#1
|
|||
|
|||
ثمة ظاهرة تثير الذهول، تلك هي أن القرآن الكريم كان.. وما يزال.. يحظى من المسلمين جميعًا بأسمى صور التكريم ومظاهر التقديس، والثقة المؤكدة فيه تجعل القسم به يمينًا غموسًا غليظًا تحل بمن ينقضه العاهات، وتحيق به النكبات. وترى الناس من العامة والخاصة يزينون به البيوت والعربات، ويحمون به المقتنيات والممتلكات، ويحملونه في أعناقهم وفوق قلوبهم.. فالإيمان بالقرآن والثقة فيه إلى درجة القداسة حقيقة لا يمكن أن تعلق بها شائبة من شك.
في الوقت نفسه، فنحن نرى أن جوهر ما جاء به القرآن وما أكده تأكيدًا.. وما وجه إليه الناس وكرره تكريرًا.. والروح العامة التي تنتظم آياته وسوره.. هذه كلها لا أثر لها في حياتنا العملية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.. ولا اهتداء بها في سلوكنا وتعاملنا وأخلاقنا وآدابنا؛ كأنما أفرغت كلماته من مضمونها. القرآن بالنسبة للمسلمين قد تشيأ فأصبح مصحفًا يقسم عليه.. وتعويذة يتبرك بها، أو أصبح تقليدًا تفتتح به الاجتماعات والبرامج، ويشغل به الوقت الطويل في المآتم، ولكنه لم يعد أبدًا هديًا ونهجًا ومعايشة، وما أبعد الشقة بين حياتنا وسلوكنا، ونظمنا وآدابنا من ناحية، وما يهدي إليه القرآن من خلق ونظم وسلوك وآداب من ناحية أخرى.. وأغرب ما في هذه المفارقة التي كان يجب أن تبعث على الدهشة وتثير الذهول.. أنها أصبحت أمرًا عاديًا مألوفًا يتقبله الناس كأنه الوضع الطبيعي الذي لا غرابة فيه. وهنا الخطر كل الخطر؛ لأن هذا ينذر أننا نجتاز تلك المرحلة العمياء التي تنبهم فيها المعالم، وتختلط فيها المعاني حتى يصبح المنكر معروفًا والمعروف منكرًا.. وأشار إليها الشاعر: قد تعيش النفوس في الضيم حتى لترى من الضيم أنها لا تضام!! وعندما تمس هذه المفارقة القرآن بالذات؛ فإن الأمر يصبح على أعظم جانب من الخطورة، ويصل إلى قمة الأهمية؛ ذلك لأن القرآن هو الأصل الأصيل للإسلام، والجذر الذي يلتقي عليه، ويلتف حوله المسلمون جميعًا.. والإسلام بدوره هو أبرز مقومات المجتمع العربي، وأقوى مشخصاته، فأي إساءة لفهم القرآن أو تفريغه من محتواه الحقيقي لابد وأن ينعكس على هذا المجتمع، ولابد أن تتخلل آثاره تلك حياة كل واحد. فالقضية ليست قضية أكاديمية مقصورة على العلماء وشيوخ الأزهر والمفكرين. إنها قضية شعبية وجماهيرية، وتخص كل مسلم؛ لأن القرآن ربيع حياة كل مسلم، وجماع ضميره وفكره، وأي تشويه له معناه تشويه حياة الإنسان المسلم، وتمييع القيم التي يستلهمها والمعايير التي يحكم بها.. من أجل هذا.. وضعنا هذه الرسالة.. *** بقيت أمور... · إن هذا الموجز لم يتسع بحكم حجمه لتفصيل أو شرح قد يرى بعض القراء أنه كان لازمًا لإيضاح المقصود بصورة يقتنعون ويطمئنون إليها، ونحن ننصح هؤلاء بالرجوع لكتابنا "الأصلان العظيمان، الكتاب والسنة"، الذي عالجنا فيه بعض الموضوعات الواردة هنا بتفصيل أكثر. وقد رجعنا إليه بقدر ما اتسع المجال. · إن مفتاح هذه الرسالة هو "القرآن"؛ فهو نقطة الابتداء، وهو غاية الانتهاء. وقد أحيينا ما أحياه القرآن، وأمتنا ما أماته القرآن، وجعلناه المعيار والحكم على كل ما عداه. وحذرنا أن يتسلل إلينا شيطان المكر والخداع الذي تسلل إلى الذين رفعوا المصاحف على الرماح. وأن يظلل الحقيقة غمام يؤدي إلى الضلال، كما وقع للخوارج وغيرهم، ولم نشرك به فضلاً عن أن نعلي عليه كلامًا آخر، فمن يرد أن يحاسبنا فليحاسبنا من هذا المنطلق. ونكون له عندئذ شاكرين؛ لأنه قد يكشف عما فاتنا، أو يظهر ما أغفلنا. ونحن في هذا أيضًا ننهج منهج القرآن. أما إذا كان لا يؤمن بهذا المنطلق، فإن الحديث عندئذ سيكون عن موضوع آخر. · نحن نعلم أن المواضيع التي تتناولها هذه الرسالة قلما عولجت قبلاً إلا من بعض شيوخ الأزهر الذين يكتبون ويعملون بطريقة السلف التقليدية، وينقلون عن مراجعهم، ويرون أن هذا هو المسلك المقرر والمعتمد، وأن كل ما عداه فهو تطفل أو جهالة. وهي شنشنة نعرفها من أخزم واستعلاء مشيخي لا يفيدهم شيئا، فالحق أبلج، وهو لا يتطلب هذه التعقيدات والتفريعات والالتواءات. ونحن ندعوهم إلى كلمة سواء. وإلى الحديث بلغة سهلة والاحتكام إلى المنطق السليم، وتفسير النصوص بما توحي إليه من معانٍ. إن اختلاف أسلوب ومنهج هذه الرسالة عن الأسلوب والمنهج المتبع في هذا المجال يجب أن لا يعد أمرًا إدًا؛ لأن الجمود على أسلوب ومنهج واحد يناقض سنن الله في التطور وفي الحياة، ويحجر على التفكير والنظر والتدبير، واستباق الخيرات التي أمر بها كلها القرآن. · إننا في نقدنا للمنهج السلفي واختلافنا معه في كثير من الاتجاهات والنتائج، لا ننكر أن السلف كانوا من أعظم الرجال في عصورهم، كما لا ننكر أن المنهج نفسه كان متفقًا مع عصره، ولم يكن يوجه إليه أي نقد وقتئذ. إن مضمون نقدنا هو أن سلامة المنهج عندما ظهر منذ عشرة قرون لا تقتضي بالضرورة سلامته في الفترة المعاصرة؛ لتباين الأوضاع تباينًا جذريًا، فلكل عصر مشاكله وقضاياه وطرقه الخاصة في معالجة هذه المشاكل والقضايا. فالاختلاف لا يقتصر على نوعية القضايا، ولكن أيضًا على طريقة حلها، وأن الحل لن يكون فيما قدره السلف، ولكن في القرآن نفسه، ومباشرة؛ لأنه هو – وهو وحده – الذي يتسع لتحديات العصر وينتصر عليها. وهذا هو معنى "العودة إلى القرآن".
__________________
time is time was but time shall be no more |
العلامات المرجعية |
|
|