#1
|
|||
|
|||
العبد المصلي والفرعون الطاغي
قوله تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 9 - 19]. قوله تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ﴾ [العلق: 9]: إنه لمثير للعجب أن يُنْهَى الناسُ عن المعروف والخير! ماذا يضيرهم حين يُقبل الناس على طاعة الله؟ إن موقف الباطل من أهل الحق - إذا ظل على هذا الحال - لَيَدُلُّ على أنه يتعذر التعايش بينهما في ظل هذا الحنق والكره والتربص المقيت، فهذا أبو جهل يحظر على محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي بمكة، وينهاه عن ذلك، فعن ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا يصلي عند الكعبة، لَأَطَأَنَّ على عنقه، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((لو فعله لأخذته الملائكة))[1]، لكن الله منعه منه، لم لا؟ وهو في معيَّة الله تعالى، لم لا؟ ولا يزال النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُبَلِّغْ رسالة ربه بعدُ، قال سبحانه: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا ﴾ [الإسراء: 45]، فإذا قارنَّا بين معية الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وحفظه له، وبين اعتداء اليهود على الأنبياء بال***، نَجِدُ أن الفارق بين الأمرين هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - محفوظ لأجل الرسالة التي أُرْسِل بها، فإذا ما أكمل الرسالة، فقد حان وقت رحيله من الدنيا، لكن قبل ذلك لا بد أن يجعل الله بينه وبين هؤلاء الحاقدين حجابًا مستورًا، فعن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يُعَفِّر محمد وجْهَه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعُزى، لئن رأيته يفعل ذلك، لأطأنَّ على رقبته، أو لأُعَفِّرن وجهه في التراب، فأنزل الله - عز وجل -: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [العلق: 6 - 13][2]. قوله تعالى: ﴿ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ﴾ [العلق: 10]: فيه دلالة على أن مجرد الصلاة تثير حَنَقَ وحِقْدَ هؤلاء الظالمين؛ ليُعْلِنوا نقمهم على الإسلام وسخطهم على أهله؛ ذلك لأن الصلاة تُظْهِر مدى العبودية لله تعالى؛ ولذلك قالوا في الأثر: (ما من حالة يكون عليها العبد أحب إلى الله من أن يراه ساجدًا يُعَفِّرُ وجهه في التراب)[3]، وهذا الأثر موافق للحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء)) [4]. فكان مجرد قرب العبد من ربه، وصلاح نفسه، يَغيظ الذين كفروا، انظر كيف يحقدون على العلاقة الربانية بين العبد وربه، قال تعالى: ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]، وتتجلى لحظات الاستهزاء بالإسلام والمسلمين حين يعلن المسلمون شعائرهم للناس، فيذهبون ويغدون إلى المساجد يصلون، ويعتكفون، ويتعلمون، ويقرؤون القرآن، فيصيب ذلك الكفارَ بالهزيمة النفسية فلا يجدون غير الاستهزاء كأول وسائلهم للصد عن سبيل الله، يقول المولى سبحانه: ﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 58، 59]. إنهم يعلمون علمًا يقينيًّا أن مجرد ظهور شعيرة الإسلام في الصلاة لَهُو من أعظم سبل انتشار الإسلام بين الناس، فبالصلاة يقف الغَنِي بجوار الفقير صفًّا واحدًا كما تصطفُّ الملائكة، ويحاذي العالم مَنْكِبه بمنكب الجاهل، فيقفون معًا خلف إمام واحد يتلو عليهم آيات الله البينات، في الوقت الذي لا يقف فيه الملوك الطغاة أمام أحد، وإنما يتفاخرون بأنفسهم حينما يقف أمامهم الجند والأمراء، وبما يركبونه من مراكبَ تجول بهم حيث يشاؤون، وفي الحضور للصلوات يسلِّم المسْلِمُ على أخيه، ويطمئن عليه، ويتوادُّ معه، ويسأل عن