|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها تأليف محمد ناصر ا
الحمد لله الذي فرض الصلاة على عباده وأمرهم بإقامتها وحسن أدائها وعلق النجاح والفلاح بالخشوع فيها وجعلها فرقانا بين الإيمان والكفر وناهية عن الفحشاء والمنكر .
والصلاة والسلام على نبينا محمد المخاطب بقوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] فقام صلى الله عليه وسلم بهذه الوظيفة حق القيام وكانت الصلاة من أعظم ما بينه للناس قولا وفعلا حتى إنه صلى مرة على المنبر يقوم عليه ويركع ثم قال لهم : ( إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ) ( البخاري ومسلم ) وأوجب علينا الاقتداء به فيها فقال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ( البخاري ومسلم ) وبشر من صلاها كصلاته أن له عند الله عهدا أن يدخله الجنة فقال : ( صحيح أبي داود ) ( خمس صلوات افترضهن الله عز وجل من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ) وعلى آله وصحبه الأتقياء البررة الذين نقلوا إلينا عبادته صلى الله عليه وسلم وصلاته وأقواله وأفعاله وجعلوها - وحدها - لهم مذهبا وقدوة وعلى من حذا حذوهم وسلك سبيلهم إلى يوم الدين . وبعد فإني لما انتهيت من قراءة ( كتاب الصلاة ) من " الترغيب والترهيب " للحافظ المنذري - رحمه الله - وتدريسه على بعض إخواننا السلفيين - وذلك منذ أربع سنين - تبين لنا جميعا ما للصلاة من المنزلة والمكانة في الإسلام وما لمن أقامها وأحسن أداءها من الأجر والفضل والإكرام وأن ذلك يختلف - زيادة ونقصا - بنسبة قربها أو بعدها من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كما أشار إلى ذلك بقوله ( صحيح أبي داود ) : ( إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عشرها تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها ) ولذلك فإني نبهت الإخوان إلى أنه لا يمكننا أداؤها حتى الأداء - أو قريبا منه - إلا إذا علمنا صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم مفصلة وما فيها من : واجبات وآداب وهيئات وأدعية وأذكار ثم حرصنا على تطبيق ذلك عمليا فحينئذ نرجو أن تكون صلاتنا تنهانا عن الفحشاء والمنكر وأن يكتب لنا ما ورد فيها من الثواب والأجر . ولما كان معرفة ذلك على التفصيل يتعذر على أكثر الناس - حتى على كثير من العلماء - لتقيدهم بمذهب معين وقد علم كل مشتغل بخدمة السنة المطهرة جمعا وتفقها أن في كل مذهب من المذاهب سننا لا توجد في المذاهب الأخرى وفيها جميعها ما لا يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال وأكثر ما يوجد ذلك في كتب المتأخرين وكثيرا ما نراهم يجزمون بعزو ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك وضع علماء الحديث - جزاهم الله خيرا - على بعض ما اشتهر منها كتب التخريجات التي تبين حال كل حديث مما ورد فيها من صحة أو ضعف أو وضع ككتاب " العناية بمعرفة أحاديث الهداية " و" الطرق والوسائل في تخريج أحاديث خلاصة الدلائل " كلاهما للشيخ عبد القادر بن محمد القرشي الحنفي و" نصب الراية لأحاديث الهداية " للحافظ الزيلعي ومختصره " الدراية " للحافظ ابن حجر العسقلاني و" التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير " له أيضا وغيرها مما يطول الكلام بإيرادها . أقول : لما كان معرفة ذلك على التفصيل يتعذر على أكثر الناس ألفت لهم هذا الكتاب ليتعلموا كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيهتدوا بهديه فيها راجيا من المولى سبحانه وتعالى ما وعدنا به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا . . ) . الحديث . رواه مسلم وغيره وهو مخرج في ( الأحاديث الصحيحة ) ( 863 ) . سبب تأليف الكتاب ولما كنت لم أقف على كتاب جامع في هذا الموضوع فقد رأيت من الواجب علي أن أضع لأخواني المسلمين - ممن همهم الاقتداء في عبادتهم بهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم - كتابا مستوعبا ما أمكن لجميع ما يتعلق بصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم بحيث يسهل على من وقف عليه - من المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم حبا صادقا - القيام بتحقيق أمره في الحديث المتقدم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) . ولهذا فإني شمرت عن ساعد الجد وتتبعت الأحاديث المتعلقة بما إليه قصدت من مختلف كتب الحديث فكان من ذلك هذا الكتاب الذي بين يديك وقد اشترطت على نفسي أن لا أورد فيه من الأحاديث النبوية إلا ما ثبت سنده حسبما تقتضيه قواعد الحديث الشريف وأصوله وضربت صفحا عن كل ما تفرد به مجهول أو ضعيف سواء كان في الهيئات أو الأذكار أو الفضائل وغيرها لأنني أعتقد أن فيما ثبت من الحديث غنية عن الضعيف منه لأنه لا يفيد - بلا خلاف - إلا الظن والظن المرجو وهو كما قال تعالى : لا يغني من الحق شيئا . