|
قضايا سياسية وأخبار مصرية وعربية وعالمية منتدى يختص بعرض كافة الأخبار السياسية والإقتصادية والرياضية في جميع أنحاء العالم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
عندما يجلس قاطع الطريق على منصة القضاء ويقف الأبرياء فى قفص الإتهام بقلم محمد يوسف عد
(1) يستقبل عدد كبير من الأبرياء والشرفاء شهر رمضان المبارك فى المعتقلات والسجون .. وعدد أكبر من أعضاء أسرهم من الزوجات والأبناء والبنات والآباء يستقبلون رمضان بمشاعر القهر والأسى والحرمان من ممارسة حياتهم الطبيعية ودفء العلاقات الحميمة مع ذويهم الذين اختطفهم قُطّاع الطرق وزيفوا لهم الاتهامات .. وحتى عندما برّأ القضاء الطبيعي ساحتهم وأمر بإخلاء سبيلهم اختطفهم قطاع الطرق مرة ثانية وغيّبوهم فى معتقلاتهم السرية .. وقُدم آخرون الى محاكم عسكرية بقرار مخالف للدستور .. أهدى هذه المقالة إلى كل هؤلاء المظلومين المقهورين .. وإلى ذويهم الحزانى الذين باتوا يتقلبون على جمرات القلق والأسى ولوعة الفراق وقد حرمهم قطاع الطرق من أبسط حقوق الإنسان .. لعلهم يدركون بأنه لا يزال فى هذا العالم أناس يشعرون بآلامهم ويتعاطفون معهم فى محنتهم .. ويدعون الله لهم بفكّ أسراهم والتئام شمل أسرهم ...
(2) الزمن هو سنة 1983 والمكان هو مدينة سراييفو عاصمة جمهورية البوسنة، والإطار العام هو الاتحاد اليوغسلافي الشيوعي قبل تفكيكه.. أما الواقعة الدرامية فقد كانت اعتقال على عزت بيجوفيتش للمرة الثانية فى حياته ، مع ثلاثة عشر من قادة الفكروالمثقفين الإسلاميين، وكانت تهمتهم هي القيام بثورة مضادة والتآمر ضد نظام الحكم وانفرد على عزت بتهمة التمهيد لقلب النظام الحاكم وإنشاء دولة مقتصرة على المسلمين في البوسنة، بمعنى إخلاء البوسنة والهرسك من غير المسلمين عن طريق التصفية أو التطهير العرقي .. واحدة من التهم المختلقة التى تخصصت أجهزة الأمن فى تلفيقها .. لم يكن هناك أسلحة ولا مِلشيات ولا مظاهرات ولا منشورات ولا أجندة سرية ولا حتى ورقة واحدة مكتوبة .. ولكن هل يحتاج أي نظام فاشيّ قمعي إلى شئ من هذا .. ؟؟! وهل يحتاج مثل هذا النظام إلى شهود حقيقيين لتبرير اعتقال مواطنين أبرياء وتقديمهم إلى المحاكمة بأي تهمة ملفقة ..؟!.. مثل هذه الأنظمة قادرة دائماً على تزويد المحكمة بشهود زور تم تلقينهم بواسطة خبراء الشرطة السرية ...! وهذا ما حدث في محاكمة سراييفو: تكرار نمطي تقليدي في النظام الشيوعي .. تقارير الشرطة السرية بتوجيه مباشر من وزير الداخلية نفسه كما ثبت من تحقيقات لاحقة، ومجموعة من شهود الزور تم اختيارهم وتلقينهم بواسطة خبراء متمرسين تحت الإرهاب والتهديد. الوثيقة الوحيدة المكتوبة التي قُدمت إلى المحكمة كانت كتاباً صغيراً بعنوان (الإعلان الإسلامي) من تأليف على عزت بيجوفيتش ولم يكن بهذا الكتاب شئ جديد، بل سبق نشر محتوياته كلها في سلسلة مقالات خلال عقد السبعينات في مجلة المسلمين الرسمية وكانت السلطات الشيوعية في عهد تيتو على علم كامل بوجود هذه المقالات ولم تعترض عليها، قرأتُ الكتاب وقمت بترجمته إلى العربية ونشرته دار الشروق سنة 1999، وسيجد القارئ أن هذا الكتاب معنيّ بالشأن الإسلامي في عمومه وبمشكلات