|
التنمية البشرية يختص ببناء الانسان و توسيع قدراته التعليمية للارتقاء بنفسه و مجتمه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
التجديد الإداري والإبداع التعليمي
التجديد الإداري والإبداع التعليمي
فايز سعيد الزهراني في حلقات الإمام الرباني أبي الدرداء -رضي الله عنه- بجامع دمشق كان الاعتناء بنقل آليات العمل التربوي والإداري لتعليم القرآن قليلاً في عهد الصحابة وتابعيهم، ولعل ذلك يرجع والله أعلم لتركيز جهودهم على العمل ذاته ومتابعة أهداف العمل التعليمي، ولانعدام التصنيف في عهدهم. أمّا الروايات التي تعرضت لوصف حلقات أبي الدرداء -رضي الله عنه- فهي شحيحةٌ أيضاً. لكننا من خلال هذه الروايات القليلة جداً يمكننا أن نلتقط بعض الإشارات التي ستفيدنا في جانبين مهمين في إدارة العمل التعليمي والتربوي، هما: التجديد والإبداع. روى ابن إسحاق عن محمد بن كعب قال: "جمع القرآنَ خمسةٌ: معاذ وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأُبيّ وأبو أيوب. فلمّا كان زمان عمر كتب يزيدُ بن أبي سفيان: إن أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأعنّي برجال يعلمونهم. فدعا عمر الخمسة، فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا. فقالوا: ما كنّا لنستهم؛ هذا شيخ كبير لأبي أيوب، وأما هذا فسقيم لأُبيّ فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء. فقال عمر: ابدؤوا بحمص، فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يَلْقَن، فإذا رأيتم ذلك فوجِّهوا إليه طائفةً من الناس، فإذا رضيتم منهم فليُقِمْ بها واحدٌ، وليخرج واحدٌ إلى دمشق، والآخرُ إلى فلسطين. قال: فقَدِموا حمص فكانوا بها، حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادةُ بن الصامت، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذٌ إلى فلسطين، فمات في طاعون عمواس، ثم سار عبادة بعد إلى فلسطين، وبها مات. ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتى مات"[1]. مكث أبو الدرداء -رضي الله عنه- في دمشق خمسة عشر عاماً تقريباً يُقرئ الناسَ القرآن ويعلمهم أحكامه وآدابه، وابتكر فكرة حلقات تعليم القرآن الكريم[2]. وكان تلاميذه يزيدون يوماً بعد يوم حتى تجاوزوا الألف تلميذ، وكان منظرهم وهم يحيطون بأستاذهم في دخوله جامع دمشق وخروجه منه، يضاهي منظر السلطان ومعه أتباعه، إجلالاً وتوقيراً وحرصاً[3]. وتزايد عدد التلاميذ جداً، ففي دمشق كثير ممن يحرص على تعلّم القرآن الكريم، ووجودُ مقرئ كأبي الدرداء - رضي الله عنه - يُعدُّ غنيمةً يجب اقتناصها، فبلغ عدد التلاميذ ألفاً وستمائة وأزيد، يقول مسلم بن مشكم: "قال لي أبو الدرداء: اعْدُدْ مَن في مجلسنا. قال: فجاؤوا ألفاً وستمائة ونيفاً، فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة، فإذا صلى الصبح انفتل وقرأ جزءاً فيحدقون به يسمعون ألفاظه"[4]. وهذه الرواية من مسلم بن مشكم تصور لنا شيئاً من إدارة هذه الحلقات، فالتلاميذ ينخرطون في مجموعات، وكل مجموعة تضم عشرة من التلاميذ، وهذا يعني أن جامع دمشق يحتضن مائة وستين حلقة. كما أن أبا الدرداء يبدأ عمله من صلاة الفجر، حيث يبدأ بقراءة جزئه على مسْمع من التلاميذ بينما هم يحدقون به يستمعون ويتعلمون منه الأداء. سويد بن عبد العزيز له رواية تفيد في طريقة إدارة حلقات جامع دمشق، يقول: "كان أبو الدرداء إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريفاً، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفه، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك"[5]. هذه الرواية أفادت بأن أبا الدرداء - رضي الله عنه - يتابع سير الحلقات من مكان محدد هو المحراب، كما أفادت بوجود "العريف" على كل حلقة من التلاميذ، والعريف هنا هو القيّم والسيد على الحلقة يلي أمور التلاميذ ويتعرف الشيخ منه أحوالهم[6]. فهو يقوم مقام أبي الدرداء - رضي الله عنه - ويرجع إليه في تنظيم