#1
|
|||
|
|||
شرح اسم الرحمن الرحيم
المعنى اللُّغويُّ: الرَّحمةُ هي الرِّقَّةُ والتَّعطُّفُ، والاسمانِ مُشتقَّانِ من الرَّحمةِ على وَجْهِ المُبالغةِ. و (رحمن) أشدُّ مبالغةً مِن (رحيم)؛ لأَنَّ بناءَ (فعلان) أشدُّ مبالغةً مِنْ (فعيل)، ونظيرُهما نديمٌ وندمَانُ. وفي كلام ابنِ جريرٍ ما يُفهمُ منه حكايةُ الاتِّفاقِ على هذا[2]. واتَّفق أكثرُ العلماءِ على أَنَّ اسمَ (الرحمن) عربيٌّ لفظُه. وقال ابنُ الحصارِ بَعْدَ سرْدِهِ للحديث القدسيِّ: "أَنَا الرَّحْمَنُ؛ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَها اسْمًا مِنِ اسْمِي...": "فقد دَلَّ هذا الحديثُ الصحيحُ على الاشتقاقِ، فلا معنى للمُخالفةِ والشِّقاقِ"[3]. وقال ثعلبٌ: "إِنَّه عِبْرانيُّ الأَصْلِ، وكان رخمانا بالخاءِ المُعجمة"[4]. أما إنكارُ كُفَّارِ قريشٍ يومَ الحُديبيةِ لما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه: "اكْتُبْ: بِسْمِ الِله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، فقال سُهيل: أَمّا (الرحمن) فواللهِ ما أدري ما هي، ولكن اكتُبْ: باسمِكَ اللهُمَّ، كما كنتَ تكتبُ[5]، وفي قولِه تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ﴾ [الفرقان: 60]. فالظاهرُ: أَنَّه إنكارُ جحودٍ وعنادٍ وتعنُّتٍ، ومما يدُلُّ على أنهم كانوا يعرفون هذا الاسم قوله تعالى حكاية عنهم: ﴿ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾ [الزخرف: 20]. وقَدْ جاءَ في بعضِ أشعارِ الجاهليةِ، كقول سلامة بن جندب الطهوي: عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا إِذْ عَجِلْنَا عَلَيْكُمُ ♦♦♦ وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ يَعْقِدْ ويُطْلِقِ وقد ردَّ ابنُ جريرٍ بشدَّةٍ على مَنْ قال: إِنَّ العربَ كانت لا تعرِفُ (الرَّحمنَ)، فقال: "وقد زعمَ أهلُ الغباءِ أَنَّ العَربَ كانت لا تَعرِفُ الرحمنَ" اهـ، وبَيَّنَ أَنَّ ذلك كان جحُودًا[6]. ورودُ الاسمَينِ في القرآنِ الكريمِ: ذُكر (الرَّحمنُ) في القرآنِ سبعًا وخمسين مَرَّةً منها قولُه تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 163]. وقوله سُبْحَانَهُ: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93]. وقوله: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]. وقوله: ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴾ [الفرقان: 26]. وأما اسمُه (الرَّحيمُ) فقد ذُكِرَ مائةً وأربعَ عَشْرةَ مرّةً منها: قولُه تعالى: ﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54]. وقولُه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]. وقولُه سُبْحَانَهُ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾، وهو كثيرٌ في الكتاب، انظرْ مثلًا [البقرة: 173] [البقرة: 182] [البقرة: 199]. وقولُهُ تعالى: ﴿ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 129] وقولُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 39]. وقولُه تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ﴾ [هود: 90]. وقولُه: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ تردَّدَتْ مِرارًا في (الشعراء). وقولُه: ﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28]. وقولُه: ﴿ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [الإسراء: 66]. معنى الاسمَينِ في حقِّ اللهِ تعالى: الاسمانِ كما قلنا مُشتقَّانِ مِنَ الرَّحمةِ و (الرَّحمنُ) أشدُّ مُبالغةً من (الرَّحيمِ)، ولكِنْ ما الفرقُ بينهما؟ هناك قولانِ في الفرقِ بين هذينِ الاسمينِ: الأولُ: إِنَّ اسمَ (الرَّحمنِ): هو ذو الرَّحمةِ الشاملةِ لجميعِ الخلائقِ في الدُّنيا وللمؤمنينَ في الآخرةِ. و(الرَّحيمُ): هو ذو الرحمةِ للمؤمنين يومَ القيامةِ، واستدلوا بقولِه تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ ﴾ [الفرقان: 59]. وقوله: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، فذكَرَ الاستواءَ باسمِهِ (الرَّحمنِ) ليعُمَّ جميعَ خلقِهِ برحمتِهِ. وقال: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]، فخصَّ المؤمنين باسمه (الرَّحيم)[7]. ولكِنْ يَشْكُلُ عليه قولُه تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]. القولُ الثاني: هو أَنَّ (الرَّحمَن) دالٌّ على صفةٍ ذاتيةٍ و (الرَّحيمَ) دالٌّ على صفةٍ فعليةٍ. قال ابنُ القيِّم رحمه الله: "إِنَّ (الرَّحمَن) دالٌّ على الصفةِ القائمةِ به سُبْحَانَهُ، و (الرَّحيمَ) دالٌّ على تعلُّقِها بالمَرْحُومِ، فكان الأولُ للوصفِ والثاني للفعلِ. فالأولُّ دَالٌّ على أَنَّ الرَّحمَةَ صِفَتُه، والثاني دَالٌّ على أَنَّه يرحَمُ خَلْقَهُ برحمَتِهِ. وإِذا أَردْتَ فَهْمَ هذا فتأمَّلْ قولَهُ: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]، ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117]، ولم يَجِئْ قَطُّ "رحمنُ بهم" فعُلِمَ أَنَّ (رحمنَ) هو المَوصُوفُ بالرحمةِ و(رحيم) هو الرَّاحِمُ برحمتِه. وهذه نُكتةٌ لا تكادُ تجدُها في كتابٍ وإِن تنفسْتَ عندها مرآةَ قَلبِك لم يَنْجَلِ لك صورتُها" اهـ[8]. و(الرَّحمنُ) من الأسماءِ التي مَنَعَ اللهُ من التسميةِ بها كما قال: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الإسراء: 110]، فعادلَ به الاسمَ الذي لا يشركهُ فيه غيرُه وهو (الله). وقال ابنُ أبي حاتمٍ: "حدَّثنا أبو سعيدٍ يحيى بنُ سعيد القطّانُ، حدثنا زيدُ بنُ الحُبابِ، حدثني أبو الأشهبِ، عن الحسن قال: (الرَّحمنُ) اسمٌ لا يستطيعُ الناسُ أن ينتحِلوه، تَسمَّى به تبارك وتعالى"[9]؛ ولذا فلا يجوزُ أَنْ يُصْرَفَ للخلقِ. وأما (الرَّحيمُ) فإِنَّه تعالى وَصَفَ به نبيَّه صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قال: ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، فيقالُ: رَجُلٌ رحيمٌ، ولا يقال: رَحْمَنُ. قال ابنُ كثيرٍ: "والحاصِلُ أَنَّ مِنْ أسمائِهِ تعالى ما يُسمَّى به غيرُه، ومنها ما لا يُسمَّى به غيرُه، كاسمِ اللهِ والرَّحمنِ والخالقِ والرازقِ ونحو ذلك؛ فلهذا بدأ باسمِ اللهِ ووصفَهُ بالرَّحمنِ لأنه أخصُّ وأعرفُ من الرحيمِ؛ لأَنَّ التسميةَ أولًا تكونُ بأشرفِ الأسماءِ؛ فلهذا ابتدأَ بالأخصِّ فالأخص" اهـ[10]. إثباتُ صِفَةِ الرَّحمةِ للهِ ربِّ العالمين: مِنْ صفاتِ الله الثابتةِ بالكتابِ والسُّنَّةِ "الرَّحمةُ"، وهي صفةُ كمالٍ لائقةٌ بذاتِهِ كسائرِ صفاتِهِ العُلى، لا يجوزُ لنا أَنْ ننْفِيَها أو نُعطِّلَها لأَنَّ ذلك مِنَ الإِلحادِ في أسمائِهِ. وأمَّا قولُ الزَّمخْشريِّ وأصحابِه؛ أَنَّ الرَّحمةَ مجازٌ في حَقِّ اللهِ تعالى، وأَنَّها عِبارةٌ عن إِنعامِهِ على عبادِهِ[11]، فهي نَزْعَةٌ اعتزاليّةٌ قد حَفِظَ اللهُ تعالى منها سلفَ المسلمين وأئمةَ الدِّينِ؛ فإنهم أقرُّوا ما وَرَدَ على ما وَرَدَ، وأثبَتوا للهِ تعالى ما أثبتَهُ له نبيُّه صلى الله عليه وسلم مِنْ غيرِ تَصَرُّفٍ بكنايةٍ أو مجازٍ، وقالوا: لسنا أغيرَ على اللهِ مِن رسولِه[12]. وقد ردّ ابنُ القيِّم رحمه الله تعالى على القائلينَ بأَنَّ رحمةَ اللهِ مَجَازٌ ردًّا مُفصَّلًا، وأتى بما لا مزيدَ عليه في كتابِه "الصواعق المُرْسَلة على الجهميةِ المُعطِّلةِ". ولعظيمِ فائدتِها فإنا نسوقُها إليكَ باختصارٍ: الرَّدُّ الأول: إِنَّ الإلحادَ إما أَنْ يكونَ بإنكارِ لفظِ الاسمِ، أو بإِنكارِ معناه، فإِنْ كانَ إِنكارُ لفظِهِ إلحادًا فمَنِ ادَّعى أنَّ (الرَّحمن) مجازٌ لا حقيقةَ فإِنَّه يجوّزُ إطلاقَ القولِ بنفيها فلا يَستنْكِفُ أَنْ يقولَ ليس بالرَّحمنِ ولا الرَّحيمِ، كما يصحُّ أَنْ يُقالَ للرَّجُلِ الشُّجاعِ ليس بأسدٍ على الحقيقةِ، وإِنْ قالوا: نتأدبُ في إطلاقِ هذا النفي فالأدبُ لا يمنعُ صِحَّةَ الإطلاقِ، وإنَّ الإلحادَ هو إنكارُ معاني أسمائِهِ وحقائِقِهَا، فقد أنكرتُم معانيها التي تدل عليها بإطلاقِها، وما صَرَفتموها إليه من المجازِ فنقيضُ معناها، أو لازمٌ مِنْ لوازمِ معناها، وليس هو الحقيقةَ ولهذا يصرِّحُ غلاتُهم بإنكارِ معانيها بالكليّةِ ويقولون: هي ألفاظٌ لا معانيَ لها. الرَّدُّ الثاني: إِنَّ هذا الحامِلَ لكم على دَعْوى المجازِ في اسمِ الرَّحمنِ هو بعينِه موجودٌ في اسم العليمِ والقديرِ والسَّميعِ والبَصيرِ وسائرِ الأسماءِ. فإِنَّ المَعْقولَ من العِلمِ صفةٌ عَرضِيَّةٌ تقومُ بالقلبِ إما ضروريّةٌ وإما نظريةٌ، والمعقولُ مِنَ الإِرادةِ حَرَكةُ النَّفسِ الناطقَةِ لجلبِ ما ينفعُها ودفْعِ ما يضرُّها، أو ينفعُ غيرَها أو يضرُّه. والمعقولُ من القُدْرةِ القوَّةُ القائِمَةُ بجسمٍ تتأتى به الأفعالُ الاختياريةُ، فهل تجعلونَ إطلاقَ هذِه الأسماءِ والصِّفاتِ على اللهِ حقيقةً أَمْ مجازًا؟ فإِنْ قُلتُم: حقيقةً تناقَضتُم أقبحَ التناقضِ، إِذْ عَمِدْتُّم إلى صفاتِه سُبْحَانَهُ فجعلْتُم بعضَها حقيقةً وبعضَها مجازًا، مع وجودِ المحذورِ فيما جعلتموه حقيقةً. وإِنْ قُلتُم: لا يستلزمُ ذلك محذورًا، فمِنْ أين استلزمَ اسمُ الرَّحمنِ المحذورَ؟ وإن قلتم الكلُّ مجازٌ، لم تُمكَّنوا بعد ذلك من إثباتِ حقيقةٍ لِله الْبتَّةَ، لا في أسمائِهِ ولا في الإِخبارِ عنه بأفعالِهِ وصفاتِهِ، وهذا انسلاخٌ من العقلِ والإِنسانيَّةِ. الرَّدُّ الثالِثُ: إِنَّ نُفاةَ الصِّفاتِ يلزمُهم نفيُ الأسماءِ من جهةٍ أخرى، فإن العليمَ والقديرَ والسَّميعَ والبصيرَ، أسماءٌ تتضمَّنُ ثبوتَ الصفاتِ في اللُّغةِ فيمَنْ وُصِفَ بها، فاستعمالُها لغيرِ مَنْ وُصِفَ بها، استعمالٌ للاسم في غيرِ ما وُضِعَ له، فكما انتفَتْ عنه حقائِقُها فإنَّهُ تنتفي عنه أسماؤُها، فإِنَّ الاسمَ المشتقَّ تابعٌ للمشتَقِّ منه في النفي والإِثباتِ، فإذا انتفَتْ حقيقةُ الرحمةِ والعلمِ والقُدْرةِ والسَّمعِ والبَصَرِ انتفَت الأسماءُ المُشتقَّةُ منها عقلًا ولُغةً، فيلزمُ من نفي الحقيقةِ أن تنفيَ الصفةَ والاسمَ جميعًا. الرَّدُّ الرابعُ: إِنَّه كيف يكونُ أظهرُ الأسماءِ التي افتتحَ اللهُ بها كتابَهُ في أمِّ القرآنِ، وهي مِنْ أظهَرِ شعارِ التوحيدِ، والكلمةُ الجاريةُ على ألسنةِ أهلِ الإِسلامِ وهي: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ التي هي مِفْتاحُ الطُّهورِ والصَّلاةِ وجميعِ الأفعالِ، فكيف يكونُ مجازًا؟ الرَّدُّ الخامسُ: قولُهم الرَّحمَةُ رِقَّةُ القَلْبِ، تريدون رَحمةَ المَخْلوقِ أم رحمةَ الخالقِ؟ أم كلَّ ما سُمِّيَ رحمةً شاهدًا أو غائبًا؟ فإِنْ قُلتُم بالأَوَّلِ صدقتُم ولم ينفعْكُم ذلك شيئًا، وإِنْ قُلتم بالثاني والثالثِ كُنتم قائلين غيرَ الحقِّ، فإِنَّ الرَّحمةَ صفةُ الرَّحيمِ وهي في كلِّ موصوفٍ بحسَبِهِ، فإِنْ كان الموصوفُ حيوانًا له قلبٌ فرحمتُه من ***ِهِ رِقَّةٌ قائمةٌ بقلبِهِ، وإن كان مَلَكًا فرحمتُه تناسِبُ ذاتَهُ. فإذا اتصفَ أرحمُ الراحمينَ بالرَّحمةِ حقيقةً لم يلزمْ أَنْ تكونَ رحمتُه مِنْ *** رحمةِ المخلوقِ لمخلوقٍ. وهذا يطَّرِدُ في سائِرِ الصِّفاتِ كالعِلمِ والقُدرةِ والسَّمعِ والبَصرِ والإرادةِ إلزامًا ووجوبًا، فكيف يكونُ رحمةُ أرحمِ الرَّاحمينَ مجازًا دون السَّميعِ العليمِ؟ الرَّدُّ السادسُ: إِنَّه مِنْ أعظمِ المُحالِ أَنْ تكونَ رحمةُ أرحمِ الراحمينَ التي وَسِعَتْ كلَّ شيْءٍ مجازًا، ورحمةُ العبدِ الضعيفةُ القاصرةُ المخلوقةُ المُستعارةُ من رَبِّه التي هي مِنْ آثارِ رحمتِهِ حقيقةً، وهل في قلبِ الحقائقِ أكثرُ من هذا؟ الرَّدُّ السابعُ: ما رواه أهلُ السُّنَنِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "يقولُ اللهُ تعالى: أنا الرَّحمنُ خلقتُ الرَّحِمَ، وشققتُ لها اسمًا من اسمي، فمَن وَصَلها وصلتُه، ومَنْ قطعَها قطعتُه"[13]. فهذا صريحٌ في أَنَّ اسمَ الرَّحمةِ مُشتَقٌّ مِن اسمِهِ (الرَّحمنِ) تعالى، فَدلَّ على أَنَّ رحمتَهُ لما كانت هي الأصلَ في المعنى كانت هي الأصلَ في اللفظِ، ومثلُ هذا قولُ حسَّانِ رضي الله عنه في النبي صلى الله عليه وسلم: فَشَقَّ له مِن اسمِه لِيُجلَّهُ ♦♦♦ فذُو العَرْشِ مَحمودٌ وهذا مُحمَّدُ فإذا كانت أسماءُ الخَلْقِ الممدوحةُ مُشتقَّةً مِن أسماءِ الله الحُسنى، كانت أسماؤه يقينًا سَابِقةً، فيجبُ أَنْ تكونَ حقيقةً، لأَنَّها لو كانتْ مجازًا، لكانتِ الحقيقةُ سابقةً لها، فإِنَّ المجَازَ هو اللَّفظُ المستعملُ في غَيْرِ ما وُضِعَ له، فيكونُ اللفظُ قد سُمِّي به المخلوقُ، ثُمَّ نُقِلَ إلى الخالقِ، وهذا باطلٌ قطعًا. الرَّدُّ الثامِنُ: ما في الصحيحين عن أبي هُريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ كِتابًا فهو مَوضوعٌ عنده فوقَ العَرشِ: إنَّ رحمتي سَبَقَت غَضَبي" وفي لفظ: "غلَبتْ". وقال تعالى: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]، فوصَفَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بالرَّحمةِ، وتسمَّى بالرَّحمنِ قبل أَنْ يكونَ بنو آدمَ. فادّعاءُ المدَّعِي أَنَّ وصفَهُ بالرَّحمنِ مجازٌ مِن أبطلِ الباطلِ. الرَّدُّ التاسِعُ: إِنَّهُ مِن المعلومِ أَنَّ المعنى المُستعارَ يكونُ في المُستعارِ منه أكملَ في المستعارِ له، وأَنَّ المعنى الذي دَلَّ عليه اللفظُ بالحقيقةِ أكملُ من المعنى الذي دلَّ عليه بالمجازِ، وإنَّما يُستعارُ لتكميلِ المَعْنى المجازي تشبيهُهُ بالحقيقي، كما يُستعارُ الشمسُ والقمرُ والبحرُ للرَّجُلِ الشُّجاعِ والجميلِ والجَوادِ. فإذا جُعِلَ الرَّحمنُ والرَّحيمُ والودودُ وغيرُهما مِن أسمائِهِ سُبْحَانَهُ حقيقةً في العبدِ، مجازًا في الرَّبِّ، لَزِمَ أَنْ تكونَ هذه الصفاتُ في العبد أكملَ منها في الربِّ تعالى. الرَّدُّ العاشِرُ: إِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى فرَّقَ بين رحمتِهِ ورضْوانِهِ وثَوابِهِ المُنفصلِ فقال تعالى: ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 21]. فالرَّحمةُ والرِّضوانُ صفتُه، والجَنَّةُ ثوابُه، وهذا يُبطِلُ قولَ مَنْ جَعَلَ الرَّحمةَ والرِّضوانَ ثوابًا مُنفصِلًا مَخْلوقًا، وقولَ مَنْ قال: هي إرادتُه الإِحسانَ، فإِنَّ إرادَتَهُ الإِحسانَ هي مِنْ لوازمِ الرَّحمةِ، فإنَّه يلزمُ من الرَّحمةِ أَنْ يريدَ الإحسانَ إلى المرحومِ، فإذا انتفتْ حقيقةُ الرحمةِ انتفى لازِمُها وهو إِرادةُ الإِحسانِ[14]. ظُهور آثارِ رحمةِ اللهِ سُبْحَانَهُ على الخَلْقِ بجلاءٍ: قال ابنُ القيِّمِ رحمه الله: "إِنَّ ظهورَ هذه الصِّفةِ في الوجودِ كظهورِ أثرِ صفةِ الرّبوبيةِ والمِلْكِ والقُدرةِ، فإِنَّ ما للهِ على خَلْقِهِ من الإحسانِ والإِنعامِ شاهدٌ برحمةٍ تامةٍ وَسِعَتْ كلَّ شيْءٍ، كما أَنَّ الموجوداتِ كلَّها شاهِدةٌ له بالرّبوبيةِ التامةِ الكاملةِ. وما في العالمِ مِنْ آثارِ التدبيرِ والتَّصريفِ الإلهيِّ شاهدٌ بمُلكِهِ سُبْحَانَهُ. فجَعْلُ صفةِ الرَّحمةِ واسمِ الرَّحمةِ مجازًا كجعْلِ صفةِ المِلكِ والرُّبوبيةِ مجازًا ولا فرقَ بينهما في شرعٍ ولا عقلٍ ولا لُغةٍ. وإذا أردْتَ أَنْ تعرِفَ بُطلانَ هذا القولِ، فانظرْ إلى ما في الوجودِ من آثارِ رحمتهِ الخاصَّةِ والعامَّةِ. فبرحمتِهِ أرسلَ إلينا رسولَهُ صلى الله عليه وسلم، وأنزلَ علينا كتابَهُ وعلّمَنا مِن الجَهالَةِ، وهدانا مِن الضلالةِ، وبصَّرَنَا مِنَ العَمى، وأرشدَنَا من الغيِّ. وبرحمتهِ عرَّفَنا مِن أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ ما عَرفْنَا به أَنَّه ربُّنا ومولانا، وبرحمته علَّمنا ما لم نكنْ نعلَمُ، وأرشدَنا لمصَالحِ دينِنا ودُنيانا. وبرحمتِهِ أطلعَ الشَّمسَ والقمرَ، وجعلَ الليلَ والنهارَ، وبسطَ الأرضَ وجعلها مِهادًا وفِراشًا وقَرارًا وكِفاتًا للأَحياءِ والأَمواتِ. وبرحمتِهِ أنشأَ السَّحابَ، وأمطرَ المطرَ، وأطلعَ الفواكِهَ والأقواتَ والمرْعَى. ومِن رحمتِهِ سخَّر لنا الخيلَ والإِبلَ والأَنعامَ، وذلَّلها مُنقادةً للركوبِ والحَمْلِ والأكلِ والدَّرِّ. وبرحمتِهِ وَضعَ الرَّحمةَ بين عبادِهِ ليتراحموا بها، وكذلك بين سائِرِ أنواعِ الحيوانِ، فهذا التراحمُ الذي بيْنهم بعضُ آثارِ الرَّحمةِ التي هي صفتُه ونعمتُه، واشتقَّ لنفسِهِ منها اسمَ (الرَّحمنِ الرَّحيمِ)، وأوصلَ إلى خلْقِهِ معانيَ خطابِهِ برحمتِهِ، وبصَّرَهُم ومكَّنَ لهم أسبابَ مصالِحهم برحمتِهِ. وأوسعُ المخلوقاتِ عَرْشُه، وأوسعُ الصِّفاتِ رحمتُه، فاستوى على عرشِهِ الذي وَسِعَ المخلوقاتِ بصفةِ رحمتِهِ التي وَسِعَتْ كلَّ شيْءٍ. ولما استوى على عرشِهِ بهذا الاسمِ الذي اشتقَّه مِن صفتِه وتسمَّى به دُونَ خلْقِهِ، كتبَ مقتَضاه على نفسِه يومَ استوائِهِ على عرشِهِ حين قَضَى الخَلْقَ كتابًا فهو عندَهُ وضعَهُ على عرشِهِ: "إِنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ"، وكان هذا الكتابُ العظيمُ الشأْنِ كالعهدِ منه سُبْحَانَهُ للخليقَةِ كلِّها بالرَّحمةِ لهم، والعفْوِ عنهم، والصَّفْحِ عنهم والمغفرةِ والتجاوزِ والسّترِ والإِمهالِ والحِلْمِ والأَناةِ، فكان قيامُ العالمِ العُلويِّ والسُّفليِّ بمضمونِ هذا الكتابِ، الذي لولاه لكان للخلقِ شأنٌ آخرُ. وكان عن صفةِ الرَّحمةِ الجَنَّةُ وسكَّانُها وأعمالُهم، فبرحمتِه خُلقَتْ، وبرحمتِهِ عَمَرَتْ بأهلِها، وبرحمتِه وصلوا إليها، وبرحمتِه طابَ عيشُهم فيها. وبرحمتِه احتجبَ عن خلقِه بالنّورِ، ولو كشَفَ ذلك الحجابَ لأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجهِهِ ما انتهى إليه بصرُه مِن خلقِهِ. ومِنْ رحمتِه أَنَّه يُعيذُ مِنْ سَخْطِه برضَاه، ومِنْ عُقوبَتِهِ بعفوهِ، ومِنْ نفسِهِ بنفسِهِ. ومِنْ رحمتِه أَنْ خلقَ للذَّكَرِ منَ الحيوانِ أُنثى مِن جنْسِهِ، وأَلقى بينهما المحبةَ والرَّحمةَ، ليقعَ بينهما التواصلُ الذي به دوامُ التناسلِ وانتفاعُ الزوجين، ويُمتعُ كلَّ واحدٍ منهما بصاحبِه. ومِنْ رحمتِه أَحْوجَ الخلْقَ بعضَهُمْ إلى بَعْضٍ لتتمَّ مصالِحُهم، ولو أغنى بعضَهم عن بعضٍ لتعطَّلَتْ مصالِحُهم، وانحلَّ نظامُهم، وكان مِنْ تمامِ رحمتِه بهم أَنْ جعل فيهم الغنيَّ والفقيرَ، والعزيزَ والذَّليلَ، والعاجِزَ والقادِرَ، والراعيَ والمرعيَّ، ثم أفقرَ الجميعَ إِليه، ثُمَّ عمَّ الجميعَ برحمتِهِ. ومِنْ رحمتِه أَنَّه خلقَ مائَة رحمةٍ كلَّ رحمةٍ منها طِباقُ ما بين السَّماءِ والأرضِ، فأنزل منها إلى الأرضِ رحمةً واحدةً نشرها بين الخَليقةِ ليتراحموا بها، فبها تعطفُ الوالدةُ على ولدِها والطيرُ والوحْشُ والبهائمُ، وبهذه الرَّحمةِ قِوامُ العالمِ ونِظَامُه. وتأملْ قولَهُ تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 1 - 4]؛ كيف جعلَ الخَلْقَ والتعليمَ ناشِئًا عن صفةِ الرَّحمةِ، متعلقًا باسم (الرَّحمن)، وجعل معانيَ السورةِ مرتبطةً بهذا الاسمِ، وختَمَها بقولِهِ: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 78]؛ فالاسمُ الذي تبارك هو الاسمُ الذي افتتحَ به السُّورةَ، إِذْ مجيءُ البركَةِ كلِّها منه، وبه وُضِعَتِ البركةُ في كلِّ مُبَارَكٍ فكلُّ ما ذُكِرَ عليه بُورِكَ فيه، وكلُّ ما أُخْلِي منه نُزِعَتْ منه البركةُ" اهـ[15]. ولذلك قال ابنُ القيِّم رحمه الله عن اسم "الرَّحمن": ولما كان هذا الاسمُ مختصًّا به تعالى، حَسُنَ مجيئُه مفردًا غيرَ تابعٍ كمجيءِ اسمِ اللهِ كذلك، ولم يَجِئْ قطُّ تابعًا لغيرِه بل متبوعًا وهذا بخلافِ العليمِ، والقديرِ، والسّميعِ، والبصيرِ، ونحوِها، ولهذا لا تَجِيْءُ هذه مفردةً بل تابعةً، فتأملْ هذه النُّكْتةَ البديعةَ[16]. ربُّكم ذو رحمةٍ واسعةٍ[17]: قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، وقال تعالى إخبارًا عن حَملةِ العَرْشِ ومَنْ حَوْله أَنَّهم يقولون: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]. رحمةُ اللهِ تغلبُ غضَبَهُ: قال تعالى: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]. قال ابنُ كثيرٍ في هذه الآية: أوجبَها على نفسِه الكريمةِ تفضُّلًا منه وإحسانًا وامتنانًا[18]. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ لما قَضَى الخلْقَ كتبَ عندَهُ فوقَ عرشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي"، وفي رواية: "لمَّا خلقَ اللهُ الخلقَ كتبَ في كتابِهِ وهو يكتبُ على نفسِه، وهو وضْعٌ عنده على العرشِ: إِنَّ رحمتي تَغْلِبُ غَضَبِي"[19]. إِنَّ للهِ مائةَ رحمةٍ: عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: سَمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إِنَّ للهِ مائةَ رحمةٍ أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجنِّ والإنسِ والبهائمِ والهوامِّ، فبها يَتَعَاطَفُونَ، وبها يَتَرَاحَمُونَ، وبها تعطِفُ الوحشُ على ولدِها"، وفي روايةٍ: "حتى تَرفعَ الدَّابةُ حافِرَها عن ولدِها خشيةَ أن تُصيبَه، وأخَّر اللُه تسعًا وتسعين رحمةً يَرحمُ بها عبادَهُ يومَ القيامةِ"، وفي رواية: "إِنَّ الله خلقَ الرَّحمةَ يومَ خلقها مائةَ رحمةٍ"، وفي رواية: "كلُّ رحمةٍ طِباقُ ما بين السماءِ والأرضِ، فأمسَكَ عنده تسعًا وتسعين رحمةً، وأرسلَ في خلقِهِ كلِّهم رحمةً واحدةً"[20]. هذه رحمةُ اللهِ المخلوقَةُ، فكيف برحمةِ اللهِ التي هي مِن صفاتِهِ وليستْ مخلوقَةً ولا تنفَدُ أبدًا وليس لها حدٌّ، ولا نهايةٌ، قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، ولذلك فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لو يَعلمُ الكافرُ ما عند الله مِن الرَّحمةِ ما قَنطَ من جنَّتِه أحدٌ"[21]. إِنَّ اللهَ تبارك وتعالى بيده الرَّحمةُ وَحْدَهُ: ومِنْ رحمتِهِ: أَنَّ أحدًا مِن خلْقِهِ لا يستطيعُ أن يحجُبَ رحمتَه أو يمنعَها عن أحبابِهِ، قال تعالى: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ [فاطر: 2]. فرحمةُ اللهِ لا تعزُّ على طالبٍ في أي زمانٍ أو مكانٍ: وجدَها إبراهيمُ وَسْطَ ألْسنةِ النَّارِ، ووجدها يوسفُ في غيابةِ الجُبِّ وغياهبِ السِّجنِ، ووجدها إسماعيلُ وأمُّه هاجرُ في صحراءَ جرداءَ لا زرعَ فيها ولا ماءَ، ووجدها يونسُ في بطنِ الحوتِ، ووجدها موسى في اليمِّ وهو طفلٌ وفي قصرِ فرعونَ وهو مُترَبِّصٌ به، ووجدها أصحابُ الكهفِ حين افتقدوها في القصورِ بين أقوامِهم، ووجدَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصاحِبُه في الغارِ وهما مطاردانِ[22]. اللهُ أرحمُ بعبادِهِ من الأمِّ بولدِهَا: وذلك لأنَّ رحمةَ والديك بِكَ مهما بلغَتْ فهي جزءٌ مِن جزءٍ مِن المائةِ جُزءٍ التي خلقَها اللهُ، فكيف برحمتِه هو الواسعةِ جلَّ جلالُه وتقدست أسماؤه، عن عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه؛ أنه قال: قدِم على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بسَبْيٍ، فإذا امرأةٌ مِن السَّبْي تبتغي - وفي رواية البخاري: تسعى إذا وجدَتْ صبيًّا في السَّبْي أخذتْه فألصقتْهُ ببطنها وأرضعتْه، فقال لنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أترَوْنَ هذه المرأةَ طارحةً وَلَدَها في النار؟" قلنا: لا والله، وهي تقْدِر على أَنْ لا تَطْرحَهُ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الُله أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا"[23]. وقال حمَّادُ بنُ سلمة: "ما يسُرُّني أَنَّ أمْري يومَ القيامةِ صارَ إلى والديَّ؛ إنَّ ربي أرحمُ بي مِن والديَّ". صُورٌ مِن رحمةِ اللهِ بخلقِهِ: إِنَّ آثارَ وعلاماتِ رحمةِ اللهِ أظهَرُ مِنْ أَنْ تُبيَّنَ، وأكثرُ مِن أَنْ تُحْصَى، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، ففي كلِّ نعمةٍ رحمةٌ يستَدِلُّ عليها كلُّ ذي عقلٍ صحيحٍ، ويعرِفُها كلُّ ذي قلبٍ سليمٍ، ولا يُنكِرُها إلا كلُّ ظلومٍ كَفَّارٍ، وهذا أمرٌ لا يحتاج إلى دليلٍ، كما قال الشاعرُ: وكيف يَصحُّ في الأذهانِ شَيْءٌ ♦♦♦ إذا احتاجَ النَّهارُ إلى دَليلِ وقد اخترنا بعضَ هذه الآثارِ على سبيلِ المثالِ، فمِنْ ذلك: 1- خَلْقُ الإِنسانِ: فمِنْ رحمةِ اللهِ تعالى أنه خَلقَ الإنسانَ مِن عَدَمٍ، وأنشأَهُ وجعلَ له السَّمْعَ والبصَرَ والفؤادَ والعقلَ، كلُّ هذا من ترابٍ، فأيُّ فضلٍ وأيُّ نِعْمةٍ بعد اصطفاءِ اللهِ لبعضِ التُّرابِ والطينِ ليجعلَهُ إنسانًا يعقِلُ ويشعُر ويؤمِنُ ثم يدخله الجَنَّةَ، فسُبْحانَ اللهِ وبحمدِه، قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 1 - 4]. 2- النّبوَّةُ والرِّسالَةُ رحمةٌ: فقد سُمِّيتِ النبوةُ والوحيُ رحمةً كما في قوله تعالى مُخبِرًا عن نوحٍ: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ﴾ [هود: 28]. قال ابنُ كثيرٍ في هذه الآية: "أي على يقينٍ وأمرٍ جليٍّ، ونبوَّةٍ صادقةٍ وهي الرَّحمةُ العظيمةُ مِنَ اللهِ بِهِ وبِهِمْ"[24]. 3- إِرْسالُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]. وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً"[25]. 4- نزول القرآن: قال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]. 5- أَنْ جعلَكَ مُسلمًا: قال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]. قال ابنُ كثيرٍ: "أيْ: بهذا الذي جاءهم مِن الهدى ودينِ الحقِّ فليفرحوا فإِنَّه أولى ما يفرحون به"[26]. وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي أُمِرَ فيه بالفَرحِ. 6- نداؤه في الثلثِ الأخيرِ من اللَّيلِ ليرحمَ عبادَهُ: عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟"[27]. وفي حديثٍ آخرَ: "مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَرْزِقُني أرْزُقْه؟ مَنْ ذا الذي يَسْتَكْشِفُ الضرَّ أكْشِفْه"، حتى ينفجرَ الفَجْرُ[28]. وفي حديثٍ آخرَ: "ينزلُ اللهُ إلى السماءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ حين يمضي ثُلثُ الليلِ الأولُ، فيقولُ: أنا الملكُ، أنا الملكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي..."[29]. باللهِ عليك لو أَنَّ أميرَ بلدِكَ، أو رئيسَ دولتِكَ بعثَ إليك أَنَّهُ سوف يأتي إليك ليحقِّقَ لك ما تتمنَّى منه، ألا يجعلُك هذا له مُحبًّا وإلى لقائِهِ متشوِّقًا؟ هل كُنتَ تنامُ وتتركُه؟ أو تنسَى موعِدَه؟ وهل ستكونُ موقِنًا بتنفيذ ما تتمنى أم لا؟ هذا مِنْ بشَرٍ ضعيفٍ لا يَمْلِكُ لَكَ ولا لنفسِهِ نفعًا ولا ضرًّا، فكيف برَبِّ العالمين ؟! 