اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > الاقسام المميزة > مصر بين الماضى و الحاضر

مصر بين الماضى و الحاضر قسم يختص بالحضارة و التاريخ المصرى و الاسلامى

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 15-06-2015, 01:23 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي الحضارة العربيّة في الأندلس وأثرها في أوربا

الحضارة العربيّة في الأندلس وأثرها في أوربا



د. توفيق سلطان اليوزبكي





فكر العرب في تحرير أسبانيا بعد أن طردوا البيزنطيين من شمال أفريقيا، وكانت أسبانيا قبل الفتح قد ملكها الرومان حتى القرن الخامس للميلاد، ثم انقض الوندال والآلان والسويف، الذين هم من القبائل البربرية الجرمانية على أسبانيا، ولم يلبث القوط أن قهروهم واستولوا على أسبانيا في القرن السادس للميلاد وظلوا سادتها إلى أن جاء العرب. وقد اختلط القوط بالسكان الأسبان – الرومانيين، فاتخذوا اللاتينية لغة لهم، وتحولوا من الآريوسية إلى المذهب الكاثوليكي، وكان اختلاط القوط باللاتينيين قبل حركة التحرير العربي مقتصراً على علية القوم، وكان سكان البلاد الأصليون من الأرقاء، والذين كانوا مستعدين لقبول أي سلطان عليهم، كما أن التنافس على عرش أسبانيا أدى إلى نزاع سياسي اجتماعي، وفتن داخلية، وفقدان الروح العسكرية، وفتور عن الدفاع بين الأهلين المستعبدين، وكان من جراء ذلك تفرق الدولة القوطية وسهل للعرب تحرير أسبانيا[1].



ونتيجة للتعاون بين العرب والبربر بعد تحرير شمال أفريقية، دخل جيش مؤلف من اثني عشر ألف جندي بلاد أسبانيا في سنة 92هـ/ 711م وتم فتحها بقيادة طارق ابن زياد ثم القائد موسى بن نصير 93هـ/ 712م[2]، وقد وصفها القائد العربي في رسالة للخليفة الأموي أنها: (شامية في طيبها وهوائها يمنية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظم جباياتها، صينية في معادن جواهرها، عدنية في منافع سواحلها)[3].
وتميزت الفترة الأولى من تاريخ العرب في الأندلس بين 92- 138هـ/ 711- 756م والتي تسمى (عصر الولاة) بعدم الاستقرار وانشغال الولاة فيما بينهم بالمنازعات مما مهد لدخول عبدالرحمن الداخل الأموي (صقر قريش) بعد فراره من وجه العباسيين وأسس الدولة الأموية في الأندلس بعصريها (الأمارة والخلافة) والتي امتدت من سنة 138هـ - 422هـ/ 756- 1031م[4].
ولم يكن الفتح العربي لأسبانيا احتلالاً عسكرياً بل كان حدثاً حضارياً هاماً وحركة تحرير للشعوب الأسبانية فقد أمتزجت حضارة سابقة كالرومانية والقوطية مع حضارة جديدة هي الحضارة العربية الاسلامية، ونتج عن هذا المزج والصهر حضارة أندلسية مزدهرة أثرت في الحياة الأوربية وتركت آثاراً عميقة مازالت تتراءى مظاهرها بوضوح حتى اليوم.
وباستكمال حركة تحرير أسبانيا استقر العرب والبربر مع سكان البلاد، وكان للسلوك العربي الانساني أثر كبير في تآلف القلوب إذ لم يلبث العرب أن أنسوا إليهم وحصل التزاوج والمصاهرة بينهم[5] فنشأت طبقة اجتماعية جديدة هي طبقة المولدين التي هي خليط من دم أهل البلاد الأصليين ودم العرب والبربر، كما ظهرت طبقة جديدة أخرى هي طبقة المستعربين وهم الأسبان المسيحيون الذين ظلوا على ديانتهم المسيحية، ولكنهم تعربوا بعد دراسة اللغة العربية وآدابها وثقافتها[6] وأحسن العرب سياسة سكان أسبانيا، فقد تركوا لهم كنائسهم وقوانينهم وأموالهم وحتى المقاضاة إلى قضاة منهم، ولم يفرضوا عليهم سوى جزية سنوية صغيرة، ولم يبق للعرب إلا أن يقاتلوا الطبقة الأرستقراطية المالكة للأرضين[7].