حاله، وبالصلاة يتعلم المسلم من كلام الله تعالى ما أوحى إلى عبده من خير الكلام والأحكام، فكأنها محاضرات تربوية، وتثقيفية، وفكرية، وروحية، يتلقاها المسلم في المسجد آناء الليل وأطراف النهار. كما أن الصلاة تعد خير علاج نفسي للمؤمن؛ لأن العبد يرجع إلى ربه طائعًا مختارًا يشكو إليه ما أهمه وأحزنه، فيستمد منه العون والولاية، فعن حذيفة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حَزَبَهُ أمر صلى[5]، يقول الدكتور حسام الراوي: "وما أسلوب الاسترخاء الذي يصفه الأطباء اليوم علاجًا لحالات التوتر العصبي سوى نمط متواضع من أنماط الراحة عمومًا، ولن يحقق للإنسان ما يمكن أن تحققه الصلاة، وتعتبر مناجاة العبد لخالقه أرقى مراتب الاسترخاء، فإذا ما واظب المرء على استجماع فكره أثناء الصلاة، واكتمل خشوعه، يكون قد أطفأ شعلة التوتر والقلق المتأجِّجة في كيانه"[6]، والمسلم حين يصلي يعلم يقينًا أن الصلاة ليست مجرد شعيرة تؤدَّى وحَسْبُ؛ وإنما هي نُظُم متعددة المَشَارب، فهي نظام اجتماعي؛ حيث يتواصل المسلمون فيعلم كل أخ حاجة أخيه ويلبيها له بكل سرور، ونظام اقتصادي؛ حيث تعيد تنشيط العامل مرة أخرى؛ ليتأهب للعمل من جديد، فيكون أكثر تركيزًا، واسترخاءً، وفهمًا للأمور وحرصًا على الوقت، وما عجلةُ الحياة الاقتصادية إلا عمل ووقت، بل إن الصلاة تتعدى هذا وذاك حينما نعلم أنها انطلاقة ثورية على كل القوانين الأرضية، وذلك حينما يتحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأرض كلها فيقول - صلى الله عليه وسلم -: ((جُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطَهُورًا))[7]، كما أنها نظام عسكري فريد، شديد الدقة والتنظيم من حيث التوقيتُ والاجتماع، والحشد والاصطفاف، والترتيب في الحركات، واتِّبَاع الإمام حتى الانصراف من المسجد؛ ولذلك علم هؤلاء الأعداء أنه لا اجتماع بين مسلم مصلٍّ، وكافر حاقد على الإسلام إلا وكان الكافر يحمل في قلبه حقدًا وغِلاًّ على هذا المصلي، حاسدًا إياه علاقته بربه، وحسن إدارة المسلم أمورَهُ الحياتية بمجرد الحفاظ على الصلاة. قوله تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ﴾ [العلق: 11]: وهنا يخاطب القرآن هذا الطاغي، ومثله كثير، يخاطبه بالعقل والمنطق، ماذا لو صدق زعْم نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم - عن ربه، وصدق وعده ووعيده؟ وحتى وإن لم يصح زعمه أيها الطاغي، ألا يكفيك فحسب أن تنظر فيما يأمر به؟ ولتعرضه على عقلك، أليس هذا أمرَ رشد وهدى أم ضلالاً؟ بماذا يأمر محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ إنه لا يأمر إلا بما فيه خير، فهو يأمر بصلة الأرحام، والمودة في القربى، وحسن الجوار والعشرة ومحاسن الأخلاق، فعن عبدالله بن عمرو يقول: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا ولا متفحِّشًا، وإنه كان يقول: ((إنَّ خيارَكُم أحاسِنُكم أخلاقًا)) [8]، ألِهَذا يُنكَر عليه؟ أيُنكَر عليه صدقه وأمانته وأخلاقه؟ أيُنكَر عليه دعوته لعبادة الله وحده؟ فعن أبي ذرٍّ: لما بلغه مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاسمع من قوله، فرجع فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق [9]. قوله تعالى: ﴿ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ﴾ [العلق: 12]: فإذا كان محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - على هدًى، فهذا شأنه، لكن أن يأمر الناس بالتقوى ففي هذا مساس بالأمن الاجتماعي لدولة الظلم؛ ولذلك كانت الحرب عليه، وعلى من قبلَه من الأنبياء، فالإسلام دين يمس الأمن الاقتصادي للدولة الظالمة بما فيه صلاح لها، ولكنَّ الاقتصاديين أصحاب المذاهب الاقتصادية البعيدة عن الفكر الإسلامي لا يفقهون، يقول سبحانه: ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَو أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود: 87]، ليس ذلك فحسب، بل في صلاتنا مساس خطير بأمن الدول الظالمة اجتماعيًّا وثقافيًّا، فالعلاقةُ بين الأمر بالتقوى، وإصلاح حال البلاد في التجارة والاقتصاد، والعيش والمعاش - وثيقةٌ ولازمة، قال سبحانه: ﴿ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الشعراء: 176 - 186]. قوله تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [العلق: 13]: وهنا ينتقل الحديث إلى وصف حال أبي جهل من النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك المكذِّب له والمتولِّي عنه، وهذا هو شأن أهل الضلال جميعًا: أن يُكذِّبوا الصادقين، وهذا هو أول أسلحتهم في الصد عن سبيل الله تعالى؛ حيث لا يمكنه التولي بإعراض عن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن يكذبوه؛ ولذلك يتخذ أهل الباطل من وسائل التضليل الإعلامي ما يوسعون به خيال الناس في شأن تشويه دعوة الإسلام والمسلمين، فهذه الحرب هي أول أنواع الحروب التي يَشُنُّها أعداء الإسلام على الإسلام والمسلمين، يقول الإمام البقاعي: "ولما كان المكذب قد لا يترك مَنْ كَذَّبه، أشار إلى أن حال هذا على غير ذلك، فقال: ﴿ وَتَوَلَّى ﴾؛ أي: وكلَّف فطرته الأولى بعد معالجتها الإعراض عن قبول الأمر بالتقوى، وذلك التولي إخراب الباطن بالأخلاق السيئة الناشئة عن التكذيب، وإخراب الظاهر بالأعمال القبيحة الناشئة عن التكذيب، والجواب محذوف تقديره: ألم يكن ذلك التولي والتكذيب شرًّا له؛ لأن التكذيب والتولي من غير دليل شرٌّ محض، فكيف إذا كان الدليل قائمًا على ضدهما؟". والباعث على تكذيب أهل الحق هو أن الطاغي يحاول أن يطمس الحقائق؛ ليستمر في طغيانه، فيكذِّب أهلَ الحق فيما يأمرون به من محاسن الأخلاق؛ حتى يستمر فيما يرتكبه من معاصٍ، فطغيان المادة هو الذي صرف أبا لهب وأمثاله عن اتِّباع النبي - صلى الله عليه وسلم - والاهتداء بهديه، ومن هنا جاء إعراضهم عن الإسلام، وهذا هو شأنهم من قبلُ، ولا يزال هذا هو أسلوبَهم في الصد عن الحق، يقول سبحانه: ﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾ [آل عمران: 184]، ثم تنتقل المعركة من ساحات النقاش والاتهامات، إلى ساحات الخصام والشقاق، ثم تنتقل بعد ذلك إلى ساحات ال*** وسفك الدماء، يقول سبحانه: ﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ﴾ [المائدة: 70]؛ وذلك ليعلم الجميع أن دين الله أغلى من دماء الأنبياء؛ حتى لا يبخلوا بدمائهم عن دينه، وليعلموا أن سمعتهم بين قومهم صدقة يتصدقون بها في سبيل الله تعالى؛ ذلك أن أهل الباطل يريدون أن يصرفوا الناس عن الإسلام من خلال تحويل القضية السلمية إلى معركة كلامية، ثم م***ة عظيمة، واضطهاد ديني، وسلب ممتلكات وأموال، وعداء شديد، قال ورقة بن نوفل للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لما علم منه خبر الوحي، قال: "هذا الناموس الذي أُنْزِلَ على موسى - صلى الله عليه وسلم - يا ليتني فيها جَذَعًا، يا ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قومك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ))، قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قطُّ بما جئتَ به إلا عودِيَ، وإن يدرِكْني يومُكَ أنصرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا"[10]. ولذلك كان لا بد من توجيه الجماعة المؤمنة - وبخاصة في مرحلة النشأة والتكوين - إلى العفو والمسامحة؛ حتى يتمكنوا