7- تقرُّبُه إلى خَلْقِهِ: سُبْحانَ اللهِ يتقرَّبُ من خلقِه وهو غَنيٌّ عنهم، ويتودَّدَ إليهم وهم لا يملكون له نفعًا ولا ضرًّا، ولكِنْ نعمةً منه وفضلًا ورحمةً وإحسانًا. وانظرْ أخي الكريمَ، وتأمَّلْ هذا الحديثَ الذي تنفطرُ له القلوبُ وتدمعُ له العيونُ، فعن أبي هريرةَ قال: رُبَّما ذكرَ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: إذا تَقَرَّبَ العبدُ منِّي شِبْرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا، وإذا تقرَّب مني ذراعًا تقربتُ منه باعًا أو بوعًا"[30]. يا اللهُ، يا اللهُ، مَنْ يتقرَّبُ إلى مَنْ؟ ومَنْ يُهرول إلى مَنْ؟ يتقرَّبُ الخالِقُ إلى المخلوقِ ويُهروِلُ ملِكُ الملوكِ إلى عبدٍ فقيرٍ صُعلوكٍ، سُبْحانَ الله ما أرحمَهُ وما أكرَمَهُ. 8- ذكرهُ لعبادِهِ الصالحين: وعن أنسٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنْ ذَكَرْتَنِي فِي نَفْسِكَ ذَكَرْتُك فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرْتَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُك فِي مَلَأٍ مِنَ المَلَائِكَةِ، أَوْ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي شِبْرًا دَنَوْتُ مِنْكَ ذِرَاعًا، وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي ذِرَاعًا دَنَوْتُ مِنْكَ بَاعًا، وَإِنْ أَتَيْتَنِي تَمْشِي أَتَيْتُكَ أُهَرْوِلُ". قال قتادة: "فالله عز وجل أسرعُ بالمغفرةِ"[31]. أخي الكريمَ، هل تصوَّرتَ كيف يَذكُرُك ربُّك؟ هل تَخَيَّلْتَ أَنْ يَذكرَك اللهُ باسمِك؟ نَعَمْ يَذكرُك أنتَ باسمِكَ بين ملائكتِه في الملأِ الأعلى، مَنِ الذي يَذكُركَ؟ اللهُ الذي يَذْكُرك. فيا له مِنْ عظيمِ شَرفٍ وكبيرِ قَدْرٍ لا يعرِفُه إلا مَنْ عَرَفَ ربَّه وأحبَّه، فانظرْ إلى واحدٍ مِنْ هؤلاءِ؛ وهو أُبيُّ بنُ كعبٍ رضي الله عنه حين عَلِمَ أَنَّ الله تبارك وتعالى قد ذكَره باسمِه، وكيف هَطَلتْ عيناه دمعَ الفرحِ والحنينِ إلى أرحمِ الراحمين. عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأُبيِّ بنِ كعبٍ: "إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾"، قال: وسمَّاني لك؟ قال: "نَعَمْ"، فبكى، وَفِي رِوايَةٍ للبُخَارِيِّ: وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ العَالِمينَ، قال: "نَعَمْ"، فذرفت عيناه[32]. قال يحيى بنُ معاذٍ الرازيُّ: يا غفولُ يا جهولُ لو سَمِعْتَ صريرَ الأقلامِ وهي تكتبُ اسمَك عند ذكرِك لمولاك لمتَّ شَوقًا إلى مولاك. فليس العجبُ مِن قوله: ﴿ فَاذْكُرُونِي ﴾، ولكِنَّ العجبَ كلَّ العجبِ من قوله: ﴿ أَذْكُرْكُمْ ﴾، فليس العجبُ أَنْ يذكرَ الضعيفُ القويَّ، أو يذكرَ الفقيرُ الغنيَّ، أو يذكرَ الذليلُ العزيزَ، إنما العجبُ أن يذكرَ القويُّ الضعيفَ، والغنيُّ الفقيرَ، والعزيزُ الذليلَ. 9- صبرُ الله جل جلاله وتباركت أسماؤه على الأذى مِن خلقه: فسُبْحانَ اللهِ ما أحلَمَهُ، وما أكرمَهُ وما أرحمَهُ، يَخْلقُ ويُعْبَدُ غيرُه، ويَرْزُقُ ويُشْكرُ سِواه، خيرُه إلى العبادِ نازِلٌ وشرُّهم إليه صاعِدٌ مِنَ الذين يدَّعون له الولدَ، يَصبرُ على أذاهم، ويَبعثُ إليهم بأرزاقِهم، عسى أنْ يُصادِفَ هذا الكرمُ عقلًا ذاكيًا أو قلبًا واعيًا أو نفسًا طيبةً أو فِطرةً سليمةً تُفيقُ مِنْ غفوتِها وترجعُ عن ضلالتِها، تعرِفُ ربَّها فتعبدُه وَحْدَهُ وتحبُّه وَحْدَه سبحانه وتعالى. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ؛ يَدْعُونَ لَهُ الوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ"[33]. هذه رحمتُه سُبْحَانَهُ بمَنْ أشركَ به، فكيف رحمتُه بمَنْ وحَّدَه وعبدَه وأطاعَهُ وأحبَّه وأحبَّ رسولَهُ وجاهدَ في سبيلِهِ؟ 10- رحمته بالتائبين: فإِنَّ التائبين قد انكسَرَتْ قلوبُهم لعظَمتِه، وذلَّتْ جباهُهم لعزَّتِهِ، وأَتَوْه راجين رحمتَه ويخافون عذابَه، فما عسى أَنْ تكونَ رحمةُ الله بهم؟ فإليك شيئًا منها: أولاً: يَغفرُ الذنوبَ مهما عَظُمَتْ: عن أنسٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "قَالَ اللُه تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً"[34]. ثانيًا: ويبسطُ يدَهُ للتائبين ليلاً ونهارًا: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"[35]. ثالثًا: ويفرح بتوبةِ عبدِهِ: ومع هذا فقد فَرِحَ بها فرحًا هو أشدُّ من فرحةِ رَجُلٍ وَجَدَ حياتَه بعد ما عدَّ نفسَهُ من الأمواتِ، وهي فرحةُ إِحسانٍ وبِرٍّ ولُطفٍ، لا فرحةَ مُحتاجٍ إلى توبةِ عبدِهِ منتفعٍ بها. عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "للهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ"[36]. وفي رواية: "للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا وَقَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ؛ إِذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ"[37]. ففي هذا الحديثِ دليلٌ على فرحِ الله عز وجل بالتوبةِ مِن عبدِه إذا تابَ إليه، وأنه يحبُّ ذلك سبحانه وتعالى محبةً عظيمةً. ولكن لا لأجْل حاجتِه إلى أعمالنا وتوبتنَا، فاللهُ غنيٌّ عنَّا، ولكِنْ لمحبتِهِ سُبْحَانَهُ للكرمِ فإنَّه يُحِبُّ أن يَغفرَ، وأَنْ يغفِرَ أحبُّ إليه من أَنْ ينتقِمَ ويؤاخِذَ، ولهذا يفرحُ بتوبةِ الإِنسانِ[38]. رابعًا: ويبدِّل السيئاتِ حسناتٍ: قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]. وقال الحسنُ البصريُّ: "أبدَلَهم اللهُ العملَ السَّيءَ العملَ الصَّالحَ، وأبدلَهُم بالشِّركِ إِخلاصًا، وأبدلَهُم بالفجورِ إحصَانًا، وأبدلَهُم بالكُفْرِ إسلامًا"[39]. 11- صَلاتُه جل جلاله وتقدَّست أسماؤه على المؤمنين: قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]. قال ابنُ كثيرٍ: "والصلاةُ مِن الله ثناؤه على العبدِ عِنْدَ الملائِكَةِ، حكاه البخاري عن أبي العاليةَ... وقال غيرُه: "الصلاةُ من اللِه عز وجل الرَّحمةُ. وقد يُقالُ: لا منافاةَ بين القولين، والله أعلمُ"[40]. 12- مضاعفةُ الحسناتِ والأجورِ: فمِنْ رحمتِه سُبْحَانَهُ مضاعفَةُ الحسناتِ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يضاعِفُ الحسنَةَ بعشرِ أمثالها، إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ"[41]، ومن الأعمالِ ما يُنمِّيها اللهُ حتى يجعلَها كالجبلِ، فعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ"[42]. 13- رحمةُ اللهِ تبارك وتعالى بقلوب عبادِهِ: فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "القُلُوبُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقْلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ"[43]. 1- فإذا شاء اللهُ لعبدٍ الهُدى شرَحَ قَلْبَهُ للإسلام، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ﴾ [الأنعام: 125]. 2- وإذا أراد بعبد رشادًا حبَّبَ إليه الإيمانَ وزيَّنه في قلبِهِ؛ فعاشَ بالإِيمانِ سعيدًا، وعن الكفرِ والعصيانِ بعيدًا، قال تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ﴾ [الحجرات: 7، 8]. 3- ويُسعد المؤمنين بحُبِّهم له ولرسولِه وحُبِّ المؤمنين في اللهِ؛ فيشعُر بحلاوةِ الإيمانِ ولذَّةِ القُربِ من الرَّحمنِ جل جلاله وتباركت أسماؤه، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللُه مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ"[44]. وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96]، وذلك بعكس الطغاةِ والعُصاةِ أمثالِ المشركين من أهلِ الكتابِ، فقد قال تعالى في النصارى: ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [المائدة: 14]. 14- الجَنَّة مِن رحمة الله عز وجل: عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْثُ بِالمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، قَالَ اللُه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي"[45]. 15- دخول الجَنَّة برحمة الله عز وجل: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يُدْخِلُ أحدًا الجَنَّةَ عملُه"، قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِمَغْفِرَةٍ مِنْهُ وَرَحْمَةٍ"[46]. 