|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
نماذج من التفكير الإبداعي الجانبي في القرآن الكريم ...عزيز محمد أبو خلف
يرى علم الأعصاب المعرفي أن العقل ينظم المعلومات التي ترد إليه عن طريق تشكيل نماذج عصبية تمثل هذه المعلومات، ويمكن استدعاؤها حين الطلب. هذه الطريقة في معالجة المعلومات تجعل العقل يتمتع بمزايا إيجابية في التفكير منها الفعالية والسرعة في التعرف على المثيرات والتفاعل معها. في المقابل؛ يكتسب العقل مع هذه النماذج، عيوباً محددة تؤثر على أدائه، وتجعله أسير هذه النماذج مما يحد من قدرات الإبداع لديه وانطلاقها. وتتلخص هذه العيوب في أن النماذج تميل إلى الرسوخ والثبات مع الزمن ويصعب تغييرها والخروج من دائرة سيطرتها، كما أنها تتمركز حول نموذج معين وتصبح باقي النماذج تابعة له ويتكون ما يشبه حالة الاستقطاب، كما أن هذه النماذج تصبح مثل القوالب الجاهزة الجامدة. يَستخدم التفكير الإبداعي الجانبي طرقاً معينة، وبطريقة مقصودة، بهدف كسر أسس التفكير المنطقي الذي يعتبر هو الطريقة الطبيعية التي يعمل بها العقل، من أهم مبادىء التفكير الجانبي: تمييز الأفكار السائدة المستقطبة، والبحث عن رؤية جديدة للأشياء، والتخلص من السيطرة المتزمتة للتفكير التقليدي. أساليب إبداعية جانبية في القرآن الكريم يلمس الباحث أساليب التفكير الإبداعي في كل سور القرآن وآياته، بطرق مباشرة وغير مباشرة، حتى إنك لتجد ذلك على مستوى الكلمات والحروف. فمثلاً الحرف "ألا" يثير الانتباه، والحرف "كلا" يردع ويجعل الشخص يتوقف هنيهة ليفكر، وقد استخدَم التفكير الجانبي أدوات تشبهها، لأجل التدريب على ممارسة أساليب هذا التفكير. لقد تضمن القرآن الكريم الكثير من الأساليب الإبداعية على مستوى الآيات والسور، ومن خلال الحالات الدراسية التي تمكننا من استنباط الطرق المناسبة لمواجهة المشاكل والمواقف المختلفة والتوصل إلى الحلول المناسبة لها. الاستعاذة والبسملة يحرص القرآن الكريم على إثارة التفكير عند قارئه سواء كان مؤمناً أم كافراً، لكنه يولي المؤمن اهتماماً أكبر. يهيىء القرآن الكريم ذهن القارىء للتفكير من البداية بالتعوذ والبسملة؛ فالتعوذ استعانة بالله على إزالة الموانع والمعوقات التي قد تلهي القارىء عن الحضور القلبي. أما البسملة فهي قوة دافعة من الله الرحمن الرحيم تسهل الاندفاع نحو العمل وتحفزه. فبالتعوذ والبسملة نحصن أنفسنا ضد المؤثرات السلبية الخارجية، ونكتسب القوة الدافعة للعمل الإيجابي. ومن عجائب القرآن الكريم أنه يحترم عقول مخالفيه، فيحثهم على تشغيل عقولهم وتدبر الوقائع التي يحدثهم عنها. فقد خاطب القرآن العرب مراعياً خبرتهم اللغوية العالية، وربط ذلك بالعقل مباشرة، إشارة إلى قدرتهم العالية المفترضة على التدبر، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2]. طريق الآباء والأجداد بينت لنا آيات القرآن الكريم أن الله يخُرج المؤمنين من الظلمات إلى النور، أي أنه يهديهم إلى المسار الواضح. وفي هذا خسارة واضحة للكفار، بموالاتهم للطاغوت الذين يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أي أنهم يخرجونهم من المسار الواضح. قال تعالى: {اللَّـهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257] ومن ظلمات الكفر طريق الآباء والأجداد، ولا يرون غيره. ومع أن القرآن عاب عليهم قصر النظر، فقد ترك الباب مفتوحاً للمنكرين والمترددين لينطلقوا من أي طريق، إلى الصراط المستقيم. وعلى الرغم من أن الخيارات متعددة، والطرق مفتوحة أمام المنكرين فإنهم يصرون على موقفهم، ويكون مصيرهم النار، فأين الإبداع؟ ولم يكتف القرآن بذلك، بل نبههم إلى مصيرهم المحتوم إن هم أصروا على موقفهم؛ حيث يعترفون يوم القيامة، كما حكى الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] فلو أنهم أنصتوا للوحي بتدبر، أو اتبعوا أي طريق عقلي آخر، وارتبطوا، من ثم بالصراط المستقيم لما وصلوا إلى السعير. والطريق العقلي مفتوح، فهو يشمل المنطق والإبداع، وهذا يتضمن كل أساليب التفكير من التمثيل والاستنباط والاستقراء، وكذلك النظرة الكلية المنظومية. وهذه طرق منهجية منظمة، ويفتح التفكير الجانبي الدخول العشوائي بأي طريق كان، كما يفتح المجال للدخول عن طريق التطبيق أو العمل. فالقرآن يدعو الناس إلى الإيمان الذي يوصلهم إلى الجنة، بأي طريق مشروع، ويمكنهم أن