|
قضايا سياسية وأخبار مصرية وعربية وعالمية منتدى يختص بعرض كافة الأخبار السياسية والإقتصادية والرياضية في جميع أنحاء العالم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
أنماط ومحفزات الكراهية السياسية في الإقليم بعد الثورات
أنماط ومحفزات الكراهية السياسية في الإقليم بعد الثورات الإثنين, 02 كانون1/ديسمبر تشكل "الكراهية السياسية" ملمحًا بارزًا في المنطقة العربية بعد ثورات الربيع العربي، إذ بدا أن تلك الكراهية تفسر جانبًا من التعثرات والتقلبات السياسية في المراحل الانتقالية التي طغت عليها سمات عدم التوافق السياسي بين الكتل والتيارات السياسية، وتنامي نزعات الانتقام، والإقصاء المتبادل فيما بينها، بل والحشد على أرضية كراهية الآخر المختلف سياسيًّا أو عقائديًّا أو مذهبيًّا أو مناطقيًّا، أضف إلى ذلك، عدم التورع عن تكفير الآخر السياسي، ونزع الوطنية عنه. ولا يمكن الزعم بأن تلك الكراهية هي وليدة مرحلة ما بعد الثورات العربية فحسب، بل إن العلاقات السياسية المتوترة، والتغيرات الحادة داخل الإقليم خلال عقود ما بعد الاستقلال، خلفت كراهيات كامنة، وأخرى ظاهرة متعددة المستويات، سواء على أساس ديني أو عرقي أو جغرافي، كما العرب واليهود، والمشرق الفقير، والخليج الغني، والسنة والشيعة، علاوة على امتداد الكراهية لتطال العلاقات بين دول بعينها، كالكويت والعراق، وإيران ودول الخليج. بيد أنه يمكن القول إن الثورات العربية، بما أتاحته من صعود لافت لحركة الشارع بكل ما تحويه من تناقضات وتشوهات ورواسب الأنظمة التسلطية العربية؛ وفرت مغذيات للكراهية السياسية وعمقتها داخل الأبنية السياسية والهوياتية والجغرافية، حتى صارت أشبه بـ"الكهوف المنعزلة"، بل وأضفت عليها "صبغة عابرة للحدود"، لا سيما مع حالة النفاذية الإقليمية التي رافقت تلك الثورات، فالاستقطابات الحادة بين التيارات الدينية والمدنية سواء في مصر وتونس وليبيا اتخذت أشكالا من الاصطفاف الإقليمي، تجلت نذرها إثر سقوط حكم الإخوان المسلمين في 30 يونيو 2013، حيث بدا أن هنالك "تعاضدًا إسلامويًّا" بين إخوان مصر، ونظرائهم في تونس وليبيا، وحتى تركيا، في مواجهة التيارات المدنية التي قبلت بدعم الجيش لموجة المظاهرات التي دعت لها اعتراضًا على حكم الإخوان في مصر. وإذا كانت الكراهية في صيغتها الكامنة هي مشاعر تنطوي على إهانة، ورفض، وازدراء، وعدم تعاطف من طرف تجاه الآخر، وبالتالي قد يكون من الصعب إخضاعها للتحليل السياسي، خاصة أنها عندئذ تتعلق بما يعتمل داخل مكنونات النفس البشرية؛ إلا أن الكراهية الظاهرة تتكشف عبر تجليات سلوكية، كالتحريض على القـتل، سواء ماديًّا أو لفظيًّا بين الأطراف السياسية، وتدني لغة الخطاب الإعلامي إلى مستوى السباب والقذف، حيث تسود الاتهامات المسبقة دون أدلة أو أحكام قضائية بين تلك الأطراف، وتلجأ التيارات السياسية إلى صك أوصاف ذات طبيعة احتقارية وإقصائية للتعبير عن نفورها من الآخر المختلف سياسيًّا، كما الأوصاف التي شاعت بعد الثورات، مثل:"الفلول"، و"العلمانيون"، و"العملاء"، و"التكفيريون"، و"الرويبضة"، و"المتأسلمون"، و"الخرفان"، و"عبيد البيادة"، وغيرها. ومن هنا، فإن" الكراهية العلنية" تنعكس في