#1
|
||||
|
||||
إعجاز القرآن: من الإعجاز العلمي إلى الإعجاز الاقتصادي
إعجاز القرآن: من الإعجاز العلمي إلى الإعجاز الاقتصادي
دكتور رفيق يونس المصري صدر مؤخراً عن دار القلم بدمشق كتاب (الإعجاز الاقتصادي للقرآن الكريم) للدكتور رفيق يونس المصري وفقه الله، وهو متخصص في الاقتصاد الإسلامي وله في ذلك أكثر من أربعين مؤلفاً، وقد صدر كتابه بفصلٍ سبق نشره في موقع مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي التابع لجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، رأيت نقله للملتقى العلمي للفائدة. وهذا نص الفصل. بسم الله الرحمن الرحيم إعجاز القرآن هو إثبات عجز الخَلق عن الإتيان بمثله (مناهل العرفان 2/331، كيف نتعامل مع القرآن ص 171). ويفرق الشيخ محمد الغزالي بين إعجاز القرآن ودلائل النبوة، فيرى أن الإعجاز هو أمر خارق للعادة يعجز الإنسان عن الإتيان بمثله في كل العصور، أما ما كان معجزًا لعالم الأمس، دون عالم اليوم، فهو من دلائل النبوة (كيف نتعامل مع القرآن، ص 171). وقد نزل القرآن على نبي أمي، لا يمكن معه أن يتصور عاقل أن القرآن من صنعه، فلا يمكن أن يأتي بهذا القرآن نبي، كما لا يمكن أن يأتي به غيره، مهما علا كعبه في الفهم والعلم واللغة، بل لا يمكن أن يأتي به العلماء حتى لو اجتمعوا وتعاونوا وانهمكوا وعانوا. قال تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء : 88] وللإعجاز وجوه كثيرة لا حصر لها ولا نهاية (معترك الأقران 1/3)، ذكر منها العلماء: الإخبارَ عن الغيوب المستقبلة (البرهان 2/95، والإتقان 4/8)، وجمعَه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب، ولا أحاط بعلمها أحد، في كلمات قليلة، وأحرف معدودة (الإتقان 4/20)، والعلومَ المستنبطة منه (الإتقان 4/28)، واشتمالَه على جميع أنواع الأدلة والبراهين (معترك الأقران 1/456). عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين. قال البيهقي : يعني أصول العلم (معترك الأقران 1/14). ومن وجوه الإعجاز الحديثة، بل والقديمة أيضًا، ما عرف بالإعجاز العلمي. وذهب المراغي إلى أن ذلك لا يعني أن القرآن قد اشتمل على جميع العلوم، جملة وتفصيلاً، إنما المعنى أنه أتى بأصول عامة لكل ما يهم الإنسان معرفته لصلاح الدين وإعمار الدنيا (التفسير العلمي ص 128). وهذا الضرب من التفسير هو موضع خلاف بين العلماء، فمنهم من منعه كالشاطبي (الموافقات 2/55)، ومنهم من أجازه بشروط كالغزالي والرازي والسيوطي من القدامى، ومحمد عبده والمراغي وابن عاشور من المعاصرين (التفسـير العلمي ص 146 و150 و171 و229). ولا يشترط أن يكون هذا التفسير العلمي على سبيل القطع والجزم، بل يمكن أن يكون على سبيل الظن أو الاحتمال أو الشك، ولاسيما إذا كانت الآية حمَّالة وجوه. وقد يتعين التمييز بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي، لنكون أكثر تشددًا في الإعجاز منا في التفسير. ذلك لأننا إذا قلنا إن هناك إعجازًا في هذه الآية، بناءً على نظرية ما، ثم تغيرت هذه النظرية، فماذا يقال في الإعجاز المدعى؟ ثم إذا قلنا إن في الآية نفسها إعجازًا، بناءً على نظرية ثانية، أو بحثنا عن آية أخرى تؤيد هذه النظرية، فلن يصدقنا أحد بعد ذلك فيما ندعيه ونزعمه من إعجاز، وربما يصير عندئذ الإعجاز للعلم لا للقرآن! والدقة تقتضي أن الثقة بما يدعيه المفسر من إعجاز علمي أو غير علمي إذا تزعزعت، فإن هذا لا يقتضي نزع الثقة بالقرآن نفسه، فالقرآن أمر آخر. كما أن القول بالتفسير العلمي والإعجاز العلمي لا يعني بالضرورة تصويب كل محاولة تفسيرية في هذا الباب. بيّن الغزالي أن في القرآن مجامع علم الأولين والآخرين، ورموزًا ودلالات يختص أهل العلم بدركها، وأن في معاني القرآن متسعًا لأرباب الفهم (إحياء علوم الدين 1/260، وجواهر القرآن ص 46). يقول الزركشي: "كتاب الله بحره عميق، وفهمه دقيق، لا يصل إلى فهمه إلا من تبحر في العلوم" (البرهان 2/153). ويقول مصطفى صادق الرافعي: "إن في هذه العلوم الحديثة