اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > التاريخ والحضارة الإسلامية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 04-05-2015, 12:01 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 60
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي وقفات مع الفتوحات الإسلامية في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه

وقفات مع الفتوحات الإسلامية في عهد أبي بكر الصديق (1)
أحمد عبد الحميد عبد الحق



مقدمة:


كان الحديث عن الفتوحات الإسلامية حتى وقت قريب من سبل بث الحماس في قلوب النشء المسلم، وتربيتهم على الرجولة والتطلع إلى المجد من خلال تعريفهم بمآثر أسلافهم، ولكن هذا الحديث بدأ يخبو يوماً فيوما؛ حتى صار من الأمور التي يتحرج الكثيرون من الحديث عنها بعد بدء الحملة الشرسة المنظمة التي صارت تلاحق الإسلام وشرائعه في كل مكان..

وحسب البعض أنهم ببعدهم عن الحديث عن الفتوحات الإسلامية وعن جهاد السابقين سيقدمون الصورة المثلى للإسلام، ويظهرون سماحته ورحمته، مع إن تلك الفتوحات كانت السبيل لتحقيق الرحمة والسماحة، وعن طريقها رأى الناس جميعاً على اختلاف أجناسهم الرحمة والسماحة سلوكاً يطبق على الأرض..

رأوهما لما أزاحت عنهم الفتوحات الإسلامية تسلط المتجبرين والطغاة، وأزالوا عنهم نير الاستعباد الذي طالما أذاقهم سوء العذاب..

وقد يرى الناظر في الفتوحات الإسلامية آلاف ال***ى من الجنود، وهذا هو سر تحرج الكثيرين من تدارسها، ولكن هل كانت تلك الجنود التي سالت دماؤها وقت الفتوحات إلا وسيلة يُميت بها الطغاة من حكام الفرس والروم وغيرهم ملايين من البشر -ليرجع القارئ مثلاً إلى ما حدث بمصر أيام اقتتال الفرس والروم، ولم يكن لهم في الأمر ناقة ولا جمل- وينهبون به أموالهم، ويجعلونهم يعيشون في الفقر الشديد، في الوقت الذي كان هؤلاء الحكام وحاشيتهم يرتعون ويلهون ويمتعون بما كنزوا من أموال فيما يغضب الله - سبحانه وتعالى -؟!..

ألم يكن هؤلاء الجنود أداة للظالمين يُوئدون به كل صوت مناد بالحرية أو العدل والمساواة؟!..

فكان قتالهم إذن بمثابة سلب العصا من إنسان يضرب به غيره، ولا سبيل لكفه عن فعله إلا بأخذ العصا منه.

كان هؤلاء الجنود داخل مجتمعاتهم كالعضو الذي أصيب بمرض خبيث، وليس ثمة علاج غير بتره، ولم يكن أمام المسلمين حل غير ذلك، وكان منهجهم في ذلك يقوم على مبدأ آخر الدواء الكي..

كما أن فتوحات المسلمين التي امتدت مئات السنين واتسعت لتشمل ما يقرب من نصف الكرة الأرضية وقتها قلما سمعنا عن رجل مدني أو أعزل قد قُتل خلالها.

ومن قُتل منهم كان المسلمون يتكفلون بدفع ديته كاملة.

فتوحات بلاد الحيرة والعرق:

كانت بلاد الحيرة قبل الإسلام جزءاً من العالم العربي، لكن الحكم فيها لملوك فارس يعاونهم بعض الأسر العربية التي استطاعت أن تتقرب إليهم، وتسير على الطريق الذي يُرضي أسيادهم من الفرس، وكان سكانها هم أقرب الناس إلى حدود الدولة الإسلامية بعد أن عم الإسلام الجزيرة العربية؛ لذلك لم يتمهل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قليلاً بعد الفراغ من فتنة الردة حتى شرع في العمل على نقل رسالة الإسلام إليهم؛ تكملة لدور النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعوي، المتمثل في قوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) (سبأ: 28)، وأداء للأمانة التي كُلف بحملها من بعده، فكتب إلى أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد ويرغبهم فيه، فسارع الناس إليه، وأتوا المدينة من كل أوب.

