|
محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا سيرة سيد البشر بكل لغات العالم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#10
|
||||
|
||||
ثالثا: غدر قبيلتي عضل والقارة، وفاجعة الرجيع:
اختلفت مرويات سرية الرجيع فيما بينها كثيرًا حول السبب الذي من أجله بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت الذي يورد البخاري بأنه إنما بعث عينًا لتجمع المعلومات عن العدو([23]), فإن مرويات أخرى بأسانيد صحيحة ورد فيها أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رهط من قبيلتي عضل والقارة المضريتين إلى المدينة وقالوا: (إن فينا إسلامًا فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهونا ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام)([24]), ويظهر أن قبيلة هذيل قد سعت للثأر من المسلمين لخالد بن سفيان الهذلي فلجأت إلى الخديعة والغدر، وقد جزم الواقدي([25]) بأن السبب هو أن بني لحيان وهم حي من هذيل، مشت إلى عضل والقارة، وجعلت لهم جعلا ليخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه أن يخرج معهم من يدعوهم إلى الإسلام ويفقههم في الدين، فيكمنوا لهم ويأسروهم ويصيبوا بهم ثمنًا في مكة([26]). وهكذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم هذه السرية التي تتألف من عشرة من الصحابة([27])، وجعل عليهم عاصم بن ثابت بن الأقلح أميرًا، حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة أغار بنو لحيان، وهم قريب من مائتي مقاتل، فألجأوهم إلى تل مرتفع بعد أن أحاطوا بهم من كل جانب، ثم أعطوهم الأمان من ال***، ولكن قائد السرية أعلن رفضه أن ينزل في ذمة كافر([28]), وقال عاصم بن ثابت: إني نذرت ألا أقبل جوار مشرك أبدًا، فجعل عاصم يقاتلهم وهو يقول: النبل والقوس لها بلابل([29]) --- ما عِلَّتي وأنا جلد نابل الموت حق والحياة باطل --- تزل عن صفحتها المعابل بالمرء والمرء إليه آثل --- وكل ما حمّ الإله نازل إن لم أقاتل فأمي هابل([30]) --- فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم بالرمح حتى كسر رمحه، وبقي السيف فقال: اللهم حميت دينك أول نهاري فاحم لي لحمي آخره، وكانوا يجردون كل من *** من أصحابه, فكسر غمد سيفه ثم قاتل حتى قُتل، وقد جرح رجلين و*** واحدًا وكان يقول وهو يقاتل: ورثت مجدًا معشرًا كرامًا --- أنا أبو سليمان ومثلي رامي ثم شرعوا فيه الأسنة حتى ***وه، وكانت سلافة بنت سعد بن الشُّهيد قد قُتل زوجها وبنوها أربعة، قد كان عاصم *** منهم اثنين: الحارث، ومسافعًا، فنذرت لأن أمكنها الله منه أن تشرب في قحف([31]) رأسه الخمر، وجعلت لمن جاء برأس عاصم مائة ناقة، قد علمت بذلك العرب وعلمته بنو لحيان, فأرادوا أن يحتزوا رأس عاصم ليذهبوا به إلى سلافة بنت سعد ليأخذوا منها مائة ناقة، فبعث الله تعالى عليهم الدبر فحمته, فلم يدنُ إليه أحد إلا لدغت وجهه، وجاء منها شيء كثير لا طاقة لأحد به، فقالوا: دعوه إلى الليل، فإنه إذا جاء الليل ذهب عنه الدبر، فلما جاء الليل بعث الله عليه سيلاً ولم يكن في السماء سحاب في وجه من الوجوه، فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه([32]). لقد *** عاصم في سبعة من أفراد السرية بالنبال، ثم أعطى الأعراب الأمان من جديد للثلاثة الباقين, فقبلوا غير أنهم سرعان ما غدروا بهم بعد ما تمكنوا منهم, وقد قاومهم عبد الله بن طارق ف***وه واقتادوا الاثنين إلى مكة، وهما خبيب وزيد بن الدثنة فباعوهما لقريش([33]), وكان ذلك في صفر سنة 4 هـ([34]). فأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل لي***وه بالحارث الذي كان خبيب قد ***ه يوم بدر، فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا ***ه استعار موسى من بنات الحارث، استحد بها فأعارته، وغفلت عن صبي لها فجلس على فخذه، ففزعت المرأة لئلا ي***ه انتقاما منه، فقال خبيب: أتخشين أن أ***ه ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى، فكانت تقول: ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد, وما كان إلا رزقًا رزقه الله، فخرجوا به من الحرم لي***وه، فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن الركعتين عند ال*** هو([35]), ثم قال: (اللهم أحصهم عددًا، وا***هم بددًا([36]) ولا تبق منهم أحدًا) ثم قال: قبائلهم واستجمعوا كل مجمع --- لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا عليَّ لأني في وثاق بمضيع --- وكلهم مبدي العداوة جاهد وقربت من جذع طويل ممنع --- وقد قربوا أبناءهم ونساءهم وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي --- إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي فقد بضَّعوا لحمي وقد ياس([37]) مطمعي --- فذا العرش صبرني على ما يراد بي فقد ذرفت عيناي من غير مجزع --- وقد خيروني الكفر، والموت دونه وإن إلى ربي إيابي ومرجعي --- وما بي حذار الموت إني لميت على أي شق كان في الله مضجعي --- ولست أبالي حين أُ*** مسلمًا يبارك على أوصال شلوٍ مُمزع --- وذلك في ذات الإله وإن يشأ ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي([38]) --- فلست بمبدٍ للعدو تخشعًا فقال له أبو سفيان: أيسرك أن محمدًا عندنا يضرب عنقه وأنك في أهلك، فقال: لا والله، ما يسرني أني في أهلي، وأن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه([39]), ثم