اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > قصر الثقافة > الأدب العربي

الأدب العربي قسم يختص بنشر ما يكتبه كبار الشعراء والأدباء قديمًا وحديثًا

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 17-05-2013, 09:54 AM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
New الرحيل (قصة قصيرة)

كانت قريتنا "أسدود" هي آخِرَ قرية وصلَتْ إليها الجيوش العربية المتَّجهة شمالاً مع الساحل الفلسطيني، من البحر الأبيض المتوسط، وكانت القريةُ تَربض على الحد الفاصل ما بين كثبان الرِّمال الفضيَّة العالية الممتدَّة، حتى شاطئ البحر، والتي تجود في سُفوحها زراعةُ العنب والتُّوت، وغيرهما من أنواع الفاكهة من الجهة الغربيَّة، وبين الأراضي الطينيَّة الداكنة الخصبة التي تزرع فيها أنواع الحبوب، والمقاثي، والخضار على المطر.

وكانت منطقة "الرَّأس" أشبه بجبلٍ يُشْرِف على ربوع القرية كلِّها؛ حيث تكلِّله أشجار الزيتون المعمّرة، وأشجار التين بكافَّة أنواعها، فلا تكاد تجد فيه موطِئَ قدم إلاَّ وعليه شجرة مثمِرة، حتى إننا لم نكن نجرؤ على التوغُّل في هذه المنطقة؛ لتشابك أشجارها، والتِفاف أغصانها.

وحيثما نظَرْتَ من على هذا "الرأس" لا تقع عيناك إلاَّ على جمال فِطْري، وطبيعةٍ بِكْر لا تكاد تلمسها يدُ الإنسان إلا بمقدار ما تَجني من الثِّمار، وكانت الأمطار في تلك الأيام غزيرةً طيلةَ أشهر الشِّتاء، وجانبًا من أشهر الخريف قبله.

مسح (الأُمْباشي عطية) بيده على رأسي، ونظرتُ إلى وجهه، فرأيتُ دموعًا تفرُّ من عينيه، فسارع، ومسحها بكمِّ سترته، واستدار عائدًا إلى خيمته المنصوبة على مقربة من بستاننا، وهو يؤكد عليَّ، قائلاً بكل حزم:
أسرعوا بمغادرة القرية يا حسين، اتَّجِهوا نحو غزة في أول سيارة تجدونها، أو حتى سيرًا على الأقدام.

كان (الأمباشي عطية) قد جاوز الأربعين من عمره في ذلك العام؛ عام النكبة الكبرى 1948م، رجلاً على قدرٍ كبير من التديُّن، وحُسن الخلق، وكان يؤذِّن لكل وقت من أوقات الصلاة، ويؤمُّ رفاقه، مرتلاً القرآن بصوتٍ رخيم خاشع، يَنْفُذ إلى أعماقي، بالرغم من عدم إدراكي لمعظم معانيه.

كنت يتيمًا لم أتجاوز العاشرة من عمري، وقد فقدتُ والدي - رحمه الله - منذ طفولتي المبكرة، وحُرِمت من حنان الأبوَّة في أحوج الأوقات إليه؛ ولذا فقد كانت يد (الأمباشي عطية) الحانية تُشْعِرني أنَّ الدنيا بخير، وكم كانت سعادتي عندما يكلِّفني هو - أو أحدُ رفاقه - بشراء شيءٍ من احتياجاتهم من القرية! كنت أنهب الأرض جريًا على قدمي، وإن هي إلاَّ ساعة حتى أكون قد عدتُ لهم بما طلبوا، فألِفُوني، وألِفْتُهم.

كانت عرائش العنب في بستاننا مثقلةً، تَنُوء بحملها، فلا أحد يشتري، وحتى لو وُجد المشتري فمن الذي سيقوم بعمليَّة جمع العنب ونقله إلى سوق القرية الصغير؟! لم يكن لدينا سوى حمارٍ هزيل، كبير السن، لا يكاد يحملني، ولم يكن لنا مَن يقوم بخدمة هذا البستان الكبير، خاصة وأننا نسكن في القرية بعيدين عنه.