أمر الحلقة. كما تفيد رواية سويد بأن التلاميذ يقرؤون على "العريف" فيجيزهم إذا أجادوا، أو يصحح غلطهم، فإذا غلط العريف رجع إلى أبي الدرداء - رضي الله عنه - ليصحح له غلطه. وفي حين أجاز العريف التلميذ، فإن هذا التلميذ يجب عليه أن يعرض ما حفظه على أبي الدرداء - رضي الله عنه - ليجيزه إجازة نهائية[7]. وبهذا يصبح العريف مسؤولاً عن العشرة الذين يقرؤون عليه، إما يصحح أغلاطهم، أو يحيلهم إلى أبي الدرداء - رضي الله عنه - ليعرضوا عليه فيجيزهم. من الدروس الإدارية والتربوية في إدارة حلقات جامع دمشق أولاً: التنظيم الإداري: ويظهر في عدة جوانب، أهمها: الهيكل التنظيمي الهرمي لإدارة الحلقات. الروايات تفيد ترؤّسَ أبي الدرداء -رضي الله عنه- إدارة الحلقات، حيث المسؤولية الكاملة عن سيرها وعن التلاميذ الملتحقين بها. ويقع "العرفاء" في التنظيم الإداري لهذه الحلقات تحت رئيسهم، وهم التلاميذ النجباء، حيث يشرف الرئيسُ على أعمالهم، ويحمل عنهم ما لا يستطيعون حمله، وهم يقومون مقامه داخل الحلقات، ويبلغ عددهم تقريباً مائة وستين عريفاً. ثم يقع في قاعدة هذا العمل التلاميذ داخل حلقاتهم، بحيث ينتظم في كل حلقةٍ عشرةٌ من التلاميذ. ويتم التواصل الإداري وفق هذا التنظيم الإداري "فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفه، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك"[8]. الجانب الثاني: توزيع الأدوار: فهذا عبد الله بن عامر يوكِل إليه أبو الدرداء - رضي الله عنه - مَهَمّة الإقراء، بينما يوكِل إلى مسلم بن مشكم مهمة الإحصاء، والتلاميذ النجباء يوكل إليهم رئاسة الحلقات. الجانب الثالث: التفويض: كان التلاميذ النجباء الذين عيّنهم أبو الدرداء - رضي الله عنه - عرفاء في حلقاتهم يقومون بمهام المعلّم، يقرئون التلاميذ القرآن، ويصححون أغلاطهم، ويُحيلونهم إلى أبي الدرداء ليجيزهم، ويتابعونهم، وهو بهذا التفويض يمنحهم الثقة بإدارة حلقاتهم. الجانب الرابع: البرنامج اليومي المنظم: تفيدنا الروايات على قلّتها بوجود برنامج يومي لهذه الحلقات يسير بشكل واحد ومنظم، يبدأ بصلاة الفجر، ثم يتلوها وِرْدٌ يقرؤه أبو الدرداء -رضي الله عنه-، بينما يحيط به التلاميذ يستمعون إلى قراءته ويلاحظون أداءه ومخارج الحروف، فيصحّحون ألفاظهم على قراءته، ثم تتشكل الحِلَق بعد ذلك: في كل حلقة عشرة تلاميذ، وعليهم عريف، وهذا يعني ثباتَ كل تلميذ في حلقته، في أشبه ما يكون بالشعبة أو الصف الدراسي، ومن يجيزه العريف يحيله إلى أبي الدرداء -رضي الله عنه- للإجازة النهائية، وإلا صحح العريف للتلميذ، وإن غلط العريف صحّح له أبو الدرداء -رضي الله عنه-. هذا البرنامج اليومي المنظم مما استحدثه أبو الدرداء -رضي الله عنه-، حيث دعت الحاجة إليه لكثرة التلاميذ، ولخطورة البرنامج: إقراء القرآن، فكانت النتيجة: نجاح في الأداء، وازدياد في عدد التلاميذ الذين حفظوا القرآن الكريم أو أجزاء منه. تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا التنظيم الإداري بما يحويه من الجوانب الأربعة السابقة، وبصفة خاصة: الهيكل التنظيمي الهرمي والبرنامج اليومي المنظم؛ لم يكن معهوداً في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهل هو بدعة أحدثها أبو الدرداء؟ في واقع الأمر إنه لا يدخل في باب البدع، بل هو داخل في باب المصالح المرسلة، وهو يدلّ على عمق فقه الصحابة التربوي وقدرتهم النفسية على التجديد والمواكبة للمتغيرات في إطار الوسائل والأساليب، مع رسوخ المنهج وثباته وعدم تأثره بالانفتاح والمواكبة. وهذا درس كبير لأهل التربية والدعوة في المواكبة والانفتاح، وأن ذلك لا يعني التفريط في المنهج. هذا الدرس استفاده الصحابة من مجموع السيرة العملية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه، حيث اختلفت سيرته التربوية والتعليمية في المدينة عنها في مكة، حيث اختلاف الظروف. إن الخوف من المواكبة وتغيير الوسائل والأساليب هزيمة نفسية وهروب