وخرجت طلائع المجاهدين الأولى إلى بلاد الحيرة والعراق بقيادة خالد بن الوليد –رضي الله عنه-، حيث أمره بعد الفراغ من وقعة اليمامة في المحرم من سنة اثنتي عشرة بالمسير إلى بلاد العراق، وأمره أن يستنفر من اشترك في جهاد أهل الردة من قبل، وأن لا يغزوَنّ معه من سبقت ردته، حتى يطمئن إلى أن نية الخارجين معه هو الجهاد الخالص لله - سبحانه وتعالى -، وليس أي عرض من الحياة الدنيا.

وأوصاه أن يبدأ ببلدة الأبلة التي كانت تسمى " فرج الهند " قبالة بحر فارس في جهة الشمال قرب البصرة، وأن يتألف أهل فارس ومن في ملكهم من الأمم الأخرى للإسلام..

فسار خالد ومر في طريقه بقريتين من سواد العراق، وهما " بانقيا " و" برسوما " وكان يملكهما من قبل الفرس رجل يسمى " جابان " فجاء نائبه عليهما " صلوبا " فصالح خالداً على عشرة آلاف دينار، ودخل في طاعته، ثم سار خالد بجيشه متوجهاً تلقاء الحيرة، وقد حرص على أن يضم في طاعته كل البلاد العربية؛ ليؤمن حركة جيشه، خاصة وأن سكان تلك الأماكن العربية كانوا تبعاً للفرس، فخشي من أن يأتوه من خلفه بعد التوغل في بلاد العراق، كما أن خطة الصديق –رضي الله عنه- كانت تقوم على تحرير البلاد الأقرب فالأقرب، وفق المنهج المرسوم في قوله - تعالى -: (لتنذر أم القرى ومن حولها)..

وصل خالد إلى مشارف الحيرة فخرج إليه أشرافها مع إياس بن قبيصة الطائي الأمير عليها بعد النعمان بن المنذر، فدعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو المناجزة، فأبوا الإٍسلام والمناجزة، وأقروا بالجزية وصالحوه على تسعين ألف درهم..

ولم تكن تلك الأموال تشكل لهم معضلة؛ لأنها كانت بمثابة جزء مما كان يُؤدى إلى الفرس المحتلين لهم من قبل، وانتقالها إلى المسلمين معناه أنهم سيعفون من باقي الضرائب التي كانت تدفع لفارس من قبل.

هذا بالنسبة للجيش الأول، أما طلائع الجيش الثاني فكانت بقيادة "عياض بن غنم" والذي تزامن تحركه مع زحف جيش خالد، وكان الصديق –رضي الله عنه- قد كتب إليه أن يبدأ بالمُصَيخُ (بلدة جنوبي العراق) ويدخل من أعلى العراق، ليُحكم هو وخالد الخناق على الفرس بالعراق، ويشتت جهودهم في المقاومة..

ولم يكتف أبو بكر –رضي الله عنه- بهذين الجيشين، وإنما أمد خالداً بالمثنى بن حارثة الشيباني - رضي الله عنه- الذي كان قد استأذنه قبل زحف خالد وعياض في أن يناوش الفرس بالعراق ليقطع اتصالهم بمن تبقى من العرب على غير الإسلام، فلا يحرضوهم على الخروج على الدولة الإسلامية -وكانت الفرس تعول عليهم في وقف تقدم المسلمين كما تسعى كثير من قوى الغرب الآن في تجنيد المسلمين لقتال إخوانهم بالعراق وأفغانستان وباكستان وغيرها - فأذن له، لكن أبا بكر لما بدأ الجهاد المنظم أوصاه أن يلحق بخالد، فانضم إليه بثمانية آلاف فارس..

وظل الصديق –رضي الله عنه- كلما توفر لديه مجموعة من المجاهدين أمد بها خالداً أو عياضاً؛ لأن جيوش فارس التي اكتسبت المهارات العسكرية خلال العقود السابقة وأعدادهم الوفيرة وعتادهم كانت تتطلب منه أن يشحن لهم كل ما بمكنته، ولو كان رجلاً واحداً كالقعقاع بن عمرو –رضي الله عنه- الذي لم يجد أمامه غيره وقت أن استمده خالد في مرة من المرات..

وقد تعلم الصديق –رضي الله عنه- من خلال معاشرته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهم شيء في تحقق النصر للمسلم هو أن يقدم كل ما في مُكنته بغض النظر عن كون ذلك معادلاً لقوة العدو أو غير معادل.