16- شفاعة أرحم الراحمين في أهل النار: فما مِنْ أحدٍ يملِكُ لغيرِهِ شفاعةً في الدنيا ولا في الآخرة إلا بَعْدَ أن يأْذَنَ اللهُ لمن يشاءُ ويرضى، قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 44]. وسيجعلُ اللُه درجاتٍ للشفاعةِ والشافعين، فهناك شفاعةٌ للأنبياءِ والمرسلين، وشفاعةٌ للصدِّيقين، وشفاعةُ الشهداءِ فيُشَفِّعُهم اللهُ عز وجل، ثم بعد ذلك يشفع هو - سُبْحَانَهُ وبحمدِه - شفاعةً فيُخرِجُ أضعافَ ما أخرجه كلُّ هؤلاءِ حتى يَعْجَبَ أهلُ الجَنَّةِ من ذلك، وإليك صُوَرًا مِن شفاعةِ أرحمِ الرَّاحمين: شفاعته عز وجل في الموحِّدين: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال في حديثِ الشَّفاعةِ الطويلِ: "ثُمَّ يُقَالُ: ادْعُوا الصِّدِّيقِينَ، فَيَشْفَعُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: ادْعُوا الأَنْبِيَاءَ"، قَالَ: "فَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ العِصَابَةُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ، وَالنَّبِيُّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ يُقَالُ: ادْعُوا الشُّهَدَاءَ، فَيَشْفَعُونَ لمَنْ أَرَادُوا"، وَقَالَ: "فَإِذَا فَعَلَتِ الشُّهَدَاءُ ذَلِكَ"، قال: "يَقُولُ الُله عز وجل: أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أَدْخِلُوا جَنَّتِي مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا"، قَالَ: "فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ" [47]. وفي حديثٍ آخرَ: "فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الُله"[48]. وفي روايةٍ: أَنَّ اللهَ تبارك وتعالى يقولُ للرُّسلِ: "اذْهَبُوا، أَوِ انْطَلِقُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ"، ثم يقولُ الله عز وجل: "أَنَا الْآنُ أُخْرِجُ بِعِلْمِي وَرَحْمَتِي"، فيُخرجُ أضعافَ ما أُخْرِجُوا وأضعافَهُ فيُكتبُ في رقابِهم عتقاءُ اللهِ عز وجل، ثم يُدْخَلون الجَنَّةَ[49]. 17- رحمتُه بالنمل، سبحان الله وبحمده: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَنْ قَرَصَتْك نملةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ اللهَ!"[50]، وفي رواية: "فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً!"[51]. فسبحانَ مَنْ لم تمنعْهُ عظمتُه وكبرياؤه مِن رحمةِ الضَّعيفِ الصَّغيرِ مِن خلْقِهِ حتى يُعاتِبَ نبيًّا له مِن أجْلِ نملٍ، لا حولَ له ولا قوَّة إلا برَبِّهِ. ثالثًا: ليس كمثله شَيْءٌ في رحمتِهِ: وذلك من عِدَّةِ أوجهٍ: أولًا: رحمةُ الخلْقِ مخلوقةٌ فتوجَدُ بوجودِهم وتَفْنى بفنائِهم، أما رحمَةُ اللهِ عز وجل فإنها صفةٌ ذاتيةٌ له لا تَفْنَى ولا تبيدُ، قال تعالى: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27]. ثانيًا: رحمةُ الخلْقِ قليلَةٌ محدودَةٌ، أما رحمةُ اللهِ فقد وَسِعَتْ كلَّ شَيْءٍ، فكلٌّ يَرْحَمُ بقدْرِ قُدْرَتِهِ، فالناسُ يَرحمونَ في حالٍ دُونَ آخرَ، فيَرحمون القريبَ دون الغريبِ، ويَرحمون الحبيبَ دون العدوِّ، أما رحمةُ اللهِ عز وجل فقد عمَّتِ الخلْقَ جميعًا، قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]. ثالثًا: رحمةُ الناسِ تختلِطُ باللَّهفَةِ والضَّعفِ لمن يَرْحَمُ، فالأم إذا مَرِضَ ولدُها تحزنُ، وإذا غابَ عنها تقلقُ وإذا مات هلعتْ، وذلك مِن حُبِّها له ورحمتها عليه، وقد بكى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند موتِ ابنِه إبراهيمَ، وحَزِنَ عليه، وذلك من رحمتِه به صلى الله عليه وسلم. عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه؛ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دخلَ على ابنِه إبراهيمَ رضي الله عنه وهو يجودُ بنفسِهِ، فجعلتْ عينا رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تذرِفانِ، فقال له عبدُ الرحمنِ بن عوفٍ: وأنتَ يا رسولَ اللهِ؟ فقال: "يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ"، ثم أتْبَعَها بأخرى، فقال: "إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا لِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لمَحْزُونُونَ"[52]. ولكِنَّ اللهَ عز وجل لا يحزَنُ ولا يتألمُ ولا يبكي ولا يقلَقُ، ولا يتلهَّفُ، وهكذا ما لهذه الصفاتِ مِن نقصٍ وضعفٍ لا يَخْفى على كلِّ عاقِلٍ أن هذا لا يليقُ بالله سُبْحَانَهُ وبحمده، إنما يَرحمُ مِنْ قوةٍ، ويَعفو مِنْ قُدرةٍ، ويَغفر في عزَّة، ولا يُسأل عما يفعلُ وهم يُسألون. رابعًا: لا تقنطوا مِن رحمة الله: قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ العُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ"[53]. ولذا فإنَّ القُنوطَ مِن رحمةِ اللهِ مِن علاماتِ الكُفرِ والضَّلالِ، وما يقنَطُ من رحمةِ الله عز وجل إلا رجلٌ مِن اثنين: ضالٌّ، أو كافرٌ، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56]. وقد نصَحَ يعقوبُ؛ بنيه بألا ييأسوا من رَوْحِ اللهِ أبدًا، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]. عن جُندَب؛ أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللِه لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ"[54]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد قال لضمضمِ بنِ جوسٍ اليمامي: يا يمامي لا تقولنَّ لرجُلٍ: واللهِ لا يغفرُ اللهُ لك، أو لا يُدْخِلُك اللهُ الجَنَّةَ أبدًا، فقال له: يا أبا هُريرةَ، إِنَّ هذه الكلمةَ يقولُها أحدُنا لأخيه وصاحبِه إذا غَضِبَ، قال أبو هريرة: فلا تَقُلْها، فإني سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلَانِ، كَانَ أَحَدُهُمَا مُجْتَهِدًا فِي العِبَادَةِ، وَكَانَ الآخَرُ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَا مُتَآخِيَيْنِ، فَكَانَ المُجْتَهِدُ لَا يَزَالُ يَرَى الآخَرَ عَلَى ذَنْبٍ، فَيَقُولُ: يَا هَذَا أَقْصِرْ، فَيَقُولُ: خَلَّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟" قَالَ: "إِلَى أَنْ رَآهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ أَقْصِرْ، قَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عليَّ رَقِيبًا؟" قال: "فَقَالَ: وَالِله لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ"، أَوْ "لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الجَنَّةَ أَبَدًا، قَالَ أَحَدُهُمَا" قَالَ: "فَبَعَثَ الُله إِلَيْهِمَا مَلَكًا فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا وَاجْتَمَعَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرَ: أَكُنْتَ بِي عَالمًا؟ أَكُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي خَازِنًا؟ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ"، قال: فَوَالَّذِي نَفْسُ أَبِي القَاسِمِ بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ[55]. المحرومون من رحمةِ اللهِ: فبالرغم مِنْ سَعةِ رحمةِ الله وعظَمتِها، إلَّا أنَّ هناك مِنَ الناسِ مَنْ حَرموا أنفسَهُم منها بذنوبِهم، وسنذكر فيما يلي جانبًا منهم: أولًا: مَن لا يَرحم لا يُرحم: عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قَبَّلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحسَنَ بنَ عليٍّ وعنده الأقرعُ بنُ حابسٍ التميمي جالسًا، فقال الأقرعُ: إِنَّ لي عشرةً مِن الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قال: "مَنْ لا يَرْحَمُ، لا يُرْحَم"[56]، ولِمَ يَرحمُ اللهُ مَنْ لم يرحَمْ عبادَهُ الذين خلقَهُم بيدِه ونفَخَ فيهم مِنْ رُوحِهِ؟ وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ"[57]. ثانيًا: *****ُ النَّاسِ: فعنْ أبي مسعودٍ البدريّ رضي الله عنه قال: كنتُ أَضْرِبُ غلامًا لي بالسَّوطِ، فسَمعتُ صوتًا مِن خلفِي: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الغُلَامِ"، فقلتُ: لا أضربُ مملوكًا بعده أبدًا، وفي رواية: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، هو حرٌّ لوجهِ اللهِ، فقال: "أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ"، أَوْ "لَمَسَّتْكَ النارُ"[58]. وعن هشامٍ بن حكيمٍ بنِ حزامٍ رضي الله عنهما قال: أشهدُ لسَمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ اللهَ يُعذِّبُ الذين يُعذّبون النَّاسَ في الدُّنيا"[59]. ثالثًا: *****ُ الحيوانات: فقد حرَّم اللهُ *****َ الحيوانِ والحشراتِ، ويُعاقِبُ مَنْ فَعَلَ ذلك، فعن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "عُذِّبَتِ امْرَأةٌ فِي هِرَّةٍ: حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ"[60]. رابعًا: الاختلافُ والفُرقةُ: وكفى بنَزْعِ الرَّحمةِ عن المختلفين ثلاثةَ أُمورٍ كلٌّ منها أشدُّ مِنَ الأخرى. الأولى: حِرمانُ المغفرةِ: عَنْ أبي هُريرةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الخَمِيسِ فيُغفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكْ بِاللِه شَيْئًا؛ إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"[61]. الثانية: ضَياعُ الهُدى: عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: لما حُضِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفي البيتِ رجالٌ فيهم عمرُ بن الخطاب، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَلُمَّ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ"، فقال عُمَرُ: إِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد غَلَبَ عليه الوجَعُ، وعندكم القرآنُ، حسْبُنَا كتابُ اللهِ، فاختلفَ أهلُ البيتِ فاختصَموا، منهم مَنْ يقولُ: قرِّبُوا يكتبْ لكم النبيُّ صلى الله عليه وسلم كتابًا لن تضلُّوا بعدَهُ، ومنهم مَنْ يقولُ ما قال عمرُ رضي الله عنه: فلما أكثَروا اللَّغوَ والاختلافَ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا عَنِّي"، وكان ابنُ عباس يقول: إِنَّ الرَّزيةَ ما حال بين رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبين أَنْ يكتُبَ لهم ذلك الكِتابَ مِن اختلافِهم ولغطِهم[62]. الثالثة: إِخفاءُ ليلةِ القَدْرِ عن المسلمين: عن عُبادةَ بنِ الصَّامتِ قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليخبرَنا بليلةِ القَدْرِ، فتلاحَى رجُلانِ مِن المسلمين، فقال: "خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ..."