الخطاب السياسي وفي السلوك السياسي، عندما تستهدف شخصًا أو جماعة داخل المجتمع، انطلاقًا من انتمائه العرقي أو الديني أو السياسي أو الجغرافي أو الطبقي أو الثقافي أو المهني، وعندما يتجاوز ذلك الخطاب حدود الحرية في التعبير عن الرأي إلى التشويه المتعمد للخصوم. وبينما استطاعت الديمقراطية الغربية إيجاد قوانين تجرم تلك التجاوزات، وتضعها في دائرة جرائم الرأي؛ فإن المنطقة العربية ونظرًا للميراث الاستبدادي لأنظمتها المختلفة خضع التعامل فيها مع تلك التجاوزات لأهواء مصلحية، ولم تفلح الثورات في إيجاد أطر لكبح الكراهية، بل عمقتها واستغلتها تيارات سياسية للنكاية بمنافسيها، لا سيما مع انفلات حركة الشارع، وتبعثره بين الهويات الأولية مع ضعف السلطة في الفترات الانتقالية. ستة أنماط للكراهية السياسية: ثمة أنماط عديدة ومتداخلة من الكراهية شهدتها دول الربيع العربي في مرحلة ما بعد الثورات، وهي تختلف باختلاف المحفز وراء تلك الكراهية، وكذلك مدى ارتباطه بتشابكات إقليمية من عدمه، ويمكن رصد ستة أنماط علنية تعكس الكراهية السياسية في دول الإقليم، وذلك فيما يلي: 1- الكراهية المتبادلة بين التيارات المدنية والدينية، حيث خلفت الثورات في مصر وتونس وليبيا صعودًا سياسيًّا للتيارات الإسلامية بتنوعاتها المختلفة (إخوان وسلفيون) التي عانت من التضييق السياسي في ظل الأنظمة التسلطية، مما أدى إلى استقطابات حادة مع التيارات المدنية بتنوعاتها المختلفة (ليبرالية ويسارية وغيرها)، إذ عبر التياران عن مشاريع أيديولوجية متباينة للمجتمع والدولة، وتجلت الكراهية العلنية بين التيارين في محاولة أنصار كل تيار تشويه الطرف الآخر عند كل استحقاق سياسي، سواء كان الاستفتاء على الدستور، أو الانتخابات، فالتيار الديني لجأ إلى سلاح التكفير، ووصف التيار المدني بأنه معادٍ للدين، في المقابل دأب التيار المدني على وصف التيار الديني بالانغلاق، والرغبة في العودة بالمجتمعات إلى عصور التخلف. فمثلا، شهدت مصر إبان الاستفتاء على الإعلان الدستوري للمجلس العسكري الحاكم الذي تولى السلطة بعد ثورة 25 يناير، ما سمي إعلاميًّا بـ"غزوة الصناديق"، حيث اعتبر شيخ سلفي شهير، وهو محمد حسين يعقوب، أن التصويت بنعم على الاستفتاء هو تصويت للدين، وأن من لا يعجبه ذلك -في إشارة للعلمانيين- عليه أن يرحل. كما وصف الشيخ يوسف القرضاوي، وآخرون، من تظاهروا ضد الرئيس السابق مرسي في 30 يونيو في مصر بأنهم "خوارج"، كما تعرض التيار الليبرالي في تونس وليبيا لفتاوى تكفير من قبل شيوخ متشددين. وامتدت تلك الحالة من العـنف اللفظي إلى المادي، إذ تعرض معارضون من ذوي الانتماءات المدنية المنتقدة للتيار الديني لعمليات اغتيال سياسي اتهم فيها تيارات دينية، ومن ذلك اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي في تونس، وعبد السلام المسماري في ليبيا، والثلاثة معروفون بانتقادتهم للتيارات الدينية المتشددة خلال عام 2013. 