على اختلافها لعونًا على تفسير بعض القرآن والكشف عن حقائقه" (إعجاز القرآن ص 128). هذه هي بعض أقوال المجيزين للتفسير العلمي، أما المانعون له فنذكر منهم الشاطبي، ثم نذكر رد ابن عاشور عليه: يقول الشاطبي: "إن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ماتقدم لم يصح. وإلى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وعلومه وما أودع فيه. وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا، نعم تضمن علومًا هي من *** علوم العرب أو ما ينبني على معهودها. وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل : 89] وقوله : ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام : 38]، ونحو ذلك. فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، والمراد بالكتاب في قوله : ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام : 38]، اللوح المحفوظ، ولم يُذكر فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية. فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصلح أن ينكـَر منه ما يقتضيه. ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة. فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضلَّ عن فهمه، وتقوَّل على الله ورسوله فيه. فلا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم. فالتعمق في البحث فيها، وتطلـّب ما لا يشترك الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى الشريعة الأمية، فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها، فوقعت في ظلمة لا انفكاك لها منها ، لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومهم. فلا يصح الخروج عما حدَّ في الشريعة، ولا تطلـُّب ما وراء هذه الغاية، فإنها مظنـَّة الضلال ومزلـَّة الأقدام " (الموافقات 2/55-63). هذا هو كلام الشاطبي، أما ابن عاشور فلا يرى رأيه، بل يرى أن المفسر لا يلام إذا أتى بشيء من تفاريع العلوم، مما له خدمة للمقاصد القرآنية، على وجه التوفيق بين المعنى القرآني والمسائل الصحيحة من العلم، بشرط أن يسلك في ذلك مسلك الإيجاز وعدم الاستطراد. كما يرى ابن عاشور أن كلام الشاطبي: "مبني على ما أسسه من كون القرآن لما كان خطابًا للأميين، وهم العرب، فإنما يُعتمد في مسـلك فهمه وإفهامه على مقدرتهم وطاقتهم، وأن الشريعة أمية، وهو أساس واهٍ، لأن القرآن لا تنقضي عجائبه، يعنون: معانيه، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه" (تفسير ابن عاشور 1/42-45). وبهذا ميز ابن عاشور بين الشريعة و بين الرسول صلى الله عليه وسلم والعرب وقت نزول القرآن، فقبل أمية الأميين ورفض أمية الشريعة. كما ذهب إلى أن أمية العرب في ذلك الوقت لا تعني أنهم مستمرون على أميتهم في كل وقت. يرى أنصار التفسير العلمي أن له مزايا، منها: • تجنب تقييد الحريات الفكرية والعلمية، واتقاء الحجر على العقول. • حث المسلمين على حب الاستطلاع والتأمل والبحث والنظر والاجتهاد وعلو الهمة والتفوق العلمي، ومتابعة العلوم والأفكار والمعارف، ومحاولة ضبطها وربطها بالقرآن، واسترشاد المسلمين به في بحوثهم. وبهذا يصبحون أكثر تحفزًا وتشوقًا إلى طلب العلم والتفوق فيه ومزاحمة علماء الأمم الأخرى المتقدمة. • تلافي الفكر الخامد، والفهم الجامد، والنظر الضيق الذي يقف بمعاني القرآن عند معهود أمة لا تقرأ ولا تكتب ولا تحسب، عند معهود العرب الأميين القدامى، ومخاطبة الناس في كل عصر على قدر عقولهم وعلومهم، ومواكبة التطور العلمي والفكري، وتقدم أدوات الرصد والملاحظة والتجربة والتحليل. قال القرافي: "الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين" (الفروق 1/177)، حتى لقد كثر الحفاظ، وقلّ المفكرون، ونضبت القرائح (تفسير طنطاوي جوهري 2/203) • دعم حركة التفسير وعلومه، والتعرف على وجوه جديدة للإعجاز، فالقرآن متجدد الإعجاز، لا تنقضي عجائبه، ولا ينضب معينه، ولا يبلى على كثرة الرد (الترداد). • دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، فإنهم