أيها السادة: المعاش لا يكفى ثمن الدواء
عادل نعمان
إياكم أن تظنوا أن المعاش منحة أو صدقة تجودون بها على الفقراء والمساكين من أصحاب المعاشات، أو راتب تتحمله خزينة الدولة، أو عبء يُثقل كاهلها أول كل شهر، إلا إذا كان ديناً استدانته الدولة عن رضا، أو استولت عليه من البنوك غصباً أو انتزاعاً، وعجزت عن سداده لأصحابه، وإياكم أن تظنوا أنكم تؤدون الأمانات وتردون الحقوق إلى أصحابها، ضعف الطالب والمطلوب، وإياكم أن تصدقوا أن الغالبية العظمى من هؤلاء يعملون لرفع مستوى معيشتهم، بل ليحافظوا على الحد الأدنى من الانهيار والسقوط، وحفظ ماء الوجه، إلا من شملتهم رعايتكم الفائقة دونهم، ولو أدار هذا الصندوق وهذه الأموال خبراء متخصصون بأسلوب علمى منظم، أو على الأقل تم إيداع حصيلة التأمينات كاملة، وأكرر كاملة، ودائع طويلة الأجل بفائدة يومها، وهذا هو العدل والحق، لكان المعاش كافياً وحمدنا الله على الستر إلى آخر العمر، وشكرناه على راحة البال حتى يوم الرحيل.
وأود أن أُعلم حضراتكم أن أموال التأمينات هى أموال كل أصحاب المعاشات، وليست أموالكم أو ودائعكم، بل هى محصلة اشتراكات الملايين من هؤلاء القوم من سنوات عدة، يتوارثها الأحياء منهم والأموات، تُستثمر لصالحهم، وتوزع عليهم وعلى المستحقين شهرياً بحسابات ومعادلات منتظمة، فإذا زادت الأرباح زاد المعاش وانتعشت أحوالهم، إلا أن الحال هنا غير، فلا يُستثمر من هذه الأموال إلا القليل منها، ودائع لدى البنوك، وبعائد منخفض، والكثير منه تحت غطاء الدولة، وإذا كشفته ستجده هباء منثوراً، وهذا هو الظلم والغبن الذى يحاصرنا بعينه، وسبب فقرنا وعوزنا نحن أصحاب هذه الأموال، ولا أعرف كيف يخرج الواحد منا إلى المعاش ليتقاضى هذا المبلغ البسيط المتواضع الهزيل، وكان يوماً يتقاضى أضعافه، ويمضى فى الحياة بشق الأنفس، ولما كبر ووهن ومرض وزادت أعباؤه وفواتيره نرده إلى زمرة المساكين والمحتاجين بهذه القروش القليلة، ولا نحفظ له ماء وجهه أو كرامته أمام أبنائه وأحفاده، بل نشق ونشد عليه ونعضله، وكان أولى أن نهوّن عليه ونيسّر له ونسهّل عليه.
تناولت شبكة التواصل الاجتماعى صورة لأحد رجال التعليم، وكان يشغل منصباً مرموقاً فى إحدى الإدارات التعليمية، وهو يناول طلبات الزبائن فى أحد المقاهى الشعبية، وربما يقابل صاحبنا أحد معارفه أو أصدقائه أو أقربائه أو يقدم لهم الطلبات من الشاى أو القهوة أو الشيشة وما يلزم هذا العمل من أصول الصنعة، من التحيات والسلامات وشد الكراسى وتنظيف الترابيزات، شىء لزوم الشىء، والسعى والجرى حول الزبائن، يفتح الطريق ويمهد ويجهز لهم أماكن الجلوس، وهذا أمر تستدعيه الحرفة والمهارة، إلا أن الأسوأ منه والأدهى أن يكون هذا الزبون أحد تلاميذه، وكان يجلس فى الصف يعلمه وينصحه وينمّى قدراته، فيكون يوماً هذا المعلم أو هذا الموجه واقفاً يتلقى منه الطلبات، ويقدمها إليه، ويتلقى منه البقشيش، وربما يودعه ويصحبه حتى يغادر المقهى، ألا لعنة الله على كل من وضع هذا الرجل فى هذه الحاجة وهذا العوز، وكسر خاطره وأهان تاريخه، ورماه فى مهب الريح فلم يجد عملاً بعد خروجه للمعاش سوى قهوجى، ليس إقلالاً من قدر هذا العمل إطلاقاً، لكن بقدر الحرج الذى يقابله كل يوم، فى تعامله مع من كان يوماً تحت إدارته أو بين صفوف تلاميذه، يكون قبح المنظر، وسوء المنقلب والمصير ليس إلا.
هؤلاء قوم قد وهنوا وضعفوا واستكانوا، ولا يعترضون على الجور والظلم إلا بالدعاء لله أن يخفف سطوة المسئولين عليهم، والرجاء أن يرفع الظلم عنهم، وإذا زادوا الأمر، وضيّقوه وعسّروه ونكدوه عليهم، دعوا الله أن يكون لهؤلاء المسئولين يوماً نصيب من هذا الظلم، لا يرفعه الله حتى يستوفى الجميع حقوقهم، فلا قدرة لهؤلاء سوى الدعاء للمحسن والدعاء على الظالم المعسر، هذا حالهم ووصفهم، فلا قدرة ولا طاقة ولا مال لطرق أبواب المحاكم، أو الانتظار أمام مكاتب المسئولين، ولا صحة أو عافية لرفع رايات الاعتراض والعصيان، ولا طاقة يا ولداه على الصبر، فكيف يصبر على ما لا يستطيع أن يصبر عليه الصحيح السليم والقوى المتين وقد تمكّن منه المرض والعجز والوهن، والضغط والسكر والقلب والبروستاتا، وكيف يحفظ هذا الضعيف ماء وجهه وحرمته أمام أبنائه وأحفاده ومعاشه لا يكفى سداد فاتورة الكهرباء؟
أيها السادة أصحاب الأمر والشأن والقرار فى هذا البلد، لا تستقووا على أصحاب المعاشات، فقد وهنوا بما يكفى، ولا تحملوا عليهم أكثر مما يحتملون فقد نفد صبرهم، ولا تُكرهوهم على شظف العيش، فقد فاقت حاجتهم حاجة المساكين، ولا تضيّقوا على جيوبهم فقد نفد رصيدها من اليوم الأول، وأنصفوهم واعدلوا وردوا لهم حقوقهم، فقد أنهكتهم رحلة الطريق، وتمكّن منهم المرض وأصبح هذا المعاش الهزيل لا يكفى ثمن الدواء، ولأن الأمر لا يُحتمل، ولا يكفيه منحة أو منحتان أو عشر، فقد آن الأوان أن نغير المنظومة كاملة، فهؤلاء - ونحن منهم - أولى الناس برفع المعاش حتى نحفظ لهم كرامتهم ونصون لهم تاريخهم ونسترهم فى نهاية الرحلة.