ثم كتب إلى خالد أن يعسكر قَِبل منطقة " الحفير" حتى يجتمع إليه مدده، ثم يجاهد بها جيوش الفرس، وكانت الحفير تعد أعظم فروج فارس بمنطقة العراق وأشدها شوكة، وكان يتولاها رجل من أساورة الفرس اسمه "هرمز" وقد عرف بشدته على العرب من قبل والبطش بمن تحت إمرته منهم، فكلهم عليه حنقٌ، وكانوا يضربونه مثلاً في الخبث فيقولون: أكفر من هرمز.

فأمّلوا في جيش خالد أن يخلصهم منه ومن شره، ولذا كان تحقيق النصر في تلك الوقعة معناه رفع الروح المعنوية للمسلمين، وتخليصهم من عقدة الخوف التي هيمنت على قلوب العرب من قبل الإسلام.

تحرك خالد –رضي الله عنه- نحو الفرس إذن وقد ظهرت عبقريته العسكرية، حيث قسم وهو في طريقه جيشه إلى ثلاث فرق، ولم يحملهم على طريق واحد، كما لم يسيرهم في زمن واحد، وإنما جعل على مقدمته المثنى، وأتبعه بعدي بن حاتم، ثم سار خلف الفرقتين بمن معه ليشتت ذهن العدو، ويعمي على مخابراتهم وجواسيسهم..

علم الفرس بمسير خالد وجيشه إليهم بعد أن وصلتهم رسالته التي يدعوهم فيها إلى الإسلام، وقد اعتاد المسلمون منذ زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا يبدؤوا قوماً بقتال قبل الإعذار إليهم، فكتب قائدهم هرمز رسالة إلى كسرى يخبره بخبر تحرك المسلمين، وبمضمون الرسالة التي أُرسلت إليه.

ولكن هرمز لم ينتظر رد كسرى عليه، ورفض طلب خالد الذي تمثل في الإسلام، أو المصالحة والجزية وفتح الطريق أمام المسلمين لتعريف الناس بدين الله ودعوتهم، وإنما تعجل بمنازلة المسلمين، وجعل على مجنبتيه رجلا يسمى " قباذ " والآخر يسمى "أنو شجان " وكانا من أولاد أردشير كسرى، فالتقى بهم عند مكان يسمى "الكواظم"، بعد أن أمر جنده أن يقترنوا بالسلاسل لئلا يفروا، وللقارئ أن يتخيل جنديا يربط كي لا يفر، كيف يقاتل؟! وقد يكون أخرج من بيته بالقوة..

وكان لهرمز السبق إلى ساحة القتال "الكواظم" لذا اختار أنسب المواقع وأحكمها؛ حتى إن خالداً لما نزل قبالتهم نزل على مكان لا يوجد به ماء، لكن ذلك لم يفت في عزيمته، ولم يهمه –يشغله- وقال لمن معه: "جالدوهم على الماء فإن الله جاعله لأصبر الفريقين...".

وبدأت المعركة بدعوة خالد –رضي الله عنه- إلى النزال، فبرز إليه هرمز الذي كانت كل الأمور تسوقه إلى عاقبته السيئة، بطشه بالعرب، وتجبره على رعيته، وعدم صبره حتى يرد عليه أردشير بالقرار النهائي، ثم خروجه إلى خالد الذي لم يبارزه أحد ويعود سالماً..

تقابل خالد وهرمز إذن فترجلا، ثم اختلفا ضربتين فاحتضنه خالد فخرج إليه مجموعة من الفرسان كان هرمز قد اتفق معهم على الغدر بخالد عند الخروج إليه، مع إن قيم الفروسية وقتها كانت تمنع أن يتدخل أحد لمساعدة أي من المتبارزين، لكن ذلك لم يشغل خالداً عن ***ه بعد أن تصدى لهم جميعاً، وقيل: إن القعقاع كان متنبها لهم فأزاحهم عنه عند الخروج إليه..

ثم احتدم القتال بعد ذلك لينتهي بأول نصر مؤزر للمسلمين على الفرس في تلك المعركة التي سميت فيما بعد "بذات السلاسل"..