2- الكراهية بين المناطق الجغرافية المحظية والمهمشة، حيث إن نمط التنمية المشوه للأنظمة التسلطية في المنطقة، جعل المركز يحظى بالنصيب الأكبر من الثروة والسلطة، في مقابل تهميش الأطراف، مما خلق نوعًا من الكراهية المناطقية، والتي تتجلى سياسيًّا إما في السخرية أو النظرة الدونية من قبل المركز للأطراف. ففي ليبيا، تكتنف العلاقة بين بنغازي في الشرق، وطرابلس في الغرب توترات وكراهية بعضها مضمر والآخر علني، بسبب شعور الأولى بالظلم التنموي الذي مارسه القذافي ضدها، ولعل مثل هذه التوترات توطنت في الفضاء الإلكتروني، فالمنتمون لطرابلس يصفون أنصار الفيدرالية في برقة بأنهم "عملاء"، ويرغبون في تفتيت الدولة الليبية. وتكاد تتكرر تلك العلاقة المناطقية المضطربة في مصر، برغم اختلاف السياقات والمطالب، فثمة نظرة دونية من قبل القاهرة للأطراف، خاصة في الصعيد وسيناء، وبعض مدن القناة التي تنظر بالمقابل للقاهرة على أنهم أهل "الفساد والمحسوبية". ذات النظرة توجد في تونس التي انطلقت فيها الثورة من الأطراف في سيدي بوزيد، اعتراضًا على السياسة الاقتصادية التي لم تواجه واقع الفقر، والاختلالات التنموية، والتهميش الذي عانت منه الأطراف. وفي السياق نفسه، فإن ثمة صورة ذهنية سلبية لدى الشماليين في اليمن للجنوب، والعكس صحيح، فعادة ما يتم وصف أي مواطن أو مسئول يمني من أبناء المُحافظات الجنوبية يكون مؤيدًا للوحدة اليمنية بـ"المرتزق" و"العميل". 3- الكراهية الدينية بين الطوائف، وهنا يبرز مستويان من الكراهية؛ أحدهما ذو طابع مذهبي بين السنة والشيعة، والآخر بين المسلمين والمسيحيين. فبالنسبة للكراهية المذهبية، فهو نمط تاريخي قائم ومكرس في المنطقة برز في العراق ولبنان وإيران والكويت قبل الثورات بفعل المدركات العقائدية السلبية بين السنة والشيعة، إلا أن ذلك النمط استشرى في المنطقة بأسرها بعد الثورات، لا سيما مع اتخاذ الصراع في البحرين وسوريا واليمن بعدًا طائفيًّا داخليًّا وإقليميًّا، بل إنه امتد إلى دول لا توجد بها أقليات شيعية بل مجرد أعداد قليلة كما في مصر، حيث *** الشيخ حسن شحاتة عقابًا له على انتمائه للمذهب الشيعي. أما الكراهية بين المسلمين والمسيحيين، فهي أيضًا نمط تاريخي بفعل الاستغلال المتبادل للأنظمة التسلطية للطرفين، بيد أن الصعود الإسلامي بعد الثورات، دفع ببعض التيارات الإسلامية المتشددة لاستهداف الأقباط، كما حدث في مصر قبل وبعد 30 يونيو، حيث استهدفت الكنائس بالحرق، بسبب ما اعتبره البعض دعم الكنيسة لتدخل الجيش، كما تعرض المسيحيون في الصراع الدائر في سوريا -خاصة في مدينة معلولا- للاستهداف من قبل جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة، نظرًا للارتباط المصلحي بين المسيحيين ونظام بشار. أضف إلى ذلك أن العراق أيضًا شاع فيه استهداف المسيحيين، بسبب ما زعمه البعض من أنهم يؤيدون التدخل الأمريكي. 4-الكراهية بين مؤيدي الثورات ورافضيها، إذ إن أحد تداعيات ثورات الربيع العربي هي شيوع ازدراء المخالفين سياسيًّا، ووصفهم بأوصاف تعبر عن الشماتة والهزيمة، كما حدث مع الحزب الوطني المنحل في مصر، والتجمع الدستوري الديمقراطي في تونس، وأنصار القذافي في ليبيا، حيث تم وصف كل من ينتمي لتلك الأحزاب أو يؤيد الأنظمة السابقة على الثورات سواء كان متهمًا أو لا بأنه "فلول" (وصف يطلق على الفارين المهزومين من الحروب)، كما أعقب ذلك إقصاء وعزل لهم من الحياة السياسية في الدول الثلاث، وإن كان بدرجات