|
محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا سيرة سيد البشر بكل لغات العالم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
شغف الصحابة بحب وتوقير المصطفى صلى الله عليه وسلم
شغف الصحابة بحب وتوقير المصطفى صلى الله عليه وسلم
قصة فيها فوائد وعبر وكيف كانوا؟ وكيف صرنا؟ إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. * أما بعدُ: فيا أيها الإخوة المؤمنون، لا يخفى عليكم ما تظافرت عليه نصوص الكتاب والسنة من تأكيد محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتعظيم جنابه الشريف، وما ينبغي من إجلاله وتوقيره، ومن تعزيره ونُصرته، وما يقتضي ذلك مما أمر الله جل وعلا به. * إنَّ حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض، ولا تطيب الحياة ولا يُلتذ بها إلا بحبه، واتِّباع سُنته عليه الصلاة والسلام، فبذلك تطيب الحياة، وتطمئن النفوس، وتبتهج النفوس. * نعم أيها الإخوة المؤمنون، إن هذا المسلك الكريم متى هُدِي إليه العبد وفِّق إلى خير كثير، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). * ومن تأمَّل سِيَر الرعيل الأول والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان - وجد من حبهم وشوقهم للنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا عظيمًا. * وفي هذا اليوم أتوقف وإياكم أيها الإخوة الكرام عند واحد من الأيام التي مرت بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام واحتفل به صحابة عظام، موقف له دلالاته، وفيه ما فيه من العبر والعظات التي ينبغي أن نستنير بها في تعامُلنا مع نبينا الكريم؛ لنحدد مواقعنا في إجلالنا له وشوقنا لجنابه الشريف، واتباعنا لسنته عليه الصلاة والسلام. * نتوقف مع هذا الحدث الكريم من خلال ما رواه الإمام الترمذي في جامعه، وكذلك في كتابه (الشمائل المحمدية)؛ حيث أسند رحمه الله سندًا صحيحًا عن الإمام محمد بن إسماعيل البخاري قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا شيبان أبو معاوية، قال: حدثنا عبدالملك بن عمير عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة لا يخرج فيها ولا يَلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما جاء بك يا أبا بكر؟)، فقال: خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنظر في وجهه والتسليم عليه، فلم يلبث أن جاء عمر، فقال: (ما جاء بك يا عمر؟)، قال: الجوع يا رسول الله، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا قد وجدت بعض ذلك)، فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التَّيِّهان الأنصاري رضي الله عنه، وكان رجلًا كثيرَ النخل والشاة، ولم يكن له خدم، فلم يجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: انطلق يستعذب لنا الماء، فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقِربة يَزعَبُها، فوضعها، ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويُفدِّيه بأبيه وأمه، ثم انطلق بهم إلى حديقته، فبسط لهم بساطًا، ثم انطلق إلى نخلة، فجاء بقِنْوٍ فوضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلا تَنقَّيت لنا من رطبه)، فقال: يا رسول الله، إني أردت أن تختاروا أو تَخيروا من رطبه وبُسره، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد)، فانطلق أبو الهيثم؛ ليصنع لهم طعامًا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تَ***نَّ ذات دَرٍّ)، قال: ف*** لهم عناقًا أو جديًا، فأتاهم بها فأكلوا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هل لك خادم؟)