وأخذ خالد سلب هرمز؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((من *** قتيلاً فله سلبه)) البخاري، وكانت قلنسوته تقدر بمائة ألف؛ لأنه كان قد تم شرفه في الفرس، وكانت هذه عادتهم، إذا تم شرف الإنسان تكون قلنسوته بمائة ألف!!!..

واستراح العرب من شره، وبان لهم أنه وغيره ممن علتهم رهبته لم تكن عظمته إلا سراباً، كما بان للظالمين من بعده أنهم مهما تحصنوا فليسوا ببعيدين على قضاء الله، وأنه قادر بين لحظة وأخرى أن يقتص منهم بمن كانوا يستضعفونهم..

ثم بعث خالد بعد ذلك بتباشير النصر والفتح والأخماس إلى أبي بكر الصديق –رضي الله عنه-، وسار هو فنزل بموضع الجسر الأعظم بالبصرة -قبل أن تخطط- وبعث المثنى بن حارثة –رضي الله عنه- في آثار العدو فتبعهم حتى وصل إلى حصن كان يسمى بحصن "المرأة ففتحه"، وقد رأى أهل الحصن من نبل الفاتحين ما أبهرهم، حتى إن المرأة التي كانت تتولى عليهم أسلمت فتزوجها المثنى لتزداد الآصرة بينه وبين قومها..

وأرسل معقل بن مقرن إلى بلدة " الأبلة " فافتتحها.

وخلال تلك الزحوف أوصى خالد –رضي الله عنه- من معه بعدم التعرض للفلاحين الذين يمر بديارهم، أو يسكنون البلاد التي فُتحت، وتركهم وعمارة البلاد كما أمر أبو بكر الصديق –رضي الله عنه-؛ لأن جهاده في الأصل كان تحريراً لمثل هؤلاء الفلاحين وأمثالهم من الأغلال الذي كانت عليهم، كما إن الإسلام يوصي بعدم التعرض إلا لمن يحمل السلاح في وجه المسلمين..

وقد أثبتت الأيام أن الإحسان إلى الفلاحين وأمثالهم من طبقات العوام كانت سبباً في تغلل الإسلام في البلاد المفتوحة، واستعصاء خروج المسلمين منها، على عكس ما حدث مع كل الغزاة على مر التاريخ، إذ انتهى الأمر بزوالهم بعد فترات طالت أو قصرت.

ونعود إلى كسرى أردشير الذي جاءه كتاب هرمز بمسير خالد –رضي الله عنه- فنقول: إنه أمر قائداً له يسمى "قارن بن قريانس" فسار إلى بلدة " المذار" ولما انتهى إليها لقيه المنهزمون من أتباع هرمز ومعهم "قباذ" و"أنو شجان"، فانضموا إليه جميعاً، ولم يتعظوا مما حل بهرمز ليتحقق فيهم موعود الله - سبحانه وتعالى -..

وجاءت أخبار تحركاتهم إلى خالد –رضي الله عنه- فلم يمكث حتى يفاجئوه عند " الحفير" وإنما سار إليهم، فأحل بهم الهزيمة الثانية، و*** منهم نحو ثلاثين ألفاً سوى من غرق، ولم ينجُ من المقاتلين إلا من منعته المياه، حيث ساحوا بقواربهم في عمق النهر، في تلك المعركة التي سميت فيما بعد باسم "الثني" وهو النهر..

وكان على رأس ال***ى "قارن" الذي ***ه "معقل بن الأعشى"، و"أنو شجان" الذي ***ه "عاصم بن عمرو"، و"قباذ" الذي ***ه "عدي بن حاتم"، وهكذا كانت نهايات من كانوا يسمون بأهل الشرف في معارك لم تستغرق أسابيع، حتى إن المؤرخين يقولون عن قارن: "كان شرفه قد انتهى -أي في العظمة- ولم يقاتل المسلمون بعده أحداً انتهى شرفه..".

وكم يعجب الإنسان أن يرى في المسلمين مثل هؤلاء الأبطال الذين لم يسمع بهم أحد من قبل، ورغم ذلك أنهوا شرف العظماء من الفرس، وما كان ذلك إلا بسبب القوة الكامنة التي حركها فيهم الإسلام.

وقد أثبتت الأيام أن خوف الناس من الفرس والروم وغيرهم لم يكن في محله، وإني لأرى أن الهزائم التي تأتي على المسلمين تترى من عشرات السنين قد تزول لو أتحنا للإسلام أن يحرك في رجالهم القوة الكامنة التي حركها في أسلافهم من قبل.