المسلمين في العالم .. وليس فيه إشارة واحدة ليوغسلافيا أو البوسنة ومع ذلك اعتبرته السلطات وثيقة اتهام .. ولذلك يبدو كلام ممثل الإدعاء في المحكمة عن الكتاب أمراً مثيراً للعجب ومثيراً للسخرية والضحك في آن واحد. (3)عبثية المحاكمة: كانت المحاكمة كلها من بدايتها إلى النهاية مسرحية هزلية عبثية، لم تخل من مواقف مثيرة للضحك، وفي هذا يسوق على عزت في مذكراته نموذجين من شهادة الشهود: النموذج الأول: تمثله شاهدة تدعى (نيرمينا) عندما وقفت أمام القاضي، وقد نبهها بضرورة أن تشهد بالحق ولا شئ غير الحق وإلا قضت عليها المحكمة بالسجن خمس سنوات لشهادة الزور .. ولأن المرأة كانت حسنة النية صدقت القاضي وشعرت كأنه قد ألقى إليها بطوق نجاة .. ثم تذكرت تهديدات رجال الشرطة السرية ألا تقول في المحكمة سوى الكلام الذي لقّنوه إليها.. فسألت القاضي: هل حقاً ستحميني إذا قلت الحقيقة ..؟ ويبدو أن القاضي قـدّر أنها تقصد حمايتها من أسر المتهمين فأجابها على الفور: بالتأكيد سوف نحميك، فما أن بدأت الشاهدة تدلي بشهادتها حتى ظهر الذهول واضحاً على وجه القاضي وعلى وجوه الحاضرين في المحكمة أما نائب الإدعاء فقد أصيب بصدمة كأن جداراً سقط على أم رأسه ..! قالت الشاهدة : " كل شئ وقّعت عليه أثناء التحقيق والذي اعتبروه شهادتي هو كلام لم أقله وإنما كتبه الضابط المحقق بنفسه ثم أمرني بالتوقيع عليه تحت الضغط والإرهاب .. وكان المحقق حريصاً على أن أردد على مسامعه عبارات معينة مما كتبه مرة بعد مرة حتى فقدت القدرة على المقاومة .. لقد استجوبتني الشرطة عدة مرات وأمضيت في قسم الشرطة السرية ستة أيام لكي يتأكدوا أنني حفظت الشهادة التي من المفروض أن أدلي بها أمام المحكمة عن ظهر قلب" .. وعندما وصلت المرأة إلى هذه النقطة شعرَت وكأنها قد تخلصت من كابوس كان يجسم على صدرها وبدا أن ضميرها قد استيقظ ليأخذ بزمام الوعي، فاستعادت توازنها وأخذت تتحدث بثبات واطمئنان قالت: "إنني أفضّل الآن أن أُسجن خمس سنوات على أن أحيا يوماً واحداً وأنا أعلم أنني كنت مسئولة عن أكاذيب تسببت في سجن أناس أبرياء مثل هؤلاء الذين يمْثلون أمامكم" وأشارت إلى المتهمين .. ثم أضافت: " إذا أردتم أن تحاكموني معهم الآن فافعلوا إن شئتم ...! لم تكد المرأة تنتهي من كلامها حتى أطبق السكون على قاعة المحكمة وبدت الحيرة والارتباك على وجه القاضي وكأنه لا يدري ماذا يقول أو يفعل .. ثم توجه إليها بالكلام فأمرها بقوله: " يمكنك أن تجلسي الآن " ... (4) شهادة حُجّة باشا: تابعت المحكمة الاستماع إلى الشهود الذين لم تخل شهاداتهم من أقوال متناقضة أحياناً ومثيرة للضحك أحياناً أخرى وكان الحاضرون لا يكفون عن التهامس وتبادل التعليقات الساخرة طوال الوقت، حتى جاء الشاهد المدعو (أنور باشا ليتش) الشهير باسم (حجة باشا) وهو رجل معروف بحكمته ومرحه .. ولكنه تظاهر أمام المحكمة بالغباء والصمم فهو لا يفهم جيداً ولا يسمع جيداً ..! فلما وجه إليه القاضي سؤاله مكث الرجل يتحدث ساعتين في مسائل لا علاقة لها بموضوع القضية .. فحاول القاضي أن يعيده إلى نقطة السؤال الموجه إليه دون جدوى فقد استمر يروى حكايات ويورد تفاصيل لا صلة لها بالقضية .. وأدرك