قُتل وصلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بجذعه ليلا، فذهب به ودفنه([40]). وأما زيد بن الدثنة فاشتراه صفوان بن أمية و***ه بأبيه (أمية بن خلف الذي *** ببدر)، وقد سأله أبو سفيان قبل ***ه: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا([41]). وقد عرفت هذه الحادثة المفجعة بالرجيع نسبة إلى ماء الرجيع الذي حصلت عنده، وفي هذه الحادثة دروس وعبر وفوائد منها: 1- فوائد ذكرها ابن حجر: وفي الحديث أن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان ولا يمكن من نفسه ولو ***، أنفة من أن يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن، قال الحسن البصري: لا بأس بذلك, وقال سفيان الثوري: أكره ذلك. وفيه الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن *** أولادهم، والتلطف بمن أريد ***ه وإثبات كرامة الأولياء، والدعاء على المشركين بالتعميم، والصلاة عند ال*** وفيه إنشاد الشعر، وإنشاده عند ال*** دلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه. وفيه أن الله يبتلي عبده المؤمن بما شاء كما سبق في علمه ليثيبه، ولو شاء ربك ما فعلوه، وفيه استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيًّا وميتًّا، وغير ذلك من الفوائد مما يظهر بالتأمل، وإنما استجاب الله له من حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من ***ه لما أراد من إكرامه بالشهادة, ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه([42]). 2- بين التسليم والقتال حتى الموت: يستدل مما سبق أن للأسير في يد العدو أن يمتنع من قبول الأمان ولا يمكن من نفسه ولو ***، ترفعا عن أن يجري عليه حكم كافر، كما فعل عاصم، فإن أراد الترخص، فله أن يستأمن مترقبًا الفرصة مؤملاً الخلاص كما فعل خبيب وزيد، ولكن لو قدر الأسير على الهرب لزمه ذلك في الأصح، وإن أمكنه إظهار دينه بينهم, لأن الأسير في يد الكفار مقهور مهان، فكان من الواجب عليه تخليص نفسه من هوان الأسر ورقه([43]). وهذا الحدث يفتح أمام المسلمين بابًا واسعًا في التعامل مع الأحداث في اختيارهم الأسر إذا طلبوا مظلومين, أو اختيارهم القتال حتى الموت, ما دام الطالب لا يطلبهم بعدل وما دامت السلطة غير إسلامية([44]). 3- تعظيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم: وفي الحديث يظهر تعظيم الصحابة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أن خبيبًا مع أنه في أسر المشركين، ويعلم أنه سي*** بين عشية أو ضحاها, ومع ذلك كان حريصًا على سنة الاستحداد، واستعار الموسى لذلك، وفي هذا تذكير لمن يستهين بكثير من السنن، بل والواجبات بحجة أن لا ينبغي أن ينشغل المسلمون بذلك للظروف التي تمر بها الأمة، وفي الواقع لا منافاة بين تعظيم السنة والدخول في شرائع الإسلام كافة([45]). 4- الإسلام ينتزع الغدر والأحقاد: عندما استعار خبيب موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته، قالت المرأة: فغفلت عن صبي لي، تدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه فلما رأته فزعت منه فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموسى، فقال: أتخشين أن أ***ه؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله([46]). إنه موقف رائع يدل على سمو الروح، وصفاء النفس، والالتزام بالمنهج الإسلامي فقد قال تعالى: ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )[الإسراء: 15]. إنه الوفاء يتعلمه الناس ممن غدر بهم، إن الاستقامة طبيعة سلوك المسلم في حالتي الرخاء والشدة([47]). وفي قول خبيب t: (ما كنت لأفعل إن شاء الله) يشير هذا الأسلوب في البيان العربي إلى أن هذا الفعل غير وارد ولا متصور ولا هو في الحسبان، في هذا الظرف الحاسم، الذي قد يتعلق فيه الاستثناء، لموقع الضرورة، وإنقاذ المهج، لكن المبدأ الأصلي، الوفاء والكف عن البرءاء، لا تنهض له هذه الاعتبارات الموهومة([48]). وهذا مثل من عظمة الصحابة رضي الله عنهم حين يطبقون أخلاق الإسلام على أنفسهم مع أعدائهم, وإن كانوا قد ظلموهم، وهذا دليل على وعيهم وكمال إيمانهم([49]). 5- حب النبي صلى الله عليه وسلم عند الصحابة:إن حظ الصحابة من حبه صلى الله عليه وسلم كان أتم وأوفر, ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة وهم بقدره صلى الله عليه وسلم ومنزلته أعلم وأعرف من غيرهم؛ فبالتالي كان حبهم له صلى الله عليه وسلم أشد وأكبر([50]). ففي حادثة الرجيع يظهر هذا الحب في الحوار الهادئ بين أبي سفيان وبين زيد بن الدثنة، إذ قال له أبو سفيان: أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة، وإني جالس في أهلي([51]). وهذا الحب من الإيمان فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد فيهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار»([52]). 6- مما قاله حسان في ذم بني لحيان: تأثر المسلمون بم*** أصحاب الرجيع تأثرًا بالغًا، وكان حسان t بشعره يعبر عن حال المسلمين، فمن يستحق الهجاء هجاه، ومن يستحق المدح مدحه, فقال في هجاء بني لحيان: فأت الرجيع فسل عن دار لحيان --- إن سرك الغدر صرفًا لا مراج له فالكلب والقرد والإنسان مثلان --- قوم تواصوا بأكل الجار بينهم وكان ذا شرف فيهم وذا شان([53]) --- لو ينطق التيس يومًا قام يخطبهم |
العلامات المرجعية |
|
|