كانت عناقيد العنب في أواخر الصيف صفراء ذهبيَّة، وكانت حباتها صافية صفاءً عجيبًا، بحيث ترى البذورَ من داخلها، وكثيرٌ من هذه العناقيد ذبل حتى صار زبيبًا على أمِّه.

وصلتُ البيت قبيل المغرب بقليل، ولا تزالُ كلمات (الأمباشي عطية) ترنُّ في أذني: "اتَّجهوا نحو غزة في أول سيارة تجدونها، أو حتى سيرًا على الأقدام"، لم أكن حينئذٍ أدرك شيئًا مما يدور في ذهن (الأمباشي عطية)، غير شعور خفيٍّ بالرَّهبة من أحداث خطيرة ستحدث في قريتنا قريبًا، ولكن كلماته كانت حازمة صارمة، فلم أجد بُدًّا من إخبار بعض كبار السِّن من الجيران، وأخبرتُ والدتي كذلك.

وكانت هي أكثرَ إدراكًا منِّي للكارثة المنتَظَرة، فسارعَتْ إلى بعض ملابسنا، وحزمَتْها في كيس، وربطَته بإحكام، وكان الخبر قد سرى في القرية سريان النار في الهشيم، فما كنت ترى سوى أناسٍ حائرين مسرعين؛ هذا يحمِّل على جمله، وذاك على حماره، وآخر يحمِّل على كتفه ما استطاع من متاع، وما كنت تسمع سوى همسات يتناقلها الناس، مفادها أنَّ الجيش قد غادر القرية تحت جنح الظَّلام وبدأنا نسمع أَزيز طائرة يهوديَّة تقترب من سماء القرية، وبدأت براميل البارود تُلقى منها واحدًا بعد الآخر.

إنها لم تكن قنابل، بل براميلَ بارود، مملوءةً بقطع الحديد الصغيرة، والمسامير، وموادّ أخرى قابلةٍ للاشتعال، وتهاوَتْ منازل الطِّين؛ إمَّا بفِعْل البراميل الملعونة، أو بفعل الارتجاج الكبير الذي كانت تُحْدِثه، ونشبَتْ حرائق عديدة في الجوار، ولم يكن أمامنا إلاَّ جدُرٌ مُتداعية، نستتر بها من الهول النَّازل من السماء، وتطايرت أَشْلاء كثيرة، مُخلِّفةً وراءها دماءً هنا وهناك، وعلى بقايا الجدران.

ولم يستطع أحدٌ في الظلام الدَّامس أن يقدِّر حجم الخسائر التي حلَّت بالقرية، ولكن عدد الانفجارات كان يوحي بألا بيت بقي سالِمًا، وسيطرَ الرُّعب على القلوب؛ الأسلحة التي كانت بأيدي الرِّجال كانت قد سُحِبت منهم منذ حين، تلك الأسلحة البسيطة التي اشتُرِيت بثمن الجمل والبقرة وحلي النِّساء، وعند انبلاج الصَّباح ظهر الدَّمار الذي أحدثَتْه الغارة اليهودية على القرية، كان كثيرٌ من الناس قد دُفِنوا أحياء تحت أكوام الطين.

كانت لنا جارة عجوز أخرجوا نصف جسدها، ولم يعثروا على بقيته! وقد وُجِدت قطعة منها مُلْقاة في فناء دارنا بعد ساعات من شروق الشمس؛ ما دلَّني عليها سوى أسرابٍ من النَّمل جذبَتْها رائحةُ اللَّحم الآدمي! وجارنا "محمود" بُتِرت رجله من الفخذ، وطرحت بعيدًا، فنَزف حتى فارق الحياة، ولم يره أحدٌ عندما لفظ أنفاسه الأخيرة!