من تحديات الواقع ومعطيات العصر، وهذا بدوره سيؤخر العمل التربوي والتعليمي والدعوي إلى الوراء. إن الأجيال الجديدة والظروف المواكبة لهذه الأجيال لتفرض تغييراً في الوسائل والأساليب التربوية والتعليمية تكون أكثر قدرة على التأثير. وإن الجمود على أساليب وتقنيات معهودة في الأجيال السالفة يُضعف التأثير، بل يضعف الاستقطاب. تأمل هذا التجديد الذي استحدثه أبو الدرداء -رضي الله عنه- كيف استقطب أعداداً كبيرة من التلاميذ!. ثانياً: إعداد القيادات: وذلك من خلال تفويض العرفاء والإشراف عليهم. لقد كان ذلك بمنزلة "التدريب على رأس العمل" ولقد أشار عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في وصيته للثلاثة إلى ذلك. وظهر ذلك جليّاً في أفضلهم: عبد الله بن عامر اليحصبي، أحد رؤوس القراءات فيما بعد، وأصبحت حلقات جامع دمشق من المواطن التي تخرّج القراء والحفاظ والمجوّدين. في حال إهمالها أو تهميشها أو كبتها؛ فإن الطاقات القيادية ستكون مصدر قلق وإزعاج للمحضن التربوي، وإن المربي الناجح والمؤسسة الناجحة لتجد في هذه الطاقات القيادية فرصة لتحسين منتجها وتطوير بيئتها، وهي بذلك تضرب عصفورين بحجر واحد: إعداد القيادات، وتنمية العمل. وشكاوى كثيرة يقدمها المربون تنبع من ضعف قدرتهم على التعامل الصحيح مع الطاقات القيادية. ينبغي أن يكون هذا محلّ اهتمام المؤسسات القرآنية والتربوية. ثالثاً: المتابعة: لم يكن أبو الدرداء -رضي الله عنه- متكئاً على أريكته أو قابعاً في برجه العاجي، بل كان يطوف على الحلقات، ثم يعود إلى موضع إدارته: المحراب، فإذا أحكم الرجل في حلقته تحول إليه يعرض إليه[9]. أيُّ جهد بشري يحتاج إلى متابعة ليتحقق تقويمه وتجويده وتطويره، وإلا فإن الإحصاءات والتقارير لوحدها تظهر الحسن وتستر القبيح، وتخدع المسؤول، فمن اللازم أن تكون المتابعة الحقيقية أحد أركان الإدارة الناجحة. رابعاً: التوجيه التربوي: لقد حفلت كتب التراجم والرقائق بالتوجيهات التربوية التي كان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يربّي بها تلاميذه، والتي تفيض بنور الوحي، فعلى سبيل المثال: قال أبو الدرداء -رضي الله عنه- لتلاميذه: "ويلٌ للذي لا يعْلَم مرّة، وويلٌ للذي يعْلَم ولا يعمل سبع مرات"[10]. كلمات وتوجيهات متنوعة يصحّح بها مسار التعلّم ومسار التعبّد ومسار التكسّب، أفادت منها الأمّة إلى وقتنا هذا. لقد كانت هذه التوجيهات مؤثرةً في تكوين شخصية حافظ القرآن، وحافزةً له للازدياد من الطاعات. خامساً: المعايشة للتلاميذ: عن أبي مالك قال: "كان أبو الدرداء يصلي ثم يُقرئ ويَقرأ، حتى إذا أراد القيام قال لأصحابه: هل من وليمة أو عقيقة نشهدها؟ فإن قالوا: نعم؛ وإلا قال: اللهم إني أُشهدك إني صائم"[11]. الصحابة يدركون وهم الذين تربوا على يد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّ التربية والتعليم لا تكون دون معايشة، بل إنّ كثيراً من التوجيهات التربوية إنما ينبع من ملاحظات أو ثغرات أو فُرص يقتنصها المربي أثناء معايشته لتلاميذه. وبعد: فإن على حلقات تعليم القرآن الكريم اليوم واجب التجديد والإبداع بغرض تحقيق أهدافها التعليمية والتربوية، وإن أغلب المؤسسات القرآنية اليوم قد مضى عليها جيل من الزمان، فلا يصح أن تحصر نفسها في وسائل وأساليب عهدتها في الجيل الماضي. وإن عزوف كثير من الطلاب عن الالتحاق بهذه المؤسسات القرآنية وحلقاتها يرجع إلى مجموعة من الأسباب؛ الجمود أحدها. والله الموفق. ______________________ [1] سير أعلام النبلاء 2/344. [2] انظر: سير أعلام النبلاء 2/346. [3] انظر: تذكرة الحفاظ 1/25. [4] سير أعلام النبلاء 2/346. [5] معرفة القراء الكبار 1/38. [6] انظر في هذا المعنى في لسان العرب 9/238. [7] انظر: سير أعلام النبلاء 2/353. [8] معرفة القراء الكبار 1/38. [9] انظر: سير أعلام النبلاء 2/353. [10] سير أعلام النبلاء 2/347. [11] سير أعلام النبلاء 2/346. |
العلامات المرجعية |
|
|