يفعلوا ذلك باتباع الرسول مباشرة، واستكشاف ما في الإسلام من خلال التطبيق. ويمكن أن يحصل التحول إلى الإيمان من خلال إعمال النظر في إرث الآباء والأجداد ووضعه على محك النقد والبحث. ترسيخ الأفكار لا شك أن النفس تميل إلى التمسك بما أنجزته حتى لو كان باطلاً، لذلك لا تحب التفريط به، ولا سيما إذا كان له ارتباط بجهات محببة للنفس أو مقربة إليها. والكفار يعضّون بالنواجذ على ميراث الآباء والأجداد، ويحرصون كل الحرص على الاستمرار في هذا الاتجاه، وحتى يضمنوا التواصل فيه فلا بد من إزالة كافة المعوقات التي تعترض طريقهم، وهذا دفعهم إلى أن قاوموا الإسلام بشتى الطرق، وأدى ذلك إلى ترسيخ هذه النماذج وثباتها في أذهانهم. قال تعالى حكاية عنهم: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ . وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف:22-23]. ولأجل ترسيخ النماذج الكُفرية، سخّر الكفار خبراءهم ومفكريهم لتعميق السير في نفس الاتجاه، ولإزالة المعوقات. فقد استخدموا الشعراء للهجاء، والمفكرين لابتكار الأوصاف المنفرة من الرسول، وهذا يعمق التصنيف والسير في نفس الاتجاه، لضمان رفض الفكر الجديد وبالسرعة المناسبة. قال تعالى حكاية عن بعض مفكريهم: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ . فَقَالَ إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . إِنْ هَـٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:18-25]. تمييز الفكر المخالف لقد ميز القرآن أفكار الكفار والمنافقين، وبينها بوضوح، وهذا يسهّل فهمها، ويمكّن المسلمين من تحاشي تأثيرها. إن استخدام التوصيفات أو التصنيف في فئات معينة، كالكفار والمنافقين، يعمق وجهة النظر تجاه هؤلاء لدى الأتباع، فكثرة الكلام على الكفار مثلاً ينفر السامع منهم، ويجعلهم على حذر. ويتأكد هذا من خلال تصنيف وتوصيف الأتباع بالمؤمنين، وتكرار مناداتهم بذلك. يتكون جراء ذلك نماذج عصبية خاصة بالمؤمنين وفكرهم، وأخرى خاصة بالمخالفين، وتعمل النصوص المتكررة على تعميق هذه النماذج. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ . يُخَادِعُونَ اللَّـهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ . فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّـهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8-12]. نلاحظ هنا أن القرآن أخرج المنافقين من فئة المؤمنين، ووصفهم بالخداع والكذب، وصنفهم في فئة المفسدين، وهذه نماذج تتشكل في عقول المؤمنين، وتترسخ مع التكرار والتذكير. وقال تعالى عنهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ۚ نَسُوا اللَّـهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]. لاحظ الوصف الجانبي في هذه الآيات، فالمنافقون يأمرون بالمنكر، وهذا مخالف لما يفعله المؤمنون، وهو الأمر بالمعروف. كما استخدم القرآن، في هذه الآيات، أسلوب العكس وهو أسلوب إبداعي جانبي، فقد نسيهم الله كما نسوا ذكره. الاستقطاب في دعوته إلى الإيمان، ركز القرآن على أم القرى، من خلال أساليبه الجانبية، كما ركز على أم القرى في وعيده. سبب ذلك أن أم القرى هي مركز أفكار الكفر، تستقطب ما حولها، ولا تتأثر بأفكارهم، بل هي التي تؤثر فيهم. لذلك كان لا بد من الوصول إلى عمق الكفر أو مركزه وضربه في العمق، في حالة عدم استجابتهم لداعي الإيمان. قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى:7]، وقال: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98]. وكما يضرب القرآن الفكر المخالف عن طريق خلخلة النماذج التي تمثل هذا الفكر، فإنه يعمق الفكر الصحيح في النفس، ويرسخه، ويظهر أثر ذلك في سلوك الأنبياء والأتقياء. هذا الأثر نلمسه بشكل واضح في سلوك سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح. فعلى الرغم من الوعد الذي قطعه سيدنا موسى على نفسه بعدم الاعتراض، إلا أنه لم يتمالك نفسه التي تربت بشكل راسخ على الأفكار الصحيحة. لقد رفض خرق السفينة باعتباره عملاً تخريبياً، ورفض *** الفتى لأنه إزهاق لنفس زكية بغير حق، ورفض العمل بغير أجر لأناس رفضوا مساعدتهم. وكل هذا ليس يرجع للنسيان، أو المخالفة؛ بل لأن النماذج التي تمثل الأفكار التي يسير عليها سيدنا موسى هي نماذج راسخة متينة لا سبيل لخلخلتها.
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|