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) ( البخاري ومسلم ) فلم يتعبدنا الله تعالى بالعمل به بل نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال ( اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم ) ( صحيح الترمذي ) فإذا نهى عن رواية الضعيف فبالأحرى أن ينهى عن العمل به . هذا وقد كنت وضعت الكتاب على شطرين : أعلى وأدنى أما الأول فهو كالمتن أوردت فيه متون الأحاديث أو الجمل اللازمة منها ووضعتها في أماكنها اللائقة بها مؤلفا بين بعضها بحيث يبدو الكتاب منسجما من أوله إلى آخره وحرصت على المحافظة على نص الحديث ولفظه الذي ورد في كتب السنة وقد يكون له ألفاظ فأوثر منها لفظا لفائدة التأليف أو غيره وقد أضم إليه غيره من الألفاظ فإنه على ذلك بقولي : ( وفي لفظ : كذا وكذا ) أو ( وفي رواية كذا وكذا ) ولم أعزوها إلى رواتها من الصحابة إلا نادرا ولا بينت من رواها من أئمة الحديث تسهيلا للمطالعة والمراجعة . وأما الشطر الآخر فهو كالشرح لما قبله خرجت فيه الأحاديث الواردة في الشطر الأعلى مستقصيا ألفاظه وطرقه مع الكلام على أسانيدها وشواهدها تعديلا وتحريجا وتصحيحا وتضعيفا حسبما تقتضيه علوم الحديث الشريف وقواعده وكثيرا ما يوجد في بعض الطرق من الألفاظ والزيادات ما لا يوجد في الطرق الأخرى فأضيفها إلى الحديث الواردة في القسم الأعلى إذا أمكن انسجامها مع أصله وأشرت إلى ذلك بجعلها بين قوسين مستطيلين هكذا [ ] دون أن أنص على من تفرد بها من المخرجين لأصله هذا إذا كان مصدر الحديث ومخرجه عن صحابي واحد وإلا جعلته نوعا آخر مستقلا بنفسه كما تراه في أدعية الاستفتاح وغيره وهذا شيء عزيز نفيس لا تكاد تجده هكذا في كتاب والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات . ثم أذكر فيه مذاهب العلماء حول الحديث الذي خرجناه ودليل كل منهم مع مناقشتها وبيان ما لها وما عليها ثم نستخلص من ذلك الحق الذي أوردناه في القسم الأعلى وقد أورد فيه بعض المسائل التي ليس عليها نص في السنة إنما هي من المجتهد فيها ولا تدخل في موضوع كتابنا هذا . ولما كان طبع الكتاب بشطريه مما لم يتيسر لنا القيام به - لأسباب قاهرة - فقد رأينا أن نطبع الشطر الأول منه مستقلا عن الآخر إن شاء الله تعالى وسميته : " صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها " . أسأل الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به إخواني المؤمنين إنه سميع مجيب . منهج الكتاب ولما كان موضوع الكتاب إنما هو بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة كان من البدهي أن لا أتقيد فيه بمذهب معين للسبب الذي مر ذكره وإنما أورد فيه ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم كما هو مذهب المحدثين قديما وحديثا وقد أحسن من قال : أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا أنفسه أنفاسه صحبوا ولذلك فإن الكتاب سيكون إن شاء الله تعالى جامعا لشتات ما تفرق في بطون كتب الحديث والفقه - على اختلاف المذاهب مما له علاقة بموضوعه - بينما لا يجمع ما فيه من الحق أي كتاب أو مذهب وسيكون العامل به إن شاء الله ممن قد هداه الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . ثم إني حين وضعت هذا المنهج لنفسي - وهو التمسك بالسنة الصحيحة - وجريت عليه في هذا الكتاب وغيره - مما سوف ينتشر بين الناس إن شاء الله - كنت على علم أنه سوف لا يرضي ذلك كل الطوائف والمذاهب بل سوف يوجه بعضهم أو كثير منهم ألسنة الطعن وأقلام اللوم إلي ولا بأس من ذلك علي فإني أعلم أيضا أن إرضاء الناس غاية لا تدرك وأن : ( من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ) ( صحيح الصحيحة 2311 ) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولله در من قال : ولست بناج من مقالة طاعن ولو كنت في غار على جبل وعر ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر فحسبي أنني معتقد أن ذلك هو الطريق الأقوم الذي أمر الله تعالى به المؤمنين وبينه نبينا محمد سيد المرسلين وهو الذي سلكه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وفيهم الأئمة الأربعة - الذين ينتمي اليوم إلى مذاهبهم جمهور المسلمين - وكلهم متفق على وجوب التمسك بالسنة والرجوع إليها وترك كل قول يخالفها مهما كان القائل عظيما فإن شأنه صلى الله عليه وسلم أعظم وسبيله أقوم ولذلك فإني اقتديت بهداهم واقتفيت آثارهم وتبعت أوامرهم بالتمسك بالحديث وإن خالف أقوالهم ولقد كان لهذه الأوامر أكبر الأثر في نهجي هذا النهج المستقيم وإعراضي عن التقليد الأعمى فجزاهم الله تعالى عني خيرا . أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها ومن المفيد أن نسوق هنا ما وقفنا عليه منها أو بعضها لعل فيها عظة وذكرى لمن يقلدهم - بل يقلد من دونهم بدرجات تقليدا أعمى - ويتمسك بمذاهبهم وأقوالهم كما لو كانت نزلت من السماء والله عز وجل يقول : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون . ( الأعراف 3 ) 1 - أبو حنيفة رحمه الله فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله وقد روي عنه أصحابه أقوالا شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها : 1 - ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) . ( ابن عابدين في " الحاشية " 1/63 ) 2 -( لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه ) . ( ابن عابدين في " حاشيته على البحر الرائق " 6/293 ) وفي رواية : ( حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ) . زاد في رواية : ( فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا ) . وفي أخرى : ( ويحك يا يعقوب ( هو أبو يوسف ) لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد ) . 3- ( إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي . ( الفلاني في الإيقاظ ص 50 ) 2 - مالك بن أنس رحمه الله وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقال : 1 - ( إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ) . ( ابن عبد البر في الجامع 2/32 ) 2 - ( ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم ) . ( ابن عبد البر في الجامع 2/91 ) 3 - قال ابن وهب : سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ؟ فقال : ليس ذلك على الناس . قال : فتركته حتى خف الناس فقلت له : عندنا في ذلك سنة فقال : وما هي ؟ قلت : حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه . فقال : إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع . ( مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ص 31 - 32 ) 3 - الشافعي رحمه الله وأما الإمام الشافعي رحمه الله فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب وأتباعه أكثر عملا بها وأسعد فمنها : 1- ( ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي ) . ( تاريخ دمشق لابن عساكر 15/1 /3 ) 2 -( أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد ) . ( الفلاني ص 68 ) 3 -( إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت ) . وفي رواية ( فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد ) . ( النووي في المجموع 1/63 ) 4- ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) . ( النووي 1/63 ) 5- ( أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون : كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا ) . ( الخطيب في الاحتجاج بالشافعي 8/1 ) 6- ( كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي ) . ( أبو نعيم في الحلية 9/107 ) 7 - ( إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب ) . ( ابن عساكر بسند صحيح 15/10/1 ) 8 - ( كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني ) . ( ابن عساكر بسند صحيح 15/9/2 ) 9 -( كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني ) . ( ابن أبي حاتم 93 - 94 ) 4 - أحمد بن حنبل رحمه الله وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعا للسنة وتمسكا بها حتى ( كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي ) 1- ولذلك قال : ( لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا ) . ( ابن القيم في إعلام الموقعين 2/302 ) وفي رواية : ( لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير ) . وقال مرة : ( الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير ) . ( أبو داود في مسائل الإمام أحمد ص 276 - 277 ) 2 -( رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار ) . ( ابن عبد البر في الجامع 2/149 ) 3 -( من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة ) . ( ابن الجوزي في المناقب ( ص 182 ) تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر بالتمسك بالحديث والنهي عن تقليدهم دون بصيرة وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال الأئمة لا يكون مباينا لمذهبهم ولا خارجا عن طريقتهم بل هو متبع لهم جميعا ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالتفها لقولهم بل هو بذلك عاص لهم ومخالف لأقوالهم المتقدمة والله تعالى يقول : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ النساء : 65 ] . وقال : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم . (النور63) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى : ( فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم و يقتدى به من رأى أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة وربما أغلظوا في الرد لا بغضا له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم لكن رسول الله أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورا له بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه . قلت : كيف يكرهون ذلك وقد أمروا به أتباعهم كما مر وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة ؟ بل إن الشافعي رحمه الله أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه ولو لم يأخذ بها أو أخذ بخلافها ولذلك لما جمع المحقق ابن دقيق العيد رحمه الله المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث فيها انفرادا واجتماعا في مجلد ضخم قال في أوله إن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام وإنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها لئلا يعزوها إليهم فيكذبوا عليهم ) . ترك الأتباع بعض أقوال أئمتهم اتباعا للسنة ولذلك كله كان أتباع الأئمة ثلة من الأولين . وقليل من الآخرين لا يأخذون بأقوال أئمتهم كلها بل قد تركوا كثيرا منها لما ظهر لهم مخالفتها للسنة حتى أن الإمامين : محمد بن الحسن وأبا يوسف رحمهما الله قد خالفا شيخهما أبا حنيفة ( في نحو ثلث المذهب ) وكتب الفروع كفيلة ببيان ذلك ونحو هذا يقال في الإمام المزني وغيره من أتباع الشافعي وغيره ولو ذهبنا نضرب على ذلك الأمثلة لطال بنا الكلام ولخرجنا به عما قصدنا إليه في هذا البحث من الإيجاز فلنقتصر على مثالين اثنين : 1 - قال الإمام محمد في " موطئه " ( ص 158 ) : ( قال محمد : أما أبو حنيفة رحمه الله فكان لا يرى في الاستسقاء صلاة وأما في قولنا فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه ) إلخ . 2 - وهذا عصام بن يوسف البلخي من أصحاب الإمام محمد ومن الملازمين للإمام أبي يوسف ( كان يفتي بخلاف قول الإمام أبي حنيفة كثيرا لأنه لم يعلم الدليل وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به " ولذلك ( كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه ) كما هو في السنة المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم فلم يمنعه من العمل بها أن أئمته الثلاثة قالوا بخلافها وذلك ما يجب أن يكون عليه كل مسلم بشهادة الأئمة الأربعة وغيرهم كما تقدم . وخلاصة القول إنني أرجو أن لا يبادر أحد من المقلدين إلى الطعن في مشرب هذا الكتاب وترك الاستفادة مما فيه من السنن النبوية بدعوى مخالفتها للمذهب بل أرجو أن يتذكر ما أسلفناه من أقوال الأئمة في وجوب العمل بالسنة وترك أقوالهم المخالفة لها وليعلم أن الطعن في هذا المشرب إنما هو طعن في الإمام الذي يقلده أيا كان من الأئمة فإنما أخذنا هذا المنهج منهم كما سبق بيانه فمن أعرض عن الاهتداء بهم في هذا السبيل فهو على خطر عظيم لأنه يستلزم الإعراض عن السنة وقد أمرنا عند الاختلاف بالرجوع إليها والاعتماد عليها كما قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ النساء : 65 ] . أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن قال فيهم : إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون . ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون . دمشق 13 جمادى الآخرة سنة 1370 ه . شبهات وجوابها ذلك ما كنت كتبته منذ عشر سنوات في مقدمة هذا الكتاب وقد ظهر لنا في هذه البرهة أن له تأثير طيب في صفوف الشباب المؤمن لإرشادهم إلى وجوب العودة في دينهم وعبادتهم إلى المنبع الصافي من الإسلام : الكتاب والسنة فقد ازداد فيهم - والحمد لله - العاملون بالسنة والمتعبدون بها حتى صاروا معروفين بذلك غير أني لمست من بعضهم توقفا عن الاندفاع إلى العمل بها لا شكا في وجوب ذلك بعد ما سقنا من الآيات والأخبار عن الأئمة في الأمر بالرجوع إليها ولكن لشبهات يسمعونها من بعض المشايخ المقلدين لذا رأيت أن أتعرض لذكرها والرد عليها لعل ذلك البعض يندفع بعد ذلك إلى العمل بالسنة مع العاملين بها فيكون من الفرقة الناجية بإذن الله تعالى . 1 - قال بعضهم : لا شك أن الرجوع إلى هدي نبينا صلى الله عليه وسلم في شؤون ديننا أمر واجب لا سيما فيما كان منها عبادة محضة لا مجال للرأي والاجتهاد فيها لأنها توقيفية كالصلاة مثلا ولكننا لا نكاد نسمع أحدا من المشايخ المقلدين يأمر بذلك بل نجدهم يقرون الاختلاف ويزعمون أنها توسعة على الأمة ويحتجون على ذلك بحديث - طالما كرروه في مثل هذه المناسبة رادين به على أنصار السنة - : ( اختلاف أمتي رحمة ) فيبدو لنا أن هذا الحديث يخالف المنهج الذي تدعو إليه وألفت كتابك هذا وغيره عليه فما قولك في هذا الحديث ؟ والجواب من وجهين : الأول : أن الحديث لا يصح بل هو باطل لا أصل له قال العلامة السبكي : ( لم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع ) . قلت : وإنما روي بلفظ . . . اختلاف أصحابي لكم رحمة ) . و( أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم ) . وكلاهما لا يصح : الأول واه جدا والآخر موضوع وقد حققت القول في ذلك كله في ( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ) ( رقم 58 و59 و61 ) . الثاني : أن الحديث مع ضعفه مخالف للقرآن الكريم فإن الآيات الواردة فيه - في النهي عن الاختلاف في الدين والأمر بالاتفاق فيه - أشهر من أن تذكر ولكن لا بأس من أن نسوق بعضها على سبيل المثال قال تعالى : ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم [ الأنفال 46 ] . وقال : ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون [ الروم 31 - 32 ] . وقال : ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك [ هود 118 - 119 ] فإذا كان من رحم ربك لا يختلفون وإنما يختلف أهل الباطل فكيف يعقل أن يكون الاختلاف رحمة ؟ فثبت أن هذا الحديث لا يصح لا سندا ولا متنا (ومن شاء البسط في ذلك فعليه بالمصدر السابق . ) وحينئذ يتبين بوضوح أنه لا يجوز اتخاذه شبهة للتوقف عن العمل بالكتاب والسنة الذي أمر به الأئمة . 2 - وقال آخرون : إذا كان الاختلاف في الدين منهيا عنه فماذا تقولون في اختلاف الصحابة والأئمة من بعدهم ؟ وهل ثمة فرق بين اختلافهم واختلاف غيرهم من المتأخرين ؟ . فالجواب : نعم هناك فرق كبير بين الاختلافين ويظهر ذلك في شيئين : الأول : سببه . والآخر : أثره . فأما اختلاف الصحابة فإنما كان عن ضرورة واختلاف طبيعي منهم في الفهم لا اختيارا منهم للخلاف يضاف إلى ذلك أمور أخرى كانت في زمنهم استلزمت اختلافهم ثم زالت من بعدهم (راجع ( الإحكام في أصول الأحكام ) ) لابن حزم و( حجة الله البالغة ) ) للدهلوي أو رسالته الخاصة بهذا البحث ( عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد ) ومثل هذا الاختلاف لا يمكن الخلاص منه كليا ولا يلحق أهله الذم الوارد في الآيات السابقة وما في معناها لعدم تحقق شرط المؤاخذة وهو القصد أو الإصرار عليه . وأما الاختلاف القائم بين المقلدة فلا عذر لهم فيه غالبا فإن بعضهم قد تتبين له الحجة من الكتاب والسنة وأنها تؤيد المذهب الآخر الذي لا يتمذهب به عادة فيدعها لا لشيء إلا لأنها خلاف مذهبه فكأن المذهب عنده هو الأصل أو هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والمذهب الآخر هو دين آخر منسوخ وآخرون منهم على النقيض من ذلك فإنهم يرون هذه المذاهب - على ما بينها من اختلاف واسع - كشرائع متعددة كما صرح بذلك بعض متأخريهم (انظر : ( فيض القدير ) ) للمناوي ( 1/209 ) أو ( سلسلة الأحاديث الضعيفة ) ) ( 1/76 و77)لا حرج على المسلم أن يأخذ من أيها ما شاء ويدع ما شاء إذ الكل شرع وقد يحتج هؤلاء وهؤلاء على بقائهم في الاختلاف بذلك الحديث الباطل : ( اختلاف أمتي رحمة ) وكثيرا ما سمعناهم يستدلون به على ذلك ويعلل بعضهم هذا الحديث ويوجهونه بقولهم : إن الاختلاف إنما كان رحمة لأن فيه توسعة على الأمة ومع أن هذا التعليل مخالف لصريح الآيات المتقدمة وفحوى كلمات الأئمة السابقة فقد جاء النص عن بعضهم برده . قال ابن القاسم : ( سمعت مالكا وليثا يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس كما قال ناس : ( فيه توسعة ) ليس كذلك إنما هو خطأ وصواب ) ) ابن عبدالبر في ( جامع بيان العلم ) ) ( 2/81 و82 .( وقال أشهب : ( سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة ؟ فقال : لا والله حتى يصيب الحق ما الحق إلا واحد قولان مختلفان يكونان صوابا جميعا ؟ ما الحق والصواب إلا واحد ) (ابن عبدالبر في ( جامع بيان العلم ) ) (2/82 و88 و89.( وقال المزني صاحب الإمام الشافعي : ( وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ بعضهم بعضا ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقبها ولو كان قولهم كله صوابا عندهم لما فعلوا ذلك وغضب عمر بن الخطاب من اختلاف أبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في الثوب الواحد إذ قال أبي : إن الصلاة في الثواب الواحد حسن جميل . وقال ابن مسعود : إنما كان ذلك والثياب قليلة . فخرج عمر مغضبا فقال : اختلف رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن ينظر إليه ويؤخذ عنه وقد صدق أبي ولم يأل ابن مسعود ولكني لا أسمع أحدا يختلف فيه بعد ما مقامي هذا إلا فعلت به كذا وكذا ) (ابن عبدالبر في ( جامع بيان العلم ) (2/83 - 84 ) . وقال الإمام المزني أيضا : ( يقال لمن جوز الاختلاف وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة فقال أحدهما : حلال والآخر : حرام أن كل واحد منهما في اجتهاده مصيب الحق : أبأصل قلت هذا أم بقياس ؟ فإن قال : بأصل قيل له : كيف يكون أصلا والكتاب ينفي الاختلاف ؟ وإن قلت : بقياس قيل : كيف تكون الأصول تنفي الخلاف ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف ؟ هذا ما لا يجوزه عاقل فضلا عن عالم ) (ابن عبدالبر في ( جامع بيان العلم ) ) (2/89.( فإن قال قائل : يخالف ما ذكرته عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد ما جاء في كتاب ( المدخل الفقهي ) للأستاذ الزرقا ( 1/89 ) : ( ولقد هم أبو جعفر المنصور ثم الرشيد من بعده أن يختارا مذهب الإمام مالك وكتابه ( الموطأ ) قانونا قضائيا للدولة العباسية فنهاهما مالك عن ذلك وقال : ( إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان وكل مصيب ) . وأقول : إن هذه القصة معروفة مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله لكن قوله في آخرها : ( وكل مصيب ) ما لا أعلم له أصلا في شيء من الروايات والمصادر التي وقفت عليها (راجع ( الانتقاء ) ) لابن عبدالبر ( 41 ) و( كشف المغطا في فضل الموطأ ) ) ( ص 6 - 7 ) للحافظ ابن عساكر و( تذكرة الحفاظ ) ) للذهبي ( 1/195) اللهم إلا رواية واحدة أخرجها أبو نعيم في ( الحلية ) ( 6/332 ) بإسناد فيه المقدام بن داود وهو ممن أوردهم الذهبي في ( الضعفاء ) ومع ذلك فإن لفظها : ( وكل عند نفسه مصيب ) فقوله : ( عند نفسه ) يدل على أن رواية ( المدخل ) مدخولة وكيف لا تكون كذلك وهي مخالفة لما رواه الثقات عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد كما سبق بيانه ؟ وعلى هذا كل الأئمة من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة المجتهدين وغيرهم . قال ابن عبد البر ( 2/88 ) : ( ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضا في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صوابا كله ولقد أحسن من قال : إثبات ضدين معا في حال أقبح ما يأتي من المحال ) . فإن قيل : إذا ثبت أن هذه الرواية باطلة عن الإمام فلماذا أبى الإمام على المنصور أن يجمع الناس على كتابه ( الموطأ ) ولم يجبه إلى ذلك ؟ فأقول : أحسن ما وقفت عيه من الرواية ما ذكره الحافظ ابن كثير في ( شرح اختصار علوم الحديث ) ( ص 31 ) وهو أن الإمام قال : ( إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها ) . وذلك من تمام علمه وإنصافه كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى . فثبت أن الخلاف شر كله وليس رحمة ولكن منه ما يؤاخذ عليه الإنسان كخلاف المتعصبة للمذاهب ومنه ما لا يؤاخذ عليه كخلاف الصحابة ومن تابعهم من الأئمة حشرنا الله في زمرتهم ووفقنا لاتباعهم . فظهر أن اختلاف الصحابة هو غير اختلاف المقلدة . وخلاصته : أن الصحابة اختلفوا اضطرارا ولكنهم كانوا ينكرون الاختلاف ويفرون منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلا . وأما المقلدة - فمع إمكانهم الخلاص منه ولو في قسم كبير منهم - فلا يتفقون ولا يسعون إليه بل يقرونه فشتان إذن بين الاختلافين . ذلك هو الفرق من جهة السبب . وأما الفرق من جهة الأثر فهو أوضح وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم - مع اختلافهم المعروف في الفروع - كانوا محافظين أشد المحافظة على مظهر الوحدة بعيدين كل البعد عما يفرق الكلمة ويصدع الصفوف فقد كان فيهم مثلا من يرى مشروعية الجهر بالبسملة ومن يرى عدم مشروعيته وكان فيهم من يرى استحباب رفع اليدين ومن لا يراه وفيهم من يرى نقض الوضوء بمس المرأة ومن لا يراه ومع ذلك فقد كانوا يصلون جميعا وراء إمام واحد ولا يستنكف أحد منهم عن الصلاة وراء الإمام لخلاف مذهبي . وأما المقلدون فاختلافهم على النقيض من ذلك تماما فقد كان من آثاره أن تفرق المسلمون في أعظم ركن بعد الشهادتين ألا وهو الصلاة فهم يأبون أن يصلوا جميعا وراء إمام واحد بحجة أن صلاة الإمام باطلة أو مكروهة على الأقل بالنسبة إلى المخالف له في مذهبه وقد سمعنا ذلك ورأيناه كما رآه غيرنا (راجع ( الفصل الثامن ) من كتاب ( ما لا يجوز فيه الخلاف ) ) ( ص 65 - 72 ) تجد أمثلة عديدة مما أشرنا إليه وقعت بعضها من بعض علماء الأزهر) كيف لا وقد نصت كتب بعض المذاهب المشهورة على الكراهة أو البطلان ؟ وكان من نتيجة ذلك أن تجد أربعة محاريب في المسجد الجامع يصلي فيها أئمة أربعة متعاقبين وتجد أناسا ينتظرون إمامهم بينما الإمام الآخر قائم يصلي بل لقد وصل الخلاف إلى ما هو أشد من ذلك عند بعض المقلدين مثاله منع التزاوج بين الحنفي والشافعي ثم صدرت فتوى من بعض المشهورين عند الحنفية - وهو الملقب ب ( مفتي الثقلين ) - فأجاز تزوج الحنفي بالشافعية وعلل ذلك بقوله : ( تنزيلا لها منزلة أهل الكتاب ) (البحر الرائق .) ومفهوم ذلك - ومفاهيم الكتب معتبرة عندهم - أنه لا يجوز العكس وهو تزوج الشافعي بالحنفية كما لا يجوز تزوج الكتابي بالمسلمة ؟ هذان مثالان من أمثلة كثيرة توضح للعاقل الأثر السيئ الذي كان نتيجة اختلاف المتأخرين وإصرارهم عليه بخلاف اختلاف السلف فلم يكن له أي أثر سيء في الأمة ولذلك فهم منجاة من أن تشملهم آيات النهي عن التفرق في الدين - بخلاف المتأخرين - هدانا الله جميعا إلى صراطه المستقيم . وليت أن اختلافهم المذكور انحصر ضرره فيما بينهم ولم يتعده إلى غيرهم من أمة الدعوة إذن لهان الخطب بعض الشيء ولكنه - ويا للأسف - تجاوزهم إلى غيرهم من الكفار في كثير من البلاد والأقطار فصدوهم بسبب اختلافهم عن الدخول في دين الله أفواجا جاء في كتاب ( ظلام من الغرب ) للأستاذ الفاضل محمد الغزالي ( ص 200 ) ما نصه : ( حدث في المؤتمر الذي عقد في جامعة ( برينستون ) بأمريكا أن أثار أحد المتحدثين سؤالا - كثيرا ما يثار في أوساط المستشرقين والمتهمين بالنواحي الإسلامية - قال : ( بأي التعاليم يتقدم المسلمون إلى العالم ليحددوا الإسلام الذي يدعون إليه ؟ أبتعاليم الإسلام كما يفهمهما السنيون ؟ أم بالتعاليم التي يفهمها الشيعة من إمامية أو زيدية ؟ ثم إن كلا من هؤلاء وأولئك مختلفون فيما بينهم . وقد يفكر فريق منهم في مسألة ما تفكيرا تقدميا محدودا بينما يفكر آخرون تفكيرا قديما متزمتا . والخلاصة أن الداعين إلى الإسلام يتركون المدعوين إليه في حيرة لأنهم هم أنفسهم في حيرة ) . وفي مقدمة رسالة ( هدية السلطان إلى مسلمي بلاد جابان ) للعلامة محمد سلطان المعصومي رحمه الله تعالى : ( إنه كان ورد علي سؤال من مسلمي بلاد جابان ( يعني اليابان ) من بلدة ( طوكيو ) و( أوصاكا ) في الشرق الأقصى حاصله : ما حقيقة دين الإسلام ؟ ثم ما معنى المذهب ؟ وهل يلزم من تشرف بدين الإسلام أن يتمذهب على أحد المذاهب الأربعة ؟ أي : أن يكون مالكيا أو حنفيا أو شافعيا أو غيرها أو لا يلزم ؟ لأنه قد وقع هنا اختلاف عظيم ونزاع وخيم حينما أراد عدة أنفار من متنوري الأفكار من رجال ( يابونيا ) أن يدخلوا في دين الإسلام ويتشرفوا بشرف الإيمان فعرضوا ذلك على جمعية المسلمين الكائنة في ( طوكيو ) فقال جمع من أهل الهند : ينبغي أن يختاروا مذهب الإمام أبي حنيفة لأنه سراج الأمة . وقال جمع من أهل إندونيسيا ( جاوا ) : يلزم أن يكون شافعيا فلما سمع الجابانيون كلامهم تعجبوا جدا وتحيروا فيما قصدوا وصارت مسألة المذاهب سدا في سبيل إسلامهم ) . 3 - ويزعم آخرون أن معنى هذا الذي تدعون إليه من الاتباع للسنة وعدم الأخذ بأقوال الأئمة المخالفة لها ترك الأخذ بأقوالهم مطلقا والاستفادة من اجتهاداتهم وآرائهم . فأقول : إن هذا الزعم أبعد ما يكون عن الصواب بل هو باطل ظاهر البطلان كما يبدو ذلك جليا من الكلمات السابقات فإنها كلها تدل على خلافه وأن كل الذي ندعو إليه إنما هو ترك اتخاذ المذاهب دينا ونصبها مكان الكتاب والسنة بحيث يكون الرجوع إليها عند التنازع أو عند إرادة استنباط أحكام لحوادث طارئة كما يفعل متفقهة هذا الزمان وعليه وضعوا الأحكام الجديدة للأحوال الشخصية والنكاح والطلاق وغيرها دون أن يرجعوا فيها إلى الكتاب والسنة ليعرفوا الصواب منها من الخطأ والحق من الباطل وإنما على طريقة ( اختلافهم رحمة ) وتتبع الرخص والتيسير أو المصلحة - زعموا - وما أحسن قول سليمان التيمي رحمه الله تعالى : ( إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله ) . رواه ابن عبد البر ( 2/91 - 92 ) وقال عقبة : ( هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا ) . فهذا الذي ننكره وهو وفق الإجماع كما ترى . وأما الرجوع إلى أقوالهم والاستفادة منها والاستعانة بها على تفهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه مما ليس عليه نص في الكتاب والسنة أو ما كان منها بحاجة إلى توضيح فأمر لا ننكره بل نأمر به ونحض عليه لأن الفائدة منه مرجوة لمن سلك سبيل الاهتداء بالكتاب والسنة . قال العلامة ابن عبد البر رحمه الله تعالى ( 2/172 ) : ( فعليك يا أخي بحفظ الأصول والعناية بها واعلم أن من عني بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن ونظر في أقاويل الفقهاء - فجعله عونا له على اجتهاده ومفتاحا لطرائق النظر وتفسيرا لجمل السنن المحتملة للمعاني - ولم يقلد أحدا منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها واقتدى بها في البحث والتفهم والنظر وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم ولم يبرئهم من الزلل كما لم يبرؤوا أنفسهم منه فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح وهو المصيب لحظه والمعاين لرشده والمتبع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته رضي الله عنهم . ومن أعف نفسه من النظر وأضرب عما ذكرنا وعارض السنن برأيه ورام أن يردها إلى مبلغ نظره فهو ضال مضل ومن جهل ذلك كله أيضا وتقحم في الفتوى بلا علم فهو أشد عمى وأضل سبيلا ) . فهذا هو الحق ما به خفاء فدعني عن بنيات الطريق . 