يفهمون الإعجاز العلمي أكثر مما يفهمون الإعجاز اللغوي، والقرآن نزل على العرب الأميين، ولكنه ليس لهم وحدهم، بل هو للناس جميعًا (مناهل العرفان 2/100) لكل الطبقات ولكل الأمم ولكل الأجيال، فرب مبلَّغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. هذا إلى أن كثيرًا من العرب أنفسهم، وربما من علمائهم، ولاسيما في العصور المتأخرة، لم يعودوا يدركون الإعجاز اللغوي، ولا يعرفون من علوم اللغة وآدابها ما يمكنهم من الوقوف جديًا على هذا الإعجاز. كما أن من الجدير بالذكر هنا أن المسلمين غير العرب هم أكثر عددًا بكثير من المسلمين العرب. • الرد على شبهة القائلين بأن هناك عداوة أو تناقضًا بين الدين والعلم. وإذا كان من الضروري إثبات عدم التناقض بين الدين والعلم، فهذا يقتضي عدم الوقوف عند هذا الحد، ويستتبع أن يكون هناك تفسـير علمي مستمر لإثبات عدم التناقض، بل لإثبات الإعجاز. فلا تعارض بين كتاب الله المقروء وكتاب الله المفتوح، لأن مصدرهما واحد، هو منـزل القرآن وخالق الكون، هو الحق تبارك وتعالى، والحق لا يتناقض. وإن العقل الصريح لا بد وأن ينسجم مع الدين الصحيح. ذلك أن الدين جاء بما يعجز عقلُ الفرد والمجموع عن دَرْكه، ولم يأت أبدًا بما يناقضه. فالعقل يوصل إلى الدين، والدين يقوي العقل، والعقل والدين نعمتان من نعم الله، لا يجوز لأحد تعطيلهما، أو العمل بما ينافيهما. ثم إن التفقه في الدين (النقل) لا بد أن يكون مقصوده تقويم العقل وتسديده، لا إلغاءه وتعطيله. وإن الإسلام بما فيه من كمال وجمال ما فتئ يشد الناس إليه، إما تثبيتًا لهم عليه، أو تحويلاً لهم من غيره إليه. وما أكثر ما توافر العلماء على دراسة أصوله في القرآن والسنة، سواء أكانوا من المسلمين أو من غيرهم، فكان ذلك سببًا في اكتشاف المزيد من وجوه إعجازه، في ميادين البلاغة والنظم والعقائد والأخلاق والتشريع. ولا تزال هناك دائمًا وجوه جديدة تكتشف مع الأيام، ومع تطور العلوم والمعارف، تشعر الناس بأن هذا الدين هو الدين الحق الذي ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت : 42]. وكلما زاد العلماء علمًا ومعرفةً واختصاصًا وصفاءً، زاد تقديرهم للإسلام، فإذا ما تراءى لهم شيء يتنافى مع هذا التقدير، فإنه لا يلبث أن يزول بالتمحيص، أو بالوصول إلى أن ذلك ما كان إلا نتيجة تفسير أو شرح أو فقه بشري، فيخطئ البشر، ويدركون يومًا بعد يوم أن للعقل البشري حدودًا، وأن للعلم البشري نهايات، وأن البشر ما أوتوا من العلم إلا قليلاً، وذلك في جنب علم الله الواسع المحيط. ولو سار الناس في المسار الصحيح، لما زادهم علمهم إلا تمسكًا بدين الله، ولما زادهم دينهم إلا علمًا، ومن لم يوصله إلى الدين عقله أوصلته فطرته، لكنها الأغراض الدنيوية والشهوات هي التي تحول دونهم والرؤية الصحيحة، وهي التي تمنع الإيمان أو تضعفه. سئل مرة الدكتور غرينييه، المسلم الفرنسي المعروف، والعضو السابق في مجلس النواب، عن سبب إسلامه، فقال: "لو أن كل صاحب فن من الفنون، أو علم من العلوم، قارن كل الآيات القرآنية المرتبطة بفنه أو علمه مقارنة جيدة، كما فعلت أنا، لأسلم بلا شك، إن كان عاقلاً، وخاليًا من الأغراض" (أوروبا والإسلام لعبد الحليم محمود ص 103). وأعلن ليون روشي، وهو باحث فرنسي مسلم، في كتابه: "ثلاثون عامًا في الإسلام": "أن هذا الدين الذي يعيبه الكثيرون إنما هو أفضل دين عرفته. فهو دين فطري، اقتصادي، أدبي. ولقد وجدت فيه حل المسألتين (الاجتماعية والاقتصادية) اللتين تشغلان بال العالم طرًا: الأولى في قـوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات : 10]، فهي أجمل مبادئ التعاون الاجتماعي، والثانية في فريضة الـزكاة في مال كل ذي نصاب، بحيث يكون للدولة أن تستوفيها جبرًا إذا امتنع الأغنياء عن أدائها طوعًا" (الاقتصاد الإسلامي لأحمد جمال، ص 36). ولقد لخص غارودي سبب إسلامه بأنه وجد في الإسلام إجابة عن الأسئلة التي كان يطرحها دائمًا على نفسه، فراقه: 1– احترام الإسلام للديانات السماوية السابقة، وتوقيره لأنبيائها ورسلها. 