وحرص العرب على الوفاء بعهودهم لأهل الذمة حتى في الحالات التي كان يبدو للمسلمين أنهم خدعوا فيها، وقد وفى العرب رغم ذلك فقال الرازي: (فمضوا (العرب) على الوفاء لهم وكان الوفاء عادتهم)[8].
والحقيقة أن العرب الأولين كانوا يجرون على تسامح كريم صادر عن إيمان العرب برسالتهم الانسانية التي كان لها أثرها الكبير في اجتذاب أهل الذمة إلى الاسلام واقناعهم بعدالة الدولة العربية، وهذا هو السر في إقبال أهل الذمة على الدخول بأعداد كبيرة في الاسلام، وأدى ذلك إلى دخول كثير من الكلمات الاسلامية واستعمالها بألفاظها العربية من قبل سكان الأندلس مثل كلمة الله Alah ، القرآن Alcoran ، الحديث Hadith ، الاسلام Alislam، الفتوة Alfatea، رمضان Ramadan، السنة Alsonna، السلام عليك Al-salamalec، سورة Saurate، مؤذن Muezzin، رب Rab، بركة Baraka، ابليس Elb'is، جن Djiun، حرام Haramu، زكاة Zekkat، هجرة Hegira، طلسم Talisema، وقف Wakouf، خراج Carath[9].
لقد أثر العرب في أخلاق الشعوب النصرانية فقد علموهم التسامح الذي هو أثمن صفات الانسان، وبلغ حلم عرب الأندلس نحو الأهلين مبلغاً كانوا يسمحون لأساقفتهم أن يعقدوا مؤتمراتهم الدينية كمؤتمر أشبيلية الذي عقد سنة 782م، ومؤتمر قرطبة الذي عقد سنة 852م، وتعد كنائس النصارى الكثيرة التي بنوها أيام الحكم العربي من الأدلة على احترام العرب لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانهم، فغدا اليهود والنصارى مساوين للمسلمين قادرين مثلهم على تقلد مناصب الدولة[10].
وفي مثل هذا الجو من التسامح أصاب البلاد الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي بحيث أصبحت الأندلس أكبر قوة سياسية في المنطقة، وعلى الرغم من هذا التسامح العظيم، فقد ظهر فرق واضح بين هذه السياسة المتسامحة، وبين سياسة الاضطهاد الأعمى الذي وقع على المسلمين بعد سقوط الأندلس، حيث *** نصارى الأندلس أعداداً كبيرة من المسلمين، وحتى أنهم رفضوا تنصر من تنصر منهم لعدم الثقة بهم وبنواياهم[11]. ولم يكد العرب يتمون تحرير أسبانيا حتى بدأوا بتطبيق رسالتهم الانسانية في الحضارة فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحيوا ميت الأرضين، ويعمروا خراب المدن ويقيموا أفخم المباني، ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، وشرعوا بدراسة العلوم والآداب وترجمة كتب اليونان واللاتين، وإنشاء الجامعات التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوربا زمناً طويلاً، وأخذت حضارة العرب تنهض في الأندلس منذ ارتقاء عبدالرحمن الأول العرش، أي منذ انفصالها عن الشرق سياسياً باعلان إمارة قرطبة سنة 138هـ/ 756م فغدت الأندلس أرقى دول العالم حضارة مدة ثلاثة قرون[12].
امتازت حضارة العرب في الأندلس بميلها الشديد إلى العناية بالآداب والعلوم والفنون، فأنشأوا المدارس والمكتبات في كل ناحية وترجموا الكتب المختلفة، ودرسوا العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية والكيمياوية والطبية بنجاح ولم يكن نشاطهم في الصناعة والتجارة أقل من ذلك، فكانوا يصدرون منتجات المناجم ومعامل الأسلحة، ومصانع النسائج، والجلود والسكر وبرعوا في الزراعة براعتهم في العلوم والصناعات، ولا يوجد في الأندلس من أعمال الري خلا ما أتمه العرب، وأدخلوا إلى حقول الأندلس زراعة قصب السكر والأرز والقطن والموز[13].