متفاوتة تراوحت ما بين الإقصاء الانتقائي كما في حالتي تونس ومصر، والإقصاء الشامل كما في حالة ليبيا، وبرغم أنه حكم بعدم دستورية قانون العزل السياسي في مصر في 14 يونيو 2012، وهو ما سمح للفريق أحمد شفيق باستكمال ترشحه في الانتخابات الرئاسية التي عقدت في يونيو 2012؛ إلا أنه بدا فيها جليًّا أن الكراهية للإخوان مثلت أحد أسباب التصويت للفريق أحمد شفيق الذي وصفه الإخوان ومؤيدوهم بـ"الفلول" بينما رد عليهم بأنهم "مارقون". وحتى بعد سقوط حكم الإخوان في مصر في 30 يونيو 2013، تجلت الكراهية بين الفريق الداعم لـ30 يونيو والرافض له في مناسبات عدة، من بينها الدعوات المطالِبة في وسائل الإعلام للجيش بمحو كل ما هو إخواني، بعد فض اعتصامات رابعة والنهضة، وفي المقابل صك نشطاء الإخوان ولجانهم الإلكترونية وصف "عبيد البيادة" على من يؤيدون تدخل الجيش لعزل مرسي. ورغم سقوط قتـلى من الإخوان والجيش، إلا أن لغة عدم التعاطف هي التي هيمنت على الطرفين، فالإخوان لا يتعاطفون سوى مع قـتلاهم، بينما مؤيدو الجيش يرون أن من قتـل أنصار الإخوان هو من دفعهم للاعتصام والتظاهر في وجه الجيش، بل بلغت الكراهية مستوى تسييس كرة القدم، وتجلت في تعليقات أنصار الإخوان على هزيمة مصر أمام غانا في التصفيات المؤهلة لكأس العالم، حتى أن أحد المساعدين السابقين للرئيس مرسي اعتبر هزيمة مصر "انتقامًا إلهيًّا، وحتى لا يفرح السفهاء" في إشارة إلى المصريين المؤيدين لثورة 30 يونيو. 5- الكراهية الإقليمية بين الدول العربية، إذ إن الاصطفافات التي خلقتها الثورات خلفت كراهيات ممتدة بين الدول، فقد نالت قطر التي لعبت أدوارًا داعمة للإسلاميين سواء في مصر أو تونس أو ليبيا دورًا في جلب حملات كراهية إعلامية لها بين السياسيين، ووسائل الإعلام في تلك الدول، خاصة المعارضة لتوجهات الإسلاميين، فتارة توصف بأنها دولة صغيرة تسعى لممارسة أدوار الكبار، وتارةً يتم الهجوم على قناة الجزيرة التي مارست أدوارًا إعلامية داعمة للإسلاميين باتهامها بالخيانة والعمالة والتحالف مع إسرائيل. كما شهدت بعض التظاهرات في مصر لافتات تسب مباشرة قطر وأميرها السابق وزوجته. كما تعرضت إيران أيضًا لنفس حملات الكراهية والسب من وسائل إعلامية عربية بسبب دورها في دعم الشيعة في سوريا والبحرين. علاوة على ذلك انتشرت أنواع من الكراهية للفلسطينيين والسوريين في مصر بعد 30 يونيو، حيث اتهمت منظمات حقوقية مصرية بعض وسائل الإعلام بالتحريض على الفلسطينيين، وخاصة حماس بسبب ارتباطها بحكم الإخوان، حتى أن أحد المحللين على قناة "القاهرة والناس" قال إن الرئيس المعزول محمد مرسي أصله فلسطيني، بينما حذر مذيع مصري في قناة "أون تي في" الفلسطينيين والسوريين من التدخل في الشأن المصري وإلا لا يلومن إلا نفسه. وذات موجات التحريض تعرض لها المصريون، وخاصة الأقباط في ليبيا، حيث تعرضوا لمضايقات من ميليشيات إسلامية مسلحة، وهو ما تعرض له السوريون المرتبطون بنظام بشار الأسد في لبنان. 