، قال: لا، قال: (فإذا أتانا سبي، فأتنا)، فأُتِي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اختر منهما)، فقال: يا نبي الله، اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المستشار مؤتمن، خُذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوصِ به معروفًا)، فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته، فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يبعث نبيًّا ولا خليفة إلا وله بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تَألوه خبالًا، ومَن يُوقَ بطانة السوء، فقد وُقِي). * هذه القصة وهذا الحدث الكريم فيه دلائل وفوائد وعِبَر، من أبرزها ما كان من هذه الحفاوة من أبي بكر رضي الله عنه، ثم من أبي الهيثم، تأملوا قول أبي بكر رضي الله عنه: (خرجت ألقى رسول الله، وأنظر في وجهه والتسليم عليه)، الله أكبر، إنه الشوق الذي حمله على أن يتطلب لقاء النبي الكريم، يخرج من داره لعله يصادف رسول الله، لا يريد أن يذهب إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ليس وقت زيارة، ولكنه يعلل نفسه ويُمنيها، لعله ينال هذه الحظوة الكريمة، وكان الأمر كذلك، فلقِي النبي صلى الله عليه وسلم، تأملوا قوله: (أنظر في وجهه والتسليم عليه)، قال: خرجت ألقى رسول الله، وأنظر في وجهه والتسليم عليه؛ يعني: أتطلب السلام عليه، إنه الشوق العظيم. * وتأمَّلوا أيضًا ما كان من أبي الهيثم، كيف كانت حفاوته؟ حتى إنك وأنت تسمع هذا السياق، لكأنما يرتفع عن الأرض فرحًا وشوقًا، كأنما يريد أن ي*** مع شاته، وكأنما وهو يقطع عِذق النخل، يكاد أن يقطع نياط قلبه فرحًا وشوقًا بهذا النبي الكريم. * ثم في قول أبي هريرة رضي الله عنه: لم يلبث أن جاء عمر، فقال: (ما جاء بك يا عمر؟)، قال: الجوع يا رسول الله، كان من الأمور العجيبة تلك الموافقات التي تكون للشيخين رضي الله عنهما أبي بكر وعمر، فكثيرًا ما كانا يتوافقان مع النبي الكريم، فهما وزيرا الصدق وخليفتا الرشد رضي الله عنهما وأرضاهما، ولذلك كانا مما يعلمه الصحابة تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لهما، ولذلك كانوا يسمعونه يقول: (ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر)، فهما القول المنطوق على لسانه في كثير من أحواله؛ ثناءً عليهما، وتعظيمًا لجنابهما. * وفي قول عمر رضي الله عنه: (أخرجني الجوع)، وفي رواية مسلم قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: (ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟)، قالا: (الجوع يا رسول الله)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا قد وجدت بعض ذلك)؛ أي: وجدت بعض هذا الجوع، وفي رواية مسلم قال: (وأنا والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما). * تأملوا أيها الإخوة أفضل الخلق وأشرفهم وأكرمهم عند الله، يمر عليه مثل هذه الحال، هل مر بك يا عبد الله أن خرجت من دارك يومًا جائعًا، لا تجد في دارك شيئًا من طعام تسد به رَمقك؟ إن هذا نادر، وخصوصًا في بلادنا، بما فتح الله عليها من الخيرات ولله الحمد والمنة. * وقد كان لنبينا عليه الصلاة والسلام مثل هذه المواقف، وهذا يدل كما يقول الإمام النووي رحمه الله على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه من التقلل من الدنيا، وما ابتُلوا به من الجوع وضيق العيش في بعض أوقات حياتهم؛ ولذلك لا يصح أبدًا أن تكون الدنيا ووفرة متاعها، وكثرة أموالها - علامة على السعادة والرضا، فلو كانت كذلك، لكان أحق الناس بكثرة متاعها هو سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي قال له جبرائيل عليه السلام: (إن الله أمرني إن شئت أن أُسيِّر الجبال لك ذهبًا، وأمرني ربي أن أُوحي إليك إن شئت أن تعيش ملكًا نبيًّا أو عبدًا نبيًّا)، أو كما صح في الحديث، ولكنه عليه الصلاة والسلام اختار عيشة الزهد والتقلل من الدنيا، وهو القائل: (ما لي وللدنيا؛ إنما أنا ****ب استظل بظل شجرة، ثم راح وتركها). * قال بعض العلماء: في حديث رسول الله وأبي بكر وعمر عن الجوع، وأنه هو الذي أخرجهم من دورهم - ما يدل على جواز أن يذكر الإنسان في بعض الأحيان ما يلم به من أحوال عارضة