وأكثروا من انشاء الطرق والجسور والفنادق والمشاتي والمساجد في كل مكان، وكانت البحرية العربية في الأندلس قوية جداً، وبفضلها كانت تتم صلات العرب التجارية بجميع مرافئ أوربا وأفريقيا وآسيا، وظل العرب وحدهم سادة البحر المتوسط زمناً طويلاً[14]. فانشأوا أسطولاً ضخماً لمواجهة قوة الأسطول البيزنطي، ولضمان أمن السواحل العربية من هجماتهم، كما اتخذوا من بعض جزره القريبة من السواحل العربية مراكز بحرية للأسطول العربي، منها كريت وصقلية، ومالطة، وجزر البليار، وجزر قبرص وسردينية، فكانت قبرص تحمي شواطئ سوريا، وكريت تحمي شواطئ مصر، كما تحمي صقلية شمال أفريقيا، وتحمي جزر البليار الأندلس، فأصبحت الشواطئ العربية في أواخر القرن التاسع للميلاد في مأمن من أي غزو بيزنطي[15] فازدهرت التجارة مما أدى إلى إزدهار الحياة الاقتصادية والاجتماعية وتمكين العرب في الأندلس من الاتصال بالعالم الخارجي.
فالحضارة العربية في الأندلس مرت بأدوار، وخضعت لمؤثرات حضارية منها ما ترجع أصولها إلى الأم (الحضارة العربية في المشرق) كما خضعت أيضاً لمؤثرات حضارية محلية بحكم البيئة التي نشأت فيها وبدرجة محدودة.
فالنظم السياسية والادارية والعسكرية والمالية كانت صدى للنظم القائمة في العراق والشام، فأقاموا نظام الأمارة ثم الخلافة على غرار النظم العربية في المشرق، كما استحدثوا نظام الوزارة والدواوين كتلك التي كانت سائدة أيام الخلافة العباسية في بغداد، لكنهم طوروا في هذه المناصب، وخاصة الوزارة، حيث أصبحت متعددة المناصب ولها رئيس وزراء وهو الحاجب. كما عرف الأندلس نظام الأجناد أو (الكور المجندة) التي ينزلها الجند ويقابلها الثغور، يحكمها قائد عسكري، فنزل جند دمشق في كورة البيرة، وجند حمص في كورة أشبيلية وجند الأردن في كورة مالطة، وجند قنسرين في كورة باجة، وبعضهم بكورة ندمير، فهذه منازل العرب الشاميين، وبقي العرب والبربر والبلديون شركاءهم)[16].
وتحدث الجغرافي العربي المقدسي: عن التقسيمات الادارية في الأندلس فقال: إن في الأندلس ثماني عشرة كورة أورستاق كما في الشرق[17]. وهذه التقسيمات الادارية تنطبق على تعريف ياقوت للكورة والرستاق[18].
كما نقل عرب الأندلس من المشرق العربي نظام الوزارة وطوروه وقسموا خطتها أصنافاً وأفردوا لكل صنف وزيراً، فجعلوا لحسبان المال وزيراً، وللترسيل وزيراً، وللنظر في أحوال الثغور وزيراً، وهذا التعدد في مناصب الوزراء لا نجده في نظام الوزارة في المشرق العربي حيث كانت السلطة مركزة في يد وزير واحد لها رئيس وزراء وهو الحاجب الذي يتصل بالخليفة مباشرة[19].
وبعد سقوط الدولة العربية الأموية، وقيام الدولة العباسية قام العباسيون بمطاردة الأمويين فاستطاع الأمير عبدالرحمن الأموي الدخول إلى الأندلس ولقب (بالداخل) وأعاد تأسيس الدولة الأموية في الأندلس، فعادت قرطبة تأخذ مكانتها بين عواصم العالم المتحضر آنذاك في مجال السياسة والثقافة والعمارة وجميع مظاهر الحياة الحضارية، وصارت مقر الخلافة، وموطن أهل العلم والأدب، فقد عمل الأمراء الأمويون في الأندلس على تشجيع العلوم العربية، ونقلوها معهم من المشرق العربي وكان لها أثرها الكبير في النهضة الأوربية.
وقد ترك الوجود العربي في الأندلس طابعه في مختلف مجالات الحياة ففي الادارة نجد كلمات في اللغات الأوربية بألفاظها وأصولها العربية مثل خليفة Calife، أمير Emir، والي Vali، وزير Visir، رئيس Reis، القاضي Alcaede، المحتسب Almotocie، الحاجب Alhaque، صاحب المدينة Falmedina، صاحب السوق Fabasouquae[20]، ديوان Diuan، ولاية Vilaget[21].