ونرجع بالحديث إلى خالد –رضي الله عنه- فنقول: إنه نظر إلى عوام الناس والعزل من السلاح بعد انتهاء المعركة فصيرهم في ذمة المسلمين، وأمنوهم على أنفسهم وأموالهم وديارهم في مقابل أن تنتقل ضرائبهم من خراج وجزية إلى المسلمين، وبالطبع بعد أن خففت كثيراً، وأعفي منها غير الأغنياء..

وكلمة الذمة التي يتخذها من لم يعرف شيئاً عن فتوح المسلمين وسيلة للتهجم على الإسلام كانت تعني: أن المسلمين صاروا مسئولين مسئولية كاملة عن حماية هؤلاء من كل معتد سواءً أكان في الداخل أم الخارج، وأن يوفروا لهم الأمن بشتى أنواعه، حتى في توفير احتياجات الحياة للعاجزين عن ذلك وكفالتهم، وأي عبء أكبر من ذلك؟! وقد رأينا الأمم المتحدة تحاول أن تسن من القوانين في العصر الحديث ما يوفر ذلك، ولم تحقق من تلك القوانين جزيئاً واحداً.

وأما الأسارى فأخذوا وأعتق أكثرهم فيما بعد، وكفلهم وأولادهم من أعتقهم من المسلمين، ووفروا لهم من أسباب الرقي والتفوق ما لم يكن يحلموا به في ديارهم، حيث صار من أولادهم عظماء العلماء المسلمين فيما بعد، مثل الحسن البصري، ومحمد بن إسحاق، والواقدي وابن سيرين وغيرهم الكثير، وتلك ظاهرة لم نر مثيلها في تاريخ البشرية الطويل..

ونعود إلى كسرى فنقول: إنه لم تثنه تلك الهزيمة التي ألمت بجيوشه وما سبقها عن عزمه على التصدي لفتوحات المسلمين، ولم تجعله يفيق من غفلته ويتخلى عن غطرسته، وقد رأى إدبار دولته..

ولم يجد من العقلاء حوله من ينصحه بالمحافظة على ملكه، وهو لم يفقد منه بعد إلا القليل، وإن فقد أصحاب الشرف في جيشه، ولم يكن ذلك سيكلفه غير التصالح مع المسلمين دعاة الحرية، وإتاحة الفرصة لقومه للتعرف على الإسلام..

وأصر على أن يجدد المواجهة معهم والتخلي عن كل العروض التي عرضوها عليه، وغره أن المواجهة لم تكن تكلفه أكثر من أمرٍ يوجهه لبعض قواده أن يحشد له الجنود ويدججهم بالسلاح، ويجبرهم على خوض المعارك على غير رغبة منهم..

فبعث بقائد آخر يسمى " الأندر زغر " وكان فارساً من مولدي سواد العراق، وأمره أن يحشد معه كل من يلقاه من المقاتلين ما بين الحيرة وكسكر من عرب الضاحية، ليضرب العرب بعضهم ببعض، كما تفعل بعض القوى المهيمنة على العالم الآن..

وسمع بهم خالد –رضي الله عنه- فسار إليهم من الثني فلقيهم بمنطقة " الولجة " وذلك بعد أن كمن لهم كمينين أوصاهما بالخروج إليه بعد أن يظهر لهما احتدام القتال بين الفريقين واستفراغ قواهما، ثم قصدهم بمن معه فقاتلهم قتالاً شديداً حتى ظن الفريقان -المسلمون والفرس ومعهم حلفاؤهم من العرب- أن الصبر قد أفرغ، عند ذلك خرج كمينه من الناحيتين، فانهارت قوى أعدائه المعنوية وخارت، وأخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم، ف*** منهم خلقاً كثيراً، ومضى " الأندر زغر" نفسه منهزماً، فمات عطشاً، وبذل خالد –رضي الله عنه- بعدها الأمان للفلاحين، وطمأنهم على أنفسهم وأموالهم ومتاعهم، وقد هموا بالفرار خشية أن يتأثروا بأحداث القتال فعدلوا عن ذلك.