من مواصلة عرض قضيتهم الإسلامية لكل الناس، يقول سبحانه: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الجاثية: 14]، لا سيما وأن العفو والمسامحة كانا من شيم النبي - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة في مرحلة التمكين. قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14]: إنه نسي أو تناسى أن الله تعالى يراه، وكأنه جاهل أن الله سوف يحاسبه على ما أسرف في معصية الله إلى حد الطغيان؛ ذلك أن التقوى لا محل لها في قلبه، فأضحى يتجاهل حقيقة اطِّلاع الله تعالى على أعماله وسيئاته، فلو استشعر هذا الطاغي أن الله تعالى جبار منتقم، ومطَّلِع عليه، لَمَا صدَّ عن سبيل الله، فطغيان المادة تحكَّم فيه، وسيطر عليه حتى غاب عن حسه ومشاعره التصديقُ بالغيب، وأخَصُّ ما فيه علم الله تعالى، ورؤيته لأفعاله، ويرجع ذلك إلى تبلُّد شعوره حتى ما يكاد يستشعرُ مراقبة الله له رغم أنه هو الذي خلقه وعلمه. ونظير ذلك قوله تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴾ [البلد: 7]؛ ولذلك كان الإحسان ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))[11]، قال العلماء: "بأن تتأدب في عبادته كأنك تنظر إليه، بحيث لو فُرِض أنك تعاينه لم تترك شيئًا من الممكن"، ((فإن لم تكن تراه فإنه يراك))؛ أي: فإن لم ينته اليقين والحضور إلى تلك الرتبة، فإلى أن تتحقق من نفسك أنك بمرأًى منه تعالى لا تخفى عليه خافية، فكما أنه لا يقصِّر في الحال الأول، لا يقصِّر في الثاني؛ لاستوائهما بالنسبة إلى اطِّلاع الله، قال بعض الأعيان: "لا يصح دخول مقام الإحسان إلا بعد التحقق بكمال الإيمان، فمن بقِيَ عليه بقيةٌ منه، فهو محجوب عن شهود الحق في عبادته كأنه يراه، وعلامة كماله أن يصير عنده الغيب كالشهادة في عدم الريب"[12]، وقال السيوطي في قوله: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه)): "هذا من جوامع الكلم؛ لأنه لو قُدِّر أنَّ أحدًا قام في عبادة ربه وهو يعاينه، لم يترك شيئًا مما يقدر عليه من الخضوع، والخشوع، وحسن السمْت، واشتماله بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به، قال القاضي عياض: وهذا الحديث قد اشتمل على شرح وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه"[13]. والعجيب أن يخاطب القرآن الكريم أبا جهل بهذا الرقي السامق؛ حيث يوبخه بفوات مرتبة الإحسان عنه: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14]، ففي ذلك تعليم لنا بأن نسعى جاهدين إلى الأخذ بتذكير الناس بالله تعالى؛ حتى يصلوا إلى أعلى مراتب الإيمان، حتى وإن كانوا منحازين لأشد دوائر العداء مع الإسلام، وفي ذلك إعلاء لهمم الدعاة إلى الله تعالى بأن يجتهدوا على قلوب العباد؛ فإن القلوب إذا صلَحَت صلَحَ الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، وألا ييْئَسوا من أحوال مدعُوِّيهم، فكما أن أبا جهل خوطب بفوات مرتبة الإحسان عنه، فإن ذلك يعني أنها لم تَفُتْ منه إلا لأنه لم يأبهْ لها، فإن لم ينجع معه أسلوب الترغيب بالشوق إلى مرتبة الإحسان، فلا مفر من الترهيب بما سوف ينتظره من عذاب الله يوم القيامة، ودون حاجة لترهيبه بعذاب الدنيا؛ حيث لا تزال الدعوة في مراحلها التمهيدية، ولم تَحِنْ بعدُ لحظة الفرقان. قوله تعالى: ﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ﴾ [العلق: 15]: يردع القرآن الكريم أبا جهل، وكل صادٍّ عن سبيل الله تعالى؛ لينتهي عن إيذاء المسلمين، والجور على حقوقهم، والتضييق عليهم، فيزجرهم بلفظ ﴿ كلاَّ ﴾، ويهددهم بلفظ ﴿ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ﴾؛ حيث قصد تهديده بأن يذوق العذاب