#1
|
|||
|
|||
الحب صنم العصر
نكاد نكون جميعًا ضحايا الحب أو جُناته، ليس فينا إلا من أصَابَ غيره بجرح أو سهم، أو أُصِيب بجُرح أو سهم، ونعاني ألَم البعد والفراق، ونفقد شهية الأكل والنوم والرغبة في العمل، ونقول: نعاني بسبب الحب...، وهكذا تستمر المعاناة، ويستمر الصراع بين الشخص وأناه.
وبالرغم من الصدارة التي يحتلها موضوع الحب، فإني أدعوكم إلى وقفة تأمل في مفهوم الحب، ولِم لا نعيد النظر؟! عسانا أن نستدرك ونفهم هذا التيه الذي نتخبط فيه جميعًا من الطفل إلى الشيخ ولا فرق، فالمغرم صبابة قد يكون من حملة الدكتوراه، ويمكن أن يكون وزيرًا، ويمكن أن يكون مراهقًا. إن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: لماذا يرتبط الحب دائمًا بالألم والمعاناة وخيبات الآمال؟ أقول مستعينًا بالله: إن الحب والرغبة قرينان؛ أي: يسيران في خطَّين متوازيين؛ فالرجل يحبُّ المرأة لأنه يرغبها، ولهذا لا تهدأ نسمات الحب الحارقة حتى تدفع بالمرأة إلى حضن الرجل، ومن ثَم ينصهر الجسدان في جسد واحد استجابة لرغبة حادة، وشهوة عارمة، لا تكاد تشتعل حتى تنطفئ، والشهوة في كنهها ال*** والتملك؛ فالحبُّ يتضمَّن عدوانًا خفيًّا وقسوة داخلية، عندما تشعر المرأة أن الرجل احتلَّ كيانها، واستولى على جزءٍ من روحها، تحاول هي الأخرى أن تنزع روحَه وتمتلكها، فنحن إذًا أمام مصلحة وعدوان خفيين يسكنان فينا في اللاشعور، نحن أمام نوعٍ من العطاء لكن بقصد الأخذ، أخذ نشوة ولذة فورية، إنه نوع مِن المقايضة التي تنم في كنه الأمر عن حب النفس لا حب الطرف الآخر...، وهكذا نعاني. حينما تعفَّف يوسف عليه السلام طالبت التي شغفها حبًّا ب*****ه: ﴿ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 25]، لقد ساوت *** حبِّها بال***** والقسوة، وأدرك يوسف عليه السلام أن الشهوة قيدٌ، والحب سجن؛ لذلك قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]، هذا الحب الذي نصبح ونحن نشاهده، ولا أخفيكم سرًّا فحال شبابنا يجسِّد ويُخبر عن هذا النوع، عن الثقب الذي جاء منه هوانُ الأمة، والبقاء خلف الركب وفي ذيل الأمم، كلَّما مررت بإحدى الثانويات الإعدادية أو الثانويات التأهيلية اتضح لك كيف فهمت واستساغت الطبقة العريضة من الناس الحب: يد في يد، يد على كتف، جنب إلى جنب، الكل يتسابق إلى اصطياد لذَّة جديدة، ونرى على جادة الطريق الإناث مع الذكور بلا قاعدة سوى لقاء الصدف، الكلُّ ألقى الشرائع خلف ظهره، ولم يَعُدْ يرى غير نفسه وغير ما يُشتهى، وتلك هي الحياة المادية الصرفة، ولعلهم يدركون أن النفس لا تزداد إلا جوعًا، هذا الحب أفسد الفطرة، وأصبح جزءًا من ثالوث لا يكاد ينفك هو: الحب وال*** والقسوة، فقصة الحب التي كتبَتْه الشهوة تنتهي بانتهاء الشهوة، ثم يبدأ الشك والارتياب والقسوة، وهكذا يتحول الحب إلى تعاسة ودموع! هذا الثالوث لا يصلح للزواج وبناء البيوت، ولكم أن تسألوا أولئك الذين ينسجون أحلامًا فوق أحلام، وأوهامًا فوق أوهام، وبمجرد أن يستفيقوا على حقيقة أنفسهم التي هم أنفسهم يجهلونها ويستفيقوا على الواقع كما هو، لا كما رأوه في سُباتهم، يبدأ الفصل الأخير من القصة تخطه الآلام بحبر الدموع. وفي عالم الحب خداع النفس هو الفن الذي يتقنه الكلُّ، خداع النفس وتصديق الخدعة، ثم خداع الآخر، أحيانًا بوعي وأحيانًا من دون وعي، والحبيب يحاول أن يقنع نفسه بأنه يفعل عين الصواب وأنه صادق، وهو في الحقيقة يلتمس لنفسه عذرًا للهرب! الهرب مما يعلمه