جمهور الحاضرين أنهم أمام مشهد هزلي في مسرحية عبثية انتزعت منهم الضحك، مما أثار غضب القاضي فتوجه للشاهد محذراً لأنه يقول للمحكمة كلاماً مختلفاً عن أقواله في محضر التحقيق .. فاعترض الرجل وقال ببساطة وهدوء: أبداً .. إنه نفس الكلام الذي أدليت به في التحقيق لكن ربما كان تسجيل الكلام هو المختلف فقد سُئلت مرات عديدة .. أنا لست متأكداً إذا كنت قلت للمحققين كلاماً مختلفاً عما قلته الآن .. فلما رأى القاضي أنه لا فائدة من هذا الشاهد المعتوه وأنه ليس في الإمكان الحصول منه على شئ أخذ يتلفت حوله كأنه يبحث عن مساعدة غير منظورة، فلما يئس وأدرك أنه لابد من إنهاء هذا الموقف الهازل أمر الشاهد بالانصراف قائلاً له: " إذهب ولا أريد أن أراك هنا مرة أخرى " فتطلع الرجل في بلاهة إلى المنصة ثم قال: "إنني متأسف جداً ...! يقول على عزت: " تحوّل الشاهد إلى قفص المتهمين حيث كنا نجلس وألقى علينا تحية الإسلام بلهجة البشناق القدامى (الله إيمانيت)، ورفع يده اليمنى ملوحاً إلينا بنفس الطريقة التقليدية .. فانفجر الحاضرون بالضحك فيما عدا القاضي ونائب الإدعاء ..." حضر في هذه القضية خمسة وستون شاهداً استُبعد منهم ثلاثة وعشرون شاهداً ، لم تتحقق في شهاداتهم شروط الصلاحية واختلفت شهادة سبعة وعشرين منهم عما ورد في محاضر التحقيق، وكرر خمسة عشر من الشهود نفس الأقوال المدونة في المحاضر.. كانوا يحفظونها عن ظهر قلب... (5) دفاع على عزت: وقف على عزت يدافع عن نفسه فقال: "إنني أحب يوغسلافيا ولكني لا أحب هذه الحكومة .. وأنا لا أُحاكم هنا في هذه القضية لأنني خالفت قوانين البلاد، ولكن لأنني خالفت بعض قواعد غير مكتوبة فرضتها مجموعة من أصحاب السلطات والنفوذ أباحت لنفسها أن تشرّع للناس ما هو مسموح به وما هو محرّم عليهم دون أي اعتبار للقانون والدستور " لم يعتذر بيجوفيتش ولم يلتمس لنفسه العفو .. كان يعلم أن المقصود بالمحاكمة هو الإسلام أكثر من أي شئ آخر.. فألقى بقفاز التحدّي في وجه المحكمة وهو يضيف: " أود أن أقرر هنا أنني مسلم وسأبقى كذلك تحت كل الظروف فأنا اعتبر نفسي مناضلاً من أجل الإسلام في هذا العالم .. وسأظل ملتزماً بموقفي ما دام في صدري نفس يتردد .. ذلك لأن الإسلام بالنسبة لي هو اسم آخر لكل ما هو رائع ونبيل في هذه الحياة .. إنه اسم لوعد وأمل في مستقبل أفضل للشعوب المسلمة أن يحيوا بحرية وكرامة .. مستقبل كل شئ فيه يستحق التضحية ..." أما بقية المتهمين فقد تابعوا على عزت في موقفه فلم يعتذروا عن شئ ولم يلتمسوا العفو بل اتهموا المحكمة بالظلم والتحيز وعدم الشرعية أو الجدارة .. وصدرت الأحكام المعدّة سابقا بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدد تتراوح بين خمسة إلى خمسة عشر عاماً كانت من نصيب على عزت، فلما انتقلت القضية إلى الاستئناف في المحكمة العليا خُفض الحكم عليه إلى اثنتي عشرة سنة وكان هذا بناءاً على التماسات جاءت من بعض المثقفين في بلجراد ومن خارج يوغسلافيا. (6) الحياة في السجن: أودع على عزت في السجن مع كبار المجرمين وسجل في مذكراته أن القتلة كانوا أقل وطأة وشراسة من اللصوص، في هذا السجن، وهذه لمحة ثاقبة من طبائع البشر كما تعرف عليها عن