كان الدَّمار الشامل الذي حلَّ بالقرية مروِّعًا، يصيب الإنسان بِقُشَعْريرة، تنفُذ في جسده حتى العظام.

وضعَت أمِّي كيس ملابسنا على الحمار، وأركبَتْني خلفه؛ لأمسك به؛ حتَّى لا يقع، وبدأنا رحلة العذاب في اتِّجاه الجنوب، وأمِّي تحمل كمِّية قليلة من الدقيق فوق رأسها، أما أختي فقد حملَتْ بعض الأواني التي لا بدَّ منها.

كان ذلك الصباح هو أوَّلَ يوم من أيام الرحلة الطويلة؛ رحلة الشَّتات والمعاناة، غيوم سوداء تجلِّل وجه الشمس، وتلقي بظِلالها على النَّاس والأشياء، وهو مَنْظر كان يفترض أن يكون جميلاً رائعًا في غير حالتنا تلك، وعبير أزاهير البرتقال التي شذَّت عن القاعدة، فتفتَّحَت في غير أوانها يملأ الجوَّ من حولنا، والناس عنه غافلون.

كان عمي "إبراهيم" يسيرُ خلفنا، وقد حمَّل خروفًا صغيرًا على جمله مع بعض أمتعته، كان منظر الخروف المسكين مؤثِّرًا وهو يحاول أن يتخلَّص من وثاقه، ويَثْغو يائسًا بين فينةٍ وأخرى، وعمي يعيده إلى مكانه؛ حتَّى لا يسقط، كانت أمُّ الخروف قد دُفِنت تحت أنقاض البيت، ولم يَستطع عمي استنقاذها رغم محاولاته العديدة.

وسِرْنا في قافلةٍ صغيرة حزينة وسط الجموع التي لم تكن أحسن منَّا حالاً، لا أحد ينظر إلى أحد، كلُّ إنسان له من هَمِّه ما يكفيه ويزيد؛ هذا يبحث عن ولده الذي ضلَّ عنه، وهذه تسأل عن أهلها، كان يومًا أشبه بيوم القيامة!

وبدأَت الشمس تلدغ الأرض، والناس بسِياطها بعد أن انجابت السُّحب مع ضَحْوة النهار، وبدأ العطش يفعل فِعْله في الأجساد؛ إذْ لم يكن حَمْلُ الماء سهلاً في تلك الأيام، وبدأ الإجهاد يأخذ منَّا مَأْخذه، فنجلس قليلاً تحت ظلال الأشجار النامية على الطريق، ومن بعيدٍ تصل إلى آذاننا أصواتُ الرشَّاشات تهدر؛ لِتَحُول بين الناس وبين الاتجاه في غير الطريق المرسوم.

إنَّ اليهود يريدون بلادًا بلا ناس، إنَّهم يخطِّطون لإقامة الدولة الكبرى من النيل إلى الفرات، إنَّهم يستجلبون المهاجرين من كلِّ أقطار الدنيا، وبكل وسيلة مشروعة وغير مشروعة؛ تارةً بالترغيب، وتارة بالترهيب، وفي معظم الأحوال بافتعال الحوادث ضدَّ اليهود في أنحاء العالَم.

إنها خطة تلموديَّة حاقدة مدروسة، ويقفز من أمامنا أرنب برِّي قطَع الطريق في قفزات واسعةٍ معدودة.

لا شكَّ أن شيئًا روَّعه هو الآخر، كان فرْوُه أبيضَ ناصعًا، يلمع في ضوء الشمس المبهر، ولم يكترث أحدٌ لرؤيته؛ فما نحن فيه كان أعظمَ مِن ذلك.