كما انتقلت كثير من الكلمات والألفاظ العسكرية في الأندلس إلى أوربا مثل: القائد Alcaide، أمير البحر Adbuirate، الدليل Aldalil، الطلائع Alataya، القارة A. Igurdde، الطائفة Aceifa، العرض Alarde، الرباط Rabate، نفير Anafir، الفارس Alfaroz، الدرقة Aldorgu[22]، بارود Baroud، طرادة Tarffe، جيش Djech، غزوة Rozzia، مرابط Marabout، حراثة Caraque[23].
اهتم عبدالرحمن الداخل بتنظيم قرطبة لتتلاءم وعظمة الدولة فجدد معانيها وشد مبانيها وحصنها بالسور، وابتنى قصر الأمارة، والمسجد الجامع ووسع فناءه، ثم ابتنى مدينة الرصافة[24] وفق فن العمارة الاسلامية في الشام سواء في زخارفها المعمارية أم في بعض عناصر بنائها، وفي نظام عقودها، كما بنى قصر الرصافة ونقل إلى مدينته غرائب الفرس وأكارم الثمر، فانتشرت إلى سائر أنحاء الأندلس[25].
وكان جامع قرطبة في غاية العظمة في بنائه وهندسته وأصبح أعظم جامعة عربية في أوربا في العصر الوسيط، فكان البابا سلفستر الثاني قد تعلم في هذا الجامع يوم كان راهباً كما أن كثيراً من نصارى الأندلس كانوا يتلقون علومهم العليا فيه، واستأثر المسجد في الأندلس بتدريس علوم الشريعة واللغة إضافة إلى العلوم الأخرى[26].
وأسس العرب في الأندلس الكتاتيب لتعليم الصبيان اللغة العربية وآدابها ومبادئ الدين الاسلامي، على غرار نظام الكتاتيب في المشرق العربي واتخذوا المؤدبين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين اللغة العربية ومبادئ الاسلام[27].
أما المناهج الدراسية في الأندلس فقد أشار إليها ابن خلدون بقوله:
(وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتابة وجعلوه أصلاً في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم الولدان رواية الشعر، والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها، وتجربة الخط والكتابة... إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شد بعض الشيء في العربية والشعر وأبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة[28].
واهتم خلفاء بني أمية في الأندلس بتأسيس المكتبات فنقلت من كتب الشرق العربي الشيء الكثير من الكتب وشارك الرحالة من الأندلسيين في ذلك وقام العلماء وطلاب العرب في نقل الكتب وأقبلوا على ترجمتها في مختلف صنوف العلم والمعرفة فيذكر ابن جلجل: أن الكتب الطبية دخلت من المشرق وجميع العلوم على عهد الخليفة الناصر سنة 300هـ- 350هـ[29]. وأنشأ المستنصر بالله 350- 366هـ/ 961- 976 مكتبة عظيمة فقد كان عالماً منصرفاً إلى العلم والقراءة واقتناء الكتب النادرة من بغداد ودمشق والقاهرة، وأنشأ مكتبة تحوي على ما يربو على 400 ألف مصنف في شتى العلوم والفنون، كما أنشأ داراً لنسخ الكتب وأودعها بمدينة الزهراء[30].
كما ألف الأندلسيون في علوم القرآن والحديث والفقه، وفي القضاء واللغة وآدابها وعلومها والمعاجم والتراجم، والتاريخ والسيرة والجغرافية، وألفوا في علوم الطب والحساب والهندسة والفلك والكيمياء والمنطق والفلاحة والملل والنحل، وفي الفلسفة والموسيقى، بحيث لم يتركوا حقلاً من حقول العلم والمعرفة إلا طرقوها[31]. وقد برز جملة من العلماء نذكرهم على سبيل المثال لا الحصر منهم عبدالملك بن حبيب السلمي (ت238هـ) ألف كتابه الموسوم (التاريخ) مخطوط ومحفوظ في مكتبة البودليانا في أكسفورد تناول فيه تاريخ العالم من بدء الخليقة حتى فتح الأندلس وإلى عصره هو[32]. والعالم اللغوي أبا علي القالي الذي وفد على الأندلس في أيام عبدالرحمن الناصر سنة 330هـ وأصله من العراق، ومن أهم أعماله كتاب (الأمالي) وهو عبارة عن محاضرات أملاها على تلاميذه الأندلسيين في مسجد قرطبة، ويتضمن فصولاً عن العرب ولغتهم وشعرهم وأدبهم وتاريخهم وألف أبو بكر محمد المعروف بابن القوطية (ت367هـ) كتاباً في تاريخ الأندلس أسماه (تاريخ افتتاح الأندلس) نشره المستشرق الأسباني جوليان رايبيرا سنة 1868م، وله كتاب في النحو يعرف بكتاب الأفعال[33] ومن شيوخ ذلك العصر العالم المغربي محمد بن حارث الخشني (ت361هـ) الذي ألف كتاب (القضاة بقرطبة) تناول فيه الحياة الاجتماعية في الأندلس نشره المستشرق الأسباني ريبيرا[34] وألف ابن حزم العديد من الكتب في أنساب العرب، وفي علماء الأندلس، وفي تاريخ الأديان وأبرز ما ألف في هذا المجال هو كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل)[35].