2– وإخضاع الإسلام العلومَ والفنون والتقنيات للمبادئ الدينية الإنسـانية السامية، وجعلُها وسائل لسمو الإنسان وارتقائه، لا لانحطاطه وتدميره. 3– وشمول الإسلام لكافة جوانب الحياة (مستقبل الإسلام في الغرب، ص 7). ونحن في هذا البحث، نتأسى بالمجيزين للتفسير العلمي مع مراعاة الشروط، بالبعد عن التكلف والتعسف والإطالة والاستطراد. فالإغراق في التفسير العلمي وحشوه بتفصيلات العلوم لا ريب أنه يخرجنا من نطاق التفسير، ويشغل القراء عن مقاصد القرآن، وربما يصدهم عن التفسير نفسه. عن أبي جُحيفة قال : قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم كتاب؟ قال : لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم (صحيح البخاري 1/38). وقال ابن عباس، ترجمان القرآن: تفسير القرآن على أربعة أوجه : • تفسير لا يقع جهله. • تفسير تعرفه العرب بألسنتها. • تفسير يعلمه العلماء. • تفسير لا يعلمه إلا الله تعالى (تفسير أبي حيان 3/28). وتفسير العلماء يختلف باختلاف علومهم، فمن كان عالمًا بالنحو كان تفسيره معنيًا بالنحو، ومن كان عالمًا بالصرف، كان تفسيره معنيًا به، ومن كان عالمًا بالبلاغة أو الفقه فكذلك. ومن كان عالمًا بالنفس أو الاجتماع أو الاقتصاد فإن كلاً منهم يكون أبرع من الآخر في التقاط المعاني المتصلة بعلمه. سُئل أحد العلماء (لعله ابن باديس): ما خير تفسير للقرآن؟ فأجاب: الدهر، يعني: العلوم والمعارف والأفكار والحوادث والتجارب (مناهل العرفان 2/104). وليس هناك خطر على القرآن نفسه من التفسير العلمي، فالقرآن محفوظ بحفظ الله، أما التفسير فهو اجتهاد بشري يصيب ويخطىء، ولا يخلو تفسير قديم أو حديث من عيب، وإننا لمحتاجون في كل عصر إلى تفسير جديد، فإن تطور العلوم والمعارف يجعلنا ندرك من القرآن ما لم يدركه السابقون، والمفسر إنما يفسر في حدود علمه في كل عصر. ولا يبعد أن كل تفسير سابق قد لاقى مقاومة في وقته. وإذا أسرف بعض المفسرين في الإعجاز العلمي، فهذا لا يقتضي محاربة الإعجاز العلمي كله، بل يقتضي فقط محاربة الإسراف فيه والشطط. ومن اشتغل بمقاومة هذا الإعجاز العلمي، فقد انشغل عن شرف الإسهام فيه وتقويته وتهذيبه وتشذيبه. إن كل ما نكتبه في التنمية والعمران والاقتصاد الإسلامي إنما هو في نهاية المطاف شرح للسنة وتفسير للقرآن، فمن أنكر الإعجاز الاقتصادي فعليه أن ينكر الاقتصاد الإسلامي من أصله. ومن أنكر الإعجاز العلمي فعليه أن ينكر التفسير بالرأي، وأن يقتصر على التفسير بالمأثور، ومن بالغ فأنكر الإعجاز العلمي فعليه ألا يبالغ فينكر التفسير العلمي أيضًا. وقد تدبرت القرآن فوجدته كتاب تنمية شاملة، تنمية إنسانية وإدارية واقتصادية واجتماعية ودينية وخلقية... ألم يكن القرآن هو أصل نهضة المسلمين، في جميع الميادين؟ وإذا قيل إن القرآن كتاب هداية، فهذا لا يتضارب مع ما قلناه، لأنه سيهدينا بكل تأكيد إلى التنمية والنهضة والتقدم. ومن المستحسن ألا يفسر المفسر جميع القرآن، فهناك من فعل ذلِك، واكتفى بالنقل، ولم يضف شيئًا، والأفضل أن يفسر كل عالم ما هو داخل في اختصاصه، وكلما ازداد المفسر علمًا ولغةً ازداد إدراكه لما في القرآن من إعجاز. قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت : 53]، وقال أيضًا : ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت : 43] العنكبوت 48، وقال أيضًا : ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام : 97]، ﴿ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنعام : 98]. في جلسات الحوار القادمة، سندخل بإذن الله في التفسير العلمي الاقتصادي، ولعل النماذج المختارة من علم الاقتصاد تعدّ من باب الحقائق والقوانين الاقتصادية، التي إذا ما فسرت بها الآيات المختارة وصلنا إلى الإعجاز الاقتصادي، ولم نقف عند حد التفسير الاقتصادي. فيجب ألا نخلط بين التفسير والإعجاز، فمرتبة الإعجاز أعلى من مرتبة التفسير. |
العلامات المرجعية |
|
|