قرب وملاحظة يومية في السلوك أتاحتها له ظروف هذا السجن، فقد لاحظ انعدام الضمير والأخلاق عند اللصوص حيث لا يشعرون بالذنب على الجرائم التي ارتكبوها بينما تراود القتلة مشاعر الذنب وتأنيب الضمير فتغير مواقفهم ومسلكهم.. كانت إدارة السجن تسمح للمساجين بما فيهم قطاع الطرق بإجازات يقضونها بين ذويهم خارج السجن أما السجناء السياسيون فلم يكن مسموحاً لهم بالخروج من السجن أبداً وانعكست أوضاع السجن وكآبته على مذكرات على عزت فكتب يقول: "شعرت أنني محكوم على بالسجن إلى الأبد وأنني لن أرى أحداً ولن يراني أحد بقية حياتي .. ومع ذلك لم أستسلم لليأس .. وليس في هذا بطولة ولكن كان الأمر يتعلق في نظري بالثبات والاتساق الجواني مع الإيمان والعقيدة .. فالإنسان قد يقول أشياء يؤمن بها فعلاً ولكن عندما تأتي لحظة الحقيقة إذا بشعوره نحوها يختلف .. فمثلاً كنت أعلم أن من أهم مبادئ الإسلام وتعاليمه الإيمان بالقضاء والقدر وأن على المسلم المؤمن أن يتقبل كل ما يحدث له باعتباره مشيئة الله وإرادته .. والحق أنني لم أفكر في هذه الناحية من قبل بنفس الطريقة التي بدأت أفكر بها بعد تجربة السجن هذه المرة .. فعندما واجهت حقيقة احتمال أن أقضى بقية حياتي وأن أموت بين عتاة المجرمين لم يتناقص إيماني، وإنما انبعث في أعماق قلبي بقوة موازية لقسوة الظروف المُطْبقة في السجن فشعرت بنوع جديد من التناغم بين العقيدة والمحنة مما جعلني في حالة عقلية سوية متوازية وساعدني على الحفاظ على صحتي البدنية أيضاً .. وعلى العموم فقد حمدت الله كثيراً على نعمة الإيمان الذي أعانني على التفاعل بإيجابية مع محنة السجن .. ولا يمكن أن أنسى نعمة أخرى من نعم الله علي تمثلت في إخلاص أبنائي وتشجيعهم المعنوي لي في السجن ...". الزمن في السجن ليس هو الزمن الذي اعتدنا عليه في الحياة العادية خارج السجن، فهو يتثاءب ويتمطى ويمضى بطيئاً ثقيلاً يجثم على القلوب كالكابوس ويكاد يقطع الأنفاس في الصدور .. وهو لا يُحسب بالأيام والأسابيع والشهور، وإنما بالساعة والدقيقة والثانية.. لذلك لم يكن على عزت يتصور في أيامه الأولى بالسجن أنه يستطيع تحمل وطأة هذا المصير وبدأت تراوده فكرة أنه قد تقدم كثيراً في العمر وأن الموت قد يأتيه في أي لحظة ليختم هذا العذاب بطريقة درامية .. ولكن في نفس الوقت كانت تراوده أفكار أخرى مضادة مؤداها أن هذا المصير الرهيب في السجن ربما كان أرحم من مصير آخر خارج السجن يستهلك الإنسان ويمتص عمره يوماً بعد يوم في صراع عقيم متواصل مع القوى الغاشمة للسلطات الشيوعية.. (7) وردت على ذهن بيجوفيتش أفكار كثيرة إلا فكرة واحدة: أن زلزالا عظيما يصيب الإتحد السوفييتي فيمزّقه أشلاء .. وتتساقط المنظومات الشيوعية واحدة بعد الأخرى .. ويخرج بيجوفيتش من السجن بعد ست سنوات فقط فيجد نفسه على رأس شعبه الذى انتخبه رئيسا لجمهوريته الوليدة .. طويت صفحة بيجوفيتش المفكر الإسلامي المجاهد بفكره وقلمه فقط .. وبرزت صفحة بيجوفيتش القائد الذى قاد شعبه فى معركة ضد أشرس حرب إبادة فى تاريخ أوربا بعد المذابح النازية فى الحرب العالمية .. وليصنع مع شعبه معجزة النصر وإرادة البقاء والكرامة ...! |
العلامات المرجعية |
|
|