ومما ساعد على انتشار الكتب وازدهار الحياة العلمية انتشار صناعة الوراقة في الأندلس حيث تولى الوراقون نسخ ما يظهر من مؤلفات، كما اشتهرت الأندلس بمصانع الورق، وتميزت بهذا الانتاج بعض المدن مثل غرناطة وبلنسية وطليطلة، وشاطبة، وقد حاز مصنع شاطبة شهرة واسعة في صناعة الورق الجيد[36]. وقد نقلها عرب الأندلس من بغداد التي أنشئت عام 794م كما انتقلت منها بواسطة عرب صقلية والأندلس إلى أوربا[37].
واتجه أهل الأندلس الذين اعتنقوا الاسلام خاصة إلى تعلم العربية وإلى إقبالهم على تعلم العلوم الاسلامية، واتسع بمرور الزمن عدد الداخلين في الاسلام وأخذ طلاب العلم يرتحلون بشكل خاص إلى الجامعات العربية في الأندلس والاختلاط بالسكان مما ساعد على انتشار اللغة العربية، ونتج عن ذلك ظهور لغة عربية عامية دخلتها بعض الكلمات الأسبانية[38] كما نتج عن انتشار اللغة العربية بين الأندلسيين اختراع فن شعبي أندلسي جديد، هو فن (الموشحات) ويقال: إن مخترع هذا الفن رجل ضرير من بلدة قبره Cabra بجوار قرطبة اسمه مقدم بن معافى القبري الذي عاش في أواخر القرن الثالث للهجرة التاسع للميلاد ويعتبر هذا الفن الجديد ثورة في الشعر العربي، وإذا كان المشرق العربي قد أعطى مغربه فن القصيدة الشعرية، فإن المغرب العربي، وأعني الأندلس، قد أعطى المشرق العربي فن (الموشح) ويلاحظ في الموشح أنه لم يلتزم بنظام القوافي الموحد كالقصيدة الشعرية، وإنما اشتمل على قوافي متعددة كذلك لم تكن وحدة البيت الشعري، وإنما المقطوعة الشعرية التي تتكون من غصن وقفل، ويسمى القفل الأخير بالخرجة، والتي تكون باللغة العامية الدارجة، ولم يلبث هذا الفن الجديد أن انتشر في المغرب والمشرق، وتفنن الشعراء في صياغته حتى صارت الموشحة كالقصيدة الشعرية واستخدمه الصوفية في مدائحهم وأذكارهم[39].
وقد أثرت الأغنية الشعبية العربية في الشعر الأوربي باسم الشعر البروفنسي الذي كان ينشده المتروبادور أي (المغنون المتجولون) في جنوب فرنسا وايطاليا وأسبانيا وغيرها من البلدان الأوربية، واستحدثوا فناً آخر سموه (الزجل) وجاءوا فيه بالغرائب، وهذه الطريقة الزجلية هي فن العامة بالأندلس، وهم ينظمونه في سائر البحور للخمسة عشر بالعامية[40].
وكان كبار العلماء والأدباء والشعراء يلتقون في قصور الخلفاء والأمراء في الأندلس فكانت بمثابة منتديات زاهرة، ومجامع للعلوم والآداب والفنون[41].