4 - ثم إن هناك وهما شائعا عند بعض المقلدين يصدهم عن اتباع السنة التي تبين لهم أن المذاهب على خلافها وهو ظنهم أن اتباع السنة يستلزم تخطئة صاحب المذهب والتخطئة معناها عندهم الطعن في الإمام ولما كان الطعن في فرد من أفراد المسلمين لا يجوز فكيف في إمام من أئمتهم ؟ والجواب : أن هذا المعنى باطل وسببه الانصراف عن التفقه في السنة وإلا فكيف يقول ذلك المعنى مسلم عاقل ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد ) البخاري ومسلم فهذا الحديث يرد ذلك المعنى ويبين بوضوح لا غموض فيه أن قول القائل : ( أخطأ فلان ) معناه في الشرع : ( أثيب فلان أجرا واحدا ) فإذا كان مأجورا في رأي من خطأه فكيف يتوهم من تخطئته إياه الطعن فيه ؟ لا شك أن هذا التوهم أمر باطل يجب على كل من قام به أن يرجع عنه وإلا فهو الذي يطعن في المسلمين وليس في فرد عادي منهم بل في كبار أئمتهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين وغيرهم فإننا نعلم يقينا أن هؤلاء الأجلة كان يخطئ بعضهم بعضا ويرد بعضهم على بعض (انظر كلام الإمام المزني المتقدم آنفا ( ص 8 ) وكلام الحافظ ابن رجب المتقدم ( ص 6.) أفيقول عاقل : إن بعضهم كان يطعن في بعض بل لقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ أبا بكر رضي الله عنه في تأويله رؤيا كان رآها رجل فقال صلى الله عليه وسلم له : ( أصبت بعضا وأخطأت بعضا ) البخاري ومسلم فهل طعن صلى الله عليه وسلم في أبي بكر بهذه الكلمة ؟ ومن عجيب تأثير هذا الوهم على أصحابه أنه يصدهم عن إتباع السنة المخالفة لمذهبه لأن إتباعهم إياها معناه عندهم الطعن في الإمام وأما إتباعهم إياه - ولو في خلاف السنة - فمعناه احترامه وتعظيمه ولذلك فهم يصرون على تقليده فرارا من الطعن الموهوم . ولقد نسي هؤلاء - ولا أقول : تناسوا - أنهم بسبب هذا الوهم وقعوا فيما هو شر مما منه فروا فإنه لو قال لهم قائل : إذا كان الإتباع يدل على احترام المتبوع ومخالفته تدل على الطعن فيه فكيف أجزتم لأنفسكم مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم وترك إتباعها إلى إتباع إمام المذاهب في خلاف السنة وهو معصوم والطعن فيه ليس كفرا ؟ فلئن كان عندكم مخالفة الإمام تعتبر طعنا فيه فمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم أظهر في كونها طعنا فيه بل ذلك هو الكفر بعينه - والعياذ بالله منه - لو قال لهم ذلك قائل لم يستطيعوا عليه جوابا اللهم إلا كلمة واحدة - طالما سمعناها من بعضهم - وهي قولهم : إنما تركنا السنة ثقة بإمام المذهب وأنه أعلم بالسنة منا . وجوابنا على هذه الكلمة من وجوه يطول الكلام عليها في هذه المقدمة ولذلك فإني أقتصر على وجه واحد منها وهو جواب فاصل بإذن الله فأقول : ليس إمام مذهبكم فقط هو أعلم منكم بالسنة بل هناك عشرات - بل مئات - الأئمة هم أعلم أيضا منكم بالسنة فإذا جاءت السنة الصحيحة على خلاف مذهبكم - وكان قد أخذ بها أحد من أولئك الأئمة - فالأخذ بها - والحالة هذه - حتم لازم عندكم لأن كلمتكم المذكورة لا تنفق هنا فإن مخالفكم سيقول لكم معارضا : إنما أخذنا بهذه السنة ثقة منا بالإمام الذي أخذ بها فإتباعه أولى من إتباع الإمام الذي خالفها . وهذا بين لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى . ولذلك فإني أستطيع أن أقول : إن كتابنا هذا لما جمع السنن الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في صفة صلاته فلا عذر لأحد في ترك العمل بها لأنه ليس فيه ما اتفق العلماء على تركه - حاشاهم من ذلك - بل ما من مسألة وردت فيه إلا وقد قال بها طائفة منهم ومن لم يقل بها فهو معذور ومأجور أجرا واحدا لأنه لم يرد إليه النص بها إطلاقا أو ورد لكن بطريق لا تقوم عنده به الحجة أو لغير ذلك من الأعذار المعروفة لدى العلماء وأما من ثبت النص عنده من بعده فلا عذر له في تقليده بل الواجب اتباع النص المعصوم وذلك هو المقصود من هذه المقدمة والله عز وجل يقول : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون [ الأنفال 24 ] . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وهو نعم المولى ونعم النصير . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين . دمشق 20/5/1381 ه محمد ناصر الدين الألباني
__________________
لا إله إلا الله محمد رسول الله مراد قنديل |
العلامات المرجعية |
|
|