#1
|
|||
|
|||
معاني الحج (خطبة)
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29]. * أيها المسلمون: الحديث عن الركن الخامس من أركان الإسلام حديث عظيم، أفئدة من الناس تهوي إلى المسجد الحرام، وبيت هو مثابة للناس وأمن، وأماكن مقدسة، ومشاعر معظمة، وأعمال فضيلة، ومناسك جليلة، توحيد ومتابعة، وصبر ومصابرة، وصلاة وطواف وسعي، وحلق وتقصير ورمي للجمار ووقوف ومبيت ودعاء، وعج بالتلبية والتكبير وثج لدماء الهدايا والأضاحي والفدى، وإطعام للبائس الفقير، وأخوة جامعة وأخلاق عالية، وشهود منافع عديدة وحصول خير عميم. * وان للحج من الحكم والأسرار والمنافع - أيها المسلمون - النصيب الأكبر والقدر العظيم قال جلا وعلا ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ [الحج: 27، 28]، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله جلا وعلا وأما منافع الدنيا فيما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات). * وإنه لو وعى المسلمون هذا المعنى العظيم وفقهوا هذا الأصل الكبير وأنه ما من عبادة إلا ولتشريعها بالغ الحكمة وعميق الأسرار وفي أدائهم لها جم الفوائد وكريم الآثار عليهم لما توانى عن الطاعة متوان ولا تكاسل في العبادة متكاسل، ولما أخر الحج مؤخر ولا سوف في أداء الفريضة مسوف. * من معاني الحج السامية ودروسه العظيمة - أيها المسلمون - التلبية التي يرددها الحاج من حين إحرامه إلا حين يرمي جمرة العقبة وتله جبها الألسنة في مواقف كثيرة ولا تمل من تردادها وترطيب الأفواه بها، وفي هذه التلبية النبوية الكريمة تذكير للأمة بأعظم ما يجب أن تهتم به وتحافظ عليه وتغرسه في النفوس وتثبته في العالمين وتسير عليه في أعمالها كلها وتستشعره في عبادتها جميعها، ذلكم هو تحقيق التوحيد لله تحقيق الغاية القصوى من خلق الإنسان واستخلافه في هذه الأرض أن الله تعالى يقول ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾، ويشرع للحاج أن يردد (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعم تلك والملك، لا شريك لك ) استجابة لله بعد استجابة وتبرؤ من الشرك وأهله وإقرار بالربوبية والألوهية وحمد له على نعمة الهداية للإسلام، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم (خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) إنه تذكير للأمة جميعاً أن يستحضروا ما عقدوا عليه قلوبهم من توحيد الله رب العالمين، إنه توجيه لهم أن يجعلوا حجهم لله وحده، ويخلصوا له العمل دون سواه، ومن ثم فلا يسألون إلا الله، ولا يستغيثون إلا بالله ولا يتوكلون إلا على الله ولا يطلبون العون والمدد ولا يلتمسون النصر إلا من عند الله مستيقنين أن الخير كله بيد الله، ومرجع الأمور كلها إليه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد، وحين يكون من المسلمين يقين بذلك وتمسك به فليبشروا بالأمن والهداية والتوفيق ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]. * ومن معاني الحج الكريمة ودروسه البالغة- أيها المسلمون- أن تعلم الأمة وتستيقن أنه لا سعادة لها ولا نجاح ولا توفيق ولا نصر ولا تمكين في هذه الحياة ولا فلاح ولا فوز في الآخرة إلا بإتباع سيد المرسلين وخاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والتسليم *والسير على نهجه والثبات على هديه في الاعتقاد والأعمال والرضا بما جاء به في الحكم والتحاكم، والاقتداء به في الأخلاق والسلوك وقد كان صلى الله عليه وسلم في كل خطوة في حجته يؤصل هذا المعنى الكبير في نفوس المسلمين ويغرسه في قلوبهم ويرسخه حيث كان يقول عند كل منسك من مناسك الحج (خذوا عني مناسككم)، وهو الذي قد قال (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فما أسعد الأمة حين تقتدي به وتتمثل أمره ما أعظم بركتها حين تتأسى به وتسير على نهجه وطريقته، وقد قال الله تعالى ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾ [النور: 54]. * ومن الدروس العظيمة في الحج - أيها المسلمون- لزوم الاعتدال والتوسط في الأمور كلها، ومجانبة الغلو أو الجفاء، والحذر من الإفراط أو التفريط، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته (القط لي حصى)، فلقطت له سبع حصيات هن حصى القذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول: (أمثال هؤلاء فارموا) ثم قال (يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، فالاعتدال مطلوب في الأمور كلها، والتوسط محمود فيها جميعها والبعد عن الغلو والجفاء هو المنهج القويم والصراط المستقيم الذي ينبغي أن يسلكه جميع المؤمنين وذلك ليس بالأهواء ولا الرغبات والمشتهيات وإنما يكون بالأخذ بحدود القرآن وآثار السنة والسير على ما فيها من الهدى والبيان ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]. * ومن معاني الحج السامية ودروسه العميقة - أيها المسلمون- أن الأمة على مختلف أجناسها وتعدد ديارها وأوطانها وكثرة شعوبها ووفرة قبائلها واختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم لا رابطة تربطهم إلا رابطة الأخوة الإسلامية ولا نسب يجمعهم إلا نسب الدين فمتى تمسكوا به وكانوا به إخواناً متحابين فهم قوة لا تمثلها قوة ومتى ابتعدوا عنه أو تشبثوا بغيره من روابط الجاهلية أو عرى الدنيا الفانية لم يزدادوا إلا اختلافاً وافتراقاً ولن يلقوا إلا ذلاً وضعفاً ومهانة ومقتاً، ولهذا لما كانت قريش في الجاهلية لا تتجاوز حدود الحرم في حجها ولا تقف مع الناس في عرفة استكباراً واستنكافاً جاء كتاب الله ليقول لهم ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾، ويبن فيه أن المسجد الحرام للناس جميعاً ﴿ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ﴾ [الحج: 25]، ثم رسخ الحبيب صلوات الله وسلامه عليه ذلك في خطبته في عرفة حيث قال (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إلا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة). * ومن معاني الحج العظيمة - أيها المسلمون – وجوب تعظيم الشعائر والحرمات ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30]، ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]، فتعظيم الشعائر والحرمات من تقوى القلوب وخشيتها لخالقها ومولاها وكلما خلا قلب من ذلك كان أبعد ما يكون من تعظيم حرمات الله والوقوف عند حدوده، ولهذا كان خير زاد يحمله الحاج وأعظمه وأكمله زاد الخشية والتقوى، قال جلا وعلا ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، ولباس البياض يشعر بوجوب نقاء القلب والفكر والعقل من أي علل وأمراض وسلامة الجوارح من كل ما يغضب المولى جلا وعلا. * ومن معاني الحج والأصول المعتبرة فيه - أيها المؤمنون – ما يظهر في رمي الجمار فيه من تذكير بني آدم بألد أعدائهم وأعتى خصومهم وتحذيرهم من قائد اللواء إلى النار، قال عز وجل ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]. * ومن معاني الحج السامية: تذكير المسلمين بأن المسلمين أمة واحدة ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾، وما تسلط عليه أعداؤها إلا بعد أن تفرقت وتشرذمت، فاستطاع العدو أن يأكل من الغنم القاصية، فاحتلت أرض الإسراء والمعراج وذاق أهل فلسطين خلال سبعين سنة على أيدي اليهود صنوف العذاب وانتهاك حقوق الإنسان، في صمت دولي وعجز عربي وإسلامي، ناهيكم عن وضع سوريا والعراق واليمن وأهل السنة في إيران ولو كان المسلمون أمة واحدة لسعى بذمتهم أدناهم ولهابهم كل عدو وحاقد. * تلكم ـ أيها المسلمون ـ *جملة من معاني الحج الكريمة وأسسه العظيمة، فاتقوا الله تعالى وحققوا ما شرعت العبادات من أجله، فإن الله سبحانه قد بين لنا في معرض الحديث عن الحج أن الناس مختلفون فمنهم من يطلب الآخرة وينشد مرضاة ربه فهو بأعلى المنزلتين وأجل المقصدين، ومنهم من لا هم له إلا الدنيا ومتاعها فهي حظه من حياته وسعيه طول عمره وما له في الآخرة من نصيب، قال سبحانه ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [البقرة: 200 - 202]، وإن الموفق من أدى عبادته بنية صالحة خالصة وعطر لسانه فيه بذكر الله وصاحب عبادته إحسان ونفع لعباد الله، فكونوا كما أمركم الله مؤمنين، وأخلصوا في دينكم لله واجتهدوا في الأعمال الصالحة ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]. * الخطبة الثانية: عبـــاد الله: إنكم في *أيام عظيمة الفضل كبيرة القدر أيام أقسم الله بها تنويها بفضلها وإشارة إلى عظيم شأنها وبينت النصوص أجر العمل فيها قال جلا وعلا ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام)، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال (ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) فأكثروا من ذكر الله جل وعلا في هذه العشر حجاجاً ومقيمين فقد سئل صلى الله عليه وسلم أي الحاج أعظم عند الله؟ قال (أكثرهم لله ذكراً) وقال صلى الله عليه وسلم (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتكبير)، وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما كانا يخرجان إلى السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. * ويستحب للرجال رفع الصوت بهد الذكر في الأسواق والدور والطرقات والمساجد، وأكثروا من الصدقة ونوافل الصلاة وسائر الأعمال الصالحات والصيام من أفضل الطاعات فكيف إذا كان في العشر المباركات؟ وقد جاء في فضل صيام يوم عرفة قوله صلى الله عليه وسلم (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) رواه مسلم. فاتقوا الله وعظموا شعائره تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة ثم صلوا وسلموا.... فهد بن عبدالله الصالح
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|