ولمع فحول الشعراء والأدباء العرب في الأندلس كابن عبد ربه وابن حزم وابن زيدون وابن خفاجة وكانت النتيجة من إزدهار الحياة الأدبية أن انتشرت اللغة العربية والثقافة العربية والعادات والتقاليد العربية الاسلامية في أوربا وقد زخرت الألفاظ العربية في اللغة الأسبانية والقونية والفرنسية[42] حيث أقبل أهل الذمة من الأندلسيين على تعلم العربية ويبدو أن الاستعراب كان قد سبق الاسلام، فقد اختلط أهل الذمة بالمسلمين، وأخذوا لغتهم وأسلوبهم في الحياة، وأقبلوا بصورة تدريجية على الاسلام وأظهروا تفوقاً في العربية بل تفوق منهم في الفقه فذكر ابن الفرضي (أنه كان من مسالمة أهل الذمة من ملأ أشبيلية علماً وبلاغة ولساناً حتى شرفت به العرب)[43] وقد أثار اقبال المسيحيين على الثقافة العربية حسد القساوسة ورجال الدين الذين كانت لهم أديرة وكنائس في شتى أنحاء الأندلس فأخذوا يعيبون على الشباب المسيحي اقباله على قراءة اللغة العربية وتركه اللغة اللاتينية[44].
واشتهرت الأندلس بالمنشآت المعمارية العظيمة، ويعد جامع قرطبة الذي بني في القرن الثاني للهجرة/ الثامن للميلاد، وبعض المباني في طليطلة من آثار الدور الأول لفن العمارة العربي في الأندلس، كما تعد منارة أشبيلية (لعبة الهواء) التي أنشأها الموحدون في القرن السادس للهجرة/ الثاني عشر للميلاد والقصر الأشبيلي من آثار الدور الوسيط لفن العمارة العربي، كما يعد قصر الحمراء في غرناطة الذي شيد في القرن الثامن للهجرة/ الرابع عشر للميلاد عنواناً لما انتهى إليه فن العمارة العربي ويرى لوبون أنها تدل باختلاف طرزهما على أصالتها العربية[45].
ومن مباني العرب العظيمة في الأندلس مدينة الزهراء التي شيدها عبدالرحمن الناصر على بعد ثمانية كيلومترات شمال غرب قرطبة على سفح جبل العروس ومازالت تحتفظ باسمها العربي في اللغة الأسبانية، وبنى فيها قصره المشهور بقصر الحمراء[46]. وظهرت فيه عظمة فن الهندسة عند العرب، وفن الزخرفة والنقوش والنحت، وقد وصفها الأدريسي بقوله: وهي (الزهراء) مدينة عظيمة مدرجة البنية، مدينة فوق مدينة، وفيها قصور يقصر الوصف عن صفاتها[47].
ويروى ابن عذاري: أن أعمدة الرخام في الزهراء بلغت حوالي 4313 سارية جلبت من قرطاجة وتونس والقسطنطينية وما وجد في أسبانيا[48]. ومن المباني التي تركها العرب في أسبانيا جامع قرطبة الشهير الذي بدأ بانشائه عبدالرحمن سنة 164هـ/ 780م، وهو من أجمل المباني العربية في أسبانيا، وكان يفوق جميع مساجد ومعابد الشرق قاطبة بعظمته وروعته، ولا يزال جامع قرطبة من المباني المهمة مع ما أصيب من التلف وما فقد من الأشياء الثمينة فيه[49].
والمستطلع إلى المباني العربية في طليطلة يرى مدى التأثير الحضاري العربي في الأمم التي حلت محلهم، فمدينة طليطلة القديمة لا تزال تحيط بها أبراجها وحصونها وأبوابها أشهرها (باب شفره) و(باب الشمس) والمباني العربية في أشبيلية عظيمة تناظر مثيلاتها في مدن الأندلس[50] وكلها تدل على أصالتها العربية. واستعملت الكثير من الألفاظ أو التسميات العربية في مجال العمارة في الأندلس وأوربا مثل البناء Albaenie، الربض Arrba، الحوز Alhoz، السطحية (السطح) Azatea، القبة (غرفة النوم) Aleobe، الأسطوان (مدخل البيت) Fayuon، الطوب Adube، القصر Alcosar ، [51] مسجد Mosuqee، منبر Minbar، منارة Minaret، محراب Mihrab[52].