وأخذت الأخبار تصل إلينا مع تلاحُقِ الناس على طول الطريق؛ لقد تُوفِّي "أبو حمزة" البقال، هو وكل أفراد أسرته تحت أنقاض دارِهم، لم ينجُ منهم أحد، كانوا خمسة أفراد؛ هو وزوجه، وثلاثة أطفال، كان أحدهم رفيقي، فحزنتُ عليه كثيرًا، وبكَت أمي بصوتٍ مكتوم، وبكيتُ أنا وأختي بصوت عالٍ، كانت الطريق تَشرب الدُّموع الغزار التي سكبَتْها الأعين حزنًا على الأموات، ويُحاذينا جارنا "أبو ذياب" وهو يحمل طفلتَه الوحيدة على كتفه، ويسأل النَّاس عن زوجته التي لا يَعلم هل هي بين الأحياء، أو أنها أصبحت في عداد الأموات، ويقترب من عمِّي، قائلاً بصوت مفجوع:
الحسرة على الأحياء.
الذين ماتوا استراحوا.

ويبقى عمي صامتًا لا يجيب، كان يسحب الجمَل، وينظر إلى الأرض، ولا يرفع رأسه إلاَّ عندما يحس أنَّ الخروف يريد التملُّص من وثاقه، فيعيده إلى مكانه، ويواصل سيره، كنت أعلم أنَّ همَّ الدنيا كلها واقعٌ على رأس أمي، لم أُلْحِف كثيرًا في طلب الماء، بالرغم من العطش الشديد الذي كاد يَعْقد لساني، ورأيت بعض الأطفال يدخلون إلى بساتين البرتقال، ويخرجونَ وفي أيديهم حبَّاتٌ قليلة ذابلة أو جافَّة مما تساقط في موسم البرتقال، وأُهْمِل ولم يجد مَن يجمعه، فدخلتُ مثلهم، وبحثت طويلاً تحت أشجار البرتقال، ولكني عدتُ خالي اليدين، وازداد عطشي حتَّى أشفقت عليَّ أُمِّي، وكانت أختي أكثر مني جلَدًا فلم تَشْكُ من العطش، بالرغم من أنَّ وجهها بدا أصفر شاحبًا كالليمونة، وكأنها مرضت شهرًا.

كان واضحًا أن الجوَّ قد خلا لعصابات اليهود التي أخذَتْ تعيث في الأرض فسادًا، وتفرغ أحقادها على أناسٍ عُزَّل من كلِّ سلاح، وكانت أخبارُ "م***ة دير ياسين" قد انتشرَتْ بين النَّاس الذين لم يَعُد لهم حديثٌ إلاَّ عن عشرات الآلاف الذين هجَّرَتْهم تلك العصابات، وسوَّتْ قُرَاهم بالأرض بعد أن كانت أنباءُ انتصارات المجاهدين تبعث النَّشوة في القلوب، وتزيد الناس إصرارًا على التمسُّك بديارهم وأراضيهم.

انتصف النَّهار ولا نزالُ لم نبتعد عن مشارف القرية كثيرًا، وأصبحنا في مجال رماية الرشاشات اليهودية في مستعمرة (نيت ساليم)، بعد أن عادت إليها عصابات اليهود، واستحكمتْ في معسكرات الجيش البريطاني المهجورة المجاورة.

وعند أذان العصر، كُنَّا قد وصلنا أقرب قرية، وهي قرية "حمامة"، وعلى مشارفها حَطَّ الناس رحالهم وأمتعتهم، وجلسوا في ظلال الأشجار، وكانت الفرحة لا توصف عندما وجدنا ماءً كثيرًا في أحد البساتين، فشربنا، وشربنا، وشربنا! إنَّ الظَّمآن يظنُّ بأن كل مياه الدنيا لن ترويه، وكانت بطوننا خاوية تمامًا، فأنزلَتْ أمِّي الدقيق عن رأسها، وتهاوت على الأرض إعياءً وحزنًا، وجمعنا بعض أعواد الحطب، والتمسنا جمراتٍ وقطعةً صغيرة من صفيح صَدِئ، وعجنَتْ أمي بعض الدقيق، وسوَّته على النار على عجَل.