[63]. الفائزون برحمَةِ اللهِ: 1- طاعة اللهِ ورسولِهِ: فكلَّما كان العبدُ أكثرَ طاعةً للهِ تبارك وتعالى ورسولِه صلى الله عليه وسلم كُلَّما كان أكثرَ استحقاقًا لرحمةِ الله عز وجل، قال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 132]، وقال عز وجل: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]. 2- الإحسانُ: قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ..."[64]. 3- تقوى الله تبارك وتعالى: فإن كانتْ رحمةُ اللهِ قد وسعتْ كلَّ شيءٍ وشَمِلتْ البَرَّ والفاجِرَ، والمسلمَ والكافرَ، فما من أحدٍ إلا وهو يتقلَّبُ في رحمةِ اللهِ آناءَ الليلِ وأطرافَ النَّهارِ وهذا في الدُّنيا وتلك هي الرحمةُ العامةُ. أما الرَّحمةُ الخاصَّةُ بدخولِ الجَنَّةِ في الآخرةِ فهي للمؤمنين والمتقين وَحْدَهُم، قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156]. 4- صلةُ الرَّحِمِ: عن عبد الرحمن بن عوفِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "قَالَ اللهُ: أَنَا اللهُ، وَأَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَها اسْمًا مِنِ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُه، وَمَنْ قَطَعَهَا بتَتُّهُ"[65]، وبَتَتُّه أي: قطعتُه. فانظرْ أخي الكريمَ إلى هذه الشكوى المرَّة مِن الرَّحمِ المقطوعةِ إلى اللهِ، وانظُرْ أتُحِبُّ أَنْ تكونَ مِن الواصلين للرَّحمِ أَمْ مِنَ القاطعين. وعن أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "إِنَّ الرَّحِمَ مشْجَنَةٌ من الرَّحمنِ، تقولُ: يا ربِّ، إِنِّي قُطِعْتُ، يَا رَبِّ إِنِّي ظُلِمْتُ، يَا رَبِّ إِنِّي أُسِيْءَ إِلَيَّ، يَا رَبِّ، يا ربِّ، فيُجِيبُها ربُّها عز وجل، فيقولُ: أما تَرْضَيْنَ أن أصِل مَنْ وصَلكِ وأقطعَ مَنْ قطعَكِ؟"[66]. وفي رواية: "أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَذَاكِ"، قال أبو هُريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ [محمد: 22][67]. 5- التماسُ مرضاةِ اللهِ: عن ثوبانَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ العبدَ ليلتمسُ مرضاةَ اللهِ، ولا يزالُ بذلكَ، فيقولُ اللهُ عز وجل لجبريلَ: إِنَّ فلانًا عَبْدِي يَلْتَمِسُ أَنْ يُرضيَني، أَلَا وَإِنَّ رَحْمَتِي عَلَيْهِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: رَحْمَةُ اللهِ عَلَى فُلَانٍ، وَيَقُولُها حَمَلَةُ العَرْشِ، وَيَقُولُها مَنْ حَوْلَهم حَتَّى يَقُولَها أَهْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ثُمَّ تَهْبِطُ لَهُ إِلَى الأَرْضِ"[68]. 6- الصبر على الابتلاء: قال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]. قال ابن كثير: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾؛ أي: ثناءٌ عليهم، وقال سعيدُ بن جبير: أي أمَنَةٌ من العذابِ[69]. ومِنْ رحمةِ اللهِ بمَنِ استرجع عند المصيبةِ أنه يُخْلِفُ له خيرًا منها، عن أمِّ سَلمةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا"، قالتْ: فلما تُوفِّيَ أبو سَلمةَ قلتُ كما أمرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف اللهُ لي خيرًا منه، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم[70]، فيا لسعادَةِ أمِّ سَلمةَ، فقد تزوَّجَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بصَبْرِهَا. 7- رحمةُ الناس: فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال وهو على المنبرِ: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللهُ لَكُمْ"[71]. عن أسامة بن زيد رضي الله عنه؛ أن صبيًّا قد رُفع في حِجْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ونفسُه تقعقِعُ ففاضَتْ عينا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال له سَعْدٌ: ما هذا يا رسولَ الله؟ قال: "هَذِهِ رَحْمَةٌ وَضَعَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا الرُّحَمَاءَ". وفي رواية: "إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"[72]. "مَنْ رَحِمَ رُحِمَ ومَنْ تَجاوَزَ تَجاوَزَ اللهُ عنه" والجزاءُ من ***ِ العملِ. فعن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "حُوسِبَ رجلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الخَيْرِ شَيْءٌ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ المُعْسِرِ"، قَالَ: "قَالَ الُله عز وجل: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ"[73]. قد يعجَبُ المرءُ مِن رحمةِ اللهِ بعبدٍ تجاوزَ عن فقيرٍ فيكافِئُه بالنَّجاةِ من النَّارِ والخلودِ في الجَنَّةِ، ولكنه يكونُ أكثرَ عجبًا حين يرحمُ اللهُ امرأةً مِنَ البغايا ويغفرُ لها مِن أجلِ شَربة ِماءٍ سَقَتْها لكلبٍ... فما أرحمَ اللهَ! وما أكرمَهُ! وما أعظمَهُ! فعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يَطِيفُ برَكِيَّةٍ، قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَـشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيـلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَها بِهِ"[74]. 8- الجماعةُ رحمةٌ: قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾ [هود: 118، 119]، قيل في هذه الآية المرحومون لا يختلفون. وقد جاء في بعضِ الحديث: "الجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالفُرْقَةُ عَذَابٌ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يدُ اللهِ مَعَ الجَمَاعَةِ". ويقصِدُ بالجماعةِ: أي جماعةَ المسلمين والرُّفقةَ الصالحةَ فإِنَّ لزومَهُم كلَّه خيرٌ؛ فإنهم يذكِّرونك إِنْ غَفَلْتَ، ويعلمونَك إن جَهلْتَ، ويُواسُونَكَ إِنْ أُصِبْتَ. فعَنْ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه قال: "عليك بإخوانِ الصدق تَعِشْ في أكنافهم فإنَّهم زينةٌ في الرَّخاءِ، وعُدَّةٌ في البلاءِ، ولا تصاحِبْ إلا الأمينَ، ولا أمينَ إلا مَنْ يخشى الله عز وجل، ولا تصاحبِ الفاجرَ فتتعلمَ من فجورِهِ". صفةُ الرَّحمةِ: الشرْح: هذه آياتٌ في إثباتِ صفةِ الرَّحمةِ: الآية الأولى: قولُه: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [النمل: 30]. هذه آيةٌ أتى بها المؤلِّفُ ليثبتَ حُكمًا، وليستْ مُقدِّمةً لما بعدها، وقد سبق لنا شرحُ البسملة، فلا حاجةَ إلى إعادتِه. وفيها من أسماءِ اللهِ ثلاثةٌ: اللهُ، الرَّحمنُ، الرَّحيمُ، ومِنْ صفاتِهِ: الألوهيَّةُ، والرَّحمةُ. الآية الثانية: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ [غافر: 7]، هذا يقوله الملائكة: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]. ما أعظمَ الإِيمانَ! وأعظمَ فائِدتَهُ! الملائكةُ حولَ العرشِ يحملونَهُ، يَدْعُون اللهَ للمؤمنِ. وقولُه: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾: يدلُّ على أَنَّ كلَّ شيءٍ وصلَهُ علمُ اللهِ، وهو واصلٌ لكلِّ شيءٍ، فإِنَّ رحمَتَهُ وَصَلَتْ إليه؛ لأنَّ اللهَ قرنَ بينهما في الحُكمِ ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾. وهذه هي الرَّحمةُ العامَّةُ التي تشملُ جميعَ المَخْلوقاتِ، حتى الكفارَ؛ لأنَّ اللهَ قرنَ الرَّحمةَ هذه مع العلمِ، فكلُّ ما بلغه علمُ اللهِ - وعِلمُ اللهِ بالغٌ لكلِّ شيءٍ - فقد بلغتْهُ رحمتُه، فكما يَعْلَمُ الكافِرَ، يرحمُ الكافِرَ أيضًا. لكِنَّ رحمتَهُ للكافرِ رحمةٌ جسديَّةٌ بدنيةٌ دنيويةٌ قاصِرةٌ غايةَ القُصورِ بالنسبةِ لرحمةِ المؤمنِ، فالذي يَرزقُ الكافرَ هو اللهُ الذي يَرزقُه بالطعامِ والشَّرابِ واللباسِ والمَسكنِ والمَنْكَحِ وغيرِ ذلك. أما المؤمنون، فرحمتُهم رحمةٌ أخصُّ مِن هذه وأعظمُ؛ لأنها رحمةٌ إيمانيَّةٌ دينيةٌ دنيويّةٌ. ولهذا تجدُ المؤمِنَ أحسنَ حالًا من الكافرِ، حتَّى في أُمورِ الدُّنيا؛ لأَنَّ الله يقول: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97]: الحياةُ الطيبةُ هذه مفقودَةٌ بالنسبةِ للكفارِ، حياتُهم كحَياةِ البهائِمِ، إذا شَبِعَ رَاثَ، وإذا لم يشبَعْ جلسَ يصرخُ، هكذا هؤلاءِ الكفارُ، إن شبعوا بَطروا، وإلا جلسوا يصرخُون، ولا