6- كراهية القوى الغربية المتدخلة في المنطقة، فرغم أن العامل الخارجي تقلص دوره في مرحلة الثورات إلا أنه اتسع في ما بعدها، لا سيما أن القوى الكبرى مارست تأثيرات على الأنظمة الجديدة سواء عبر دعم بعض التيارات السياسية على حساب الأخرى، أو استخدام أداة المساعدات الاقتصادية لتوجيه سياسات الأنظمة الجديدة بما يتفق مع مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وهو ما خلق نفورًا وغضبًا تحول في بعض الحالات كليبيا إلى عـنف ضد الأجانب، كما حدث مع مقـتل السفير الأمريكي في بنغازي على يد جماعات متطرفة تذرعت بالفيلم المسيء للرسول (ص)، واستهداف السفارات الغربية، بل وخطف رئيس الوزراء الليبي د. علي زيدان لساعات، ردًّا على اعتقال واشنطن لقيادي من القاعدة يدعى أبو أنس الليبي، كما نظر للموقف الأمريكي من 30 يونيو وما أعقبه من تجميد بعض المساعدات العسكرية لمصر باستهجان شديد في وسائل الإعلام المصرية، ونظمت كذلك بعض المظاهرات المصرية الرافضة للتدخل الأمريكي الذي بدا للرأي العام أنه يميل لصالح الإخوان، الأمر الذي دفع البعض لوضع صور أوباما وبن لادن جنبًا إلى جنب، في رسالة بأن واشنطن تدعم الإرهاب والعـنف. الاختلالات المحفزة للكراهية: لم تعكس الكراهية السياسية في دول الإقليم فحسب تآكلا في قيم دينية وإنسانية كالعفو والتسامح مع الآخر أيًّا كانت انتماءاته، وهما ركنان أساسيان في الثقافة العربية والإسلامية؛ بل إنها تعبر عن مجموعة من الاختلالات البنيوية سواء الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية المحفزة للبغضاء، سواء بين أبناء الوطن الواحد، أو في عموم الإقليم، أو في مواجهة الآخر الغربي. وقد لعبت الثورات دورًا كاشفًا لتلك الاختلالات، لا سيما أن سقوط الاستبداد السياسي بعد الثورات أعقبته حالة من الانكشاف المجتمعي والنخبوي بكل تجلياته السلبية والإيجابية. ولعل أول تلك الاختلالات وأكثرها تأثيرًا كمحفز للكراهية سواء الداخلية أو الإقليمية "الاختلال الثقافي- النفسي"، ذلك أن المجتمعات التي عاشت في ظل أنظمة استبدادية لفترات طويلة تتماهى معها سلوكيًّا بمنطق (تقلب أدوار الضحية مع الجلاد)، وبالتالي عندما يحدث التغيير تتحول تلك المجتمعات إلى جلادين للمختلفين معها، ومن هنا، تنتشر ثقافة التشفي والثأر وغياب التسامح، والعزل لبعض الفئات دون أسانيد موضوعية أو مراعاة لحقوق الإنسان، فمشهد مقـتل القذافي في ليبيا دون محاكمة وبطريقة تخالف أبسط القيم الدينية هو قمة التماهي بين المجتمع ونظامه. الأمر الآخر أن الأنظمة التسلطية سواء في مصر أو ليبيا أو تونس قبل الثورات تغذت في وجودها على ثقافة انغلاقية، تَصِمُ بالعمالة المختلفَ سياسيًّا وثقافيًّا، وتحصر الوطنية بالمقابل في جهة سياسية حاكمة أو من يؤيدها، ولعل تلك الثقافة امتدت لما بعد الثورات، حيث الاختلاف أصبح مدعاة لاتهامات بالعمالة والتخوين، ولعل البرادعي، كما سبقت الإشارة، الذي تعرض لاتهامات بالعمالة تارة، والانفلات الأخلاقي تارة أخرى من قبل سياسيين ووسائل إعلام مصرية، يشكل أنموذجًا لشخصية سياسية تعرضت للتجريح والبغض دون أدلة رغم أنه يمثل أحد محفزات التغيير في المنطقة، كما خلقت تلك الأنظمة ثقافات نفعية لدى نخب سياسية تتلون بتلون الأحداث لتجد لنفسها موطء قدم في مرحلة ما بعد الثورات. ثاني تلك الاختلالات يتعلق بالتفسير الديني، فرغم أن الكراهية مدانة في كل الأديان، فإن اللجوء إلى تأويلات