر والقلم مخلوقات خلقها الله ، أما كلام الله المكتوب في القرآن فهو مما تكلم الله به ، وكلامه صفة من صفاته ، وصفته اتصف الله بها في الأزل ، فكما أن الله أول قبل كل شي بذاته ، فهو أيضا أول قبل كل شي بصفاته ، فلا حجة لهم في استدلالهم بقوله تعالى : ( الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام:1) ولذلك أدرك اليهود حجة المأمون في هذه الآية ، فقد اختصم يهودي ومسلم إلي بعض القضاة من القائلين بخلق القرآن ، فحكم القاضي على المسلم باليمين يحلف صدق وبراءته فقال اليهودي لا بأس حلفه ، فقال السلم أحلف بكتاب الله الذي لا إله إلا هو ، فقال اليهودي حلفه بالخالق لا بالمخلوق ، فإن يزعم أن القرآن مخلوق ، فحلفه بالخالق وظهر بهتانه . |
#2
|
||||
|
||||
أما استدلال الخليفة لمذهب المعتزلة بقوله تعالى : ( كَذَلكَ نَقُصُّ عَليْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ) (طه:99) ، وزعمه أن القرآن قصص لأمور أحدثه بعدها ، وتلا به متقدمها ، فقد ذكرنا أن القرآن مكتوب في اللوح قبل وجود الخلائق وقبل كتابته في اللوح كان في علم الله ، وعلم الله صفة أزلية أولية ، قائمة بذات الله اتصف بها في الأزل ، ولذلك لما ناظروا الإمام أحمد أمام المعتصم ، قال له عبد الرحمن بن إسحاق : ما تقول في القرآن ؟ فقال الإمام أحمد : ما تقول في علم الله ؟ ، فسكت عبد الرحمن ولم يتمكن من الجواب ، فقال أحمد : القرآن من علم الله ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله ، فقال عبد الرحمن : كان الله ولا قرآن ، فقال الإمام أحمد : كان الله ولا علم ، فسكت عبد الرحمن .
ولذلك فإن المعتزلة يصرون على أن القرآن كلام الرسول وأن الله لم يتكلم به ، محتجين بقوله تعالى : ( إِنَّهُ لقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) (الحاقة:40) (التكوير:19) فهذا يدل عندهم على أن الرسول أحدثه إما جبرائيل وإما محمد ، وهذا دليل على جهلهم وقلة علمهم ، بأبسط وجوه الاستدلال ، لأن لفظ الرسول ذكر في الآية معرفا بأنه رسول والرسول مبلغ عن مرسله ، فلم يقل إنه قول ملك أو نبي ، فعلمنا أنه بلغه عمن أرسله به ، لا أنه أنشأه من جهة نفسه ، وأيضا الرسول في إحدي الآيتين في سورة الحاقة أو التكوير هو جبريل وفي الأخرى محمد صلي الله عليه وسلم ، فإضافة القول إلي كل منهما ، تبين أن الإضافة للتبليغ ، إذ لو أخترعه أحدهما أو أحدثه أو ألفه امتنع ذلك على الآخر ، وأيضا فقوله : ( إِنَّهُ لقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (التكوير:21) وصفه بأنه أمين وهذا دليل على أنه لا يمثل د في الكلام ، الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه ، بل هو أمين على ما أرسل به يبلغه عن مرسله . وأيضا فإن الله عز وجل قد كفر من جعله قول البشر وتوعده بسقر ، ومحمد بشر ، فمن جعله قول محمد فقد كفر ، فقال تعالى عمن زعم أنه سحر أنشأه محمد من عنده : (كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِل كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِل كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَر فَقَال إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ البَشَرِ سَأُصْليهِ سَقَر وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَر ) (المدثر:16/28) ، فمن زعم أنه قول البشر فقد كفر ، ولا فرق بين أن يقول إنه قول بشر أو جني أو ملك ، كما أن الكلام كلام من قاله مبتدئا لا من قاله مبلغا ، فمن سمع قائلا يقول : أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي ، قال : هذا شعر حافظ إبراهيم ، ومن سمع قائلا يقول : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوي ) قال هذا حديث للرسول صلي الله عليه وسلم ، ومن سمع قائلا يقول : ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ) قال : هذا كلام الله ، هذا لو كان عنده معرفة سابقة ، وإلا قال : لا أدري كلام من هذا ؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لرمي بالكذب ، ولهذا من سمع من غيره نظما أو نثرا يقول له هذا كلام بديع كلام من هذا ؟ هذا كلامك أو كلام غيرك ؟ . ولذلك قال الإمام أبو حنيفة : ( القرآن في المصاحف مكتوب وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء وعلى النبي منزل ولفظنا بالقرآن مخلوق - يقصد حركة اللسان التي تتم لإخراج الحروف - والقرآن غير مخلوق ، وما ذكر الله في القرآن عن موسي عليه السلام وغيره ، وعن فرعون وإبليس ، فان ذلك كلام الله إخبارا عنهم ، وكلام موسي وغيره من المخلوقين مخلوق ، والقرآن كلام الله لا كلامهم ، وسمع موسي عليه السلام كلام الله تعالى ، فلما كلم موسي كلمه بكلامه الذي هو من صفاته ، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويري لا كرؤيتنا ، ويتكلم لا ككلامنا ) . أما استدلال الخليفة لمذهب المعتزلة بقوله تعالى : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلتْ مِنْ لدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود:1) ، وحجته أن كل محكم مفصل ، له محكم مفصل ، والله محكم كتابه ومفصله ، فهو خالقه ومبتدعه) ، فهو استدلال باطل لأنه ما من متكلم إلا وكلامه فيه إجمال وتفصيل وعموم وخصوص ، وغير ذلك من أنواع الكلام فهل كل متكلم من البشر أو غيرهم خالق لكلامه أم أن الخالق هو الله : ( وَاللهُ خَلقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) ، ثم ما علاقة ذلك بكونه يتكلم أو لا يتكلم ؟! فهم لو قالوا إن الله يتكلم ولا ندري كيف يتكلم لاهتدوا إلي الصواب كما اهتدي السلف الصالح بهدي الله ، ولكنهم رفضوا الإيمان بصفة الكلام أصلا وكذبوا بالآيات التي تدل على ثبوت الصفة لله ، فقالوا لا يتكلم ولا يكلم وشبهوه بالأبكم تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا . يقول الخليفة المأمون بن هارون عن علماء السلف الصالح : ( ثم هم الذين جادلوا بالباطل ، فدعوا إلي قولهم ، ونسبوا أنفسهم إلي السنة ، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته ، مبطل قولهم ، ومكذب دعواهم ، يرد عليهم قولهم ونحلتهم ) ، وهذا زور وبهتان فلم يرد في القرآن ما يدل على صدق البدعة التي دعت إليها المعتزله في نفي الصفات والقول بخلق القرآن ، يقول المأمون : ( ثم أظهروا مع ذلك ، أنهم أهل الحق والدين والجماعة ، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة ، فاستطالوا بذلك على الناس ، وأغروا به الجهال ، حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب ، والتخشع لغير الله ، والتقشف لغير الدين إلي موافقتهم عليه ، ومواطأتهم على سيء آرائهم ، تمثل نا بذلك عندهم ، وتصنعا للرياسة والعدالة فيهم ، فتركوا الحق إلي باطلهم ) . |
#3
|
||||
|
||||
زعم الخليفة في كتابه أن أهل السنة والجماعة يكفرون المعتزلة ، وهذا زعم باطل ، فهم لا يكفرون إلا من كذب منهم بآيات الكتاب صراحة ، أو قامت عليه البينة في أن قوله تكذيب لكلام الله وأصر على ما هو فيه ، ولذلك لما حمل الإمام أحمد من دار الخلافة بعد أن جلدوه ، وحضرت صلاة الظهر صلي معهم ولم يكفرهم فيما اعتقدوه ، لأنه يعلم أنهم أهل جهالة بالله وعمي عنه ، وانظر إلي تحامل الخليفة على أهل السنة ووصفه لهم في رسالته بأبشع الأوصاف ، لأنهم عارضوه وتمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، فحاول أن يفَصِّل لهم تهمة تبرر اعتقالهم وعقابهم ، وهي زعمه أنهم يستترون بالدين من خلال إصرارهم على هذا الاعتقاد لطلب السلطة والرياسة ، ثم يقول المأمون عن علماء السلف الصالح :
( حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب ، والتخشع لغير الله ، والتقشف لغير الدين إلي موافقتهم عليه ، ومواطأتهم على سيء آرائهم ، تزينا بذلك عندهم ، وتصنعا للرياسة والعدالة فيهم ، فتركوا الحق إلي باطلهم ، واتخذوا دون الله وليجة إلي ضلالتهم ) ، المأمون يشير إلي قوله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلمَّا يَعْلمْ اللهُ الذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولهِ وَلا المُؤْمِنِينَ وَليجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( التوبة:16) ، ومعني الآية أن ابتلي المؤمنين بالجهاد ليمحص أهل الحق الذين يناصرون الله ورسوله ظاهرا وباطنا ، ممن نافقوا وناصروا الله في الظاهر ، أما في الباطن فقد اتخذوا من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة يعني بطانة من الكافرين والمشركين يوالونهم على الكفر ويفشون إليهم أسرارهم بعداوة المسلمين ، فالمأمون يشبه المعتزلة ودعوتهم إلي ما يسمي بالتوحيد ونفي الصفات وما أحدثوه في الأمة من فتن ومنازعات ، بالمجاهدين من الصحابة في المعارك والغزوات ، لإعلاء راية التوحيد والقضاء على الشركيات ، ويشبه علماء السلف بالمنافقين الذين يتخذون وليجة من دون المؤمنين ، فينافقون الخليفة في الظاهر ويدعون الناس في الباطن إلي خلاف ما يعتقده أهل الضلال أصحاب الاعتزال ) . ثم يقول المأمون عن علماء السلف الصالح : ( فقُبلت بتزكيتهم لهم شهادَتُهم ، ونُفِّذَت أحكامُ الكتاب بهم ، على فساد نياتهم ويقينهم ، وكان ذلك غايتَهم التي إليها أُجِّروا ، وإياها طُلبُوا في متابعتهم ، والكذبِ على مولاهم ، وقد أُخِذ عليهم ميثاق الكتاب ، ألا يقولوا على الله إلا الحق ، ودرسوا ما فيه ( أي علموه وتجاهلوه ) أولئك الذين أصمهم الله وأعمي أبصارهم ، ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (محمد:24) . وصف السلف بأنهم لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون ، وأن المعتزلة هم أهل البصيرة الذين يفهمون ويعقلون ، من الأولي بهذا الوصف ؟ الأولي بهذا الوصف هم أهل البدعة من المعتزلة ومن شايعهم ، فهم اعتمدوا على عقولهم وأهوائهم في وصف ربهم ، وأوجبوا عليه أن يتصف بكذا وكذا ولا يتصف بكذا وكذا ، وقد نزه الله تعالى نفسه عن وصف العباد له بما يشاءون ، واستثني الوصف الذي بلغه عن الله المرسلون ، فقال سبحانه وتعالي في مثل قول المأمون بن هارون : ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ على المُرْسَلينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ ) (الصافات:182) . |
#4
|
||||
|
||||
فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون ثم سلم على المرسلين لسلامة ما وصفوا به رب العالمين ، وأنهم لم يكونوا مشبهين ولا معطلين وإنما كانوا موحدين مثبتين ، مثبتين لكل ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله صلي الله عليه وسلم ، ثم حمد نفسه على تفرده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد فقال : ( وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ ) فلولا أن الله عرفنا بنفسه في كتابه وفي سنة رسوله ما عرفناه ، ولو تركنا لعقولنا كما أراد الخليفة لاختفي طريق الحق وما سلكناه ، وقد ومضي خير القرون من الصحابة والتابعين على ما كان عليه رسول الله ، كلهم بنبيهم محمد مقتدون ، وعلى منهاجه سالكون ، ولم يبتدعوا كما ابتدع المأمون بن هارون ، بل هم أصحاب البصيرة خير القرون ، يقرأون القرآن ويتدبرون ويعملون : ( قُل هَذِهِ سَبِيلي أَدْعُو إلي اللهِ على بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ) (يوسف:108) ، ونبينا صلي الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه فبعث بعلوم الأولين والآخرين ولم يدع إلي هذه البدع التي يسميها المأمون توحيدا وجهادا .