يقينًا في بئر نفسه، الهرب من واقع الزواج أو التعفف، وغالبًا ما تحمل كلمة الحب في ثناياها رغبة جامحة في الامتلاك والسيطرة كما سبق ذكره، وأحيانًا ما هذه الكلمة إلا خطة للوصول إلى هدف؛ إما لذة سريعة، وإما طريقة للتغلب على الخجل المطلوب، ونقول ونكرِّر ونبكي ونبرر بأننا صادقون وما نريد إلا العفاف! فبئس طريق العفاف إن وجدت إلا تلك! كلُّ هذا الصراع لطرد فكرة الذنب التي تكاد تلازم عقولنا، فتُحدِّثُ المرأة نفسها - ولو رآها أحد لظنَّ أنها جُنَّت وفقدت عقلها - فتقول: "أنا ضحية الحب، وما الحب إلا إحساس طاهر، فلماذا تحاسبونني؟ هذه نفسي وهذا الجسد ملكي، وأولًا وأخيرًا أنا حرَّة"، فبئس الحرية التي تفهمون وتدعون، تقول ما تقوله وهي لا تدري أنها في صراع دائم مع فطرتها، تحارب نفسَها بنفسِها، وتعد هذه الفطرة الصادقة على أنها وسوسة من الشيطان، وتطردها قائلة: "لست أول من أحبَّت، ولا آخر من أعطَتْ"! أما الصدق في الحب الذي يتحدثون عنه، فهو أشبه في ندرته بندرة الماس في أعماق البِحار، وهو من أخلاق الصادقين الذين يضعونه في موضعه، وليس من صفات الغمر العادي من الناس، والسببُ ربما الوحيد الذي يجعل هذا الغمر في تيه، وظلمة حالكة، ومعيشة ضنك، وقاع سحيق - هو أغاني الحب وقصصه التي تتواطأ هي الأخرى لتصنع صورة من الأكاذيب والأوهام والأحلام المثالية المنمَّقة! لم يذكر الله عز وجل الحب والشهوة حينما ذكر الزواج، وإنما ذكر المودة والرحمة والسكن...، وهكذا حطم صنم العصر: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، إذًا مفتاح البيوت هو الرحمة والمودة، وهنا لا نلغي ما تم ذكره، لا مصادرة للحب، ولا إلغاء للشهوة، فالرحمة تحتوي على الحب ضرورة، لكن الحب لا يشمل على الرحمة بالضرورة، بل بسبب الشهوة هو أقرب إلى القسوة منه إلى الرحمة، والحقيقة المُرَّة هي أن الحيوانات تمارس الحبَّ والغزل والشهوة، إنما الإنسان هو الذي تميَّز بالرحمة، واستطاع الاستعلاء عن شهواته، فتعفَّف وهو مشتاقٌ، بل صام وهو جائع، فالإنسان ليس جسدًا، بل هو حاكم على هذا الجسد. المسألة إذًا لا تتعلق بالحب، هناك من تحب ولا ترحم، وهناك من ترحم ولا تحب، فالرجل السوي الذي نظر واعتبر يبحث عن امرأة نورانية، وهي التي جمعت بين الحب والرحمة وما أقلهنَّ! النساء والرجال النورانيون هم الذين استطاعوا أن يرتفعوا بأرواحهم عن أجسادهم الطينية، ولم يصبحوا أكثر ارتباطًا بالأرض، وأكثر خضوعًا للضرورات البشرية، والاستعلاء على الاستجابة للجسد، المطلوب إذًا هو ثورة على الجسد. ربما يُنظر لهذا الكلام باستغراب، وقد نُنْعَت بأننا نحن الذين نَسْبَحُ في عالم المُثُل، والسبب هو أننا نعيش في عصر أكثر ظلمة وأكثر مادية، قد يقول قائل: كيف إذًا تتنور النفوس؟ يتأتَّى النور بالاتجاه إلى مصدر الإشراق: الله تعالى، فالله هو مصدر النور، ولقد عرف مَن ذاق، أصحاب الفضيلة هم المفردون، المشاؤون في الظلم؛ ((سيروا، هذا جُمْدانُ، سَبَقَ المُفَرِّدُون))، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات))؛ رواه مسلم، أن تكون فاضلًا، هي أن تعطي من نفسك دون مقابل، والله يرزق كلَّ من اتخذ الأسباب، مؤمنًا أو كافرًا، كذلك الذين أخذوا مِن نور الله يمدون ويحبون بسخاء دون انتظار مقابل. فمن يُرزَق بامرأة فاضلة فقد رُزِق حسنةَ الدنيا، ومَن أراد حسنة الدنيا فعليه أن يكون هو أوَّلًا فاضلًا. عبدالله مومن
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|