متشددة ومتحيزة وشكلية، بل ومصلحية للنص المقدس من قبل علماء وأنصار بعض التيارات الدينية أصبح محفزًا للكراهية في المنطقة، حيث تصطبغ الخلافات السياسية بصبغة دينية، فعلى سبيل المثال خضعت أحاديث الخروج على الحاكم في المنطقة خاصة لتأويلات بحكم الظرفية السياسية، فتارة ترى الخروج مبررًا كما حدث في ثورة 25 يناير في مصر، وتارة أخرى غير مبرر كما حدث في 30 يونيو، حتى أن داعية مصريًّا يدعى محمود شعبان أهدر دم المعارضة الرافضة لحكم الرئيس مرسي، كما لعبت أيضًا التأويلات المتشددة دورًا في وصم كل من يتحدث عن مواد الشريعة في دساتير ما بعد الثورات بمعاداة الإسلام، وهو أمر حدث في مصر وليبيا تحديدًا. بل إن الشيخ محمد بن عبد المجيد الزنداني نشر 37 اسمًا من أعضاء الحوار الوطني في اليمن، واتهمهم بمحاربة الإسلام، ورفض الشريعة. ولا شك أن تلك الاختلالات في التفسير الديني تعود إلى ضعف المؤسسات الرسمية الدينية الوسطية كالأزهر، الذي دفع ثمن ارتباطه بالسلطة في العقود الأخيرة بظهور علماء وجماعات دينية تعتمد لنفسها تأويلا متشددًا، وتلقى تجاوبًا من قبل بعض القطاعات الناقمة على السلطة الاستبدادية (نموذج الشيخ أبو إسلام في مصر المتهم بتمزيق وحرق الإنجيل). تتشابك مع تلك الاختلالات، المحفزات الاقتصادية الاجتماعية للكراهية، إذ إن غياب سياسات جذرية لمعالجة العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروات والفقر في دول الإقليم بعد الثورات خلف احتجاجات وغضبًا مجتمعيًّا تجاه فكرة التغيير، خاصة أن الأنظمة الجديدة -كما في مصر وتونس- لجأت لذات الأدوات التي انتهجتها الأنظمة الاستبدادية، كالدخول في الحلقة المفرغة للقروض الخارجية، التي يدفع الفقراء كلفتها سواء قبل أو بعد التغيير، كما لم يتم مواجهة الفساد، وتردي الخدمات العامة، وإعادة الاعتبار للدور التنموي للدولة. أضف إلى ذلك، أن وظيفة العدالة المنوطة بالدولة بدت هشة ومحفزة أكثر للبغضاء داخل المجتمع، خاصة من طرف أهالي "الشهداء" الذين سقطوا في الثورات، ففي مصر، تسبب بطء العدالة في محاكمة مبارك وتعثر إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية في إيجاد حالة من عدم الثقة في السلطات الانتقالية، بينما في اليمن تحولت محاكمة الرئيس السابق علي عبد الله صالح إلى صفقة بين قوى النظام القديم والجديد، أما في ليبيا فإن السلطة الضعيفة للمجلس الوطني الانتقالي منحت عفوًا في إطار قانون العدالة الانتقالية عن الميليشيات التي مارست انتهاكات خلال ثورة 17 فبراير 2012، على نحو عمق كراهية أنصار القذافي للميليشيات التي اعتدت عليهم ولم تتم محاسبتهم. إلى جانب ذلك، يعد المحفز الإعلامي سواء المرئي أو المطبوع أو الإلكتروني أحد الاختلالات الرئيسية في تحفيز الكراهية في دول الإقليم، حيث شابه قدر من التحيز، ونقص المهنية، والوقوع في شرك الاستقطاب السياسي، إذ دأبت وسائل الإعلام التي تمترست حول تيارات دينية، على تصوير الليبراليين على أنهم "متفلتون" و"ضد الإسلام"، بينما أصبح ينظر للإسلامي على أنه "مستحوذ على الثورة" و"مُقْصٍ للآخر" بعد وصوله للسلطة، وحتى بعد خروجه نُظر له على أنه داعم أساسي للعنـف والإرهاب، دون محاولة التركيز