لكن المحاربين من نصارى العرب الذين أعانوا الفرس في تلك الوقعة، وأكثرهم من بني بكر بن وائل لم يرضهم هذا الأمان، وغضبوا لمن *** من قومهم على أيدي المجاهدين المسلمين، وكاتبوا الفرس الذين كانوا سبباً في حشرهم لقتال المسلمين، واجتمعوا معهم على منطقة تسمى " أُليس" وأمروا عليهم رجلا يسمى " عبد الأسود العجلي"، وزجوا بأنفسهم في الصراع بين المسلمين والفرس مع إن أكثر جند خالد –رضي الله عنه- كان من قومهم -بني عجل- الذين أسلموا، ونسوا القرابة والنسب، كما نرى من البعض اليوم الذين يصرون على محاربة إخوانهم المسلمين إرضاء لساداتهم من العجم..

وفي المقابل رأينا العجليين المسلمين يظهرون أسمى آيات الولاء لله، وعلى رأسهم: عتيبة بن النهاس، وسعيد بن مرة، وفرات بن حيان، ومذعور بن عدي، والمثنى بن لاحق، حيث كانوا أشد الناس على أولئك النصارى من بني قبيلتهم..

ورغم ذلك ما زلنا نسمع من بعض المؤرخين أن فتوحات المسلمين غلبت عليها القومية العربية، فأنى هذا؟!!!...

ونعود إلى أردشير كسرى فنقول: إنه سره ميل هؤلاء العرب النصارى عليه، وحاول أن يستثمر غضبتهم فكتب إلى قائد له يسمى "بهمن جاذويه" وهو بقشيناثا، يأمره بالقدوم على هؤلاء النصارى العرب بـ"أُليس"، فقدم "بهمن جاذويه" هذا إلى أردشير ليشاوره قبل زحفه فيما يفعل فوجده مريضاً، فمكث بجواره..

وتأخر بهمن لم يثن نصارى العرب من بني عجل وتيم اللات وضبيعة وجابر بن بجير وعرب الضاحية من أهل الحيرة عن محاربة المسلمين، فاجتمعوا على قائد فارسي آخر قد سبق بهمن في التحرك إليهم يسمى "جابان"..

فسار إليهم خالد –رضي الله عنه- وشاء الله أن يلتقي بهم وقد أعدوا طعامهم، فلما تقابلوا، قالت الفرس لباجان: "أنعاجلهم أم نغدي الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم ثم نقاتلهم"؟ فقال جابان: "إن تركوكم فتهاونوا بهم، وإن عاجلوكم فانفروا إليهم"، فعصوه وبسطوا الطعام، فلم يُقدر لهم أن يأكلوا منه شيئاً..

وقد بدأت المعركة بطلب خالد –رضي الله عنه- المبارزة، وذلك بعد أن وكل بنفسه حوامى يحمون ظهره، كي لا يتكرر ما حدث عند مبارزته لهرمز، وصار ينادى: أين أبجر؟ أين عبد الأسود؟ أين مالك بن قيس؟ وهم من حشد له العرب، فأحجم القوم عن الخروج إليه إلا مالك بن قيس، فأثار ذلك حفيظة خالد –رضي الله عنه-، حيث رأى في خروجه تحدياً له، وقال: "يا ابن الخبيثة، ما جرأك عليّ من بينهم، وليس فيك وفاء"؟! ثم لم يلبث أن ***ه في الحال.

وقد أثار م***ه مع إحجام أصحابه الرعب في قلوب الفرس وحلفائهم، حتى إنهم تركوا طعامهم فزعاً، فقال لهم جابان وقد رآهم قد أعجلوا عن طعامهم: "ألم أقل لكم؟ والله ما دخلتني من مقدم جيش وحشة إلا هذا"؟ فقالوا حيث لم يقدروا على الأكل تجلداً: "ندعها حتى نفرغ منهم؛ ونعود إليها"، فقال جابان: "وأيضاً أظنكم والله لهم وضعتموها وأنتم لا تشعرون؛ فالآن فأطيعوني؛ سموها؛ فإن كانت لكم فأهون هالك، وإن كانت عليكم كنتم قد صنعتم شيئاً؛ وأبليتم عذراً"، فلم يفعلوا؛ لأن الله كانت معيته تحفظ المجاهدين حتى من مجرد تفكير العدو في الكيد لهم..