كان الخبز أسود كالفحم من أسفله، ومع ذلك وجدته شهيًّا رائعًا عندما تناولتُه مع قليلٍ من الملح يومها، أكلتُ وأكلت، وكانت أمي تنظر إليَّ وأنا ألتهم الخبز، وابتسامةٌ حزينة تلوح على غضون وجهها، ولكن أختي لم تتناول سوى لُقَيمات معدودة، ونامت كأنَّها ميتة، وقد وضعت رأسها على كيس الملابس، لقد بعث الطعام بعض النشاط في جسمي، وزايلني الخمول الذي كنت أشعر به، ووجدتُ في نفسي رغبة طفولية في أن أصعد على شجرة الجميز التي كنا نجلس في ظلِّها، فغافَلْتُ أمي، وصعدت، كان هناك عشٌّ يلوح فوق غصن بعيدٍ من أغصان الجميزة، فأخذتُ أقفز حتى وصلته، فوجدته فارغًا إلاَّ من قشور بيض قديمة مكسرة، وحاولت أن أنزل كما صعدت، ولكن زلَّت قدمي، فسقَطْتُ تتقاذفني الأغصان، يسلِّمُني أحدها للآخر، حتى وصلت الأرض، وفي جسدي جروح كثيرة، ولكن الله تعالى رحمني فلم يكسر لي عظم! وراحَت أمي تعنِّفُني، بل وصل بها الأمر أن اشتكتني لعمي الذي لم يزد على أن قال:
الله يهديك يا حسين.
يكفينا ما نحن فيه يا ولدي.

ووضعَتْ أمي بعض الرَّماد على جروحي، وأخذتُ أنظر إلى الأرض خجلاً، ووعدتُهما بأن أكون هادئًا.

وفجأة تذكرَتْ أمي شيئًا مهِمًّا؛ لقد نسيت صكَّ ملكيَّتِنا للكروم والأراضي الزراعيَّة الأخرى! فازداد هَمُّها وغمها.

قضينا الليلة في أماكننا، ولم تَصْحُ أختي من النَّوم إلا مع إشراق شمس اليوم التالي، كانت منهكةً تمامًا، فوضعَتْ أمي يدها على جبهتها، فوجدتْ حرارتها عالية، وبدأت المسكينة تتقيَّأ، ولا شيء في معدتها، وزاد إعياؤها وشحوبُ وجهها، وأخذتْ تتلوَّى من آلام مبرحة، كانت أمي عندما نشكو ألَمًا تسارع إلى ما لديها من أعشابٍ جافَّة، فتغليها، وتَسْقينا منها، فنُشفى - بإذن الله - ولكن الوضع مختلف الآن، فلا مستشفى ولا طبيب، ولا أعشاب، وتتلوَّى أختي كأنما لدغَتْها أفعى، وتحاول أن تكتم آلامها، ولكنها تفقد السيطرة على نفسها أحيانًا، فتصرخ من الألَم، واجتمع بعض الناس حولنا، ولكن لا أحد منهم يملك لها شيئًا، وأمي يكاد ي***ها الحزن والإشفاق على أختي المسكينة.

وتزاد الحالة سوءًا، ونسمع رمايةً برشَّاشات في مكان قريب، وينفَضُّ الناس من حولنا؛ كلٌّ يَطْلب النجاة بروحه، وخلَّف بعضُهم كثيرًا من أمتعتهم وراءهم، لم يبق معنا غير عمي وزوجه وأولاده، وجميعهم صغار، لا حول لهم ولا طول، ويرتفع دخان كثيف من بستان مجاورٍ بفِعْل طلقات أصابت أكوامًا كبيرة من القشِّ، وتصل إلينا سحُب الدُّخان، فتكاد تغطينا، فأخَذْنا في السُّعال بشكل متواصل، وأختي لا تزال تتلوَّى.