إن الحضارة العربية التي نشأت في الأندلس، وازدهرت لم تقف عند حدود الأندلس فاستمرت العلاقات الاقتصادية والثقافية والحضارية بين الأندلس وأوربا وبينها وبين الشرق وبيزنطة ولم تنقطع رغم وقوع حروب بحرية وبرية طويلة، فالتبادل التجاري بين أسبانيا العربية وبين الشرق وبيزنطة تظل مستمراً، وعن هذه الطرق انتقل التراث الحضاري العربي في العصور الوسطى إلى أوربا ولا يمكن إدراك أهمية شأن العرب في الغرب إلا بتصور حالة أوربا حينما أدخلوا الحضارة إليها فيقول لوبون: إذا رجعنا إلى القرن التاسع من الميلاد وما بعده، حيث كانت الحضارة الاسلامية في أسبانيا ساطعة جداً رأينا أن مراكز الثقافة في أوربا كانت أبراجاً يسكنها سنيورات متوحشون يفخرون بأنهم لا يقرأون، وإن أكثر الرجال معرفة كانوا من الرهبان المساكين الذين يقضون أوقاتهم في أديارهم ليكشطوا كتب الأقدمين بخشوع، ودامت همجية أوربا حتى القرن الحادي عشر حين ظهر فيها أناس رأوا أن يرفعوا أكفان الجهل الثقيل عنهم فولوا وجوههم شطر العرب الذين كانوا أئمة وحدهم، ولم تكن الحروب الصليبية سبباً في إدخال العلوم إلى أوربا كما يردد على العموم، وإنما دخلت العلوم أوربا من أسبانيا وصقلية وإيطاليا، وذلك أن مكتباً للمترجمين في طليطلة بدأ منذ سنة 1130م بنقل أهم كتب العرب إلى اللغة اللاتينية تحت رعاية رئيس الأساقفة ريمون، ولم يتوان الغرب في أمر هذه الترجمة[53] فقد تدفقت العلوم العربية على أوربا من خلال الأندلس بعد أن فتح العرب الطريق عبر جبال البرت إلى فرنسا وإيطاليا، حيث عبر العلم والفلسفة العربيان من خلال رأس الجسر الثقافي الذي أقيم في شبه جزيرة ايبريا إلى أوربا[54] وظهر التأثير العربي في فن العمارة في الأندلس وأوربا، فكان الطراز السائد قبل تحرير أسبانيا هو الطراز القوطي، ولكن أقيمت في الأندلس في القرن الثالث عشر والرابع عشر المدن والمساجد والقصور على الطرز العربية مما يدفعنا على الاقرار أن الغرب اقتبس أصول فن عمارته من العرب، إذ ليس هناك من مشابهة بين الطراز العربي والطراز القوطي وإن تأثير فن العمارة العربية واضح في كثير من الكنائس الفرنسية ككنيسة مدينة (ماغلون) 1178م، التي كانت ذات صلات بالشرق، وكنيسة (كانده) وكنيسة (غاماش)... إلخ، وألمح مسيو شارل بلان إلى ما اقتبسه الأوروبيون من العرب في فن العمارة بقوله: أرى من غير مبالغة فيما لأمة من التأثير في أمة وذلك خلافاً لما يسار عليه اليوم أن الصليبيين الذين شاهدوا ما اشتمل عليه الفن العربي من المشربيات، وشرفة المآذن، والأخاريز أدخلوا إلى فرنسا المراقب والجواسق والأبراج والأطناف والسياجات التي استخدمت كثيراً في العمارات المدنية والحربية في القرون الوسطى[55].
لقد كان للاستقرار السياسي والاجتماعي، والرفاء الاقتصادي والتقدم العلمي والعمراني أثره الكبير في نشاط وازدهار التجارة في الأندلس، وأدى الاتصال التجاري بين الشرق والغرب وبين الأندلس وأوربا إلى دخول مفردات وألفاظ عربية كثيرة وأسماء منتجات وسلع تجارية ومكاييل ومقاييس وأوزان وعملات كانت تستعمل في التجارة إلى اللغة الفرنسية واللغات الأوربية مثل السوق Souk، ميناء Cabar، فنار F****، سمسار Cemcal، دكان Dogana، الديوان (الكمرك) Aduoma، مخزن Magozzia، معرفة (شركة تجارية) Maond، مخاطرة Moatra، التعريفة Tarifa، المناداة (المزايدة) Almoneda، ومن الألفاظ الأخرى التي كانت تستعمل في التجارة العملات والمقاييس والمكاييل والأوزان مثل: دينار Dinar، درهم Adorme، السكة Ceea، قنطار Kantar، قيراط Corat، مثقال Molacal، عشر Achour، أردب Ardib، القفيز abis، المد Almud، الرطل Arreelde، الربعة Arraba[56].