على الهموم والسمات المشتركة بين الطرفين، ودون أن يكون هناك إدراك لتعددية الرؤى داخل كل فريق، وأن الأمر ليس بهذا الاختزال المخل، ومن هنا تحول المذيع إلى صاحب رأي، ومناصر لقضية، ويهاجم الضيف إذا اختلف معه، كما تمترست الصحف حول تيارات بعينها، وثمة نماذج عديدة لتغطية منحازة في مصر بعد 30 يونيو، مثل صحيفة "الوطن" المصرية المنحازة ضد الإخوان، وصحيفة "الحرية والعدالة" الناطقة باسم الإخوان المنحازة ضد التيار المدني والجيش. ولعل العديد من المنظمات الحقوقية التي تعمل على رصد أداء الإعلام نشرت تقارير اتهمت فيها وسائل الإعلام ببث خطاب الكراهية، ففي اليمن مثلا كشفت المؤسسة الوطنية للتنمية وحقوق الإنسان عن أن الصحف لعبت دورًا في تأجيج الكراهية بين الشمال والجنوب. وانضم الفضاء الإلكتروني ليكون محفزًا للكراهية، ففي مصر، تتهم قوى المعارضة ما سموه بلجان الإخوان الإلكترونية باستخدام الفضاء الإلكتروني كمساحة لتشويه الخصوم والقرصنة عبر بث شائعات وتعليقات تجرح الشخصيات العامة. مداخل "تفكيك" الكراهية: إذا كانت الكراهية هي نتاج للاختلالات السالف ذكرها، فإن مواجهتها تنطلق من كبح محفزات انتشارها داخل المجتمع، عبر مداخل عدة، أولها: استعادة الدولة لوظيفة العدل بمعانيه المختلفة، سواء إنفاذ القانون على من يتجاوزون حق النقد إلى التشويه وبث الكراهية، أو عدالة اقتصادية في توزيع الثروات والأعباء المجتمعية، أو عدالة الانتقال، أي الحصول على حقوق من قـتلوا في الثورات، فاستشعار المجتمع بقدر نسبي للعدالة يخفض من حدة الكراهية. أما ثاني المداخل فهو تعليمي، يتضمن بث قيم حقوق الإنسان واحترام الآخر المختلف في المناهج الدراسية، وثالث المداخل هو نفسي-ثقافي يتعلق بإصلاح الصور الذهنية بين الخصوم السياسيين، فأحد أبرز مشكلات جماعة الإخوان المسلمين التاريخية هي تصور أن المشروع الديني الذي يحملونه وكذا كوادرهم يكفل كفاءة في إدارة مصر، رغم أن الإخوان كغيرهم من أبناء المجتمع المصري خضعوا لذات المصادر التعليمية والثقافية المؤدية لعدم الكفاءة. ويتمثل رابع هذه المداخل في المدخل الديني، وربما يكون هو الأهم والأكثر تأثيرًا في مجتمعات يمثل الدين ركنًا أساسيًّا فيها من مفردات الحياة العامة والخاصة، إذ إن ثمة ضرورة لاستعادة دور المؤسسات الدينية الوسطية، وإعادة صياغة العلاقة بين الدين والسياسة، بما يجعل الأول غير خاضع لتقلبات واستثمارات التغيرات السياسية. إن الكراهية في الإقليم سواء داخل المجتمعات أو بين الدول أمست كما الناس الذين يعيشون في كهوف منعزلة متخيلة، برغم أنهم يعيشون بأجسادهم في حياة تفرض عليهم همومًا ومشتركات سلوكية وقيمية، فالكراهية تتكسر على صخرة احتياج البشر لبعضهم بعضًا، سواء بمنطق الأمان الاجتماعي أو السياسي أو المصالح المشتركة المتبادلة، وكلما كانت إدارة السلطة سواء في قمتها أو قاعدتها لتلك الاحتياجات أكثر اتساعًا في أفقها العام، تجذرت ثقافة فهم الآخر، واستيعابه أيًّا كانت انتماءاته، وكبحت في الوقت نفسه محفزات الكراهية وإقصاء المخالفين. د.خالد حنفي علي
باحث مصري في مؤسسة الأهرام آخر تعديل بواسطة aymaan noor ، 06-12-2013 الساعة 10:40 PM |
العلامات المرجعية |
|
|