ثم جعل جابان على مجنبتيه عبد الأسود وأبجر؛ لتكون شوكتهم في المسلمين شديدة، تماماً كما نرى من الناكثين عهودهم من المسلمين الآن، حيث صاروا الغصة في قلوب المؤمنين، والعصا التي يضرب بها كل محارب لهم في كل الأقطار الإسلامية من مشرقها إلى مغربها..

ثم اقتتل الفئتان قتالاً شديداً، والمشركون يزيدهم تصبراً وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن جاذويه، فصابروا المسلمين حتى أرهقوهم مما دفع خالداً –رضي الله عنه- لأن يقول: "اللهم إن لك عليّ إن نصرت إليهم أن أجري نهرهم بدمائهم"..

وانتهت المعركة بنصر فاق ما سبقه، حيث بلغ عدد ال***ى سبعين ألفاً..

وبعدها وقف خالد على الطعام وقال للمسلمين: "قد نفلتكموه"، وقال ذلك لأن المسلمين علمهم شرعهم ألا يمس أحد منهم شيئاً من مخلفات العدو وباقي أمتعتهم، مهما صغر إلا بعد أن تجمع وتقسم عليهم، وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من نال منها شيئاً فقد غل، ومن غل حرم أجر الشهادة إن *** بعدها..

وتعشى المسلمون بعد إذنه لهم بهذا الطعام الذي قد أُعد لغيرهم فحرموا منه؛ لكفرهم وعنادهم، فليت شعري إذا كان هؤلاء المنعمون قد جاء عليهم يوم سلب منهم كل شيء حتى لقمة الطعام فكيف يأمن العتاة البغاة الآن مكر الله؟!! وصدق الله - سبحانه - حيث قال في أمثالهم: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) (الدخان:25-29).

وكان من النوادر أن فقراء المسلمين الذين لم يروا طعام المرفهين من قبل، ولم يعتادوا غير أكل التمر جعلوا يقولون عن الرقاق: "ما هذه الرقاع البيض"! وجعل من قد عرفها يجيبهم، ويقول لهم مازحاً: "هل سمعتم برقيق العيش؟ فيقولون: نعم، فيقول: هو هذا..".

ثم سار خالد –رضي الله عنه- بالمجاهدين بعدها إلى أمغيشيا، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله من الخيرات؛ لأن الجنود الذين كانوا بها أعجلهم المسلمون أن ينقلوا أموالهم وأثاثهم وكراعهم وغير ذلك، وقد بلغ سهم الفارس بعد القسمة ألفاً وخمسمائة، سوى النفل الذي نفله أهل البلاء، وهذا هو سبب اغتناء أبناء المجاهدين من بعد، حيث ورثوا ما حازه آباؤهم بكفاحهم وجهادهم في حين تخلف الكسالى وقعد الجبناء..

فليت الكتاب والمؤرخين الذين جعلوا دأبهم الحديث عن أموال الصحابة وأبنائهم يعرفون بعد هذا التوضيح مصدر غناهم، فلا يتقولوا عليهم بعد ذلك ويقولوا: إنهم عاشوا عيشة أرستقراطية دون أن يعرفوا أنهم كانوا يخرجون من معركة ليدخلوا في أخرى، وكان أحدهم إذا أصبح لا ينتظر المساء، وإذا أمسى لا ينتظر الصباح بسبب الخطر المحدق بها..

أرسل خالد –رضي الله عنه- بعد هذا الفتح المبين بالنصر أبي بكر الصديق –رضي الله عنه-، فلما بلغه قال: "يا معشر قريش - يخبرهم بالذي أتاه ـ عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله؛ أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد"! وقد قال ذلك على سبيل المدح والثناء.

ونحن نقول: لم تعجز النساء المسلمة أن تنجب مثله، فقد رأينا الكثيرات والكثيرات ممن أنجبن العظماء على مر التاريخ، ولن تعجز -إن شاء الله- ما بقي في عمر البشرية بقية، وسنجد من يلدن -إن شاء الله- من يجددون للإسلام مجده، ويعيدون للمسلمين عزتهم.

وللحديث بقية إن شاء الله.

ـــــــــــــــــــــــــ

مصادر الدراسة:

ـ فتوح البلدان للبلاذري.

ـ تاريخ الطبري.

ـ الكامل لابن الأثير.

ـ تاريخ ابن خلدون.

رد مع اقتباس
 

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 11:01 AM.