يستفيدون مِنْ دُنياهم، لكنَّ المؤمنَ إِنْ أصابته ضرَّاءُ صبَر واحتسبَ الأجرَ على اللهِ عز وجل، وإن أصابتْهُ سرَّاءُ شكرَ، فهو في خيرٍ في هذا وفي هذا، وقلبُه منشرِحٌ مطمئِنٌّ ماشٍ مع القضاءِ والقَدَرِ، لا جزعَ عند البلاءِ، ولا بطرَ عند النعماءِ، بل هو متوازنٌ مستقيمٌ معتدلٌ. فهذا فرقٌ ما بين الرَّحمةِ هذه وهذه. لكِنْ مع الأسفِ الشَّديدِ أيُّها الإخوةُ: إِنَّ مِنَّا أُناسًا آلافًا يُريدون أنْ يلحقوا بركبِ الكفَّارِ في الدُّنيا، حتى جعلوا الدُّنيا هي همَّهم، إِنْ أُعطوا رَضُوا، وإِنْ لم يُعطَوا إذا هم يَسْخَطون، هؤلاءِ مهما بلغُوا في الرَّفاهيةِ الدنيويَّةِ فهم في جحيمٍ، لم يَذوقوا لذَّةَ الدُّنيا أبدًا، إنما ذَاقَهَا مَنْ آمنَ باللهِ وعَمِلَ صالحًا. ولهذا قال بعضُ السلف: "واللهِ، لو يعلمُ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ ما نحنُ فيه لجالدونا عليه بالسيوفِ"؛ لأنه حالَ بينهم وبين هذا النعيمِ ما هُمْ عليه من الفُسوقِ والعصيانِ والرّكونِ إلى الدُّنيا وأنها أكبرُ همِّهم ومبلغُ علمِهم. قوله: ﴿ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾: ﴿ رَحْمَةً ﴾: تمييزٌ محوَّلٌ عن الفاعلِ، وكذلك ﴿ وَعِلْمًا ﴾؛ لأَنَّ الأصلَ: ربَّنا وَسِعَتْ رحمتُك وعلمُك كلَّ شيءٍ. وفي الآية مِنْ صفاتِ اللهِ: الرُّبوبيَّةُ، وعمومُ الرَّحمةِ، والعلمُ. الآية الثالثة: قوله: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]. ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأحزاب: 43]: متعلقٌ بـ (رحيمٍ)، وتقديرُ المعمولِ يَدُلُّ على الحَصْرِ، فيكونُ معنى الآيةِ: وكان بالمؤمنينَ لا غيرِهم رحيمًا. ولكن كيف نجمعُ بين هذه الآيةِ والتي قَبْلَها: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ [غافر: 7]؟ نقولُ: الرَّحمةُ التي هُنا غيرُ الرَّحمةِ التي هُناك، هذه رحمةٌ خاصَّةٌ متصِلَةٌ برحمةِ الآخرةِ لا ينالُها الكفارُ، بخلافِ الأُولى، هذا هو الجمعُ بينهما، وإلا فكلٌّ مرحومٌ، لكِنْ فَرْقٌ بين الرَّحمةِ الخاصَّةِ والرَّحمةِ العامَّةِ. وفي الآية من الصفات: الرَّحمةُ. ومن الناحية المَسْلكيَّةِ: الترغيبُ في الإيمانِ. الآية الرابعة: قوله: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]: يقولُ جل جلاله وتباركت أسماؤه متمدحًا مُثنيًا على نفسِه: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾، فأثنى على نفسِه عز وجل بأنَّ رحمتَهُ وسِعَتْ كلَّ شيءٍ مِن أهلِ السماءِ ومِنْ أهلِ الأرضِ. ونقولُ فيها ما قلنا في الآية الثانية، فليُرجَعْ إليه. الآية الخامسة: قوله: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]: ﴿ كَتَبَ ﴾: بمعنى: أوجبَ على نفسِه الرَّحمةَ، فاللهُ عز وجل لكرمِهِ وفضلِه وجُودِهِ أوجبَ على نفسِه الرَّحمةَ، وجعلَ رحمتَهُ سابقةً لغضبه، ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ [فاطر: 45]، لكِنْ حلمُه ورحمتُه أوجبَتْ أَنْ يَبْقى الخلْقُ إلى أجلٍ مُسمًّى. ومِنْ رحمَتِهِ ما ذكَرَهُ بقوله: ﴿ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 54]: هذه مِنْ رحمتِه. ﴿ سُوءًا ﴾: نَكِرَةٌ في سياقِ الشَّرطِ، فتعمُّ كلَّ سُوءٍ، حتى الشِّركَ. ﴿ بِجَهَالَةٍ ﴾: يعني: بسَفَهٍ، وليس المرادُ بها عدمَ العلمِ، والسَّفَهُ عدمُ الحِكمةِ؛ لأنَّ كلَّ مَنْ عصى اللهَ، فقد عصاهُ بجهالةٍ وسَفَهٍ وعدمِ حكمةٍ. ﴿ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾: فيغفرُ ذَنْبَهُ ويرحمُه. ولم يختمِ الآيةَ بهذا، إلا سينالُ التائبُ المغفرةَ والرَّحمةَ، هذا مِنْ رحمتِه التي كتبها على نفسِه، وإلا لكان مقتضى العَدْلِ أَنْ يُؤاخِذَه على ذنبهِ، ويجزيَهُ على عملِه الصالحِ. فلو أَنَّ رجلًا أذنبَ خمسين يومًا، ثم تاب وأصلحَ خمسينَ يومًا، فالعدلُ أنْ نُعذِّبَه عن خمسينَ يومًا، ونجازيَه بالثوابِ عن خمسينَ يومًا، لكنَّ اللهَ عز وجل كتبَ على نفسِه الرَّحمةَ، فكلُّ الخمسين يومًا التي ذهبَتْ من السُّوءِ تُمحى وتزولُ بساعةٍ، وزِدْ على ذلكَ: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [الفرقان: 70]، السيئاتُ الماضيةُ تكونُ حسناتٍ؛ لأنَّ كلَّ حسنةٍ عنها توبةٌ، وكلَّ توبةٍ فيها أجرٌ. فظهرَ بهذا أثرُ قولِه تعالى: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾. وفي الآيةِ مِنْ صِفاتِ اللهِ: الرُّبوبيةُ، والإِيجابُ، والرَّحمةُ. الآية السادسة: قوله: ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107]. الله عز وجل هو الغفورُ الرَّحيمُ، جمعَ عز وجل بين هذين الاسمين؛ لأَنَّ بالمغفرةِ سقوطَ عقوبةِ الذُّنوبِ، وبالرَّحمةِ حُصولَ المطلوبِ، والإنسانُ مفتقرٌ إلى هذا وهذا: مفتقرٌ إلى مغفرةٍ ينجو بها من آثامِهِ، ومفتقرٌ إلى رحمةٍ يسعد بها بحُصولِ مطلوبِهِ. فـ ﴿ الْغَفُورُ ﴾: صيغةُ مبالغةٍ مأخوذةٌ من الغَفْرِ، وهو السَّتْرُ مع الوقايةِ؛ لأنه مأخوذٌ من المِغْفَرِ، والمِغْفَرُ شيءٌ يُوضعُ على الرأسِ في القتالِ يَقِي من السِّهامِ، وهذا المِغْفَرُ تحصُلُ به فائدتانِ هما: سترُ الرأس، والوقايةُ. فـ ﴿ الْغَفُورُ ﴾: الذي يسترُ ذنوبَ عبادِهِ، ويَقِيهم آثامَها بالعفوِ عنها. ويدلُّ على هذا ما ثبتَ في الصحيح: "أَنَّ اللهَ عز وجل يخلو يومَ القيامة بعبدِهِ، ويقرُّرُهُ بذنوبِه، يقولُ: عَمِلْتَ كذا، وعَمِلْتَ كذا... حتى يُقرَّ، فيقولُ اللهُ عز وجل: قد سترتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفرُها لك اليوم"[75]. أما ﴿ الرَّحِيمُ ﴾، فهو ذو الرَّحمةِ الشاملةِ، وسَبقَ الكلامُ في ذلك. وفي الآية من الأسماء: الغفورُ، والرَّحيمُ، ومن الصفاتِ: المغفِرَةُ، والرَّحمةُ. الآية السابعة: قوله: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]. قالها يعقوبُ حين أَرْسَلَ مع أبنائِه أخَا يُوسفَ الشقيقَ؛ لأَنَّ يُوسفَ عليه الصلاةُ والسلامُ قال: لا كيلَ لكم إِذا رجعتُم إلا إذا أتيتُم بأخيكم، فبلَّغوا والِدَهم هذه الرسالةَ، ومِنْ أجل الحاجةِ أرسلَهُ معَهُم، وقال لهم عِنْدَ وداعِهِ: ﴿ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]، يعني: لَنْ تحفظوه، ولكنَّ اللهَ هو الذي يحفظُه. ﴿ خَيْرٌ حَافِظًا ﴾: ﴿ حَافِظًا ﴾: قال العلماءُ: إنها تمييزٌ، كقولِ العَربِ: للهِ درُّه فارسًا، وقيل: إِنَّها حالٌ من فاعلِ {خَيْرٌ} في قوله: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ ﴾؛ أي: حالَ كونِه حافظًا. الشاهد مِنَ الآيةِ هُنا قولُه: ﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾، حيثُ أثبتَ للهِ عز وجل الرَّحمةَ، بل بيَّن أَنَّه أرحمُ الراحمينَ، لو جُمِعَتْ رحمةُ الخلْقِ كلِّهم، بل رحماتُ الخلْقِ كلِّهم، لكانتْ رحمةُ اللهِ أشدَّ وأعظمَ. أرحمُ ما يكونُ مِن الخلْقِ بالخلْقِ رحمةُ الأمِّ ولدَها، فإِنَّ رحمةَ الأمِّ ولدَها لا يُساويها شيءٌ مِن رحمةِ النَّاسِ أبدًا، حتى الأبُ لا يَرحمُ أولادَه مثلَ أمِّهم في الغالبِ. جاءتْ امرأةٌ في السَّبْي تطلبُ ولدَها وتبحثُ عنه، فلما رأتْهُ، أخذَتْهُ بشفقةٍ وضمَّتهُ إلى صَدْرِها أمامَ النَّاسِ وأمامَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَتَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ المَرْأَةَ طَارِحَةٌ وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟"، قالوا: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، قال: "للهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا"[76]. جلَّ جلالُه، وعزَّ ملكُه وسلطانُه. كلُّ الراحمين، إذا جُمِعَتْ رحمَاتُهم كلِّهم، فليستْ بشيءٍ عندَ رحمةِ اللهِ. ويدلُّكَ على هذا أَنَّ اللهَ عز وجل خلقَ مائةَ رحمةٍ، وَضَعَ منها رحمةً واحدةً يتراحمُ بها الخلائقُ في الدُّنيا[77]. كلُّ الخلائقِ تتراحمُ: البهائمُ والعقلاءُ، ولهذا تجدُ البعيرَ الجموحَ الرَّموحَ تَرفع رجلها عن ولدِها مخافةَ أن تُصيبَه عندما يرضَعُ حتى يرضَعَ بسهولةٍ ويُسرٍ، وكذلك تجدُ السِّباعَ الشَّرسَةَ تجدُها تحِنُّ على ولدِها وإذا جاءها أحدٌ في جُحْرِها مع أولادِها، ترمي نفسَها عليه، فتدافعُ عنهم، حتى تردَّهُ عن أولادِها. وقد دَلَّ على ثُبوتِ رحمةِ اللهِ تعالى: الكتابُ، والسُّنةُ، والإجماعُ، والعقلُ: فأما الكتابُ، فجاءَ به إثباتُ الرَّحمةِ على وجوهٍ متنوعةٍ: تارةً بالاسمِ، كقولِه: ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107]، وتارةً بالصفةِ، كقولِه: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الكهف: 58]، وتارةً بالفعلِ، كقولِه: ﴿ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [العنكبوت: 21]، وتارةً باسمِ التفضيلِ، كقولِه: ﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92]. وبمثلِ هذه الوجوهِ جاءَتِ السُّنَّةُ. وأما الأدلةُ العقليةُ على ثُبوتِ الرَّحمةِ للهِ تعالى، فمنها ما نَرى مِنَ الخيراتِ الكثيرةِ التي تحصلُ بأمرِ اللهِ عز وجل، ومنها ما نَرى مِنَ النِّقم الكثيرةِ التي تندفِعُ بأمرِ اللهِ، كلُّه دالٌّ على إثباتِ الرحمةِ عقلًا. فالناسُ في جَدْبٍ وفي قَحْطٍ، الأرضُ مُجدِبَةٌ، والسَّماءُ قاحِطَةٌ، لا مطرَ، ولا نباتَ، فيُنزِلُ اللهُ المطرَ، وتنبتُ الأرضُ، وتشبعُ الأنعامُ، ويسقى الناسُ... حتى العامِّيَّ الذي لم يدرسْ، لو سألتَهُ وقلتَ: هذا مِنْ أي شيءٍ؟ فسيقول: هذا مِنْ رحمةِ اللهِ ولا يشكُّ أحدٌ في هذا أبدًا. فرحمةُ اللهِ عز وجل ثابتةٌ بالدَّليلِ السَّمعيِّ والدَّليلِ العقليِّ. ما نستفيدُه من الناحيةِ المَسْلكيةِ في هذه الآياتِ: الأمرُ المَسْلكيُّ: هو أنَّ الإنسانَ ما دامَ يعرِفُ أَنَّ الله تعالى رحيمٌ، فسوف يتعلَّقُ برحمةِ اللهِ، ويكون منتظرًا لها، فيحملُه هذا الاعتقادُ على فعلِ كلِّ سببٍ يُوصلُ إلى الرَّحمةِ، مثل: الإحسان، قال الله تعالى فيه: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]، والتقوى، قال تعالى: ﴿ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156]، والإيمان، فإنَّه من أسبابِ رحمةِ اللهِ، كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]، وكلما كان الإيمانُ أقوى، كانتِ الرَّحمةُ إلى صاحبِه أقربَ بإِذنِ اللهِ عز وجل. [1] النهج الأسمى (1/ 75 - 87)، النور الأسنى (1/ 46 - 68). [2] جامع البيان (1/ 43). [3] الكتاب الأسنى (ورقة 254 ب). [4] النهاية لابن الأثير (2/ 207)، ولسان العرب (3/ 1611). [5] رواه البخاري (2731، 2732) والتصريح بأن الكاتبَ هو عليٌّ كرم الله وجهه جاء في روايةٍ أخرى للبخاري أيضًا برقم (2698). [6] جامع البيان (1/ 44). [7] انظر: جامع البيان (1/ 43)، وقد ذكر أقوالًا أخرى، إن شئت فراجعها (ص: 44 - 45). [8] بدائع الفوائد (1/ 24). [9] وأورده ابن كثير في تفسيره (1/ 21) وإسناده حسَن. [10] المصدر السابق. [11] انظر: الكشاف (1/ 45). [12] انظر: روح المعاني (1/ 60). [13] أخرجه الإمام أحمد (2/ 498)، والحاكم (4/ 157) عن يزيد بن هارون، أنبأنا محمد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل..."، فذكره، وهذا إسناد حسَن، محمد بن عمرٍو هو ابن وقاص الليثي صدوق له أوهام، وللحديث طُرُق أخرى؛ فقد أخرجه أبو داود (1694)، والترمذي (1972) عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن عوف به، وقال الترمذي: صحيح، والحديث منقطع؛ فإن أبا سلمة لم يسمعْ مِن أبيه شيئًا. وجاء من طريق أخرى موصولًا: فقد أخرج أحمد (1/ 194)، وأبو داود (1695)، وابن حبان (2033)، والحاكم (4/ 157) الحديث مِن طريق معمر، عن الزهري، ثني أبو سلمة؛ أن أبا الردَّاد الليثي أخبره، عن عبد الرحمن بن عوف به، وقد نَقَل الترمذيُّ عن البخاري قوله؛ أن هذا خطأ من معمر، ولكِنْ مَعْمَر لم يتفرَّدْ؛ فقد تابعه شُعيب بن أبي حمزة وهو مِن أثبتِ الناسِ في الزهري عند الإمام أحمد (1/ 191)، والحاكم (4/ 158)، ومتابعة أخرى عند الحاكم لسفيان بن عيينة (4/ 158)، وثالثة عند الحاكم أيضًا لمحمد بن أبي عتيق (4/ 158)، وأبو الردَّاد، وقيل: ردَّاد الليثي، قال الحافظ: مقبول. وللحديث طريق أخرى عند أحمد (1/ 191) عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، أن أباه حدثه، أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف... فذكره، وعبد الله بن قارظ لا يُعرف، فالحديث بجملة هذه الطرق صحيح. [14] انظر: مختصر الصواعق المرسلة (2/ 112 - 126)، وبقِيَت بعضُ الردود على القائلين بالمجاز نستوفيها في الفقرات التالية إن شاء الله تعالى. [15] مختصر الصواعق (2/ 121 - 124). [16] بدائع الفوائد (1/ 24). [17] النور الأسنى (1/ 46 - 68) للأنصاري. [18] تفسير ابن كثير (2/ 130). [19] رواه البخاري (7404، 7453، 7553، 7554)، ومسلم (2751). [20] رواه البخاري (9469)، ومسلم (2752/ 18 - 19، 2753/ 21). [21] أخرجه مسلم (2755). [22] من كتاب: "لهذا أحب ربي"، للدكتور خالد أبو شادي. [23] أخرجه البخاري (5999)، ومسلم (2754). [24] تفسير ابن كثير (2/ 427). [25] رواه مسلم (2599). [26] تفسير ابن كثير (2/ 406). [27] أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758). [28] حسَن: أخرجه أحمد (2/ 521). [29] أخرجه مسلم (758). [30] أخرجه البخاري (7537)، ومسلم (2675)، باعًا: مسافة ما بين الكفين إذا بسطتهما. [31] صحيح: أخرجه أحمد (12405) بسند صحيح على شرط الشيخين. [32] أخرجه البخاري (4691)، ومسلم (799). [33] رواه البخاري (6099، 7378)، ومسلم (2804). [34] رواه الترمذي (3540) وقال: حديث حسَن غريب، وصحَّحه الألباني، عنان السماء: قيل هو السحاب، وقيل: هو ما عَنَّ لك منها؛ أي: ظهر، وقراب الأرض: هو ما يُقارب مِلْأَها. [35] رواه مسلم (2759). [36] متفق عليه: أخرجه البخاري (6308)، ومسلم (2744). [37] رواه مسلم، الخطام بكسر الخاء "الحبْل" الذي تُقاد به الدابة. [38] شرْح كتاب رياض الصالحين (1/ 89، 90)، باب: التوبة، شرح شيخنا العلَّامة محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله. [39] تفسير ابن كثير (3/ 311). [40] المصدر السابق (3/ 465). [41] أخرجه مسلم (1151). [42] رواه البخاري (1410)، ومسلم (1014)، وأحمد، والفَلُوُّ: هو المُهْرُ، ويقال بكسر الفاء وإسكان اللام وتخفيف الواو. [43] أخرجه أحمد (3/ 112)، والترمذي (2140)، وابن ماجه (3834) من حديث أنس رضي الله عنه، وانظر: صحيح ابن ماجه (3092). [44] أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43). [45] رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846). [46] أخرجه البخاري (6463، 6467)، ومسلم (2816، 2818) مِن حديث أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما. [47] صحيح: أخرجه أحمد (ج 1/ 15)، وابن حبان (589 - موارد)، وأبو عوانة (ج 1 ص 175). [48] أخرجه البخاري (13/ 7510)، ومسلم (ج 1 - إيمان 326). [49] صحيح: أخرجه أحمد (3/ 325). [50] رواه البخاري (6/ 154) (رقم الحديث 3019)، ومسلم (ج 4 - السلام - 148)، وغيرهما. [51] أخرجه البخاري (6/ 3319)، ومسلم (ج 4 - السلام - 150). [52] رواه البخاري، وروى بعضه مسلم. [53] رواه مسلم (4/ 2755) عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة. [54] أخرجه مسلم (4/ 137)، البِرُّ والصِّلة. [55] حسَن: أخرجه أحمد (8292). [56] رواه البخاري (5997)، ومسلم (2318). 2 رواه البخاري (7376)، ومسلم (2319). [58] رواه مسلم (1659). [59] رواه مسلم (2613). [60] رواه البخاري (2365)، مسلم (2242)، وخشاش الأرض: هوامها وحشراتها. [61] رواه مسلم (2565)، والشحناء: هي العداوة، وأنْظِروا، أي: أخِّرُوا. [62] رواه البخاري (5669) - كتاب المرض، وكتاب العلم. [63] رواه البخاري (49). [64] رواه مسلم (1955)، والترمذي (1409) واللفظ له، وقال: حسن صحيح. [65] صحيح: أخرجه الترمذي (4/ 1907)، وأحمد (3/ 1686)، وأبو داود (2/ 1694)، والحميدي (1/ 65). [66] صحيح: أخرجه أحمد (19/ 9871)، والبخاري في الأدب المفرد (ص: 35 - 36)، والحاكم (4/ 162)، وابن حبان. [67] أخرجه البخاري (8/ 4830)، ومسلم (ج 4 - البِرِّ والصِّلة - 16) وغيرهما. [68] صحيح: أخرجه أحمد (5/ 279). [69] تفسير ابن كثير (1/ 188). [70] أخرجه مسلم (918). [71] أخرجه أحمد (2/ 165، 219)، والبخاري في الأدب المفرد (380)، وانظر: الصحيحة (480). [72] أخرجه البخاري: (1284، 5655، 6602، 6655، 7377، 7448)، ومسلم (923)، وتقعقع: أي في سكرات الموت. [73] أخرجه مسلم (ج 3 - المساقاة - 30)، والبخاري في الأدب المفرد (293)، والترمذي (ج 3/ 1307)، وأحمد (ج 4/ 118). [74] متفق عليه: يطيف: يدُور، "حول رَكِيَّة": وهي البئر. [75] لما رواه البخاري (2441)، ومسلم (2768)، عن ابن عمر قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الله يُدني المؤمنَ فيضعُ عليه كنفَهُ ويستُره فيقول: أتعرِفُ ذنبَ كذا، أتعرِفُ ذنبَ كذا، فيقول: نعم أيْ ربِّ، حتى إذا أَقْرَره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هَلَكَ قال: سترتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفرُها لك اليوم". [76] رواه البخاري (5999)، ومسلم (2754) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. [77] لما رواه البخاري (6000)، ومسلم (2752) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "جعل الله الرحمةَ مائةَ جُزءٍ، فأَمسَكَ عنده تسعةً وتسعين رحمةً، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمِن ذلك الجزءِ تتراحمُ الخلائقُ، حتى ترفعَ الدابةُ حافِرَها عن ولدِها خشيةَ أن تصيبَه". الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|