يقول الخليفة المأمون عن علماء السلف الصالح : ( فرأي أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ، ورؤوس الضلالة المنقوصين من التوحيد حظا ، والمبخوسون من الإيمان نصيبا ، وأوعية الجهالة ، وأعلام الكذب ، ولسان إبليس الناطق في أوليائه ، والهائل على أعدائه ، من أهل دين الله ) انظر مدي تمسك المأمون بمذهب المعتزلة وكيف غرسوا فيه هذا الاعتقاد إلي درجة أنه يعتبر المخالفين له من السلف الصالح ، هم شر الأمة ورؤس الضلالة ، فلا إيمان لهم ولا توحيد ، وإنما هم أولياء الشيطان يتكلمون بلسان إبليس ، فبطانة السوء من المعتزلة هم رأس الأفعى التي بثت سمها في قلب الخليفة ، حتى ظن أن قولهم هذا هو الحق الذي لا تشوبه شائبة ، وهو منتهي التوحيد الذي يضبط به نوعيات العاملين لديه في مؤسسات الدولة ، ومن ثم أوجب على أولي الأمر اختيار البطانة الصالحة من أهل العلم حتى يتم بزعمه صلاح الراعي والرعية . يقول الخليفة المأمون عن علماء السلف الصالح : ( وهم أحق من يتهم في صدقه ، وتطرح شهادته ، ولا يوثق بقوله ولا عمله ، فإنه لا عمل إلا بعد يقين ، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام ، وإخلاص التوحيد ، - يقصد توحيد المعتزلة - ومن عمي عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبتوحيده ، كان عما سوي ذلك من عمله ، والقصد في شهادته أعمي وأضل سبيلا ، فاجمع من بحضرتك من القضاة ، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك ، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون ، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه ، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ، ولا واثق فيما قلده الله واستحفظه من أمور رعيته ، بمن لا يوثق بدينه ، وخلوص توحيده ويقينه ، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه ، وكانوا على سبيل الهدي والنجاة ، فمرهم بأن يسألوا من يحضرهم عن علمهم في القرآن ، وأن يتركوا إثبات شهادة من لم يقر بأنه مخلوق محدث ، والامتناع من توقيعها عندهم ) . أي دليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله على أن الشاهد عند أداء الشهادة يمتحن في خلق القرآن ، فإن أقر بأن الله يتكلم ردت شهادته ، وإن اعتقد اعتقاد الخليفة بأن الله لا يتصف بالكلام قبلت شهادته ؟ أليست هذه بدعة نظير لها ولا يختلف عليها اثنان ؟ فمن هم أهل البدعة والجهالة والعمي ؟ لقد صدق قول القائل السلفي في الخليفة المأمون : يا أيها الناس لا قول ولا عمل : لمن يقول كلام الله مخلوق - ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر : ولا النبي ولم يذكره صديق - ولم يقل ذاك إلا كل مبتدع : على الرسول وعند الله زنديق – يا قوم أصبح العقل من خليفتكم مقيدا : وهو في الأغلال موثوق . ولما ولي بشر بن الوليد الكندي القضاء بأمر الخليفة وقد أقر بمذهب المأمون ، كان إذا جاء الشاهد في قضية ما سأله عن كلام الله : هل الله يتكلم أم لا ، فإن قال يكلم رد شهادته وإن قال لا يتكلم وشبهه بالأبكم قبل شهاته فجاء رجل ليشهد فسأله بشر بن الوليد ، فقال إن الله يتكلم كما يليق بجلاله واحتج بقوله تعالى : ( وَكَلمَ اللهُ مُوسَي تَكْليماً ) (النساء:164) فقال له أنت فاسق ورد شهادته ، فخرج الرجل يصيح ويقول للمأمون : يا أيها الملك الموحد ربه : قاضيك بشر بن الوليد حمار - ينفي شهادة من يدين بما به نطق الكتاب وجاءت الأخبار - يا أيها الملك الموحد ربه : قاضيك بشر بن الوليد حمار ) قال المأمون لخليفته إسحاق بن إبراهيم في حكمه بفسق من لم يقل بقوله في خلق القرآن وهو يخاطب نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم : ( واكتب إلي أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مساءلتهم ، والأمر لهم بمثل ذلك ، ثم أشرف عليهم ، وتفقد آثارهم ، حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين ، والإخلاص للتوحيد ، واكتب إلي أمير المؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله ، وكتب في شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة ومائتين ) . هذا كتاب المأمون بن هارون إلي نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم ، حمل من الفتنة وأنواع الضلال ما يدل بحق على مقدار البلاء الذي حل بالأمة الإسلامية بسبب الآراء الاعتزالية ، أمر الوالي إسحاق بن إبراهيم أن يجمع من بحضرته من القضاة وأن يقرأ هذا الكتاب عليهم ويبدأ في امتحانهم والكشف عن اعتقادهم ، وبين له في هذا الكتاب أنه لا يستعين في إدارة شئون الدولة بمن لا يكون على مذهبه ، وقع ابتلاء عظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ماذا حدث بعد ذلك نستكمل ذلك بإذن الله تعالى في اللقاء القادم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . |
#5
|
||||
|
||||
البدعة الكبرى– المحاضرة الرابعة استاذ دكتور محمود عبد الرازق الرضواني - حفظه الله - استاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة |
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|