في ناصيته التي هي محل حفظ عقله، ذلك العقل هو الذي أورده المهالك حالَمَا استنكر على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسوِّيَ بين العبد والسيد، وأن يسوي بين الأعرابي والأعجمي، ولم يفاضل بينهما إلا بالتقوى، وأن يجعل القوامة للرجل على المرأة، وأن يكفل للمرأة حقها في الميراث والرأي والتعبير... إلخ، فضلاً عن كفالة الإسلام لحقوق الضعفاء عمومًا، فظل يُعَدِّل على شرع ربه، فيقبل هذا بعقله، ويرفض هذا بعقله، ولم يحرك لقلبه ساكنًا، فظل قلبه مغلقًا لا يفقه شيئًا من أسرار السعادة الاجتماعية، ولا أسباب الفرحة النفسية، أو القوة المعنوية، ولا العزة بالمعية الإلهية، وهكذا حين يصل الإنسان بعقله إلى مرحلة الطغيان، فحُقَّ لهذا العقل أن يُسْفَعَ في النار. قوله تعالى: ﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾ [العلق: 16]: فعقله هذا الذي في ناصيته - أي: مقدمة رأسه - قد خانه، وأخطأه الظن، فصاحبُ هذا العقل العقيم عن الفكر وَصَمَهُ القرآن بوصمين؛ الأول: أن له ناصيةً كاذبة؛ لتكذيبها للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - والثاني: أنها خاطئة فيما توهمَتْه من قدرة صاحبها المادية على أن يطأ عنق النبي - صلى الله عليه وسلم – أو ينال منه، أو يمسه بشرٍّ، وهكذا تُسَوِّل لهم أنفسهم أنهم بما ملكوا من متاع الدنيا، وما معهم من جنودٍ، قادرون على هضم الحق، والانتصار على أهله، ولكنْ أنَّى لهم ذلك؟ فقد سبقهم في هذا الظن الخاطئ من قَبْلَهم ممن أسرف في المعصية، وطغى وتكبر، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [القصص: 8]، وهذا الزهو الباطل ليس إلا من قبيل تزيين الشيطان لهم سوء أعمالهم، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾ [غافر: 37]؛ ولذلك لمَّا قُتِل أبو جهل، وقف عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وحَمِدَ الله ثم قال: ((هذا فرعونُ هذه الأمة))[14]. قوله تعالى: ﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴾ [العلق: 17]: إذ ظن أنه بما ملك من الدنيا من مال، وحاشية، وجنود، قادرٌ على أن يهزم المسلمين، ويقضي على الدعوة الإسلامية في مهدها، وفي ذلك ظنٌّ منه كذلك بأنه قادر على أن يُفْلِتَ من عذاب الله تعالى، إنه لم يتناسَ أن الله مُطَّلِعٌ عليه فحَسْبُ، وإنما تجرأ على الله تعالى، فأراد أن يبارزه بما يملك من أصدقاءَ وأموالٍ، لينضم إلى طائفة قاتلي الأنبياء، ولكن مشيئة الله تعالى أن يكلأ رسوله بحفظه ورعايته؛ حتى يتم رسالته، فعن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فجاء أبو جهل، فقال: ألم أنْهَك عن هذا، ألم أنهك عن هذا، ألم أنهك عن هذا؟! فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فَزَبَرَهُ، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثر مني، فأنزل الله: ﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾ [العلق: 17، 18]، فقال ابن عباس: "فوالله لو دعا نادِيَهُ، لأخذَتْهُ زبانيةُ اللهِ"[15]، قال العلماء: "﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴾؛ أي: أهلَ ناديه؛ لأن الناديَ هو المجلس الذي يجلس وينتدى فيه القوم، ويجتمعون فيه من الأهل والعشيرة، ولا يسمى المكان ناديًا حتى يكون فيه أهله، والمعنى: لِيَدْعُ عشيرته وأهله؛ ليعينوه وينصروه، ﴿ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾؛ أي: الملائكة الغلاظ الشداد، وهم خزنة جهنم، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يدفعون أهل النار إليها بشدة، مأخوذ من الزبن، وهو الدفع، قيل: واحدها زابن"[16]. قوله تعالى: ﴿ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾ [العلق: 18]: وهنا تتحقق مظاهر ولاية الله تعالى لعباده المخلصين، ولا سبيل إليها إلا بالتقرب إلى الله تعالى بالصلاة، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله قال: مَنْ عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُهُ كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأُعْطِيَنَّه، ولئن استعاذني لأُعيذَنَّه، وما ترددْتُ عن شيءٍ أنا فاعله تَرَدُّدِي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مَسَاءته))[17]، فلا عجب أن ينصر الله تعالى عباده المؤمنين بأن ينزل عليهم الملائكة؛ لتأييدهم ونصرتهم، تلك الملائكة التي خصها الله تعالى لعذاب أولئك الكفار الجاحدين بنعم الله تعالى، أولئك المستكبرين الذين ملأ الكبرُ قلوبهم، فصدَّهم عن التوبة والرجوع إلى الله تعالى، فعن أبي هريرة: أن أبا جهل أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي - زَعَمَ - لِيَطَأَ على رقبته، قال: فما فَجِئَهُم منه إلا وهو يَنْكِصُ على عَقِبَيْهِ، ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟! فقال: إنَّ بيني وبينه لَخَنْدَقًا من نار وهَوْلاً وأجنحةً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو دَنَا مني، لاختطفتْهُ الملائكةُ عضوًا عضوًا))[18]. قوله تعالى: ﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 19]: وهنا يتوجه الخطاب القرآني إلى نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى، وفي ذلك خطاب للجماعة المؤمنة كذلك؛ إذ يأمره الله تعالى بالثبات على الحق، وعدم طاعة رؤساء القوم كأبي جهل وأمثاله، حتى لو ملكوا هذا الواديَ، وأضحوا - بزعمهم - أكبر قوة في هذا النادي، ما داموا ينهون عن المعروف ويأمرون بالمنكر، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما يتعين الثبات على المبدأ، والاجتهاد في التقرب إلى الله تعالى بكثرة السجود، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء))[19]، إنه سلاح المؤمن دائمًا في وجه الطغاة المتكبرين، إنه يواجه جبروتهم، وطغيانهم، وظلمهم، ونهيهم عن المعروف، وأمْرَهُم بالمنكر، باتصاله الدائم بالله تعالى، والاقتراب منه بكثرة السجود والدعاء، إنه الحق دائمًا أن يستشعر العبد قربه من مولاه الذي هو ناصره، بَيْدَ أن هذا الطاغيَ قد خذله أنصاره يوم يناديهم فلا يستجيبون. [1] رواه البخاري ج 4 ص 1896، رقم 4675. [2] رواه مسلم ج13 ص 289، رقم 5005. [3] أخرجه الطبراني في الأوسط 6/158، رقم 6075. [4] رواه مسلم ج3 ص 29، رقم 744. [5] رواه أبو داود في سننه ج4 ص 88 رقم 1124، وحسنه الألباني : الجامع الصغير ج1 ص 884 رقم 8832. [6] أثر الصلاة في العلاج النفسي - رحيل بهيج. [7] رواه البخاري ج2 ص 218، رقم 419. [8] رواه البخاري ج 5 ص 2245، رقم 5688. [9] رواه البخاري ج 5 ص 2244، رقم 5686. [10] رواه مسلم ج 1 ص381، رقم 231. [11] جزء من حديث البخاري ج1 ص 87، رقم 48. [12] التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي ج1 ص 857. [13] شرح السيوطي على مسلم ج1 ص8. [14] رواه النسائي في سننه الكبرى ج3 ص 489 رقم 6004، والطبراني في المعجم الكبير ج9 ص82 رقم 8488، وأحمد في مسنده ج9 ص60 رقم 4025، وغيرهم. [15] رواه الترمذي ج11 ص 187 رقم 3272، وصححه الألباني: صحيح الترمذي ج 3 ص132 رقم 2668. [16] تحفة الأحوذي في شرح سنن الترمذي ج9 ص 196. [17] رواه البخاري، ج 20، ص 158، رقم 6021. [18] رواه مسلم، ج13، ص 289، رقم 5005. [19] رواه مسلم، ج 1، ص 350، رقم 482.
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|