وعلى الرغم من وجود عدد هائل من الكلمات العربية في اللغة الانكليزية واللغات الأوربية الأخرى في مجالات العلوم المختلفة، إلا أننا نرى أن عدد هذه الكلمات في العلوم الرياضية قليل جداً، ولا يعني هذا أن العرب لم يؤثروا كثيراً على أوربا في مجال العلوم الرياضية ولكن العكس صحيح، إلا أن معظم الكتابة في هذه العلوم يعتمد على الرموز والأحرف بالاضافة إلى أن الأرقام الأوربية الحالية مأخوذة أصلاً عن طريق العرب ومازالت تسمى بالأرقام العربية ومثلاً على ذلك: الجبر Algebra، الخوارزمي (المقصود به الحساب) Algursime، المقابلة Almohabel، المجسطي Cipher، الصفر Cipher ، [57] وكلمة الصفر العربية تدل على انتقال طريقة الحساب العربي واستعمالها من قبل الأوربيين.
وازدهر علم الهيئة (الفلك) عند العرب في الأندلس لحاجتهم إليه في تحديد القبلة وتعيين أوقات الصلاة، وقد تطور هذا العلم إلى دراسة حركات النجوم، وظهور حركة التنجيم، واخترعوا الساعات الشمسية لمعرفة الأوقات، فقد صنع عباس بن فرناس أول آلة (وهي نوع مبتكر من الساعات)[58].
ويبدو من مجرد النظر في المصطلحات الفلكية العديدة ذات الأصل العربي يدلنا على أن الغرب مدين لما قام به العرب من دراسات فلكية؛ لأن معظم هذه الأسماء قد تركت في الوقت الحاضر واستعيض عنها بأسماء غيرها ومن هذه الأسماء العذارىAdara ، السها Alcor، الجنب Algenib، الفكة Alphacca، الجبهة Algieba، عرش الجوزاء Arsh، بنات نعش Benatnasch، السرطان Cancer، الكلب الأكبر CamisMa,or، الكلب الأصغر Camis Minor، ذنب الدواجن Deneb Eldolphinas ، ذنب الجدي Deneb Elokab، ذنب العقاب Daneb Elkab، النصل Elnasl، الراعي التنين Etanin، فم الحوت Famu Lhout، رأس الأسد Res Al Asad، رأس الثعبان Res toban، سعد الملك Saod Al Melik، سعد السعود Saod Saoud، العذراء Virgo، الطائر Altair، قرن الثور Tauri، السموات amwet[59].
ولمس الأوربيون بشكل جلي الجهود العلمية البارزة التي بذلها عرب الأندلس في علم الكيمياء فوصلت إليهم ثروة كبيرة من المعرفة والحقائق، والتجارب والنظريات العلمية، فأخذ طلاب الغرب يقبلون على دراستها وترجمتها إلى لغاتهم فحفزت فيهم روح البحث والشغف باستقراء الحقائق وتتبعها، فزاد اطلاعهم على هذا النتاج العلمي الخصب، واعتمدوا الأدلة والبراهين في قضايا العلوم الطبيعية، فبدأت أوربا بحوثها في هذا المجال على أساس واقعي سليم وبناء نظري منسق وكان ذلك بفضل الانطلاق العربي في البحث العلمي والابتكار.
وهذه ثمة كلمات عربية مستعملة في اللغات الأوربية في حقل الكيمياء تدل على جهود العرب في هذا العلم عند الغربيين[60] الكيمياء Alchemy، الكمل Alcuhal، زرنيخ Arsenic، بورق Barax، الاكسير Elixir، قرمز Kermes، كبريت Kibruit، الانبيق Linbick، نفط Naphta، عطر Attar، الزئبق Assoguc، قطران caudran، بنج Bang، سموم Simouim[61].
ولم يقتصر الأندلسيون على العلوم العملية بل كانت لهم دراسات في علوم أخرى كالفيزياء، وعلم العقاقير، والزراعة (علم الفلاحة) والذي أبدعوا فيه وصنفوا التصاميم المشهورة، مسجلين ما توصلت إليه تجاربهم في النباتات والتربة[62]، ويعد عباس بن فرناس القرطبي واحداً من عباقرة العرب المسلمين الذين استطاعوا تحقيق أروع الكشوفات في ميادين العلوم التجريبية وأن يمهدوا باكتشافاتهم العظيمة الطريق للأجيال اللاحقة من علماء العصر الحديث[63].

وللموضوع تتمة


رد مع اقتباس
 

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 01:44 PM.