وارحمتاه لأختي الحبيبة! وفجأةً يرتخي الجسد الصغير الذَّابل، وتَشْخَص العينان الواسعتان الجميلتان نحو السماء، فيُسارع عمِّي بإغماضهما وتَقْبيلها، وتحويلها إلى القِبْلة، وتنهار أمِّي فوق أختي باكيةً، وتشاركها امرأةُ عمِّي في البكاء، ويتحلَّق الجميع حول الجسد الشاحب المسجَّى، فأكاد أفقد عقلي؛ لقد كانت أختي كلَّ شيء عندي، كانت طيِّبة كأنَّها ملاكٌ صغير، وديعةً بريئة كالعصافير التي كانت تتنقَّل طائرة بين الأشجار حولنا.

وكان لا بدَّ من مُواراة الصغيرة تحت الثَّرى بعد أنْ تأكَّد موتُها، ولكن كيف السبيل إلى ذلك ونحن لا نعرف مقابر القرية، ولا أحد حولنا لنسأله؟! وأخيرًا اتَّفق الكبار على أن ندفنها تحت نفس الشجرة، فأحضر عمِّي بعض الماء، وتنحَّيْنا جانبًا، فقامت أمي وزوجة عمي بتغسيلها، وصلَّى عمي عليها صلاة الجنازة، وهو يُغالب دموعه، ووضَعْنا عليها ثيابها حيث لا كفن! وتعاونَّا جميعًا على حفر القبر الصغير، ووُورِيَت أختي الحبيبة تحت التراب، وسط دموعٍ غزيرة ذرَفْناها عليها صامِتين، واستأنف موكبُنا الحزينُ سيْرَه نحو الجنوب؛ لإكمال رحلة العذاب الطويلة، وأمي تنظر خلفنا نحو القبر وهي ذاهلة.

وبعد ثلاثين عامًا مريرة من التنقُّل بين بلاد الله، توُفِّيت خلالها أمي، وصرت أبًا لعددٍ من البنين والبنات الذين أصبحوا في سنِّ الشباب، أتاح الله لي فرصةً طالَما تاقت روحي إليها، فعُدت - زائرًا - إلى قريتي التي أصبحَتْ جزءًا مما نسمِّيه بالأرض المحتلَّة، وفي الطريق إليها، وصَلْنا إلى قرية "حمامة"، فطلبتُ من ابن عمِّي الذي كان يقود السيَّارة أن يتمهَّل في سيره، كانت المعالِمُ قد تغيَّرَت كثيرًا، ولكن شجرة جميز وحيدةً كانت لا تزال قائمة، وقد جفَّ معظم أغصانها، فعرفتُ أنَّها هي هيَ الشجرةُ التي تَثْوي تحتَها شقيقةُ روحي، التي لم أنْسَها رغم تقادم العهد ومرور السنين، فطلبتُ من ابن عمي إيقافَ السيارة قريبًا من كومة الحجارة التي كنَّا قد وضعناها فوق القبر؛ حتَّى لا تنبشه الثَّعالب؛ لتستخرج الجسد الصغير الذي أودَعْناه فيه قريبًا من سطح الأرض، ولم أتمالك نفسي، فوجدتُني أجهش باكيًا، كأنَّني طفل فقدَ أمه قبل لحظات، وبكى أبنائي لِبُكائي.

وبعد لأْيٍ استعدتُ طمأنينة نفسي، وعزَّيْتُها بإكثاري من قول: "لا حول ولا قوَّة إلا بالله"؛ لعلَّ الله تعالى أحبَّ تلك الصغيرة البريئة، فأراد أن يرحم ضعفها، ويُرِيحها من رحلة الضَّياع الطويلة!
__________________

آخر تعديل بواسطة ام علاء ، 17-05-2013 الساعة 12:21 PM
رد مع اقتباس
 

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 05:20 AM.