ضيقة، وهذا ليس على سبيل التشكي وعدم الرضا، ولكن على سبيل التسلية والتصبُّر؛ كما فعل عليه الصلاة والسلام، فإنه لَمَّا سمع من أبي بكر وعمر ما حلَّ بهما من الجوع، قال: (وأنا كذلك)، وهو يُشعرهم بهذا أن هذه الحال مما يجب معها الصبر والشكوى لله جل وعلا، دون تبرُّمٍ ولا تسخُّط من قضائه جل وعلا. * وفي قول أبي هريرة رضي الله عنه: إنهم - أي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأبو بكر وعمر - انطلقوا إلى منزل أبي الهيثم، وهو مالك ابن التَّيِّهان رضي الله عنه، ما يدل على فضل هذا الصحابي، فله منقبة كريمة؛ إذ توجَّه إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وينبغي أن تدرك يا عبد الله أنه إذا كان لك أخ أو صديق أو جار، خصَّك بسرٍّ من أسراره، فعرض عليك ما ألَمَّ به من الحاجة، فينبغي أن تكون على قدر المروءة، وأن تقوم بما تستطيع نحو أخيك. * وفي قول أبي هريرة رضي الله عنه: قالوا لامرأته - لامرأة أبي الهيثم بن التيِّهان رضي الله عنه -: أين صاحبك؟ وفي رواية مسلم: لَمَّا رأته المرأة - رأت رسول الله - قالت: مرحبًا وأهلاً، فتأملوا هذا الحب الذي تواصى به أهل المدينة؛ رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا. أهلًا ومرحبًا، فهم أعظم أهل الأرض شرفًا بحضور سيد الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم. * وفي قول أبي هريرة رضي الله عنه عن أبي الهيثم: إنه لَمَّا رجع التزم رسول الله؛ أي: ضمه إلى نفسه وعانَقه، وذلك لحبه وشرفه وفرحه لهذا الزائر العظيم. * وأيضًا في قول أبي هريرة: يُفدِّيه بأبيه وأمه، يقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله، فالوالدان - وهما أغلى الناس عند الإنسان - فداء رسول الله، فداء راحته، فداء خاطره، فداؤه في كل شيء عليه الصلاة والسلام. * وإذا تأمَّل الإنسان هذه الحال التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم، من هذا الحب العظيم والفداء الجليل لسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ما يكون من بعض المسلمين في أزمنتنا المتأخرة، من استهانة بمقام النبوة، وعدم حفاوة بالجناب الشريف - يدرك كم حصل من ضَعف في الإيمان، وإلا فهل يتصور من مسلم أن يستهزئ بجناب النبي عليه الصلاة والسلام، أو يستهزئ بسنته، أو يُحكم عقله فيما جاء عن رسول الله؟ كل ذلك ضلال وعلامة على الخِذلان، ودليل على إهانة الله لمن كانت هذه حاله، ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾ [الحج: 18]. * فليس أحد أشقى ولا أذل ولا أحقر ممن يحاد الله ورسوله، أو يتقلل من جناب النبي عليه الصلاة والسلام، ألم يقل رب العزة سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ﴾ [المجادلة: 20]، فلو كانوا ما كانوا في مناصبهم وأموالهم، أو عراقة أنسابهم، أو كثرة أعراضهم في الدنيا، فليسوا بشيء، فَهُمْ أحقر الخلق مهما تصنَّعوا من العز والرِّفعة وغير ذلك؛ لأنه قد حكَم ربُّنا، وحكمه الحق العدل النافذ: ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾ [الحج: 18]. * وصورة أخرى من صورة حفاوة هذا الصحابي، فإنه جاء إليهم بقِنو - وهو عِذق النخل - وقد امتلأ بالرطب والتمر، وفي رواية عند الإمام مسلم: جاءهم بعِذق فيه بُسر وتمر ورُطَب، فهو رضي الله عنه مع أنهم ثلاثة ضيوف لم يكتف بأن ينتقي من هذا العِذق، وإنما أتى به كاملًا؛ قال الإمام النووي رحمه الله: "فيه دليل على استحباب تقديم الفاكهة على الخبز واللحم وغيرهما، وفيه أيضًا استحباب المبادرة إلى الضيف بما تيسَّر من إكرامه، وذلك بتقديم الطعام وصُنعه له، ولذلك كانت هذه الخصلة - وهي إكرام الضيف - منقبة إنسانية تتوارثها الإنسانية، وعظَّمها دين الإسلام، وقال عليه الصلاة والسلام: (مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُكرم ضيفَه). * ولذلك فإن من دلائل مُروءة الإنسان: حفاوته بضيفه وإكرامه له، وعدم ادِّخار شيء يُظهر كرامته، وما أحسن ما قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله في شأن خليل الرحمن إبراهيم: إنه عليه الصلاة والسلام جاد بنفسه للرحمن، وبولده للقربان، وبماله للضيفان، فاجتمع على محبته أهل الأديان. * والنبي عليه الصلاة والسلام يُقابل هذه الحفاوة، وهذا الكرم الشديد من أبي الهيثم رضي الله عنه، فيقول: (لِمَ تُحضر العِذق كله؟ أفلا تنقيت لنا من رطبه؟)؛ يعني: لعلك قد اخترتَ شيئًا، ولا تقطعه بأكمله، وهذا من رِفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولُطفه. * وتأملوا جواب أبي الهيثم رضي الله عنه: إني أردت أن تختاروا أو تخيَّروا من رطبه وبُسره، فهو لا يدري ما الذي يُحبه الخاطر الشريف، هل يودُّ تمرًا أو بُسرًا أو رطبًا، أو غير ذلك، ولذا جاء بالعِذق كله ووضَعه بين يدي النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم. * ثم تأملوا أيضًا هذا اللطف من النبي عليه الصلاة والسلام، حينما قال أيضًا لَما رآه يريد أن يَ*** من الشاة: (لا ت*** ذات دَرٍّ)؛ يعني: لا ت*** شاة وهي على وشك حمل أو حامل، أو ذات ضرع، والمعنى أن يُبقيها حتى يتم التناسل، وإنما كان منه عليه الصلاة والسلام ذلك، كان منه ذلك على سبيل الإبقاء على مال أبي الهيثم الذي يودُّ لو أنه قدَّم و*** كل ما يَملِك من الشاة، واخترط كل ما في النخل من أعذاق، حتى يضعها بين يدي النبي الكريم. * ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أخذ صاحباه بُلغتهما من هذا الماء، ومن هذا التمر، وارتفع عنهما الجوع، قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده، هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة). * الله أكبر، تمر وماء بعد جوع شديد، نعيم نسأل عنه يوم القيامة: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8]، فكيف وأحوال أكثرنا - وبخاصة في بلادنا ولله الحمد والمنة - أنه يوشك أنْ لا يكون أحد ممن يُقيم على ظهرها أنه يبدأ طعامًا بعد جوع، وإنما هو على شِبَع ماضٍ، أو على بلغة ماضية؟! وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين! * وحقيق بالمسلم أن يَستشعر هذه النعم إذا كان هذا حال رسول الله، وقوله عليه الصلاة والسلام عن هذه النعمة التي نراها يسيرة - رطب وماء -: (والذي نفسي بيده، هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة)، قال بعض العلماء: إن الذين يقومون بشكر النعم يكون سؤالهم يوم القيامة سؤال امتنان من الرب جل وعلا، وذلك بتَعداد النعم عليهم؛ حتى يستحضروا هذا الفضل من الله، أما من لم يشكر فإن السؤال يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريع، ومحاسبة وجزاء. * وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (لا ت***ن ذات دَرٍّ)؛ أي: ذات لبن، وفي رواية مسلم: (إياك والحلوبَ)، هذا منه عليه الصلاة والسلام - كما تقدَّم - حفاظًا على استمرار واستدامة تناسُل هذه الشِّياه، ثم بادر هذا الصحابي الكريم إلى عناق أو جدي، ف***ها وقدَّمها شواءً بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه. * وهذا كله أيها الإخوة المؤمنون دالٌّ على هذه الحفاوة العظيمة، تأملوا حال هذا الصحابي، وهكذا كان الصحابة جميعًا حبًّا وإعظامًا وإجلالًا لسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، بل إن المدينة النبوية المنورة كلها كانت على هذا المنوال، حتى إن الأرض لتوشك أن تتناغم مع هذه المشاعر التي فاضت بها جوانح الصحابة رضي الله عنهم، أولم يحصل في مثل هذا اليوم، وفي مثل هذا المقام، يوم قام سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ليخطب على المنبر الجديد الذي صنعته إحدى الصحابيات، صنعت منبرًا بدل الذي كان يقوم عليه رسول الله، كان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخطب على جذع نخلة - قطعة منها - فبادرت رضي الله عنها وصنعت هذا المنبر ذي الدرجات الثلاث، فلما أُزيح هذا الجذع، وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، إذا بهذا الجذع يُسمع له مثلُ بكاء الصبي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يُسكِّنه، حتى لم يسمع منه هذا الصياح. * إن هذا ليدل على ما عندنا من التقصير في جناب نبينا صلى الله عليه وسلم، والذي يوجب علينا أن نراجع أنفسنا وحالنا في حبنا لرسول الله، وشوقنا له عليه الصلاة والسلام. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. * الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين. * أما بعدُ: ففي هذه الواقعة وما رآه النبي صلى الله عليه وآله سلم من حفاوة أبي الهيثم، وهو يذهب ويجيء ينقِّلهم من مكان إلى مكان في حديقته، ويختار لهم ما عنده من طعام، إذا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يلحظ أن أبا الهيثم ليس عنده أحد يخدمه، قال: (أليس عندك خادم)، قال: لا، فبادر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (فإذا جاءنا سبي، فأْتِنا)، فجِيء للنبي صلى الله عليه وسلم بَسْبي من السبي، جيء باثنين، فقال لأبي الهيثم: (اختر أحدهما)، ولا يزال أبو الهيثم على هذا التعظيم للنبي عليه الصلاة والسلام، فما كان يقدِّم رأيه واختياره على رسول الله، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (اختر لي يا رسول الله)، فقال النبي صلى الله عيه وسلم مقررًا أصلًا عظيمًا: (المستشار مُؤتمن)؛ معناه: أنه أمين على ما يصدر عنه، وأن هذه أمانة، فليستحضر مَن اسْتُشير أنه ينبغي أن ينطق بالصدق والعدل، وأيضًا أن يُصدقه مَن استشاره، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (خذ هذا؛ فإني رأيته يصلي)؛ قال العلماء: فيه دلالة على أنه يستدل على خيرية الإنسان بما يظهر عليه من آثار الصلاح، لا سيما الصلاة، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في مناسبة أخرى فيما يُروى عنه (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان). * وهذا يدلكم أيها الإخوة المؤمنون على خطأ بعض الناس حينما يريد أن يستعمل عاملًا، أو أن يستأجره، فيفضل غير المسلم، ويقول: إنه أفضل؛ لأنه لا ينقطع عن العمل، أو لأنه ينجز أكثر، والحق أن مَن كفر بالله، ولم يؤمن به، ولم يخلص لله، فلن يخلص لك، ولذلك كان هذا القياس الذي يقوله بعض الناس خاطئًا، فما مثل الصلاة علامة على صلاح الإنسان، وما عنده من الخير! * وبعد أيها الإخوة المؤمنون، فإن هذا الموقف الكريم الذي يدل على ما كان عند الصحابة رضي الله عنهم من الحفاوة بالنبي عليه الصلاة والسلام والحب له، إنه لدليل عظيم على ما ينبغي لنا من مراجعة أنفسنا وتربية أهلينا وأولادنا على حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعلِّموا أولادكم حب رسول الله، وعلِّموهم تعظيم سُنته، وعلِّموهم شمائله وصفاته؛ فإن الإنسان إذا أحب شيئًا أحب كل ما يتعلق به، أما إن كان معرضًا عنه، فإنه لن يحرص على معرفة أي شيء عنه، وهذا دليل ضَعف الإيمان. فنسأل الله الكريم أن يرزقنا حبَّ نبيه وحب سنته، وحبَّ دينه وحب طاعته، والاستقامة على ذلك، والثبات عليه إلى أن نلقاه جل وعلا! * اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين. اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رحمن. اللهم احفَظ علينا أمننا وطُمَأْنِينَتَنا وخيريَّتنا يا رب العالمين. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم دُلَّهم على كل خير، وأعِذْهم من كل شر، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأبْعِد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين. اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، ويسِّر لهم أمورهم يا ذا الجلال والإكرام. اللهم اغفِر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|